الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
وقرأ الجمهور {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} برفع {رب} على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال في مثله بعد إجراء أخبار أو صفات عن ذات ثم يردف بخبر آخر، ومن ذلك قولهم بعد ذكر شخص: فتى يفعل ويفعل. وهو من الاستئناف البياني إذ التقدير: إن اردت أن تعرفه فهو كذا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بجر { رب} على أنه بدل من قوله {ربك} .[الدخان: 6]
وحذف متعلق {موقنين} للعلم به من قوله {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} . وجواب الشرط محذوف دل عليه المقام. والتقدير: إن كنتم موقنين فلا تعبدوا غيره، ولذلك أعقبه بجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الدخان: 8].
[8] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}
جملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} نتيجة للدليل المتقدم لأن انفراده بربوبية السماوات والأرض وما بينهما دليل على انفراده بالإلهية، أي على بطلان إلهية أصنامهم فكانت هذه الجملة نتيجة لذلك فلذلك فصلت لشدة اقتضاء الجملة التي قبلها إياها.
وجملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ} مستأنفة للاستدلال على أنه لا إله إلا هو بتفرده بالإحياء والإماتة، والمشركون لا ينازعون في أن الله هو المحيي والمميت فكما استدل عليهم بتفرده بإيجاد العوالم وما فيها استدل عليهم بخلق أعظم أحوال الموجودات وهي حالة الحياة التي شرف بها الإنسان عن موجودات العالم الأرضي وكرم أيضا بإعطائها للحيوان لتسخيره لانتفاع الإنسان به بسببها، وبتفرده بالإماتة وهي سلب الحياة عن الحي للدلالة على أن الحياة ليست ذاتية للحي. ولما كان تفرده بالإحياء والإماتة دليلا واضحا في أحوال المخاطبين وفيما حولهم من ظهور الأحياء بالولادة والأموات بالوفاة يوما فيوما من شأنه أن لا يجهلوا دلالته بله جحودهم إياها ومع ذلك قد عبدوا الأصنام التي لا تحيي ولا تميت، أعقب بإثبات ربوبيته للمخاطبين تسجيلا عليهم بجحد الأدلة وبكفران النعمة.
وعطف {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} ليسجل عليهم الإلزام بقولهم {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ووصفهم ب {الأولين} لأنهم جعلوا أقدم الآباء حجة أعظم من الآباء الأقربين كما قال تعالى حكاية عنهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24].
[9] {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}
(25/313)
{بل} للإضراب الإبطالي رد به أن يكونوا موقنين ومقرين بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما فإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ثابت بل هو كالعدم لأنهم خلطوه بالشك واللعب فارتفعت عنه خاصية اليقين والإقرار التي هي الجري على موجب العلم، فإن العلم إذا لم يجر صاحبه على العمل به وتجديد ملاحظته تطرق إليه الذهول ثم النسيان فضعف حتى صار شكا لانحجاب الأدلة التي يرسخ بها في النفس، أي هم شاكون في وحدانية الله تعالى.
والإتيان بحرف الظرفية للدلالة على شدة تمكن الشك من نفوسهم حتى كأنه ظرف محيط بهم لا يجدون عنه مخرجا، أي لا يفارقهم الشك، فالظرفية استعارة تبعية مثل الاستعلاء في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
وجملة {يلعبون} حال من ضمير {هم} أي اشتغلوا عن النظر في الأدلة التي تزيل الشك عنهم وتجعلهم مهتدين، بالهزء واللعب في تلقي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأن انغماسهم في الشك مقارنا لحالهم من اللعب، ولهذه الجملة الحالية موقع عظيم إذ بها أفيد أن الشك حامل لهم على الهزء واللعب، وأن الشغل باللعب يزيد الشك فيهم رسوخا بخلاف ما لو قيل: بل هم في شك ولعب، فتفطن.
[11,10] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} تفريع على جملة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9]
قصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشة انتقام من أيمتهم تستأصلهم.
فالخطاب في {ارتقب} للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت. والارتقاب: افتعال من رقبه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل "ارتقب" يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلا في نزول هذه الآية،ويقتضي كناية عن اقتراب وقوعه كما يرتقب الجائي من مكان قريب.
و {يوم} اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل"ارتقب" وليس ظرفا وذلك كقوله تعالى {يَخَافُونَ يَوْماً} [النور: 37]، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن
(25/314)
بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب {يوم} نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه، ولأن الجملة في قوة المصدر. والتقدير: فارتقب يوم إتيان السماء بدخان. وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيام وشهور كثيرة.
والدخان: ما يتصاعد عند إيقاد الحطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان.
والمبين: البين الظاهر، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان. والمعنى: أنه ظاهر لكل أحد لا يشك في رؤيته.
وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: الدخان في الآية هو: الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسميه العرب دخانا وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف.
وعن الأعرج: أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها. والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين.
فالمراد بالناس من قوله {يَغْشَى النَّاسَ} هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يكشف زمنا قليلا عنهم إعذارا لهم لعلهم يؤمنون وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} [الدخان: 15]. وأما قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ} [الدخان: 16] فهو عذاب آخر. وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت الآية مكية تعين أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [لأنفال:33] فتعين أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة وتعين أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعين أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والأصح أن هذا الدخان عني به ما أصاب المشركين من سني القحط بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والأصح في ذلك حديث عبد الله بن مسعود في صحيح البخاري عن مسلم وأبي الضحى عن مسروق قال: دخلت على عبد الله بن مسعود فقال: إن قريشا لما غلبوا
(25/315)
على النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، فأخذتم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق لمضر أن يكشف عنهم العذاب، فدعا فكشف عنهم وقال الله له: "إن كشفنا عنهم العذاب عادوا" ، فعادوا: فانتقم الله منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] والبطشة الكبرى يوم بدر. وإن عبد الله فال: مضى خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام.
في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري في أبواب الاستسقاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة من الصبح يقول: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة. اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" . وهؤلاء الذين دعا لهم بالنجاة كانوا ممن حبسهم المشركون بعد الهجرة، وكل هذه الروايات يؤذن بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين بالسنين كان بعد الهجرة لئلا يعذب المسلمون بالجوع وأنه كان قبل وقعة بدر، وفي بعض روايات القنوت أنه دعا في القنوت على بني لحيان وعصية.
والذي يستخلص من الروايات أن هذا الجوع حل بقريش بعيد الهجرة، وذلك هو الجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، وفي رواية "اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق لمضر وفي رواية عن مسروق عن ابن مسعود في صحيح البخاري أن الذي أتى النبي هو أبو سفيان. وقال المفسرون: أن أبا سفيان أتاه في ناس من أهل مكة يعني أتوا المدينة لما علموا أن النبي كان دعا عليهم بالقحط، فقالوا: إن قومك قد هلكوا فادع الله أن يسقيهم فدعا.
وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} تمثيلا لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجو بهيئة الدخان النازل من الأفق، فالمجاز في التركيب. وأما مفردات التركيب فهي مستعملة في حقائقها لأن من معاني السماء في كلام العرب قبة الجو، وتكون جملة {يَغْشَى النَّاسَ} ترشيحا للتمثيلية لأن الذي يغشاهم هو الظلمة التي في أبصارهم من الجوع، وليس الدخان هو الذي يغشاهم. وبعض الروايات ركب على هذه الآية حديث
(25/316)
الاستسقاء الذي في الصحيح أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا فرفع يديه وقال: "اللهم اسقنا ثلاثا" ، وما يرى في السماء قزعة سحاب، فتلبدت السماء بالسحاب وأمطروا من الجمعة إلى الجمعة حتى سالت الأدوية وسال وادي قناة شهرا، فأتاه آت الجمعة القابلة هو الأول أو غيره، فقال: يا رسول الله تقطعت السبل فادع الله أن يمسك المطر عنا، فقال اللهم حوالينا ولا علينا، فتفرقت السحب حتى صارت المدينة في شبه الإكليل بن السحاب.
والجمع بين الروايتين ظاهر. ويظهر أن هذا القحط وقع بعد يوم بدر فهو قحط آخر غير قحط قريش الذي ذكر في هذه الآية.
ومعنى {يَغْشَى النَّاسَ} أنه يحيط بهم ويعمهم كما تحيط الغاشية بالجسد، أي لا ينجو منه أحد من أولئك الناس وهم المشركون. فإن كان المراد من الدخان ما أصاب أبصارهم من رؤية مثل الغبرة من الجوع فالغشيان مجاز، وإن كان المراد منه غبار الحرب يوم الفتح فالغشيان حقيقة أو مجاز مشهور. ويجوز أن يكون غبارا متصاعدا في الجو من شدة الجفاف.
وقوله {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عطية يجوز أن يكون إخبارا من جانب الله تعالى تعجيبا منه كما في قوله تعالى في قصة الذبيح {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] ويحتمل أن يكون ذلك من قول الناس الذين يغشاهم العذاب بتقدير: يقولون: هذا عذاب أليم.
والإشارة في {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى الدخان المذكور آنفا، عدل عن استحضاره بالإضمار وأن يقال: هو عذاب أليم، إلى استحضاره بالإشارة، لتنزيله منزلة الحاضر المشاهد تهويلا لأمره كما تقول: هذا الشتاء قادم فأعد له.
وقريب منه الأمر بالنظر في قوله تعالى {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام:24] فإن المحكي مما يحصل في الآخرة.
[12] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
هذه جملة معترضة بين جملة {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] وجملة {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 13] فهي مقول قول محذوف. وحملها جميع المفسرين على أنها حكاية قول الذين يغشاهم العذاب بتقدير يقولون: ربنا اكشف عنا العذاب، أي هو وعد صادر من الناس الذين يغشاهم العذاب بأنهم يؤمنون أن كشف عنهم العذاب أي فيكون مثل قوله
(25/317)
تعالى في سورة الزخرف[49] { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي إن دعوت ربك اتبعناك ويكون بمعنى قوله في سورة الأعراف {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} إلى قوله {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ}
ومما تسمح به تراكيب الآية وسياقها أن يكون القول المحذوف مقدرا بفعل أمر أي قولوا لتلقين المسلمين أن يستعيذوا بالله من أن يصيبهم ذلك العذاب إذ كانوا والمشركين في بلد واحد كما استعاذ موسى عليه السلام بقوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] وفيه إيماء إلى أن الله سيخرج المؤمنين من مكة قبل أن يحل بأهلها هذا العذاب، فهذا التلقين كالذي في قوله تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] الآيات.
وعليه فجملة {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} تعليل لطلب دفع العذاب عنهم، أي إنا متلبسون بما يدفع عنا عذاب الكافرين، وفي تلقينهم بذلك تنويه بشرف الإيمان، وأسلوب الكلام جار على أن جملة {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} تعليل لطلب كشف العذاب عنهم لما يقتضيه ظاهر استعمال حرف "إن" من معنى الإخبار دون الوعد، ومن التعليل دون التأكيد، ولما يقتضيه اسم الفاعل من زمن الحال دون الاستقبال، ولأن سياقه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بترقب إعانة الله إياه على المشركين، كما كان يدعو أعني عليهم بسبع كسني يوسف فمقتضى المقام تأمينه من أن يصيب العذاب المسلمين وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر مادة الكشف تقتضي إزالة شيء كان حاصلا في شيء إلا أن الكشف هنا لما لم يكن مستعملا في معناه الحقيقي كان مجازه محتملا أن يكون مستعملا في منع حصول يخشى حصوله كما في قوله تعالى {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98] فإن قوم يونس لم يحل بهم عذاب فزال عنهم ولكنهم توعدوا به فبادروا بالإيمان فنجاهم الله منه، وقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
أراد أنه يمنع العدو من أن ينالهم بسوء، ومحتملا للاستعمال في زوال شيء كان حصل.
ولم يذكر أحد من رواة السير والآثار أن المشركين وعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسلمون إن أزال الله عنهم القحط.
[14,13] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
(25/318)
هذه الجملة جعلها جميع المفسرين جوابا عن قول القائلين {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
تكذيبا لوعدهم، أي هم لا يتذكرون، وكيف يتذكرون وقد جاءهم ما هو أقوى دلالة من العذاب وهي دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأما على التأويل الذي انتزعناه من تركيب الآية فهي جملة مستأنفة ناشئة عن قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] وهي كالنتيجة لها لأنهم إذا كانوا في شك يلعبون فقد صاروا بعداء عن الذكرى.
و {أنى} اسم استفهام أصله استفهام عن أمكنة حصول الشيء ويتوسعون فيها فيجعلونها استفهاما عن الأحوال بمعنى "كيف" بتنزيل الأحوال منزلة ظروف في مكان كما هنا بقرينة قوله {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} والمعنى: من أين تحصل لهم الذكرى والمخافة عند ظهور الدخان المبين وقد سدت عليهم طرقها بطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم بالتذكير.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والإحالة، أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وقد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وطعنوا فيه. فجملة {وَقَدْ جَاءَهُمْ} في موضع الحال.
و {مبين} اسم فاعل إما من أبان المتعدي، وحذف مفعوله لدلالة {الذكرى} عليه، أي مبين لهم ما به يتذكرون، ويجوز أن يكون من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان، أي رسول ظاهر، أي ظاهرة رسالته عن الله بما توفر معها من دلائل صدقه.
وإيثار {مبين} بتخفيف الياء على {مبين} بالتشديد من نكت الإعجاز ليفيد المعنيين.
و {ثم} للتراخي الرتبي وهو ترق من مفاد قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] الذي اتصلت به جملة كانت جملة {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} من متعلقاتها، فالمعنى: وقد جاءهم رسول فشكوا في رسالته ثم تولوا عنه وطعنوا فيه، فالتولي والطعن حصلا عند حصول الشك واللعب، ولذلك كانت {ثم} للتراخي الرتبي لا لتراخي الزمان. ومعنى التراخي الرتبي هنا أن التولي والبهتان أفظع من الشك واللعب. والمعلم الذي يعلمه غيره، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] في سورة النحل.[103]
والمعنى: أنهم وصفوه مرة بأنه يعلمه غيره، ووصفوه مرة بالجنون، تنقلا في البهتان، أو وصفه فريق بهذا وفريق بذلك، فالقول موزع بين أصحاب ضمير {قالوا} أو
(25/319)
بين أوقات القائلين. ولا يصح أن يكون قولا واحدا في وقت واحد لأن المجنون لا يكون معلما ولا يتأثر بالتعليم.
[15] {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}
يجيء على ما فسر به جميع المفسرين قوله {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} [الدخان: 12]، أن هذه الجملة جواب لسؤالهم، ويجيء على ما درجنا عليه أن تكون هذه الجملة إعلاما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يكشف العذاب المتوعد به المشركون مدة، فيعودون إلى ما كانوا فيه، وعليه فضمير {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} التفات إلى خطاب المشركين ، أي يمسكون عن ذلك مدة وهي المدة التي أرسلوا فيها وفدهم إلى المدينة ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بكشف القحط عنهم فإنهم أيامئذ يمسكون عن الطعن والذم رجاء أن يدعو لهم ثم يعودون لما كانوا فيه، كما قال تعالى {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] كما اقتضى أن العذاب عائد إليهم بعد عودتهم إلى ما كانوا فيه من أسباب إصابتهم بالعذاب.
فمعنى {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} : إنا كاشفوه في المستقبل بقرينة قوله قبله {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] المقتضي أنه يحصل في المستقبل، والآية متصل بعضها ببعض وكذلك معنى { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} ، أي في المستقبل. واسم الفاعل يكون مرادا به الحصول في المستقبل بالقرينة.
روي أنهم كشف عنهم القحط بعد استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم، فحيوا وحييت أنعامهم ثم عادوا فعادوهم القحط كمال سبع سنين، ولعلها عقبها فتح مكة.
وجملة {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم إذا سمعوا {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} تطلعوا إلى ما سيكون بعد كشفه، وتطلع المؤمنون إلى ما تصير إليه حال المشركين بعد كشف العذاب هل يقلعون عن الطعن فكان قوله {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} مبينا لما يتساءلون عنه.
[16] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
هذا هو الانتقام الذي وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد به أيمة الكفر. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فإن السامع يثار في نفسه سؤال عن جزائهم حيث يعودون إلى التولي والطعن فأجيب بأن
(25/320)
الانتقام منهم هو البطشة الكبرى، وهي الانتقام التام، ولأجل هذا التطلع والتساؤل أكدا بخبر بحرف التأكيد دفعا للتردد.
وأصل تركيب الجملة: إنا منتقمون يوم نبطش البطشة الكبرى، ف {يوم} منصوب على المفعول فيه لاسم الفاعل وهو {منتقمون} .
وتقدم على عامله للاهتمام به لتهويله ولا يمنع من هذا التعليق أن العامل في الظرف خبر عن "إن" بناء على الشائع من كلام النحاة أن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها فإن الظروف ونحوها يتوسع فيها.
و {الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : هي بطشة يوم بدر فإن ما أصاب صناديد المشركين يومئذ كان بطشة بالشرك وأهله لأنهم فقدوا سادتهم وذوي الرأي منهم الذين كانوا يسيرون أهل مكة كما يريدون.
والبطشة: واحدة البطش وهو: الأخذ الشديد بعنف، وتقدم في قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في سورة الأعراف. [195]
[17-21] {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وأن وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلا لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وجعل ما حل بهم إنذارا بما سيحل بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم، كما قال تعالى {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [الزخرف:8] فذكرها هنا تأييد للنبي ووعد له بالنصر وحسن العاقبة، وتهديد للمشركين.
وهذا المثل وإن كان تشبيها لمجموع الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبه أبو جهل بفرعون، ويشبه أتباعه بملأ فرعون وقومه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل. وقبول المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه.
وموقع جملة {وَلَقَدْ فَتَنَّا} يجوز أن يكون موقع الحال فتكون الواو للحال وهي حال من ضمير {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16]. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
(25/321)
[الدخان: 16] أي منتقمون منهم في المستقبل وانتقمنا من قوم فرعون فيما مضى.
وأشعر قوله {قبلهم} أن أهل مكة سيفتنون كما فتن قوم فرعون، فكان هذا الظرف مؤذنا بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز، والتقدير: إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون، ومؤذنا بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر.
والمقصود تشبيه الحالة بالحالة ولكن عدل عن صوغ الكلام بصيغة التشبيه والتمثيل إلى صوغه بصيغة الإخبار اهتماما بالقصة وإظهارا بأنها في ذاتها مما يهم العلم به، وأنها تذكير مستقل وأنها غير تابعة غيرها.
ولأن جملة {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} عطفت على جملة {فتنا} أي ولقد جاءهم رسول كريم، عطف مفصل على مجمل، وإنما جاء معطوفا إذ المذكور فيه أكثر من معنى الفتنة، فلا تكون جملة {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} بيانا لجملة {فتنا} بل هي تفصيل لقصة بعثة موسى عليه السلام.
والفتن: الإيقاع في اختلال الأحوال، وتقدم في قوله تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة.[191] والرسول الكريم: موسى، والكريم: النفيس الفائق في صنفه، وتقدم عند قوله تعالى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل،[29] أي رسول من خيرة الرسل أو من خيرة الناس.
و {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} تفسير لما تضمنه وصف {رسول} وفعل {جاءهم} من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول.
ومعنى {أَدُّوا إِلَيَّ} أرجعوا إلي وأعطوا قال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، يقال: أدى الشيء أوصله وأبلغه. وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فعل سالم غير مضاعف، جعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية.
وخطاب الجمع لقوم فرعون. والمراد: فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق، ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لما رأى من فرعون صلفا وتكبرا من الامتثال، فخاطب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق.
و {عِبَادَ اللَّهِ} يجوز أن يكون مفعول {أدوا} مرادا به بنو إسرائيل، أجري وصفهم {عِبَادَ اللَّهِ} تذكيرا لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم، وجاء في سورة الشعراء {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} فحصل أنه وصفهم بالوصفتين، فوصف {عِبَادَ اللَّهِ} مبطل لحسبان القبط إياهم عبيدا كما قال {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] وإنما هم عباد
(25/322)
الله، أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية كقول بشار يخاطب نفسه:
أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم ... مولى العبيد فلذ بفضلك وافخر
ويجوز أن يكون مفعول فعل {أدوا} محذوفا يدل عليه المقام، أي أدوا إلي الطاعة ويكون {عِبَادَ اللَّهِ} منادى بحذف حرف النداء. قال ابن عطية: الظاهر من شرع موسى أنه بعث إلى دعاء فرعون للإيمان وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى فرعون أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، قال: ويدل عليه قوله بعد {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
وقوله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} علة للأمر بتسليم بني إسرائيل إليه، أي لأني مرسل إليكم بهذا، وأنا أمين، أي مؤتمن على أني رسول لكم. وتقديم {لكم} على {رسول} للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداء بأن يعطوه بني إسرائيل لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريع لها، وليس قوله {لكم} خطابا لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالته مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } [يونس: 83] وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبررا لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده.
وعطف على طلب تسليم بني إسرائيل نهيا عن الاستكبار عن إجابة أمر الله أنفة من الحط من عظمته في أنظار قومهم فقال {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أي لا تعلوا على أمره أو على رسوله فلما كان الاعتلاء على أمر الله وأمر رسوله ترفيعا لأنفسهم على واجب امتثال ربهم جعلوا في ذلك كأنهم يتعالون على الله.
و {أَنْ لا تَعْلُوا} عطف على {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ} وأعيد حرف {أن} التفسيرية لزيادة تأكيد التفسير لمدلول الرسالة. و {لا} ناهية، وفعل {تعلوا} مجزوم ب {لا} الناهية.
وجملة {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} علة جديرة بالعود إلى الجمل الثلاثة المتقدمة وهي {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} لأن المعجزة تدل على تحقق مضامين تلك الجمل معلولها وعلتها.
والسلطان من أسماء الحجة قال تعالى {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] فالحجة تلجئ المحجوج على الإقرار لمن يحاجه فهي كالمتسلط على نفسه.
(25/323)
والمعجزة: حجة عظيمة ولذلك وصف السلطان ب {مبين} ، أي واضح الدلالة لا ريب فيه. وهذه المعجزة هي انقلاب عصاه ثعبانا مبينا.
و {أتيكم} مضارع أو اسم فاعل أتى. وعلى الاحتمالين فهو مقتض للإتيان بالحجة في الحال.
وجملة {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} عطف على جملة {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} فإن مضمون هذه الجملة مما شمله كلامه حين تبليغ رسالته فكان داخلا في مجمل معنى {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} المفسر بما بعد {أن} التفسيرية. ومعناه: تحذيرهم من أن يرجموه لأن معنى {عُذْتُ بِرَبِّي} جعلت ربي عوذا، أي ملجأ. والكلام على الاستعارة بتشبيه التذكير بخوف الله الذي يمنعهم من الاعتداء عليه بالالتجاء إلى حصن أو معقل بجامع السلامة من الاعتداء. ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل، ومنه قوله في سورة مريم {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} وقال أحد رجاز العرب:
قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر
والتعبير عن الله تعالى بوصف {رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لأنه أدخل في ارعوائهم من رجمه حين يتذكرون أنه استعصم بالله الذي يشتركون في مربوبيته وأنهم لا يخرجون عن قدرته.
والرجم: الرمي بالحجارة تباعا حتى يموت المرمي أو يثخنه الجراح. والقصد منه تحقير المقتول لأنهم كانوا يرمون بالحجارة من يطردونه، قال { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر:34]
وإنما استعاذ موسى منه لأنه علم أن عادتهم عقاب من يخالف دينهم بالقتل رميا بالحجارة. وجاء في سورة القصص [33] {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ومعنى ذلك إن لم تؤمنوا بما جئت به فلا تقتلوني، كما دل عليه تعقيبه بقوله {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي}
والمعنى: إن لم تؤمنوا بالمعجزة التي آتيكم بها فلا ترجموني فإني أعوذ بالله من أن ترجموني ولكن اعتزلوني فكونوا غير موالين لي وأكون مع قومي بني إسرائيل، فالتقدير: فاعتزلوني وأعتزلكم لأن الاعتزال لا يتحقق إلا من جانبين.
وجيء في شرط {إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} بحرف {إن} التي شأنها أن تستعمل في الشرط غير المتيقن لأن عدم الإيمان به بعد دلالة المعجزة على صدقه من شأنه أن يكون غير واقع فيفرض عدمه كما يفرض المحال. ولعله قال ذلك قبل أن يعلمه الله بإخراج بني
(25/324)
إسرائيل من مصر، أو أراد: فاعتزلوني زمنا، يعني إلى أن يعين له الله زمن الخروج.
وعدي {تؤمنوا} باللام لأنه يقال: آمن به وآمن له، قال تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وأصل هذه اللام لام العلة على تضمين فعل الإيمان معنى الركون.
وقد جاء ترتيب فواصل هذا الخطاب على مراعاة ما يبدو من فرعون وقومه عند إلقاء موسى دعوته عليهم إذ ابتدأ بإبلاغ ما أرسل به إليهم فآنس منهم التعجب والتردد فقال {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} فرأى منهم الصلف والأنفة فقال {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} فلم يرعوا فقال {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، فلاحت عليهم علامات إضمار السوء له فقال {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فكان هذا الترتيب بين الجمل مغنيا عن ذكر ما أجابوا به على أبدع إيجاز.
[22] {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}
التعقيب المفاد بالفاء تعقيب على محذوف يقتضي هذا الدعاء إذ ليس في المذكور قبل الفاء ما يناسبه التعقيب بهذا الدعاء إذ المذكور قبله كلام من موسى إليهم، فالتقدير: فلم يستجيبوا له فيما أمرهم، أو فأصروا على أذاه وعدم متاركته فدعا ربه، وهذا التقرير الثاني أليق بقوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} وهذا كالتعقيب الذي في قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، وقوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} اتفق القراء العشرة على قراءته بفتح الهمزة وشد النون فما بعدها في قوة المصدر، فلذلك تقدر الباء التي يتعدى بها فعل "دعا"، أي دعا ربه بما يجمعه هذا التركيب المستعمل في التعريض بأنهم استوجبوا تسليط العقاب الذي يدعو به الداعي، فالإخبار عن كونهم قوما مجرمين مستعمل في طلب المجازاة على الإجرام أو في الشكاية من اعتدائهم، أو في التخوف من شرهم إذا استمروا على عدم تسريح بني إسرائيل، وكل ذلك يقتضي الدعاء لكف شرهم، فلذلك أطلق على هذا الخبر فعل "دعا".
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}
تفريع على جملة {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} والمفرع قول محذوف دلت عليه صيغة الكلام، أي فدعا فقلنا: اسر بعبادي. وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر {فَأَسْرِ} بهمزة وصل على أنه أمر من "سرى"، وقرأه الباقون بهمزة قطع من "أسرى"
(25/325)
يقال: سرى وأسرى. وقد تقدم عند قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الاسراء: 1] فتقييده بزمان الليل هنا نظير تقييده في سورة الإسراء، والمقصود منه تأكيد معنى الإسراء بأنه حقيقة وليس مستعملا مجازا في التبكير بناء على أن المتعارف في الرحيل أن يكون فجرا.
وفائدة التأكيد أن يكون له من سعة الوقت ما يبلغون به إلى شاطئ البحر الأحمر قبل أن يدركهم فرعون بجنوده.
وجملة {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} تقيد تعليلا للأمر بالإسراء ليلا لأنه مما يستغرب، أي أنكم متبعون فأردنا أن تقطعوا مسافة يتعذر على فرعون لحاقكم.
وتأكيد الخبر ب"إن" لتنزيل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر فيستشرف له استشراف المتردد السائل، على حد قوله تعالى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]
وأسند الاتباع إلى غير مذكور لأنه من المعلوم أن الذي سيتبعهم هو فرعون وجنوده.
[24] {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}
عطف على جملة {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} [الدخان: 23] فيجوز أن تكون الجملتان صدرتا متصلتين بأن أعلم الله موسى حين أمره بالإسراء بأنه يضرب البحر بعصاه فينفلق عن قعره اليابس حتى يمر منه بنو إسرائيل كما ورد في آيات أخرى مثل آية سورة الشعراء. ولما أمره بذلك طمنه بأن لا يخشى بقاءه منفلقا فيتوقع أن يلحق به فرعون بل يجتاز البحر ويتركه فإنه سيطغى على فرعون وجنده فيغرقون، ففي الكلام إيجاز تقديره: فإذا سريت بعبادي فسنفتح لكم البحر فتسلكونه فإذا سلكته فلا تخش أن يلحقكم فرعون وجنده واتركه فإنهم مغرقون فيه. ويجوز أن تكون الجملة الثانية صدرت وقت دخول موسى ومن معه في طرائق البحر فيقدر قول محذوف، أي وقلنا له: اترك البحر رهوا، أي سيدخله فرعون وجنده ولا يخرجون منه لأن في بقائه مفروقا حكمة أخرى وهي دخول فرعون وجنده في طرائقه طمعا منهم أن يلحقوا موسى وقومه، حتى إذا توسطوه انضم عليهم، فتحصل فائدة إنجاء بني إسرائيل وفائدة إهلاك عدوهم، فتكون الواو عاطفة قولا محذوفا على القول المحذوف قبله.
وعلى الوجهين فالترك مستعمل مجازا في عدم المبالاة بالشيء كما يقال: دعه يفعل كذا، وذره، كقوله تعالى {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]، وقالت كبشة بنت
(25/326)
معد يكرب:
ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر المطعم
والبحر هو بحر القلزم المسمى اليوم البحر الأحمر.
والرهو: الفجوة الواسعة. وأصله مصدر رها، إذا فتح بين رجليه، فسميت الفجوة رهوا تسمية بالمصدر، وانتصب {رهوا} على الحال من البحر على التشبيه البليغ، أي مثل رهو.
وجملة {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} استئناف بياني جوابا عن سؤال ناشئ عن الأمر بترك البحر مفتوحا، وضمير {إنهم} عائد إلى اسم الإشارة في قوله {أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان: 22] والجند: القوم والأمة وعسكر الملك.
وإقحام لفظ {جند} دون الاقتصار على {مغرقون} لإفادة أن إغراقهم قد لزمهم حتى صار كأنه من مقومات عنديتهم كما قدمناه عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. [164]
[25-28] { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ}
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة، غرورا أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] من التنظير الإجمالي.
وضمير {تركوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
والترك حقيقته: إلقاء شيء في مكان متنقل عنه إبقاء اختياريا، ويطلق مجازا على مفارقة المكان والشيء الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال: ترك الميت مالا، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل.
وفعل {تركوا} مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى
(25/327)
من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر، وانضمام البحر عليهم قد تم، ففي الكلام إيجاز حذف جمل كثيرة يدل عليها {كَمْ تَرَكُوا}
و {كم} اسم لعدد كثير مبهم يفسر نوعه مميز بعد {كم} مجرور ب {من} مذكورة أو محذوفة.
وحكم {كم} كالأسماء تكون على حسب العوامل. وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبر مبتدأ ولا خبر "كان" ولا "إن" وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها. وانتصب {كم} هنا على المفعول به ل {تركوا} أي تركوا كثيرا من جنات. و {من} مميزة لمبهم العدد في {كم}
والمقام بفتح الميم: مكان القيام، والقيام هنا مجاز في معنى التمكن من المكان.
والكريم من كل نوع أنفسه وخيره، والمراد به: المساكن والديار والأسواق ونحوها مما كان لهم في مدينة "منفسين".
والنعمة بفتح النون: اسم للتنعم مصوغ على وزنة المرة. وليس المراد به المرة بل مطلق المصدر باعتبار أن مجموع أحوال النعيم صار كالشيء الواحد وهو أبلغ وأجمع في تصوير معنى المصدر، وهذا هو المناسب لفعل {تركوا} لأن المتروك هو أشخاص الأمور التي ينعم بها وليس المتروك وهو المعنى المصدري.
و {فاكهين} متصفين بالفكاهة بضم الفاء وهي اللعب والمزح، أي كانوا مغمورين في النعمة لاعبين في تلك النعمة. وقرأ الجمهور {فاكهين} بصيغة اسم الفاعل. وقرأه حفص وأبو جعفر {فكهين} بدون ألف على أنه صفة مشبهة.
وقوله {كذلك} راجع لفعل {تركوا} . والتقدير: تركا مثل ذلك الترك.
والإشارة إلى مقدر دل عليه الكلام ومعنى الكاف، وهذا التركيب تقدم الكلام عليه عند قوله {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف.[91]
{وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}
عطف على {تركوا} أي تركوها وأورثناها غيرهم، أي لفرعون الذي ولي بعد موت منفطا وسمي صفطا منفطا وهو أحد أمراء فرعون منفطا تزوج ابنة منفطا المسماة طوسير التي خلفت أباها منفطا على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وصف هو وجنده
(25/328)
بقوم آخرين، وليس المراد بقوله {قَوْماً آخَرِينَ} قوما من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الدخان: 30] ولم يقل ولقد نجيناهم.
ووقع في آية الشعراء {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 57-59] والمراد هنالك أن أنواعا مما أخرجنا منه قوم فرعون أورثناها بني إسرائيل، ولم يقصد أنواع تلك الأشياء في خصوص أرض فرعون. ومناسبة ذلك هنالك أن القومين أخرجا مما كانا فيه، فسلب أحد الفريقين ما كان له دون إعادة لأنهم هلكوا، وأعطي الفريق الآخر أمثال ذلك في أرض فلسطين، ففي قوله {وأورثناها} تشبيه بليغ وانظر آية سورة الشعراء.
[29] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
تفريع على قوله {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} إلى قوله { قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] فإن ذلك كله يتضمن أنهم هلكوا وانقرضوا، أي فما كان مهلكهم إلا كمهلك غيرهم ولم يكن حدثا عظيما كما كانوا يحسبون ويحسب قومهم، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهولوا أمر موته بنحو: بكت عليه السماء، وبكته الريح، وتزلزلت الجبال، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه موحش متضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم، وقريب من قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [ابراهيم: 46] وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين، قال أبو بكر بن اللبانة الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك أشبيلية:
تبكي السماء بمزن رائج غاد ... على البهاليل من أبناء عباد
والمعنى: فما كان هلاكهم إلا كهلاك غيرهم ولا انظروا بتأخير هلاكهم بل عجل لهم الاستئصال.
[31,30] { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً
(25/329)
مِنَ الْمُسْرِفِينَ}
معطوف على الكلام المحذوف الذي دل عليه قوله {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] الذي تقديره: فأغرقناهم ونجينا بني إسرائيل كما قال في سورة الشعراء {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}
والمعنى: ونجينا بني إسرائيل من عذاب فرعون وقساوته، أي فكانت آية البحر هلاكا لقوم وإنجاء لآخرين. والمقصود من ذكر هذا الإشارة إلى أن الله تعالى ينجي الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذاب أهل الشرك بمكة، كما نجى الذين اتبعوا موسى من عذاب فرعون.
وجعل طغيان فرعون وإسرافه في الشر مثلا لطغيان أبي جهل وملئه ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام. وقد يفيد تحقيق إنجاء المؤمنين من العذاب المقدر للمشركين إجابة لدعوة {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12]
و {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : هو ما كان يعاملهم به فرعون وقومه من الاستعباد والإشقاق عليهم في السخرة، وكان يكلفهم أن يصنعوا له اللبن كل يوم لبناء مدينتي فيثوم و رعمسيس وكان اللبن يصنع من الطوب والتبن فكان يكلفهم استحضار التبن اللازم لصنع اللبن ويلتقطون متناثره ويذلونهم ولا يتركون لهم راحة، فذلك العذاب المهين لأنه عذاب فيه إذلال.
وقوله {مِنْ فِرْعَوْنَ} الأظهر أن يكون بدلا مطابقا للعذاب المهين فتكون {من} مؤكدة ل {من} الأولى المعدية ل {نجينا} لأن الحرف الداخل على المبدل منه يجوز أن يدخل على البدل للتأكيد. ويحسن ذلك في نكت يقتضيها المقام وحسنه هنا، فأظهرت {من} لخفاء كون اسم فرعون بدلا من العذاب تنبيها على قصد التهويل لأمر فرعون في جعل اسمه نفس العذاب المهين، أي في حال كونه صادرا من فرعون.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان التهويل الذي أفاده جعل اسم فرعون بدلا من العذاب المهين. والعالي: المتكبر العظيم في النسا، قال تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]
و {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} خبر ثان عن فرعون، والإسراف: الإفراط والإكثار. والمراد هنا الإكثار في التعالي، يراد الإكثار في أعمال الشر بقرينة مقام الذم. و {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أشد مبالغة في اتصافه بالإسراف من أن يقال: مسرفا، كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة.[67]
(25/330)
[32] {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
إشارة إلى أن الله تعالى قد اختار الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على أمم عصرهم كما اختار الذين آمنوا بموسى عليه السلام على أمم عصرهم وأنه عالم بأن أمثالهم أهل لأن يختارهم الله. والمقصود: التنويه بالمؤمنين بالرسل وأن ذلك يقتضي أن ينصرهم الله على أعدائهم ولأجل هذه الإشارة أكد الخبر باللام و"قد"، كما أكد في قوله آنفا {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الدخان: 30] و {على} في قوله {عَلَى عِلْمٍ} بمعنى "مع"، كقول الأحوص:
إني على ما قد علمت محسد ... أنمي على البغضاء والشنآن
وموضع المجرور بها موضع الحال.
والمراد ب {العالمين} الأمم المعاصرة لهم. ثم بدلوا بعد ذلك فضربت عليهم الذلة، وقد اختار الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم فقال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]أي أخرجها الله للناس. واختار المسلمين بعدهم اختيارا نسبيا على حسب استقامتهم واستقامة غيرهم من الأمم على أن التوحيد لا يعدله شيء.
{وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}
إيتاء الآيات من آثار الاختيار لأنه من عناية الله بالأمة لأنه يزيدهم يقينا بإيمانهم. والمراد بالآيات المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام أيد الله به بني إسرائيل في مواقع حروبهم بنصر الفئة القليلة منهم على الجيوش الكثيرة من عدوهم.
وهذا تعريض بالإنذار للمشركين بأن المسلمين سيغلبون جمعهم مع قلتلهم في بدر وغيرها.
والبلاء: الاختبار يكون بالخير والشر. فالأول اختبار لمقابلة النعمة بالشكر أو غيره، والثاني اختبار لمقدار الصبر، قال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء: 35] أي ما فيه اختبار لهم في نظر الناس ليعلم بعضهم أنهم قابلوا نعمة إيتاء الآيات بالشكر، ويحذروا قومهم من مقابلة النعمة بالكفران.
[34-36] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ
(25/331)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
اعتراض بين جملة {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16]
وجملة {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] فإنه لما هددهم بعذاب الدخان ثم بالبطشة الكبرى وضرب لهم المثل بقوم فرعون أعقب ذلك بالإشارة إلى أن إنكار البعث هو الذي صرفهم عن توقع جزاء السوء على إعراضهم.
وافتتاح الكلام بحرف {إن} الذي ليس هو للتأكيد لأن هذا القول إلى المشركين لا تردد فيه حتى يحتاج إلى التأكيد فتعين كون حرف {إن} لمجرد الاهتمام بالخبر، وهو إذا وقع مثل هذا الموقع أفاد التسبب وأغنى عن الفاء. فالمعنى: إنا منتقمون منهم بالبطشة الكبرى لأنهم لا يرتدعون بوعيد الآخرة لإنكارهم الحياة الآخرة فلم ينظروا إلا لما هم عليه في الحياة الدنيا من النعمة والقوة فلذلك قدر الله لهم الجزاء على سوء كفرهم جزاء في الحياة الدنيا.
وضمير {هي} ضمير الشأن ويقال له: ضمير القصة لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها.
وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها يعنون بذلك شيئا ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة.
فلهم في نفي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت.
وكلمة {هؤلاء} حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه: مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في سورة الأنعام. [89]
ووصف {الأولى} مراد به السابقة مثل قوله {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] ومنه قوله تعالى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71]. ونظيرها قوله تعالى {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:71]
وأعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها، بقولهم {وَمَا نَحْنُ
(25/332)
بِمُنْشَرِينَ} تصريحا بمفهوم القصر. وجيء به معطوفا للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر وجعلوا قولهم {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} حجة على نفي البعث بأن الأموات السابقين لم يرجع أحد منهم إلى الحياة وهو سفسطة لأن البعث الموعود به لا يحصل في الحياة الدنيا، وهذا من توركهم واستهزائهم.
وضمير جمع المخاطبين أرادوا به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يقولون لهم {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} [هود: 7] كما جاء في حديث خباب بن الأرت مع العاصي بن وائل الذي نزل بسببه قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآية، وتقدم في سورة مريم.[77]
[37] {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}
استئناف ناشئ عن قوله { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 17] فضمير {هم} راجع إلى اسم الإشارة في قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 35] فبعد أن ضرب لهم المثل بمهلك قوم فرعون زادهم مثلا آخر هو أقرب إلى اعتبارهم به وهو مهلك قوم أقرب إلى بلادهم من قوم فرعون وأولئك قوم تبع فإن العرب يتسامعون بعظمة ملك تبع وقومه أهل اليمن وكثير من العرب شاهدوا آثار قوتهم وعظمتهم في مراحل أسفارهم وتحادثوا بما أصابهم من الهلك بسيل العرم. وافتتح الكلام بالاستفهام التقريري لاسترعاء الأسماع لمضمونه لأن كل أحد يعلم أن تبعا ومن قبله من الملوك خير من هؤلاء المشركين.
والمعنى: أنهم ليسوا خيرا من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم الذين استأصلهم الله لأجل إجرامهم فلما ماثلوهم في الإجرام فلا مزية لهم تدفع عنهم استئصال الذي أهلك الله به أمما قبلهم.
والاستفهام في {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} تقريري إذ لا يسعهم إلا أن يعترفوا بأن قوم تبع والذين من قبلهم خير منهم لأنهم كانوا يضربون بهم الأمثال في القوة والمنعة. والمراد بالخيرية التفضيل في القوة والمنعة، كما قال تعالى بعد ذكر قوم فرعون {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} في سورة القمر.[43]
وقوم تبع هم حمير وهم سكان اليمن وحضرموت من حمير وسبأ وقد ذكرهم الله تعالى في سورة ق.
وتبع بضم الميم وتشديد الموحدة لقب لمن يملك جميع بلاد اليمن حميرا وسبأ
(25/333)
وحضرموت، فلا يطلق على الملك لقب تبع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة. قيل سموه تبعا باسم الظل لأنه يتبع الشمس كما يتبع الظل الشمس، ومعنى ذلك: أنه يسير بغزواته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس، كما قال تعالى في ذي القرنين {فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} إلى قوله {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} [الكهف: 90]، وقيل لأنه تتبعه ملوك مخاليف اليمن، وتخضع له جميع الأقيال والأذواء من ملوك مخاليف اليمن وأذوائه، فلذلك لقب تبعا لأنه تتبعه الملوك.
وتبع المراد هنا المسمى أسعد والمكنى أبا كرب، كان قد عظم سلطانه وغزا بلاد العرب ودخل مكة ويثرب وبلغ العراق. ويقال: إنه الذي بنى مدينة الحيرة في العراق، وكانت دولة تبع في سنة ألف قبل البعثة المحمدية، وقيل كان في حدود السبعمائة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وتعليق الإهلاك بقوم تبع دونه يقتضي أن تبعا نجا من هذا الإهلاك وأن الإهلاك سلط على قومه، قالت عائشة: ألا ترى أن الله ذم قومه ولم يذمه.
والمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره أنه قال "لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم" وفي رواية "كان مؤمنا" ، وفسره بعض العلماء بأنه كان على دين إبراهيم عليه السلام وأنه اهتدى إلى ذلك بصحبة حبرين من أحبار اليهود لقيهما بيثرب حين غزاها وذلك يقتضي نجاته من الإهلاك. ولعل الله أهلك قومه بعد موته أو في مغيبه.
وجملة {أهلكناهم} مستأنفة استئنافا بيانيا لما أثاره الاستفهام التقريري من السؤال عن إبهامه ماذا أريد به.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} تعليل لمضمون جملة {أهلكناهم} ، أي أهلكناهم عن بكرة أبيهم بسبب إجرامهم، أي شركهم.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} عطف على جملة {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان:,34,35] ردا عليهم كما علمته آنفا. والمعنى: أنه لو لم يكن بعث وجزاء لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا، ونحن خلقنا ذلك كله بالحق، أي بالحكمة كما دل عليه إتقان نظام الموجودات، فلا جرم اقتضى خلق ذلك أن يجازى كل فاعل على فعله وأن لا يضاع ذلك، ولما كان المشاهد أن كثيرا من الناس يقضي حياته ولا يرى لنفسه جزاء على أعماله تعين أن الله أخر جزاءهم إلى حياة أخرى وإلا لكان خلقهم في بعض أحواله من قبيل
(25/334)
اللعب.
وذكر اللعب توبيخ للذين أحالوا البعث والجزاء بأنهم اعتقدوا ما يفضي بهم إلى جعل أفعال الحكيم لعبا، وقد تقدم وجه الملازمة عند تفسير قوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} في سورة المؤمنون [115] وعند قوله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة ص.[27]
و {لاعبين} حال من ضمير {خلقنا} ، والنفي متوجه إلى هذا الحال فاقتضى نفي أن يكون شيء من خلق ذلك في حالة عبث فمن ذلك حالة إهمال الجزاء.
وجملة {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} بدل اشتمال من جملة {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}
والباء في {بالحق} للملابسة، أي خلقنا ذلك ملابسا ومقارنا للحق، أو الباء للسببية، أي بسبب الحق، أي لإيجاد الحق من خلقهما.
والحق: ما يحق وقوعه من عمل أو قول، أي يجب ويتعين لسببية أو تفرع أو مجازاة، فمن الحق الذي خلقت السماوات والأرض وما بينهما لأجله مكافأة كل عامل بما يناسب عمله ويجازيه، وتقدم عند قوله تعالى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة الروم. [8]
والاستدراك في قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ناشئ عما أفاده نفي أن يكون خلق المخلوقات لعبا وإثبات أنه للحق لا غير من كون شأن ذلك أن لا يخفى ولكن جهل المشركين هو الذي سول لهم أن يقولوا {مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35].
وجملة الاستدراك تذييل، وقريب من معنى الآية قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} في آخر سورة الحجر.[85]
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
هذه الجملة تتنزل من التي قبلها منزلة النتيجة من الاستدلال ولذلك لم تعطف، والمعنى: فيوم الفصل ميقاتهم إعلاما لهم بأن يوم القضاء هو أجل الجزاء، فهذا وعيد لهم وتأكيد الخبر لرد إنكارهم.
(25/335)
و {يوم الفصل} : هو يوم الحكم، لأنه يفصل فيه الحق من الباطل وهو من أسماء يوم القيامة قال تعالى {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 13,12]
والميقات: اسم زمان التوقيت، أي التأجيل، قال تعالى {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17]، وتقدم عند قوله تعالى {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} في سورة البقرة [189] وحذف متعلق الميقات لظهوره من المقام، أي ميقات جزائهم.
وأضيف الميقات إلى ضمير المخبر عنهم لأنهم المقصود من هذا الوعيد وإلا فإن يوم الفصل ميقات جميع الخلق مؤمنيهم وكفارهم.
والتأكيد ب {أجمعين} للتنصيص على الإحاطة والشمول، أي ميقات لجزائهم كلهم لا يفلت منه أحد منهم تقوية في الوعيد وتأييسا من الاستثناء.
و {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً} بدل من {يَوْمُ الْفَصْلِ} أو عطف بيان. وفتحة {يَوْمَ لا يُغْنِي} فتحة إعراب لأن {يوم} أضيف إلى جملة ذات فعل معرب.
والمولى: القريب والحليف،وتقدم عند قوله تعالى {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} في سورة مريم.[5] وتنكير {مولى} في سياق النفي لإفادة العموم، أي لا يغني أحد من الموالي كائنا من كان عن أحد من مواليه كائنا من كان.
و {شيئا} مفعول مطلق لأن المراد {شيئا} من إغناء. وتنكير {شيئا} للتقليل وهو الغالب في تنكير لفظ شيء، كما قال تعالى {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16] ووقوعه في سياق النفي للعموم أيضا، يعني أي إغناء كان في القلة بله الإغناء الكثير. والمعنى: يوم لا تغني عنهم مواليهم، فعدل عن ذلك إلى التعميم لأنه أوسع فائدة إذ هو بمنزلة التذييل.
والإغناء: الإفادة والنفع بالكثير أو القليل، وضميرا {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} راجعان إلى ما رجع إليه ضمير {أَهُمْ خَيْرٌ} [الدخان: 37]، وهو اسم الإشارة من قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} [الدخان:34]. والمعنى: أنهم لا يغني عنهم أولياؤهم المظنون بهم ذلك ولا ينصرهم مقيضون آخرون ليسوا من مواليهم تأخذهم الحمية أو الغيرة أو الشفقة فينصرونهم.
والنصر: الإعانة على العدو وعلى الغالب، وهو أشد الإغناء.
فعطف {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} على {لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} زيادة في نفي عدم الإغناء.
(25/336)
فمحصل المعنى أنه لا يغني موال عن مواليه بشيء من الإغناء حسب مستطاعه ولا ينصرهم ناصر شديد الاستطاعة هو أقوى منهم يدفع عنهم غلب القوي عليهم، فالله هو الغالب لا يدفعه غالب.
وبني فعل {ينصرون} إلى المجهول ليعم نفي كل ناصر مع إيجاز العبارة.
والاستثناء بقوله {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} وقع عقب جملتي {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فحق بأن يرجع إلى ما يصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين. ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي {مولى} الأول المرفوع بفعل {يغني} ، و {مولى} الثاني المجرور بحرف {عن} ، وضمير {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل، أي إلا من رحمه الله من الموالي، أي فإنه يأذن أن يشفع فيه، ويأذن للشافع بأن يشفع كما قال تعالى {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وقال {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء: 28]. وفي حديث الشفاعة أنه يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "سل تعطه واشفع تشفع". والشفاعة: إغناء عن المشفوع فيه. والشفعاء يومئذ أولياء للمؤمنين فإن من الشفعاء الملائكة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]
وقيل هو استثناء منقطع لأن من رحمه الله ليس داخلا في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر، والمعنى: لكن من رحمه الله لا يحتاج إلى من يغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء.
وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سر يعلمه الله.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} استئناف بياني هو جواب مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمه الله، أي أن الله عزيز لا يكرهه أحد على العدول عن مراده، فهو يرحم من يرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعده. وفي الحديث ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
[43-50] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}
(25/337)
لما ذكر الله فريقا مرحومين على وجه الأجمال قابله هنا بفريق معذبون وهم المشركون، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} الآية، فعدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماما بالإعلام بحال هذه الشجرة. وقد جعلت شجرة الزقوم شيئا معلوما للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين.
ومعنى كون الشجرة طعاما أن ثمرها طعام، كما قال تعالى طَلْعُهَا {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا} [الصافات:66,65].
وكتبت كلمة {شجرت} في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعي فيه حالة الوقف، فهذا مما جاء على خلاف الأصل.
و {الأثيم} : الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فعيل. والمراد به: المشركون المذكورون في قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان:35,34] فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه
وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات[62] عند قوله تعالى {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}
والمهل بضم الميم دردي الزيت. والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه.
و{الحميم}: الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه، وتقدم عند قوله تعالى {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} في سورة الأنعام.[70] ووجه الشبه هو هيئة غليانه.
وقرأ الجمهور {تغلي} بالتاء الفوقية على أن الضمير ل {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}
وإسناد الغليان إلى الشجرة مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها. وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل.
والغليان: شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال: غلي الماء وغلت القدر، قال النابغة.
(25/338)
يسير بها النعمان تغلي قدوره
وجملة {خذوه} إلخ مقول لقول محذوف دل عليه السياق، أي يقال لملائكة العذاب: خذوه، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه.
والعتل: القود بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب، وماضيه جاء بضم العين وكسرها.
وقرأه بالضم نافع وابن كثير وابن عامر. وقرأه الباقون بكسر التاء.
وسواء الشيء: وسطه وهو أشد المكان حرارة.
وقوله {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} يتنازعه في التعلق كل من فعلي {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} لتضمنهما: سوقوه سوقا عنيفا.
و {ثم} للتراخي الرتبي أن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله.
والصب: إفراغ الشيء المظروف من الظرف وفعل الصب لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب. فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلا، بخلاف قوله {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها.
وجملة {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} مقول قول آخر محذوف تقديره: قولوا له أو يقال له.
والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة.
وقوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدية. والمقصود عكس مدلوله، أي أنت الذليل المهان، والتأكيد للمعنى التهكمي.
وقرأه الجمهور بكسر همزة {إنك} . وقرأه الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله {أنت} تأكيد للضمير المتصل في {إنك} ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل.
وجملة {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} بقية القول المحذوف، أي ويقال للآثيمين جميعا: إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا. والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ واسم
(25/339)
الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا.
والامتراء: الشك، وأطلق الامتراء على جزمهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خليا عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
[51-53] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس.
والمقام بضم الميم: مكان الإقامة. والمقام بفتح الميم: مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه.
وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم. وقرأه الباقون بفتح الميم.
والمراد بالمقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم.
والأمين بمعنى الآمن والمراد: الآمن ساكنه، فوصفه ب {أمين} مجاز عقلي كما قال تعالى {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3]. والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أول ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان آمنا في منزلة كان مطمئن البال شاعرا بالنعيم الذي يناله. وأبدل منه بأنهم {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وذلك من وسائل النزهة والطيب. وأعيد حرف {في} مع البدل للتأكيد.
والجنات: جمع جنة، وتقدم في أول البقرة. والعيون: جمع عين، وتقدم في قوله {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} في سورة البقرة [60]، فهذا نعيم مكانهم. ووصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يلبس هذا اللباس إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنه وظاهره.
والسندس: الديباج الرقيق النفيس، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي. أصله: سندي، منسوب إلى السند على غير قياس. والسندس يلبس مما يلي الجسد.
والإستبرق الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية، وهو الغليظ
(25/340)
مطلقا ثم خص بغليظ الديباج، ثم عرب.
وتقدما في قوله {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} في سورة الكهف [31] فارجع إليه.
و {من} لبيان الجنس، والمبين محذوف دل عليه {يلبسون} . والتقدير: ثيابا من سندس وإستبرق.
ثم وصف نعيم نفوسهم بعضهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله {متقابلين} لأن الحديث مع الأصحاب والأحبة نعيم للنفس فأغنى قوله {متقابلين} عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادته على وجه الإيجاز البديع.
[54-57] {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
{كَذَلِكَ}
اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف. وتقدم نظيره آنفا في هذه السورة.
{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} معنى {زوجناهم} جعلناهم أزواجا جمع زوج ضد الفرد، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجا بسبب نساء حور العيون.
والزوج هنا كناية عن القرين، أي قرنا بكل واحد نساء حورا عينا، وليس فعل {زوجناهم} هنا مشتقا من الزوج الشائع إطلاقه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال: زوجه ابنته وتزوج بنت فلان، قال تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته، إذ ليس في الجنة عقود نكاح، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالا لمتعارف الأنس بين الناس. وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجر للنفس من النعيم الجثماني، وهذا معنى سام من معاني الانبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في
(25/341)
الدنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجر إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعا ومثل الاعتداء على المرأة قسرا، ومن مصطلحات متكلفة، وقد سمى الله سكونا فقال {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
والحور: جمع الحوراء، وهي البيضاء، أي بنساء بضيضات الجلد.
والعين: جمع العيناء، وهي واسعة العين، وتقدم في سورة الصافات. وشمل الحور العين النساء اللاء كن أزواجهم في الدنيا، ونساء يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} وقال تعالى {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} [ّيس: 56].
ومعنى {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة، أي فيجابون.
والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة، أي بإحضار كل فاكهة و {كل} هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم. ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة.
والفاكهة: ما يتفكه به، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها.
وجملة {يدعون} حال من {المتقين} ، و {آمنين} حال من ضمير {يدعون} . والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47]، أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه.
وجملة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} حال أخرى. وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب.
والاستثناء في قوله {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب {الأولى} . والمراد ب {الأولى} السالفة، كما تقدم آنفا في قوله {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 35]
(25/342)
{وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} عطف على {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم. وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه.
وضمير {وقاهم} عائد إلى ضمير المتكلم في {وزوجناهم} على طريقة الالتفات.
و {فضلا} حال من المذكورات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال: فضلا منه أو منا. ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى الله عليه وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به.
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل، والإشارة في {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لتعظيم الفضل ببعد المرتبة. وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضارا لتلك الأغراض وضبطا لترتب علتها.
وضمير {يسرناه} عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] إلخ، والذي كان جل غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من رد العجز على الصدر. فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعا على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ.
ويجوز أن يكون المفرع قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماما بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذكرون بهذا لما يسرناه لهم بلسانهم.
والقصر المستفاد من "إنما" قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهل لهم طريق
(25/343)
فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي أنا جعلنا فهمه يسيرا بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا.
فمفعول {يسرناه} مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره: فهمه.
والباء في {بلسانك} للسببية، أي بسبب لغتك، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [ابراهيم: 4]
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
وأفصح قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عن الأمر بالتذكير بالقرآن. والتقدير: فذكرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} إلخ في سورة مريم [97].
و"لعل" مستعملة في التعليل، أي لأجل أن يتذكروا به، وهذا كقوله {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الاحقاف: 12].
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وبأن سبب ذلك التيسير كونه بأفصح اللغات وكونه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسببا قريبا لو لم يكونوا في شك يلعبون. وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى.
وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين "ارتقب" و {مرتقبون} .
وجملة {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} تعليل للأمر في قول {فارتقب} أي ارتقب النصر بأنهم لاقوا العذاب بالقحط وقد أغنت "إن" التسبب والتعليل.
وفي هذه الخاتمة رد العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب
(25/344)
المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى اله عليه وسلم وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى.
فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز.
(25/345)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثية
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف العتيقة بتونس وكتب التفسير وفي صحيح البخاري سورة الجاثية معرفا باللام.
وتسمى حم الجاثية لوقوع لفظ {جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن، واقتران لفظ "الجاثية" بلام التعريف في اسم السورة مع أن اللفظ المذكور فيها خلي عن لام التعريف لقصد تحسين الإضافة، والتقدير: سورة هذه الكلمة، أي السورة التي تذكر فيها هذه الكلمة، وليس لهذا التعريف فائدة غير هذه. وذلك تسمية حم غافر، وحم الزخرف.
وتسمى سورة شريعة لوقوع لفظ {شريعة} [الجاثية: 18] فيها ولم يقع في موضع آخر من القرآن. وتسمى سورة الدهر لوقوع {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] فيها ولم يقع لفظ الدهر في ذوات حم الأخر.
وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وفي القرطبي عن ابن عباس وقتادة استثناء قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} إلى {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] نزلت بالمدينة. وعن ابن عباس أنها نزلت عن عمر بن الخطاب شتمه رجل من المشركين بمكة فأراد أن يبطش به فنزلت.
وهي السورة الرابعة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الدخان وقبل الأحقاف. وعدد آيها في عد المدينة ومكة والشام والبصرة ست وثلاثون. وفي عد الكوفة سبع وثلاثون لاختلافهم في عد لفظ {حم} آية مستقلة.
أغراضها
الابتداء بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه جاء بالحق توطئة لما سيذكر بأنه حق كما
(25/346)
اقتضاه قوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 6]
وإثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلائل ما في السماوات والأرض من آثار خلقه وقدرته في جواهر الموجودات وأعراضها وإدماج ما فيها مع ذلك من نعم يحق على الناس شكرها لا كفرها.
ووعيد الذين كذبوا على الله والتزموا الآثام بالإصرار على الكفر والإعراض عن النظر في آيات القرآن والاستهزاء بها. والتنديد على المشركين إذ اتخذوا آلهة على حسب أهوائهم وإذ جحدوا البعث، وتهديدهم بالخسران يوم البعث، ووصف أهوال ذلك، وما أعد فيه من العذاب للمشركين ومن رحمة للمؤمنين. ودعاء المسلمين للإعراض عن إساءة الكفار لهم والوعد بأن الله سيخزي المشركين.
ووصف بعض أحوال يوم الجزاء. ونظر الذين أهملوا النظر في آيات الله مع تبيانها وخالفوا على رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما فيه صلاحهم بحال بني إسرائيل في اختلافهم في كتابهم بعد أن جاءهم العلم وبعد أن اتبعوه فما ظنك بمن خالف آيات الله من أول وهلة تحذيرا لهم من أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تسليط الأمم عليهم وذلك تحذير بليغ. وذلك تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم بأن شأن شرعه مع قومه كشأن شريعة موسى لا تسلم من مخالف، وأن ذلك لا يقدح فيها ولا في الذي جاء بها، وأن لا يعبأ بالمعاندين ولا بكثرتهم إذ لا وزن لهم عند الله.
[1] {حم} تقدم القول في نظائره، وهذه جملة مستقلة.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر. {الكتاب} هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة.
والمقصود: إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسندا إليه ويخبر عنه فيقال القرآن منزل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلا من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلا لما كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مقتضى الظاهر لغرضين:
أحدهما: التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه؛ فأما الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل
(25/347)
الكتاب فيتهيأون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم، والمؤمنون يترقبون لما يزيدهم يقينا بهذا التنزيل.
والغرض الثاني: أن يدعى أن كون القرآن تنزيلا أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزلا من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلا وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون ما صدقيهما على طريقة قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
وإيثار وصفي {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف {العزيز} بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41]، أي هو غالب لمعانديه، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته، ولإشعار وصف {الحكيم} بأن ما نزل من عنده مناسب لحكمته، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه، من جانب بلاغته إذ غلبت بلاغة بلغائهم،ومن جانب معانيه إذ أعجزت حكمته حكمة الحكماء، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر.
[3-5] {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} [الجاثية: 6]
وأكد ب {إن} وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} في سورة الزخرف.[9]
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} دون أن يقال: لآيات لكم أو آيات لكم، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من
(25/348)
المؤمنين. ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك.
والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له.
وعطف جملة {وَفِي خَلْقِكُمْ} الخ على جملة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه.
والبث: التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبث من دابة. وتقدم البث في قوله تعالى {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} في سورة البقرة.[164]
وعبر بالمضارع في {يبث} ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها.
والدابة تطلق على كل ما يدب على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]
والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات. والرزق: القوت. وقد ذكر في آية سورة البقرة [164] {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ}
وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدة.
والمراد ب"المؤمنين"، وب "قوم يوقنون"، وب "قوم يعقلون" واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي يعلمون دلالة الآيات.
والمعنى: أن المؤمنين والذين يوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان مترددا، وازداد إيمانا من كان مؤمنا فصار موقنا. فالمعنى: أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتلاء بعضها لبعض.
(25/349)
وقدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب،وجعل اختلاف الليل والنهار واختلاف حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل.
وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6] استفهاما إنكاريا بمعنى النفي.
واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجها إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء، وكان مقصودا منه ابتداء إثبات الوحدانية، فهو أيضا صالح لإقامة الحجة على المعطلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم. فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يعدمها.
وقرأ الجمهور قوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} برفع {آيات} فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران. وتقدر في محذوفة في قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لدلالة أختها عليها التي في قوله {وَفِي خَلْقِكُمْ}
والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد.
وقرأها حمزة والكسائي وخلف {لآيات} في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف {آيات} الأول عطف على اسم {إن} و {فِي خَلْقِكُمْ} عطف على خبر {إن} فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه، وأما {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فكذلك، إلا انه عطف على معمولي عاملين مختلفين، أي ليسا مترادفين هما "إن" و"في" على اعتبار أن الواو عاطفة {آيات} وليست عاطفة جملة {فِي خَلْقِكُمْ} الآية، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند اكثر نحاة البصرة، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير "في" عند قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة {آيات} على اسم "إن" فلا يكون من العطف على معمولي عاملين.
والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل. وجعل ابن الحاجب في أماليه قراءة الجمهور برفع {آيات} في الموضعين أيضا من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عامل كما أن النصب يحتاج إلى عامل قال: وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيا وهما سواء. وقرأ يعقوب
(25/350)
{آيات} الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح، والسحاب.
[6] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}
يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4] وقوله {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5]
وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين.
وجملة {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} في موضع الحال من {آيَاتُ اللَّهِ} . والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72].
والتلاوة: القراءة. ومعنى كون الآيات متلوة أن في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل "نتلو" مجاز عقلي لأن المتلو ما يدل عليها.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دل عليه قوله {الكتاب} أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن، فيكون استعمال فعل {نتلوها} في حقيقته.
وإسناد التلاوة إلى الله مجاز عقلي أيضا لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات.
وقوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} و {بعد} هنا بمعنى "دون". فالمعنى: فبأي حديث دون الله وآياته، وتقدم قوله تعالى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} في سورة الشورى،[44] وفي الأعراف {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} والاستفهام في قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى:
فمن أي ما تأتي الحوادث
أفرق وإضافة {بعد} إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله {فبأي حديث} ، والتقدير: بعد حديث الله، أي بعد سماعه، كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
(25/351)
أي على مخافة وعل.
واسم {بعد} مستعمل في حقيقته.
والمراد بالحديث: الكلام، يعني القرآن كقوله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف [185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وفي آخر المرسلات [50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
وعطف و {آياته} على {حديث} لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السماوات والأرض مما تقدم في قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3].
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب {يؤمنون} بالتحتية. وقرأه أبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات.
[7-10] {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً}
أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها، بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6].
وافتتح ذكره بالويل له تعجيلا لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله. و"ويل له" كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله.
و"الأفاك" القوي الإفك، أي الكذب. والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام، أي الخطايا. وفسره الفيروز آبادي في القاموس بالكذاب وهو
(25/352)
تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم.
وجعلت حالته أنه يسمع آيات الله ثم يصر مستكبرا لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبرا عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم، فلا جرم أن يكون أفاكا أثيما بله ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم.
والمراد ب {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31] وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضر بن الحارث، وأبي جهل وقرنائهم.
و {آيَاتِ اللَّهِ} أي القرآن فإنها المتلوة. و {ثم} للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخرا عن سماع الآيات.
والإصرار: ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه، وحذف متعلق {يصر} لدلالة المقام عليه، أي يصرون على كفرهم كما دل على ذلك قوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]
وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها.
و {كأن} أصلها "كأن" المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن.وفرع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الأخبار بما يسر على طريقة التهكم.
والمراد بالعلم في قوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً} السمع، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هزؤا، أي لا يتلقى شيئا من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به، ففعل {علم} هنا متعد إلى واحد لأنه بمعنى عرف.
وضمير التأنيث في {اتخذها} عائد إلى {آياتنا} ، أي اتخذ الآيات هزؤا لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره، فهو إذا علم شيئا منها استهزئ بما علمه وبغيره.
ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤا: أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العلم بشيء منها. ومن الاستهزاء ببعض
(25/353)
الآيات تحريفها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمدا للاستهزاء، كقول أبي جهل لما سمع {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:44,43] تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال زقمونا ، وقوله: لما سمع قوله تعالى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]: أنا ألقاهم وحدي.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {هزؤا} على أن المشار إليهم أحرياء به لأجل ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف.
وجملة {مِنْ وَرَائِهِمْ} بيان لجملة {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وفي قوله {مِنْ وَرَائِهِمْ} تحقيق لحصول العذاب وكونه قريبا منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدو يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمنا. ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة، ومنه قوله تعالى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79] وقول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا? تحنى عليها الأصابع
ومن فسر وراء بقدام، فما رعى حق الكلام.
وعطف جملة {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} على جملة {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الولي مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة.
ومعنى الإغناء في قوله {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ} الكفاية والنفع، أي لا ينفعهم.
وعدي بحرف "عن" لتضمينه معنى يدفع فكأنه عبر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم، وتقدم في قوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة آل عمران.[10]
و {ما كسبوا} : أموالهم. و {شيئا} منصوب على المفعولية، أي شيئا من الإغناء لأن {شيئا} من أسماء الأجناس العالية فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده، وتنكيره للتقليل، أي لا يدفع عنهم ولو قليلا من جهنم، أي عذابها.
(25/354)
{وَلا مَا اتَّخَذُوا} عطف على {ما كسبوا} وأعيد حرف النفي للتأكيد، و {أولياء} مفعول ثان ل {اتخذوا} . وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير.
وأردف {عَذَابٌ مُهِينٌ} بعطف {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لإفادة أن لهم عذابا غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر، فالعذاب الذي في قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} غير العذاب الذي في قوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
[11] {هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}
جملة {هَذَا هُدىً} استئناف ابتدائي انتقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى، فالإشارة بقوله {هذا} إلى القرآن الذي هو في حال النزول والتلاوة فهو كالشيء المشاهد، ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2] وقوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [الجاثية: 6] إلى آخره ما صيره متميزا شخصا بحسن الإشارة إليه. ووصف القرآن بأنه {هدى} من الوصف بالمصدر للمبالغة، أي: هاد للناس، فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حرم نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام.
فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} عطف على جملة {هَذَا هُدىً} والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكر بها، فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات، وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7]. وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب.
واستحضروا في هذا المقام بعنوان الكفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} [الجاثية: 8] لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضا عن الشكر، كما جاء في قوله تعالى { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]
والرجز: أشد العذاب، قال تعالى {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]
ويجوز أن يكون حرف {من} للبيان فالعذاب هو الرجز ويجوز أن يكون للتبعيض، أي عذاب مما يسمى بالرجز وهو أشده.
و {أليم} يجوز أن يكون وصفا ل {عذاب} فيكون مرفوعا وكذلك قرأه الجمهور.
(25/355)
ويجوز أن يكون وصفا ل {رجز} فيكون مجرورا كما قرأه ابن كثير وحفص عن عاصم.
[12] {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوالها من حيث إنها دلالات على الوحدانية، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيث كانت منافع الناس تقتضي أن يشكروا مقدرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم، ولذلك علق بفعلي {سخر} في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله {لكم} ؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضا مثل اختلاف الليل والنهار، وما انزل الله من السماء من ماء، وتصريف الرياح، ولكن لوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة، والفطن يستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك. ومناسبة هذا الانتقال واضحة.
واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل.
وقوله {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} بدل اشتمال من {لكم} لأن في قوله {لكم} إجمالا أريد تفصيله.
فتعريف {الفلك} تعريف الجنس، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه من باب {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41].
وعطف عليه {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل.
وعطف {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على قوله {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ} لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالا، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله. وهذا مناط سوق هذا الكلام، أي لعلكم تشكرون فكفرتم، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن أعادته.
(25/356)
[13] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}
هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولا ثم التعميم ثانيا. و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده: كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله: كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال.
وانتصب {جميعا} على الحال من { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه، أي جميع ذلك مثل تنوين "كل" في قوله {كُلّاً هَدَيْنَا} [الأنعام: 84].
و"من" ابتدائية، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة. وموقع قوله {منه} موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوض عنه التنوين أو من ضمير {جميعا} لأنه في معنى مجموعا.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت مننا يحق أن يشكرها الناس فأنها أيضا دلائل إذا تفكر فيها المنعم عليهم اهتدوا بها، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورة قبلها من قوله {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3] وإنما أخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم، ثم عقبت بالتنبيه على أنها أيضا دلائل على تفرد الله بالخلق.
وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله {لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3 ]{آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4] {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5]
(25/357)
[15,14] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 7-11] يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن وقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بدر من بعض المسلمين غضب أو توعد وان الله علم ذلك من بعضهم.
قال القرطبي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إعراض واستكبار واستهزاء فتتهيأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر. وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمرا له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسوا بعزتهم. فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم.
وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي ابن أبي طالب أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به قال ابن العربي وهذا لم يصح. وفي الكشاف أن عمر شتمه رجل من غفار فهم أن يبطش به فنزلت. وعن سعيد بن المسيب كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال عمر: ليجزي عمر بما صنع يعني أنه سبب نزول الآية. وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق: نزلوا على بئر يقال لها: المريسع فأرسل عبد الله بن أبي
(25/358)
غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال: ما حسبك. قال غلام عمر: قعد على فم البئر فما ترك أحدا يسقي حتى ملأ قرب المنبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله بن أبي: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فهم عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت.
وروى بن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] الآية قال فنحاص اليهودي: احتاج رب محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال: ضع سيفك. وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية.
وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب. ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع.
وجزم {يغفروا} على تقدير لام الأمر محذوفا، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب {قل} ، والمقول محذوف دل عليه الجواب. والتقدير: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا. والوجهان يتأتيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة إبراهيم.[31]
و {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} يراد بهم المشركون من أهل مكة.
والرجاء: ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر اطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية.
والأيام: جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمن أضيف هو إليه نصر وغلب على معاند أو مقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب: أيام العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البسوس، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها إن ندينا
فإذا قالوا: أيام يني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون: أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء
(25/359)
مغلوب لتضمن لفظ {أيام} أو"يوم" معنى الانتصار والغلب. وبذلك التضمن كان المجرور متعلقا بلفظ {أيام} أو"يوم" وإن كان جامدا، فمعنى {أَيَّامَ اللَّهِ} على هذا هو من قبيل قولهم: أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله.
ومحمل {أَيَّامَ اللَّهِ} على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم: إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها.
وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون. والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر.
وقد يطلق {أَيَّامَ اللَّهِ} في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: 5].
ومعنى {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله. وفسر به قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان: 21] وقوله { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]، فيكون المراد ب {أَيَّامَ اللَّهِ} : أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39]، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه "يوم" فيكون معنى هذه الآية: أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد في هذه الآية وكان التبيء صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى
(25/360)
وقوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تعليل للأمر المستفاد من قوله {يغفروا} أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] وهذا من معنى قوله تعالى {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون. فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظ {قوما} مشعرا بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ"قوم" مشعر بفريق له قوامه وعزته {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد11]
وتنكير {قوما} للتعظيم، فكأنه قيل: ليجزي أيما قوم، أي قوما مخصوصين. وهذا مدح لهم وثناء عليهم. ونحوه ما ذكر الطيبي عن ابن جني عن أبي علي الفارسي في قوله الشاعر:
أفآت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
قال: أبو علي: هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر: حكما عدلا وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف ا ه. والأظهر أن {قوما} مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط.
والمعنى: ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيدا للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعدا للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية: 15]. وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصلت. وقرأ الجمهور {لِيَجْزِيَ قَوْماً} بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله {أَيَّامَ اللَّهِ} وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات. وقرأه أبو جعفر بتحية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للجمهول ونصب {قوما} . وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل {يجزي} . والتقدير: ليجزي الجزاء. و {قوما} مفعول ثان لفعل "يجزى" من باب كسا وأعطى.
(25/361)
وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولا أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [لنجم:41]
وقوله {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم.
وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيدا عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله، وقد تقدمت نظائره.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]
الوجه أن يكون سوق خبر بني إسرائيل هنا توطئة وتمهيدا لقوله بعده {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] أثار ذلك ما تقدم من قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ}إلى قوله {اتَّخَذَهَا هُزُواً} [الجاثية: 9] ثم قوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] فكان المقصد قوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} ولذلك عطفت الجملة بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي، أي على أهمية ما عطف بها.
ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} الآيتين بعد قوله {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 18] فيكون دليلا وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيدا قصدا للتشويق لما بعده، وليقع ما بعده معطوفا ب {ثم} الدالة على أهمية ما بعدها.
وقد عرف من تورك المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وقولهم { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [الجاثية:
(25/362)
7-9] وقوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] فالجملة معطوفة على تلك الجمل.
وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم، لما فيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيرا في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه.
ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17} تأكيدا للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل.
وقد بسط في ذكر النظير من بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طوي من مثل بعضه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازا في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} وقوله {هَذَا هُدىً} [الجاثية: 11]، فإن ذلك يقابل قوله هنا {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ومثل قوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13] فإنه يقابل قوله هنا {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ومثل قوله {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} إلى {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} فإنه يقابل قوله هنا {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ومثل قوله {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] فإنه مقابل قوله هنا {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
و {الكتاب} : التوراة.
و {الحكم} يصح أن يكون بمعنى الحكمة، أي الفهم في الدين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] يعني يحيى، ويصح أن يكون بمعنى السيادة، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [المائدة: 20] والنبوة أن يقوم فيهم أنبياء. ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة: إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور.
(25/363)
وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبنا وعسلا كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وترد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف، وذلك بحسن موقع البلاد من بين المشرق برا والمغرب بحرا. و {الطيبات} : هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعما ومنظرا ونفعا وزينة. وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم، وبث أصول العدل فيهم، وبين حسن العيش والأمن والرخاء، فإن أمما أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضها استقامة الدين والخلق، وبعضها عزة حكم النفس وبعضها الأمن بسبب كثرة الفتن.
والمراد ب {العالمين} : أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عما آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم.
و {بينات} صفة نزلت منزلة الجامد، فالبينة: الحجة الظاهرة، أي آتيناهم حججا، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطأ إلى نفوسهم سبلا إلا سدتها.
و {الأمر} : الشأن كما في قوله {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] والتعريف في {الأمر} للتعظيم، أي من شؤون عظيمة، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئا مهما من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه.
و {من} في قوله {من الأمر} بمعنى "في" الظرفية فيحصل من هذا أن معنى {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} : علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطأ والخطل. وفرع على ذلك قوله {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} تفريع إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها. وتقدير الكلام: فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فحذف المفرع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حين لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفا من الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان
(25/364)
لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته.
والبغي: الظلم. والمراد: أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغيا منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظا ومعاني.
وانتصب {بغيا} أما على المفعول لأجله، وإما على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل {اختلفوا} ، وإن كان منفيا في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتا وما عدا ذلك غير منفي.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن خبرهم العجيب يثير سؤالا في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيقضى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقا ومبطلا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93]
[19,18] {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}
{ثم} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو. وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف {ثم} أهم من مضمون الجملة المعطوف عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجة على الدليل. وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة والبينات من الأمر، فنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه وحكمه وبيناته
(25/365)
أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك.
و {على} للاستعلاء المجازي، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
وتنوين {شريعة} للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي.
والشريعة: الدين والملة المتبعة، مشتقة من الشرع وهو: جعل طريق للسير، وسمي النهج شرعا تسمية بالمصدر. وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك، قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيها بشريعة الماء قلت: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير.
و {الأمر} : الشأن، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى، قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، فتكون {من} تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفا {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 17] لأن إضافة {شريعة} إلى {الأمر} تمنع من ذلك.
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغا عظيما إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها. ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله {فاتبعها} أي دم على اتباعها، فالأمر لطلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].
وبين قوله {فاتبعها} وقوله {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} محسن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر.
و {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]
والأهواء: جمع هوى، وهو المحبة والميل. والمعنى: أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه: إسماع المشركين لئلا يطمعوا بصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحين يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] وفيه أيضا تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون. وعن ابن عباس أنها نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه قال البغوي: كانوا يقولون له: ارجع
(25/366)
إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك.
وجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويتضمن تعليل الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئا يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج، فالآثم المهدد من قدير غير غني عنه الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضمن فعل الإغناء معنى الدفع فعدي ب"عن". وانتصب {شيئا} على المفعول المطلقن و {من الله} صفة ل {شيئا} . و {من} بمعنى بدل، أي لن يغنوا عنك بدلا من عذاب الله، أي قليلا من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف، وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في آل عمران [10].
وعطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم. وذيل ذلك بقوله {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} وهو يفيد أن النبيء صلى الله عليه وسلم الله وليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين.
[20] {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون، فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئة لأغراضها تنبيها لما في طيها من عواصم عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف [35] 1 {بلاغ} ، وقوله في سورة الأنبياء[106,105] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}
وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافا أعيد
ـــــــ
1 في المطبوعة "الفتح" وهو خطأ.
(25/367)
بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريض بتحميق الذين أعرضوا عنه، وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفا {هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:11]وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضا بأنهم لم يحظوا بهذه البصائر، وكلا الاحتمالين رشيق، وكل بأن يكون مقصودا حقيق.
و {بصائر} : جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها، شبهت ببصر العين، وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} في سورة يوسف.[108] وقال {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} في سورة الإسراء [102] وقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} في سورة القصص [43].
ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر. وجمع البصائر: إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله {للناس} لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكون صاحب كل بصيرة جزئيا مشخصا فناسب أن تورد جمعا، فالبصيرة: الحاسة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد {هُدىً وَرَحْمَةً} لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى {هُدىً لِلنَّاسِ} [آل عمران: 4] وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107] وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود. وإنما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفرادا وجماعات في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة.
وجعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.
وذكر لفظ "قوم" للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.
والإيقان: العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه. وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله.
(25/368)
[21] { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]
انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاء على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الاخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15]
فحرف {أم} للإضراب الانتقالي، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد {أم} استفهام إنكاري، والتقدير: لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة ولا في الممات.
و {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} في نقل عن ابن عباس: أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء، فيكون إيمانهم به مرغبا في الجزاء، ولذلك كثر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقوله {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1-5] وكقوله {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 42-46] وقوله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1-3] ونظيره {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، فإن ذلك حال الكفار، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله. قيل: نزلت في قوم من المشركين. قال البغوي: نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا. وعن الكلبي: أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا أي إن كان البعث حقا لحالنا أفضل من حالكم
(25/369)
في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا. وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه.
ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم والحديثين في الإسلام لأن شأن التصدي للإرشاد أن لا يغادر مغمزا لرواج الباطل إلا سده، كما في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم: 78,77] وله نظائر في القرآن.
وزاد القرطبي في حكاية كلام الكلبي أنهم قالوه حين برزوا لهم يوم بدر، وهو لا يستقيم لأن السورة مكية ولم ينقل عن أحد استثناء هذه الآية منها.
والاجتراح: الاكتساب، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، وهو مشتق من الجرح فأطلق على اكتساب السباع ونحوها، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارح وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح، قالت أم رزع: فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا، وأخذ خطبا وأراح علي نعما ثريا ، ولذلك غلب إطلاق الاجتراح على اكتساب الإثم والخبيث.
وظاهر تركيب الآية أن قوله {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} داخل في الحسبان المنكور فيكون المعنى: إنكار أن يستوي المشركون مع المؤمنين لا في الحياة ولا بعد الممات، فكما خالف الله بين حاليهم في الحياة الدنيا فجعل فريقا كفرة مسيئين وفريقا مؤمنين محسنين، فكذلك سيخالف بين حاليهم في الممات فيموت المشركون على اليأس من رحمة الله إذ لا يوقنون بالبعث ويلاقون بعد الممات هول ما توعدهم الله به، ويموت المؤمنون رجاء رحمة الله والبشرى بما وعدوا به ويلاقون بعد الممات ثواب الله ورضوانه.
وقرأ الجمهور {سواء} مرفوعا فيكون موقع جملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} موقع البدل من كاف التشبيه التي هي بمعنى مثل على ما ذهب إليه صاحب الكشاف يريد أنه بدل مطابق لأن الجملة تبدل من المفرد على الأصح، والبدل المطابق هو عطف البيان عند التحقيق، فيكون جملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بيان ما حسبه المشركون. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف منصوبا، فلفظ {سواء} وحده بدل من كاف المماثلة، بدل مفرد من مفرد أو حال من ضمير النصب في {نجعلهم} وهذا لأن
(25/370)
المشركين قالوا للمسلمين: سنكون بعد الموت خيرا منكم كما كنا في الحياة خيرا منكم.
فضمير {محياهم} وضمير {مماتهم} عائدان لكل من الذين اجترحوا السيئات والذين أمنوا على التوزيع، أي محيا كل مساو لمماته، أي لا يتبدل حال الفريقين بعد الممات بل يكونون بعد الممات كما كانوا في الحياة غير أن موقع كاف التمثيل في قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} ليس واضح الملاقاة لحسبان المشركين المسلط عليه الإنكار لأنهم إنما حسبوا أن يكونوا بعد الممات على تقدير وقوع البعث أحسن حالا من المؤمنين لا أن يكونوا مثل المؤمنين لأنهم قالوا ذلك في مقام التطاول على المؤمنين، وإرادة إفحامهم بسفسطتهم. فبنا أن نبين موقع هذا الكاف في الآية.
والذي أرى: أن موقعه الإيماء إلى أن الله قدر للمؤمنين حسن الحال بعد الممات حتى صار ذلك المقدر مضرب الأمثال ومناط التشبيه، وإلى أن حسبان المشركين أنفسهم في الآخرة على حالة حسنة باطل، فعبر عن حسبانهم الباطل بأنهم أثبتوا لأنفسهم في الآخرة الحال التي هي حال المؤمنين، أي حسب المشركون بزعمهم أن يكونوا بعد الموت في حالة إذا أراد الواصف أن يصفها وصفها بمشابهة حال المؤمنين في عند الله وفي نفس الأمر، وليس المراد أن المشركين مثلوا حالهم بحال المؤمنين فيؤول قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} إلى حكاية الكلام المحكي بعبارة تساويه لا بعبارة قائلة، وذلك مما يتوسع فيه في حكاية الأقوال كقوله تعالى حكاية عن عيسى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فإن ما أمره الله به: أن اعبدوا الله ربك وربهم، وذلك من خلاف مقتضى الظاهر دعا الله هنا قصد التنويه بالمؤمنين والعناية بزلفاهم عند الله، فكأنه قيل: احسبوا أن نجعلهم في حالة حسنة ولكن هذا المأمول في حسبانهم هو في نفس الأمر حال المؤمنين لا حالهم. فأوجز الكلام، وفهم السامع يبسطه. والمواجه بهذا الكلام هم النبي والمؤمنون تكملة للغرض المبدأ به في قوله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] على أن لك أن تجعل قوله تعالى {كَالَّذِينَ آمَنُوا} معترضا بين مفعولي {نجعل} وهما ضميرا الغائبين وجملة {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} أو ولفظ {سواء} في قراءة نصبه فلا يكون مرادا إدخاله في حسبان المشركين.
ويجوز على هذا أن يكون قوله {كَالَّذِينَ آمَنُوا} تهكما على المشركين في حسبانهم تأكيدا للإنكار عليهم.
ومن خلاف ظاهر التركيب ما قيل: إن مدلول {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ليس من
(25/371)
حسبان المشركين المنكور ولكنه كلام مستأنف، والمعنى: أنه لما أنكر حسبان استواء الكافرين والمؤمنين خطر ببال السامع أن يسأل كيف واقع حال الفريقين فأجيب بأن حال محياهم وهو مقياس حال مماتهم، أي حالهم في الآخرة مختلف كما هو في الدنيا مختلف، فالمؤمنون يحيون في الإقبال على ربهم ورجاء فضله، والكافرون يعيشون معرضين عن عبادة ربهم آيسين من البعث والجزاء. وهذا ليس عين الجواب ولكنه من الاكتفاء بعلة الجواب عن ذكره. والتقدير: حال الفريقين مختلف في الآخرة كما كان مختلفا في الحياة.
وجملة {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل بذلك الإنكار من المعاني.
واعلم أن هذه الآية وإن كان موردها في تخالف حالي المشركين والمؤمنين فإن نوط الحكم فيها بصلة {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} يجعل منها إيماء إلى تفاوت حالي المسيئين والمحسنين من أهل الإيمان وإن لم يحسب أحد من المؤمنين ذلك وعن تميم الداري أنه بات ليلة يقرأ هذه الآية ويركع ويسجد ويبكي إلى الصباح. وروي مثل ذلك عن الربيع بن خيثم وعن الفضيل بن عياص: أنه كان كثيرا ما يردد من أول الليل هذه الآية ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت. يخاطب نفسه فكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.
والمحيا والممات: مصدران ميميان أو اسما زمان، أي حياتهم وموتهم، وهو على كلا الاعتبارين بتقدير مضاف، أي حالة محياهم وحالات مماتهم.
[22] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الجملة معترضة والواو اعتراضية وهو اعتراض بين الكلام المتقدم وبين ما فرع عليه من قوله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] هو كالدليل على انتفاء أن يكون الذين اجترحوا السيئات الذين هم في بحبوحة عيش مدة حياتهم أن يكونوا في نعيم بعد مماتهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مدة حياتهم فكان جزاؤهم النعيم بعد مماتهم، أي بعد حياتهم الثانية بأن خلق السماوات والأرض بالعدل يستدعي التفاوت بين المسيء والمحسن، والانتصاف للمعتدى عليه من المعتدي.
ووجه الاستدلال أن خلق السماوات والأرض تبين كونه في تمام الإتقان والنظام
(25/372)
بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهد أن المسيء كثير ما عكف على إساءته حتى الممات، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلق القوى الصادر عنها الإحسان والإساءة، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء، وقد تقدم في سورة آل عمران [191] قوله {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقوله في سورة الدخان [38-40] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}
والباء في قوله {بالحق} للسببية أو للملابسة، أي خلقا للسبب الحق أو ملابسا للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله.
والحق: اسم جامع لما شأنه أن يحق ويثبت، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه، ولذلك أشير بقوله {وَخَلَقَ اللَّهُ} فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة.
وعطف {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} على {بالحق} لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثار كون الحق سببا لخلق السماوات والأرض أو ملابسا لأحوال خلقهما، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف.
والباء في {بِمَا كَسَبَتْ} للتعويض. وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازى بمثله وما يناسبه، فالكلام على حذف مضاف، أي بمثل ما كسبته. وهذه المماثلة مماثلة في النوع، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعى فيه عظمة عالم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف.
ولهذا أعقبه بقوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فضمير {وهم} عائد إلى {كُلُّ نَفْسٍ} فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جعل سببا أو ملابسا لخلق السماوات والأرض وما فيهما، فهو عدل، فليس من الظلم في شيء
(25/373)
فالمجازى غير مظلوم، وبالجزاء أيضا ينتفي أثر ظلم الظالم عن المظلوم إذ لو ترك الجزاء لاستمر المظلوم مظلوما.
[23] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]
لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عن غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم، فعطف بالفاء الاستفهام المستعمل في التعجيب، وجعل استفهاما عن رؤية حالهم، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية.
وأصل التركيب {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الخ، فقدمت همزة الاستفهام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من معه من المسلمين، أو الخطاب لغير معين، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب.
و {من} الموصولة صادقة على فريق المستهزئين الذين حسبوا أن يكون محياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقوله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الخ.
والمعنى: أن حجاجهم المسلمين مركز على اتباع الهوى والمغالطة، فلا نهوض لحجتهم لا في النفس الأمر ولا فيما أرادوه، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدى فلا يستطيع غيره هداهم.
و {إلهه} يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ، أي اتخذ هواه كإله له لا يخالف له أمرا.
ويجوز أن يبقى {إلهه} على الحقيقة ويكون {هواه} بمعنى مهويه، أي عبد إلها لأنه يحب أن يعبده، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتهم لأنهم أحبوها، أي ألفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها، كقوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
ومعنى {أَضَلَّهُ اللَّهُ} أنه حفهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة،
(25/374)
اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها. فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع فالمواعظ والبراهين، وقلوبهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها، وأبصارهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلهية الدالة على انفراد الله بالإلهية وعلى أن بعد هذا العالم بعثا وجزاء.
ومعنى {عَلَى عِلْمٍ} أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم، أي عقول سليمة أو مع أنهم بلغهم العلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.
فحرف {على} هنا معناه المصاحبة بمعنى {مع} وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف. وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني {على} كما في قول الحارث بن حلزة:
فيقينا على الشناءة تنمينا ... حصون وعزة قعساء
والمعنى: أنه ضال مع ما له من صفة العلم، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى.
وقرأ الجمهور {غشاوة} بكسر الغين وفتح الشين بعدها ألف. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {غشوة} بفتح الغين وسكون الشين وهو من التسمية بالمصدر وهي لغة. وتقدم معنى الختم والغشاوة في أول سورة البقرة.
وفرع على هذه الصلة استفهام إنكاري أن يكون غير الله يستطيع أن يهديهم، والمراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أسفه لأغراضهم وبقائهم في الضلالة.
و {مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} بمعنى: دون الله، وتقدم عند قوله تعالى {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} آخر سورة الأعراف.[185]
وفرع على ذلك استفهام عن عدم تذكر المخاطبين لهذه الحقيقة، أي كيف نسوها حتى ألحوا في الطمع بهداية أولئك الضالين وأسفوا لعدم جدوى الحجة لديهم وهو استفهام إنكاري.
ومن المفسرين من حمل {من} الموصولة في قوله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} على معين فقال مقاتل: هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم إنه لصادق فقال له
(25/375)
المغيرة: مه، وما دلك على ذلك، قال: كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن قال: فما يمنعك أن تؤمن به قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلت هذه الآية. وإذا صح هذا فإن مطابقة القصة لقوله تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} ظاهرة. وعن مقاتل أيضا: أنها نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين كان يعبد من الأصنام ما تهواه نفسه.
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتباع أدلة الحق، فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل مثل ما يهوى المؤمن الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن وفي الحديث أرحنا بها يا بلال يعني الإقامة للصلاة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" وعن أبي الدرداء إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح.
وأما اتباع الأمر المحبوب لإرضاء النفس دون نظر في صلاحه أو فساده فذلك سبب الضلال وسوء السيرة.
قال عمرو بن العاصي:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... اذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ومن الكلمات المأثورة "ثلاث من المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" ويروى حديثا ضعيف السند. وقدم السمع على القلب هنا بخلاف آية سورة البقرة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] لأن المخبر عنهم هنا لما أخبر عنهم بأنهم اتخذوا إلههم هواهم، فقد تقرر أنهم عقدوا قلوبهم على الهوى فكان ذلك العقد صارفا السمع عن تلقي الآيات فقدم لإفادة أنهم كالمختوم على سمعهم، ثم عطف عليه و {قلبه} تكميلا وتذكيرا بذلك العقد الصارف للسمع ثم ذكر ما {عَلَى بَصَرِهِ} من شبه الغشاوة لأن ما عقد عليه قلبه بصره عن النظر في أدلة الكائنات.
وأما آية سورة البقرة فإن المتحدث عنهم هم هؤلاء أنفسهم ولكن الحديث عنهم ابتدئ بتساوي الإنذار وعدمه في جانبهم بقوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فلما أريد تفصيله قدم الختم على قلوبهم لأنه الأصل كما كان اتخاذ
(25/376)
الهوى كالإله أصلا في وصف حالهم في آية سورة الجاثية. فحالة القلوب هي الأصل في الانصراف عن التلقي والنظر في الآيتين ولكن نظم هذه الآية كان على حسب ما يقتضيه الذكر من الترتيب ونظم آية البقرة كان على حسب ما يقتضيه الطبع.
وقرأ الجمهور {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال. وقرأه عاصم بتخفيف الذال وأصله عند الجميع {تتذكرون} . فأما الجمهور فقراءتهم بقلب التاء الثانية ذالا لتقارب مخرجيهما قصدا للتخفيف، وأما عاصم فقراءته على حذف إحدى التاءين.
[24] {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]
هذا عطف على جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيرا من عقبى المسلمين، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلا وإنما يقينهم قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}
وتقدم في سورة الأنعام [29] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وضمير {هي} ضمير القصة والشأن، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا، أي الحاضرة القريبة منا، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث، ويجوز أن يكون {هي} ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حصرا لجنس الحياة في الحياة الدنيا.
وجملة {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مبينة لجملة {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا} أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيا خلفه من يوجد بعده. فمعنى {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيا إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا. وللدلالة على هذا التطور عبر بالفعل المضارع، أي تتجدد فينا الحياة والموت. فالمعنى: نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى. ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فلعلها مما جرى مجرى المثل بينهم، وإن كانت حكاية لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا: يموت بعضنا ويحيا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل.
(25/377)
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم {نَمُوتُ وَنَحْيَا} تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يصرف عن خطور هذا بالبال. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين المتعاطفين في الحصول.
وإنما قدم {نموت} في الذكر على {ونحيا} في البيان مع أن المبين قولهم ما هي {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبين فيقال: نحيا ونموت، فقيل قدم {نموت} لتتأتى الفاصلة بلفظ {نحيا} مع لفظ {الدنيا} . وعندي أن تقديم فعل {نموت} على {نحيا} للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا. وحصلت الفاصلة تبعا، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فالإشارة ب {ذلك} إلى قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل.
وأما زيادة {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر. فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر. فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيا فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره.
والمعنى: أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان، أي حدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمى وليس برام
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء.
وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه، ولذلك أعقبه بقوله تعالى {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فإشارة ب {ذلك} إلى قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري
(25/378)
بين أن الدهر وهو الزمان ليس بمميت مباشرة وهو ظاهر ولا بواسطة في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة.
والمراد بالظن في قوله {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم. وجملة {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} مبينة بجملة {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أو استئناف بياني كأن سائلا حين سمع قوله {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل.
وجيء بالمضارع في {يظنون} لأنهم يحددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه.
[25] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25]
عطف على {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، أي عقدوا على عقيدة أن لا حياة بعد الممات استنادا للأوهام والأقيسة الخيالية. وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون إن كان البعث حقا فأتوا بآبائنا إن صدقتم. فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده.
وفي قوله {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة، والمصير إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث.
والخطاب بفعل {ائتوا} موجه للمؤمنين بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم. و {إِلَّا أَنْ قَالُوا} استثناء من حجتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة إذ هو بالبهتان أشبه فإما أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
فسمى القتل قرى، وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} استثناء متصلا تهكما، وإما أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم
(25/379)
وتقديرهم دون قصد تهكم بهم، أي أتوا بما توهموه حجة فيكون الإطلاق استعارة صورية والاستثناء على هذا متصل أيضا.
وإما أن يكون الإطلاق استعارة بعلاقة الضدية فيكون مجازا مرسلا بتنزيل التضاد منزلة التناسب على قصد التهكم فيكون المعنى أن لا حجة لهم البتة إذ لا حجة لهم إلا هذه، وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل أن لا حجة لهم بطريق التمليح والكناية كقول جران العود:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
أي لا أنس بها البتة.
ويقدر قوله {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} في محل رفع بالاستثناء المفرغ على الاعتبارات الثلاثة فهو اسم {كان} و {حجتهم} خبرها أن حجتهم منصوب في قراءة جميع القراءات المشهورة.
وتقديم خبر {كان} على اسمها لأن اسمها محصور ب {إلا} فحقه التأخير عن الخبر.
[26] {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26]
تلقين لإبطال قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] يتضمن إبطال قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24].
والمقصود منه قوله {ثم يميتكم} وإنما قدم عليه {يحييكم} توطئة له، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر، فتقديم اسم الله على المسند الفعلي وهو {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم، إن الدهر هو الذي يميتهم.
وقوله { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إبطال لقولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] وليس هو إبطالا بطريق الاستدلال لأن أدلة هذا تكررت فيما نزل من القرآن فاستغني عن تفصيلها ولكنه إبطال بطريق الإجمال والمعارضة.
وقوله {لا رَيْبَ فِيهِ} حال من {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تفضي إلى الشك منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع
(25/380)
بوقوعه. فكان الشك فيه جديرا بالاقتلاع فكأنه معدوم. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "ليسوا بشيء" مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق، وقد تقدم عند قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة البقرة.[2]
وعطف {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} على قوله {لا رَيْبَ فِيهِ} أي ولكن ارتياب كثير من الناس فيه لأنهم لا يعلمون دلائل وقوعه.
[27-29] { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
اعتراض تذييل لقوله {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية: 26] أي لله لا لغيره ملك السماوات والارض، أي فهو المتصرف في أحوال ما حوته السماوات والأرض من إحياء وإماتة، وغير ذلك بما أوجد من أصولها وما قدر من أسبابها ووسائلها فليس للدهر تصرف ولا لما سوى الله تعالى. وتقديم المجرور على المسند إليه لإفادة التخصيص لرد معتقدهم من خروج تصرف غيره في بعض ما في السماوات والأرض كقولهم في الدهر.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
لما جرى ذكر يوم القيامة أعقب بإنذار الذين أنكروه من سوء عاقبتهم فيه.
و {المبطلون} : الآتون بالباطل في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم إذ الباطل ما ضاد الحق. والمقصود منه ابتداء هنا هو الشرك بالله فإنه أعظم الباطل ثم تجيء درجات الباطل متنازلة وما من درجة منها إلا وهي خسارة على فاعلها بقدر فعلته وقد أنذر الله الناس وهو العليم بمقادير تلك الخسارة.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} ظرف متعلق ب {يخسر} ، وقدم عليه للاهتمام به واسترعاء الأسماع لما يرد من وصف أحواله.
و {يومئذ} توكيد ل {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} وتنوينه عوض عن المضاف إليه المحذوف لدلالة ما أضيف إليه يوم عليه، أي يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فالتأكيد بتحقيق
(25/381)
مضمون الخبر ولتهويل ذلك اليوم.
والخطاب في {ترى} لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين، ويجوز أن يكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. والمضارع في {ترى} مراد به الاستقبال فالمعنى: وترى يومئذ.
والأمة: الجماعة العظيمة من الناس الذين يجمعهم دين جاء به رسول إليهم.
و {جاثية} اسم فاعل من مصدر الجثو بضمتين وهو البروك على الركبتين باستئفاز، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع.
وظاهر كون {كتابها} مفردا غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن، والتوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال، فمعنى {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} تدعى لتعرض أعمالها على ما أمرت به في كتابها كما في الحديث القرآن حجة لك أو عليك وقيل: أريد بقوله {كتابها} كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:14]
وقال {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] أي كل مجرم مشفق مما في كتابه، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفا باللام فقبل العموم. وأما آية الجاثية فعمومها بدلي بالقرينة. فالمراد: خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 14]
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراك به مقررة في أصول الدين، وتقدمت عند قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} في سورة الإسراء.[15]
وقرأ الجمهور {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} برفع {كل} على أنه مبتدأ وتدعى خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثو.
وقرأه يعقوب بنصب {كل} على البدل من قوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ} وجملة {تدعى} حال من {كُلَّ أُمَّةٍ} فأعيدت كلمة {كُلَّ أُمَّةٍ} دون اكتفاء بقوله {تدعى} أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه
(25/382)
للحساب، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل: وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معا مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل.
وجملة {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بدل اشتمال من جملة {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم اليوم تجزون، أي يكون جزاؤكم على وفق أعمالكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات، وهذا البدل وقع اعتراضا بين جملة {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وجملة {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 30] الآيات.
وجملة {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} من مقول القول المقدر، وهي مستأنفة استئنافا بيانيا لتوقع سؤال من يقول منهم: ما هو طريق ثبوت أعمالها. والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة، وإما إلى كتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمتين.
وإفراد ضمير {ينطق} على هذا الوجه مراعاة للفظ {كتابنا} فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق.
وإضافة "كتاب" إلى ضمير الله تعالى بعد أن أضيف إلى {كُلَّ أُمَّةٍ} لاختلاف الملابسة، فالكتاب يلابس الأمة لأنه جعل لإحصاء أعمالهم أو لأن ما كلفوا به مثبت فيه، وإضافته إلى ضمير الله لأنه الآمر به.
وإسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم: نطقت الحال.
والمعنى: أن فيه شهادة عليهم بأن أعمالهم مخالفة لوصايا الكتاب أو بأنها مكتوبة في صحائف أعمالهم على التأويلين في المراد بالكتاب. ولتضمن {ينطق} معنى {يشهد} عدي بحرف "على".
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية {ينطق} بحرف {على} دون زيادة: ولكم، إيثارا لجانب التهديد.
وجملة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} استئناف بياني لأنهم إذا سمعوا {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} خطر ببالهم السؤال: كيف شهد عليهم الكتاب اليوم وهم قد عملوا الأعمال في الدنيا، فأجيبوا بأن الله كان يأمر بنسخ ما يعملونه في الصحف في وقت عمله.
(25/383)
وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلا للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه الحق، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبين ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم.
والاستنساخ: استفعال من النسخ.
والنسخ: يطلق على كتابه ما يكتب على مثال مكتوب آخر قبله. ويسمى بالمعارضة أيضا. وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم: نسخت الشمس الظل مجاز. وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ. وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين، فإذا درجت على كلام الجمهور فقد جعلت كتابة مكتوب على مثال مكتوب قبله كإزالة للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشية ضياع الأصل. وعن ابن عباس أنه كان يقول: ألستم عربا وهل يكون النسخ إلا من كتاب.
وأما إطلاق النسخ على كتابة أنف ليست على مثال كتابة أخرى سبقتها فكلام الزمخشري في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة، وهو ظاهر كلامه في الكشاف، فيكون لفظ النسخ مشتركا في المعنيين بل ربما كان معنى مطلق الكتابة هو الأصل وكانت تسمية كتابة على مثل كتابة سابقة نسخا لأن ذلك كتابة وكلام صاحب اللسان وصاحب القاموس أن نقل الكتابة لا يسمى نسخا إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة. وهذا اختلاف معضل، والأظهر ما ذهب إليه صاحب اللسان وصاحب القاموس فيجوز أن يكون السين والتاء في {نستنسخ} للمبالغة في الفعل مثل استجاب. ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف، أي نكلف الملائكة نسخ أعمالكم، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر ابن عباس قال: إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه الناس دون نقل عن أصل.
والمعنى: إنا كنا نكتب أعمالكم. وعن علي بن أبي طالب أنه قال: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن الحسن والسدي.
والنسخ هنا: الكتابة، وإسناد فعل الاستنتاج إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال.
(25/384)
[30-32] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}
الفاء لعطف المفصل على المجمل، وهو تفصيل لما أجمل في قوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} وما بينهما اعتراض.
فالكلام هنا هو متصل بقوله {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} كما دل عليه قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}
وابتديء في التفصيل بوصف حال المؤمنين مع أن المقام للحديث عن المبطلين في قوله {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية: 27] تنويها بالمؤمنين وتعجيلا لمسرتهم وتعجيلا لمساءة المبطلين لأن وصف حال المؤمنين يؤذن بمخالفة حال الآخرين لحالهم.
والتعبير ب"يدخلهم في رحمته" شامل لما تتصوره النفس من أنواع الكرامة والنعيم إذ جعلت رحمة الله بمنزلة المكان يدخلونه.
وافتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قبل الله تعالى، فقوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى} مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} [الجاثية: 34] والفاء جواب {أما} ، أو فيقال لهم {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فلما حذف فعل القول قدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتدادا باستحقاقه التصدير كما يقدم الاستفهام على حروف العطف. ولم يتعد بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف وهي موجودة بعد حذف ما حذف.
والاستفهام توبيخ وتقرير. والمراد بالآيات القرآن، أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوما مجرمين، أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحا لأنفسكم بما سمعتم منه.
وإقحام {قوما} دون الاقتصار على: وكنتم مجرمين، للدلالة على أن الإجرام صار خلقا لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة.
(25/385)
وجملة {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} إلخ عطف على جملة {فاستكبرتم} . والتقدير: وقلتم ما ندري ما الساعة إذا قيل لكم إن الساعة لا ريب فيها.
وهذان القولان مما تكرر في القرآن بلفظه وبمعناه، فهو تخصيص لبعض آيات القرآن بالذكر بعد التعميم في قوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ}
والتعريف في {الساعة} للعهد وهي ساعة البعث، أي زمان البعث كما عبر عنه باليوم.
وقرأ الجمهور {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} برفع {والساعة} عطف على جملة {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وقرأه حمزة وحده بنصب {والساعة} عطفا على {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} من العطف على معمولي عامل واحد. ومعنى {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} ما نعلم حقيقة الساعة ونفي العلم بحقيقتها كناية عن جحد وقوع الساعة، أي علمنا أنها لا وقوع لها، استنادا للتخيلات التي ظنوها أدلة كقولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الاسراء: 49]
وقولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} ظاهر في أنه متصل بما قبله من قولهم {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} ومبين بما بعده من قوله {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} وموقعه ومعناه مشكل، وفي نظمه إشكال أيضا.
فأما الإشكال من جهة موقعه ومعناه فلأن القائلين موقنون بانتفاء وقوع الساعة لما حكي عنهم آنفا من قولهم {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ} [الجاثية: 24] إلخ فلا يحق عليهم أنهم يظنون وقوع الساعة بوجه من الوجوه ولو احتمالا.
ولا يستقيم أن يطلق الظن هنا على الإيقان بعدم حصوله فيعضل معنى قولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فتأوله الفخر فقال: إن القوم كانوا فريقين، وأن الذين قالوا {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فريق كانوا قاطعين بنفي البعث والقيامة وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ومنهم من كان شاكا متحيرا فيه وهم الذين أراد الله بهذه الآية اه.
وأقول: هذا لا يستقيم لأنه لو سلم أن فريقا من المشركين كانوا يشكون في وقوع الساعة ولا يجزمون بانتفائه فإن جمهرة المشركين نافون لوقوعها فلا يناسب مقام التوبيخ تخصيصه بالذين كانوا مترددين في ذلك. والوجه عندي في تأويله: إما يكون هذا حكاية لاستهزائهم بخبر البعث فإذا قيل لهم {السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا} قالوا استهزاء {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} ويدل عليه قوله عقبه {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33].
وتأوله ابن عطية بأن معناه إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا وليس يعطينا يقينا اهـ،
(25/386)
أي فهو أبطالهم لخصوص قول المسلمين: الساعة لا ريب فيها.
وأما إشكاله من جهة النظم فمرجع الإشكال إلى استثناء الظن من نفسه في قوله {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} فإن الاستثناء المفرغ لا يصح أن يكون مفرغا للمفعول المطلق لانتفاء فائدة التفريع. والخلاص من هذا ما ذهب إليه ابن هشام في مغني اللبيب أن مصحح الاستثناء الظن من نفسه أن المستثنى هو الظن الموصوف بما دل عليه تنكيره من التحقير المشعر به التنوين على حد قول الأعشى:
أحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا1
أي، إلا ظنا ضعيفا.
ومفعولا {نظن} محذوفان لدليل الكلام عليهما. والتقدير: إن نظن الساعة واقعة.
وقولهم {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} يفيد تأكيد قولهم {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} وعطفه عطف مرادف، أي للتشريك في اللفظ. والسين والتاء في {مستيقنين} للمبالغة في حصول الفعل.
[33] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] باعتبار تقدير: فيقال لهم، أي فيقال لهم ذلك {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي جمع لهم بين التوبيخ والإزعاج فوبخوا بقوله {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى آخره، وأزعجوا بظهور سيئات أعمالهم، أي ظهور جزاء سيئاتهم حين رأوا دار العذاب وآلاته رؤية من يوقن بأنها معدة له وذلك بعلم يحصل لهم عند رؤية الأهوال.
وعبر بالسيئات عن جزائها إشارة إلى تمام المعادلة بين العمل وجزائه حتى جعل الجزاء نفس العمل على حد قوله {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].
ومعنى {حاق} أحاط.
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعم كل ما كان طريق استهزاء بالإسلام من أقوالهم الصادرة عن استهزاء مثل قولهم {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]
ـــــــ
1 روي بالعين المهملة في اللفظين وبالغين المعجمة وهو أظهر ...
(25/387)
وقول العاصي بن وائل الخباب بن الأرث: لأوتين مالا وولدا في الآخرة فأقضي منه دينك. ومن الأشياء التي جعلوها هزؤا مثل عذاب جهنم وشجرة الزقوم وهو ما عبر عنه آنفا ب {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصولية لأن في الصلة تغليطا لهم وتنديما على ما فرطوا من أخذ العدة ليوم الجزاء على طريقة قول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
والمعنى: أنهم قد أودعوا جهنم فأحاط بهم سرادقها.
والباء في {بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يجوز حملها على السببية وعلى تعدية فعل {يستهزئون} إلى ما لا يتعدى إليه أي العذاب.
[35,34] {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
لما أودعوا جهنم وأحاطت بهم نودوا {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} إلى آخره تأييسا لهم من العفو عنهم.
وبني فعل {قيل} للنائب حطا لهم عن رتبة أن يصرح باسم الله في حكاية الكلام الذي واجههم به كما أشرنا إليه عند قوله آنفا {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الجاثية: 32] بناء على أن ضمير {ننساكم} ضمير الجلالة وليس من قول الملائكة، فإن كان من قول خزنة جهنم ببناء فعل {وقيل} للنائب للعلم بالفاعل.
وأطلق النسيان على الترك المؤبد على سبيل المجاز المرسل لأن النسيان يستلزم ترك الشيء المنسي في محله أو تركه على حالته، ويجوز أن يكون النسيان مستعارا للإهمال وعدم المبالاة، أي فلا تتعلق الإرادة بالتخفيف عنهم وعلى هذين الاعتبارين يفسر معنى النسيان الثاني.
والكاف في {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ} للتعليل كما في قوله تعالى أي جزاء نسيانكم هذا اليوم، أي إعراضكم عن الإ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} يمان به.
واللقاء: وجدان شيء شيئا في مكان، وهو المصادفة يقال: لقي زيد عمرا، ولقي العصفور حبة.
ولقاء اليوم، أطلق اليوم على ما فيه من الأحداث على سبيل المجاز
(25/388)
المرسل لأنه أوجز من تعداد الأهوال الحاصلة منذ البعث إلى قضاء الجزاء على الأعمال.
وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين في {يومكم} باعتبار أن ذلك اليوم ظرف لأحوال تتعلق بهم فإن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، إلا ترى أنه أضيف إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الانبياء: 103].
ووصف اليوم باسم الإشارة تمييزه أكمل تمييز تكميلا لتعريفه بالإضافة لئلا يلتبس عليهم بيوم آخر.
وعطف {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} على {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} ليعلموا أن تركهم في النار ترك مؤبد فأن المأوى هو مسكن الشخص الذي يأوي إليه بعد أعماله، فالمعنى أنكم قد أويتم إلى النار فأنتم باقون فيها، وتقدم نظير قوله {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} قريبا، والمقصود تخطئة زعمهم السابق أن الأصنام تنفعهم في الشدائد.
و {ذلكم} إشارة إلى {مأواكم} والباء للسببية، أي ذلكم المأوى بسبب اتخاذكم آيات الله، وهي آيات القرآن هزؤا، أي مستهزأ بها، {هزؤا} مصدر مراد به اسم المفعول مثل خلق.
وتغرير الحياة الدنيا إياهم سبب أيضا لجعل النار مأواهم. والتغرير: الإطماع الباطل. ومعنى تغرير الحياة الدنيا إياهم: أنهم قاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا فظنوا أن الله لا يحيي الموتى وتطرقوا من ذلك إلى إنكار الجزاء في الآخرة على ما يعمل في الدنيا وغرهم أيضا ما كانوا عليه من العزة والمنعة فخالوه منتهى الكمال فلم يصيخوا إلى داعي الرشد وعظة النصح وأعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن المرشد ولولا ذلك لأقبلوا على التأمل فيما دعوا إليه فاهتدوا فسلموا من عواقب الكفر ولكون هذه المغررات حاصلة في الحياة الدنيا أسند التغرير إلى الحياة على سبيل المجاز العقلي لأن ذلك أجمع لأسباب الغرور.
وفرع على ذلك {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} بالفاء وهذا من تمام الكلام الذي قيل لهم لأن وقوع كلمة {اليوم} في أثنائه يعين أنه من القيل الذي يقال لهم يومئذ. واتفق القراء على قراءة {لا يخرجون} بياء الغيبة. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: لا تخرجون، بأسلوب الخطاب مثل سابقه ولكن عدل عن طريقة الخطاب إلى الغيبة على وجه الالتفات. ويحسنه هنا أنه تخييل للإعراض عنهم بعد توبيخهم وتأييسهم وصرف بقية
(25/389)
الإخبار عنهم إلى مخاطب آخر ينبأ ببقية أمرهم تحقيرا لهم.
وقرأ الجمهور {يخرجون} بضم الياء وفتح الراء، فالمعنى: أنهم يسألون من يخرجهم فلا يخرجهم أحد كما في قوله تعالى {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] وقوله {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]. وقرأه حمزة والكسائي {يخرجون} بفتح الياء وضم الراء. فالمعنى: أنهم يفزعون إلى الخروج فلا يستطيعون لقوله تعالى {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22].
والاستعتاب بمعنى: الإعتاب، فالسين والتاء للمبالغة كما يقال: أجاب واستجاب. ومعنى الإعتاب: إعطاء العتبى وهي الرضا. وهو هنا مبني للمجهول. أي لا يستعتبهم أحد، أي ولا يرضون بما يسألون، وتقدم نظيره في قوله تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} في سورة الروم.[57]
وتقديم {هم} على {يستعتبون} وهو مسند فعلي بعد حرف النفي هنا تعريض بأن الله يعتب غيرهم، أي يرضي المؤمنين، أي يغفر لهم.
[37,36] {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعا على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله فيما خلق وأرشد وسخر وأقام من نظم العدالة، والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة، ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم، فلما كان ذلك كله من الله كان دالا على اتصافه بصفات العظمة والجلال وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام كان حقيقا بإنشاء قصر الحمد عليه فيجوز أن يكون هذا الكلام مرادا منه ظاهر الإخبار، ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملا في معناه الكنائي وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه. ويجوز أن يكون إنشاء حمد لله تعالى وثناء عليه. وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتض للوجوه الثلاثة، ونظيره قوله تعالى {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة الأنعام.[45]
وتقديم "لله" لإفادة الاختصاص، أي الحمد مختص به الله تعالى يعني الحمد الحق الكامل مختص به تعالى كما تقدم في سورة الفاتحة.
(25/390)
وإجراء وصف {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} على اسمه تعالى إيماء إلى علة قصر الحمد على الله إخبارا وإنشاءا تأكيدا لما اقتضته الفاء في قوله {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} وعطف {وَرَبِّ الْأَرْضِ} بتكرير لفظ {رب} للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض، فأما أهل السماء فقد حمدوه كما أخبر الله عنهم بقوله {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5]. وأما أهل الأرض فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية ومن حمد غيره وأعرض عنه فقد سجل على نفسه سمة الإباق، وكان بمأوى النار محل استحقاق.
ثم أتبع بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهم سكان السماوات والأرض تأكيدا لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفعون بها وخالق ذواتهم فيها كذلك.
وعقب ذلك بجملة {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للإشارة إلى أن استدعاءه خلقه لحمده إنما هو لنفعهم وتزكية نفوسهم فإنه غني عنهم كما قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .[الذاريات: 57,56]
وتقديم المجرور في {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} مثله في {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} والكبرياء: الكبر الحق الذي هو كمال الصفات وكمال الوجود. ثم أتبع ذلك بصفتي {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيار، والحكمة تجمع معاني تمام العلم وعمومه.
وبهذه الخاتمة آذن الكلام بانتهاء السورة فهو من براعة خواتم السور.
(25/391)
المجلد السادس والعشرون
سورة الأحقاف
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
سميت هذه السورة "سورة الأحقاف" في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين. وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث. وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها "الأحقاف" ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 35]. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 15-18] وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين، وعدها أهل الكوفة
(26/5)
خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن {حم} تعتبر آية مستقلة أو لا.
أغراضها
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله. والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال. والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء. وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية. وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام. والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه. وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن. وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة. وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.
[1] {حم}
تقدم القول في نظيره في أول سورة غافر.
وهذه جملة مستقلة مثل نظائرها من الحروف المقطعة في أوائل من سور القرآن.
[2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
تقدم القول في نظيره في أول الجاثية.
[3] {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف:3]
لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثبات وحدانية الله تعالى، وإثبات البعث والجزاء، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما، جعل قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
(26/6)
الْحَكِيمِ} [الاحقاف:2]
تمهيدا للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء، فجعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق،ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخلق إلا ملابسا للحق، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلقا عبثا بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون.
واستثناء {بالحق} من أحوال عامة، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق.
وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلق الجار والمجرور من قوله {بالحق} ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفا لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم، والتقدير: إلا خلقا كائنا بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق.
وصاحب الحال هو {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} والمعنى: ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما. وإعراض الذين كفروا عما انذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق.
وعطف {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} على {بالحق} ، عطف الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} في سورة البقرة [98] لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي مما يقتضيه الحق، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال، وقد كان ظن الدهريين قدم هذا العالم وبقاءه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24]. فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية. فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} مرتبطة بالاستثناء في قوله {إلا بالحق} ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث.
وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب {أنذروا}. والتقدير: عما أنذروه معرضون.
ويجوز أن تكون {ما} مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير. والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه.
(26/7)
وتقديم {عَمَّا أُنْذِرُوا} على متعلقه وهو {معرضون} للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة.
[4] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الاحقاف:4]
انتقل إلى الاستدلال على بطلان صفة الإلهية عن أصنامهم. فجملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ} أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم. وجاء هذا الاستدلال بأسلوب المناظرة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجها لهم بالاحتجاج ليكون إلجاء لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ} الآية و {أرأيتم} استفهام تقريري فهو كناية عن معنى: أخبروني، وقد تقدم في سورة الأنعام قوله {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ}
وقوله {أروني} تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله {أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ} وموقع جملة {أروني} في موقع المفعول الثاني لفعل {أرأيتم} .
والأمر في {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئا فلا تستطيعوا أن تروني شيئا خلقوه في الأرض، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة، وهو مطالبة المدعي بالدليل على إثبات دعواه.
و {ماذا} بمعنى ما الذي خلقوه، ف "ما" استفهامية و"ذا" بمعنى الذي. وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول. وأصل التركيب: ما ذا الذي خلقوا، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالبا في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [البقرة: 255]. ولهذا قال النحاة: إن "ذا" بعد "ما" أو"من" الاستفهاميتين بمنزلة "ما" الموصولة.
والاستفهام في {مَاذَا خَلَقُوا} إنكاري. وجملة {مَاذَا خَلَقُوا} بدل من جملة {أروني} وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود {ما} الاستفهامية بعده، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقا لهم بطل أن يكونوا آلهة لخروج المخلوقات عن خلقهم، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى {أَيُشْرِكُونَ مَا لا
(26/8)
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [في سورة الأعراف.192,191]
و {أم} حرف إضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد {أم} المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات. وإنما أوثر انتفاء الشركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لما لم يدع المشركون تصرفا للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه. وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر [40] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية فانظر ذلك.
ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} الخ.
فجملة {ائْتُونِي بِكِتَابٍ} في موقع مفعول ثان لفعل {أرأيتم} ، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ. ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإقحام كما تقدم. والمعنى: نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات، ولا بأقوال الكتب، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر [40] {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ}
والمراد ب"كتاب" أي كتاب من الكتب المقروءة. وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذكرا غير الإبطال والتحذير من عبادتها، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين: إما إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية، وإما عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}
والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} في سورة البقرة. [23]
والإشارة في قوله {مِنْ قَبْلِ هَذَا} إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يقرأ عليهم معاودة. ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يصنع لهم، كما قالوا {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ
(26/9)
هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [لأنفال: من الآية31].
و {أثارة} بفتح الهمزة: البقية من الشيء. والمعنى: أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب. وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم.
وفي قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور، وقد قال تعالى في سورة القصص [50] {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}
[5,6] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج، فلما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بالدليل وجه الخطاب إليه تعجيبا من حالهم وضلالهم لأن قوله {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} الخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب الله.
و {من} استفهامية، والاستفهام إنكار وتعجيب.
والمعنى: لا أحد أشد ضلالا وأعجب حالا ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال.
و {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ} الأصنام عبر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة، ولأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك، ومثل هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله {وهم} وقوله {غافلون} وهي عائدة إلى {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ}
وجعل يوم القيامة غاية لانتفاء الاستجابة. كناية عن استغراق مدة بقاء الدنيا. وعبر عن نهاية الحياة الدنيا ب {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لأن المواجه بالخبر هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كما
(26/10)
علمت وهم يثبتون يوم القيامة.
وضميرا {كانوا} في الموضعين يجوز أن يعودا إلى {مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} فإن المشركين يعادون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم. ويجوز أن يعودا إلى {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذ فتنطق بالتبري من عبادها ومن عبادتهم إياها، قال تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: من الآية14] وقال {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 17-19]
ويجوز أن يكون قوله {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} جاريا على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء والمنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي الى شقائهم وكذبهم كقوله تعالى {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: من الآية101].
وعطف جملة {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} الخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة. ومن بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ وهذا يتدرج في محسن الجمع مع التفريق وأدق.
[7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الاحقاف:5] وقد علمت أن هذا مسوق مساق العد لوجود فرط ضلالهم فإن آيات القرآن تتلى عليهم صباح مساء تبين لهم دلائل خلو الأصنام عن مقومات الإلهية فلا يتدبرونها وتحدوا بهم إلى الحق فيغالطون أنفسهم بأن ما فهموه منها تأثر سحري، وأنها سحر، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا بهتانا فزعموا أنه مبين، أي واضح كونه سحرا.
وهذا انتقال إلى إبطال ضلال آخر من ضلالهم وهو ضلال التكذيب بالقرآن فهو مرتبط بقوله {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الأحقاف: 1,2] الخ.
وقوله {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالكفر وبأنه سبب قولهم ذلك.
(26/11)
واللام في قوله {للحق} لام العلة وليست لام تعدية فعل القول إلى المقول له أي قال بعض الكافرين لبعض في شأن الذين آمنوا ومن أجل إيمانهم.
والحق: هو الآيات، فعدل عن ضمير الآيات إلى إظهار لفظ الحق للتنبيه على أنها حق وأن رميها بالسحر بهتان عظيم. {ولَمَّا جَاءَهُمْ} توقيت لمقالتهم، أي يقولون ذلك بفور سماع الآيات وكلما جاءتهم، أي دون تدبر ولا إجالة فكر.
[8] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الاحقاف:8]
إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضلال أقوالهم.
وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الإضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى: دع قولهم {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف: من الآية7] واستمع لما هو أعجب وهو قولهم {افتراه} ، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر.
والاستفهام الذي يقدر بعد {أم} للإنكار على مقالتهم والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الإنكاري يتسلط على سبب الإنكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطا على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم.
والضمير المنصوب في {افتراه} عائد إلى الحق في قوله { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} [الاحقاف: من الآية7]، أو الى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى {قل} جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم. وقد تقدم ذلك في قوله {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في أوائل سورة البقرة. [30]
وجعل الافتراء مفروضا بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله.
وانتصب {شيئا} على المفعولية لفعل {تملكون} أي شيئا يملك، أي يستطاع، والمراد: شيء من الدفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئا يرد علي من الله. وتقدم معنى "لا أملك شيئا" عند قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ
(26/12)
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود.[17]
والتقدير: إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها. فقوله {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى {لا تَمْلِكُونَ لِي} لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى: إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه.
واعلم أن الشائع في استعمال "لا أملك له شيئا" ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف: من الآية188] وقوله {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: من الآية4] أو أن يسند الى عام نحو {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم.
واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أن الله لا يقر أحدا على أن يبلغ إلى الناس شيئا عن الله لم يأمره بتبليغه، وقد دل القرآن على هذا في قوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47] ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق، والله يغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالم والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة، أو حيلة ومصانعة. وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذا يتلقونه فلذلك لا يقره الله ويزيله.
وجملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} بدل اشتمال من جملة {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} لأن جملة {فَلا تَمْلِكُونَ لِي} تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يخبر عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله. وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون، فما صدق "ما" الموصولة القرآن الذي دل عليه الضمير الظاهر في {افتراه} أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في {افتراه} أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها
(26/13)
مختلف خوضهم. ومتعلق اسم التفضيل محذوف، أي هو أعلم منكم. والإفاضة في الحديث: الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من: فاض الماء؛ إذا سال. ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع، والمعنى: هو أعلم بحال ما تفيضون فيه.
وجملة {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بدل اشتمال من جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} لأن الإخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى. وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض في الباطل ووعيد.
والشهيد: الشاهد، أي المخبر بالواقع. والمراد به هنا الحاكم بما يعلمه من حالنا كما دل عليه قوله {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: من الآية41]
وإجراء وصفي {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} من التهديد والوعيد، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل.
[9] {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف:9]
أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفا في تفسير قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية4] الآيات.
وهذا جواب عما تضمنه قولهم {افتراه} [الأحقاف: 8] من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله. وإنما لم يعطف على جملة {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} [الاحقاف: من الآية8] لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من رد إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير، وسيأتي بعده قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} [الاحقاف:10]
ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين [81-84] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} إلى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} [المؤمنون: من الآية86] وقوله {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] الخ.
والبدع بكسر الباء وسيكون الدال، معناه البديع مثل: الخف يعني الحفيف قال امرؤ القيس:
(26/14)
يزل الغلام الخف عن صواته
ومنه: الخل بمعنى الخليل. فالبدع: صفة مشبهة بمعنى البادع، ومن أسمائه تعالى "البديع" خالق الأشياء ومخترعها. فالمعنى: ما كنت محدثا شيئا لم يكن بين الرسل.
و {من} ابتدائية، أي ما كنت آتيا منهم بديعا غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي.
وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليل وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء، أو أنه قاتل الذين كفروا، أو أنه أحب زينب بنت جحش.
وقوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} تتميم لقوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلت ناقته: أين ناقتي? ويقول أحدهم: من أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: من الآية188].
ولذلك كان قوله {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} استئنافا بيانيا وإتماما لما في قوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا. ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، ومثل قوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حكم نسخ الخبر.
ووجه عطف {وَلا بِكُمْ} على {بي} بإقحام "لا" النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة "ما" الموصولة وليس في الصلة نفي، فلماذا لم يقل: ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولا للمنفي في قوله {وَمَا أَدْرِي} تناول النفي ما هو في حيز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملا للجميع فحسن إدخال حرف النفي على المعطوف، كما حسن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجر بها الاسم المنفي المعطوف على اسم "إن" وهو مثبت في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
(26/15)
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الاحقاف: من الآية33] لوقوع {أن} العاملة فيه في خبر النفي وهو {أَوَلَمْ يَرَوْا} وكذلك زيادة "من" في قوله تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: من الآية105] فإن {خير} وقع معمولا لفعل {ينزل} وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيل صار التنزيل كالمنفي لديهم.
وعطف {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} على جملة {مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} والمعنى: وما أنا نذير مبين لا مفتر، فالقصر قصر إضافي، وهو قصر قلب لرد قولهم {افتراه} .
[10] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
أعيد الأمر بأن يقول لهم حجة أخرى لعلها تردهم إلى الحق بعد ما تقدم من قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية4] الآية وقوله {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الاحقاف: من الآية8] وقوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9] الآية.
وهذا استدراج لهم للوصول إلى الحق في درجات النظر فقد بادأهم بأن ما أحالوه من أن يكون رسولا من عند الله ليس بمحال إذ لم يكن أول الناس جاء برسالة من الله. ثم أعقبه بأن القرآن إذا فرضنا أنه من عند الله وقد كفرتم بذلك كيف يكون حالكم عند الله تعالى.
وأقحم في هذا أنه لو شهد شاهد من أهل الكتاب بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل، وآمن برسالتي كيف يكون انحطاطكم عن درجته، وقد جاءكم كتاب فأعرضتم عنه، فهذا كقوله {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: من الآية157] وهذا تحريك للهمم. ونظير هذه الآية آية سورة فصلت [52] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
سوى أن هذه أقحم فيها قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} فإن المشركين كانت له مخالطة مع بعض اليهودي في مكة ولهم صلة بكثير منهم في التجارة بالمدينة وخيبر فلما ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون من لقوه من اليهود عن أمر الأديان والرسل فكان اليهود لا محالة يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه وكيف أظهره الله على فرعون. فاليهود وإن كانوا لا يقرون
(26/16)
برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يتحدثون عن رسالة موسى عليه السلام بما هو مماثل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وفيه ما يكفي لدفع إنكارهم رسالته.
فالاستفهام في {أرأيتم} تقريري للتوبيخ ومفعولا {أرأيتم} محذوفان.
والتقدير: أرأيتم أنفسكم ظالمين: والضمير المستتر في {إن كان} عائد إلى القرآن المعلوم من السياق أو إلى ما يوحى إلي في قوله آنفا {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وجملة و {كَفَرْتُمْ بِهِ} في موضع الحال من ضمير {أرأيتم} . ويجوز أن يكون عطفا على فعل الشرط. وكذلك جملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} . لأن مضمون كلتا الجملتين واقع فلا يدخل في حيز الشرط، وجواب الشرط محذوف دل عليه سياق الجدل. والتقدير: أفترون أنفسكم في ضلال.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل لجملة جواب الشرط المقدرة وهي تعليل أيضا. والمعنى: أتظنون إن تبين أن القرآن وحي من الله وقد كفرتم بذلك فشهد شاهد على حقية ذلك توقنوا أن الله لم يهدكم لأنكم ظالمون وأن الله لا يهدي الظالمين.
وضميرا {كان} و {مثله} عائدان إلى القرآن الذي سبق ذكره مرات من قوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الاحقاف: من الآية2] وقوله {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الاحقاف: من الآية4].
وجملة {واستكبرتم} عطف على جملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} الخ وجملة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} عطف على جملة {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
والمثل: المماثل والمشابه في صفة أوفعل، وضمير {مثله} للقرآن فلفظ {مثله} هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذ.
ويجوز أن يحمل المثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ "مثل"، فيكون لفظ "مثل" بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب: "مثلك لا يبخل" وكما هو أحد محملين في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. فالمعنى: وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه.
ويجوز أن يكون ضمير {مثله} عائدا على الكلام المتقدم بتأويل المذكور، أي على مثل ما ذكر في أنه {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وأنه ليس بدعا من كتب الرسل.
فالمراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} شاهد غير معين، أي أي شاهد، لأن الكلام
(26/17)
إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود. وبهذا فسر الشعبي ومسروق واختاره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عبد الله بن سلام فالخطاب في قوله {أرأيتم} وما بعده موجه إلى المشركين من أهل مكة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة: المراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} عبد الله بن سلام. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه قال: في نزلت آيات من كتاب الله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية.
ومثل قول قتادة ومجاهد وعكرمة روي عن ابن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري ووقع في صحيح البخاري في باب فضل عبد الله بن سلام حديث عبد الله ابن يوسف عن مالك عن سعد بن أبي وقاص قال: وفيه نزلت هذه الآية {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الآية، قال عبد الله بن يوسف: لا أدري قال مالك: الآية أو في الحديث. قال مسروق: ليس هو ابن سلام لأن أسلم بالمدينة والسورة مكية، وقال الشعبي مثله. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وأمر بوضعها في سورة الأحقاف، وعلى هذا يكون الخطاب في قوله {أرأيتم} وما بعده لأهل الكتاب بالمدينة وما حولها. وعندي أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بما سيقع من إيمان عبد الله بن سلام فيكون هو المراد ب {شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} وإن كانت الآية مكية.
والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا [سبأ: 31] وقالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] حين علموا أن قد لزمت {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} هم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله كما علمته آنفا، أي ضللتم ضلالا لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين. وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم.
وجيء في الشرط بحرف {إن} الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالا لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاورة.
[11] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}
(26/18)
هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم، فهم الذين قالوا {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} كما تقدم في الأنعام، وهو نظير قول قوم نوح {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله {واستكبرتم} .
واللام في قوله {لِلَّذِينَ آمَنُوا} لام التعليل متعلقة بمحذوف، هو حال من الذين كفروا تقديره: مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: من الآية156]، وقوله في الآية السابقة {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف: 7].
وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72] المسماة لام التبليغ.
والضمير المستتر في {كان} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو القرآن المفهوم من السياق أو ما يوحى إلي. والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر، شبه بأسرع الوصول بين المتجارين، والمراد: الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال.
وضمير الغيبة في قوله {سبقونا} عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وسمية، وزنيرة بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهن المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق.
وعن عروة بن الزبير قال: عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا.
{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
عطف على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية، أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا {سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 7]¨ وقالوا {افتراه} [الأحقاف: 8]
(26/19)
وقالوا {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وبقي أن يقولوا هو {إِفْكٌ قَدِيمٌ}
وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقوله: {واستكبرتم} وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} الآية.
وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعرا بأن جميعها أسباب لجميعها.
وضمير {به} عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه. ومعنى الآية: وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو {إِفْكٌ قَدِيمٌ} إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل. ولما كانت {إذ} ظرفا للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف {لم} تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون {هَذَا إِفْكٌ} أنهم يقولونه في المستقبل، وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضا لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نزلت قبل هذه السورة، فمعنى {فسيقولون} سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل.
فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي.
فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم { سَيَقُولُونَ هَذَا} ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل. وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به {إذ} .
وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام، وكثير في {إذ} ، ولذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله {فسيقولون} . ويجوز أن تكون {إذ} للتعليل، وتتعلق {إذا} ب"يقولون" ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق. وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية، فالواو للعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط. وأصل الكلام: وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به
(26/20)
وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في الأمالي دون ما ذهب إليه صاحب الكشاف، فإنه تكلف له تكلفا غير شاف.
[12] {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الاحقاف:12]
اتبع إبطال ترهاتهم الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو التوراة مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الاحقاف: من الآية10] كما تقدم.
ففي قوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} إبطال لإحالتهم أن يوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سنة إلهية سابقة معلومة أشهره كتاب موسى، أي التوراة وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود.
وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن. وتقديم {مِنْ قَبْلِهِ} للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل المقصد من الجملة.
وعبر عن التوراة ب {كِتَابُ مُوسَى} بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو التوراة لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحا إلى مثار نتيجة قياس القرآن على كتاب موسى بالمشابهة في جميع الأحوال.
و {إِمَاماً وَرَحْمَةً} حالان من {كِتَابُ مُوسَى} ، ويجوز كونهما حالين من {موسى} والمعنيان متلازمان.
والإمام: حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياسا لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقا شائعا على القدوة قال تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]. وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ، وموسى إمام أيضا بمعنى القدوة.
والرحمة: اسم مصدر لصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي، رقة في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه. ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سببا في نفع
(26/21)
المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة.
ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة، وموسى أيضا رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107]
وقوله {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} الخ هو المقيس على {كِتَابُ مُوسَى}
والإشارة إلى القرآن لأنه حاضر بالذكر فهو كالحاضر بالذات.
والمصدق : المخبر بصدق غيره. وحذف مفعول المصدق ليشمل جميع الكتب السماوية، قال تعالى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مخبر بأحقية كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة. وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنيا عنها ومبينا لما فيها.
والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختلف فيه منها. وما حرف فهمه بها قال تعالى{ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48]
وزاده ثناء بكونه {لِسَاناً عَرَبِيّاً} أي لغة عربية فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى، ومن اللغة التي تكلم بها عيسى ودونها أتباعه أصحاب الأناجيل.
وأدمج لفظ {لسانا} للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربية أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفى عنها المساوي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وقال {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: من الآية97].
وقوله {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الاحقاف: 12] يجوز أن يتعلق ب {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في {كتاب} من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة. وهذا أحسن ليكون {لتنذر} علة للكتاب باعتبار صفته وحاله.
والذين ظلموا هم المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان. والنذارة مراتب والبشارة مثلها.
(26/22)
و {بشرى} عطف على {مصدق} ، والتقدير: وهو بشرى للمحسنين، أي الكتاب، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم.
وقرأ نافع وابن عامر والبزي عن ابن كثير ويعقوب {لتنذر} بالمثناة الفوقية خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصف كتابه بأنه {بشرى} وفيه احتباك. وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى كتاب مجاز عقلي.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الاحقاف:14]
استئناف بياني أوثر بصريحه جانب المؤمنين من المستمعين للقرآن لأنهم لما سمعوا البشرى تطلعوا إلى صفة البشرى وتعيين المحسنين ليضعوا أنفسهم في حق مواضعها، فأجيبوا بأن البشرى هي نفي الخوف والحزن عنهم، وأنهم أصحاب الجنة وأن المحسنين هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في أعمالهم. وأشير بمفهومه إلى التعريض بالذين ظلموا فإن فيه مفهوم القصر من قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}
وتعريفهم بطريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من تعليل كرامتهم عند الله لأنهم جمعوا حسن معاملتهم لربهم بتوحيده وخوفه وعبادته، وهو ما دل عليه {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} إلى حسن معاملتهم أنفسهم وهو معنى {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}
وجيء في صلة الموصول بفعل {قالوا} لإيجاز المقول وغنيته عن أن يقال: اعترفوا بالله وحده وأطاعوه. والمراد: أنهم قالوا ذلك واعتقدوا معناه إذ الشأن في الكلام الصدق وعملوا به لأن الشأن مطابقة العمل للاعتقاد.
{ثم} للتراخي الرتبي: وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة. فهذا وجه التراخي الرتبي من جهة، وإن كان الإيمان أرقى درجة من العمل من حيث إنه شرط في الاعتداد بالعمل ولذلك عطف ب {ثم} التي للتراخي في قوله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12,17]، فالاعتباران مختلفان باختلاف المقام المسوق فيه الكلام كما يظهر بالتأمل هنا وهناك، وتقدم نظيره في سورة فصلت.
(26/23)
ودخول الفاء على خبر الموصول وهو {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لمعاملة الموصول معاملة الشرط كأنه قيل: إن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم، ومثله كثير في القرآن، فأفاد تسبب ذلك في أمنهم من الخوف والحزن. و {عليهم} خبر عن خوف، أي لا خوف يتمكن منهم ويصيبهم ويلحقهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لتخصيص المسند إليه بالخبر نحو: ما أنا قلت هذا، أي أن الحزن منتف عنهم لا عن غيرهم، والمراد بالغير: من لم يتصف بالإيمان والاستقامة في مراتب الكفر والعصيان، فجنس الخوف ثابت لمن عداهم على مراتب توقع العقاب حتى في حالة الوجل من عدم قبول الشفاعة فيهم ومن توقع حرمانهم من نفحات الله تعالى.
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد من الإخبار عنهم بما بعد الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة.[5]
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أدل على الاختصاص بالجنة من أن يقال: أولئك في الجنة وأولئك لهم الجنة لما في {أصحاب} من معنى الاختصاص وما في الإضافة أيضا.
وقوله {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تصريح بما استفيد من تعليل الصلة في الخبر ومن اقتضاء اسم الإشارة جدارتهم بما بعده وما أفاده وصف أصحاب وما أفادته الإضافة، وهذا من تمام العناية بالتنويه بهم.
[15] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
{ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين. وقال ابن
(26/24)
عساكر : لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما أية من القرآن. وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال.
ووجه الاتصال عندي أن هذا الانتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 17,18]
وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين وولد كافر، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي إن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين والديه كما سيأتي. ولذلك تعين أن يكون ما قبله توطئة وتمهيدا لذكر هذا الجدال.
وقد روى الواحدي عن ابن عباس أن قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} إلى قوله {يوعدون} [الأحقاف: 15,16] نزل في أبي بكر الصديق. وقال ابن عطية وغير واحد: نزلت في أبي بكر وأبيه أبي قحافة وأمه أم الخير أسلم أبواه جميعا.
وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهرا في هذه الآمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغا في أمة مبلغه في المسلمين.
وتقدم {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} في سورة العنكبوت.[8]
والمراد بالإنسان الجنس، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الاحقاف: من الآية16] الآية.
وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة.
والحسن: مصدر حسن، أي وصيناه بحسن المعاملة. وقرأه الجمهور كذلك. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف {إحسانا} . والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين {وصينا} معنى: ألزمنا.
والكره: بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره، إذا امتعض من شيء، أي كان حمله مكروها له، أي حالة حمله وولادته لذلك. وقرأ الجمهور {كرها} في الموضعين بفتح
(26/25)
الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين. وانتصب {كرها} على الحال، أي كارهة أو ذات كره.
والمعنى : أنها حملته في بطنها متعبة من حمله تعبا يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل.
ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه. وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة.
وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبر الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع.
والفصال : الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله {وحمله} وانتهاء الرضاع بقوله {وفصاله} . والمعنى: وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهرا. وقرأ يعقوب {وفصله} بسكون الصاد، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام.
ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهرا لتطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب، قيل: كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعت المولود أحد وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهرا زائدا في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالا.
ومن بديع هذا الطي في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشد من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدر بالمقام. وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} دليلا على أن الوضع قد يكون لستة أشهر، ونسب مثله إلى ابن عباس. ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت
(26/26)
لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان ابن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: أما تقرأ القرآن قال: بلى. أما سمعت قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ، وقال {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فلم نجده بقي إلا ستة أشهر. فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علام الغيوب الذي أنزله تبيانا لكل شيء من مثل هذا. وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
{حتى} ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم، وإذ كانت {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده، أي هو موصى بوالديه حسنا في الأطوار الموالية لفصاله، أي يوصيه وليه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه.
ووقوع {إذا} بعد {حتى} ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشد، وقد تقدمت نظائر قريبا وبعيدا منها قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} في سورة آل عمران.[152]
ولما كان {إذا} ظرفا لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلبا إلى الاستقبال، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيها للمؤكد تحصيله بالواقع، فهو استعارة.
و {إذا} تجريد للاستعارة، والمعنى: حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه. ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لوالديه. ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما.
وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} من جملة ما وصي به الإنسان، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد. فالمعنى: ووصينا الإنسان حسنا بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان
(26/27)
إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفترا عن الإحسان إلى الوالدين.
ومعنى {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أنه دعا ربه بذلك، ومعناه: أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
وحاصل المعنى: أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما، وهو معنى قوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الاسراء: 24] وأن الله لما أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير". وما شكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه.
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه ، قال: "نعم حجي عنه"، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه.
والأشد: حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد. وقيل مفرده: شدة بكسر الشين وها التأنيث مثل نعمة جمعها أنعم، وليس الأشد اسما لعدد من سني العمر وإنما سنو العمر مظنة للأشد. ووقته ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على {بَلَغَ أَشُدَّهُ} قوله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، وتقدم في سورة يوسف، وليس قوله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} تأكيدا لقوله {بَلَغَ أَشُدَّهُ} لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضا يبعد ذلك الاحتمال.
و {أوزعني} : ألهمني. وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوزع، أي الانكفاف عن عمل ما، فالهمزة فيه للإزالة، وتقدم في سورة النمل.
(26/28)
و {نعمتك} اسم مصدر مضاف يعم، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجدة.
وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد.
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم" ، وفي رواية لولده وهو حديث حسن متعددة طرقه.
واللام في {وَأَصْلِحْ لِي} لام العلة، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرض بأن إصلاحهم لفائدته، وهذا تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول: كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والدي بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كمل إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي. وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب.
ومعنى ظرفية {في ذريتي} أن ذريته نزلت منزلة الظرف يستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم. ونظيره في الظرفية قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}
وجملة {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية. وحرف "إن" للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر، وبذلك يستعمل حرف "إن" في مقام التعليل ويغني غناء الفاء.
والمراد بالتوبة: الإيمان لأنه توبة من الشرك، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال. وقال {مِنَ الْمُسْلِمِينَ } دون أن يقول: وأسلمت كما قال {تُبْتُ
(26/29)
إِلَيْكَ} لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة. هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين.
[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفا عند قوله {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [الاحقاف: من الآية14]. وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} [الاحقاف: من الآية15] غير معين بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما قبلها من الوصف والحث يحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} إلى آخره جوابا لترقية.
وعموم {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يكسب الجملة فائدة التذييل، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا. وقد تقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا. والتقبل: ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء. وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجو الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة.
وعدي فعل {يتقبل} بحرف "عن"، وحقه أن يعدى بحرف "من" تغليبا لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذرية، لأن دعاء الولد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلا علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضا ففي الكلام اختصار كأنه قيل: أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديهم وذريتهم أحسن ما عملوا.
وقرأ الجمهور {يتقبل} و {يتجاوز} بالياء التحتية مضمونة مبنيين للنائب و {أحسن} مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله. وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب { أحسن} .
وقوله {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} في موضع الحال من اسم الإشارة، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل
(26/30)
أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشرفين كما يقال: أكرمه في أهل العلم.
وانتصب {وَعْدَ الصِّدْقِ} على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني {يتقبل} و{يتجاوز}، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: من الآية8]، أي العدل أقرب للتقوى.
والوعد: مصدر بمعنى المفعول، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه.
وإضافة {وعد} إلى {الصدق} إضافة على معنى "من"، أي وعد من الصدق إذ لا يتخلف.
و {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} صفة وعد الصدق، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بر الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية.
[17] {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} [الاحقاف: من الآية15] وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه، وقد علم أن والديه كانا مؤمنين من قوله {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} الآية.
فجملة {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} الأحسن أن تكون معطوفة على جملة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الاحقاف: من الآية7] الخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث.
وأما قوله {الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} فالوجه جعله مفعولا لفعل مقدر تقديره: واذكر الذي قال لوالديه، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه.
ويجوز جعله مبتدأ وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} خبرا عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}
و"الذي" هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته. وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضموا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين وهو قبيح لمنافاته الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن حال الوالدين مع أبنائهما يقتضي معاملتها بالحسنى، ويدل لعدم اختصاص قوله في آخرها {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى آخره.
(26/31)
والذي عليه جمهور المفسرين: أن الآية لا تعني شخصا معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذ. وعن ابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد والسدي وابن جريج أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذي سماء النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمان بعد أن أسلم عبد الرحمان قالوا: كان قبل الهجرة مشركا وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام ويذكر انه بالبعث، فيرد عليهما بكلام مثل ما ذكره في هذه الآية. ويقول: فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب، ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقول محمد. لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه، وبهذا يؤول قول عائشة رضي الله عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمان هو الذي يقول الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} وذلك في قصة إشارة عبد الرحمان على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة.
ففي صحيح البخاري في كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال كان مروان بن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه أي بولاية العهد فقال له عبد الرحمان بن أبي بكر أهرقلية أي اجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} ، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري أي براءتي. وكيف يكون المراد ب {الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} عبد الرحمان بن أبي بكر وآخر الآية يقول {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى {خاسرين} [الأحقاف:18] فذكر اسم الإشارة للجمع، وقضى على المتحدث عنهم بالخسران، ولم أقف على من كان مشركا وكان أبواه مؤمنين. وأياما كان فقد أسلم عبد الرحمان قبل الفتح فلما أسلم جب إسلامه ما قبله وخرج من الوعيد الذي في قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، لأن ذلك وعيد وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعد به غير مؤمن وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة. وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة، على أنه قيل إن الإشارة بقوله {أولئك} عائدة إلى {الأولين} من قوله {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} كما سيأتي.
وأف: اسم فعل بمعنى: أتضجر، وتقدم الكلام عليه في سورة الإسراء وفي سورة الأنبياء، وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغل في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب على ما تقرر في قوله
(26/32)
تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} في سورة الإسراء. [23] وقرأ نافع وحفص عن عاصم "أف" بكسر الفاء منونا. وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب {أف} بفتح الفاء غير منون. وقرأه الباقون أف بكسر الفاء غير منون، وهي لغات ثلاث فيه.
واعلم في قوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} محسن الاتزان فإنه بوزن مصراع من الرمل عروضه محذوفة، وضربه محذوف، وفيه الخبن والقبض، ويزاد فيه الكف على قراءة غير نافع وحفص.
والاستفهام في {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إنكار وتعجب. والإخراج: البعث بعد الموت.
وجعلت جملة الحال وهي {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قيدا لمنتهى الإنكار، أي كيف يكون ذلك في حال مضي القرون.
والقرون: جمع قرن وهو الأمة التي تقارب زمان حياتها، وفي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث، وقال تعالى {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص: 78]
والمعنى: أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد. وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم.
وقرأ الجمهور {أتعدانني} بنونين مفككين وقرأه هشام عن ابن عامر بإدغام النونين.
ومعنى {يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} يطلبان الغوث من الله، أي يطلبان من الله الغوث بأن يهديه، فالمعنى: يستغيثان الله له. وليست جملة {وَيْلَكَ آمِنْ} بيانا لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة. وكلمة {ويلك} كلمة تهديد وتخويف.
والويل: الشر. وأصل ويلك: ويل لك كما في قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة "ويل" ونصبوه على نزع الخافض.
وفعل {آمن} منزل منزلة اللازم، أي اتصف بالإيمان وهو دعوة الإسلام، وجملة
(26/33)
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} تعليل للأمر بالإيمان وتعريض له بالتهديد من أن يحق عليه وعد الله.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال: خرافة، وتقدم في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة النحل [24] وفي قوله {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا في سورة الفرقان. [5]
[18] {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]
يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيرا إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق.
ويجوز أن يكون {أولئك} إشارة إلى {الأولين} من قوله {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الاحقاف: 17]، وهم الذين روي أن ابن أبي بكر ذكرهم حين قال: فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، ومشائخ قريش كما تقدم آنفا. واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة.
وتعريف {القول} تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84,85]ونحو قوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] فإن الكلمة قول، ونحو قوله {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] الآية.
وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية.
وإقحام {كَانُوا خَاسِرِينَ} دون أن يقال: إنهم خاسرون، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه.
وتأكيد الكلام بحرف "إن" لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزا ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسرا، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في البقرة.[16]
وإيراد فعل الكون بقوله {كَانُوا خَاسِرِينَ} دون الاقتصار على {خاسرين} لأن
(26/34)
"كان" تدل على أن الخسارة متمكنة منهم.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الاحقاف:19]
[19] عطف على الكلام السابق من قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} ثم قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الاحقاف: من الآية18] الخ.
وتنوين "كل" تنوين عوض عما تضاف إليه {كل} وهو مقدر يعلم من السياق، أي ولكل الفريقين المؤمن البار بوالديه والكافر الجامع بين الكفر والعقوق درجات، أي مراتب من التفاوت في الخبر بالنسبة لأهل جزاء الخير وهم المؤمنون، ودركات في الشر لأهل الكفر.
والتعبير عن تلك المراتب بالدرجات تغليب لأن الدرجة مرتبة في العلو وهو علو اعتباري إنما يناسب مراتب الخير وأما المرتبة السفلى فهي الدركة قال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. ووجه التغليظ التنويه بشأن أهل الخير.
و"من" في قوله {مِمَّا عَمِلُوا} تبعيضية. والمراد ب {مَا عَمِلُوا} جزاء ما عملوا فيقدر مضاف. والدرجات: مراتب الأعمال في الخير وضده التي يكون الجزاء على وفقها. ويجوز كون "من" ابتدائية، وما عملوا نفس العمل فلا يقدر مضاف والدرجات هي مراتب الجزاء التي تكون على حسب الأعمال، ومقادير ذلك لا يعلمها إلا الله وهي تتفاوت بالكثرة وبالسبق وبالخصوص، فالذي قال لوالديه أف لكما وأنكر البعث ثم أسلم بعد ذلك قد يكون هو دون درجة الذي بادر بالإسلام وبر والديه وما يعقب إسلامه من العمل الصالح. وكل ذلك على حسب الدرجات.
وأشار إلى أن جزاء تلك الدرجات كلها بقدر يعلمه الله، وقوله بعده {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} هو علة لمحذوف دل عليه الكلام، وتقديره: قدرنا جزاءهم على مقادير درجاتهم لنوفينهم جزاء أعمالهم، أي نجازيهم تاما وافيا لا غبن فيه. وقرأ الجمهور {ولنوفينهم} بنون العظمة، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام عن ابن عامر ويعقوب بالتحتية مرادا به العود الى الله تعالى لأنه معلوم من المقام.
وجملة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} احتراس منظور فيه إلى توفية أحد الفريقين وهو الفريق المستحق للعقوبة لئلا يحسب أن التوفية بالنسبة إليهم أن يكون الجزاء أشد مما تقتضيه
(26/35)
أعمالهم.
[20] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}
انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين.
فالجملة معطوفة على جملة {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الاحقاف: من الآية17] الآيات.
والكلام مقول قول محذوف تقديره: ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} ، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى {لا يُظْلَمُونَ} [الاحقاف: من الآية19] أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين. وعن الأشعري: أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا، وتؤول بأنه خلاف لفظي، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة. ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الربوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بعدل الإلهية والحكمة.
وانتصب {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} على الظرفية لفعل القول المحذوف.
والعرض تقدم في قوله {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} في سورة هود[18] وقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} في سورة غافر وفي قوله {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} في سورة الشورى.[45]
وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعاد له عن مكانه له. والذهاب: المبارحة.
والمعنى: استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}
فالفاء فصيحة. والتقدير: إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيء أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب. وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه.
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لأنا أعلم
(26/36)
بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكبادا، وصلائق، وصنابا، وكراكر، وأسنمة1 ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وأنما أراد عمر بذلك الخشية من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه. وذكر ابن عطية: أن عمر حين دخل الشام قدم إليه خالد بن الوليد طعاما طيبا. فقال عمر: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير? فقال خالد: لهم الجنة، فبكى عمر. وقال: لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
والهون: الهوان وهو الذل وإضافة {عذاب} إلى {الهون} مع إضافة الموصوف إلى الصفة.
والباء في قوله {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} للسببية وهي متعلقة بفعل {تجزون}
والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد.
والفسوق: الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين. والفسوق: هنا الشرك.
وقرأ الجمهور {أذهبتم} بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ. وقرأه ابن كثير {أأذهبتم} بهمزتين على الاستفهام التوبيخي.
[21] {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الاحقاف:21]
سيقت قصة هود وقومه مساق الموعظة للمشركين الذين كذبوا بالقرآن كما أخبر الله عنهم من أول هذه السورة في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف: 3] مع ما أعقبت به من الحجج المتقدمة من قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الاحقاف: 4] الذي يقابله قول هود {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ثم قوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 9] الذي يقابله قوله {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ذلك كله
1 الصلائق بالصاد جمع صليقة وهي الشاة المصلوقة, أي المشوية, والصناب بكسر الصاد ونون مخففة وموحدة صباغ من خردول وزبيب يؤدم به اللحم.والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غدة في صدور البعير تلاصق الأرض إذا برك وهي لحم طيب.
??
??
??
(26/37)
بالموعظة بحال هود مع قومه. وسيقت أيضا مساق الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى عناد قومه بذكر مثال لحالهم مع رسولهم بحال عاد مع رسولهم. ولها أيضا موقع التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما تلقاه به قومه من العناد والبهتان لتكون موعظة وتسلية معا يأخذ كل منها ما يليق به.
ولا تجد كلمة أجمع للمعنيين مع كلمة {اذكر} لأنها تصلح لمعنى الذكر اللساني بأن يراد أن يذكر ذلك لقومه، ولمعنى الذكر بالضم بأن يتذكر تلك الحالة في نفسه وإن كانت تقدمت له وأمثالها لأن في التذكر مسلاة وإسوة كقوله تعالى {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} في سورة ص [17] وكلا المعنيين ناظر إلى قوله آنفا { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} فإنه إذا قال لهم ذلك تذكروا ما يعرفون من قصص الرسل مما قصه عليهم القرآن من قبل وتذكر هو لا محالة أحوال رسل كثيرين ثم جاءت قصة هود مثالا لذلك. ومشركو مكة إذا تذكروا في حالهم وحال عاد وجدوا الحالين متماثلين فيجدر بهم أن يخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاقتصار على ذكر عاد لأنهم أول الأمم العربية الذين جاءهم رسول بعد رسالة نوح العامة وقد كانت رسالة هود ورسالة صالح قبل رسالة إبراهيم عليهم السلام، وتأتي بعد ذكر قصتهم إشارة إجمالية إلى أمم أخرى من العرب كذبوا الرسل في قوله تعالى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الاحقاف: 27] الآية.
وأخو عاد هو هود وتقدمت ترجمته في سورة الأعراف. وعبر عنه هنا بوصفه دون اسمه العلم لأن المراد بالذكر هنا ذكر التمثيل والموعظة لقريش بأنهم أمثال عاد في الإعراض عن دعوة رسول من أمتهم.
والأخ يراد به المشارك في نسب القبيلة، يقولون: يا أخا بني فلان، ويا أخا العرب، وهو المراد هنا وقد يراد بها الملازم والمصاحب، يقال: أخو الحرب وأخو عزمات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة "أنت أخونا ومولانا" وهو المراد في قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160,161]. ولم يكن لوط من نسب قومه أهل سدوم.
و {إذ أنذر} اسم للزمن الماضي، وهي هنا نصب على البدل من أخا عاد، أي اذكر زمن إنذاره قومه فهي بدل اشتمال. وذكر الإنذار هنا دون الدعوة أو الإرسال لمناسبة تمثيل حال قوم هود بحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم فهو ناظر إلى قوله تعالى في أول السورة
(26/38)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الاحقاف: 3].
والأحقاف: جمع حقف بكسر فسكون، وهو الرمل العظيم المستطيل وكانت هذه البلاد المسماة بالأحقاف منازل عاد وكانت مشرفة على البحر بين عمان وعدن. وفي منتهى الأحقاف أرض حضرموت، وتقدم ذكر عاد عند قوله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} في سورة الأعراف.[65]
وجملة {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} معترضة بين جملة {أنذر} وجملة {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} المفسرة بها.
وقد فسرت جملة {أنذر} بجملة {لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الخ.
و"أن" تفسيرية لأن {أنذر} فيه معنى القول دون حروفه.
ومعنى {خَلَتِ النُّذُرُ} سبقت النذر أي نذر رسل آخرين. والنذر: جمع نذارة بكسر النون.
و {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} بمعنى قريبا من زمانه وبعيدا عنه، ف {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} معناه القرب كما في قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: من الآية46]، أي قبل العذاب قريبا منه قال تعالى {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: من الآية38]، وقال {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وأما الذي من خلفه فنوح فقد قال هود لقومه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، وهذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها فهو ناظر إلى قوله تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9] أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تعليل للنهي في قول : {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم بسبب شرككم. وعذاب اليوم العظيم يحتمل الوعيد بعذاب يوم القيامة وبعذاب يوم الاستئصال في الدنيا، وهو الذي عجل لهم. ووصف اليوم بالعظم باعتبار ما يحدث فيه من الأحداث العظيمة، فالوصف مجاز عقلي.
[22] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
جواب عن قوله {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ولذلك جاء فعل {قالوا} مفصولا على طريق المحاورة.
(26/39)
والاستفهام إنكار. والمجيء مستعار للقصد بطلب أمر عظيم، شبه طرو الدعوة بعد أن لم يكن يدعو بها بمجيء جاء لم يكن في ذلك المكان.
والأفك بفتح الهمزة: الصرف، وأرادوا به معنى الترك، أي لنترك عبادة آلهتنا. وهذا الإنكار تعريض بالتكذيب فلذلك فرع عليه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فصرحوا بتكذيبه بطريق المفهوم.
والمعنى: ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به، أي عذاب اليوم العظيم، وإنما صرفوا مراد هود بالعذاب إلى خصوص عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث وبهذا يؤذن قوله بعده {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} [الاحقاف: 24] وقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الاحقاف: 24]. وأرادوا: ائتنا به الآن لأن المقام مقام تكذيب بأن عبادة آلهتهم تجر لهم العذاب.
و {مِنَ الصَّادِقِينَ} أبلغ في الوصف بالصدق من أن يقال: إن كنت صادقا، كما تقرر في قوله تعالى {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} في سورة البقرة،[34] أي إن كنت في قولك هذا من الذين صدقوا، أي فإن لم تأت به فما أنت بصادق فيه.
[23] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
لما جعلوا قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الاحقاف: من الآية22] فصلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم، كان الأمر في قولهم {فأتنا} مقتضيا الفور، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم.
وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب بأن يدعو الله أن يعجله، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضيا أن بينه وبين الله تعاونا وتطاوعا، أي فلا تتأخر عن الإتيان به.
وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الاحقاف: 24]. فلذلك كان جوابه أن قال {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد، فالتعريف في {العلم} للاستغراق العرفي، أي علم المغيبات، أو التعريف عوض عن المضاف إليه، أي وقت العذاب. وهذا الجواب يجري
(26/40)
على جميع الاحتمالات في معنى قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته.
والحصر هنا حقيقي كقوله {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم ردا على قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} و {عند} هنا مجاز في الانفراد بالعلم، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره.
ومعنى {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} أنه بعث مبلغا أمر الله وإنذاره ولم يبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 42-45] فقوله {أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} جملة معترضة بين جملة {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} وجملة {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}
وموقع الاستدراك بقوله {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أنه عن قوله {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} ، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحكمة إرساله الرسل، فتحسبون أن الرسل وسائط لإنهاء اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب، فمناط الاستدراك هو معمول خبر "لكن" وهو {قَوْماً تَجْهَلُونَ} والتقدير: ولكنكم قوم يجهلون، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالا لطائرهم، فجعل جهلهم مظنونا له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها.
وإنما زيد {قوما} ولم يقتصر على {تجهلون} للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقومات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: من الآية78]
وقرأ الجمهور {وأبلغكم} بتشديد اللام. وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام. يقال: بلغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز، إذا جعله بالغا.
[25,24] {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
(26/41)
الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوه عارض قالوا {هَذَا عَارِضٌ} إلى آخره، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق، ويسمى التفريع فيه فصيحة، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هودا وبين نزول العذاب بهم، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين، وأن هودا فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها، وقد قيل إنه دفن في الحجر حول الكعبة، وتقدم في سورة الحجر.
وقولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر. وورد في سورة هود قول هود لهم {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود.
وضمير {رأوه} عائد إلى {ما تعدنا} ، وهو العذاب. وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المرئي سبب العذاب وهو ما حملته الريح. و {عارضا} حال منه، والعارض: السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض. وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} بقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} و { مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} نعت ل {عارضا}.
والاستقبال: التوجه قبالة الشيء، أي سائرا نحو أوديتهم.
وأودية: جمع واد جمعا نادرا مثل ناد وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقا أغلبيا لأن غالب منازلهم في السهول ومقار المياه. وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيد أهل الوادي. وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها.
والعارض في قولهم {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل، و {ممطرنا} نعت ل {عارض}.
وقوله {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} مقول لقول محذوف، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك الى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشر في ذلك السحاب. قيل: القائل هو بكر بن معاوية بن قوم عاد. قال لما رآه إني لأرى سحابا مرمدا لا تدع من عاد أحدا لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضا غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حل العذاب بهم، أو كان قد آمن
(26/42)
من قبل فنجاه الله من العذاب بخارق عادة. وإنما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعا لهم. وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي
بذي الشيطين فالتفت ورائيا
فتخيل داعيا يدعوه فالتفت، وهذا من التخيل في الكلام البليغ.
وجعل العذاب مظروفا في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفية أشد ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب. والتدمير: الإهلاك، وقد تقدم.
و {كُلِّ شَيْءٍ} مستعمل في كثرة الأشياء فإن "كلا" تأتي كثيرا في كلامهم بمعنى الكثرة. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} في سورة يونس.
والمعنى: تدمر ما من شأنه أن تدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار.
وقوله {بأمر ربها} حال من ضمير {تدمر} . وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كل شيء، أي تدميرا عجيبا بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية.
وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين.
{فأصبحوا} أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد: أن تدميرهم كان ليلا فإنهم دمروا أياما وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلا.
والخطاب في قوله {لا ترى} لمن تتأتى منه الرؤية حينئذ إتماما لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة.
والمراد بالمساكن: آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى: أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.
وقوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الاحقاف: من الآية26].
وقرأ الجمهور {لا ترى} بالمثناة الفوقية مبنيا للفاعل وبنصب {مساكنهم} وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنيا للمجهول وبرفع {مساكنهم} وأجرى على الجمع
(26/43)
صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب {إلا} وهي فاصلة بينه وبين الفعل.
[26] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمثل عاد، ليعلموا أن الذي قدر على إهلاك عاد قادر على إهلاك من هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحس وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكية عن أولئك فليتهيأوا لما سيحل بهم.
ولإفادة هذا الاستخلاص غير أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في {قَالُوا أَجِئْتَنَا} [الاحقاف: 22] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب.
والتمكين: إعطاء المكنة بفتح الميم وكسر الكاف وهي القدرة والقوة. يقال: مكن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه. ويقال: مكنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في سورة الأنعام.[6]
فالمعنى: جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه،أي من كل ما يمكن فيه الأقوام والأمم، وتقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} في أول الأنعام [6] فضم إليه ما هنا.
و"ما" من قوله {فيما} موصولة. و {إن} نافية، أي في الذي ما مكناكم فيه.
ومعنى مكناكم فيه: مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات، فلذلك حسن تعدية فعل {مكناكم} بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مكنت منها عاد. ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف {إن} النافية مع أن النفي بها أقل استعمالا من النفي ب"ما" النافية قصدا هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق، وهما "ما" الموصولة و"ما" النافية وإن كان معناهما مختلفا، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء
(26/44)
عن الألف في "مهما"، فإن أصلها: "ما ما" مركبة من "ما" الظرفية و"ما" الزائدة لإفادة الشرط مثل "أينما". قال في الكشاف: ولقد أغث أبو الطيب في قوله:
لعمرك ما ما بان منك لضارب1
وأقول ولم يتعقب ابن جني ولا غيره ممن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين ... ولا يغتفر مثله للمولدين
فأما إذا كانت "ما" نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيدا لفظيا، فالإتيان بحرف "إن" بعد "ما" أحرى كما في قول النابغة:
رماد ككحل العين ما إن أبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وفائدة قوله {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أن يخل بإدراكهم الحق لولا العناد، وهذا تعريض بمشركي قريش، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حرموه، والحالة متحدة والسبب متحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك.
وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام وقوله {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} في سورة يونس.[31]
و{من} في قوله {من شيء} زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون {شيء} المجرور ب {من} الزائدة نائبا عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء، وحق {شيء} النصب وإنما جر بدخول حرف الجر الزائد.
و {إذ} ظرف، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظر
ـــــــ
1 تمامه: بأقتل مما بان منك لعائب.
ووقع المصراع الأول في "الكشاف" لعمرك ورواية الديوان يرى: أن ما وجعل ابن جني والمعري في شرحيهما على الديون اسم أن ضمير شأن محذوفا ليستقيم اقتران الباء بقوله باقتل الذي هو بحسب الظاهر خبر عن "أن" ولعل التفادي من تكلف جعل اسم "أن" ضمير شأن هو الذي دعا الزمخشري لتغيير الكلمة الأولى من المصراع الأول.
(26/45)
ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقا نفيه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة {إذ} إلى الجملة بعدها، علم أن لذلك الزمان تأثيرا في نفي الإغناء.
وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه.
وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جمعت حقيقة الآيات بالمعنيين. وحاق بهم: أحاط بهم و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} العذاب، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم.
[27] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاحقاف:27]
أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيدا في بابه فقد أهلك الله أقواما آخرين من مجاوريهم تماثل أحوالهم أحوال المشركين، وذكرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبأ وقوم تبع، والجملة معطوفة على جملة {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الاحقاف: 21] الخ، وكني عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ومنه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدل عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد. وكني به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحا.
ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية، وتارة بالتهديد على الفعل، وأخرى بالوعيد، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها. وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مستأنفة لإنشاء الترجي وموقعها موقع المفعول لأجله، أي رجاء رجوعهم.
والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازا في الطلب، أي توسعة لهم وإمهالا ليتدبروا ويتعظوا. وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم
(26/46)
من آيات إعجاز القرآن والكلام على "لعل" في كلام الله تقدم في أوائل البقرة.
[28] {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصل، وبعذاب أهل القرى المجمل، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهي أسباب المنهي عنه كقولهم لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أرينك هنا.
والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنصر والدفع وذلك مستعمل تعريضا بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماما للموعظة والتوبيخ بطريق التنظير وقياس التمثيل، ولذلك عقب بقوله {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} لأن التوبيخ آل الى معنى نفي النصر.
وحرف {لولا} إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحضيض، أي تحضيض فاعل الفعل الذي بعد {لولا} على تحصيل ذلك الفعل، فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت {لولا} دالة على التوبيخ ونحو إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره.
والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطأ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئا، كقول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جميع العقلاء عليهم جريا على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة.
و {قربانا} مصدر بوزن غفران، منصوب على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وهذا المصدر معترض بين {اتخذوا} ومفعوله، و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يتعلق ب {اتخذوا} . و {دون} بمعنى المباعدة، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشنيعها.
(26/47)
و {بل} بمعنى لكن إضرابا واستدراكا بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب، بل ضلوا عنهم، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم.
والضلال أصله: عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم، وهذا نظير التهكم في قوله تعالى {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} في سورة القصص.[64]
وأما قوله {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} فهو فذلكة لجملة {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله {ضَلُّوا عَنْهُمْ}
والإشارة ب {ذلك} إلى ما تضمنه قوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله، والإفك بكسر الهمزة.
والافتراء: نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فري الجلد، فالافتراء الكذب الذي يقوله، فعطف {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} على {إفكهم} عطف الأخص على الأعم، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل فهو إفك. وأما زعمهم أنها تقربهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه.
وإقحام فعل {كانوا} للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم. ومجيء {يفترون} بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر.
[29-32] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
هذا تأييد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا عند الثقلين ومعظما في العالمين وذلك ما لم يحصل لرسول قبله.
والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر علموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس
(26/48)
الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم. ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]
فالجملة معطوفة على جملة {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا {إذْ صَرَفْنَا} بفعل يدل عليق قوله {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفرا من الجن. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون.
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه. ففي جامع الترمذي عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخلة اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم، فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا وفي الصحيح عن ابن مسعود افتقدنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فعل به اغتيل أو واستطير فبتنا بشر ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قبل حراء فقال "أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن".
وأياما كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم قوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} في سورة الأنعام [130].
والصرف: البعث. والنفر: عدد من الناس دون العشرين. وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله {من الجن} .
وجملة {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيدا لعاملها وهو {صرفنا} كان التقدير: يستمعون منك إذا حضروا فصار ذلك مؤديا مؤدى المفعول لأجله. فالمعنى: صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن.
وضمير {حضروه} عائد إلى القرآن، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية
(26/49)
مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {أنصتوا} أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماما به لئلا يفوت منه شيء. وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس ، أي قبل أن يبدأ في خطبته.
وفي الحديث "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" ، أي قالوا كلهم: أنصتوا، كل واحد يقولها للبقية حرصا على الوعي فنطق بها جميعهم.
و {قضي} مبني للنائب. والضمير للقرآن بتقدير مضاف، أي قضيت قراءته، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تم مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن فولوا، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب {قومهم} على طريقة المجاز، نزل منزلة الأنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن.
والمنذر : المخبر بخبر مخيف.
ومعنى {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن. والتبشير لمن عمل بما جاء به القرآن. ولا شك أن الله يسر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص.
وجملة {قَالُوا يَا قَوْمَنَا} إلى آخرها مبينة لقوله {منذرين} . وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس، وكذلك فعل {قالوا} مجاز عن الإفادة، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معاني ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: من الآية18].
وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتابا تمهيدا للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرف المخاطبون لما بعد ذلك.
ووصف الكتاب بأنه {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} دون: أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن التوراة آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل زبور داود وإنجيل عيسى، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد التوراة فلما نزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق
(26/50)
للتوراة وهاد إلى أزيد مما هدت إليه التوراة.
و {ما بين يديه} : ما سبقه من الأديان الحق.
ومعنى {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به.
والمراد بالطريق المستقيم: ما يسلك من الأعمال والمعاملة. وما يترتب على ذلك من الجزاء، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره.
ويجوز أن يراد ب {الحق} ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة. ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق.
وإعادتهم نداء قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} الى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا، ولأن اختلاف الأغراض وتجدد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله "أيها الناس" كما وقع في خطبة حجة الوداع. واستعير {أجيبوا} لمعنى: اعملوا وتقلدوا تشبيها للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [ابراهيم: من الآية22] أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني. لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه.
وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} وأطلق على القرآن {دَاعِيَ اللَّهِ} مجازا لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه {دَاعِيَ اللَّهِ} على طريقة التبعية وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل. ويجوز أن يكون {دَاعِيَ اللَّهِ} محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن.
وعطف {وَآمِنُوا بِهِ} على {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} عطف خاص على عام.
وضمير {به} عائد إلى {الله} أي وآمنوا بالله، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع {يَغْفِرْ لَكُمْ} و {يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أو عائد إلى داعي الله، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام.
(26/51)
و {من} في قوله {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل {أجيبوا} باعتبار أنه مجاب بفعل {يغفر} ، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه.
يجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة {من} في الإثبات كما تزاد في النفي. وأما {من} التي في قوله و { يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فهي لتعدية فعل {يجركم} لأنه يقال: أجاره من ظلم فلان، بمعنى منعه وأبعده.
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكا للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس. وهؤلاء قد نبهوا إليها بصرفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: من الآية13] ، وقال في خطاب الشيطان {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:85]
فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجن. وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون. واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب إلا أن يجاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك: كما يجازون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة. وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أره لغيره. وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالم إذا مرت بها الآيات يتعين عليه فهمها.
ومعنى {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه، فمفعول {معجز} مقدر دل عليه المضاف إليه في قوله {دَاعِيَ اللَّهِ} أي فليس بمعجز الله، وقال في سورة الجن[12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه، أي ناجيا من قدرة الله عليه. والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب.
والمقصود من قوله {فِي الْأَرْضِ} تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معين. {لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} أي لا نصير
(26/52)
ينصره على الله ويحميه منه، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله. وذكر هذا تعريض للمشركين.
واسم الإشارة في {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} للتنبيه على أن من هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان: 5]
والظرفية المستفادة من {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال. والمبين: الواضح، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل.
[33] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الاحقاف:18]فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرأهم على إحالة البعث، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الاحقاف: 3] الآية ويتصل بقوله {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إلى قوله {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الاحقاف: 17].
والواو عاطفة جملة الاستفهام، وهو استفهام إنكاري، والرؤية علمية. واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات.
ووقعت {أن} مع اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي {يروا} . ودخلت الباء الزائدة على خبر {أن} وهو مثبت وموكد، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي، لأن {أن} وقعت في خبر المنفي وهو{ألم يروا}.
(26/53)
ووقع {بلى} جوابا عن الاستفهام الإنكاري. ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب"لم" فيصير نفي النفي إثباتا، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف "نعم" دون {بلى} ، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام. وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطى جميع أحكامه.
ومحل التعجيب هو خبر {أن} وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه.
ووقوع الباء في خبر {أن} وهو{بقادر} باعتبار أنه في حيز النفي لأن العامل فيه وهو حرف {أن} وقع في موضع مفعولي فعل {يروا} الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله، فقرن بالباء لأجل ذلك، وفي الكشاف قال الزجاج لو قلت: ما ظننت أن زيدا بقائم جاز، كأنه قيل: أليس الله بقادر اه.
وقال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79] يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور.
وأما موقع الجواب بحرف {بلى} فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غير قادر على أن يحيي الموتى، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى، فأجيب بقوله {بلى} تعليما للمسلمين وتلقينا لما يجيبونهم به.
وحرف {بلى} لما كان جوابا كان قائما مقام جملة تقديرها: هو قادر على أن يحيي الموتى.
وجملة {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} عطف على جملة {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقوله {وَلَمْ يَعْيَ} مضارع عيي من باب رضي، ومصدره العي بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام، ومنه العي في الكلام، أي عسر الإبانة. وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه.
وكثير من أئمة اللغو يرون أن العي يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة. وعن الكسائي والأصمعي: العي خاص بالعجز في الحيلة والرأي. وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه، وفعله أعيا، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب القاموس.
وظاهر الأساس: أن أعيا لا يكون إلا متعديا، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث.
(26/54)
وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع. قلت: وهو راجع إلى تنازع العاملين.
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا {وَلَمْ يَعْيَ} دالا على سعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به، وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين، لأنهم لم ينكروا ذلك، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات.
وعليه أيضا تكون تعدية فعل {يعي} بالباء متعينة.
وقرأ الجمهور {بقادر} بالموحدة بصيغة اسم الفاعل. وقرأه يعقوب {يقدر} بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة، وتكون جملة {يقدر} في محل خبر {أن} .
وجملة {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل لجملة {بلى} لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض.
وتأكيد الكلام بحرف "أن" لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء.
ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف {قادر }، وفي القدرة على كل شيء بوصف {قدير} الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف {قادر}.
[34] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعا بين الاستدلال والإنذار، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعا بين ما رد به في الدنيا من قوله {بلي} 1 [الأحقاف: 33] وما يردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم {بَلَى وَرَبِّنَا}
والجملة عطف على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الاحقاف: من الآية33] الخ. وأول الجملة المعطوفة قوله {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره: ويقال للذين كفروا يوم
ـــــــ
1 في المطبوعة: {فله}.
(26/55)
يعرضون على النار.
وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوم لزيادة تقريره في الأذهان.
وذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا.
والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعد {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ}
والحق: الثابت.
والاستفهام تقريري وتنديم على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكذب، وقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] وإنما أقسموا على كلامهم بقسم {وربنا} قسما مستعملا في الندامة والتغليط لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تحننا وتخضعا. وفرع على إقرارهم {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} والذوق مجاز في الإحساس. والأمر مستعمل في الإهانة.
[35] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الاحقاف:7] وما اتصل به من ضرب المثل لهم بعاد. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم. ويجوز أن تكون الفاء فصيحة. والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا.
وأولوا العزم: أصحاب العزم، أي المتصفون به. والعزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد. قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: من الآية159] وقال {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وقال سعد ابن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
(26/56)
والعزم المحمود في الدين: العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: من الآية186] وقال {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف، وعلى هذا تكون {من} في قوله {مِنَ الرُّسُلِ} تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال: كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون {من} بيانية.
وهذه الآية اقتضت أن محمدا صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومن صبر صبرهم كان منهم لا محالة.
وأعقب أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلا لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة.
ومفعول {تستعجل} محذوف دل عليه المقام، تقديره: العذاب أو الهلاك.
واللام في {لهم} لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير: لا تستعجل لهلاكهم. وجملة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله، قال مرة بن عداء الفقعسي، ولعله أخذ قوله من هذه الآية:
كأنك لم تسبق من الدهر ليلة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة.
و {من نهار} وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئا يشغله. فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم "وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء" ، وأشار بيده يقللها، والساعة جزء من الزمن.
{بَلاغٌ}
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمنهم وكافرهم ليعلم كل حظه من ذلك، فقوله
(26/57)
{بلاغ} خبر مبتدإ محذوف تقديره: هذا بلاغ، على طريقة العنوان والطالع نحو ما يكتب في أعلى الظهير ظهير من أمير المؤمنين ، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو إيداع وصية ، أو ما يكتب في التأليف نحو ما في الموطأ وقوت الصلاة. ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة إعلان.
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [ابراهيم:52]
، وقول سيبويه هذا باب علم ما الكلم من العربية ، وقال تعالى {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الانبياء:106]
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134].
{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
فرع على جملة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} إلى {من نهار} ، أي فلا يصيب العذاب إلا المشركين أمثالهم.
والاستفهام مستعمل في النفي، ولذلك صح الاستثناء منه كقوله تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون، وذلك من قوله {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية9]، وقوله {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} إلى قوله {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقوله {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] الآية.
والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة: وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين.
وتعريف {القوم} تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل.
والتعبير بالمضارع في قوله {فَهَلْ يُهْلَكُ} على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لما يقع على أهلاك الأمم الذين قبلهم. ولك أن تجعل تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} الآية، فيكون إظهارا في
(26/58)
مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك.
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك.
وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(26/59)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمد
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا: وتسمى سورة القتال.
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا. والأشهر الأول، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران [144] التي فيها {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} مع ما سيأتي أن قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} إلى قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد: 20] أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية.
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان. وعن النسفي: أنها مكية. وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير: أنها مكية. ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أي في الهجرة. قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد. وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين، وعدها أهل البصرة أربعين، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين.
(26/60)
أغراضها
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد.
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه.
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم. وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم. وفيها وعد المجاهدين بالجنة، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم. ووصف الجنة ونعيمها، ووصف جهنم وعذابها. ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين.
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين. وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة.
[1] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}
صدر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيرا في نفوس المسلمين حنقا عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة، حين يعلمون أن الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين، فهذا تمهيد لقوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: من الآية4].
وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر، أي لأجل كفرهم وصدهم، وبراعة استهلال للغرض المقصود.
والكفر: الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجردا عن قرينة إرادة غير المشركين. وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين. وهي: الكفر، والصد عن سبيل الله، وضلال الأعمال الناشئ عن إضلال الله إياهم.
(26/61)
والصد عن سبيل: هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام، وصرفهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأولى. وأضيف "السبيل" إلى {الله} لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: من الآية19] واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائر فيه إلى بغيته.
ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج: 25]. ومن الصد عن المسجد الحرام: إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، وصدهم عن العمرة عام الحديبية.ومن الصد عن سبيل الله: إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم، فلذلك قيل: إن الآية نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من سادة المشركين من قريش. وهم: أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبي ابن خلف، وأمية بن خلف، ونبيه بن الحجاج، ومنبه بن الحجاج، وأبو البختري ابن هشام، والحارث بن هشام، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، وحكيم بن حزام، وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة.
وعد منهم صفوان بن أمية، وسهل بن عمرو، ومقيس الجمحي، والعباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن حرب، وهذان أسلما وحسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخرين خلاف.
ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
والإضلال: الإبطال والإضاعة، وهو يرجع إلى الضلال. وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يراد وهو يستلزم المعاني الأخر. وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأن الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة، فلم يثبهم عليها من صلة رحم، وإطعام جائع، ونحوهما، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثا وسيئا ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خيب سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامهم الجيش باطلا، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفوا غليلهم يوم أحد، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: من الآية36]
[2] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}
(26/62)
هذا مقابل فريق الذين كفروا وهو فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيراد الموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلته، أي لأجل إيمانهم الخ كفر عنهم سيئاتهم.
وقد جاء في مقابلة الأوصاف الثلاثة التي أثبتت للذين كفروا بثلاثة أوصاف ضدها للمسلمين وهي: الإيمان مقابل الكفر، والإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مقابل الصد عن سبيل الله، وعمل الصالحات مقابل بعض ما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: من الآية1] و {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} مقابل بعض آخر مما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} مقابل بقية ما تضمنه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وهو نظير لوصفه بسبيل الله في قوله {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 1]
وعبر عن الجلالة هنا بوصف الرب زيادة في التنويه بشأن المسلمين على نحو قوله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: من الآية11] فلذلك لم يقل: وصدوا عن سبيل ربهم.
وتكفير السيئات غفرانها لهم فإنهم لما عملوا الصالحات كفر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان، وكفر لهم الصغائر، وكفر عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات كما قال تعالى {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]
والبال: يطلق على القلب، أي العقل وما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه، قال امرؤ القيس:
فعادي عداء بين ثور ونعجة
وكان عداء الوحش مني على بال
وقال:
عليه القتام سيء الظن والبال
ومنه قولهم: ما بالك? أي ماذا ظننت حين فعلت كذا، وقولهم: لا يبالي، كأنه مشتق منه، أي لا يخطر بباله، ومنه بيت العقيلي في الحماسة:
ونبكي حين نقتلكم عليكم
ونقتلكم كأنا لا نبالي
أي لا نفكر.
(26/63)
وحكى الأزهري عن جماعة من العلماء، أي معنى لا أبالي: لا أكره اه. وأحسبهم أرادوا تفسير حاصل المعنى ولم يضبطوا تفسير معنى الكلمة.
ويطلق البال على الحال والقدر. وفي الحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر". قال الوزير البطليوسي في شرح ديوان امرئ القيس: قال أبو سعيد: كنت أقول للمعري: كيف أصبحت? فيقول: بخير أصلح الله بالك. ولم يوفه صاحب الأساس حقه من البيان وأدمجه في مادة بلو
وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك، وحكاها عنهم القرآن في مواضع كثيرة والمعنى: أقام أنظارهم وعقولهم فلا يفكرون إلا صالحا ولا يتدبرون إلا ناجحا.
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}
هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين. والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكمل تمييز تنويها به. وقد ذكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه.
والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين، وهما {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: من الآية1] {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: من الآية2]، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما.
واسم الإشارة مبتدأ، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} الخ خبره، والباء للسببية ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، ولما كان ذلك جامعا للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقا بالخبرين وسببا لهما.
وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسير لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدم أو تأخر. وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
(26/64)
سجية تلك فيهم غير محدثة
إن الخلائق فاعلم شرها البدع قال في الكشاف: وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير، يريد أنه من المحسنات البديعية. ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لما فسر لطلبته هذه الآية.
فقيد عنه في الحواشي قوله:
به فجع الفرسان فوق خيولهم
كما فجعت تحت الستور العواتق
تساقط من أيديهم البيض حيرة
وزعزع عن أجيادهن المخانق
وفي هذه الآية محسن الطباق مرتين بين {الَّذِينَ كَفَرُوا} و {الَّذِينَ آمَنُوا} وبين {الحق} و {الباطل} . وفي بيتي الزمخشري محسن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت. واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليان لهيئتي العمل بما يأمر به أيمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق.
ووصف {الحق} بأنه {مِنْ رَبِّهِمْ} تنويه به وتشريف لهم.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}
تذييل لما قبله، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بيانا واضحا.
والمعنى: قد بينا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلا وإجمالا، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات.
ومعنى {يضرب} : يلقي. وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق، وتقدم عند قوله تعالى {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة. [26]
والأمثال: جمع مثل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها، أي تشتهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره. واللام للأجل، والمراد بالناس جميع الناس. وضمير {أمثالهم} للناس.
والمعنى: كهذا التبيين يبين الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شؤون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحجاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب، ولكي يكونوا على بصيرة في شؤونهم، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقا، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين.
(26/65)
[4-6] {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: من الآية67] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقررا يومئذ، وتقدم في سورة الأنفال.
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم.
والمقصود: تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين. وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التعليل من قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
و"إذا" ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
واللقاء في قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} المقابلة: وهو إطلاق شهير للقاء. يقال: يوم اللقاء، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب، ويقال: إن لقيت فلانا لقيت منه أسدا، وقال النابغة:
تجنب بني حن فإن لقاءهم
كريه وإن لم تلق إلا بصائر
فليس المعنى: إذا لقيتم الكافرين في الطريق، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل {لقيتم} . والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى.
وضرب الرقاب:كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في
(26/66)
القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض.
والضرب هنا بمعنى: القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجه عدوه وجها لوجه. والمعنى: فاقتلوهم سواء كان القتل بضرب السيف، أو طعن الرماح، أو رشق النبال، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان.
والذين كفروا: هم المشركون لأن اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو: الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك. و {حتى} ابتدائية. ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع.
والإثخان: الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها.
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل، وكلا المعنيين في هذه الآية، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المن والفداء غير مقيد.
وإذا فسر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فاسروا حينئذ، أي أبقوا الأسرى، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر. وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}
وانتصب {ضَرْبَ الرِّقَابِ} على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله ثم أضيف إلى مفعوله، والتقدير: فاضربوا الرقاب ضربا، فلما حذف الفعل اختصارا قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية. والشد: قوة الربط، وقوة الإمساك.
والوثاق بفتح الواو: الشيء الذي يوثق به، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به. وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير. والمعنى: فاقتلوهم، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم.
وتعريف {الرقاب} و {الوثاق} يجوز أن يكون للعهد الذهني، ويجوز أن يكون
(26/67)
عوضا عن المضاف إليه، أي فضرب رقابهم وشدوا وثاقهم.
والمن: الإنعام. والمراد به: إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق من عليه إذ لم يقتل، والفداء: بكسر الفاء ممدودا تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدو. وقدم المن على الفداء ترجيحا له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه.
وانتصب {منا} و {فداء} على المفعولية المطلقة بدلا من عامليهما، والتقدير: إما تمنون وإما تفدون.
وقوله {بعد} أي بعد الإثخان، وهذا تقييد لإباحة المن والفداء. وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبيء صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن. وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ، وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر.
فقوله {الَّذِينَ كَفَرُوا} عام في كل كافر، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حربهم ويشمل من حارب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار. وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة. ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} في سورة الأنفال.[67] واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحد قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومن السلف عبد الله بن عمر، وعطاء، وسعيد بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخير في ذلك. ويشبه أن يكون أصحاب هذل القول يرون أن مورد الآية الإذن في المن أو الفداء فهي ناسخة أو منهية لحكم قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في سورة الأنفال.[68,67]
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحظر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المن والفداء، ولم يذكر معهما
(26/68)
القتل. وقد ثبت في الصحيح ثبوتا مستفيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من أسرى بدر النضر بن الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة، وقتل بعد أحد أبا عزة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر. وأيضا لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق، وهو الأصل في الأسرى، وهو يدخل في المن إذا اعتبر المن شاملا لترك القتل، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع. وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك: أن المن من العتق.
وقال الحسن وعطاء: التخيير بين المن والفداء فقط دون قتل الأسير، فقتل الأسير يكون محظورا. وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب اليه الحسن وعطاء.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: من الآية5] وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج، ورواه العوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة: لا بأس أن يفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين. وروى الجصاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف.
والغاية المستفادة من {حتى} في قوله {تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكف المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال.
والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهن العدو فيتركوا حربكم، فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله { فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون واردا مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المن بعد ذلك أو الفداء.
والأوزار: الأثقال، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمال أو المسافر أثقاله، وهذا من مبتكرات القرآن. وأخذ منه عبد ربه السلمى، أو سليم الحنفي قوله:
(26/69)
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره.
{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}
أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفا {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3] للنكتة التي تقدمت هنالك، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف. وتقدير المحذوف: الأمر ذلك، والمشار إليه ما تقدم من قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى هنا، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس.
والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي أمرتم بضرب رقابهم، والحال أن الله لو يشاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض.
وتعدية "انتصر" بحرف "من" مع أن حقه أن يعدى بحرف "على" لتضمينه معنى: انتقم.
والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعد الاستدراك.
والبلو حقيقته: الاختبار والتجربة، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس.
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إلى قوله {وَإِمَّا فِدَاءً} فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم.
وجملة {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخ عطف على جملة {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله.
(26/70)
وذكر {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال: فلن يضل الله أعمالكم، وهكذا بأسلوب الخطاب، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوي الخبر، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر.
فجملة {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} خبر عن الموصول، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيرا ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل {قاتلوا} منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط.
وجملة {سيهديهم} وما عطف عليها بيان لجملة {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} وتقدم الكلام آنفا على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال.
ومعنى {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها، فالجملة حال من الجنة، أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها، وذلك من تعجيل الفرح بها. وقيل {عرفها} جعل فيها عرفا، أي ريحا طيبا، والتطييب من تمام حسن الضيافة.
وقرأ الجمهور {قاتلوا} بصيغة المفاعلة، فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم. وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم {قتلوا} بالبناء للنائب، فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة.
[7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} لما ذكر أنه لو شاء الله لانتصر منهم علم منه أن ما أمر به المسلمين من قتال الكفار إنما أراد منه نصر الدين بخضد شوكة أعدائه الذين يصدون الناس عنه، أتبعه بالترغيب في نصر الله والوعد بتكفل الله لهم بالنصر إن نصروه، وبأنه خاذل الذين كفروا بسبب كراهيتهم ما شرعه من الدين.
فالجملة استئناف ابتدائي لهاته المناسبة. وافتتح الترغيب بندائهم بصلة الإيمان اهتماما بالكلام وإيماء إلى أن الإيماء يقتضي منهم ذلك، والمقصود تحريضهم على الجهاد في المستقبل بعد أن اجتنوا فائدته مشاهدة يوم بدر.
ومعنى نصرهم الله: نصر دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله غني عن النصر في تنفيذ إرادته
(26/71)
كما قال {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: من الآية4]. ولا حاجة إلى تقدير مضاف بين {تنصروا} واسم الجلالة تقديره: دين الله، لأنه يقال: نصر فلان فلانا، إذا نصر ذويه وهو غير حاضر. وجيء في الشرط بحرف {إن} الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليجعل المطلوب به كالذي يشك في وفائه به.
وتثبيت الأقدام: تمثيل لليقين وعدم الوهن بحالة من ثبتت قدمه في الأرض فلم يزل، فإن الزلل وهن يسقط صاحبه، ولذلك يمثل الانهزام والخيبة والخطأ بزلل القدم قال تعالى {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل: 94].
[8,9] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} هذا مقابل قوله {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون، فهذا عطف على جملة {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 4] الآية.
والتعس: الشقاء ويطلق على عدة معان: الهلاك، والخيبة، والانحطاط، والسقوط، وهي معان تحوم حول الشقاء، وقد كثر أن يقال: تعسا له، للعاثر البغيض، أي سقوطا وخرورا لا نهوض منه. ويقابله قولهم للعاثر: لعا له، أي ارتفاعا، قال الأعشى:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
فالتعس أولى لها من أن أقول لعا
وفي حديث الإفك فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح لأن العثار تعس.
ومن بدائع القرآن وقوع {فَتَعْساً لَهُمْ} في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: من الآية7].
والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع، وفي القاموس إذا خاطبت قلت: تعست كمنع، وإذا حكيت قلت: تعس كسمع.
وانتصب {تعسا} على المفعول المطلق بدلا من فعله. والتقدير: فتعسوا تعسهم، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبا له، وويحا له. وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار {تَعْساً لَهُمْ} . والمجرور متعلق
(26/72)
بالمصدر، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار ابن مالك وإن أباه ابن هشام.
ويجوز أن يكون {تَعْساً لَهُمْ} . مستعملا في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سقيا له، ورعيا له، وتبا له، وويحا له، وحينئذ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره: فقال الله: تعسا لهم، أو فيقال: تعسا لهم.
ودخلت الفاء على {تعسا} وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط.
وقوله {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8]
، وتقدم القول على {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} هنالك.
والقول في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا} الخ في معناه، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3]. والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما. والكراهية: البغض والعداوة.
و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث، قال تعالى {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13].
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا} للسببية. وإحباط الأعمال إبطالها: أي جعلها بطلا، أي ضائعة لا نفع لهم منها، والمراد بأعمالهم: الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضى الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلم أولادهم وأنعامهم، فالأعمال المحبطة بعض الأعمال المضللة، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8] أول السورة. والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعمال كان يتحنث بها في الجاهلية من عتاقة ونحوها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما سلف من خير" أي ولو لم يسلم لما كان له فيها خير.
(26/73)
والمعنى: أنهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصالحة في الآخرة وهي المقصود الأهم وفي الدنيا على الجملة. وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور.
[10] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}
تفريع على جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد: من الآية8] الآية، وتقدم القول في نظائر {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة الروم [9] وفي سورة غافر.[21]
والاستفهام تقريري، والمعنى: أليس تعس الذين كفروا مشهودا عليه بآثاره من سوء عاقبة أمثالهم الذين كانوا قبلهم يدينون بمثل دينهم.
وجملة {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} استئناف بياني، وهذا تعريض بالتهديد. والتدمير: الإهلاك والدمار وهو الهلك.
وفعل {دمر} متعد إلى المدمر بنفسه، فيقال: دمرهم الله، وإنما عدي في الآية بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير، فحذف مفعول {دمر} لقصد العموم، ثم جعل التدمير واقعا عليهم فأفاد معنى {دمر} كل ما يختص بهم، وهو المفعول المحذوف، وأن التدمير واقع عليهم فهم من مشموله.
وجملة {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} اعتراض بين جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وبين جملة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]. والمراد بالكافرين: كفار مكة والمعنى: ولكفاركم أمثال عاقبة الذين من قبلهم من الدمار وهذا تصريح بما وقع به التعريض للتأكيد بالتعميم ثم الخصوص.
وأمثال: جمع مثل بكسر الميم وسكون الثاء، وجمع الأمثال لأن الله استأصل الكافرين مرات حتى استقر الإسلام فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف، ويوم حنين بالسيف أيضا، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو. وضمير {أمثالها} عائد إلى {عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} باعتبار أنها حالة سوء.
(26/74)
[11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}
أعيد اسم الإشارة للوجه الذي تقدم في قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: من الآية3] وقوله {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: من الآية4].
واسم الإشارة منصرف إلى مضمون قوله {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: من الآية10] بتأويل: ذلك المذكور، لأنه يتضمن وعيدا للمشركين بالتدمير، وفي تدميرهم انتصار للمؤمنين على ما لقوا منهم من الأضرار، فأفيد أن ما توعدهم الله به مسبب على أن الله نصير الذين آمنوا وهو المقصود من التعليل وما بعده تتميم.
والمولى، هنا: الولي والناصر. والمعنى: أن الله ينصر الذين ينصرون دينه وهم الذين آمنوا ولا ينصر الذين كفروا به، فأشركوا معه في إلهيته وإذا كان لا ينصرهم فلا يجدون نصيرا لأنه لا يستطيع أحد أن ينصرهم على الله، فنفي جنس المولى لهم بهذا المعنى من معاني المولى. فقوله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أفاد شيئين: أن الله لا ينصرهم، وأنه إذا لم ينصرهم فلا ناصر لهم، وأما إثبات المولى للمشركين في قوله تعالى {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} إلى قوله {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 28-30] فذلك المولى بمعنى آخر، وهو معنى: المالك والرب، فلا تعارض بينهم.
[12] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}
استئناف بياني جواب سؤال يخطر ببال سامع قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]
عن حال المؤمنين في الآخرة وعن رزق الكافرين في الدنيا، فبين الله أن من ولايته المؤمنين أن يعطيهم النعيم الخالد بعد النصر في الدنيا، وأن ما أعطاه الكافرين في الدنيا لا عبرة به لأنهم مسلوبون من فهم الإيمان فحظهم من الدنيا أكل وتمتع كحظ الأنعام، وعاقبتهم في عالم الخلود العذاب، فقوله {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} في معنى قوله في سورة آل عمران [197,196] {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}
وهذا الاستئناف وقع اعتراضا بين جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: من الآية10] وجملة {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [محمد: من الآية13] الآية.
(26/75)
والمجرور من قوله {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} في محل الحال من ضمير {يأكلون} ، أو في محل الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ل {يأكلون} لبيان نوعه.
والتمتع: الانتفاع القليل بالمتاع، وتقدم في قوله {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في سورة آل عمران،[197] وقوله {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف. [24]
والمثوى: مكان الثواء، والثواء: الاستقرار، وتقدم في قوله {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في الأنعام.
وعدل عن الإضافة فقيل {مَثْوىً لَهُمْ} بالتعليق باللام التي شأنها أن تنوى في الإضافة ليفاد بالتنوين معنى التمكن من القرار في النار مثوى، أي مثوى قويا لهم لأن الإخبار عن النار في هذه الآية حصل قبل مشاهدتها، فلذلك أضيفت في قوله {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} لأنه إخبار عنها وهم يشاهدونها في المحشر.
[13] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: من الآية10] وما بينهما استطراد اتصل بعضه ببعض. وكلمة {كأين} تدل على كثرة العدد، وتقدم في سورة آل عمران وفي سورة الحج.
والمراد بالقرية: أهلها، بقرينة قوله {أهلكناهم} ، وإنما أجري الإخبار على القرية وضميرها لإفادة الإحاطة بجميع أهلها وجميع أحوالهم وليكون لإسناد إخراج الرسول إلى القرية كلها وقع من التبعة على جميع أهلها سواء منهم من تولى أسباب الخروج، ومن كان ينظر ولا ينهى قال تعالى {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة: من الآية9].
وهذا إطناب في الوعيد لأن مقام التهديد والتوبيخ يقتضي الإطناب، فمفاد هذه الآية مؤكد لمفاد قوله {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: من الآية10] فحصل توكيد ذلك بما هو مقارب له من إهلاك الأمم ذوات القرى والمدن بعد أن شمل قوله {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كان من أهل القرى، وزاد هنا التصريح بأن الذين من قبلهم كانوا أشد قوة منهم ليفهموا أن إهلاك هؤلاء هين على الله، فإنه لما كان التهديد السابق تهديدا بعذاب السيف من قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: من الآية4] الآيات، قد يلقى في نفوسهم غرورا فتعذر استئصالهم بالسيف
(26/76)
وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكة يستكينوا لهذا التهديد، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله {قريتك} ، ووصفها ب {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قريته قال تعالى {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: من الآية191]
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من مكة وهي قريته، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك} ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه، فقوله {أخرجتك} من باب قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان، وهو استعارة على التحقيق، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال. وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم، أي المنقذ لهم من الإهلاك.
والمقصود: التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق.
وضمير {لهم} عائد إلى {من قرية} لأن المراد بالقرى أهلها. والمعنى: أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك.
واسم الفاعل في قوله {فلا ناصر} مراد به الجنس لوقوعه بعد "لا" النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل بل مجرد الاتصاف بالمصدر
(26/77)
وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكة يستكينوا لهذا التهديد، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.
وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله {قريتك} ، ووصفها ب {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قريته قال تعالى {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: من الآية191]
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من مكة وهي قريته، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك} ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه، فقوله {أخرجتك} من باب قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان، وهو استعارة على التحقيق، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال. وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم، أي المنقذ لهم من الإهلاك.
والمقصود: التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق.
وضمير {لهم} عائد إلى {من قرية} لأن المراد بالقرى أهلها. والمعنى: أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك.
واسم الفاعل في قوله {فلا ناصر} مراد به الجنس لوقوعه بعد "لا" النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل بل مجرد الاتصاف بالمصدر
(26/78)
وهذا الفريق هم المؤمنون وهم ثابتون على الدين واثقون بأنهم على الحق. فلا جرم يكون لهم الفوز في الدنيا لأن الله يسر لهم أسبابه فإن قاتلوا كانوا على ثقة بأنهم على الحق وأنهم صائرون إلى إحدى الحسنيين فقويت شجاعتهم، وإن سالموا عنوا بتدبير شأنه وما فيه نفع الآمة والدين فلم يألوا جهدا في حسن أعمالهم،وذلك من آثار أن الله أصلح بالهم وهداهم. والفريق الذي زين له سوء عمله هم المشركون، فإنهم كانوا في أحوال السوأى من عبادة الأصنام والظلم والعدوان وارتكاب الفواحش، فلما نبههم الله لفساد أعمالهم بأن أرسل إليهم رسولا بين لهم صالح الأعمال وسيئاتها لم يدركوا ذلك ورأوا فسادهم صلاحا فتزينت أعمالهم في أنظارهم ولم يستطيعوا الإقلاع عنها وغلب الفهم وهواهم على رأيهم فلم يعبأوا باتباع ما هو صلاح لهم في العاجل والآجل، فلذلك معنى قوله {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} بإيجاز.
وبني فعل {زين} للمجهول ليشمل المزينين لهم من أئمة كفرهم، وما سولته لهم أيضا عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغترارا بالإلف أو اتباعا للذات العاجلة أو لجلب الرئاسة، أي زين له مزين سوء عمله، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضا ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأملوا فيمن زين لهم سوء أعمالهم. ولما كان تزيين أعمالهم لهم يبعثهم على الدأب عليها كان يتولد من ذلك إلفهم بها وولعهم بها فتصير لهم أهواء لا يستطيعون مفارقتها أعقب بقوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
والفرق بين الفريقين بين للعاقل المتأمل بحيث يحق أن يسأل عن مماثلة الفريقين سؤال من يعلم انتفاء المماثلة وينكر على من عسى أن يزعمها.
والمراد بانتفاء المماثلة الكناية عن التفاضل، والمقصود بالفضل ظاهر وهو الفريق الذي وقع الثناء عليه.
[15] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}
استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [محمد:12] مما يستشرف السامع إلى تفصيل بعض صفاتها، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار موهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها، فلما فرغ من توصيف حال
(26/79)
فريقي الإيمان والكفر، ومما أعد لكليهما، ومن إعلان تباين حاليهما ثني العنان إلى بيان ما في الحنة التي وعد المتقون، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله {مَثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: ما سيوصف أو ما سيتلى عليكم، أو مما يتلى عليكم.
وقوله {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دل عليه ما سبق من قوله {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد: من الآية14]. والتقدير: أكمن هو خالد في النار. والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية.
ويجوز أن تكون جملة {مَثَلُ الْجَنَّةِ} بدلا من جملة {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري. والخبر قوله {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة، فحصل نحو الاحتباك إذ دل {مَثَلُ الْجَنَّةِ} على مثل أصحابها ودل مثل من هو خالد في النار على مثل النار.
والمقصود: بيان البون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} إلى آخره، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وقال بعده {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يسوي بين المتمسك ببينة ربه وبين التابع لهواه، أي هو أيضا كالذي يسوي بين الجنة ذات تلك الصفات وبين النار ذات صفات ضدها.
وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، وثلث بقوله {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلخ.
والمثل: الحال العجيب.
وجملة {فِيهَا أَنْهَارٌ} وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة {مَثَلُ الْجَنَّةِ} فهو استئناف، أو بدل مفصل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل.
والأنهار: جمع نهر، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض، وتقدم في قوله تعالى {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} في سورة البقرة. [249]
فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من
(26/80)
لبن وخمر وعسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ، أي مماثلة للأنهار، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مبهج. ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار. وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعز ما يتيسر الحصول عليه، فكيف الكثير منها، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة. وتناول هذه الأصناف من التفكه الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية.
وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغدران والأحواض بالبادية تمتلئ من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياما أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء، وشرب الوحوش وقليل البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية. وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حلبة واحدة أو حلبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير. فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلا في الطائف، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زمانا في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضا خوف انتهابها.
والعسل هو أيضا من أشربتهم، قال تعالى في النحل[69] {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} والعرب يقولون: سقاه عسلا، ويقولون: أطعمه عسلا. وكان العسل مرغوبا فيه يجتلب من بلاد الجبال ذات النبات المستمر. فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان.
والآسن: وصف من أسن الماء من باب ضرب ونصر وفرح، إذا تغير لونه. وقرأه ابن كثير {أسن} بدون ألف بعد الهمزة على وزن فعل للمبالغة.
والخمر: عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين.
و {لذة} وصف وليس باسم، وهو تأنيث اللذ، أي اللذيذ قال بشار:
ذكرت شبابي اللذ غير قريب ... ومجلس لهو طاب بين شروب
واللذاذة: انفعال نفساني فيه مسرة، وهي ضد الألم وأكثر حصوله من الطعوم
(26/81)
والأشربة والملامس البدنية، فوصف خمر هنا بأنها {لذة} معناه يجد شاربها لذاذة في طعمها، أي بخلاف خمر الدنيا فإنها حريقة الطعم فلولا ترقب ما تفعله في الشارب من نشوة وطرب لما شربها لحموضة طعمها.
والعسل المصفى: الذي خلص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه، وتقدم الكلام على العسل وتربيته في سورة النحل.
ومعنى {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أصناف من جميع أجناس الثمرات، فالتعريف في {الثمرات} للجنس، و {كل} مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة. و {من} تبعيضية، وهذا كقوله تعالى {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52].
و {مغفرة} عطف على {أنهار} وما بعده، أي وفيها مغفرة لهم، أي تجاوز عنهم، أي إطلاق في أعمالهم لا تكليف عليهم كمغفرته لأهل بدر إذ بينت بأن يعملوا ما شاؤوا في الحديث لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقد تكون المغفرة كناية عن الرضوان عليهم كما قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: من الآية72].
وتقدير المضاف في {مثله} ظاهر للقرينة.
وقوله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً} جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} إلى قوله {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات. وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه. ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار إلى ذكر في قوله تعالى {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} وقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:62] إلى قوله {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66-67]
وضمير {سقوا} راجع إلى {مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} باعتبار معنى "من" وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله {هو خالد} .
والأمعاء: جمع معى مقصورا وبفتح الميم وكسرها، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة. ويسمى عفج بوزن كتف.
(26/82)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً}
ضمير {ومنهم} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد:12] الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} وقوله {خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ}
وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: من الآية42] وقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: من الآية25] للفرق الواضح بين الأسلوبين، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسروا الكفر وتظاهروا بالإيمان، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار. وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار.
ومعنى {َسْتَمِعُ إِلَيْك} َ يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن. وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة. روي عن الكلبي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول ورفاعة بن الثابوت، والحارث بن عمرو، وزيد بن الصلت، ومالك بن الدخشم.1
والاستماع: أشد السمع وأقواه، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون علي وعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يلقون إليه بالهم، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله. وحق فعل استمع أن يعدى إلى المفعول بنفسه كما في قوله {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الاحقاف: من الآية29] فإذا أريد تعلقه بالشخص المسموع منه يقال: استمع إلى فلان كما قال هنا {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن.
و {حتى} في قوله {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} ابتدائية و {إذا} اسم زمان متعلق ب {قالوا} .
والمعنى: فإذا خرجوا من عندك قالوا الخ.
ـــــــ
1 أي في أول المدة من الهجرة ثم حسن إسلام مالك بن الدخشم وشهد بدرا وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص إسلامه كما في حديث عتاب بن مالك في "صحيح البخاري".
(26/83)
والخروج: مغادرة مكان معين محصورا وغير محصور، فمنه {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: من الآية100] ومنه {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: من الآية110]
والخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ {عندك} .
و{من} لتعدية فعل {خرجوا} وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالى {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية89]
والذين أوتوا العلم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمون لمجلسه. وسمي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس. وروي عنه أنه قال: أنا منهم وسئلت فيمن سئل.
والمعنى: أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول {يستمعون} ليشمل ذلك.
ومعنى {آنفا} : وقتا قريبا من زمن التكلم ، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية. قال الزجاج: هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه ا ه يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنف، أي جارحة الشم وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يبدو لراكبه فيأخذ بخطامه، فلوحظ في اسم الأنف معنى الوصف بالظهور، وكني بذلك عن القرب، وقال غيره: هو مشتق من أنف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يشرب منها من قبل، وتوصف به الروضة التي لم ترع قبل، كأنهم لاحظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد، أي زمن قريب، ف {آنفا} زمانا لم يبعد العهد به. قال ابن عطية: والمفسرون يقولون: آنفا معناه: الساعة القريبة منا وهذا تفسير المعنى اه. وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا. وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل، فهذا اسم غريب التصريف ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ.
واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ {أنفا} بوزن كتف. وقد أنكر بعض علماء القراءات نسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة. فإذا صحت هذه الرواية عن البزي عنه كان {أنفا} حالا من ضمير {مَنْ يَسْتَمِعُ} أجري على الإفراد رعيا للفظ {من} . ومعناه: أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة، أي التكبر إظهارا لترفعه عن وعي ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي الكلام عند ماذا. وزعم أبو علي في الحجة: أن البزي توهمه مثل: حاذر وحذر. ولا يظن مثل هذا بالبزي لو صحت الرواية عنه عن ابن كثير.
(26/84)
وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فهو سؤال ينبئ عن مذمة سائليه، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه. ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم: إنما نحن مستهزؤون، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاما لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس من يحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تعريضا لقلة جدوى حضورها. ويجوز أن تكون الآية أشارت إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين وأحوالهم وعلم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيون بذلك، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيون، فيكون مفعول {يستمعون} محذوفا للعلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
استئناف بياني لأن قولهم {مَاذَا قَالَ آنِفاً} سؤال غريب من شأنه إثارة سؤال من يسأل عن سبب حصوله على جميع التقادير السابقة في مرادهم منه.
وجيء باسم الإشارة بعد ذكر صفاتهم تشهيرا بهم، وجيء بالموصول وصلته خبرا عن اسم الإشارة لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس أنهم فريق مطبوع على قلوبهم لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم وأنهم متبعون لأهوائهم، فأفادت أن هؤلاء المستمعين زمرة من ذلك الفريق، فهذا التركيب على أسلوب قوله تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة. [5]
والطبع على القلب: تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكتاب المطبوع عليه، أو الإناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحاول الوصول إلى داخله، فمعناه أن الله خلق قلوبهم، أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى. وهذا الطبع متفاوت يزول بعضه عن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقع، وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخرة. وفسر المعتزلة اللطف بإيصال المنافع إلى العبد من وجه يدق
(26/85)
إدراكه وتمكينه بالقدرة والآلات.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} جملة معترضة بين جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: من الآية25] وما فيهم عنها من قوله {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [محمد: من الآية18] والواو اعتراضية. والمقصود من هذا الاعتراض: مقابلة فريق الضلالة بفريق الهداية على الأسلوب الذي أقيمت عليه هذه السورة كما تقدم في أولها. فهذا أسلوب مستمر وإن اختلفت مواقع جمله.
والمعنى: والذين شرح الله صدرهم للإيمان فاهتدوا لطف الله بهم فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى، فاتقوا وغالبوا أهواءهم. وإيتاء التقوى مستعار لتيسير أسبابها إذ التقوى معنى نفساني، والإيتاء يتعدى حقيقة للذوات. وإضافة التقوى إلى ضمير {الَّذِينَ اهْتَدَوْا} إيماء إلى أنهم عرفوا بها واختصت بهم.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}
تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد، ولأن المؤمنين ينتظرون أمورا أخر مثل النصر والشهادة، قال تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: من الآية52] الآية. والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] الآية.
والاستفهام إنكار مشوب بتهكم، وهو إنكار وتهكم على غائبين، موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتا من العقاب، فإنهم مرجون إلى الساعة.
وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: من الآية12].
والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي، نزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات
(26/86)
في الدنيا منزلة العدم لضآلة أمره بعد أن نزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها. و {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} بدل اشتمال من الساعة.
و {بغتة} حال من الساعة قال تعالى {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} والبغتة: الفجأة، وهو مصدر بمعنى: المرة، والمراد به هنا الوصف، أي مباغتة لهم.
ومعنى الكلام: أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم، فحالهم كحال من ينتظر شيئا فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء، هذه الاستعارة تهكمية.
والفاء من قوله {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم.
والأشراط: جمع شرط بفتحتين، وهو: العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه.
وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة. وهذا القرب يتصور بصورتين:
إحداهما أن وقت الساعة قريب قربا نسبيا بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق.
والثانية: أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية. وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعا القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار رواه الترمذي. وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعا إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ونهاية حياء المرء قريبة وإن طال العمر.
والأشراط بالنسبة للصورة الأولى: الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}
(26/87)
تفريع على {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} و{أنى} اسم يدل على الحالة، ويضمن معنى الاستفهام كثيرا وهو هنا استفهام إنكاري، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة، والمقصود: إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذ.
و {أنى} مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة. و {ذكراهم} مبتدأ أول و {لهم} خبر عن {أنى} ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} في سورة الدخان[13]، وضمير {جاءتهم} عائد إلى {الساعة} .
[19] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}
فرع على جميع ما ذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين ومن عواقب ذلك ووعده أو وعيده أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله وعلى ما هو دأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولأمته والتفريع هذا مزيد مناسبة لقوله آنفا {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] الآية.
فالأمر في قوله {فاعلم} كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم، وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك وعلمه المؤمنون، وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس لأن العلم لا يحتمل النقيض فليس الأمر به بعد حصوله لطلب تحصيله بل لطلب الثبات فهو على نحو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: من الآية136] وأما الأمر في قوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وعمله أو هو لطلب تحصيله أن لم يكن فعله من قبل.
وذكر {المؤمنات} بعد {المؤمنين} اهتمام بهن في هذا المقام وإلا فإن الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين وشموله للمؤمنات على طريقة التغليب للعلم بعموم تكاليف الشريعة للرجال والنساء إلا ما استثني من التكاليف.
ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وترجم البخاري في كتاب العلم من صحيحه باب العلم
(26/88)
قبل القول والعمل لقول الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم.
وما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم ليس من السيئات لعصمته منها، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها، وتسميته بالذنب في الآية إما محاكاة لما كان يكثر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله اللهم اغفر لي خطيئتي وإنما كان يقوله في مقام التواضع، وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل، وإطلاقه على ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "أنه 1 على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة"2.
واللام في قوله {لذنبك} لام التعيين بينت مفعولا ثانيا لفعل {استغفر}، واللام في قوله {وللمؤمنين} لام العلة، أو بمعنى "عن" والمفعول محذوف، أي استغفر الذنوب لأجل المؤمنين، وفي الكلام حذف، تقديره: وللمؤمنين لذنوبهم.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} تذييل جامع لأحوال ما تقدم. فالمتقلب: مصدر بمعنى التقلب، أوثر جلبه هنا لمزاوجة قوله {ومثواكم} . والتقلب: العمل المختلف ظاهرا كان كالصلاة، أو باطنا كالإيمان والنصح.
والمثوى: المرجع والمئال، أي يعلم الله أحوالكم جميعا من مؤمنين وكافرين، وقدر لها جزاءها على حسب علمه بمراتبها ويعلم مصائركم وإنما أمركم ونهاكم وأمركم بالاستغفار خاصة لإجراء أحكام الأسباب على مسبباتها فلا تيأسوا ولا تهملوا.
[21,20] {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين، فلما جرى
ـــــــ
1 يغان, أي يغام ويغشى. وفسروا ذلك بالغفلات عن الذكر.
2 رواه مسلم وأبو داود.
(26/89)
في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم، وذلك حين يدعى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين، وذلك أمر ليس بالهين لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يرجوا منه نفعا في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيصبحوا في حيرة. وكان حالهم هذا مخالفا لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن ينزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم، فبهذه المناسبة حكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة.
فالمقصود من هذه الآية هو قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية، وما قبله توطئة له بذكر سببه، وأفاد تقديمه أيضا تنويها بشأن الذين آمنوا، وأفاد ذكره مقابلة بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة. ومقال الذين آمنوا هذا كان سببا في نزول قوله تعالى {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها.
ومعلوم أن قول المؤمنين هذا واقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع: إما لقصد استحضار الحالة مثل {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: من الآية38]، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول.
وتبعا لذلك تكون {إذا} في قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} ظرفا مستعملا في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع، ونظر المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة.
و{لولا} حرف مستعمل هنا في التمني، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرص والحرص يدعو إلى التحضيض.
وحذف وصف {سورة} في حكاية قولهم {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} لدلالة ما بعده عليه من قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} لأن قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} أي كما تمنوا اقتضى أن المسؤول سورة يشرع فيها قتال المشركين. فالمعنى: لولا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه، فحذف الوصف إيجازا.
ووصف السورة ب {محكمة} باعتبار وصف آياتها بالإحكام، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات
(26/90)
في قوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} في سورة آل عمران،[7] أي لا تحتمل آيات تلك السورة المتعلقة بالقتال إلا وجوب القتال وعدم الهوادة فيه مثل قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: من الآية4] الآيات، فلا جرم أن هذه السورة هي التي نزلت إجابة عن تمني الذين آمنوا.
وإنما قال {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتى.
والخطاب في {رأيت} للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لاحق لقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: من الآية25].
و {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفي كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة. وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين، وأن النفاق مرض نفساني معضل لأنه تتفرع منه فروع بيناها في قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة. [10]
وانتصب {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} فهو على معنى التشبيه البليغ.
ووجه الشبه ثبات الحدقة وعدم التحريك، أي ينظرون إليك نظر المتحير بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} في سورة الأحزاب. [19]
و {من} هنا تعليلية، أي المغشي عليه لأجل الموت، أي حضور الموت.
وفرع على هذا قوله {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
وهذا التفريع اعتراض بين جملة {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وبين جملة {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ}
ولفظ {أولى} هنا يجوز أن يكون مستعملا في ظاهره استعمال التفضيل على شيء غير مذكور يدل عليه ما قبله، أي أولى لهم من ذلك الخوف الذي دل عليه نظرهم كالمغشي عليه من الموت، أن يطيعوا أمر الله ويقولوا قولا معروفا وهو قول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: من الآية285]، فذلك القول المعروف بين المؤمنين إذا دعوا أو أمروا كما قال
(26/91)
تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في سورة النور. [51]
وعلى هذا الوجه فتعدية {أولى} باللام دون الباء للدلالة على أن ذلك أولى وأنفع، فكان اجتلاب اللام للدلالة على معنى النفع. فهو مثل قوله تعالى {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: من الآية30] وقوله {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]
وهو يرتبط بقوله بعده {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
ويجوز أن يكون {فَأَوْلَى لَهُمْ} مستعملا في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} في سورة القيامة،[35,34] وهو الذي اقتصر الزمخشري عليه. ومعناه: أن الله أخبر عن توعده إياهم. ثم قيل على هذا الوجه إن {أولى} مرتبة حروفه على حالها من الولي وهو القرب، وأن وزنه أفعل. وقال الجرجاني: هو في هذا الاستعمال مشتق من الويل. فأصل أولى: أويل، أي أشد ويلا، فوقع فيه قلب، ووزنه أفلع. وفي الصحاح عن الأصمعي ما يقتضي: أنه يجعل "أولى له" مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: أقرب ما يهلكه، قال ثعلب: ولم يقل أحد في "أولى له" أحسن مما قال الأصمعي.
واللام على هذا الوجه إما مزيدة، أي أولاهم الله ما يكرهون فيكون مثل اللام في قول النابغة:
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
وإما متعلقة ب{أولى} على أنه فعل مضي، وعلى هذا الاستعمال يكون قوله {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} كلاما مستأنفا وهو مبتدأ خبره محذوف، أي طاعة وقول معروف خير لهم، أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر طاعة، وقول معروف، أي أمر الله أن يطيعوا.
{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
تفريع على وصف حال المنافقين من الهلع عند سماع ذكر القتال فإنه إذا جد أمر القتال، أي حان أن يندب المسلمون إلى القتال سيضطرب أمر المنافقين ويتسللون لواذا من حضور الجهاد، وأن الأولى لهم حينئذ أن يخلصوا الإيمان ويجاهدوا كما يجاهد المسلمون الخلص وإلا فإنهم لا محيص لهم من أحد أمرين: إما حضور القتال بدون نية
(26/92)
فتكون عليهم الهزيمة ويخسروا أنفسهم باطلا، وإما أن ينخزلوا عن القتال كما فعل ابن أبي وأتباعه يوم أحد.
و {إذا} ظرف للزمان المستقبل وهو الغالب فيها فيكون ما بعدها مقدرا وجوده، أي فإذا جد أمر القتال وحدث.
وجملة {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} دليل جواب {إذا} لأن {إذا} ضمنت هنا معنى الشرط، أي كذبوا الله وأخلفوا فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم، واقتران جملة الجواب بالفاء للدلالة على تضمين {إذا} معنى الشرط، وذلك أحسن من تجريده عن الفاء إذا كانت جملة الجواب شرطية أيضا.
والتعريف في {الأمر} تعريف العهد، أو اللام عن المضاف إليه، أي أمر القتال المتقدم آنفا في قوله {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}
والعزم: القطع وتحقق الأمر، أي كونه لا محيص منه. واستعير العزم للتعيين واللزوم على طريقة المكنية بتشبيه ما عبر عنه بالأمر، أي القتال برجل عزم على عمل ما وإثبات العزم له تخييله كإثبات الأظفار للمنية، وهذه طريقة السكاكي في جميع أمثلة المجاز العقلي، وهي طريقة دقيقة لكن بدون اطراد ولكن عندما يسمح بها المقام. وجعل في الكشاف إسناد العزم إلى الأمر مجازا عقليا، وحقيقته أن يسند لأصحاب العزم على طريق الجمهور في مثله وهو هنا بعيد إذ ليس المعنى على حصول الجد من أصحاب الأمر، ونظيره قوله تعالى {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: من الآية17] فالكلام فيها سواء.
ومعنى {صَدَقُوا اللَّهَ} قالوا له الصدق، وهو مطابقة الكلام لما في نفس الأمر، أي لو صدقوا في قولهم: نحن مؤمنون، وهم إنما كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أظهروا له خلاف ما في نفوسهم، فجعل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا على الله تفظيعا له وتهويلا لمغبته، أي لو أخلصوا الإيمان وقاتلوا بنية الجهاد لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا خير العزة والحرمة وفي الآخرة خير الجنة.
فهذه الآية إنباء مما سيكون منهم حين يجد الجد ويجيء أوان القتال وهي من معجزات القرآن في الإخبار بالغيب فقد عزم أمر القتال يوم أحد وخرج المنافقون مع جيش المسلمين في صورة المجاهدين فلما بلغ الجيش إلى الشوط بين المدينة وأحد قال عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين: ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس?
(26/93)
ورجع هو وأتباعه وكانوا ثلث الجيش وذلك سنة ثلاث من الهجرة، أي بعد نزول هذه الآية بنحو ثلاث سنين.
وقوله {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} جواب كما تقدم، وفي الكلام إيجاز لأن قوله {لَكَانَ خَيْراً} يؤذن بأنه إذا عزم الأمر حصل لهم ما لا خير فيه. ولفظ {خيرا} ضد الشر بوزن فعل، وليس هو هنا بوزن أفعل.
[22] {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد: من الآية21] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماما لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أحد. وقد قال عبد الله بن أبي: علام نقتل أنفسنا هاهنا? وربما قال في كلامه: وكيف نقاتل قريشا وهم من قومنا، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه. والخطاب موجه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات.
والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه ب {هل} الدالة على التحقيق لأنها في الاستفهام بمنزلة "قد" في الخبر، فالمعنى: أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: من الآية246] وهذا توبيخ كقوله تعالى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: من الآية85] والمعنى: أنكم تقعون فيما زعمتم التفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار. فالتولي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية246] وقوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم:33] وقوله {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60]. وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوت بين التفاسير. ومن المفسرين من حمل التولي على أنه مطاوع ولاه إذا أعطاه ولاية، أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار. وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني
(26/94)
هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها.
وقرأ نافع وحده {عسيتم} بكسر السين. وقرأه بقية العشرة بفتح السين وهما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير. قال أبو علي الفارسي: وجه الكسر أن فعله: عسي مثل رضي، ولم ينطقوا به إلا إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير، وإسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز، أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة، يقولون: عسى أن تفعلوا.
[23] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفا {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: من الآية16] ولا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: من الآية22] لأن ذلك لا يستوجب اللعنة ولا أن مرتكبيه بمنزلة الصم، على أن في صيغة المضي في أفعال: لعنهم، وأصمهم، وأعمى، ما لا يلاقي قوله {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: من الآية22] ولا ما في حرف "إن" من زمان الاستقبال.
واستعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم، كما استعير العمى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطربا فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضاره إلا بمعونة من يرشده، وكثر أن يقال: أعمى الله بصره، مرادا به أنه لم يهده، وهذه هي النكتة في مجيء تركيب {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} مخالفا لتركيب {فأصمهم} إذ لم يقل: وأعمالهم.
وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما.
[24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} تفريع على قوله {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: من الآية23]، أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين، أو تفريع على قوله {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} والمعنى: أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب.
والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. وحرف
(26/95)
{أم} للإضراب الانتقالي. والمعنى: بل على قلوبهم أقفال وهذا الذي سلكه جمهور المفسرين وهو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى {أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} في سورة الزخرف[52,51] ، خلافا لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في مغني اللبيب.
والتدبر: التفهم في دبر الأمر، أي ما يخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء، أي خلفه.
والأقفال: جمع قفل، وهو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب، أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة، والأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتنكير {قلوب} للتنويع أو التبعيض، أي على نوع من القلوب أقفال.
والمعنى: بل بعض القلوب عليها أقفال. وهذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن يدل بدلالة الالتزام أن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذوات الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم.
ويدنو من هذا قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
يريد نفسه لأنه وقع بعد قوله: تراك أمكنة البيت، أي أنا تراك أمكنة.
وإضافة "أقفال" إلى ضمير {قلوب} نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب، أي ملازمتها لها فدل على أنها قاسية.
[25] {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون، فيجوز أن يكون مرادا به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان وهم الذين مثلهم الله في سورة البقرة بقوله {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} الآية.
(26/96)
والارتداد على الأدبار على هذا الوجه: تمثيل للراجع إلى الكفر بعد الإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه. ولما كان الارتداد سيرا إلى الجهة التي كانت وراء السائر جعل الارتداد إلى الأدبار، أي إلى جهة الأدبار. وجيء بحرف {على} للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال: على صراط مستقيم.
والهدى: الإيمان، وتبين الهدى لهم على هذا الوجه تبين حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان.
وعلى هذا الوجه فالإتيان بالموصول والصلة ليس إظهارا في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم.
ويجوز أن يكون مرادا به جميع المنافقين، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة معه وسماع القرآن والمواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة، أي رجعوا إلى أقوال الكفر وأعماله وذلك إذا خلوا إلى شياطينهم، وتبين الهدى على هذا الوجه كونه بينا في نفسه، وهو بين لهم لوضوح أدلته ولا غبار عليه، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: من الآية2]، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين.
ويجوز أن يكون المراد به قوما من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق. وهذا قول ابن عباس والضحاك والسدي، وعليه فلعل المراد: الجماعة الذين انخزلوا يوم أحد مع عبد الله بن أبي بن سلول، والارتداد على الأدبار على هذا الوجه حقيقة لأنهم رجعوا عن موقع القتال بعد أن نزلوا به فرجعوا إلى المدينة وكانت المدينة خلفهم. وهذا عندي أظهر الوجهين وأليق بقوله بعد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} إلى قوله {وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27,26]. والهدى على هذا الوجه هو الحق، أي من بعد ما علموا أن الحق قتال المشركين.
وأوثر أن يكون خبر "إن" جملة ليتأتى بالجملة اشتمالها على خصائص الابتداء باسم الشيطان للاهتمام به في غرض ذمهم، وأن يسند إلى اسمه مسند فعلي ليفيد تقوي الحكم نحو: هو يعطي الجزيل.
والتسويل: تسهيل الأمر الذي يستشعر منه صعوبة أو ضر وتزيين ما ليس بحسن.
والإملاء: المد والتمديد في الزمان، ويطلق على الإبقاء على الشيء كثيرا، أي أراهم الارتداد حسنا دائما كما حكى عنه في قوله تعالى {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120]، أي أن ارتدادهم من عمل الشيطان.
(26/97)
وقرأ الجمهور {وَأَمْلَى لَهُمْ} بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل. وقرأه أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول. وقرأه يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وسكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى الله تعالى، أي الشيطان سول لهم وأنا أملي لهم فيكون الكلام وعيدا، أي أنا أؤخرهم قليلا ثم أعاقبهم.
[26] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى، فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عندما تبين لهم الهدى فسول لهم أن يوافقوا أهل الشرك والكفر في بعض الأمور مسولا إن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم. وهذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد.
فمعنى {قالوا} : قالوا قولا عن اعتقاد ورأي، وإنما قالوا {فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض.
و {لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} هم الذين كرهوا القرآن وكفروا، وهم: إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]
وقد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين، ولعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين ويتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد.
وإما اليهود من قريظة والنضير فقد حكى الله عنهم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11]
فالمراد ب {بَعْضِ الْأَمْرِ} على الوجه الأول في محمل قوله {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم وإشعارهم بوفرة عدد المنافقين وإن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال. والمراد ب{بَعْضِ الْأَمْرِ} على الوجه الثاني بعض أمر القتال، يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين.
(26/98)
والأمر هو: شأن الشرك وما يلائم أهله، أي نطيعكم في بعض الكفر ولا نطيعكم في جميع الشؤون لأن ذلك يفضح نفاقهم، أو المراد في بعض ما تأمروننا به من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول كالخلق على المخلوق.
وأيا ما كان فهم قالوا ذلك للمشركين سرا فأطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك قال تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}
وقرأ الجمهور {أسرارهم} بفتح الهمزة جمع سر. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر الهمزة مصدر أسر.
[27] {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: من الآية25] الآية وما بينهما متصل بقوله {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدأ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد. ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد: إذا كانوا فروا من القتال هلعا وخوفا فكيف إذا توفتهم الملائكة، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال. وهذا يقتضي شيئين: أولهما أنهم ميتون لا محالة، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب.
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]
وقوله {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: من الآية81]
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت.
والمقصود: وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت. ولما جعل هذا العذاب محققا وقوعه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاما مستعملا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلا من أمر غير معهود، والسياق يدل على الفظاعة.
و {إذا} متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام، تقديره: كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة.
(26/99)
وكثر حذف متعلق {كيف} في أمثال هذا مقدرا مؤخرا عن {كيف} وعن {إذا} كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]. والتقدير: كيف يصنعون ويحتالون.
وجعل سيبوية {كيف} في مثله ظرفا وتبعه ابن الحاجب في الكافية. ولعله أراد الفرار من الحذف.
وجملة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} حال من {الملائكة} . والمقصود من هذه الحال: وعيدهم بهذه الميتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، أي يضربون وجوههم التي وقوها من ضرب السيف حين فروا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي، أو العباس بن مرداس:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للنظام
ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفروا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم.
[28] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ} [محمد: من الآية27] كما تقدم آنفا. واتباعهم ما أسخط الله: هو اتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
وفي ذكر اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه محسن الطباق مرتين للمضادة بين السخط والرضوان، والاتباع والكراهية. والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار، ففي الكلام أيضا محسن اللف والنشر المرتب. فكان ذلك التعذيب مناسبا لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.
(26/100)
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سببا في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم.
والإحباط: إبطال العمل، أي أبطل انتفاعهم بأعمالهم التي عملوها مع المؤمنين من قول كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وغير ذلك. وتقدم ما هو بمعناه في أول السورة.
[29] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}
انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لآمالهم.
و {أم} منقطعة في معنى "بل" للإضراب الانتقالي، والاستفهام المقدر بعد {أم} للإنكار.
وحرف "لن" لتأييد النفي، أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل، كما انتفى ذلك فيما مضى، فلعل الله أن يفضح نفاقهم.
واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه، ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحا للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفي إذ هو عضو باطن فناسب المرض الخفي.
والإخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الإخراج استلال شيء من مكمنه، فاستعير بخبر خفي.
والأضغان: جمع ضغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة.
والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر، وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله:
الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}
(26/101)
كان مرض قلوبهم خفيا لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان، فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحدا واحدا فيعرف ذواتهم بعلاماتهم.
والسيمى بالقصر: العلامة الملازمة، أصله: وسمى بوزن فعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء، وهو بكسر أوله. فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سومى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وتقدم عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: من الآية273] في سورة البقرة.
والمعنى: لأريناك أشخاصهم فعرفتهم، أو لذكرنا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول صلى الله عليه وسلم. فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية سيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند. ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بالمنافقين أو ببعضهم، ولكن إذا صح هذا فإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام، ويحتمل أن الله قال هذا إكراما لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يطلعه عليهم.
واللام في {لأريناكهم} لام جواب {لو} التي تزاد فيه غالبا.
واللام في {فلعرفتهم} تأكيد للام {لأريناكهم} لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإرادة.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}
هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم {لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} من عدم وقوع المشيئة لإرادته إياهم بنعوتهم.
والمعنى: فان لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز.
واللام في {ولتعرفنهم} لام القسم المحذوف.
ولحن القول: الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يراد أن يفهمه دون أن
(26/102)
يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية قال القتال الكلائي:
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
تذييل، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيئة على أعمالهم، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29]
واجتلاب المضارع في قوله {يعلم} للدلالة على أن علمه بذلك مستمر.
[31] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
عطف على قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]. ومعناه معنى الاحتراس مما قد يتوهم السامعون من قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} من الاستغناء عن التكليف.
ووجه هذا الاحتراس أن علم الله يتعلق بأعمال الناس بعد أن تقع ويتعلق بها قبل وقوعها فإنها ستقع ويتعلق بعزم الناس على الاستجابة لدعوة التكاليف قوة وضعفا، ومن عدم الاستجابة كفرا وعنادا، فبين بهذه الآية أن من حكمة التكاليف أن يظهر أثر علم الله بأحوال الناس وتقدم الحجة عليهم.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب لكل عبد مقعده من الجنة أو من النار". فقالوا: أفلا نتكل على ما كتب لنا? قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ، وقرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10]
والبلو: الاختبار وتعرف حال الشيء. والمراد بالابتلاء الأمر والنهي في التكليف، فإنه يظهر به المطيع والعاصي والكافر، وسمي ذلك ابتلاء على وجه المجاز المرسل لأنه يلزمه الابتلاء وإن كان المقصود منه إقامة مصالح الناس ودفع الفساد عنهم لتنظيم أحوال
(26/103)
حياتهم ثم ليترتب عليه مئال الحياة الأبدية في الآخرة. ولكن لما كان التكليف مبينا لأحوال نفوس الناس في الامتثال وممحصا لدعاويهم وكاشفا عن دخائلهم كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء، وإلا فإن الله تعالى يعلم تفاصيل أحوالهم، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف فأشبهت الاختبار، فإطلاق اسم الابتلاء على التكليف مجاز مرسل وتسمية ما يلزم التكليف من إظهار أحوال النفوس ابتلاء استعارة، ففي قوله {ولنبلوكم} مجاز مرسل واستعارة.
و {حتى} حرف انتهاء فما بعدها غاية للفعل الذي قبلها وهي هنا مستعملة في معنى لام التعليل تشبيها لعلة الفعل بغايته فإن غاية الفعل باعث لفاعل الفعل في الغالب، فلذلك كثر استعمال {حتى} بمعنى لام التعليل كقوله تعالى { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: من الآية7].
فالمعنى: ولنبلوكم لنعلم المجاهدين منكم والصابرين، وليس المراد انتهاء البلوى عند ظهور المجاهدين منهم والصابرين.
وعلة الفعل لا يلزم انعكاسها، أي لا يلزم أن لا يكون للفعل علة غيرها فللتكليف علل وأغراض عديدة منها أن تظهر حال الناس في قبول التكليف ظهورا في الدنيا تترتب عليه معاملات دنيوية.
وعلم الله الذي جعل علة للبلو هو العلم بالأشياء بعد وقوعها المسمى علم الشهادة لأن الله يعلم من سيجاهد ومن يصبر من قبل أن يبلوهم ولكن ذلك علم غيب لأنه قبل حصول المعلوم في عالم الشهادة.
والأحسن أن يكون {حَتَّى نَعْلَمَ} مستعملا في معنى حتى نظهر للناس الدعاوي الحق من الباطلة، فالعلم كناية عن إظهار الشيء المعلوم بقطع النظر عن كون إظهاره للغير كما هنا أو للمتكلم كقول اياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لا علم من جبانها من شجاعها
أراد ليظهر للناس أنه شجاع ويظهر من هو من القوم جبان، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
(26/104)
وبلو الإخبار: ظهور الأحدوثة من حسن السمعة وضده. وهذا في معنى قول الأصوليين ترتب المدح والذم عاجلا، وهو كناية أيضا عن أحوال أعمالهم من خير وشر لأن الأخبار إنما هي أخبار عن أعمالهم، وهذه علة ثانية عطفت على قوله {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} وإنما أعيد عطف فعل {نبلو} على فعل {نعلم} وكان مقتضى الظاهر أن يعطف {أخباركم} بالواو على ضمير المخاطبين في {لنبلونكم} ولا يعاد {نبلو} ، فالعدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى هذا التركيب للمبالغة في بلو الأخبار لأنه كناية عن بلو أعمالهم وهي المقصود من بلو ذواتهم، فذكره كذكر العام بعد الخاص إذ تعلق البلو الأول بالجهاد والصبر، وتعلق البلو الثاني بالأعمال كلها، وحصل مع ذلك تأكيد البلو تأكيدا لفظيا. وقرأ الجمهور {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} {ونبلو} بالنون في الأفعال الثلاثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم تلك الأفعال الثلاثة بياء الغيبة والضمائر عائدة إلى اسم الجلالة في قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} وقرأ الجمهور {ونبلو} بفتح الواو عطفا على {نعلم} . وقرأه رويس عن يعقوب بسكون الواو عطفا على {ولنبلونكم}.
[32] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}
الظاهر أن المعني بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة، ثم جرى ذكر المنافقين، بعد ذلك ثني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضا ليعرف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يلحقهم منهم أدنى ضر، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: من الآية35]. وفعل {شاقوا} مشتق من كلمة شق بكسر الشين وهو الجانب، والمشاقة المخالفة، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة.
(26/105)
وتبين الهدى لهم: ظهور ما في دعوة الإسلام من الحق الذي تدركه العقول إذا نبهت إليه، وظهور أن أمر الإسلام في ازدياد ونماء، وأن أمور الآخرين في إدبار، فلم يردعهم ذلك عن محاولة الإضرار بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]. فحصل من مجموع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن الإسلام دين الله.
وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير، وعليه فمشاقتهم الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة خفية مشاقة كيد ومكر، وتبين الهدى لهم ظهور أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، فتكون الآية تمهيدا لغزو قريظة والنضير.
وانتصب {شيئا} على المفعول المطلق ل {يضروا} والتنوين للتقليل، أي لا يضرون في المستقبل الله أقل ضر. وإضرار الله أريد به إضرار دينه لقصد التنويه والتشريف لهذا الدين بقرينة قوله {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}
والإحباط: الإبطال كما تقدم آنفا. ومعنى إبطال أعمالهم بالنسبة لأعمالهم في معاملة المسلمين أن الله يلطف برسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتيسير أسباب نصرهم وانتشار دينه، فلا يحصل الذين كفروا من أعمالهم للصد والمشاقة على طائل. وهذا كما تقدم في تفسير قوله {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1].
وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل، وهذا التحقيق مثل ما في قوله في سورة يوسف {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: من الآية98]
[33] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
اعتراض بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد: من الآية32] وبين جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [محمد: 34] وجه به الخطاب إلى المؤمنين بالأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يبطل الأعمال الصالحة اعتبارا بما حكي من حال المشركين في الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فوصف الإيمان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مقابل وصف الكفر في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 32] وطاعة الله مقابل الصد عن سبيل الله، وطاعة الرسول ضد مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن إبطال الأعمال ضد بطلان أعمال الذين كفروا. فطاعة
(26/106)
الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها هي امتثال ما أمر به ونهى عنه من أحكام الدين. وأما ما ليس داخلا تحت التشريع فطاعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه طاعة انتصاح وأدب، ألا ترى أن بريرة لم تطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراجعة زوجها مغيث لما علمت أن أمره إياها ليس بعزم.
والإبطال: جعل الشيء باطلا، أي لا فائدة منه، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة.
ومعنى النهي عن إبطالهم الأعمال: النهي عن أسباب إبطالها، فهذا مهيع قوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . وتسمح محامله بأن يشمل النهي والتحذير عن كل ما بين الدين أنه مبطل للعمل كلا أو بعضا مثل الردة ومثل الرياء في العمل الصالح فإنه يبطل ثوابه. وهو عن ابن عباس قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] وكان بعض السلف يخشى أن يكون ارتكاب الفواحش مبطلا لثواب الأعمال الصالحة ويحمل هذه الآية على ذلك، وقد قالت عائشة لما بلغها أن زيد بن أرقم عقد عقدا تراه عائشة حراما أخبروا زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يترك فعله هذا ولعلها أرادت بذلك التحذير وإلا فما وجه تخصيص الإحباط بجهاده وإنما علمت أنه كان أنفس عمل عنده.
وعن الحسن البصري والزهري لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي الكبائر. ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب: أن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة وغزوت منها معه سبع عشرة غزوة. وهذه كلها من مختلف الأفهام في المعني بإبطال الأعمال وما يبطلها وأحسن أقوال السلف في ذلك ما روي عن ابن عمر قال كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا حتى نزل {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا? فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فكففنا عن القول في ذلك وكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها ا ه. فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها.
وعن مقاتل {لا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . بالمن وقال: هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا، يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضا قوله تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات: من الآية17]
وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع، والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة
(26/107)
أن الحسنات يذهبن السيئات ولم يجيء: أن السيئات يذهبن الحسنات، وقال {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]
وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات.
ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الانبياء: من الآية23] ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة. ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها. وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار، فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار.
وحمل بعض علمائنا قوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى. وإطلاق الإبطال على القطع وعدم الإتمام يشبه أنه مجاز، أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه، فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال، وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقا. ونسب ابن العربي في الأحكام مثله إلى مالك. ومثله القرطبي وابن الفرس. ونقل الشيخ الجد في حاشيته على المحلي عن القرافي في شرح المحصول ونقل حلولو في شرح جمع الجوامع عن القرافي في الذخيرة: أن مالكا قال بوجوب سبع نوافل بالشروع، وهي: الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحو الوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد، وزاد حلولو إلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولو في الأخير. ولم ير الشافعي وجوبا بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر.
[34] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
هذه الآية تكملة لآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} [محمد: من الآية32] الخ لأن تلك مسوقة لعدم الاكتراث بمشاقهم ولبيان أن الله مبطل صنائعهم وهذه مسوقة لبيان عدم انتفاعهم لمغفرة الله إذ ماتوا على ما هم عليه من الكفر فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
واقتران خبر الموصول بالفاء إيماء إلى أنه أشرف معنى الشرط فلا يراد به ذو صلة معين بل المراد كل من تحققت فيه ماهية الصلة وهي الكفر والموت على الكفر.
(26/108)
[35] {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}
الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدر لهم التعس، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكم ولم يجدوا ناصرا، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دار الخلد وبما أتبع ذلك من وصف كيد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم.
فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل الى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم.
ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31].
وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السلم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهيا عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا: لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر، يتربصون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق، وغزوة ذي قرد، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غير النبي صلى الله عليه وسلم لقبه فلقبه الفاسق.
كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة.
والوهن: الضعف والعجز، وهو هنا مجاز في طلب الدعة. ومعناه: النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبت في نفسه رويدا رويدا حتى تتمكن
(26/109)
منها فتصبح ملكة وسجية. فالمعنى: ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره، وأولها الدعاء إلى السلم وهو المقصود بالنهي. والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذ في حال وهن.
وعطف {وتدعوا} على {تهنوا} فهو معمول لحرف النهي، والمعنى: ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجه لأن الدعاء إلى المسلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة. وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعدة بالاستراحة من عدول العدو على المسلمين، فإن المشركين يومئذ كانوا متكالبين على المسلمين، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمنوا منهم، وجعلوا ذلك فرصة لينشوا الدعوة فعرفهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقع البأس.
ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسألة من العدو في حال قدرة المسلمين وخوف العدو منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} في سورة الأنفال،[61] فأنه سلم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعدة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة. فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخف ضرا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر. وقال عمر ابن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش فقد آثرت سلامة المسلمين. وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم.
وقرأ الجمهور {إلى السلم} بفتح السين. وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر
(26/110)
السين وهما لغتان. وجملة {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء، والخبر مستعمل في الوعد.
والأعلون: مبالغة في العلو. وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} أي والله جاعلكم غالبين.
{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} عطف على الوعد. والمعية معية الرعاية والكلاءة، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلا. والمعنى: وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره.
وصيغ كل من جملتي {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم.
وقوله {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها، أي لا يخيبها، وهو ما تقدم من قوله {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5,4]
يقال: وتره يتره وترا وترة كوعد، إذا نقصه، وفي حديث الموطأ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله. ويجوز أيضا أن يراد منه صريحه، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم، أي الجهاد المستفاد من قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملا.
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}
{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}
تعليل لمضمون قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] الآية، وافتتاحها ب"إن" مغن عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز، وليس اتصال "إن" ب"ما" الزائدة الكافة بمغير موقعها بدون "ما" لأن اتصالها بها زادها معنى الحصر.
والمراد ب {الحياة} أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافين.
واللعب: الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في
(26/111)
مرحهم.
واللهو: العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكد عقله.
والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ، شبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار.
وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدو بهم.
وحب الفتى طول الحياة يذله ... وإن كان فيه نخوة وعزام
{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}
الأشبه أن هذا عطف على قوله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] تذكيرا بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حب إبقاء المال الذي ينفق في الغزو، فذكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نهوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم، ولذلك وقع بعده قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله {عَنْ نَفْسِهِ} على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} مشيرا إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سببا في الخير الدائم.
والأجور هنا: أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى.
فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله {فَلا تَهِنُوا} الآية.
والمقصود من الجملة قوله {وتتقوا} وأما ذكر {تؤمنوا} فللاهتمام بأمر الإيمان. ووقوع {تؤمنوا} في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلا يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذ لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] الآية.
(26/112)
والظاهر أن جملة {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} إدماج، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}
وعطف {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} لمناسبة قوله {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفا.
ومعنى الآية: وإن تؤمنوا وتتقوا باتباع ما نهيتهم عنه يرض الله منكم بذلك ويكتف به ولا يسألكم زيادة عليه من أموالكم. فيعلم أن ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الإنفاق في سبيل الله إنما هو بقدر طاقتهم.
وهذه الآية في الإنفاق نظيرها قوله تعالى لجماعة من المسلمين في شأن الخروج إلى الجهاد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} في سورة براءة.[38]
فقوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} يفيد بعمومه وسياقه معنى لا يسألكم جميع أموالكم، أي إنما يسألكم ما لا يجحف بكم، فإضافة أموال وهو جمع إلى ضمير المخاطبين تفيد العموم، فالمنفي سؤال إنفاق جميع الأموال، فالكلام من نفي العموم لا من عموم النفي بقرينة السياق، وما يأتي بعده من قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
ويجوز أن يفيد أيضا معنى: أنه لا يطالبكم بإعطاء مال لذاته فإنه غني عنكم وإنما يأمركم بإنفاق المال لصالحكم كما قال {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: من الآية38]
وهذا توطئة لقوله بعده {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: من الآية38] أي ما يكون طلب بذل المال إلا لمصلحة الأمة، وأية مصلحة أعظم من دمغها العدو عن نفسها لئلا يفسد فيها ويستعبدها.
وأما تفسير سؤال الأموال المنفي بطلب زكاة الأموال فصرف للآية عن مهيعها فإن الزكاة مفروضة قبل نزول هذه السورة لأن الزكاة فرضت سنة اثنتين من الهجرة على الأصح.
وجملة {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سببا لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيكثر الارتداد والنفاق وذلك
(26/113)
يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان.
وهذا مراعاة لحال كثير يومئذ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم، قال تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وهذا يشير إليه عطف قوله {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سببا في ظهورها فكأنه أظهرها. وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد.
والإحفاء: الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وعن عبد الرحمان بن زيد: الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك، وهو تفسير غريب. وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة.
والبخل: منع بذل المال.
والضغن: العداوة، وتقدم آنفا عند قوله {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: من الآية29]
والمعنى: يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية، فلطف الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالا على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئا فشيئا لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد.
والضمير المستتر في {ويخرج} عائد إلى اسم الجلالة، وجوز أن يعود الى البخل المأخوذ من قوله {تبخلوا} أي من قبيل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: من الآية8].
وقرأ الجمهور {يخرج} بياء تحتية في أوله. وقرأه يعقوب بنون في أوله.
[38] {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}
كلام المفسرين من قوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} إلى قوله {عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 36-38]
(26/114)
يعرب عن حيرة في مراد الله بهذا الكلام. وقد فسرناه آنفا بما يشفي وبقي علينا قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا} الخ كيف موقعه بعد قوله {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفا {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}
فيجوز أن يكون المعنى: تدعون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}
ونظم الكلام يقتضي: أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاما لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلب حاصل. ويحمل {تدعون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب.
ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب، فتكون الآية تمهيدا للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ونحوها، ويجوز أن يكون إعلاما بأنهم سيدعون الى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملا في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصل وضعه.
وعلى الاحتمالين فقوله {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محل السياق لأن المرء قد يبخل بخلا ليس عائدا بخله عن نفسه.
ومعنى قوله {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} على الاحتمال الأول فإنما يبخل عن نفسه إذ يتمكن عدوه من التسلط عليه فعاد بخله بالضر عليه، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب باعتبار لازم بخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق، فالقصر مجاز مرسل مركب. وفعل "بخل" يتعدى ب {عن} لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب"على" لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه. وقد عدي هنا بحرف {عن} .
و {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} مركب من كلمة "ها" تنبيه في ابتداء الجملة، ومن ضمير الخطاب ثم من "ها" التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير ونظيره.
(26/115)
قوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة النساء. والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجردا عن "ها" اكتفاء ب هاء التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} في سورة آل عمران.[119]
وجملة {تدعون} في موضع الحال من اسم الإشارة، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولا واضحا وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ها أنا ونحوه لحن، لأنه لم يسمع دخول "ها" التنيبه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب مغني اللبيب، بناء على أن "ها" التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو: هذا وهؤلاء، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة. ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب المغني في ديباجة كتابه إذ قال: وها أنا بائح بما أسررته ، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه المزج على المغني، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب الحواشي الهندية أن تمثيل الزمخشري في المفصل بقوله ها إن زيدا منطلق يقتضي جواز: ها أنا أفعل، لكن الرضي قال: لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك.
وجملة {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالا في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}
والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصر، أي قصر الصفة على الموصوف، أي قصر جنس الغني على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب {أنتم} وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه، وإن كان يثبت بعض جنس الغنى لغيره. وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغنون في بعض الأحوال لكن ذلك غنى قليل وغير دائم.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}
عطف على قوله {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد: 36]. والتولي: الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم
(26/116)
كما استبدلوا دين الله بدين الشرك.
والاستبدال: التبديل، فالسين والتاء للمبالغة، ومفعوله {قوما} . والمستبدل به محذوف دل على تقديره قوله {غيركم} ، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه "غير" لتعين انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير: يستبدل قوما بكم لأن المستعمل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعول هو المعوض ومجرور الباء هو العوض كقوله {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} تقدم في سورة البقرة [61]. وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز.
والمعنى: يتخذ قوما غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوما آخرين إلا عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا: ومن يستبدل بنا? قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، هذا وقومه" قال الترمذي حديث غريب. وفي إسناده مقال.
وروى الطبراني في الأوسط: هذا الحديث على شرط مسلم وزاد فيه "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس".
وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتد البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم اثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم.
و {ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولي.
والجملة معطوفة ب"ثم" على جملة {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فهي في حيز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف، ويجوز رفعه على الاستئناف. وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] على الرفع. وأبدى الفخر وجها لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال: وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن هاهنا لا يكون متعلقا بالتولي لأنهم إن لم يتولوا
(26/117)
يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وهاهنا جزم للتعليق اه. وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلت الفاصلة.
(26/118)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
سورة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]
سميت في كلام الصحابة سورة الفتح. ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح فرجع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس" ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] ومعنى قوله لهي
(26/119)
أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: من الآية2].
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} إلى قوله {فَوْزاً عَظِيماً} [الفتح: 2-5] مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة. وعدة آيها تسع وعشرون. وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال رسول الله: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها" وفي رواية "من أولها إلى آخرها". أغراضها
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين. والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب. والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل. ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها. وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية. ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: من الآية20]
[1-3] {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}
افتتاح الكلام بحرف "إن" ناشئ على ما أحل للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث
(26/120)
عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقا بذلك، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريبا.
والفتح: إزالة غلق الباب أو الخزانة قال تعالى {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال: فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال: فتح بدر. وفتح أحد. فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} في سورة الصف.[13]
ولعل الذي حداهم على عد النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه. وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية سورة ألم السجدة. [28]
ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسرين: المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح. والمعنى: سنفتح. وإنما جيء في الأخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه، شبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي. أو نقول استعمل {فتحنا} بمعنى: قدرنا لك الفتح، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع. وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره، وذلك أيضا كناية عن علو شأن المخبر مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيها له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبدالله ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد، وعن البراء بن عازب تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ،يريد أنكم تحملون الفتح في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} على فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح. ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفل
(26/121)
قرأ رسول الله يوم فتح مكة سورة الفتح ، وفي رواية دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته.
على أن قرائن كثيرة ترجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح: أولاها أنه جعله مبينا.
الثانية: أنه جعل علته النصر العزيز الثانية ، ولا يكون الشيء علة لنفسه.
الثالثة: قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: من الآية18].
الرابعة: قوله {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: من الآية19].
الخامسة: قوله {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: من الآية27]
والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازا مرسلا باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتح مكة، أو كان سببا فيهما فعن الزهري لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجل الأمن بينهم، وعلموا وسمعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف اه، وفي رواية فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه. وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه، وصيغة الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب.
وقيل: هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجيء في قوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح: من الآية15]
وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب "إن" لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم، فعن عمر أنه لما نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: أو فتح هو يا رسول الله? قال: "نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح". وروى البهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله فقال: "بئس الكلام
(26/122)
هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين،فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون". فقال المسلمون: صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا.
وحذف مفعول {فتحنا} لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص.
واللام في قوله {فَتَحْنَا لَكَ} لام العلة، أي فتحنا لأجلك فتحا عظيما مثل التي في قوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافا للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة.
وقوله {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} بدل اشتمال من ضمير {لك} . والتقدير: إنا فتحنا فتحا مبينا لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك، وهدايتك صراطا مستقيما ونصرك نصرا عزيزا.. وجعلت مغفرة الله للنبي صلى الله عليه وسلم علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح، وليست لام التعليل مقتضية حصر الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة، فإن كثيرا من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها مما يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى كان من علته أن يغفر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مغفرة عامة إتماما للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح.
فالمعنى: أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسله حتى لا يبقى لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات. فجعل هذه المغفرة جزاء له على إتمام أعماله التي أرسل لأجلها من التبليغ والجهاد والنصب والرغبة إلى الله.
فلما كان الفتح حاصلا بسعيه وتسببه بتيسير الله له ذلك جعل الله جزاءه غفران ذنوبه بعظم أثر ذلك الفتح بإزاحة الشرك وعلو كلمة الله تعالى وتكميل النفوس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال حتى ينتشر الخير بانتشار الدين ويصير الصلاح خلقا للناس يقتدي فيه بعضهم ببعض وكل هذا إنما يناسب فتح مكة. وهذا هو ما تضمنته
(26/123)
سورة إذا جاء نصر الله من قوله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1-3] أي إنه حينئذ قد غفر لك أعظم مغفرة وهي المغفرة التي تليق بأعظم من تاب على تائب، وليست إلا مغفرة جميع الذنوب سابقها وما عسى أن يأتي منها مما بعده النبي صلى الله عليه وسلم ذنبا لشدة الخشية من أقل التقصير كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما من أن يأتي بعدها بما يؤاخذ عليه. وقال ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب، ولهذا المعنى اللطيف الجليل كانت سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} مؤذنة باقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال: تقدم السائر في سيره على الركب، ويقال: نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم وتأخر. وقد يترك ذلك اعتمادا على القرينة، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلق فينزل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات واكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية2]
والمراد ب {مَا تَقَدَّمَ}: تعميم المغفرة للذنب كقوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه تعالى رفع قدره رفعة عدم المؤاخذة بذنب لو قدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} في سورة القتال.[55]
وإنما أسند فعل {ليغفر} إلى اسم الجلالة العلم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصدا للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أنف لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ} لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما.
وإتمام النعمة: إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلها للدخول تحت حكمه، وخضوع من عانده وحاربه، وهذا ينظر
(26/124)
إلى قوله تعالى {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: من الآية3] فذلك ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وحصل بعد سنين.
ومعنى {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديه إليه، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية.
والصراط المستقيم: مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة. وتنوين {صراطا} للتعظيم. وانتصب {صراطا} على أنه مفعول ثان ل {يهدي} بتضمين معنى اإعطاء، أو بنزع الخافض كما تقدم في الفاتحة.
والنصر العزيز: غير نصر الفتح المذكور لأنه جعل علة الفتح فهو ما كان من فتح مكة وما عقبه من دخول قبائل العرب في الإسلام بدون قتال. وبعثهم الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقوا أحكام الإسلام ويعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم. ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبي صلى الله عليه وسلم المنصور، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع، وكالحكيم على أحد تأويلين.
والعزة: المنعة.
وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ} ولم يكتف بالضمير اهتماما بهذا النصر وتشريعا له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر والصراحة أدعى إلى السمع، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}
[4] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}
(26/125)
هذه الجملة بدل اشتمال من مضمون جملة {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} وحصل منها الانتقال إلى ذكر حظ المسلمين من هذا الفتح فإن المؤمنين هم جنود الله الذين قد نصر النبي صلى الله عليه وسلم بهم كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] فكان في ذكر عناية الله بإصلاح نفوسهم وإذهاب خواطر الشيطان عنهم وإلهامهم إلى الحق في ثبات عزمهم، وقرارة إيمانهم تكوين لأسباب نصر النبي صلى الله عليه وسلم والفتح الموعود به ليندفعوا حين يستنفرهم إلى العدو بقلوب ثابتة، ألا ترى أن المؤمنين تبلبلت نفوسهم من صلح الحديبية إذ انصرفوا عقبه عن دخول مكة بعد أن جاؤوا للعمرة بعدد عديد حسبوه لا يغلب، وأنهم إن أرادهم العدو بسوء أو صدهم عن قصدهم قابلوه فانتصروا عليه وأنهم يدخلون مكة قسرا. وقد تكلموا في تسمية ما حل بهم يومئذ فتحا كما علمت مما تقدم فلما بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقوا كاسفي البال شديدي البلبال، فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة، وسمي إحداثه في نفوسهم إنزالا للسكينة في قلوبهم فكان النصر مشتملا على أشياء من أهمها إنزال السكينة، وكان إنزال السكينة بالنسبة إلى هذا النصر نظير التأليف بين قلوب المؤمنين مع اختلاف قبائلهم وما كان بينهما من الأمن في الجاهلية بالنسبة للنصر الذي في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63,62]
وإنزالها: إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة، وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال تشريفا لذلك الوجدان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس فألقي إلى قلوب الناس، وتلك رفعة تخييلية مراد بها شرف ما أثبتت له على طريقة التخييلية. ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سببا لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحا، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء فإن زيادة الأدلة تؤثر رسوخ المستدل عليه في العقل وقوة التصديق. وهذا اصطلاح شائع في القرآن وجعل ذلك الازدياد كالعلة لإنزال السكينة في قلوبهم لأن الله علم أن السكينة إذا حصلت في قلوبهم رسخ إيمانهم، فعومل المعلوم حصوله من الفعل معاملة العلة وأدخل عليه حرف التعليل وهو لام كي وجعلت قوة الإيمان بمنزلة إيمان آخر دخل على الإيمان الأسبق لأن الواحد من أفراد الجنس إذا انضم
(26/126)
إلى أفراد أخر زادها قوة فلذلك علق بالإيمان ظرف {مع} في قوله {مَعَ إِيمَانِهِمْ} فكان في ذلك الحادث خير عظيم لهم كما كان فيه خير للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كان سببا لتشريفه بالمغفرة العامة ولإتمام النعمة عليه ولهدايته صراطا مستقيما ولنصره نصرا عزيزا، فأعظم به حدثا أعقب هذا الخير للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}
تذييل للكلام السابق لأنه أفاد أن لا عجب في أن يفتح الله لك فتحا عظيما وينصرك على أقوام كثيرين أشداء نصرا صحبه إنزال السكينة في قلوب المؤمنين بعد أن خامرهم الفشل وانكسار الخواطر، فالله من يملك جميع وسائل النصر وله القوة القاهرة في السماوات والأرض وما هذا نصر إلا بعض مما لله من القوة والقهر.
والواو اعتراضية وجملة التذييل معترضة بين جملة {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وبين متعلقها وهو {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] الآية.
وأطلق على أسباب النصر الجنود تشبيها لأسباب النصر بالجنود التي تقاتل وتنتصر.
وفي تعقيب جملة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} بجملة التذييل إشارة إلى أن المؤمنين من جنود الله وأن إنزال السكينة في قلوبهم تشديد لعزائمهم فتخصيصهم بالذكر قبل هذا العموم وبعده تنويه بشأنهم، ويومئ إلى ذلك قوله بعد {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية.
فمن جنود السماوات: الملائكة الذين أنزلوا يوم بدر، والريح التي أرسلت على العدو يوم الأحزاب، والمطر الذي أنزل يوم بدر فثبت الله به أقدام المسلمين. ومن جنود الأرض جيوش المؤمنين وعديد القبائل الذين جاءوا مؤمنين مقاتلين مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة مثل بني سليم، ووفود القبائل الذين جاءوا مؤمنين طائعين دون قتال في سنة الوفود.
والجنود: جمع جند، والجند اسم لجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمعه باعتبار تعدد الجماعات لأن الجيش يتألف من جنود: مقدمة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وساقة.
وتقديم المسند على المسند إليه في {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لإفادة الحصر، وهو حصر ادعائي إذ لا اعتداد بما يجمعه الملوك والفاتحون من الجنود لغلبة العدو بالنسبة لما لله من الغلبة لأعدائه والنصر لأوليائه. وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} تذييل لما قبله من الفتح والنصر وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين.
(26/127)
والمعنى: أنه عليم بأسباب الفتح والنصر وعليم بما تطمئن به قلوب المؤمنين بعد البلبلة وأنه حكيم يضع مقتضيات علمه في مواضعها المناسبة وأوقاتها الملائمة.
[5] {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً}
اللام للتعليل متعلقة بفعل {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] فما بعد اللام علة لعلة إنزال السكينة فتكون علة لإنزال السكينة أيضا بواسطة أنه علة العلة.
وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع توهم أن يكون الوعد بهذا الإدخال مختصا بالرجال. وإذ كانت صيغة الجمع صيغة المذكر مع ما قد يؤكد هذا التوهم من وقوعه علة أو علة علة للفتح وللنصر وللجنود وكلها من ملابسات الذكور، وإنما كان للمؤمنات حظ في ذلك لأنهن لا يخلون من مشاركة في تلك الشدائد ممن يقمن منهن على المرضى والجرحى وسقي الجيش وقت القتال ومن صبر بعضهن على الثكل أو التأيم، ومن صبرهن على غيبة الأزواج والأبناء وذوي القرابة.
والإشارة في قوله {وَكَانَ ذَلِكَ} إلى المذكور من إدخال الله إياهم الجنة.
والمراد بإدخالهم الجنة إدخال خاص وهو إدخالهم منازل المجاهدين وليس هو الإدخال الذي استحقوه بالإيمان وصالح الأعمال الأخرى.
ولذلك عطف عليه {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}
والفوز: مصدر، وهو الظفر بالخير والنجاح. و {عِنْدَ اللَّهِ} متعلق ب{ فوزا} ، أي فازوا عند الله بمعنى: لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة.
[6] {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
الحديث عن جنود الله في معرض ذكر نصر الله يقتضي لا محالة فريقا مهزوما بتلك الجنود وهم العدو، فإذا كان النصر الذي قدره الله معلولا بما بشر به المؤمنين فلا جرم اقتضى أنه معلول بما يسوء العدو وحزبه، فذكر الله من علة ذلك النصر أنه يعذب بسببه المنافقين حزب العدو، والمشركين صميم العدو، فكان قوله {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} معطوفا
(26/128)
على {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5].
والمراد: تعذيب خاص زائد على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب الكفر والنفاق وقد أومأ إلى ذلك قوله بعده {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}
والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفي فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه.
كان المنافقون لم يخرج منهم أحد إلى فتح مكة ولا إلى عمرة القضية لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين مظاهرين لهم ولأنهم كانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة وأنه يكون النصر للمشركين.
والتعذيب: إيصال العذاب إليهم وذلك صادق بعذاب الدنيا بالسيف كما قال تعالى {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73]
وبالوجل، وحذر الافتضاح، وبالكمد من رؤية المؤمنين منصورين سالمين قال تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وقال { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: من الآية50] وصادق بعذاب الآخرة وهو ما خص بالذكر في آخر الآية بقوله {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}
وعطف {المنافقات} نظير عطف {المؤمنات} [الفتح:5] المتقدم لأن نساء المنافقين يشاركونهم في أسرارهم ويحضون ما يبيتونه من الكيد ويهيئون لهم إيواء المشركين إذا زاروهم.
وقوله {الظانين} صفة للمذكورين من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات فإن حق الصفة الواردة بعد متعدد أن تعود إلى جميعه ما لم يكن مانع لفظي أو معنوي.
والسوء بفتح السين في قوله {ظَنَّ السَّوْءِ} في قراءة جميع العشرة، وأما في قولهم {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} فهو في قراءة الجمهور بالفتح أيضا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بضم السين. والمفتوح والمضموم مترادفان في أصل اللغة ومعناهما المكروه ضد السرور، فهما لغتان مثل: الكره والكره، والضعف والضعف، والضر والضر، والبأس والبؤس. هذا عن الكسائي وتبعه الزمخشري وبينه الجوهري بأن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر، إلا أن الاستعمال غلب المفتوح في أن يقع وصفا لمذموم مضافا إليه موصوفه كما وقع في هذه الآية وفي قوله {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} في سورة براءة،[98] وغلب المضموم في معنى الشيء الذي هو بذاته شر. فإضافة الظن إلى السوء
(26/129)
من إضافة الموصوف إلى الصفة.
والمراد: ظنهم بالله أنهم لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولا يقدر للرسول صلى الله عليه وسلم النصر لقلة أتباعه وعزة أعدائه، فهذا ظن سوء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المناسب لقراءته بالفتح.
وأما {دَائِرَةُ السَّوْءِ} في قراءة الجمهور فهي الدائرة التي تسوء أولئك الظانين بقرينة قوله {عليهم}، ولا التفات إلى كونها محمودة عند المؤمنين إذ ليس المقام لبيان ذلك والإضافة مثل إضافة {ظَنَّ السَّوْءِ} ، وأما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فإضافة {دائرة} المضموم من إضافة الأسماء، أي الدائرة المختصة بالسوء والملازمة له لا من إضافة الموصوف. وليس في قراءتهما خصوصية زائدة على قراءة الجمهور ولكنها جمعت بين الاستعمالين ففتح السوء الأول متعين وضم الثاني جائز وليس براجح والاختلاف اختلاف في الرواية.
وجملة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاء أو وعيد، ولذلك جاءت بالاسمية لصلوحيتها لذلك بخلاف جملة {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ} فإنها إخبار عما جنوه من سوء فعلهم فالتعبير بالماضي منه أظهر.
[7] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
هذا نظير ما تقدم آنفا إلا أن هذا أوثر بصفة عزيز دون عليم لأن المقصود من ذكر الجنود هنا الإنذار والوعيد بهزائم تحل بالمنافقين والمشركين فكما ذكر {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيما تقدم للإشارة إلى أن نصر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بجنود المؤمنين وغيرهما ذكر ما هنا للوعيد بالهزيمة فمناسبة صفة عزيز، أي لا يغلبه غالب.
[9,8] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
لما أريد الانتقال من الوعد بالفتح والنصر وما اقتضاه ذلك مما اتصل به ذكره، إلى تبيين ما جرى في حادثة الحديبية وإبلاغ كل ذي حظ من تلك القضية نصيبه المستحق ثناء أو غيره صدر ذلك بذكر مراد الله من إرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك كالمقدمة للقصة وذكرت حكمة الله تعالى في إرساله ما له مزيد اختصاص بالواقعة المتحدث عنها، فذكرت
(26/130)
أوصاف ثلاثة هي: شاهد، ومبشر، ونذير. وقدم منها وصف الشاهد لأنه يتفرع عنه الوصفان بعده.
فالشاهد: المخبر بتصديق أحد أو تكذيبه فيما ادعاه أو أدعي به عليه وتقدم في قوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء[41] وقوله {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} في سورة البقرة.[143]
فالمعنى: أرسلناك في حال أنك تشهد على الأمة بالتبليغ بحيث لا يعذر المخالفون عن شريعتك فيما خالفوا فيه، وتشهد على الأمم وهذه الشهادة حاصلة في الدنيا وفي يوم القيامة، فانتصب {شاهدا} على أنه حال، وهو حال مقارنة ويترتب على التبليغ الذي سيشهد به أنه مبشر للمطيعين ونذير للعاصين على مراتب العصيان. والكلام استئناف ابتدائي وتأكيده بحرف التأكيد للاهتمام.
وقوله {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . قرأ الجمهور الأفعال الأربعة {لتؤمنوا} {وتعزروه} {وتوقروه} {وتسبحوه} بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في {لتؤمنوا} لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل {أرسلناك} .
والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم مع أمة الدعوة، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهدا ومبشرا ونذيرا، والمقصود الإيمان بالله. وأقحم {ورسوله} لأن الخطاب شامل للأمة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده: "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وقال يوم حنين: "أشهد أني عبد الله ورسوله". وصح أنه كان يتابع قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف {ورسوله} ويجوز أن يكون الكلام قد انتهى عند قوله {ونذيرا} وتكون جملة {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} الخ جملة معترضة، ويكون اللام في قوله {لتؤمنوا} لام الأمر وتكون الجملة استئنافا للأمر كما في قوله تعالى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} في سورة الحديد.[7]
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيها، والضمائر عائدة إلى معلوم من السياق لأن الشهادة والتبشير والنذارة متعينة للتعلق بمقدر، أي شاهدا على الناس ومبشرا ونذيرا لهم ليؤمنوا بالله الخ.
(26/131)
والتعزيز: النصر والتأييد، وتعزيزهم الله كقوله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7]. والتوقير: التعظيم.
والتسبيح: الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص.
وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة لأن إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلها اسمين دليل على أن المراد أحدهما. والقرينة على تعيين المراد ذكر {وتسبحوه} ، ولأن عطف {ورسوله} على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمان بالله فالمقصود هو الإيمان بالله. ومن أجل ذلك قال ابن عباس في بعض الروايات عنه: إن ضمير {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } عائد إلى {رسوله} .
والبكرة: أول النهار. والأصيل: آخره، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه، كما يقال: شرقا وغربا لاستيعاب الجهات.وقيل التسبيح هنا: كناية عن الصلوات الواجبة والقول في {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} هو هو.
وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45,46] فزيد في صفات النبي صلى الله عليه وسلم هنالك {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح. ووجه ذلك أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر، والثناء على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشرا لأحد الفريقين ونذيرا للآخر، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبني، فزيد كونه {دَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} ، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همته في الاهتداء دون التقعير.
وقد تقدم في تفسير سورة الأحزاب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فارجه إليه.
[10] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
(26/132)
شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة، وهذه الجملة مستأنفة، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام، وصيغة المضارع في قوله {يبايعونك} لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38].
والحصر المفاد من {إنما} حصر الفعل في مفعوله، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائي بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول. وحيث كان الحصر تأكيدا على تأكيد، كما قال صاحب المفتاح،: لم أجعل "إن" التي في مفتتح الجملة للتأكيد لحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان.
وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايع بالفتح على وجه التخييلة مثل إثبات الأظفار للمنية.
وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايع بالفتح كما قال كعب بن زهير:
حتى وضعت يميني لا أنازعه
في كف ذي يسرات قيله القيل
ومما زاد هذا التخييل حسنا ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في المفتاح: والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزه عن اليد وسمات المحدثات.
فجملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} مقررة لمضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف. وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم: إما لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة" ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايع بالفتح ويضع هذا المبايع يده على يد المبايع، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية. ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلا يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدل على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين. وأياما كان
(26/133)
فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل.
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة. وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السمر وكانوا ألفا وأربعمائة على أكثر الروايات. وقال جابر بن عبد الله: أو أكثر، وعنه: أنهم خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة. وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي.
وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم، فكان جابر بن عبد الله يقول: بايعوه على أن لا يفروا، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد: بايعناه على الموت، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت.
ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائبا بمكة للتفاوض في شأن العمرة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال: هذه يد عثمان ثم جاء عثمان، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جملة حتى بايع الناس ولم يكن منافقا ولكنه كان ضعيف العزم. وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم خير أهل الأرض"
وفرع قوله {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} على جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} ، فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيما خطيرا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك.
والنكث: كالنقض للحبل. قال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92]. وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد.
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل. ومضارع {ينكث} بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القراء. ومعنى {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}
(26/134)
أن نكثه عائد عليه بالضر كما دل عليه حرف {على} .
و {إنما} للقصر وهو لقصر النكث على مدلول {عَلَى نَفْسِهِ} ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئا فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: أوفى بالعهد وهي لغة تهامة، ويقال: وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى. قالوا: ولم ينكث أحد ممن بايع.
والظاهر عندي: أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه. وقرأ نافع وابن كثير وأن عامر ورويس عن يعقوب {فسنؤتيه} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم. وقرأه الباقون بياء الغيبة عائدا ضميره على اسم الجلالة.
{11] {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}
لما حذر من النكث ورغب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل: غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديل، بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر من حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه. وكان من أهل البيعة زيد بن خالد الجهني من جهينة وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم مائة رجل منهم مرداس بن مالك الأسلمي، والد عباس الشاعر، وعبد الله بن أبي أوفى، وزاهر ابن الأسود، وأهبان بضم الهمزة بن أوس، وسلمة بن الأكوع الأسلمي، ومن غفار خفاف بضم الخاء المعجمة بن أيماء بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة، ومن مزينة عائذ بن عمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين، وأعدوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شغلتهم أموالهم
(26/135)
وأهلوهم، فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قبل أن يعتذروا. وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث، فكمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد. والمعنى: أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم.
والمخلفون بفتح اللام هم الذين تخلفوا. وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه، أي تركهم خلفه، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقا. يقال: خلفنا فلانا، إذا مروا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استنفروا ولم يعتذروا حينئذ.
والأموال: الإبل.
وأهلون: جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون، فعد مما ألحق بجمع المذكر السالم.
ومعنى فاستغفر لنا: اسأل لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكريا مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية.
وجملة {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} في موضع الحال.
ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ}
والمعنى: أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة، فقد روي أنهم قالوا: يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره1 بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم.
{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
ـــــــ
1 العقر بضم العين وفتحها: الأصل والمكان.
(26/136)
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما فيه رد أمرهم إلى الله ليعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعا نفعهم وإن كان أراد بهم ضرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه. فلعله لا يغفر لهم، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا في الاعتذار ليكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} [الفتح: 16] الآية.
فمعنى {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضر وفي الكلام توجيه بأن تخلفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها.
ومعنى الملك هنا: القدرة والاستطاعة، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود. [17]
والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيرا كقوله {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41]. فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضيا الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئا إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أراد بكم نفعا، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب، ونظيره {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} في سورة الأحزاب.[17] وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في سورة الأعراف فراجعه.
وقرأ الجمهور {ضرا} بفتح الضاد، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي إن أراد بكم ما يضركم وما ينفعكم. ومعنى تعلق {أراد} به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم.
وهذا الجواب لا عدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وجل
(26/137)
ليستكثروا من فعل الحسنات.وقصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن لا يغفر لهم ثم سيتبعه بقوله {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع.
و {بل} في قوله {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} إضراب لإبطال قولهم {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} وبه يزداد مضمون قوله {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} تقريرا لأنه يتضمن إبطالا لعذرهم، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله {كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال.
وتقديم {بِمَا تَعْمَلُونَ} على متعلقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا. وما صدق {مَا تَعْمَلُونَ} ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيرا ما سمى القرآن الاعتقاد عملا. وفي قوله {كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تهديد ووعيد.
[12] {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح: 11] أي خبيرا بما علمتم، ومنه ظنكم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون.
وأعيد حرف الإبطال زيادة لتحقيق معنى البدلية. كما يكرر العامل في المبدل منه والانقلاب: الرجوع إلى المأوى.
و {أن} مخففة من {أن} المشددة واسمها ضمير الشأن وسد المصدر مسد مفعولي {ظننتم} ، وجيء بحرف {لن} المفيد استمرار النفي، وأكد بقوله {أبدا} لأن ظنهم كان قويا.
والتزيين: التحسين، وهو كناية عن قبول ذلك وإنما جعل ذلك الظن مزينا في اعتقادهم لأنهم لم يفرضوا غيره من الاحتمال، وهو أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم سالما. وهكذا شأن العقول الواهية والنفوس الهاوية أن لا تأخذ من الصور التي تتصور بها الحوادث إلا الصورة التي تلوح لها في بادئ الرأي. وإنما تلوح لها أول شيء لأنها الصورة المحبوبة ثم يعتريها التزيين في العقل فتلهو عن فرض غيرها فلا تستعد لحدثانه، ولذلك قيل حبك
(26/138)
الشيء يعمي ويصم
كانوا يقولون بين أقوالهم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكلة بفتحات ثلاث رأس كناية عن القلة، أي يشبعهم رأس بعير لا يرجعون، أي هم قليل بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة، ومن في خلفهم.
و {ظَنَّ السَّوْءِ} أعم من ظنهم أن لا يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، أي ظننتم ظن السوء بالدين وبمن بقي من الموقنين لأنهم جزموا باستئصال أهل الحديبية وأن المشركين ينتصرون ثم يغزون المدينة بمن ينضم إليهم من القبائل فيسقط في أيدي المؤمنين ويرتدون عن الدين فذلك ظن السوء.
والسوء بفتح السين تقدم آنفا في قوله {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6]
والبور: مصدر كالهلك بناء ومعنى، ومثله البوار بالفتح كالهلاك ولذلك وقع وصفا بالإفراد وموصوفه في معنى الجمع.
والمراد الهلاك المعنوي، وهو عدم الخير والنفع في الدين والآخرة نظير قوله تعالى {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة براءة.
وإقحام كلمة {قوما} بين {كنتم} و {بورا} لإفادة أن البوار صار من مقومات قوميتهم لشدة تلبسه بجميع أفرادهم كما تقدم عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. وقوله {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة يونس.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} جملة معترضة بين أجزاء القول المأمور به في قوله {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الفتح: 11] الآيات وقوله {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهذا الاعتراض للتحذير من استدراجهم أنفسهم في مدارج الشك في إصابة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفضي بهم إلى دركات الكفر بعد الإيمان إذ كان تخلفهم عن الخروج معه وما عللوا به تثاقلهم في نفوسهم وإظهار عذر مكذوب أضمروا خلافه، كل ذلك حوما حول حمى الشك يوشكون أن يقعوا فيه.
و {من} شرطية. وإظهار لفظ الكافرين في مقام أن يقال: أعتدنا لهم سعيرا، لزيادة تقرير معنى {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}
(26/139)
والسعير: النار المسعرة وهو من أسماء جهنم.
[14] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} عطف على جملة {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} فهو من أجزاء القول، وهذا انتقال من التخويف الذي أوهمه {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الفتح: من الآية11] إلى إطماعهم بالمغفرة التي سألوها، ولذلك قدم الضر على النفع في الآية الأولى فقيل {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} ليكون احتمال إرادة الضر بهم أسبق في نفوسهم.
وقدمت المغفرة هنا بقوله {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} ليتقرر معنى الإطماع في نفوسهم فيبتدروا إلى استدراك ما فاتهم.
وهذا تمهيد لوعدهم الآتي في قوله {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} إلى قوله {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16].
وزاد رجاء المغفرة تأكيدا بقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي الرحمة والمغفرة أقرب من العقاب، وللأمرين مواضع ومراتب في القرب والبعد، والنوايا والعوارض، وقيمة الحسنات والسيئات، قد أحاط الله بها وقدرها تقديرا.
ولفظ {من يشاء} في الموضعين إجمال للمشيئة وأسبابها وقد بينت غير مرة في تضاعيف القرآن والسنة ومن ذلك قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]
[15] {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الفتح:15]
هذا استئناف ثان بعد قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] وهو أيضا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بما سيقوله المخلفون عن الحديبية يتعلق بتخلفهم عن الحديبية وعذرهم الكاذب، وأنهم سيندمون على تخلفهم حين يرون اجتناء أهل الحديبية ثمرة غزوهم، ويتضمن تأكيد تكذيبهم في اعتذارهم عن التخلف بأنهم حين يعلمون أن هنالك مغانم من قتال غير شديد يحرصون على الخروج ولا تشغلهم أموالهم
(26/140)
ولا أهاليهم، فلو كان عذرهم حقا لما حرصوا على الخروج إذا توقعوا المغانم ولأقبلوا على الاشتغال بأموالهم وأهليهم.
ولكون هذه المقالة صدرت منهم عن قريحة ورغبة لم يؤت معها بمجرور {لك} كما أتي به في قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ} آنفا لأن قول راغب صادق غير مزور لأجل الترويج على النبي صلى الله عليه وسلم كما علمت ذلك فيما تقدم.
واستغني عن وصفهم بأنهم من الأعراب لأن تعريف {المخلفون} تعريف العهد، أي المخلفون المذكورون.
وقوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} متعلق ب {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وليس هو مقول القول.
و {إذا} ظرف للمستقبل، ووقوع فعل المضي بعده دون المضارع مستعار لمعنى التحقيق، و{إذا} قرينة على ذلك لأنها خاصة بالزمن المستقبل.
والمراد بالمغانم في قوله {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} الخروج إلى غزوة خيبر فأطلق عليها اسم مغانم مجازا لعلاقة الأول مثال إطلاق خمرا في قوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36]. وفي هذا المجاز إيماء إلى أنهم منصورون في غزوتهم.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية إلى المدينة أقام شهر ذي الحجة سنة وست وأياما من محرم سنة سبع ثم خرج إلى غزوة خيبر ورام المخلفون عن الحديبية أن يخرجوا معه فمنعهم لأن الله جعل غزوة خيبر غنيمة لأهل بيعة الرضوان خاصة إذ وعدهم بفتح قريب.
وقوله {لتأخذوها} ترشيح للمجاز وهو إيماء إلى أن المغانم حاصلة لهم لا محالة.
وذلك أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه وعد أهل الحديبية أن يعوضهم عن عدم دخول مكة مغانم خيبر.
و {مغانم} : جمع مغنم وهو اسم مشتق من غنم إذا أصاب ما فيه نفع له كأنهم سموه مغنما باعتبار تشبيه الشيء المغنوم بمكان فيه غنم فصيغ له وزن المفعل.
وأشعر قوله {ذرونا} بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيمنعهم من الخروج معه إلى غزو خيبر لأن الله أمره أن لا يخرج معه إلى خيبر إلا من حضر الحديبية، وتقدم في قوله تعالى {وَقَالَ
(26/141)
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} في سورة غافر.[26]
وقوله {نتبعكم} حكاية لمقالتهم وهو يقتضي أنهم قالوا هذه الكلمة استنزالا لإجابة طلبهم بأن أظهروا أنهم يخرجون إلى غزو خيبر كالأتباع، أي أنهم راضون بأن يكونوا في مؤخرة الجيش فيكون حظهم في مغانمه ضعيفا.
وتبديل كلام الله: مخالفة وحيه من الأمر والنهي والوعد كرامة للمجاهدين وتأديبا للمخلفين عن الخروج إلى الحديبية. فالمراد بكلام الله ما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر خاصة لهم، وليس المراد بكلام الله هنا القرآن إذ لم ينزل في ذلك قرآن يومئذ. وقد أشرك مع أهل الحديبية من الحق بهم من أهل هجرة الحبشة الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم بوحي.
وأما ما روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم أن المراد بكلام الله قوله تعالى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] فقد رده ابن عطية بأنها نزلت بعد هذه السورة وهؤلاء المخلفون لم يمنعوا منعا مؤبدا بل منعوا من المشاركة في غزوة خيبر لئلا يشاركوا في مغانمها فلا يلاقي قوله فيها {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} وينافي قوله في هذه السورة {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ} [الفتح: 16] الآية، فإنها نزلت في غزوة تبوك وهي بعد الحديبية بثلاث سنين.
وجملة {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} في موضع الحال. والإرادة في قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} على حقيقتها لأنهم سيعلمون حينئذ يقولون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهم من المشاركة في فتح خيبر كما دل عليه تنازلهم في قولهم {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} فهم يريدون حينئذ أن يغيروا ما أمر الله به رسوله حين يقولون {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إذ اتباع الجيش والخروج في أوله سواء في المقصود من الخروج.
وقرأ الجمهور {كَلامَ اللَّهِ} وقرأه حمزة والكسائي وخلف {كلم الله} اسم جمع كلمة.
وجيء ب {لن} المفيدة تأكيد النفي لقطع أطماعهم في الإذن لهم باتباع الجيش الخارج إلى خيبر ولذلك حذف متعلق {تتبعونا} للعلم به. و {من قبل} تقديره: من قبل طلبكم الذي تطلبونه وقد أخبر الله عنهم بما سيقولونه إذ قال {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} وقد قالوا ذلك بعد نحو شهر ونصف فلما سمع المسلمون المتأهبون للخروج إلى خيبر مقالتهم قالوا: قد أخبرنا الله في الحديبية بأنهم سيقولون هذا.
(26/142)
و {بل} هنا للإضراب عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم {لَنْ تَتَّبِعُونَا} وهو إضراب إبطال نشأ عن فورة الغضب المخلوط بالجهالة وسوء النظر، أي ليس بكم الحفاظ على أمر الله، بل بكم أن لا نقاسمكم في المغانم حسدا لنا على ما نصيب من المغانم.
والحسد: كراهية أن ينال غيرك خيرا معينا أو مطلقا سواء كان مع تمني انتقاله إليك أو بدون ذلك، فالحسد هنا أريد به الحرص على الانفراد بالمغانم وكراهية المشاركة فيها لئلا ينقص سهام الكارهين.
وتقدم الحسد عند قوله تعالى {بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وعند قوله {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] كلاهما في سورة البقرة.
وضمير الرفع مراد به أهل الحديبية، نسبوهم إلى الحسد لأنهم ظنوا أن الجواب بمنعهم لعدم رضى أهل الحديبية بمشاركتهم في المغانم. ولا يظن بهم أن يريدوا بذلك الضمير شمول النبي صلى الله عليه وسلم لأن المخلفين كانوا مؤمنين لا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بالحسد ولذلك أبطل الله كلامهم بالإضراب الإبطالي فقال {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي ليس قولك لهم ذلك لقصد الاستبشار بالمغانم لأهل الحديبية ولكنه أمر الله وحقه لأهل الحديبية وتأديب للمخلفين ليكونوا عبرة لغيرهم فيما يأتي وهم ظنوه تمالؤا من جيش الحديبية لأنهم لم يفهموا حكمته وسببهم. وإنما نفى الله عنهم الفهم دون الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم كانوا جاهلين بشرائع الإسلام ونظمه.
وأفاد قوله {لا يَفْقَهُونَ} انتفاء الفهم عنهم لأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياق النفي يعم، فلذلك استثنى منه بقوله {إِلَّا قَلِيلاً} أي إلا فهما قليلا وإنما قلله لكون فهمهم مقتصرا على الأمور الواضحة من العاديات لا ينفذ إلى المهمات ودقائق المعاني، ومن ذلك ظنهم حرمانهم من الالتحاق بجيش غزوة خيبر منبعثا على الحسد. وقد جروا في ظنهم هذا على المعروف من أهل الأنظار القاصرة والنفوس الضئيلة من التوسم في أعمال أهل الكمال بمنظار ما يجدون من دواعي أعمالهم وأعمال خلطائهم.
و {قليلا} وصف للمستثنى المحذوف، والتقدير: إلا فقها قليلا.
[16] {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لحكمة نوط
(26/143)
المسببات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفا، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تدعى طوائف المسلمين، فذكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]
وكرر وصف من {الأعراب} هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: من الآية11] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف.
وأسند {تدعون} إلى المجهول لأن الغرض الأمر بامتثال الداعي وهو ولي أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الفتح: من الآية17] ودعوة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله "ومن أطاع أمري فقد أطاعني".
وعدي فعل {ستدعون} بحرف {إلى} لإفادة أنها مضمنة معنى المشي، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف {إلى} وبين تعديته باللام نحو قولك: دعوت فلانا لما نابني، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وقد يتعاقب الاستعمالان بضرب من المجاز والتسامح.
والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا، وإنما يكون هذا حكما في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية.
فيجوز أن يكون المراد هوازن وثقيف. وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وعكرمة وقتادة، وذلك غزوة حنين وهي بعد غزوة خيبر، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال. وعن الزهري ومقاتل: أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس، وكان ذلك صدر خلافة أبي بكر الصديق. وعن رافع بن خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى
(26/144)
دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم، وعن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، والحسن هم فارس والروم.
وجملة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} إما حال من ضمير {تدعون} ، وإما بدل اشتمال من مضمون {تدعون}.
و{أو} للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تدعون، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا، فبذلك كان {أو يسلمون} حالا معطوفا على جملة {تقاتلونهم} وهو حال من ضمير {تدعون}.
وقوله {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} تعبير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تول يوقع في الإثم لأنه تول عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد.
فالتشبيه في قوله {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تشبيه في مطلق التولي لقصد التشويه وليس تشبيها فيما يترتب على ذلك التولي.
[17] {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً}
جملة معترضة بين جملة {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وبين جملة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قصد منها نفي الوعيد عن أصحاب الضرارة تنصيصا على العذر للعناية بحكم التولي والتحذير منه.
وجملة {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ} الخ تذييل لجملة {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16] الآية لما تضمنته من إيتاء الأجر لكل مطيع من المخاطبين وغيرهم، والتعذيب لكل متول كذلك، مع ما في جملة {ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ} من بيان أن الأجر هو إدخال الجنات، وهو يفيد بطريق المقابلة أن التعذيب الأليم بإدخالهم جهنم.
وقرأ نافع وابن عامر {ندخله} {ونعذبه} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأ الجمهور {يدخله} بالياء التحتية جريا على أسلوب الغيبة بعود الضمير إلى اسم الجلالة.
[19,18] {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
(26/145)
عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، فإن كون بيعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أومأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيرا من النكث وترغيبا في الوفاء، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلفين، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وأرجائهم إلى خير يسنح من بعد إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية.
فقد أنال الله المبايعين رضوانه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] والشهادة لهم بإخلاص النية، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة.
وفي قوله {عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس حينئذ بمؤمن وهو تعريض بالجد بن قيس إذ كان يومئذ منافقا ثم حسن إسلامه.
وقد دعيت هذه البيعة بيعة الرضوان من قوله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
و {إذ يبايعونك} ظرف متعلق ب {رضي} ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرف فعلية مضارعية من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده. فالمضارع في قوله {يبايعونك} مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية.
والتعريف في {الشجرة} تعريف العهد وهي: الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظلها، وهي شجرة من شجر السمر بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح. وقد تقدم أن البيعة كانت لما أرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة. فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر، يزيد أحدهما على الآخر بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ضلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا الناس
(26/146)
إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجد بن قيس.
وعن جابر بن عبد الله بعد أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها. وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها. وعن طارق بن عبد الرحمان قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد? قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان. فاتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم.
والمراد بقول طارق: ما هذا المسجد: مكان السجود، أي الصلاة، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذات أنواط التي كانت في الجاهلية، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها أن الناس متفاوتون في توسم الأمكنة واقتفاء الآثار.
والمروي أن الذي بنى مسجدا على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بنى سنة أربع وأربعين ومائتين، وهي توافق مدة المتوكل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة 629 ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة 1254 وهو قائم إلى اليوم.
وذكر {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} لاستحضار تلك الصورة تنويها بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصورا ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله علي وسلم وجعه الحديث. ومواقع المصائب وأيامها.
و {إذ} ظرف يتعلق بفعل {رضي} ، أي رضي الله عنهم في ذلك الحين. وهذر رضى خاص، أي تعلق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة.
(26/147)
والفاء من قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها. والتقدير: فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم. ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} ويكون قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} توطئة له على وجه الاعتراض.
والمعنى: لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية. والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قدر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى الله علي وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}
والسكينة هنا هي: الطمأنينة والثقة بتحقق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضا عن ضمير {قلوبهم} لأن قلوبهم هي نفوسهم.
وعطف {أثابهم} على فعل {رَضِيَ اللَّهُ} ومعنى أثابهم: أعطاهم ثوابا، أي عوضا، كما يقال في هبة الثواب، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب. والمراد: أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة، ففعل {أثابهم} مستعمل في المستقبل. وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصا بأهل الحديبية وكان قريبا من يوم البيعة بنحو شهر ونصف.
والمغانم الكثيرة المذكورة هنا هي: مغانم أرض خيبر والأنعام والمتاع والحوائط فوصفت ب {كثيرة} لتعدد أنواعها وهي أول المغانم التي كانت فيها الحوائط.
وفائدة وصف المغانم بجملة {يأخذونها} تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة قبل أن يقع بالفعل ففيه زيادة تحقيق لكون الفتح قريبا وبشارة لهم بأنهم لا يهلك منهم أحد قبل رؤية هذا الفتح.
(26/148)
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} معترضة، وهي مفيدة تذييل لجملة {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} لأن تيسير الفتح لهم وما حصل لهم فيه من المغانم الكثيرة من أثر عزة الله التي لا يتعاصى عليها شيء صعب، ومن أثر حكمته في ترتيب المسببات على أسبابها في حالة ليظن الرائي أنها لا تيسر فيها أمثالها.
[20] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}
هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19,18] إذ علم أنه فتح خيبر، فحق لهم ولغيرهم أن يخطر ببالهم أن يترقبوا مغانم أخرى فكان هذا الكلام جوابا لهم، أي لكم مغانم أخرى لا يحرم منها من تخلفوا عن الحديبية وهي المغانم التي حصلت في الفتوح المستقبلة.
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين تبعا للخطاب الذي في قوله {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وليس خاصا بالذين بايعوا. والوعد بالمغانم الكثيرة واقع في ما سبق نزوله من القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلغه إلى المسلمين في مقامات دعوته للجهاد.
ووصف {مغانم} بجملة {تأخذونها} لتحقيق الوعد.
وبناء على ما اخترناه من أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة يكون فعل {فعجل} مستعملا في الزمن المستقبل مجازا تنبيها على تحقيق وقوعه، أي سيعجل لكم هذه. وإنما جعل نوالهم غنائم خيبر تعجيلا، لقرب حصوله من وقت والوعد به. ويحتمل أن يكون تأخر نزول هذه الآية إلى ما بعد فتح خيبر على أنها تكملة لآية الوعد التي قبلها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها عقبها وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على أول هذه السورة ولكن هذا غير مروي.
والإشارة في قوله {هذه} إلى المغانم في قوله {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] وأشير إليها على اختلاف الاعتبارين في استعمال فعل {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}
{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية وهي نعمة السلم
(26/149)
أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين. ولما تهيأ لهم فتح خيبر، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكة لدحض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الآية.
فالمراد ب{الناس}: أهل مكة جريا على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالبا.
وقيل: المراد كف أيدي الإعراب المشركين من بني أسد وغطفان وكانوا أحلافا ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا.
وقيل: إن المشركين بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين في الحديبية فأسرهم المسلمون، وهو ما سيجيء في قوله {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24]
وقيل: كف أيدي اليهود عنكم، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ {الناس} في غالب مصطلح القرآن,
والكف: منع الفاعل من فعل إرادة أو شرع فيه، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعا باليد، ويقال: كف يده عن كذا، إذا منعه من تناوله بيده.
وأطلق الكف هنا مجازا على الصرف، أي قدر الله كف أيدي الناس عنكم بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر سواء نووه أو لم ينووه، وإطلاق الفعل على تقديره كثير في القرآن حين لا يكون للتعبير عن المعاني الإلهية فعل مناسب له في كلام العرب، فإن اللغة بينت على متعارف الناس مخاطباتهم وطرأت معظم المعاني الإلهية بمجيء القرآن فتغير عن الشأن الإلهي بأقرب الأفعال إلى معناه.
{وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}
الظاهر أن الواو عاطفة وأن ما بعد الواو علة كما تقتضي لام كي فتعين أنه تعليل لشيء مما ذكر قبله في اللفظ أو عطف على تعليل سبقه. فيجوز أن يكون معطوفا على بعض التعليلات المتقدمة من قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: من الآية4] أو من قوله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] وما بينهما اعتراضا وهو وإن طال فقد
(26/150)
اقتضته التنقلات المتناسبات. والمعنى أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لمصالح لهم منها ازدياد إيمانهم واستحقاقهم الجنة وتكفير سيئاتهم واستحقاق المنافقين والمشركين العذاب، ولتكون السكينة آية للمؤمنين، أي عبرة لهم واستدلالا على لطف الله بهم وعلى أن وعده لا تأويل فيه.
ومعنى كون السكينة آية أنها سبب لأنهم لما نزلت السكينة في قلوبهم اطمأنت نفوسهم فخلصت إلى التدبر والاستدلال فبانت لها آيات الله فتأنيث ضمير الفعل لأن معاده السكينة.
ويجوز أن يكون معطوفا على تعليل محذوف يثار من الكلام السابق، حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تقديره توفيرا للمعنى. والتقدير: فعجل لكم هذه لغايات وحكم لتكون آية. فهو من ذكر الخاص بعد العام المقدر.
فالتقدير مثلا: ليحصل التعجيل لكم بنفع عوضا عما ترقبتموه من منافع قتال المشركين، ولتكون هذه المغانم آية للمؤمنين منكم ومن يعرفون بها أنهم من الله بمكان عنايته وأنه موف لهم ما وعدهم وضامن لهم نصرهم الموعود كما ضمن لهم المغانم القريبة والنصر القريب. وتلك الآية تزيد المؤمنين قوة إيمان. وضمير {لتكون} على هذه راجع إلى قوله {هذه} على أنها المعللة. ويجوز أن يكون الضمير للخصال التي دل عليها مجموع قوله {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} فيكون معنى قوله {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} لغايات جمة منها ما ذكر آنفا ومنها سلامة المسلمين في وقت هم أحوج فيه إلى استبقاء قوتهم منهم إلى قتال المشركين ادخارا للمستقبل.
وجعل صاحب الكشاف جملة {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} معترضة، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير {لتكون} عائدا إلى المرة من فعل كف: أي الكفة.
وعطف عليه {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وهو حكمة أخرى، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقينا. ويجوز أن يكون فعل {ويهديكم} مستعملا في معنى الإدامة على الهدى وهو: الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: من الآية136] على أحد تأويلين.
[21] {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}
(26/151)
هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله {أخرى} مبتدأ موصوف بجملة {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} والخبر قوله {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}
ومجموع الجملة عطف على جملة {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] فلفظ {أخرى} صفة لموصوف محذوف دل عليه {مغانم} الذي في الجملة قبلها، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم، أي غير التي وعدهم الله بها، أي هذه لم يعدهم الله بها، ولم نجعل {وأخرى} عطفا على قوله {هذه} عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة.
ومعنى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أنها موصوفة بعدم قدرتكم عليها، فلما كانت جملة {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} صفة ل {أخرى} لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا، وإنما المعنى: أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلق أطماعكم بأخذها.
والإحاطة بالهمز: جعل الشيء حائطا أي حافظا، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصرا، ومعناه: احتوى عليه ولم يترك له منصرفا فول على شدة القدرة عليه قال تعالى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي إلا أن تغلبوا غلبا لا تستطيعون معه الإتيان به.
فالمعنى: أن الله قدر عليها، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} والمعنى: ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها، أي فأنالكم إياها.
وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك، أي أحاط الله بها لأجلكم، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه، جعلت كالمخبوء لهم.
ولذلك ذيل بقوله {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} إذ هو أمر مقرر في علمهم.
فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم: نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات، ونوع هو مغانم عظيمة لا يخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر. وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم، وهو
(26/152)
الذي تأوله عمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]
[23,22] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
هذا عطف على قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] على أن بعضه متعلق بالمعطوف عليه، وبعضه معطوف على المعطوف عليه فما بينهما ليس من الاعتراض.
والمقصود من هذا العطف التنبيه على أن كف أيدي الناس عنهم نعمة على المسلمين باستبقاء قوتهم وعدتهم ونشاطهم. وليس الكف لدفع غلبة المشركين إياهم لأن الله قدر للمسلمين عاقبة النصر فلو قاتلهم الذين كفروا لهزمهم المسلمون ولم يجدوا نصيرا، أي لم ينتصروا بجمعهم ولا بمن يعينهم.
والمراد بالذين كفروا ما أريد بالناس في قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} . وكان مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الناس بأن يقال: ولو قاتلوكم، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أن الكفر هو سبب توليه الإدبار في قتالهم للمسلمين تمهيدا لقوله {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ}
و {الأدبار} منصوب على أنه مفعول ثان ل {ولوا} ومفعوله الأول محذوف لدلالة ضمير {قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عليه. والتقدير: لولوكم الأدبار.
وال للعهد، أي أدبارهم، ولذلك يقول كثير من النحاة إن "ال" في مثله عوض عن المضاف إليه وهو تعويض معنوي.
والتولية: جعل الشيء واليا، أي لجعلوا ظهورهم تليكم، أي ارتدوا إلى ورائهم فصرتم وراءهم.
و {ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وجدان الولي والنصير أشد على المنهزم من انهزامه لأنه حين ينهزم قد يكون له أمل بأن يستنصر من ينجده فيكر به على الذين هزموه فإذا لم يجد وليا ولا نصيرا تحقق أنه غير منتصر وأصل الكلام لولوا الأدبار وما وجدوا وليا ولا نصيرا.
والولي: الموالي والصديق، وهو أعم من النصير إذ قد يكون الولي غير قادر على
(26/153)
إيواء وليه وإسعافه.
والسنة: الطريقة والعادة. وانتصب {سُنَّةَ اللَّهِ} نيابة عن المفعول المطلق الأتي بدلا من فعله لإفادة معنى تأكيد الفعل المحذوف. والمعنى: سن الله ذلك سنة، أي جعله عادة له ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]
وقال {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: من الآية40]، أي أن الله ضمن النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرا وإن كانوا قد يغلبون في بعض المواقع كما وقع يوم أحد وقد قال تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقال {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]
وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين وعلى حسب الإيمان والتقوى، ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه فيكون النصر تاما في حالة الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالا في حالة السعة كما في وقعة أحد وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وقال الله تعالى {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] ويكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من جيوش المسلمين على حسب تمسكهم بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي زمان يغزو فآم من الناس فقال: فيكم من صحب النبي? فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي? فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صحب من صاحب النبي? فيقال: نعم فيفتح".
ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، والمضاف إليه {قبل} محذوف نوي معناه دون لفظه، أي ليس في الكلام دال على لفظه ولكن يدل عليه معنى الكلام، فلذلك بني {قبل} على الضم. وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها.
والمعنى: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]
ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميما للأزمنة بقوله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور وإخبار الله تعالى به على لسان رسله وأنبيائه يدل على أن الله أراد
(26/154)
تأييد أحزابه فيعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله تعالى.
[24] {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}
عطف على جملة {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: من الآية20] وهذا كف غير الكف المراد من قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص، أي القصر، أي لم يكفهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال، فكف أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم ويطلقهم.
وتقدم الكلام على معنى {كف} في قوله آنفا {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}
والمعنى: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم، وهي منة ثانية مثل المنة المذكورة في قوله {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} .
وهذه الآية أشارت إلى كف عن القتال يسره الله رفقا بالمسلمين وإبقاء على قوتهم في وقت حاجتهم إلى ذلك بعد وقعة بدر ووقعة أحد، واتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية. وهذا يشير إلى ما روي من طرق مختلفة وبعضها في سنن الترمذي وقال: هو حديث صحيح، وفي بعضها زيادة على بعض أن جمعا من المشركين يقدر بستة أو باثني عشر أو بثلاثين أو سبعين أو ثمانين مسلحين نزلوا إلى الحديبية يريدون أن يأخذوا المسلمين على غرة ففطن لهم المسلمون فأخذوهم دون حرب النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاقهم وكان ذلك أيام كان السفراء يمشون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم تجنبا لما يعكر صفو الصلح.
وضمائر الغيبة راجعة للذين كفروا في قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: من الآية22] ووجه عوده إليه مع أن الذين كف الله أيديهم فريق غير الفريق الذي في قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هو أن عرف كلام العرب جار على أن ما يصدر من بعض القوم ينسب إلى
(26/155)
القوم بدون تمييز كما تقدم في سورة البقرة في قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}
وقوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ظاهر كلام الأساس: أن حقيقة البطن جوف الإنسان والحيوان وأن استعماله في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط مجاز، قال الراغب: ويقال للجهة السفلى بطن، وللعليا ظهر. ويقال: بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به وسط المكان كما في قول كعب بن زهير:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
أي في وسط البلد الحرام فان قائل: زولوا، هو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب، غير أن محمل ذلك في هذه الآية غير بين لأنه لا يعرف وقوع اختلاط بين المسلمين والمشركين في وسط مكة يفضي إلى القتال حتى يمتن عليهم بكف أيدي بعضهم عن بعض وكل ما وقع مما يفضي إلى القتال فإنما وقع في الحديبية. فجمهور المفسرين حملوا بطن مكة في الآية على الحديبية من إطلاق البطن على أسفل المكان، والحديبية قريبة من مكة وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب وتعرف اليوم باسم الشميسي، وجعلوا الآية تشير إلى القصة المذكورة في جامع الترمذي وغيره بروايات مختلفة وهي ما قدمناه آنفا. ومنهم من زاد في تلك القصة: أن جيش المسلمين اتبعوا العدو إلى أن دخلوا بيوت مكة وقتلوا منهم وأسروا فيكون بطن مكة محمولا على مشهور استعماله، وهذا خبر مضطرب ومناف لظاهر قوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} ومنهم من أبعد المحمل فجعل الآية نازلة في فتح مكة وهذا لا يناسب سياق السورة ويخالف كلام السلف من المفسرين وهم أعلم بالمقصود، هذا كله بناء على أن الباء في قوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} متعلقة بفعل {كف} ، أي كان الكف في بطن مكة.
ويجوز عندي أن يكون {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ظرفا مستقرا هو حال من ضميري {عنكم} و {عنهم} وهو حال مقدرة، أي لو كنتم ببطن مكة، أي لو لم يقع الصلح فدخلتم محاربين كما رغب المسلمون الذين كرهوا الصلح كما تقدم فيكون إطلاق {بِبَطْنِ مَكَّةَ} جاريا على الاستعمال الشائع، أي في وسط مدينة مكة. ولهذا أوثرت مادة الظفر في قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} دون أن يقال: من بعد أن نصركم عليهم، لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل.
(26/156)
ومناسبة تعريف ذلك المكان بهذه الإضافة الإشارة إلى أن جمع المشركين نزلوا من أرض الحرم المكي إذ نزلوا من جبل التنعيم وهو من الحرم وكانوا أنصارا لأهل مكة.
ويتعلق قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} بفعل {كف} باعتبار تعديته إلى المعطوف على مفعوله، أعني: {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} لأنه هو الكف الذي حصل بعد ظفر المسلمين بفئة المشركين على حسب تلك الرواية والقرينة ظاهرة من قوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . وهذا إشارة إلى أن كف أيدي بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذ منوا على العدو بعد التمكن منه.
فعدي {أظفركم} ب"على" لتضمينه معنى أيدكم وإلا فحقه أن يعدى بالباء.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى العليم بالمرئيات، أي عليما بعملكم حين أحطتم بهم وسقتموهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تظنون أنكم قاتلوهم أو آسروهم.
وقرأ الجمهور {تعملون} بتاء الخطاب، وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة، أي عليما بما يعملون من انحدارهم على غرة منكم طامعين أن يتمكنوا من أن يغلبوكم وفي كلتا القراءتين اكتفاء، أي كان الله بما تعملون ويعملون بصيرا، أو بما يعملون وتعملون بصيرا، لأن قوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} يفيد عملا لكل فريق، أي علم نواياكم فكفها لحكمة استبقاء قوتكم وحسن سمعتكم بين قبائل العرب وأن لا يجد المشركون ذريعة إلى التظلم منكم بالباطل.
[25] {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}
استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة. وخير الدنيا عاجله وآجله، وضمان النصر لهم في قتال المشركين، وما هيأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ به إلى أهله، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون، وهم
(26/157)
يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظميه، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية.
وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [الفتح: من الآية22] الآية.
والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي.
والمقصود من الصلة هو جملة {صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وذكر {الَّذِينَ كَفَرُوا} إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر. ولهذا الإدماج نكتة أيضا، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله.
والهدي: ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: من الآية97] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع.
والمعكوف: اسم مفعول عكفه، إذ ألزمه المكت في مكان، يقال: عكفه فعكف فيستعمل قاصرا ومتعديا عن ابن سيده وغيره كما يقال: رجعه فرجع وجبره فجبر. وقال أبو علي الفارسي: لا أعرف عكف متعديا، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى {معكوفا} على أنها لتضمين عكف معنى حبس. وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة.
ومعنى صدهم الهدي: أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى. وليس المراد: أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لتنحر بها.
وقوله {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أن يكون بدل اشتمال من {الهدي} ويجوز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو"عن"، أي عن أن يبلغ محله.
(26/158)
والمحل بكسر الحاء: محل الحل مشتق من فعل حل ضد حرم، أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي، وهو الذي لا يجزئ غيره، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر، ولذلك لما أحصروا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك. ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتوخي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصر.
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
أتبع النعي على المشركين سوء فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وعده المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح، فبين أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفا من قوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الفتح:22]
أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لما صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم، فالجملة معطوفة على جملة {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أو على جملة {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: من الآية24] الخ. وأياما كان فهي كلام معترض بين جملة {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الخ وبين جملة {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ} [الفتح: من الآية26].
ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته.
و {لولا} دالة على امتناع لوجود، أي امتنع تعذيبنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم. وما بعد {لولا} مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع {لولا} إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجودا مطلقا غير مقيد بحال، فالتقدير: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون، كما يدل عليه قوله بعده {لو تزيلوا} ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب {لولا} .
وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول
(26/159)
مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه، ولكن الامتناع ليس معلقا على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم.
وكذلك قوله {لم تعلموهم} ليس هو خبرا بل وصفا ثانيا إذ ليس محط الفائدة.
ووجه عطف {نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} مع أن وجود {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول: ولولا المؤمنون، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالبا، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاع المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن.
ومعنى {لم تعلموهم} لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا.
فعن جنبذ بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة بن سبع بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة ، ويقال: سباع بكسر السين يقال: إنه أنصاري، ويقال: قاري صحابي قال: هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبو جندل ابن سهيل، وأبو بصير القرشي ولم أقف على اسم السابع وعدت أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة. وعن حجر بن خلف: ثلاثة رجال وتسع نسوة، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين. والظاهر أن المراد بقوله {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبية من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمنا وإن كان يعرفهم المهاجرون، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار.
و {أَنْ تَطَأُوهُمْ} بدل اشتمال من {رجال} ومطوفه، أو من الضمير المنصوب في {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي لولا أن تطئوهم.
والوطء: الدوس بالرجل، ويستعار للإبادة والإهلاك، وقد جمعهما الحارث بن وعلة الذهلي في قوله:
(26/160)
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
والإصابة: لحاق ما يصيب.
و"من" في قوله {منهم} للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم معرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم.
والمعرة: مصدر ميمي من عره، إذا دهاه، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضرارا بالمسلمين من ديات قتلى، وغرم أضرار، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم ليكرهوا العرب في الإسلام وأهله.
والباء في {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للملابسة، أي ملابسين لانتفاء العلم. والمجرور بها متعلق ب {تصيبكم} ، أي فتلحقكم من جرائهم مكارة لا تعلمونها حتى تقعوا فيها.
وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله {لم تعلموهم} لأن العلم المنفي في قوله {لم تعلموهم} هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة. والعلم المنفي ثانيا في قوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سببا في الإقدام على إهلاكهم.
واللام في قوله {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} للتعليل والمعلل واقع لا مفروض، فهو وجود شرط {لولا} الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة.
و {من يشاء} يعم كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معا.
وعبر ب {من يشاء} لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من
(26/161)
الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك.
وجواب {لولا} يجوز اعتباره محذوفا دل عليه جواب {لو} المعطوفة على {لولا} في قوله {لو تزيلوا}، ويجوز اعتبار جواب {لو} مرتبطا على وجه تشبيه التنازع بين شرطي {لولا} و{لو} لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن {لولا} حرف امتناع لوجود أي تدل على امتناع جوابها لوجود شرطها. و{لو} حرف امتناع لامتناع، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها فحكم جوابيهما واحد، وهو الامتناع، وإنما يختلف شرطاهما فشرط {لو} منتف وشرط {لولا} مثبت.
وضمير {تزيلوا} عائد إلى ما دل عليه قوله {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ}
والتزيل: مطاوع زيله إذا أبعده عن مكان، وزيلهم، أي أبعد بعضهم عن بعض، أي فرقهم قال تعالى {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28] وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيرا ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة.
والمعنى: لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلطنا المسلمين على المشركين فعذبوا الذين كفروا عذاب السيف. فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} في سورة براءة. [14]
و"من" في قوله {منهم} للتبعيض، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم، أي حين يصير الجمع مشركين خلصا وحدهم.
وجملة {لو تزيلوا} إلى آخرها بيان لجملة {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى آخرها، أي لولا وجود رجال مؤمنين الخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم.
وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} على طريقة الالتفات.
[26] {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
(26/162)
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
ظرف متعلق بفعل {صدوكم} [الفتح: 25] أي صدوكم صدا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حمية الجاهلية، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطت على عقولهم فصمموا على منع المسلمين، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين.
فكان تعليق هذا الظرف بفعل {وصدوكم} مشعرا بتعليل الصد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية متمكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام.
والحمية: الأنفة، أي الاستنكاف من أمر لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم.
ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال: من الآية34] و{جعل} بمعنى وضع، كقول الحريري في المقامة الأخيرة اجعل الموت نصب عينيك ، وقول الشاعر:
وإثمد يجعل في العين 1
وضمير {جعل} يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الجلالة في قوله {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} من قوله {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: من الآية25] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات.
و {الَّذِينَ كَفَرُوا} مفعول أول ل {جعل} . و {الحمية} بدل اشتمال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} و {فِي قُلُوبِهِمْ} في محل المفعول الثاني ل {جعل} ، أي تخلقوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدوكم عن المسجد الحرام.
__________
1 أوله:
الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن الطبع ومن لين
فحجر تدمي به أرجل ... .................الخ
??
??
??
??
(26/163)
و {فِي قُلُوبِهِمْ} متعلق ب {جعل} أي وضع الحمية في قلوبهم.
وقوله {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} عطف بيان للحمية قصد من إجماله ثم تفصيله تقرير مدلوله وتأكيده ما يحصل لو قال {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}
وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] وقوله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]
ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهية.
وتفريع {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} على {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يؤذن بأن المؤمنين ودوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخلوا مكة للعمرة عنوة غضبا من صدهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة.
والمرد بالسكينة: الثبات والأناة، أي جعل في قلوبهم التأني وصرف عنهم العجلة، فعصمهم من مقابلة الحمية بالغضب والانتقام فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير.
وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة {جعل} ب {أنزل} في قوله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} وقوله {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} فدل على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته.
وعطف على إنزال الله سكينته {أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابل قوله {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} ربطا يفيد التعليل كما قدمناه آنفا ربط ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم، وهو ظامر باطني، مؤثرا فيهم عملا ظاهريا وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام.
وضمير النصب في {وألزمهم} عائد إلى {المؤمنين} لأنهم هم الذين عوض الله
(26/164)
غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقا السكينة من قبل.
و {كَلِمَةَ التَّقْوَى} إن حملت على ظاهر معنى {كلمة} كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع، قال تعالى {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: من الآية100] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول: لا إله إلا الله. وروي هذا عن أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب. قلت: في سنده: ثوير، ويقال: ثور بن أبي فاختة قال فيه الدارقطني: هو متروك، وقال أبو حاتم: هو ضعيف. وروى ابن مردوية عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع مثله مرفوعا وكلها ضعيفة الأسانيد. وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة. ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى: أنه قدر لهم الثبات عليها قولا بلفظها وعملا بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه، فإطلاق "الكلمة"هنا كإطلاقة في قوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: من الآية28] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27,26]
وإضافة {كلمة} إلى {التقوى} على هذا التفسير إضافة حقيقية. ومعنى إضافتها: أن كلمة الشهادة أصل التقوى فان أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها.
ورويت أقوال أخرى في تفسير {كَلِمَةَ التَّقْوَى} بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه. ويجوز أن تحتمل {كلمة} على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية، أي كلمة هي التقوى، ويكون المعنى: وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومنه قوله تعالى {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: من الآية78] على أحد التفسيرين فيه. ويدخل في التقوى ابتداء توحيد الله تعالى.
ويجوز أن يكون لفظ {كلمة} مطلقا على حقيقة الشيء. وجماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب لأشعار
ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال: كلمة التقوى: الإخلاص. فجعل "الكلمة" معنى من التقوى. فالمعنى على هذين الوجهين الأخيرين: أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة. وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة
(26/165)
"التقوى"بكلمة "الشهادة" المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يكون ذلك تفسيرا بجزئي من التقوى هو أهم جزئياتها، أي تفسير مثال.
وعن الحسن: أن كلمة {التقوى} الوفاء بالعهد، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدأوا بنقضه.
والواو في {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} واو الحال، والجملة حال من الضمير المنصوب، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي، أي في قدر الله تعالى.
والمعنى: أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه. والمفضل عليه مقدر دل عليه ما تقدم، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر.
وأهل الشيء مستحقه، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم. وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دل اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للأسلام.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} تذييل، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه.
[27] {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}
استئناف بياني ناشئ عن قوله {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: من الآية26] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية، أو وهو
(26/166)
في الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحلقوا وقصروا. هكذا كانت الرؤيا مجملة ليس فيها وقوع حج ولا عمرة، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما.
وقص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا: فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا? فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأن الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الرؤيا أيامئذ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها: أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زمانا كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زمانا حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة.
وتوكيد الخبر بحرف "قد" لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا: فأين الرؤيا? ومعنى {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك.
وهذا تطمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لما يحصل بقرينة قوله {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وتعدية {صدق} إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمى بالحذف والإيصال، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب. وأصل الكلام: صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: من الآية23].
والباء في {بالحق} للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابسا الحق، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابسا وقع حالا من الرؤيا.
والحق: الغرض الصحيح والحكمة، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مجعولة محكمة وهي ما قدمناه آنفا.
وجملة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إلى آخرها يجوز أن يكون بيانا لجملة {صَدَقَ
(26/167)
اللَّهُ} لأن معنى {لتدخلن} تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل. وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم: إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل. وقد جاء في سورة يوسف {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ}
وليست هذه الجملة بيانا للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك.
والأحسن أن تكون جملة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} استئنافا بيانيا عن جملة {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ} أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله {بالحق} ليظهر معنى الاستئناف.
وقوله {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخيا، ألا ترى أن الذي يقال له: افعل كذا، فيقول: أفعل إن شاء الله، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله.
ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف [99] {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} أن {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر. أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل. وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد، وهذا من استعمالات كلمة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذ للثنيا لأنها في موضع قولهم: إلا أن يشاء الله، لأن معنى: إلا أن يشاء الله: عدم الفعل، وأما إن شاء الله، التي تقع موقع: إلا أن يشاء الله، فمعناه إن شاء الله الفعل.
والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحلق بعضهم وقصر بعضهم غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع، وعدم الخوف فيه أظهر. وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين. قال مالك في الموطأ بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يوم الفتح ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما والله أعلم.
(26/168)
و {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} حال من ضمير {آمنين} وعطف عليه {ومقصرين} والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير.
وجملة {لا تخافون} في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل {آمنين} تأكيدا بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق، ويجوز أن تكون حالا مؤسسة على أن {آمنين} معمول لفعل {تدخلن} وأن {لا تخافون} معمول ل {آمنين} ، أي آمنين أمن من لا يخاف، أي لا تخافون غدرا. وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوهم الذي أمنهم، وهذا يومئ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعدادا وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع.
والفاء في قوله {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله تعالى {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18]
وفي إيثار فعل {جعل} في هذا التركيب دون أن يقول: فتح لكم من دون ذلك فتحا قريبا أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه، وصيغة الماضي في {جعل} لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي، أو لأن {جعل} بمعنى قدر. ودون هنا بمعنى غير، ومن "م" ابتدائية أو بيانية. والمعنى: فجعل فتحا قريبا لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين. وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح.
[28] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة. فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف "قد" ولام القسم في قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} [الفتح: من الآية27]. وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصول في قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} لأن الموصول يفيد العلم بمضمون الصلة غالبا.
(26/169)
والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} ، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة. وفي هذا تذكير ولوم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين.
والباء في {بالهدى} للمصاحبة وهو متعلق ب {أرسل} . والهدى أطلق على ما به الهدى، أي كقوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]
وقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: من الآية185].
وعطف {دِينَ الْحَقِّ} على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون المراد {بالهدى} أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس، وب {دِينَ الْحَقِّ} شرائع الإسلام وفروعه.
واللام في {ليظهره} لتعليل فعل {أرسل} ومتعلقاته، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب {كله} لأنه في معنى الجمع. ومعنى {يظهره} يعليه. والإظهار: أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازا عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه، أي ليشرفه على الأديان كلها، وهذا كقوله في حق القرآن {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]
ولما كان المقصود من قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} الخ الشهادة بأن الرؤيا صدق ذيل الجملة بقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا ما صدقها في الإبان. وتقدم الكلام على نظير {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في آخر سورة النساء.[79]
[29] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
(26/170)
بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}
لما بين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه.
و {محمد} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله {رسوله} [الفتح: 28] في الآية قبلها. وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره. قال التفتزاني في المطول ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلا: فتى من شأنه كذا وكذا، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا. ومن أمثلة المفتاح "فراجعهما" أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت 1
إذ لم يقل: هو فتى.
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمدا رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} [الفتح: من الآية27] إلى قوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان: من هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار? فيقال له: محمد رسول الله، أي هو محمد رسول الله. وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم. فتعتبر الجملة المحذوف مبتدؤها مستأنفة استئنافا بيانيا. وفيه وجوه أخر لا تخفى، والأحسن منها هذا.
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. وقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت.
__________
1 البيتان لعبد الله بن الزبير "بفتح الزاي وكسر الموحدة" الأسدي.
??
??
??
??
(26/171)
وقوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ} يجوز أن يكون مبتدأ و {أشداء} خبرا عنه وما بعده إخبار، والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى {معه} : المصاحبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} والمراد: أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية.
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب ناد يا أصل المرة.
ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ مَعَهُ} عطفا على {رسوله} من قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: من الآية33]. والتقدير: وأرسل الذين معه، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يّس: من الآية14] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد. فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} وعلى هذا يكون {أرسلنا} في هذه الآية مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {أشداء} : جمع شديد، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها، قال تعالى في وصف النار {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: من الآية6].
والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر. وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه. والله ورسوله أعلم.
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال، وقد تقدم كثير من
(26/172)
ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة.
والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128].
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم. وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} في سورة العقود. [54]
وفي تعليق {رحماء} مع ظرف "بين" المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعا قال النبي صلى الله عليه وسلم "تجد المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى".
والخطاب في {تراهم} لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم، أي يراهم الرائي.
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعا سجدا. وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس، وهي الصلوات مفروضها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه. وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه.
والسيما: العلامة، وتقدم عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في البقرة [273] وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود.
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} على ثلاثة أنحاء الأول: أنها أثر محسوس للسجود، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة. فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك: السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وكف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان. وقال السعيد وعكرمة: الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل.
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد
(26/173)
بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء.
وقال أبو العالية: يسجدون على التراب لا على الأثواب.
والى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك. فقال الأعمش: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان. وقال ابن عباس: هو حسن السمت. وقال مجاهد: هو نور من الخشوع والتواضع. وقال الحسن والضحاك: بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر. والى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضا والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضا وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب: أنها سيما تكون لهم يوم القيامة، وقالوا: هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله في قوله تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] النور يوم القيامة، قيل وسنده حسن. وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها.
وضمائر الغيبة في قوله {تراهم} و {يبتغون} و {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} عائدة إلى {الَّذِينَ مَعَهُ} على الوجه الأول، والى كل من {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} على الوجه الثاني.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}
الإشارة ب {ذلك} إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و{مثلهم} خبره.
والمثل يطلق على الحالة العجيبة، ويطلق على النظير، أي المشابه فإن كان هنا محمولا على الحالة العجيبة فالمعنى: أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في التوراة. وقوله {فِي التَّوْرَاةِ} متعلق ب{مثلهم} أو حال منه. فيحتمل أن في التوراة وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات، فبين الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في التوراة، أي أن التوراة قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والذي وقفنا عليه في التوراة مما يصلح
(26/174)
لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية من قول موسى عليه السلام جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحب الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك فإن جبل فاران هو حيال الحجاز.
وقوله فأحب الشعب جميع قديسيه يشير إليه قوله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح. وقوله قديسيه يفيد معنى {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح: من الآية29] ومعنى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: من الآية29]. وقوله في التوراة جالسون عند قدمك يفيد معنى قوله تعالى {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: من الآية29].
ويكون قوله تعالى {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الوصف.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} ابتداء كلام مبتدأ. ويكون الوقف على قوله {فِي التَّوْرَاةِ} والتشبيه في قوله {كزرع} خبره، وهو المثل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيرا إلى نحو قوله في إنجيل متى الإصحاح 13 فقرة 3 هو ذا الزارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته إلى أن قال وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمرة بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين. قال فقرة، ثم قال وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وبعض ستين وآخر ثلاثين وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس الى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة.
وفي قوله {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئا من مكان.
والشطء بهمزة في آخره وسكون الطاء: فراخ الزرع وفروع الحبة. ويقال: أشطأ الزرع، إذا أخرج فروعا. وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز. وقرأه ابن كثير {شطأه} بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا.
و {آزره} قواه، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتزر به ويعينه شده على العمل والحمل كذا قيل. والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقا اسمه من: آزر، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر
(26/175)
لا يصار إلى دعائه إلا إذا تعين. وصيغة المفاعلة في {آزره} مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم: عافاك الله، وقوله تعالى {وَبَارَكَ فِيهَا} .[فصلت: 10]
والضمير المرفوع في {آزره} للشطء، والضمير المنصوب للزرع، أي قوى الشطء أصله.
وقرأ الجمهور {فآزره} . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر {فآزره} بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد.
ومعنى {استغلظ} غلظ غلظا شديدا في نوعه، فالسين والتاء للمبالغة مثل: استجاب.
والضميران المرفوعان في {استغلظ} و {استوى} عائدان الى الزرع.
والسوق: جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زنة فعل بفتحتين.
وقراءة الجميع {على سوقه} بالواو بعد الضمة. وقال ابن عطية: قرأ ابن كثير {سؤقه} بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر1:
لحب المؤقدان إلي مؤسى
وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسرون ولم يذكرها في حرز الأماني وذكرها النوري في كتاب غيث النفع وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل.
وساق الزرع والشجرة: الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان.
ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفا وتقويه يوما فيوما حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه.
وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل، ويشبه المؤمنون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل: أبي بكر
ـــــــ
1 هو جرير, وتمام البيت:
وجعدة إذا أضاءهما الوقود
وتقدم عند قوله تعالى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} في سورة البقرة[4] والبيت من قصيدة في مدح هشام بن عبد الملك.
(26/176)
وخديجة وعلي وبلال وعمار، والشطء: من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.
وقوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} تحسين للمشبه به ليفيد تحسين المشبه.
{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}
تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار.
قال القرطبي: قال أبو عروة الزبيري1: كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلا ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى أن بلغ قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فقال مالك من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقلت: رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين.
وقوله {منهم} يجوز أن تكون "من" للبيان كقوله {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: من الآية30] وهو استعمال كثير، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر "من" تحذيرا وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين.
ـــــــ
1 قال القرطبي: ولد الزبير قلت لعله سعيد بن عمر الزبيري المدني من أصحاب مالك ترجمه في المدارك ولم يذكر كنيته.
(26/177)
سورت الحجرات
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير سورة الحجرات وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة. وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة، وحكى السيوطي في الإتقان قولا شاذا أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول.
وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: من الآية13] الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة كما سيأتي. ولم يعدها في الإتقان في عداد السور المستثنى بعض آياتها.
وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: من الآية1] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] وعد جميع العادين آيها ثمان عشرة آية.
أغراض هاته السورة
تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب.
وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه ونداءه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به، والتثبت في
(26/178)
نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.
وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6]: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق، والداخل في طائفتهم: إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام، قال: فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء وفي مبدأ المفصل عندنا أقوال عشرة أشهرها قولان قيل: إن مبدأه سورة ق وقيل سورة الحجرات، وفي مبدأ وسط المفصل قولان أصحهما أنه سورة عبس، وفي قصاره قولان أصحهما أنها من سورة والضحى.
واختلف الحنفية في مبدأ المفصل على أقوال اثني عشر، والمصحح أن أوله من الحجرات، وأول وسط المفصل سورة الطارق، وأول القصار سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: من الآية1].
وعند الشافعية قيل: أول المفصل سورة الحجرات، وقيل سورة ق، ورجحه ابن كثير في التفسير كما سيأتي. وعند الحنابلة أول المفصل سورة ق.
والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه.
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(26/179)
الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووصفهم ب {الَّذِينَ آمَنُوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال.
وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب، فهذه خمسة أقسام، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها.
والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير، وفعله المجرد: قدم من باب نصر قال تعالى {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: من الآية98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعديا إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدى إلى المفعول الثاني بحرف على.
ويقال: قدم بمعنى تقدم كأنه قدم نفسه، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى {لا تقدموا} لا تتقدموا.
ففعل {لا تقدموا} مضارع قدم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول، منه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمة الكتاب الطائفة منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فعل تجيء بمعنى تفعل مثل وجه بمعنى توجه وبين بمعنى تبين، ومن أمثالهم بين الصبح لذي عينين.
والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلا دون إذن من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتيانا على الشرع.
ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه.
وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعد الغزالي العلم بحكم ما يقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على
(26/180)
الأعيان الذين تعرض لهم.
والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حصل من قوله {لا تقدموا} الخ معنى اتبعوا الله ورسوله.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي أو إلى خلافي قال عمر: ما أردت خلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 1,2]
فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول وندائه من وراء الحجرات.
وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقتلت بنو عامر رجال السرية إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بين سليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنا منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعز من بني سليم، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال "بئسما صنعتم كانا من بني سليم، والسلب ما كسوتهما" أي عرف ذلك لما رأى السلب فعرفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا} الآية، أي لا تعملوا شيئا من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأياما كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد.
وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيدا لقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، لأن من خصه الله بهذه الحظوة، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر
(26/181)
الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.
وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب.
وقرأه الجمهور {تقدموا} بضم الفوقية وكسر الدال مشددة. وقرأه يعقوب بفتحمهما على ان أصله: لا تتقدموا. وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6] في هذه السورة: إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي: إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة، وإما أن يكونوا خارجين عنها بالفسق؛ والداخل في طريقتهم: إما حاضر عندهم، أو غائب عنهم، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وأرشد بعد كل مرة الى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة:
فقال أولا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وهي تشمل طاعة الله تعالى، وذكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله.
وقال ثانيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: من الآية2] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم، وأعقبه بآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: من الآية9]. وقال رابعا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلما يقام لها وزن.
وقال خامسا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} إلى قوله {تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:11] اه.
ويريد: أن الله ذكر مثالا من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالا على بقية نوعه ومرشدا إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة. وقد سلك القرآن لإقامة أهم حسن المعاملة طريق النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة.
(26/182)
وعطف {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده، أي ضده ليس من التقوى.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله.
والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.
[2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}
إعادة النداء ثانيا للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى.
وهذا أيضا توطئة لقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]
وإلقاء لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم.
والرفع: مستعار لجهر الصوت جهرا متجاوزا لمعتاد الكلام، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشد بلوغا إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار، على طريقة الاستعارة المكنية، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قوي بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية.
و {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ترشيح لاستعارة {لا ترفعوا} وهو فوق مجازي أيضا.
وموقع قوله {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} موقع الحال من {أصواتكم} ، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد.
ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه.
والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضكم بعضا كما وقع في صورة سبب النزول. ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده.
(26/183)
وفي صحيح البخاري: قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر، ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حميد عن أبي هريرة: أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله.
وفي صحيح البخاري قال ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد، وبغير ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذنا خاصا كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين "ناد يا أصحاب السمرة" وكان العباس جهير الصوت.
وقوله {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضى قوله {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومقتضى {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}
واللام في {له} لتعدية {تجهروا} لأن {تجهروا} في معنى: تقولوا، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحا التشبيه في قوله {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}
وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصا من المقدمة إلى الغرض المقصود، ويظهر حسن موقع قوله بعده {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]
و {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم، فحبط الأعمال بذلك مما يحذر منه فجعله مدخولا للام التعليل مصروف عن ظاهر. فالتقدير: خشية أن تحبط أعمالكم، كذا يقدر نحاة البصرة في هذا وأمثاله. والكوفيون يجعلونه بتقدير "لا" النافية فيكون التقدير: أن لا تحبط أعمالكم فيكون تعليلا للنهي على حسب الظاهر.
والحبط: تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتل وربما هلكت وفي الحديث
(26/184)
وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم. وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5].
وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر. قال ابن عطية: أي يكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال. وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} لآن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلا حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك. ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى.
ففي قوله {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
[3] {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] كان أبو بكر لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار، أي مصاحب السر من الكلام، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته.
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم،
(26/185)
وتفيد الجملة تعليل النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجل ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة.
وإذ قد علمت آنفا أن محصل معنى قوله {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} وقوله {وَلا تَجْهَرُوا} [الحجرات: 2] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجه العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده.
والغض حقيقته: خفض العين، أي أن لا يحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لخفض الصوت والميل به إلى الإسرار.
والامتحان: الاختبار والتجربة، وهو افتعال من محنه، إذا اختبره، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم: اضطره إلى كذا.
واللام في قوله للتقوى لام العلة، والتقدير: امتحن قلوبهم لأجل التقوى، أي لتكون فيها التقوى، أي ليكونوا أتقياء، يقال: امتحن فلان للشيء الفلاني كما يقال: جرب للشيء ودرب للنهوض بالأمر، أي فهو مضطلع به ليس بوان عنه، فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال ما غير متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم، ويجوز أن يجعل فعل {امتحن} مجازا مرسلا عن العلم، أي علم الله أنهم متقون، وعليه فتكون اللام من قوله {للتقوى} متعلقة بمحذوف هو حال من قلوب، أي كائنة للتقوى، فاللام للاختصاص.
وجملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} خبر {إن} وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه. وجعل في الكشاف خبر {إن} هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة {لهم} مستأنفة ولكل وجه فأنظره.
وقال وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما ل {إن} المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
(26/186)
الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته اه.
وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداء أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأخي السرار.
[5,4] {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
هذه الجملة بيان لجملة {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] بيانا بالمثال وهو سبب النزول. فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيب حصوله في الخارج، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضا إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصا لذكر ندائه من وراء الحجرات.
والمراد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاءوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلا أو أكثر. وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة، وكان بنو كعب قد أسلموا من قبل ولم أقف على وقت إسلامهم. والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعيا لقبض صدقات بني كعب، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاؤوا المدينة. وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زراره، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته، نادوا جميعا وراء الحجرات: يا محمد اخرج إلينا ثلاثا، فإن مدحنا زين، وإن شين، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به ينادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغساني.
(26/187)
وقولهم: إن مدحنا زين، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة: مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله. فلما خرج إليهم رسول الله قالوا: جئناك نفاخرك فإذن لشاعرنا وخطيبنا إلى آخر القصة.وقولهم: نفاخرك، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم، ويذكر الموفود عليهم مفاخرهم، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم: نفاخرك، وكان جمهورهم لم يزالوا كفارا حينئذ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار.
فالمراد ب {الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} رجال هذا الوفد. وإسناد فعل النداء إلى ضمير {الذين} لأن جميعهم نادوه، كما قال ابن عطية. ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس، وعليه فإسناد فعل {ينادونك} إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدم الوفد، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما قتله واحد منهم، قال تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72].
ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب. وإنما قال الله تعالى {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} لان منهم من لم يناد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ندائهم، ولعل المقصود استثناء اللذين كانا أسلما من قبل. فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية.
والوراء: الخلف، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه.
والمعنى: أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء.
و {من} للابتداء، أي ينادونك نداء صادرا من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول: ناداني فلان وراء الدار، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أي جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية، ولو قال: ناداني فلان وراء الدار، دون حرف {من} ، لكان محتملا لأن يكون المنادي والمنادى كلاهما في جهة وراء الدار، وأن المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب {من} ليدل بالصراحة على أن المنادى كان داخل الحجرات لأن دلالة {من} على الابتداء تستلزم اختلافا بين المبدأ والمنتهى كذا أشار في الكشاف، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف {من} لدفع
(26/188)
اللبس فلا ينافي أنه لم يثبت هذا الفرق في قوله تعالى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} في سورة الأعراف [17] وقوله {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} في سورة الروم.[25] وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب الكشاف.
فلفظ {وراء} هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية.
والحجرات، بضمتين ويجوز فتح الجيم: جمع حجرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فعلة بمعنى مفعولة كغرفة، وقبضة. وفي الحديث أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد.
وقرأ الجمهور {الحجرات} بضمتين. وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم.
وكانت الحجرات تسعا وهي من جريد النخل، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى، وعلى أبوابها مسوح من شعر أسود وعرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع، ومساحة البيت الداخل، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعا. قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي. وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتا واحدا مقسما إلى حجرات تسع.
وتعريف {الحجرات} باللام تعريف العهد، لأن قوله {ينادونك} مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة.
وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في {ينادونك} لاستحضار حالة ندائهم.
ومعنى قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة.
فقوله {خيرا} يجوز أن يكون اسم تفضيل، ويكون في المعنى: لكان صبرهم أفضل من العجلة. ويجوز أن يكون اسما ضد الشر، أي لكان صبرهم خيرا لما فيه من محاسن الخلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة العوائد الجاهلية الذميمة.
وإيثار {حتى} في قوله {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} دون "إلى" لأجل الإيجاز بحذف
(26/189)
حرف "أن" فإنه ملتزم حذفه بعد {حتى} بخلافه بعد "إلى" فلا يجوز حذفه.
وفي تعقيب هذا اللوم بقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أنه تعالى لم يحص عليهم ذنبا فيما فعلوا ولا عرض لهم بتوبة. والمعنى: والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين.
[6] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
هذا نداء ثالث ابتدئ به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلما بلغهم مجيئه، أو لما استبطأوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولى راجعا إلى المدينة.
هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفا وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يبعث إليهم خالد بن الوليد لينظر في أمرهم، وفي رواية أنه بعث خالدا وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالدا لما بلغ ديار القوم بعث عينا له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعا. وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يظن بهم منع الصدقات فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة. وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجا إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في الصحيح.
وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر. ولنشتغل الآن
(26/190)
ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلة فيهم الآية السابقة جاؤوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم، وبنو المصطلق تبرؤوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يناكده بعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وهم.
وإعادة الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة المتقدم ذكرها.
ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسويت.
والفاسق: المتصف بالفسوق، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر. وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله.
وأوثر في الشرط حرف {إن} الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون. واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحا ولا تلويحا.
وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظن ذلك كما في الإصابة عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب. قال الفخر: إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا.
قلت: ولو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له التبيين من الله والعجلة من الشيطان ، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة. وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنه حقا إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقي السعاة. وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيهم تعيرا منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدو لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى.
ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد. أعلم بخروج القوم إليه،
(26/191)
وسمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعز به إليه ليخاف فيرجع. وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعا جوادا وكان ذا خلق ومروءة. واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولا وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه. وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري. قال في أماليه في أصول الفقه ولسنا نعني بأصحاب النبي كل من رآه أو زاره لماما إنما يريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح اه. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلا. وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول الى ديارهم قصدا لإرجاعه.
وفي بعض الروايات أن خالدا وصل إلى ديار بني المصطلق. وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شحناء من عهد الجاهلية.
وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم. وفي السيرة الحلبية، أنهم قالوا: خشينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء. وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جهل حال تقواه. وقد قال عمر ابن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول، وهي أيضا أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به.
والخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءا ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة. ومجيء حرف {إن} في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا.
والتبيين: قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان، أي تأملوا وأبينوا. والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها. والأمر بالتبيين أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام.
(26/192)
ومعنى {فتبينوا} تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعيا إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستندا للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول.
وإنما كان الفاسق معرضا خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جرأته على ذلك دوما إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله.
والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك.
وتنكير {فاسق} ، و {نبإ} ، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا، وفي الأنباء كيف كانت، كأنه قيل: أي فاسق جاءكم بأي نبإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه.
وقرأ الجمهور {فتبينوا} بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيين، وقرأ حمزة والكسائي وخلف فتثبتوا بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية من التثبت. والتبيين: تطلب البيان وهو ظهور الأمر، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق. ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "التثبت من الله والعجلة من الشيطان".
وموقع {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا} الخ نصبا على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة. ويجوز كونه منصوبا على المفعول لأجله.
والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت.
فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصليح للإتيان بضده لتلازم الضد. وتقدم نظير هذا التعليل في قوله {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] في هذه السورة.
وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصابة الناس. وهذا بدلالة فحوى الخطاب.
والجهالة: تطلق بمعنى ضد العلم، وتطلق بمعنى ضد الحلم مثل قولهم: جهل كجهل السيف، فإن كان الأول، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي
(26/193)
متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب، ومتعلق {تصيبوا} على هذا الوجه محذوف دل عليه السياق سابقا ولاحقا، أي أن تصيبوهم بضر، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضر وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية، أي أن تصيبوا قوما بفعل من أثر الجهالة، أي بفعل من الشدة والإضرار.
ومعنى {فتصبحوا} فتصيروا لأن بعض أخوات كان تستعمل بمعنى الصيرورة. والندم: الأسف على فعل صدر. والمراد به هنا الندم الديني، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق.
وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} موجه ابتداء للمؤمنين المخبرين بفتح الباء كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبرين بكسر الباء. ولكن هذا الخطاب لا يترك المخبرين بكسر الباء بمعزل عن المطالبة بهذا التبين فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخي سوء العاقبة فيما يختلفونه من المختلفات ولكن هذا تبين يخالف تبين الآخر وتثبته، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من الكلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر. واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله:
المسألة الأولى: وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة. وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفا.
المسألة الثانية: أنها دالة على قبول الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد.
المسألة الثالثة: قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبيت عدالته.
وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك. وقال بعضهم: الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال. أما المجهول باطنه وظاهره معا فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره، وكأنهم نظروا إلى
(26/194)
معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي، وقد قيل: إن عمر بن الخطاب كان قال المسلمون عدول بعضهم عن بعض وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رجع فقال لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول
ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين. وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق.
المسألة الرابعة: دل قوله {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعا، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحدا بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبين وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصفة المخطئ وما ينقض من أحكامه.
وتقديم المجرور على متعلقه في قوله {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} للاهتمام بذلك الفعل، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
عطف على جملة {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: من الآية6] عطف تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} الخ بل هي جملة مستقلة.
وابتداء الجملة ب {اعلموا} للاهتمام، وقد تقدم في قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} في سورة البقرة[235]. وقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في الأنفال[41].
وقوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكناية. فإن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه. فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم.
(26/195)
وجملة {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} الخ يجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا.
فضميرا الجمع في قوله {يطيعكم} وقوله {لعنتم} عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم بما يطلبون منه، والعانت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رغبة غيرهم. ويجوز أن تكون جملة {لو يطيعكم} الخ في موضع الحال من ضمير {فيكم} لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين، من جهة أن مضمون جواب {لو} عنت يحصل للمخاطبين. ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم.
والطاعة: عمل أحد يؤمر به وما ينهى عنه وما يشار به عليه، أي لو أطاعكم فيما ترغبون.
و {الأمر} هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة.
والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ {كَثِيرٍ مِنَ} أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه.
وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو من غير شؤون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثرون فيها بماء بدر.
والعنت: اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة.
وصيغة المضارع في قوله {لو يطيعكم} مستعملة في الماضي لأن حرف {لو} يفيد تعليق الشرط في الماضي، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجل النفع العائد عليه بالضر.
وتقديم خبر "إن" على اسمها في قوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيها على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم.
والعنت: المشقة، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما يرغبون العنت. وهو الإثم إذ استغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على
(26/196)
الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
الاستدراك المستفاد من {لكن} ناشئ عن قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} لأنه اقتضى أن لبعضكم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحا بهم في أشياء كثيرة تعرض لهم. والمعنى: ولكن الله لا يأمر رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مرادا منه الاعتقاد، فان اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، ولذا فكونه حبب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز. والتقدير: ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم.
وفي قوله {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق، قال تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله {هُمُ الظَّالِمُونَ} [ النور: 50,48]
والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات: من الآية11] تحذيرا لهم من الحياد عن مهيع الإيمان وتجنيبا لهم ما هو من شأن أهل الكفر.
فالخبر في قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} إلى قوله {والعصيان} مستعمل في الإلهاب وتحريك الهمم لمراعاة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصيان فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه. وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية من آثار الكفر والفسوق والعصيان.
وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة. وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حبب إليه ونبذ ما كره إليه.
(26/197)
وعدي فعلا {حبب} و {كره} بحرف "إلى" لتضمينها معنى بلغ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكره الكفر. ولم يعد فعل {وزينه} بحرف "إلى" مثل فعلي {حبب} و {كره} ، للإيماء إلى أنه لما رغبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبوا الإيمان وزان في قلوبهم.
والتزيين: جعل الشيء زينا، أي حسنا قال عمر بن أبي ربيعة:
أجمعت خلتي مع الفجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} معترضة للمدح. والإشارة ب {أولئك} إلى ضمير المخاطبين في قوله {إليكم} مرتين وفي قوله {قلوبكم} أي الذين أحبوا الإيمان وتزينت به قلوبهم، وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون، أي هم المستقيمون على طريق الحق.
وأفاد ضمير الفصل القصر وهو قصر إفراد إشارة الى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين.
وانتصب {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال {حبب} ، {وزين} ، {وكره} لأن ذلك التحبيب والتزيين والتكريه من نوع الفضل والنعمة.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل لجملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته.. والواو اعتراضية.
[9] {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} لما جرى قوله {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: من الآية6] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبيين فيها أعسر، وقد لا يحصل التبيين إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة.
وفي الصحيحين عن أنس ابن مالك أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار، فقال عبد الله بن أبي: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيب من مسكك فاستبا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم
(26/198)
رسول الله فأصلح بينهم... فنزلت هذه الآية. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.
ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن انس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله فبلغنا أن نزلت فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة.
وعن قتادة والسدي: أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والعصي فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكما عاما نزل في سبب خاص.
و {إن} حرف شرط يخلص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع. وارتفع {طائفتان} بفعل مقدر يفسره قوله {اقتتلوا} للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضيا على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أوليت فيه {إن} الشرطية الاسم نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: من الآية6]، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} [النساء: من الآية128]. قال الرضي وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي "ان" أن يكون ماضيا وقد يكون مضارعا على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله.
ويعود ضمير {اقتتلوا} على {طائفتان} باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء.[102]
والوجه أن يكون فعل {اقتتلوا} مستعملا في إرادة الوقوع مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: من الآية6] ومثل { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3]، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء: 128].
وبذلك يظهر وجه تفريع قوله {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} على جملة
(26/199)
{اقتتلوا} أي فإن ابتدأت إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية.
والبغي: الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف {الَّتِي تَبْغِي} هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح.
وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع.وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغيا بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاة على جماعة المؤمنين، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سببا في إراقة دماء المسلمين اجتهادا منه فوجب على المسلمين طاعته لأنه ولي الأمر ولم ينفوا عن الثوار حكم البغي.
ويحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تخش من عصيانه فتنة لأن ضر الفتنة أشد من شد الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة.
وقد كان تحقيق معنى البغي وصوره غير مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي الله عنه من الذين بايعوه بالخلافة، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القود من قتلة عثمان منهم، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالا للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة. وقال ابن العربي: كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط. وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطئ، وكان الواجب يقضي على جماعة من المسلمين
(26/200)
الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل: إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحرورية على أمر التحكيم فقالوا: لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال.
وقيل: كيدت مكيدة بين الحكمين، والإخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء. والله أعلم بالضمائر.
وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال: شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا. وقال المحاسبي: تعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا.
والأمر في قوله {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} للوجوب، لأن هذا حكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق، ولان ترك قتال الباغية يجر إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد، ولأن ذلك يجرئ غيرها على أن تأتي مثل صنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشا يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأئمة والخلفاء. فإذا اختل أمر الإمامة فليتول قتال البغاة السواد الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجر إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يؤبه بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها، وذلك بعد أن تبين لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وتزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يأب منهما فهو أعق وأظلم.
وجعل الفيء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي حتى تقلع عن بغيها. وأتبع مفهوم الغاية ببيان ما تعامل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير {اصلحوا} .
والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديدا فتجب مراعاة التعديل.
(26/201)
وقيد الإصلاح المأمور به ثانيا بقيد أن تفيء الباغية بقيد {بالعدل} ولم يقيد الإصلاح المأمور به، وهذا القيد يقيد به أيضا الإصلاح المأمور به أولا لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف.
ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله {وأقسطوا} أمرا عاما تذييلا للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي، ثم قال {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه: أن الفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخوة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما.
قال أبو بكر بن العربي: ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة ا ه. ثم قال: لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية. وقال أبو حنيفة يضمنون. وللشافعي فيه قولان. فأما ما كان قائما رد بعينه. وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر.
فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم. وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جريا على قوله تعالى {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
[10] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم، فالجملة موقعها موقع العلة، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة.
(26/202)
وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازا على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوة.
وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن {إنما} أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزل منزلة ذلك كما قال الشيخ في دلائل الإعجاز في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر. وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} في سورة الحشر، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين. وفي الحديث لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل.
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر. فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك فقال: "أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال.وفي حديث صحيح مسلم "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" وفي الحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه.
فأشارت جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المتباغيتين منهم ببيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من النسب الموحى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت: أنا بنت خفاف بن أيماء، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر مرحبا بنسب قريب ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشيا بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبث السفراء إلى أن يرقعوا ما وهي، ويرفعوا ما أصاب ودهى.
(26/203)
وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه {إنما} من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} قد أردف بالتعليل فحصل تقريره، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريرا.
وقد حصل من هذا النظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس، ثم ما يشبه النتيجة.
ولما تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمال التقرر عدل عن أن يقول: فأصلحوا بين الطائفتين، إلى قوله {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فهو وصف جديد نشأ عن قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل.
وأوثرت صيغة التثنية في قوله {أخويكم} مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى. وقرأ الجمهور {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بلفظ تثنية الأخ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين. وقرأ الجمهور {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ. وقرأ يعقوب {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ.
والمخاطب بقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينهما ومقاتلة الباغية، فتقوى كل بالوقوف عند ما أمر الله به كلا مما يخصه، وهذا يشبه التذييل. ومعنى {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : ترجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح. وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ}
(26/204)
لما اقتضت الأخوة أن تحسن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشيها في الجاهلية لهذه المناسبة، وهذا نداء رابع أريد بما بعده أمر المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم.
وعن الضحاك: أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعمار وصهيب، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها.
وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها: أن ثابت بن قيس بن شماس كان في سمعه وقر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أوسعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوما يتخطى رقاب الناس فقال رجل: قد أصبت مجلسا فاجلس. فقال ثابت: من هذا? فقال الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: ابن فلانة وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية، فاستحيا الرجل. فأنزل الله هذه الآية ، فهذا من اللمز.وروي عن عكرمة: أنها نزلت لما عيرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالقصر ، وهذا من السخرية. وقيل: عير بعضهن صفية بأنها يهودية، وهذا من اللمز في عرفهم.
وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلا غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر. وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مهم من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهل فيها. وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها. وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز.
والسخر، ويقال السخرية: الاستهزاء، وتقدم في قوله {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} في سورة براءة،[79] وتقدم وجه تعديته ب"من".
والقوم: اسم جمع: جماعة الرجال خاصة دون النساء، قال زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء?
وتنكير {قوم} في الموضعين لإفادة الشياع، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين.
وإنما أسند {يسخر} إلى {قوم} دون أن يقول: لا يسخر بعضكم من بعض كما قال {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] للنهي عما كان شائعا بين العرب من
(26/205)
سخرية القبائل بعضها من بعض فوجه النهي إلى الأقوام. ولهذا أيضا لم يقل: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب. وهذا النهي صريح في التحريم.
وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام، كما يشمل لفظ {المؤمنين} المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع، فأن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعا لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلا في النساء، فلأجل دفع التوهم الناشئ من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} في سورة البقرة.[178]
وجملة {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخورية، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه. وليست جملة {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} صفة لقوم من قوله {من قوم} وإلا لصار النهي عن السخرية خاصا بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر، وكذلك القول في جملة {عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} وليست صفة ل {نساء} من قوله {من نساء} .
وتشابه الضميرين في قوله {أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ}وفي قوله {أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير، فهو كالضمائر في قوله تعالى {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم،[9] وقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}
اللمز: ذكر ما يعده الذاكر عيبا لأحد مواجهة فهو المباشرة بالمكروه. فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء، وإن كان باطلا فهو وقاحة وكذب، وكان شائعا بين العرب في جاهليتهم قال تعالى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] يعني نفرا من المشركين كان دأبهم لمز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفي يعرف منه المواجه به أنه يذم أو يتوعد، أو يتنقص باحتمالات كثيرة، وهو غير النبز وغير الغيبة.
(26/206)
وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك.
ومعنى {لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} لا يلمز بعضكم بعضا فنزل البعض الملموز نفسا للامزه لتقرر معنى الأخوة، وقد تقدم نظيره عند قوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} في سورة البقرة. [48]
والتنابز: نبز بعضهم بعضا، والنبز بسكون الباء: ذكر النيز بتحريك الباء وهو اللقب السوء، كقولهم: أنف الناقة، وقرقور، وبطة، وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا. قال بعض الفزاريين:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقب
روي برفع السوأة اللقب فيكون جريا على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة. ورواه ديوان الحماسة بنصب السوأة على أن الواو واو المعية. وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقبا ملابسا للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سوء. ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن. ولعل ما وقع في ديوان الحماسة من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى.
فالمراد ب {الألقاب} في الآية الألقاب المكروهة بقرينة {وَلا تَنَابَزُوا}
واللقب ما أشعر بخسة أو شرف سواء كان ملقبا به صاحبه أم اخترعه له النابز له.
وقد خصص النهي في الآية ب {الألقاب} التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خص بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو اليدين" ، وقوله لأبي هريرة "يا أبا هر" ، ولقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمان بن هرمز، والأعمش لسليمان من مهران.
وإنما قال {لا تَلْمِزُوا} بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال {لا تَلْمِزُوا} بصيغة الفعل الواقع من جانبين، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية.
{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
(26/207)
تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوي بأن ما نهوا عنه فسوق وظلم، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدل قوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل، وهذا دال على أن اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق. وفي الحديث سباب المسلم فسوق.
ولفظ {الاسم} هنا مطلق على الذكر، أي التسمية، كما يقال: طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم. والمعنى: بئس الذكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وصف بالإيمان.
وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية.
ومعنى البعدية في قوله {بَعْدَ الْأِيمَانِ} بعد الاتصاف بالإيمان، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع، وهذا كقول جميلة بنت أبي حين شكت للنبي صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه: لا أعيب على ثابت في دين ولا في خلق ولكني أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضا.
وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم: لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديدا جدا. فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا. والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة.
وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعا لحالهم وللتنبيه، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
(26/208)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}
أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به. وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها.
ففي قوله تعالى {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا خذ اللص قبل أن يأخذك
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: من الآية154] وقال {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]
وقال {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية148] ثم قال {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: من الآية148].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
والمراد ب{الظن} هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم. وجملة {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} استئناف بياني لأن قوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي اليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم. وليس هذا البيان توضيحا لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وترك التفصيل لأن في إبهامه بعثا على مزيد الاحتياط.
ومعنى كونه إثما أنه: إما أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدر الظان أن ظنه
(26/209)
كاذب ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم، وقد قال العلماء: إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز. وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدر أن ظنه كان مخطئا يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقادا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارا، أو الاهتداء بمن ظنه ضالا، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلا ونحو ذلك.
ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علما راسخا في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: من الآية6].
والاجتناب: افتعال من جنبه وأجنبه، إذا أبعده، أي جعله جانبا آخر، وفعله يعدى إلى مفعولين، يقال: جنبه الشر، قال تعالى {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [ابراهيم: من الآية35]. ومطاوعه اجتنب، أي ابتعد، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال.
ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك. وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة. وفي الحديث إذا ظننتم فلا تحققوا على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يجد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلا للتأسي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريك أن الله أكرمه. فقالت: يا رسول الله ومن يكرمه الله? فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين وإني أرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي". فقالت أم عطية: والله لا أزكي بعده أحدا.
وقد علم من قوله {كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن {كثيرا} وصف، فمفهوم المخالفة منه يدل على أن كثيرا من الظن لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} أي أن بعض الظن ليس إثما، فعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنيين من
(26/210)
الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة، فمنه ظن يجب اتباعه كالحذر من مكائد العدو في الحرب، وكالظن المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة. وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلا على الذين يرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه.
وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدرى فمعتاده منه من إصابة أو ضدها قال أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
{وَلا تَجَسَّسُوا}
التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظان نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة.
والتجسس: البحث بوسيلة خفية وهو مشتق من الجس، ومنه سمي الجاسوس.
والتجسس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه. ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات. وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش.
وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسس، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه.
وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضر بهم.
فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجر منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا
(26/211)
يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص.
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}
الاغتياب: افتعال من غابه المتعدي، إذا ذكره في غيبه بما يسوءه.
فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يحب أن يذكر به، والاسم منه الغيبة بكسر الغين مثل الغيلة. وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العرض وإلا صار قذعا.
وإنما قال {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} دون أن يقول: اجتنبوا الغيبة. لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملا على جانب فاعل الاغتياب ومفعوله مهد له بما يدل على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحا.
والاستفهام في {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله {فكرهتموه} .
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال: ألا يحب أحدكم، كما هو غالب الاستفهام التقريري، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرر عليه بحيث يترك للمقرر مجالا لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار. مثلت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية.
فشبهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم، ويشبه الذي اغتيب بأخ، وتشبه غيبته بالموت.
والفاء في قوله {فكرهتموه} فاء الفصيحة، وضمير الغائب عائد إلى {أحدكم} ، أو يعود إلى {لحم} .
والكراهة هنا: الاشمئزاز والتقذر. والتقدير: إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه.
(26/212)
وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} في سورة الفرقان، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف.
والمعنى: فتعين إقراركم بما سئلتم عنه من الممثل به إذ لا يستطاع جحده تحققت كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثل وهو الغيبة فكأنه قيل: فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به.
وفي هذا الكلام مبالغات: منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدعي أنه لا ينكره المخاطب.
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل: أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، بل قال {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ}
ومنها إسناد الفعل إلى {أحد} للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا.
ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخ ميتا.
وفيه من المحسنات الطباق بين {أيحب} وبين {فكرهتموه} .
والغيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه.
وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضعف في أخوة الإسلام. وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه.
وهي عند المالكية من الكبائر وقل من صرح بذلك، لكن الشيخ عليا الصعيدي في حاشية الكفاية صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقا. ووجهه أن الله نهى عنها وشنعها. ومقتضى كلام السجلماسي في كتاب العمل الفاسي أنها كبيرة.
وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدها إمام الحرمين.
(26/213)
فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغيبة، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها.
وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعيينة بن حصن "بئس أخو العشيرة" ليحذره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفا عن الإسلام.
وعن الطبري صاحب العدة في فروع الشافعية أنها صغيرة، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه. قلت: وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال:
ولا تجرح شاهدا بالغيبه ... لأنها عمت بها المصيبه
وذكر في شرحه: أن القضاة عملوا بكلام الغزالي.
وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمت به إلا عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد.
وعندي: أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرة بحيث يصير غير دال على استخفاف بالوازع الديني فحينئذ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءا من ماهية الغيبة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
عطف على جمل الطلب السابقة ابتداء من قوله {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} وهذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جماع الاجتناب والامتثال فمن كان سالما من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل، ومن كان متلبسا بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي، فالرحيم شامل للجميع.
[13] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
(26/214)
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة، وضبيعة، وبني عكل.
سئل أعرابي: أتحب تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال: على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي. فكان ذلك يجر إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.
فعن أبي داود أنه روى في كتابه المراسيل عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة من الأنصار أن يزوجوا أبا هند مولى بني بياضة قيل اسمه يسار امرأة منهم فقالوا: تزوج بناتنا موالينا، فأنزل الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.
ونودوا بعنوان {الناس} دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل والى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغتر بأن غالب الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إنما كان في المكي.
والمراد بالذكر والأنثى: آدم وحواء أبوا البشر، بقرينة قوله {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}
ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم بنو آدم وآدم من تراب" كما سيأتي قريبا. فيكون تنوين "ذكر وأنثى" لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.
ويجوز أن يراد ب {ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى.
(26/215)
وحرف "من" على كلا الاحتمالين للابتداء.
والشعوب: جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذما، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمضر شعب، وربيعة شعب، وأنمار شعب، وإياد شعب، وتجمعها الأمة العربية المستعربة، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، وحمير وسبأ، والأزد شعوب من أمة قحطان. وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر. ومذحج، وكندة قبيلتان من شعب سبأ. والأوس والخزرج قبيلتان من شعب الأزد.
وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كنانة، وتحت العمارة البطن مثل قصي من قريش، وتحت البطن الفخذ مثل هاشم وأمية من قصي، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان.
واقتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.
وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جريا على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.
وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل. وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا.
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أو اصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.
والمقصود: أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان.
(26/216)
ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
وقول العقيلي وحاربه بنو عمه فقتل منهم:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
وقول الشميذر الحارثي:
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره.
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة، ذكرهم بأصل الأخوة في الانسياب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله {لتعارفوا} ثم وأتبعه بقوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: من الآية26].
والخبر في قوله {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.
(26/217)
وأما جملة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.
والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".
ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب". وفي رواية أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية: الكبر والفخر. ووزنهما على لغة ضم الفاء فعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نض الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي.
وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} إلى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وجملة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإنما أخرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب {عِنْدَ اللَّهِ} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.
والمراد بالأكرم: الأنفس والأشرف، كما تقدم بيانه في قوله {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل. [29]
والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتقى على غير قياس.
(26/218)
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} تعليل لمضمون {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: من الآية32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]
علم أن قوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لا ينافي ان تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مماشأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارا لأفرادها وخلالا في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
فإن في خلق الأنباء آثارا من طباع الآباء الأدنين أو الأعلين تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارا جمة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.
[14] {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنة الوفود، وفد بني أسد بن خزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذكر في أول السورة، ووفد بنو أسد في عدد كثير وفيه ضرار بن الأزور، وطليحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك
(26/219)
محارب خصفة وهوازن وغطفان. يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنون عليه ويريدون أن يصرف إليهم الصدقات، فأنزل الله فيهم هذه الآيات الى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة، والأغراض المسكوة بالجفاء متناسبة. وقال السدي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح في قوله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} الآية.
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية.
والأعراب: سكان البادية من العرب. وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي.
وتعريف {الأعراب} تعريف العهد لأعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقا على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد.
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية.
والاستدراك بحرف "لكن" لرفع ما يتوهم من قوله {لم تؤمنوا} أنهم جاؤوا مضمرين الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإنما قال {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} تعليما لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مقره اللسان والأعمال البدنية، وهي قواعد الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثوا عهد به كذبهم الله في قولهم {آمنا} ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله، وأنه لا يتعد بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان، فلا يغني أحدهما بدون الآخر، فالإيمان بدون إسلام عناد، والإسلام بدون إيمان نفاق، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، أو أن يقال:
(26/220)
قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستغني بقوله {لم تؤمنوا} عن أن يقال لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقا لا كاذبا فقيل لهم {لم تؤمنوا} تكذيبا لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولا على المعنى.
وعدل عن أن يقال: ولكن أسلمتم إلى {قُولُوا أَسْلَمْنَا} تعريضا بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر، وذلك مما يتعير به، أي الشأن أن تقولوا قولا صادقا.
وقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} واقع موقع الحال من ضمير {لم تؤمنوا} وهو مبين لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله {لم تؤمنوا} بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}
واستعير الدخول في قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويستقر بالخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزا للانصراف عنه.
و"لما" هذه أخت "لم" وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين "لم" أختها. وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن المتكلم تؤذن غالبا، بأن المنفي بها متوقع الوقوع. قال في الكشاف وما في "لما" من معنى التوقع دالا على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب. وهذا من دقائق العربية. وخالف فيه أبو حيان، والزمخشري حجة في الذوق لا يدانية أبو حيان، ولهذا لم يكن قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} تكريرا مع قوله {لم تؤمنوا} .
(26/221)
وقوله {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضا عن الاشتغال بالمن والتعريض بطلب الصدقات.
ومعنى {لا يلتكم} لا ينقصكم، يقال: لاته مثل باعه. وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد، ويقال: ألته ألتا مثل: أمره، وهي لغة غطفان قال تعالى {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الطور [21].
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب. ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفهما.
وضمير الرفع في {يلتكم} عائد إلى اسم الله ولم يقل: لا يلتاكم بضمير التثنية لأن الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدها، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غير معتد بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده.
وترتيب {رحيم} بعد {غفور} لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها.
[15] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
هذا تعليل لقوله {لم تؤمنوا} إلى قوله {فِي قُلُوبِكُمْ} وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك.
(26/222)
و"إنما" للحصر، و"إن" التي هي جزء منها أيضا للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب.
والقصر إضافي، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب.
فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.
وإذ قد كان القصر إضافيا لم يكن الغرض منه إلا إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذلك لأن الذي يقعد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق. وما عداه خطأ واضح، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة.
والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: من الآية16] الآية.
و"ثم" من قوله {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل. ففي "ثم" إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبة من الإيمان إذ به قوام الإيمان، وهذا إيماء إلى بيان قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: من الآية14] أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلع الله عليه.
وقوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} قصر، وهو قصر إضافي أيضا، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم {آمنا} .
[16] {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أعيد فعل {قل} ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم {لم تؤمنوا} إلى آخره، فأعيد لما طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة، فهذا متصل بقوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} اتصال البيان بالمبين، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام.
(26/223)
وجملة {قل} معترضة بين الجملتين المبينة والمبينة.
قيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيرا ولو كان كذلك لوبخهم الله على الإيمان الكاذبة كما وبخ المنافقين في سورة براءة {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية. ولم أر ذلك بسند مقبول، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.
والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير، يقال: أعلمه وعلمه كما يقال: أنباه ونبأه. وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه.
وباء {بدينكم} زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وقول النابغة:
لك الخيران وارت بك الأرض واحدا
والاستفهام في {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطلع على كل شيء.
وجملة {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لأن {كُلِّ شَيْءٍ} أعم من {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش.
[17] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبي صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو.
والمن: ذكر النعمة والإحسان ليراعيه المحسن إليه للذاكر، وهو يكون صريحا مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
(26/224)
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ... وقد سال من ذل عليك قراقر
ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع المنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدل على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطبا عبد الملك بن مروان:
فآزرت آل أبي خبيب وافدا ... يوما أريد لبيعتي تبديلا
أبو خبيب: كنية عبد الله بن الزبير.
وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المن لأنهم قالوا ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغطفان وهوازن وقالوا وجئناك بالأثقال والعيال.
و {أَنْ أَسْلَمُوا} منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية، يقال: من عليه بكذا، وكذلك قوله {لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} إلا أن الأول مطرد مع {أن} و"أن" والثاني سماعي وهو كثير.
وهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم آمنا كما حكاه الله آنفا، وسماه هنا إسلاما لقوله {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: من الآية14] أي أن منوا به عليك إسلام لا إيمان.
وأثبت بحرف {بل} أن ما منوا به إن كان إسلاما حقا موافقا للإيمان فالمنة لله لأن هداهم إليه فأسلموا عن طواعية.
وسماه الآن إيمانا مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنة لله فمناسبة مسابرة زعمهم أنهم آمنوا، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم.
ولذلك ذيله بقوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فنفى أولا أن يكون ما يمنون به حقا، ثم أفاد ثانيا أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله.
وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاما لقوله {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}
وأتي بالإيمان معرفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حد ذاته وأنهم ملابسوها.
وجيء بالمضارع في {يمنون} مع أن منهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة البقرة.[212]
وجيء بالمضارع في قوله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} لأنه من مفروض لأن الممنون به لما يقع.
وفيه من الإيذان بأنه سيمن عليهم بالإيمان ما في قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع مع كل فن منه في قراره، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص.
(26/225)
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل: هو يعطي الجزيل، كما مثل به عبد القاهر.
[18] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
ذيل تقويمهم على الحق بهذا التذييل ليعلموا أن الله لا يكتم، وأنه لا يكذب، لأنه يعلم كل غائبة في السماء والأرض فإنهم كانوا في الجاهلية لا تخطر ببال كثير منهم أصول الصفات الإلهية.
وربما علمها بعضهم مثل زهير في قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى فمهما يكتم الله يعلم
ولعل ذلك من آثار تنصره.
وتأكيد الخبر ب {إن} لأنهم بحال من ينكر أن الله يعلم الغيب فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه مرسل من الله فكان كذبهم عليه مثل الكذب على الله.
وقد أفادت هذه الجملة تأكيد مضمون جملتي {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] ولكن هذه زادت بالتصريح بأنه يعلم الأمور الغائبة لئلا يتوهم متوهم أن العمومين في الجملتين قبلها عمومان عرفيان قياسا على علم البشر.
وجملة {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} معطوف على جملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عطف الأخص على الأعم لأنه لما ذكر أنه يعلم الغيب وكان شأن الغائب أن لا يرى عطف عليه علمه بالمبصرات احتراسا من أن يتوهموا أن الله يعلم خفايا النفوس وما يجول في الخواطر ولا يعلم المشاهدات نظير قول كثير من الفلاسفة: إن الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، ولهذا أوثر هنا وصف {بصير} . وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بتاء الخطاء. وقرأه ابن كثير بياء الغيبة.
(26/226)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
سميت في عصر الصحابة سورة ق ينطق بحروف: قاف، بقاف، وألف، وفاء.
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [قّ:1] وربما قال: {ق} ويعني في الركعة الأولى.
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس.
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب {قاف وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} هكذا رسم قاف ثلاث أحرف، وقوله في الفجر يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته.
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر? فقال: كان يقرأ فيهما ب {قاف} هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص. و ق. ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.
وفي الإتقان أنها تسمى سورة الباسقات. هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ:10]. وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين.
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك: استثناء آية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38] أنها نزلت
(26/227)
في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أم مقالة اليهود سمعت بالمدينة، يعني: وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها. وهذا المعنى وان كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله صلى الله عليه وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: من الآية67] فإنها نزلت بمكة. وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال: إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
وقد أجمع العادون على عد آيها خمسا وأربعين.
أغراض هاته السورة
أولها: التنويه بشأن القرآن.
ثانيها: أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر،
وثالثها: الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.
الرابع: تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.
الخامس: الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد، وذكر هول يوم
(26/228)
الحساب.
السادس: وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.
السابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.
الثامن: الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.
التاسع: إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس.
[1-3] {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
{ق}
القول فيه نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور. فهو حرف من حروف التهجي. وقد رسموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يتهجى بها في المكتب، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحرف المعروف، أي ينطقون بقاف بعدها ألف، بعده فاء. وقد أجمع من يتعد به القراء على النطق به ساكن الآخر سكون هجاء في الوصل والوقف.
ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله: {ق} اسم جبل عظيم محيط بالأرض. وفي رواية عنه انه اسم لكل واحد من جبال سبعة محيطة بالأرضين السبع واحدا وراء واحد كما أن الأرضين السبع أرض وراء أرض. أي فهو اسم جنس انحصرت أفراده في سبعة، وأطالوا في وصف ذلك بما أملاه عليهم الخيال المشفوع بقلة التثبت فيما يروونه للإغراب، وذلك من الأوهام المخلوطة ببعض أقوال قدماء المشرقيين، وبسوء فهم البعض في علم جغرافية الأرض وتخيلهم إياها رقاعا مسطحة ذات تقاسيم يحيط بكل قسم منها ما يفصله عن القسم الآخر من بحار وجبال، وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره لولا أن كثيرا من المفسرين ذكروه.
ومن العجب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن {ألم} ،[البقرة:1] يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجي مثل {آلم} العنكبوت: 1] و {آلمص}
(26/229)
[الأعراف: 1] و {كهيعص} [مريم:1] ولو أريد الجبل الموهوم لكتب قاف ثلاثة حروف كما تكتب دوال الأشياء مثل عين: اسم الجارحة، وغينش: مصدر غان عليه، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجي كما لا يخفى.
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
قسم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم. وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف {القرآن} ب {المجيد} فالمجيد المتصف بقوة المجد. والمجد ويقال المجادة: الشرف الكامل وكرم النوع.
وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده.
وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدال على مراد الله تعالى إذ أوجد ألفاظه وتراكيبه وصورة نظمه بقدرته دون واسطة، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبرون بكلامهم عما يلقى إليهم من الوحي.
ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة، ومثل ما أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القدسي، فإن القرآن يفوق ذلك كله لما جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزا لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه. ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها، وأيضا بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما ينسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضه.
وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف {ق} المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحديهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
والتقدير: والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1-4] أو يقدر
(26/230)
الجواب: إنه لتنزيل من رب العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3] ونحو ذلك. والإضراب الانتقالي يقتضي كلاما منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلاما تاما فتعين أن يقدر السامع جوابا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.
وهذا من إيجاز الحذف وحسنه أن الانتقال مشعر بأهمية المتنقل إليه، أي عد عما تريد تقديره من جواب وانتقل إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل: دع ذا، وقول امرئ القيس:
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقول الأعشى:
فدع ذا ولكن رب أرض متيهة ... قطعت بحرجوج إذا الليل أظلما
وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} في سورة ص [2].
وقوله {عجبوا} خبر مستعمل في الإنكار إنكارا لعجبهم البالغ حد الإحالة.
و {عجبوا} حصل لهم العجب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:73,72] فإن الاستفهام في {أتعجبين} إنكار وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجب. فالمعنى هنا: أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشرا مثلهم، قال تعالى {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:94]
وضمير {عجبوا} عائد إلى غيره مذكور، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان الملك فإن المتحدين بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضا يعلمون أنهم المعنيون بالتحدي بالإعجاز. على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ}
وضمير {منهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {عجبوا} . والمراد: أنه من نوعهم أي من بني الإنسان.
و {أَنْ جَاءَهُمْ} مجرور ب"من" المحذوفة مع {أن} ، أي عجبوا من
(26/231)
مجيء منذر منهم، أو عجبوا من ادعاء أن جاءهم منذر منهم.
وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف {منذر} وهو المخبر بشر سيكون، للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول صلى الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
والثانية كونه من نوع البشر.
وفرع على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} الآية.
وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحدا من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بصفة {منذر} قبل وصفه بأنه {منهم} ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوي الاستبعاد والتعجب.
ثم إن ذلك يتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} إلى قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: 4- 11]
فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة: منها إيجاز الحذف، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير ب{منذر}، ومنها إقحام وصفه بأنه {منهم} لأن لذلك مدخلا في تعجبهم، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا} الخ.
وعبر عنهم بالاسم الظاهر في {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} دون: فقالوا، لتوسيمهم فأن هذه المقالة من آثار الكفر، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين.
والإشارة بقولهم {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرجع، أي البعث وهو الذي بينته جملة {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} الخ.
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به. وجعلوا مناط التعجيب الزمان الذي أفادته {إذا} وما أضيف
(26/232)
إليه، أي زمن موتنا وكوننا ترابا.
والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} والتقدير: أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته ترابا، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد.
ومتعلق "إذا" هو المستفهم عنه المحذوف المقدر، أي نرجع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها.
وجملة {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} مؤكدة لجملة {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} بطريق الحقيقة والذكر، بعد أن أفيد بطريق المجاز والحذف، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة.
والرجع: مصدر رجع، أي الرجوع إلى الحياة. ومعنى {بعيد} أنه بعيد عن تصور العقل، أي هو أمر مستحيل.
[4] {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}
رد لقولهم {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه: منها: أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحي الأرض ومهاب الرياح لا تبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكلة بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذراتها.
وفصلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام. وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيا ما كان فهو رد لقولهم {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
والمعنى: أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالما بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساما كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا. فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأنه يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم، لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرته فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم.
(26/233)
واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أئمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها. ومعنى إعادتها، إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجسادا مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال: إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنسانا بالعقل والنطق، وهما مظهر الروح. وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوار فتخلف أجزاؤه المتجددة أجزاءه المتقضية، وبرهان ذلك مبين في علم الطبيعيات، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور من يشاهدها. فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تكتسى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تبلى في مثله أجسامهم ترجع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديد خلقها، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معادا أو رجعا أو بعثا إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح، وبهذا الاعتبار أيضا تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقة هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء.
وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: 104]، وفي معناه قوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].
وقال شذوذ: تعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة. وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين. وورد في الآثار أن كل ابن آدم يفنى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب رواه مسلم. وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة. وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق. ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرناه وما عداه مجازفة في التعبير.
(26/234)
وذكر الجلال الدواني في شرح العقيدة العضدية أن أبي بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظم قد رم ففتته بيده وقال: يا محمد أترى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم? فقل له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم ويبعثك ويدخلك النار". وفيه نزل قوله تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس:78].
وعبر ب {تَنْقُصُ الْأَرْضُ} دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عجب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصا لا انعداما.
وعطف على قوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} عطف الأعم على الأخص، وهو بمعنى تذييل لجملة {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي وعندنا علم بكل شيء علما ثابتا فتنكير {كتاب} للتعظيم، وهو تعظيم التعميم، أي عندنا كتاب كل شيء.
و {حفيظ} فعيل: إما بمعنى فاعل، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها. وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها. وإما بمعنى مفعول، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك.
والكتاب: المكتوب، ويطلق على مجموع الصحائف. ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتبا وأودعها الى ملائكة يسجلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقار أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعين الذي كانت حالة فيه حال الحياة الدنيا صادقا بكتب عديدة لكل إنسان كتابه، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17,18] وقوله {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13,14]
ويجوز أن يكون مجموع قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ} تمثيلا لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس.
(26/235)
والعندية في قوله {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ} مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغير ما فيه أو من يبطل ما عين له.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}
إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [قّ: 2] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال، أو بدل من جملة {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف. والمقصد من هذه الجملة: أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق.
والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر.
و {لما} حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وقوله {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: من الآية89] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى {جاءهم} بلغهم وأعلموا به.
والمعنى: أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [قّ: 11]. فالتكذيب بما جاء به القرآن يعم التكذيب بالبعث وغيره.
وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصف حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية.
و {أمر} اسم مبهم مثل شيء، ولما وقع هنا بعد حرف {في} المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحال المتلبسون هم به تلبس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال {في} استعارة تبعية.
والمريج: المضطرب المختلط، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا
(26/236)
بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا {سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: من الآية110] وقالوا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: من الآية25] وقالوا {قَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41]، وقالوا {قَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 42] وقالوا: "هذيان مجنون". وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب. ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله. وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به.
[6] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}
تفريع على قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} [قّ: 2] إلى قوله {مريج} لأن أهم ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث، وخلق السماوات والنجوم والأرض دال على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدل عليه قوله تعالى في سورة يس[81] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا. والنظر نظر الفكر على نحو قوله تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: من الآية101]. ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} ، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: من الآية8].
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، والنظر المشاهدة، ومحل التقرير هو فعل {ينظروا} ، أو يكون {كيف} مراد به الحال المشاهدة.
هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرر إن كان يروم إنكار ما قرر عليه، ثقة من المقرر بكسر الراء بأن المقرر بالفتح لا يقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره، وتقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: من الآية148]، وقوله {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} كلاهما في سورة الأعراف.[172]
وهذا الوجه أشد في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين.
و {فوقهم} حال من السماء. والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة
(26/237)
منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفع رؤوسهم.
و {كيف} اسم جامد مبني معناه: حالة، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبرا قبل ما لا يستغني عنه مثل: كيف أنت? وحالا قبل ما يستغنى عنه نحو: كيف جاء? ومفعولا مطلقا نحو {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفجر: من الآية6]، ومفعولا به نحو قوله تعالى {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء: من الآية21]. وهي هنا بدل من {فوقهم} فتكون حالا في المعنى. والتقدير: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها، وتكون جملة {بنيناها} مبينة ل{كيف}.
وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع. والمراد ب {السماء} هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجو.
والتزيين جعل الشيء زينا، أي حسنا أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهارا والقمر والنجوم ليلا. واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزينة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إداركه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] في شأن خلق الأنعام في سورة النحل.
ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم.
والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات.
وجملة {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} عطف على جملتي {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} فهي حال ثالثة في المعنى.
والفروج: جمع فرج، وهو الخرق، أي يشاهدونها كأنها كرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخرق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقا في قبتها.
وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعا كالمفروغ في قالب. وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجو المحيط بالأرض.
ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع. ونظير هذه الآية قوله في سورة الملك {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} إلى
(26/238)
قوله {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3].
[7] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
عطف على جملة {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} [ق: 6] عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار. والتقدير: ومددنا الأرض.
ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاري تنزيلا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرا لهم.
وانتصب {الأرض} ب {مددناها} على طريقة الاشتغال.
والمد: البسط، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموع نتوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مرهقا.
والمراد: بسط سطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض.
والإبقاء: تمثيل لتكوين أجسام بارزة على الأرض متباعد بعضها عن بعض لأن حقيقة الإلقاء: رمي شيء من اليد إلى الأرض، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19]. و{فيها} ظرف مستقر وصف ل {رواسي} قدم على موصوفه فصار حالا، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب {ألقينا} .
ورواسي: جمع راس على غير قياس مثل: فوارس وعواذل. والرسو: الثبات والقرار.
وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعا كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها. وقد قال في سورة الأنبياء [31] {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي دفع أن تميد هي، أي الجبال بكم، أي ملصقة بكم في ميدها، وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء.
(26/239)
والزوج: النوع من الحيوان والثمار والنبات، وتقدم في قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه. [53] والمعنى: وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه.
وقوله {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} يظهر أن حرف {من} فيه مزيد للتوكيد. وزيادة {من} في غير النفي نادرة، أي أقل من زيادتها في النفي، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفش وأبو علي الفارسي وابن جني، ومنه قوله تعالى {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] إن المعنى: ينزل من السماء جبالا فيها برد، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} في سورة الأنعام.[99]
فالمقصود من التوكيد بحرف {من} تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحالة إخراج الناس من الأرض، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه. وليست {من} هنا للتبعيض إذ ليس المعنى عليه.
فكلمة {كل} مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام،[25] وقوله فيها {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وهذا كقوله تعالى {فأنبتنا به فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه.[53]
وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عموا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم.
والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبهة، يقال: بهج بضم الهاء، إذا حسن في أعين الناظرين، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]
ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، أي منبهج به على الحذف والإيصال، أي يسر به الناظر، يقال: بهجه من باب منع، إذا سره، ومنه الابتهاج المسرة.
وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى. وإدماج الامتنان
(26/240)
عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5,6]
[8] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}
مفعول لأجله للأفعال السابقة من قوله {بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [قّ: 6] وقوله {مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} [قّ: 7] الخ، على أنه علة لها على نحو من طريقة التنازع، أي ليكون ما ذكر من الأفعال ومعمولاتها تبصرة وذكرى، أي جعلناه لغرض أن نبصر به ونذكر كل عبد منيب.
وحذف متعلق {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} ليعم كل ما يصلح أن يتبصر في شأنه بدلائل خلق الأرض وما عليها، وأهم ذلك فيهم هو التوحيد والبعث كما هو السياق تصريحا وتلويحا.
وإنما كانت التبصرة والذكرى علة للأفعال المذكورة لأن التبصرة والذكرى من جملة الحكم التي أوجد الله تلك المخلوقات لأجلها. وليس ذلك بمقتض انحصار حكمة خلقها في التبصرة والذكرى، لأن أفعال الله تعالى لها حكم كثيرة علمنا بعضها وخفي علينا بعض.
والتبصرة: مصدر بصره. وأصل مصدره التبصير، فحذفوا الياء التحتية من أثناء الكلمة وعوضوا عنها التاء الفوقية في أول الكلمة كما قالوا: جرب تجربة وفسر تفسرة، وذلك يقل في المضاعف ويكثر في المهموز نحو جزأ تجزئة، ووطأ توطئة. ويتعين في المعتل نحو: زكى تزكية، وغطاه تغطية.
والتبصير: جعل المرء مبصرا وهو هنا مجاز في إدراك النفس إدراكا ظاهرا للأمر الذي كان خفيا عنها فكأنها لم تبصره ثم أبصرته.
والذكرى اسم مصدر ذكر، إذا جعله يذكر ما نسيه. وأطلقت هنا على مراجعة النفس ما علمته ثم غفلت عنه.
و {عبد} بمعنى عبد الله، أي مخلوق، ولا يطلق إلا على الإنسان. وجمعه: عباد دون عبيد.
والمنيب: الراجع، والمراد هنا الراجع إلى الحق بطاعة الله فإذا انحرف أو شغله
(26/241)
شاغل ابتدر الرجوع إلى ما كان فيه من الاستقامة والامتثال فلا يفارقه حال الطاعة وإذا فارقه قليلا آب إليه وأناب. وإطلاق المنيب على التائب والإنابة على التوبة من تفاريع هذا المعنى، وتقدم عند قوله تعالى {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} في سورة ص.[24]
وخص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الأفعال. وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر. ويحمل "كل" على حقيقة معناه من الإحاطة والشمول. فالمعنى: أن تلك الأفعال قصد منها التبصرة والذكرى لجميع العباد المتبعين للحق إذ لا يخلون من تبصر وتذكر بتلك الأفعال على تفاوت بينهم في ذلك.
[10,9] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}
بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دأبا، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} [قّ: من الآية6] إلى أسلوب الإخبار بقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} إيذانا بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [قّ: 11]. فجملة {ونزلنا} عطف على جملة {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} [الحجر: 19]
وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف.
والمبارك: اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة، أي جعل فيه خير كثير. وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق. والبركة: الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل. وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران.[96]
وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [قّ: 7] لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك
(26/242)
التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة، إذ تكون حينئذ أسباب تكوينها خفية فإذا كان خلق السماوات وما فيها، ومد الأرض، وإلقاء الجبال فيها، دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال الماء وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى.
والجنات: جمع جنة، وهي ما شجر بالكرم وأشجار الفواكه والنخيل.
والحب: هو ما ينبت في الزرع الذي يخرج سنابل تحوي حبوبا مثل البر والشعير والذرة والسلت والقطاني مما تحصد أصوله ليدق فيخرج ما فيه من الحب.
و {حَبَّ الْحَصِيدِ} مفعول {أنبتا} لأن الحب مما نبت تبعا لنبات سنبله المدلول على إنباته بقوله {الحصيد} إذ لا يحصد إلا بعد أن ينبت.
والحصيد: الزرع المحصود، أي المقطوع من جذوره لأكل حبه، فإضافة {حب} إلى {الحصيد} على أصلها، وليست من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وفائدة ذكر هذا الوصف: الإشارة إلى اختلاف أحوال استحصال ما ينفع الناس من أنواع النبات فإن الجنات تستثمر وأصولها باقية والحبوب تستثمر بعد حصد أصولها، على أن في ذلك الحصيد، منافع للأنعام تأكله بعد أخذ حبه كما قال تعالى {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
وخص النخل بالذكر مع تناول جنات له لأنه أهم الأشجار عندهم وثمره أكثر أقواتهم، ولإتباعه بالأوصاف له ولطلعه مما يثير تذكر بديع قوامه، وأنيق جماله.
والباسقات: الطويلات في ارتفاع، أي عاليات فلا يقال: باسق للطويل الممتد على الأرض. وعن ابن شداد: الباسقات الطويلات مع الاستقامة. ولم أره لأحد من أئمة اللغة. ولعل مراده من الاستقامة الامتداد في الارتفاع. وهو بالسين المهملة في لغة جميع العرب عدا بني العنبر من تميم يبدلون السين صادا في هذه الكلمة. قال ابن جني: الأصل السين وإنما الصاد بدل منها لاستعلاء القاف. وروى الثعلبي عن قطبة بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قرأها بالصاد. ومثله في ابن عطية وهو حديث غير معروف. والذي في صحيح مسلم وغيره عن قطبة بن مالك مروية بالسين. ومن العجيب أن الزمخشري قال: وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم باصقات. وانتصب {باسقات} على الحال. والمقصود من ذلك الإيماء إلى بديع خلقته وجمال طلعته استدلالا وامتنانا.
(26/243)
والطلع: أول ما يظهر من ثمر التمر، وهو في الكفرى، أي غلاف العنقود.
والنضيد: المنضود، أي المصفف بعضه فوق بعض ما دام في الكفرى فإذا انشق عنه الكفرى فليس بنضيد. فهو معناه بمعنى مفعول قال تعالى {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]
وزيادة هذه الحال للازدياد من الصفات الناشئة عن بديع الصنعة ومن المنة بمحاسن منظر ما أوتوه.
[11] {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ}
مفعول لأجله لقوله {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [قّ: 9] إلى آخره، فهو مصدر، أي لنرزق العباد، أي نقوتهم. والقول في التعليل به كالقول في التعليل بقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [قّ: 8]
والعباد: الناس وهو جمع عبد بمعنى عبد الله، فأما العبد المملوك فجمعه العبيد. وهذا استدلال وامتنان.
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً}
عطف على {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} عطف الفعل على الاسم المشتق من الفعل وهو رزقه المشتق لأنه في معنى: رزقنا العباد وأحيينا به بلدة ميتا، أي لرعي الأنعام والوحش فهو استدلال وفيه امتنان.
والبلدة: القطعة من الأرض.
والميت بالتخفيف: مرادف الميت بالتشديد قال تعالى {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33]
وتذكير الميت وهو وصف للبلدة، وهي مؤنث على تأويله بالبلد لأنه مرادفه، وبالمكان لأنه جنسه، شبه الجدب بالموت في انعدام ظهور الآثار، ولذلك سمي ضده وهو إنبات الأرض حياة. ويقال لخدمة الأرض اليابسة وسقيها: إحياء موات.
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
بعد ظهور الدلائل بصنع الله على إمكان البعث لأن خلق تلك المخلوقات من عدم يدل على أن إعادة بعض الموجودات الضعيفة أمكن وأهون، جيء بما يفيد تقريب البعث
(26/244)
بقوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}
فهذه الجملة فذلكة للاستدلال على إمكان البعث الذي تضمنته الجمل السابقة فوجب انفصال هذه الجملة فتكون استئنافا أو اعتراضا في آخر الكلام على رأي من يجيزه وهو الأصح.
والإشارة {بذلك} إلى ما ذكر آنفا من إحياء الأرض بعد موتها، أي كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الناس بعد موتهم وبلاهم، مع إفادتها تعظيم شأن المشار إليه، أي مثل البعث العظيم الإبداع.
والتعريف في {الخروج} للعهد، أي خروج الناس من الأرض كما قال تعالى {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج: من الآية43]. ف {الخروج} صار كالعلم بالغلبة على البعث، وسيأتي قوله تعالى {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [قّ: 42].
وتقديم المجرور على المبتدإ للاهتمام بالخبر لما في الخبر من دفع الاستحالة وإظهار التقريب، وفيه تشويق لتلقي المسند إليه.
[12-14] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}
استئناف ابتدائي ناشئ عن قوله {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [قّ: 5] فعقب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم. وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب، فقوم نوح أول قوم كذبوا رسولهم، وفرعون كذب موسى، وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب، وأما أصحاب الرس وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبع فهم من العرب.
وذكروا هنا عقب قوم نوح للجامع الخيالي بين القومين وهو جامع التضاد لأن عذابهم كان ضد عذاب قوم نوح إذ كان عذابهم بالخسف وعذاب قوم نوح بالغرق، ثم ذكر ثمود لشبه عذابهم بعذاب أصحاب الرس إذ كان عذابهم برجفة الأرض وصواعق السماء، ولأن أصحاب الرس من بقايا ثمود، ثم ذكرت عاد لأن عذابها كان بحادث في الجو وهو الريح، ثم ذكر فرعون وقومه لأنهم كذبوا أشهر الرسل قبل الإسلام، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب وهم من خلطاء بني إسرائيل.
(26/245)
وعبر عن قوم لوط ب {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} ولم يكونوا من قبيله، فالمراد ب {إخوان} أنهم ملازمون. وهم أهل سدوم وعمورة وقراهما وكان لوط ساكنا في سدوم ولم يكن من أهل نسبهم لأن أهل سدوم كنعانيون ولوطا عبراني. وقد تقدم قوله تعالى {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء: من الآية161] في سورة الشعراء. وذكر قوم تبع وهم أهل اليمن ولم يكن العرب يعدونهم عربا.
وهذه الأمم أصابها عذاب شديد في الدنيا عقابا على تكذيبهم الرسل. والمقصود تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعريض بالتهديد لقومه المكذبين أن يحل بهم ما حل بأولئك.
والرس: يطلق اسما للبئر غير المطوية ويطلق مصدرا للدفن والدس. واختلف المفسرون في المراد به هنا. {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} قوم عرفوا بالإضافة إلى الرس، فيحتمل أن إضافتهم إلى الرس من إضافة الشيء إلى موطنه مثل {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} ، و {أَصْحَابُ الْحِجْرِ} [الحجر: 80] و {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] ويجوز أن تكون إضافة إلى حدث حل بهم مثل {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4] وفي تعيين {أَصْحَابُ الرَّسِّ} أقوال ثمانية أو تسعة وبعضها متداخل.
وتقدم الكلام عليهم في سورة الفرقان. والأظهر أن إضافة {أصحاب} إلى {الرس} من إضافة اسم إلى حدث حدث فيه فقد قيل: إن أصحاب الرس عوقبوا بخسف في الأرض فوقعوا في مثل البئر. وقيل: هو بئر ألقى أصحابه فيه حنظلة بن صفوان رسول الله إليهم حيا فهو إذن علم بالغلبة وقيل هو فلج من أرض اليمامة.
وتقدم الكلام على أصحاب الرس في سورة الفرقان [38] عند قوله تعالى {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}
وأصحاب الأيكة هم من قوم شعيب وتقدم في سورة الشعراء وقوم تبع هم حمير من عرب اليمن وتقدم ذكرهم في سورة الدخان.
وجملة {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} مؤكدة لجملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} الى آخرها، فلذلك فصلت ولم تعطف، وليبني عليه قوله {فَحَقَّ وَعِيدِ} فيكون تهديد بأن يحق عليهم الوعيد كما حق على أولئك مرتبا بالفاء على تكذيبهم الرسل فيكون في ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وللرسل السابقين. وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أولئك. و {حق} صدق وتحقق.
والوعيد: الإنذار بالعقوبة واقتضى الإخبار عنه ب {حق} أن الله توعدهم به فلم يعبأوا
(26/246)
وكذبوا وقوعه فحق وصدق. وحذفت ياء المتكلم التي أضيف إليها {وعيد} للرعي على الفاصلة وهو كثير.
[15] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}
تشير فاء التفريع إلى أن هذا الكلام مفرع على ما قبله وهو جملة {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: من الآية6] وقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} [قّ: 8] المعرض بأنهم لم يتبصروا به ولم يتذكروا. وقوله {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [قّ: 9] وقوله {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [قّ: 11].
ويجوز أن يجعل تفريعا على قوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
والاستفهام المفرع بالفاء استفهام إنكار وتغليط لأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله لم يعي بالخلق الأول إذ لا ينكر عاقل كمال قدرة الخالق وعدم عجزه.
و {عيينا} معناه عجزنا، وفعل "عي" إذا لم يتصل به ضمير يقال مدغما وهو الأكثر ويقال: عيي بالفك فإذا اتصل به ضمير تعين الفك. ومعناه: عجز عن إتقان فعل ولم يهتد لحيلته. ويعدى بالباء يقال: عيي بالأمر والباء فيه للمجاوزة. وأما أعيا بالهمزة في أوله قاصرا فهو للتعب بمشي أو حمل ثقل وهو فعل قاصر لا يعدى بالباء. فالمعنى: ما عجزنا عن الخلق الأول للإنسان فكيف تعجز عن إعادة خلقه.
و {بل} في قوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} للإضراب الإبطالي عن المستفهم عنه، أي بل ما عيينا بالخلق الأول، أي وهم يعلمون ذلك ويعلمون أن الخلق الأول للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات ولكنهم تمكن منهم اللبس الشديد فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه، فالإضراب على أصله من الإبطال.
واللبس: الخلط للأشياء المختلفة الحقائق بحيث يعسر أو يتعذر معه تمييز مختلفاتها بعضها عن بعض.
والمراد منه اشتباه المألوف المعتاد الذي لا يعرفون غيره بالواجب العقلي الذي لا يجوز انتفاؤه، فإنهم اشتبه عليهم إحياء الموتى وهو ممكن عقلا بالأمر المستحيل في العقل فجزموا بنفي إمكانه فنفوه، وتركوا القياس بأنه من قدر على إنشاء ما لم يكن موجودا هو على إعادة ما كان موجودا أقدر.
وجيء بالجملة الاسمية من قوله {هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} للدلالة على ثبات
(26/247)
هذا الحكم لهم وأنه متمكن من نفوسهم لا يفارقهم البتة، وليتأتى اجتلاب حرف الظرفية في الخبر فيدل على انغماسهم في هذا اللبس وإحاطته بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
و {من} في قوله {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ابتدائية وهي صفة ل{لبس}، أي لبس واصل إليهم ومنجر عن خلق جديد، أي من لبس من التصديق به.
وتنكير {لبس} للنوعية وتنكير {خَلْقٍ جَدِيدٍ} كذلك، أي ما هو إلا خلق من جملة ما يقع من خلق الله الأشياء مما وجه إحالته. ولتنكيره أجريت عليه الصفة ب{ جديد} .
والجديد: الشيء الذي في أول أزمان وجوده.
وفي هذا الوصف تورك عليهم وتحميق لهم من إحالتهم البعث، أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأول، وأي فارق بينهما.
وفي تسمية إعادة الناس للبعث باسم الخلق إيماء الى أنها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرقها، وقد مضى القول فيه في أول السورة.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنى عليه {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [قّ: من الآية4] ولينتقل الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استرسل في وصفه من قوله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ: 17] الخ.
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} الى قوله {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [قّ:20- 35]
وتأكيد هذا الخبر باللام و"قد" مراعى فيه المتعاطفات وهي {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم.
و {الإنسان} يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولا المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}
(26/248)
[قّ: 19] وقوله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [قّ: من الآية22] وقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [قّ: 20].
والباء في قوله {به} زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل: ما تتكلمه نفسه على طريقة { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه على سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضي ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.
وجملة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} في موضع الحال من ضمير {ونعلم} .
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى {توسوس} تتكلم كلاما خفيا همسا. ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض.
والحبل: هنا واحد حبال الجسم. وهي العروق الغليظة المعروفة في الطب بالشرايين، واحدها: شريان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجويف الأيسر من تجويفي القلب. وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء. وللشرايين أسماء باعتبار مصابها من الأعضاء الرئيسية.
والوريد: واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب. واسمه في علم الطب أورطي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر. وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتي ويصعدان يمينا
(26/249)
ويسارا مع الودجين، وكل هذه الأقسام يسمى الوريد. وفي الجسد وريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد، وفي القلب يسمى الوتين، وفي الظهر يسمى الأبهر، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنسا، وفي الخنصر يدعى الأسلم.
وإضافة {حبل} إلى {الوريد} بيانية، أي الحبل الذي هو الوريد، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم: شجر الأراك.
والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الاطلاع، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز.
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه، وكذلك قرب الله من الإنسان بعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد. وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كل تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء. مثل قولهم: هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار، وقول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :
كل امرئ مصبح في إهله ... والموت أدنى من شراك نعله
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
يتعلق {إذ} بقوله {أقرب} [ق: 16] لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن. وهذا التخلص بكلمة {إذ} الدالة على الزمان من ألطف التخلص.
وتعريف {المتلقيان} تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذكر فيها الحفظة،
(26/250)
أو تعريف الجنس، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين.
والتلقي: أخذ الشيء من يد معطيه. استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس.
وحذف مفعول {يتلقى} لدلالة قوله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم.
فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملكين يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله. وورد في السنة بأسانيد مقبولة: أن الذي يكون على اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت.
وقوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يجوز أن يكون {قعيد} بدلا من {الملتقيان} بدل بعض، و {عَنِ الْيَمِينِ} متعلق ب {قعيد} ، وقدم على متعلقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة. ويجوز أن يكون {عَنِ الْيَمِينِ} خبرا مقدما، و {قعيد} مبتدأ وتكون الجملة بيانا لجملة {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}
وعطف قوله {وَعَنِ الشِّمَالِ} على جملة {يتلقى} وليس عطفا على قوله {عَنِ الْيَمِينِ} لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها. والتقدير: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد آخر. والتعريف في {اليمين} و {الشمال} تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي عن يمين الإنسان وعن شماله.
والقعيد: المقاعد مثل الجليس للمجالس، والأكيل للمؤاكل، والشريب للمشارب، والخليط للمخالط. والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول، فلما كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معا، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلا على القرينة، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته. والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كما أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه.
وجملة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الخ مبنية لجملة {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} فلذلك فصلت. و {ما} نافية وضمير {يلفظ} عائد للإنسان.
واللفظ: النطق بكلمة دالة على معنى، ولو جزء معنى، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى.
و {من} زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق. والاستثناء في
(26/251)
قوله {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} استثناء من أحوال عامة، أي ما يقول قولا في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه.
والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شر ليكون عليه الجزاء فلا يكتب الحفظة إلا ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة. وقال الحسن: يكتبان كل ما صدر من العبد، قال مجاهد وأبو الجوزاء: حتى أنينه في مرضه. وروي مثله عن مالك بن أنس. وإنما خص القول بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وأنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم.
وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته، ونحو ذلك، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها.
ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشبه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين.
وجملة {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} في موضع الحال، وضمير {لديه} عائد إلى {الإنسان} [ق: 16] والمعنى: لدى لفظه بقوله.
و {عتيد} فعيل من عتد بمعنى هيأ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد، أي معد كما في قوله تعالى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: من الآية31]. وعندي أن {عتيد} هنا صفة مشبهة من قولهم "عتد" بضم التاء إذا جسم وضخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ: 23] ويحصل محسن الجناس التام بين الكلمتين.
(26/252)
وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقي في قوله {المتلقيان} بأنه تلقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيرا حائما حول جعل المفعول المحذوف لفعل {يتلقى} ما دل عليه قوله بعده {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء. فالتقدير عندهم: إذ يتلقى المتلقيان عمل الإنسان وقوله، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [قّ: من الآية19] كما سنبينه.
ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال ويحتمل أن يقال التلقي الاستقبال، يقال: فلان تلقى الركب، وعلى هذا الوجه يكون معناه: وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور. والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [قّ: من الآية21]. فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم اه.
وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85-83] ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها. والمظنون بفخر الدين أنه أطلع على ذلك، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في التذكرة عن مسند الطيالسي عن البراء. وعن كتاب النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا حضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان، فإذا قبضه الملك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء". وساق الحديث إلا إن في الحديث ملائكة جمعا وفي الآية {المتلقيان} تثنية.
وعلى هذا الوجه يكون مفعول {يتلقى} ما دل عليه قوله بعده {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
(26/253)
الْمَوْتِ} والتقدير: إذ يتلقى المتلقيان روح الإنسان. ويكون التعريف في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} عوضا عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد، وهو على التوزيع، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر. ويكون {قعيد} مستعملا في معنى: قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول، كقول الأزرق بن طرفة:
رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئا ومن أجل الطوي رماني
والاقتصار على {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} حينئذ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجر أو أنين أو شهادة بالتوحيد، أو ضدها، ومن ذلك الوصايا والإقرارات.
[19] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}
عطف على جملة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: 16] لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال. فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان.
وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس المشركين كما استفيد من قوله {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} نظير قوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]
ويأتي على ما اختارها الفخر في تفسير {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ: 17] الآية أن تكون جملة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} الخ في موضع الحال. والتقدير: وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذ.
والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألفها وتعلق بها قلبه.
والسكرة: اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة. وهي مشتق من السكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران.
والباء في قوله {بالحق} للملابسة، وهي إما حال من {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي متصفة
(26/254)
بأنها حق، والحق: الذي حق وثبت فلا يتخلف، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها، وإما حال من {الموت} ، أي ملتبسا بأنه الحق، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به، أو الذي هو الجد ضد العبث كقوله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [التغابن: من الآية3] مع قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [صّ: 27].
وقول {ذلك} إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد.
و {تحيد} تفر وتهرب، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت. والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشد كراهية للموت لأن حياتهم مادية محضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: من الآية96] إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه. وفي الحديث "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب، وبالكافر يكره لقاء الله. وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله" أي والكافر بعكسه، وقد قال الله تعالى خطابا لليهود {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
وتقديم {منه} على {تحيد} للاهتمام بما منه الحياد، وللرعاية على الفاصلة.
[21,20] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} عطف على {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [قّ: 19] على تفسير الجمهور. فأما على تفسير الفخر فالجملة مستأنفة وصيغة المضي في قوله {ونفخ} مستعملة في معنى المضارع، أي ينفخ في الصور فصيغ له المضي لتحقق وقوعه مثل قوله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] والمشار إليه بذلك في قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} إذ أن ذلك الزمان الذي نفخ في الصور عنده هو يوم الوعيد.
والنفخ في الصور تقدم القول فيه عند قوله تعالى {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة الأنعام. [73]
(26/255)
وجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} معترضة. والإشارة في قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} راجعة إلى النفع المأخوذ من فعل {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} والإخبار عن النفخ بأنه {يَوْمُ الْوَعِيدِ} بتقدير مضاف، أي ذلك حلول يوم الوعيد. وإضافة {يوم} إلى {الوعيد} من إضافة الشيء إلى ما يقع فيه، أي يوم حصول الوعيد الذي كانوا توعدوا به، والاقتصار على ذكر الوعيد لما علمت من أن المقصود الأول من هذه الآية هم المشركون. وفي الكلام اكتفاء، تقديره: ويوم الوعد.
وعطفت جملة {جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} على جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} والمراد ب {كُلُّ نَفْسٍ} كل نفس من المتحدث عنهم وهم المشركون، ويدل عليه أمور:
أحدهما: السياق.
والثاني: قوله {مَعَهَا سَائِقٌ} لأن السائق يناسب إزجاء أهل الجرائم، وأما المهديون إلى الكرامة فإنما يهديهم قائد يسير أمامهم قال تعالى {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: 6].
والثالث: قوله بعده {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [قّ: 22]
والرابع: قوله بعده {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ:23] الآية.
وجملة {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} بدل اشتمال من جملة {جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} و {سائق} مرفوع بالظرف الذي هو {معها} على رأي من أجازه، أو مبتدأ خبره {معها}. ويجوز أن يكون جملة {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} حالا من {كُلُّ نَفْسٍ} وعطف {وشهيد} على {سائق} يجوز أن يكون من عطف ذات على ذات فيكون المراد ملكان أحدهما يسوق النفس إلى المحشر والآخر يشهد عليها بما حوته صحائف أعمالها. ويجوز أن يكون من عطف الصفات مثل:
إلى الملك القرم وابن الهمام
فهو ملك واحد.
والسائق الذي يجعل غيره أمامه يزجيه في السير ليكون بمرأى منه كيلا ينفلت وذلك من شأن المشي به إلى ما يسوء قال تعالى {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: من الآية6] وقال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر: من الآية71]، وأما قوله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
(26/256)
الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر: 73] فمشاكلة. وضد السوق: القود.
[22] {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
مقول قول محذوف دل على تعينه من الخطاب، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء.
وجملة القول ومقوله في موضع الحال من {كُلُّ نَفْسٍ} [قّ: 21] أو موقع الصفة، وعلامات الخطاب في كلمات {كنت} ، و {عنك} ، و {غطاءك} ، و {بصرك} مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غلب فيه التذكير على التأنيث. وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب.
والغفلة: الذهول عما شأنه أن يعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم، ورشح ذلك قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} بمعنى: بينا لك الدليل بالحس فهو أيضا تهكم.
وأوثر قوله {فِي غَفْلَةٍ} على أن يقال غافلا للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلها بالغطاء.
وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه، واسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عين اليقين. وأضيف "غطاء" إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به.
وحدة البصر: قوة نفاذه في المرئي، وحدة كل شيء قوة مفعوله، ومنه حدة الذهن، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي، وتقييده بقوله {اليوم} تعريض بالتوبيخ، أل ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكرا للبعث.
والمعنى: فقد شاهدت البعث والحشر والجزاء، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] وقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فقد رأى العذاب ببصره.
[23] {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
الواو واو الحال والجملة حال من تاء الخطاب في قوله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
(26/257)
هَذَا} [ق:22] أي يوبخ عند مشاهدة العذاب بكلمة {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} في حال قوله قرينه {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
وهاء الغائب في قوله {قرينه} عائدة إلى {كُلُّ نَفْسٍ} [قّ: 21] أو إلى الإنسان.
وقرين فعيل بمعنى مفعول، أي مقرون إلى غيره. وكأن فعل قرن مشتق من القرن بالتحريك وهو الحبل وكانوا يقرنون البعير بمثله لوضع الهودج، فاستعير القرين للملازم. وهذا ليس بالتفات إذ ليس هو تغيير ضمير ولكنه تعيين أسلوب الكلام وأعيد عليه ضمير الغائب المفرد باعتبار معنى {نفس} أي شخص، أو غلب التذكير على التأنيث.
واسم الإشارة في قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ} الخ، يفسره قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ}
و {ما} في قوله {مَا لَدَيَّ} موصولة بدل من اسم الإشارة. و {لدي} صلة ، و {عتيد} خبر عن اسم الإشارة.
واختلف المفسرون في المراد بالقرين في هذه الآية على ثلاثة أقوال: فقال قتادة والحسن والضحاك وابن زيد ومجاهد في أحد قوليه هو الملك الموكل بالإنسان الذي يسوقه إلى المحشر أي هو السائق الشهيد. وهذا يقتضي أن يكون القرين في قوله الآتي {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [قّ: من الآية27] بمعنى غير معنى القرين في قوله {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} .
وعن مجاهد أيضا: أن القرين شيطان الكافر الذي كان يزين له الكفر في الدنيا أي الذي ورد في قوله تعالى {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [ فصلت: 25].
وعن ابن زيد أيضا: أن قرينه صاحبه من الإنس، أي الذي كان قرينه في الدنيا.
وعلى الاختلاف في المراد بالقرين يختلف تفسير قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . فإن كان القرين الملك كانت الإشارة بقوله {هذا} إلى العذاب الموكل به ذلك الملك؛ وإن كان القرين شيطانا أو أنسانا كانت الإشارة محتملة لأن تعود إلى العذاب كما في الوجه الأول، أو أن تعود إلى معاد ضمير الغيبة في قوله {قرينه} وهو في نفس الكافر، أي هذا الذي معي، فيكون {لدي} بمعنى: معي، إذ لا يخلو أحد من صاحب يأنس بمحادثته والمراد به قرين الشرك المماثل.
وقد ذكر الله من كان قرينا للمؤمن من المشركين واختلاف حاليهما يوم الجزاء بقوله
(26/258)
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يقول يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} الآية في سورة الصافات. [52,51] وقول القرين {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} مستعمل في التلهف والتحسر والإشقاق، لأنه لما رأى ما به العذاب علم أنه قد هيئ له، أولما رأى ما قدم إليه قرينه علم أنه لاحق على أثره كقصة الثورين الأبيض والأحمر اللذين استعان الأسد بالأحمر منهما على أكل الثور الأبيض ثم جاء الأسد بعد يوم ليأكل الثور الأحمر فعلا الأحمر ربوة وصاح ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وتقدم معنى {عتيد} عند قوله تعالى {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ: 18]، وهو هنا متعين للمعنى الذي فسر عليه المفسرون، أي معد ومهيأ.
[25,24] {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}
انتقال من خطاب النفس إلى خطاب الملكين الموكلين السائق والشهيد. والكلام مقول قول محذوف. والجملة استئناف ابتدائي انتقال من خطاب فريق إلى خطاب فريق آخر، وصيغة المثنى في قوله {ألقيا} تجوز أن تكون مستعملة في أصلها فيكون الخطاب للسائق والشهيد. ويجوز أن تكون مستعملة في خطاب الواحد وهو الملك الموكل بجهنم وخوطب بصيغة المثنى جريا على طريقة مستعملة في الخطاب جرت على ألسنتهم لأنهم يكثر فيهم أن يرافق السائر رفيقان، وهي طريقة مشهورة، كما قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقولهم: يا خليلي، ويا صاحبي. والمبرد يرى أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما كأنه قيل: ألق ألق للتأكيد. وهذا أمر بأن يعم الإلقاء في جهنم كل كفار عنيد، فيعلم منه كل حاضر في الحشر من هؤلاء أنه مدفوع به إلى جهنم.
والكفار: القوي الكفر، أي الشرك.
والعنيد: القوي العناد، أي المكابرة والمدافعة للحق وهو يعلم أنه مبطل.
والمناع: الكثير المنع، أي صد الناس عن الخير، والخير هو الإيمان، كانوا يمنعون أبناءهم وذويهم من اتباع الإيمان ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه من دخل منكم في الإسلام لا أنفعه بشيء ما عشت. ويحتمل أن يراد به أيضا منع الفقراء من المال لأن الخير يطلق على المال وكان أهل الجاهلية يمنعون الفقراء ويعطون المال
(26/259)
لأكابرهم تقربا وتلطفا.
والمعتدي: الظالم الذي يعتدي على المسلمين بالأذى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والقول الباطل.
والمريب الذي أراب غيره، أي جعله مرتابا، أي شاكا، أي بما يلقونه إلى الناس من صنوف المغالطة ليشككوهم في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة الإيمان والتوحيد. وبين لفظي {عتيد} [ق: 18] و{عنيد} الجناس المصحف.
[26] {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} يجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من {كَفَّارٍ عَنِيدٍ} فإن المعرفة تبدل من النكرة كقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:53,52] على أن الموصول هنا تعريفه لفظي مجرد لأن معنى الصلة غير مخصوص بمعين، وأن قوله {فألقياه} تفريع على {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] ومصب التفريع المتعلق وهو {فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي في أشد عذاب جهنم تفريعا عللا الأمر بإلقائه في جهنم تفريع بيان، وإعادة فعل {ألقيا} للتأكيد مع تفريع متعلق الفعل المؤكد. وهذا من بديع النظم، ونظيره قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]
ففرع على قوله {كذبت} إلخ قوله {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ومنه قوله تعالى {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، فالمقصود بالتفريع هو قوله {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} وإعادة {تحسبنهم} تفيد التأكيد، وعليه فالذي جعل مع الله إلها آخر: الكفار المضاف إليه {كل} [ق:24] فهو صادق على جماعة الكفارين فضمير النصب في {ألقيناه} بمنزلة ضمير جمع، أي فألقياهم.
ويجوز أن يكون اسم الموصول مبتدأ على استئناف الكلام ويضمن الموصول معنى الشرط فيكون في وجود الفاء في خبره لأجل ما فيه من معنى الشرط وهذا كثير. والمقصود منه هنا تأكيد العموم الذي في قوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} .
[27] {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}
حكاية قول القرين بالأسلوب المتبع في حكاية المقاولات في القرآن وهو أسلوب
(26/260)
الفصل دون عطف فعل القول على شيء، وهو الأسلوب الذي ذكرناه في قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الآية في سورة البقرة،[30] تشعر بأن في المقام كلاما مطويا هو كلام صاحب القرين طوي للإيجاز، ودليله ما تضمنه قول القرين من نفي أن يكون هو أطغى صاحبه إذ قال {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} . وقد حكي ذلك في سورة ص صريحا بقوله {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} [ص:59-61] وتقدير المطوي هنا: أن الكافر العنيد لما قدم إلى النار أراد التنصل من كفره وعناده وألقى تبعته على قرينه الذي كان يزين له الكفر فقال: هذا القرين أطغاني، فقال قرينه {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} .
فالقرين هذا هو القرين الذي تقدم ذكره في قوله {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ:23].
والطغيان: تجاوز الحد في التعاظم والظلم والكفر، وفعله يائي وواوي ، يقال:طغي يطغي كرضي، وطغا يطغو كدعا.
فمعنى {مَا أَطْغَيْتُهُ} ما جعلته طاغيا، أي ما أمرته بالطغيان ولا زينته له. والاستدراك ناشئ عن شدة المقارنة بينه وبين قرينه لا سيما إذا كان المراد بالقرين شيطانه المقيض له فإنه قرن به من وقت إدراكه، فالاستدراك لدفع توهم أن المقارنة بينهما تقتضي أن يكون ما به من الطغيان بتلقين القرين فهو ينفي ذلك عن نفسه، ولذلك أتبع الاستدراك بجملة {كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.فأخبر القرين بأن صاحبه ضال من قبل فلم يكن اقترانه معه في التقييض أو في الصحبة بزائد إياه إضلالا، وهذا نظير ما حكاه الله عن الفريقين في قوله {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وفعل {كان} لإفادة أن الضلال ثابت له بالأصالة ملازم لتكوينه.
والبعيد: مستعار للبالغ في قوة النوع حدا لا يبلغ إليه إدراك العاقل بسهولة كما لا يبلغ سير السائر إلى المكان البعيد إلا بمشقة أو بعيد الزمان، أي قديم أصيل فيكون تأكيدا لمفاد فعل {كان} ، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء. [116]
والمعنى: أن تمكن الضلال منه يدل على أنه ليس فيه بتابع لما يمليه غيره عليه لأن شأن التابع في شيء أن لا يكون مكينا فيه مثل علم المقلد وعلم النظار.
(26/261)
[29,28] {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
هذا حكاية كلام يصدر يومئذ من جانب الله تعالى للفريقين الذي اتبعوا والذين اتبعوا، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام يدل عليه قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [قّ: من الآية22].
وعدم عطف فعل {قال} على ما قبله لوقوعه في معرض المقاولة، والتعبير بصيغة الماضي لتحقق وقوعه فقد صارت المقاولة بين ثلاث جوانب.
والاختصام: المخاصمة وهو مصدر بصيغة الافتعال التي الأصل فيها أنها لمطاوعة بعض الأفعال فاستعملت للتفاعل مثل: اجتوروا واعتوروا واختصموا.
والنهي عن المخاصمة بينهم يقتضي أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطغوها، وأن القرناء تنصلوا من ذلك وأن النفوس أعادت رمي قرنائها بذلك فصار خصاما فلذلك قال الله تعالى {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} وطوي ذكره لدلالة {لا تَخْتَصِمُوا} عليه إيثارا لحق الإيجاز في الكلام. والنهي عن الاختصام بعد وقوعه بتأويل النهي عن الدوام عليه، أي كفوا عن الخصام.
ومعنى النهي أن الخصام في ذلك لا جدوى له لأن استواء الفريقين في الكفر كاف في مؤاخذة كليهما على السواء كما قال تعالى {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: من الآية38] وذلك كناية عن أن حكم الله عليهم قد تقرر فلا يفيدهم التخاصم لإلقاء التبعة على أحد الفريقين.
ووجه استوائهما في العذاب أن الداعي إلى إضلاله قائم بما اشتهته نفسه من ترويج الباطل دون نظر في الدلائل الوزاعة عنه وأن متلقي الباطل ممن دعاه إليه قائم بما اشتهته نفسه من الطاعة لأئمة الضلال فاستويا في الداعي وترتب أثره.
والواو في {وَقَدْ قَدَّمْتُ} واو الحال. والجملة حال من ضمير {تختصموا} وهي حال معللة للنهي عن الاختصام.
والمعنى: لا تطمعوا في أن تدافعكم في إلقاء التبعة ينجيكم من العقاب بعد حال إنذاركم بالوعيد من وقت حياتكم فما اكترثتم بالوعيد فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن من أنذر
(26/262)
فقد أعذر.
فقوله {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} كناية عن عدم الانتفاع بالخصام كون العقاب عدلا من الله.
والباء في {بالوعيد} مزيدة للتأكيد كقوله {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. والمعنى: وقد قدمت إليكم الوعيد قبل اليوم.
والتقديم: جعل الشيء قدام غيره.
والمراد به هنا: كونه سابقا على المؤاخذة بالشرك لأن الله توعدهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمعنى الأول المكنى عنه بين بجملة {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} ، أي لست مبطلا ذلك الوعيد، وهو القول، إذ الوعيد من نوع القول، والتعريف للعهد، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك. والمعنى الثاني المكنى عنه بين بجملة {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد.
والمبالغة التي في وصف {ظلام} راجعة إلى تأكيد النفي. والمراد: لا أظلم شيئا من الظلم، وليس المعنى: ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجه النفي إلى المقيد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي. والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي، قال طرفة:
ولست بحلال التلاع خافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي.
وذكر الشيخ في دلائل الإعجاز توجه نفي الشيء المقيد إلى خصوص القيد كتوجه الإثبات سواء، ولكن كلام التفتزاني في كتاب المقاصد في أصول الدين في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك، فالأكثر أن النفي يتوجه في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك، فالأكثر أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد، وقد يعتبر القيد قيدا للنفي وهذا هو التحقيق. علي أني أرى أن عد مثل صيغة المبالغة في عداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظا زائدا على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: لست ظلاما، ولكن أظلم، ويحسن أن يقال لا آتيك محاربا ولكن مسالما.
وقد أشار في الكشاف إلى أن إيثار وصف {ظلام} هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلما شديدا فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبل أن يعرف أن عمله جناية
(26/263)
لكانت مؤاخذته بها ظلما شديدا. ولعل صاحب الكشاف يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلما فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضا بالتبعات دون تقدم إليهم بالنهي من قبل، ولذلك يقال: لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله.
[30] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
ظرف متعلق ب {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [قّ: 28]. والتقدير: قال لهم في ذلك القول يوم يقول قولا آخر لجهنم {هَلِ امْتَلأْتِ} . ومناسبته تعليقه به أن هذا القول لجهنم مقصود به ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها، فحكاه الله في القرآن عبرة لمن يسمعه من المشركين وتعليما لأهل القرآن المؤمنين ولذلك استوت قراءة {يقول} بالياء، وهي لنافع وأبي بكر عن عاصم جريا على مقتضى ظاهر ما سبقه من قوله {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} وقراءة الباقين بالنون على الالتفات بل هو التفات تابع لتبديل طريق الإخبار من الحديث عن غائب إلى خطاب حاضر.
والقول الأول حقيقي وهو كلام يصدر من جانب الله بمحض خلقه دون واسطة. فلذلك أسند إلى الله كما يقال القرآن كلام الله.
والاستفهام في {هَلِ امْتَلأْتِ} . مستعمل في تنبيه أهل العذاب إلى هذا السؤال على وجه التعريض.
وأما القول لجهنم فيجوز أن يكون حقيقة بأن يخلق الله في أصوات لهيبها أصواتا ذات حروف يلتئم منها كلام، ويجوز أن يكون مجازا عن دلالة حالها على أنها تسع ما يلقى فيها من أهل العذاب بأن يكشف باطنها للمعروضين عليها حتى يروا سعتها كقول الراجز:
امتلا الحوض وقال: قطني
والاستفهام في {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} مستعمل للتشويق والتمني.
(26/264)
وفيه دلالة على أن الموجودات مشوقة إلى الإيفاء بما خلقت له كما قال الشيطان {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. وفيه دلالة على إظهار الامتثال لما خلقها الله لأجله، ولأنها لا تتلكأ ولا تتعلل في أدائه على أكمل حال في بابه.
والمزيد: مصدر ميمي، وهو الزيادة مثل المجيد والحميد. ويجوز أن يكون اسم مفعول من زاد، أي هل من جماعة آخرين يلقون في.
[31-35] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} عطف {وأزلفت} على {نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} فالتقدير: يوم أزلفت الجنة للمتقين وهو رجوع إلى مقابل حالة الضالين يوم ينفخ في الصور، فهذه الجملة متصلة في المعنى بجملة {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [قّ:21] ولو اعتبرت معطوفة عليها لصح ذلك إلا أن عطفها على جملة {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} غنية عن ذلك ولا سيما مع طول الكلام.
والإزلاف: التقريب مشتق من الزلف بالتحريك وهو القربة، وقياس فعله أنه كفرح كما دل عليه المصدر ولم يرو في كلامهم، أي جعلت الجنة قريبا من المتقين، أي ادنوا منها.
والجنة موجودة من قبل ورود المتقين إليها فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا.
وقوله {غَيْرَ بَعِيدٍ} يرجح الاحتمال الأول، أي غير بعيد منهم وإلا صار تأكيدا لفظيا ل {أزلفت} كما يقال: عاجل غير آجل، وقوله {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79] والتأسيس أرجح من احتمال التأكيد.
وانتصب {غَيْرَ بَعِيدٍ} على الظرفية باعتبار أنه وصف لظرف مكان محذوف. والتقدير: مكانا غير بعيد، أي عن المتقين. وهذا الظرف حال من {الجنة} . وتجريد
(26/265)
{بعيد} من علامة التأنيث: إما على اعتبار {غَيْرَ بَعِيدٍ} وصفا لمكان، وإما جري على الاستعمال الغالب في وصف بعيد وقريب إذا أريد البعد والقرب بالجهة دون النسب أن يجردا من علامة التأنيث كما قاله الفراء أو لأن تأنيث اسم الجنة غير حقيقي كما قال الزجاج، وإما لأنه جاء على زنة المصدر مثل الزئير والصليل، كما قال الزمخشري، ومثله قوله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: من الآية56].
وجملة {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} معترضة، فلك أن تجعلها وحدها معترضة وما بعدها متصلا بما قبلها فتكون معترضة بين البدل والمبدل منه وهما {للمتقين} و {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدلا من {للمتقين}، وتكرير الحرف الذي جر به المبدل منه لقصد التأكيد كقوله تعالى {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ: من الآية32] لمن آمن منهم الآية وقوله {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: من الآية11] واسم الإشارة المذكر مراعى فيه مجموع ما هو مشاهد عندهم من الخيرات.
والأواب: الكثير الأوب، أي الرجوع إلى الله، أي إلى امتثال أمره ونهيه.
والحفيظ: الكثير الحفظ لوصايا الله وحدوده. والمعنى: أنه محافظ على الطاعة فإذا صدرت منه فلتة أعقبها بالتوبة.
و {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} بدل من {كُلِّ أَوَّابٍ}
والخشية: الخوف. وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة.
والباء في {بالغيب} بمعنى "في" الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطلاع أحد عليه، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل {خشي} .
ولك أن تبقي الباء على بعض معانيها الغالبة وهي الملابسة ونحوها ويكون {الغيب} مصدرا والمجرور حالا من ضمير {خشي} .
ومعنى {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أنه حضر يوم الحشر مصاحبا قلبه المنيب إلى الله، أي مات موصوفا بالإنابة ولم يبطل عمله الصالح في آخر عمره، وهذا كقوله حكاية عن إبراهيم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89,88]
وإيثار اسمه {الرحمن} في قوله {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان، ولقصد التعريض بالمشركين الذين
(26/266)
أنكروا اسمه الرحمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]
والمعنى على الذين خشوا: خشي صاحب هذا الاسم، فأنتم لا حظ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بلة أن تخشوه.
ووصف قلب ب {منيب} على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها.
وجملة {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} من تمام مقول القول المحذوف. وهذا الإذن من كمال إكرام الضيف أنه إن دعي إلى الوليمة أو جيء به فإنه إذا بلغ المنزل قيل له: ادخل بسلام.
والباء في {بسلام} للملابسة. والسلام: السلامة من كل أذى من تعب أو نصب، وهو دعاء.
ويجوز أن يراد به أيضا تسليم الملائكة عليهم حين دخولهم الجنة مثل قوله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58]
ومحل هذه الجملة من التي قبلها الاستئناف البياني لأن ما قبلها يثير ترقب المخاطبين للإذن بإنجاز ما وعدوا به.
وجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} يجوز أن تكون مما يقال للمتقين على حد قوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: من الآية73]، والإشارة إلى اليوم الذي هم فيه. وكان اسم الإشارة للبعيد للتعظيم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى اليوم المذكور في قوله {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} [قّ: 30] فإنه بعد أن ذكر ما يلاقيه أهل جهنم وأهل الجنة أعقبه بقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} ترهيبا وترغيبا، وعلى هذا الوجه الثاني تكون هذه الجملة معترضة اعتراضا كوجها إلى المتقين يوم القيامة أو إلى السامعين في الدنيا.
وعلى كلا الوجهين فإضافة {يوم} إلى {الخلود} باعتبار أن أول أيام الخلود هي أيام ذات مقادير غير معتادة، أو باعتبار استعمال {يوم} بمعنى مطلق الزمان.
وبين كلمة {ادخلوها} وكلمة {الخلود} الجناس المقلوب الناقص، ثم إن جملة {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يجوز أن تكون من بقية ما يقال للمتقين ابتداء من قوله {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} فيكون ضمير الغيبة التفاتا وأصله: لكم ما تشاؤون. ويجوز أن تكون مما خوطب به الفريقان في الدنيا وعلى الاحتمالين فهي مستأنفة استنئنافا بيانيا.
و {لَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي زيادة على ما يشاؤون مما لم يخطر ببالهم، وذلك زيادة في
(26/267)
كرامتهم عند الله ووردت آثار متفاوتة القوة أن من المزيد مفاجأتهم بخيرات، وفيها دلالة على أن المفاجأة بالإنعام ضرب من التلطف والإكرام، وأيضا فإن الأنعام يجيئهم في صور معجبة. والقول في {مزيد} هنا كالقول في نظيره السابق آنفا.
وجاء ترتيب الآيات في منتهى الدقة فبدأت بذكر إكرامهم بقوله {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ثم بذكر أن الجنة جزاؤهم الذي وعدوا به فهي حق لهم، ثم أومأت إلى أن ذلك لأجل أعمالهم بقوله {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} الخ، ثم ذكرت المبالغة في إكرامهم بعد ذلك كله بقوله {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} ثم طمأنهم بإن ذلك نعيم خالد، وزيد في إكرامهم بأن لهم ما يشاؤون ما لم يروه حين الدخول، وبأن الله وعدهم بالمزيد من لدنه.
[37,36] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [قّ: من الآية4] وما فرع عليه من قوله {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [قّ: 15] وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} إلى قوله {فَحَقَّ وَعِيدِ} [قّ:12 14]. فالوعيد الذي حق عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً}
والخبر الذي أفاده قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} تعريض بالتهديد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وضميرا {قبلهم} و {منهم} عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} .ويفسره قوله بعده {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [قّ: 2]. وجرى على ذلك السنن قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وقوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: من الآية15]، ونظائره في القرآن كثيرة.
و {كم} خبرية وجر تمييزها ب {من} على الأصل.
والبطش: القوة على الغير.والتنقيب: مشتق من النقب بسكون القاف بمعنى الثقب، فيكون بمعنى:خرقوا، واستعير لمعنى: ذللوا وأخضعوا، أي تصرفوا في الأرض بالحفر
(26/268)
والغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} في سورة الروم.[9]
وتعريف {البلاد} للجنس، أي في الأرض كقوله تعالى {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر:11].
والفاء في {فنقبوا} للتفريع عن {أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد.
والجملة معترضة بين جملة {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} إلى آخره.
وجملة {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14]
وجملة {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} بدل اشتمال من جملة {أهلكنا} ، أي إهلاكا لا منجي منه. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة. فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذلك دخلت {من} على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال: ما من محيص، وهذا قريب من قوله في سورة ص[3] {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}
والمحيص: مصدر ميمي من حاص إذا عدل وجاد، أي لم يجدوا محيصا من الإهلاك وهو كقوله تعالى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} في سورة مريم.[98]
وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشد بطشا، ويجوز أن يكون إل جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء.
والذكرى: التذكرة العقلية، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سينالهم ما نال أولئك، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه.
والقلب: العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه. وإلقاء السمع: مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم كأن أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه.
(26/269)
والشهيد: المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر، أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سحنة فإن النظر يعين على الفهم.
وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهدا. وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر.
وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة.
وموقع {أو} للتقسيم لأن المتذكر إما أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود، قال تعالى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: من الآية52] فقوله {أَلْقَى السَّمْعَ} استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب، وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية. وقيل المراد بمن ألقى السمع وهو شهيد خصوص أهل الكتاب الذين ألقوا سمعهم لهذه الذكرى وشهدوا بصحتها لعلمهم بها من التوراة وسائر كتبهم فيكون {شهيد} من الشهادة لا من المشاهدة. وقال الفخر: تنكير {قلب} للتعظيم والكمال. والمعنى: لمن كان له قلب ذكي واع يستخرج بذكائه، أو لمن ألقى السمع إلى المنذر فيتذكر، وإنما قال و {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} ولم يقل: استمع، لأن إلقاء السمع، أي يرسل سمعه ولا يمسكه وإن لم يقصد السماع، أي تحصل الذكرى لمن له سمع. وهو تعريض بتمثيل المشركين بمن ليس له قلب وبمن لا يلقي سمعه.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38]
مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما نزل قوله تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: 6] إلى قوله {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ: من الآية10] وكان ذلك قريبا مما وصف في التوراة من ترتيب المخلوقات إجمالا ثم نزل قوله بعد ذلك {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [قّ: 15] كان بعض اليهود بمكة يقولون إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، وهذا مكتوب في سفر التكوين من التوراة.
والاستراحة تؤذن بالنصب والإعياء فلما فرغت الآية من تكذيب المشركين في
(26/270)
أقوالهم عطفت إلى تكذيب الذين كانوا يحدثونهم بحديث الاستراحة، فهذا تأويل موقع هذه الآية في هذا المحل مع ما حكى ابن عطية من الإجماع على أن هذه السورة كلها مكية وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على طليعة السورة فقول من قال نزلت في يهود المدينة تكلف إذ لم يكن اليهود مقصورين على المدينة من بلاد العرب وكانوا يترددون إلى مكة.
فقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تكملة لما وصف من خلق السماوات في قوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [قّ: من الآية7] ليتوصل به إلى قوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} إبطالا لمقالة اليهود، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها عطف القصة على القصة وقعت معترضة بين الكلام السابق وبين ما فرع عنه من قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [قّ: من الآية39].
والواو في {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} واو الحال لأن لمعنى الحال هنا موقعا عظيما من تقييد ذلك الخلق العظيم في تلك المدة القصيرة بأنه لا ينصب خالقه لأن الغرض من معظم هذه ا لسورة بيان إمكان البعث إذ أحاله المشركون بما يرجع إلى ضيق القدرة الإلهية عن إيقاعه، فكانت هذه الآيات كلها مشتملة على إبراز معنى سعة القدرة الإلهية.
ومعنى {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ما أصابنا تعب. وحقيقة المس: اللمس، أي وضع اليد على شيء وضعا غير شديد بخلاف الدفع واللطم. فعبر عن نفي أقل الإصابة بنفي المس لنفي أضعف أحوال الإصابة كما في قوله تعالى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] فنفي قوة الإصابة وتمكنها أحرى.
واللغوب: الإعياء من الجري والعمل الشديد.
[40,39] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
تفريع على ما تقدم كله من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} [قّ: 2] الآيات، ومناسبة وقعه هذا الموقع ما تضمنه قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] الآية من التعريض بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي فاصبر على ما يقول المشركون من التكذيب بما أخبرتهم من البعث وبالرسالة وقد جمع ذلك كله الموصول وهو {ما يقولون} .
(26/271)
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين الذين هم المقصود من هذه المواعظ والنذر ابتداء من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
عطف على {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فهو من تمام التفريع، أي اصبر على أقوال أذاهم وسخريتهم. ولعل وجه هذا العطف أن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة مثل قصة إلقاء عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم حين سجد في المسجد الحرام في حجر الكعبة فأقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآية. وقال تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} إلى قوله {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:9-19].
فالمراد بالتسبيح: الصلاة وهو من أسماء الصلاة. قال ابن عطية: أجمع المتأملون على أن التسبيح هنا الصلاة. قلت: ولذلك صار فعل التسبيح منزلا منزلة اللازم لأنه في معنى: صل. والباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} يرجح كون المراد بالتسبيح الصلاة لأن الصلاة تقرأ في كل ركعة منها الفاتحة وهي حمد لله تعالى، فالباء للملابسة.
واختلف المفسرون في المراد بالصلاة من قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ففي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني بذلك العصر والفجر. ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} كذا. والقراءة {الغروب} .وعن ابن عباس: قبل الغروب: الظهر والعصر. وعن قتادة: العصر.
وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} الجمهور على أن التسبيح فيه هو الصلاة، وعن أبي الأحوض أنه قول سبحان الله فعلى أن التسبيح الصلاة قال ابن زيد: صلاة المغرب وصلاة العشاء.
{وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ظرف واسع يبتدئ من زوال الشمس عن كبد السماء لأنها حين
(26/272)
تزول عن كبد السماء قد مالت إلى الغروب وينتهي بغروبها، وشمل ذلك وقت صلاة الظهر والعصر، وذلك معلوم للنبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح الليل بصلاتي المغرب والعشاء لأن غروب الشمس مبدأ الليل، فإنهم كانوا يؤرخون بالليالي ويبتدئون الشهر بالليلة الأولى التي بعد طلوع الهلال الجديد عقب غروب الشمس.
وقيل هذه المذكورات كلها نوافل، فالذي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر، والذي قبل الغروب ركعتان قبل غروب الشمس قاله أبو برزة وأنس بن مالك، والذي من الليل قيام الليل قاله مجاهد.
ويأتي على هذا الوجه الاختلاف في محمل الأمر على الندب إن كانا عاما أو على الوجوب إن كانا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في سورة المزمل.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} في سورة الإنسان.[24-26]
وقريب منها أيضا قوله تعالى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} في سورة الطور [48-49].
وأما قوله {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيجوز أن يكون معطوفا على قوله {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ}
والإدبار: بكسر الهمزة حقيقته: الانصراف لأن المنصرف يستدير من كان معه، واستعير هنا للانقضاء، أي انقضاء السجود، والسجود: الصلاة، قال تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وانتصابه على النيابة عن الظرف لأن المراد: وقت إدبار السجود.
وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر وحمزة وخلف بكسر همزة {إدبار} . وقرأه الباقون بفتح الهمزة على أنه جمع: دبر، بمعنى العقب والآخر، وعلى كلتا القراءتين هو وقت انتهاء السجود.
ففسر السجود بالحمل على الجنس، أي بعد الصلوات قال ابن زيد، فهو أمر بالرواتب التي بعد الصلوات. وهو عام خصصته السنة بأوقات النوافل، ومجمل بينت السنة مقاديره، وبينت أن الأمر فيه أمر ندب وترغيب لا أمر إيجاب. وعن المهدوي أنه كان فرضا فنسخ بالفرائض. وحمل على العهد فقال جمع من الصحابة والتابعين هو صلاة المغرب، أي الركعتان بعدها. وعن ابن عباس أنه الوتر.
والفاء في قوله {فسبحه} للتفريع على قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} على أن يكون
(26/273)
الوقت على قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ} تأكيدا للأمر لإفادة الوجوب فيجعل التفريع اعتراضا بين الظروف المتعاطفة وهو كالتفريع الذي في قوله آنفا {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [قّ: 36] وقوله تعالى {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14]
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}
لا محالة أن جملة {استمع} عطف على جملة {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] فالأمر بالاستماع مفرع بالفاء التي فرع بها الأمر بالصبر على ما يقولون. فهو لاحق بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون المسموع إلا من نوع ما فيه عناية به وعقوبة لمكذبيه.
وابتداء الكلام ب {استمع} يفيد توشيقا إلى ما يرد بعده على كل احتمال. والأمر بالاستماع حقيقته: الأمر بالإنصات والإصغاء.
وللمفسرين ثلاث طرق في محمل {استمع} ، فالذي نحاه الجمهور حمل الاستماع على حقيقته وإذ كان المذكور عقب فعل السمع لا يصلح لأن يكون مسموعا لأن اليوم ليس مما يسمع تعين تقدير مفعول ل {استمع} يدل عليه الكلام الذي بعده فيقدر: استمع نداء المنادي، أو استمع خبرهم، أو استمع الصيحة يوم ينادي المنادي. ولك أن تجعل فعل {استمع} منزلا منزلة اللازم، أي كن سامعا ويتوجه على تفسيره هذا أن يكون معنى الأمر بالاستماع تخييلا لصيحة ذلك اليوم في صورة الحاصل بحيث يؤمر المخاطب بالإصغاء إليها في الحال كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي ... بذي الطبسين فالتفت ورائيا
ونحا ابن عطية حمل {استمع} على المجاز، أي انتظر. قال لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبين صحة ما قلته اه. ولم أر من سبقه إلى هذا المعنى، ومثله في تفسير الفخر وفي تفسير النسفي. ولعلهما اطلعا عليه لأنهما متأخران عن ابن عطية وهما وإن كان مشرقيين فأن الكتب تنقل بين الأقطار.
وللزمخشري طريقة أخرى فقال يعني: واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل "يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك". ولم أر من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق.
(26/274)
واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناء على الفتح، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابن مالك ولا ريبة في أنه الأصوب. ومنه قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] في قراءة نافع بفتح {يوم} .
وقوله {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} بدل مطابق من {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} وقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} خبر المبتدأ.
ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} مفعولا فيه ل {استمع} وإعراب ما بعده ظاهر.
ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ظرفا في موقع الخبر المقدم وتجعل المبتدأ قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} ويكون تقدير النظم: واستمع ذلك يوم الخروج يوم ينادي المنادي الخ، ويكون اسم الإشارة لمجرد التنبيه، أو راجعا إلى يوم ينادي المنادي، فإنه متقدم عليه في اللفظ وإن كان خبرا عنه في المعنى واسم الإشارة يكتفي بالتقديم اللفظي بل يكتفي بمجرد الخطور في الذهن. وفي تفسير النسفي أن يعقوب أي الحضرمي أحد أصحاب القراءات العشر المتواترة وقف على قوله {واستمع} .
وتعريف {المنادي} تعريف الجنس، أي يوم ينادي مناد، أي من الملائكة وهو الملك الذي ينفخ النفخة الثانية فتتكون الأجساد وتحل فيها أرواح الناس للحشر قال تعالى {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]
وتنوين {مَكَانٍ قَرِيبٍ} للنوعية إذ لا يتعلق الغرض بتعيينه، ووصفه ب {قريب} للإشارة إلى سرعة حضور المنادين، وهو الذي فسرته جملة {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} لأن المعروف أن النداء من مكان قريب لا يخفى على السامعين بخلاف النداء من كان بعيدا.
و {بالحق} بمعنى: بالصدق وهو هنا الحشر، وصف {بالحق} إبطالا لزعم المشركين أنه اختلاق.
والخروج: مغادرة الدار أو البلد، وأطلق الخروج على التجمع في المحشر لأن الحي إذا نزحوا عن أرضهم قيل: خرجوا، يقال: خرجوا بقضهم وقضيضهم.
واسم الإشارة جيء به لتهويل المشار إليه وهو {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} فأريد
(26/275)
كمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الخبر العظيم. ومقتضى الظاهر أن يقال: هو يوم الخروج.
و {يَوْمُ الْخُرُوجِ} علم بالغلبة على يوم البعث، أي الخروج من الأرض.
وجملة {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} تذييل، أي هذا الإحياء بعد أن أمتناهم هو من شؤوننا بأنا نحييهم ونحيي غيرهم ونميتهم ونميت غيرهم.
والمقصود هو قوله {ونميت} ، وأما قوله {نحيي} فإنه لاستيفاء معنى تصرف الله في الخلق.
وتقديم {إلينا} في {إِلَيْنَا الْمَصِيرُ} للاهتمام. والتعريف في {المصير} إما تعريف الجنس، أي كل شيء صائر إلى ما قدرناه له وأكبر ذلك هو ناموس الفناء المكتوب على جميع الأحياء وإما تعريف العهد، أي المصير المتحدث عنه، وهو الموت لأن المصير بعد الموت إلى حكم الله.
وعندي أن هذه الآيات من قوله {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} إلى قوله {المصير} مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحل بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقون إثره حتفهم، وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بترقب يوم يناديهم فيه مناد إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأن عير قريش وفيها أبو سفيان قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه. فتجهز الناس سراعا وخرجوا إلى بدر. فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة.
والخروج: خروجهم لبدر، وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصال سادتهم عقبه. وتكون جملة {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قدر إسلامه فيما بعد فهو يحييه إلى يوم أجله.
وكتب في المصحف {المناد} بدون ياء. وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بياء في الوصل وبدونها في الوقف، وذلك جار على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرف باللام معاملة المنكر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في
(26/276)
آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرف معاملة المنكر. وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتبارا بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالف قياس اللفظ لأجله.
[44] {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}
إن جربت على أقوال المفسرين في تفسير الآية السابقة أفادت هذه الآية بيانا لجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] أو بدل اشتمال منها مع ما في المعاد منها من تأكيد لمرادفه. وإن جريت على ما ارتأيته في محمل الآية السابقة أفادت هذه الجملة استئنافا استدلالا على إمكان الحشر ووصف حال من أحواله وهو تشقق الأرض عنهم، أي عن أجساد مثيلة لأجسادهم وعن الأجساد التي لم يلحقها الفناء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {تشقق} بفتح التاء وتشديد الشين. وأصله تتشقق بتاءين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينا لتقارب مخرجيها. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {تشقق} بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل لاستثقال الجمع بين تاءين.
و {سراعا} حال من ضمير {عنهم} وهو جمع سريع، أي سراعا في الخروج أو في المشي الذي يعقبه إلى محل الحساب.
والقول في إعراب {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ} كالقول في إعراب قوله {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [قّ: من الآية41]إلى {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} وكذلك القول في اختلاف اسم الإشارة مثله.
وتقدم المجرور في {علينا} للاختصاص، أي هو يسير في جانب قدرتنا لا كما زعمه نفاة الحشر.
[45] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [قّ: 39] فهو إيغال في تسلية
(26/277)
النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريض بوعيدهم، فالخبر مستعمل مجازا في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه.
وقوله {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير مسؤول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بعث داعيا وهاديا، وليس مبعوثا لإرغامهم على الإيمان، والجبار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه.
وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشئ عن نفي كونه جبارا عليهم وهذا كقوله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21,22] ولكن خص التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكر. فالمعنى: فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد. وهذا كقوله {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45].
وكتب في المصحف {وعيد} بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف. وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف.
(26/278)
مجلد السابع والعشرون
سورة الذاريات
...
سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سورة الذاريات
تسمى هذه السورة والذاريات بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها. وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي. وتسمى أيضا سورة الذاريات بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن. وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين. وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة. ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن. وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية.
واتفق أهل عد الآيات على أن آيها ستون آية.
أغراض هذه السورة
احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء. وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت. ووعيدهم بعذاب يفتنهم. ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان.
ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه.
والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيان الشبه التام بينهم وبين
(27/5)
أولئك. وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الشرك. ومعذرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق.
ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم.
[1-6] {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [1] فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [2] فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً [3] فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً [4] إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [5] وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [6] .
القسم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالة على الهدى والصلاح، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها.
والمقسم بها الصفات تقتضي موصفاتها، فآل إلى القسم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة. وفي ذلك إيجاز دقيق، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيرا لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن.
وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء، كقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة1 للحارث2 الص ... ابح فالغانم فالآيب3
ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة كقول امرئ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة............
وقول لبيد:
بمشارق الجبلين أو بمحجر ... فتضمنتها فردة فرخامها
ـــــــ
1 يريد أمه واسمها زيابة.
2 هو الحارث بن همام الشيباني ، وهو شاعر قديم جاهلي وكان بينه وبين ابن زيابة عداوة.
وهذا البيت من أبيات هي جواب عن هجاء هجاه به الحارث.
3 تهكم بالحارث.
(27/6)
فصوائق إن أيمنت.........البيت
ويكثر ذلك في عطف البقاع المتجاورة، وقد تقدم ذلك في سورة الصافات.
واختلف أئمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها. وأشهر ما روي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن {الذَّارِيَاتِ} الرياح لأنها تذرو التراب، و {الْحَامِلاتِ وِقْراً} : السحاب، و {الْجَارِيَاتِ} : السفن، و {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الملائكة، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها.
وتأويله أن كل معطوف عليه يسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي، فالرياح تذكر بالسحاب، وحمل السحاب وقر الماء يذكر بحمل السفن، والكل يذكر بالملائكة. ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفا للرياح قاله في الكشاف ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء.
فالأحسن أن يحمل الذرو على نشر قطع السحاب نشرا يشبه الذرو. وحقيقة الذرو رمى أشياء مجتمعة ترمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحابا كاملا فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]. والذرو وإن كان من صفة الرياح فإن كون المذرو سحابا يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب.
ونصب {ذَرْواً} على المفعول المطلق لإرادة تفخيمه بالتنوين، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى المفعول، أي المذرو، ويكون نصبه على المفعول به.
و {الْحَامِلاتِ وِقْراً} هي الرياح حين تجمع السحاب وقد ثقل بالماء، شبه جمعها إياه بالحمل لأن شأن الشيء الثقيل أن يحمله الحامل، وهذا في معنى قوله تعالى {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] الآية. وقوله {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43].
والوقر بكسر الواو: الشيء الثقيل.
ويجوز أن تكون الحاملات الأسحبة التي ملئت ببخار الماء الذي يصير مطرا،
(27/7)
عطفت بالفاء على الذاريات بمعنى الرياح لأنها ناشئة عنها فكأنها هي.
و {الْجَارِيَاتِ يُسْراً} : الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلا بماء المطر، فالتقدير: فالجاري بذلك الوقر يسرا.
ومعنى اليسر: اللين والهون، أي الجاريات جريا لينا هينا شأن السير بالثقل، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل
ف {يُسْراً} وصف لمصدر محذوف نصب على النيابة عن المفعول المطلق.
و {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الرياح التي تنتهي بالسحاب إلى الموضع الذي يبلغ عنده نزول ما في السحاب من الماء أو هي السحب التي تنزل ما فيها من المطر على مواضع مختلفة.
وإسناد التقسيم إليها على المعنيين مجاز بالمشابهة. وروي عن الحسن {الْمُقَسِّمَاتِ} : السحب بقسم الله بها أرزاق العباد اه. يريد قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [قّ: 9] إلى قوله {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} في سورة {ق9-11].
ومن رشاقة هذا التفسير أن فيه مناسبة بين المقسم به والمقسم عليه وهو قوله {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فإن أحوال الرياح المذكورة هنا مبدؤها: نفخ، فتكوين، فإحياء، وكذلك البعث مبدؤه: نفخ في الصور، فالتئام أجساد الناس التي كانت معدومة أو متفرقة، فبث الأرواح فيها فإذا هم قيام ينظرون. وقد يكون قوله تعالى {أَمْراً} إشارة إلى ما يقابله في المثال من أسباب الحياة وهو الروح لقوله {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
و"ما" من قوله {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} موصولة، أي إن الذي توعدونه لصادق. والخطاب في {تُوعَدُونَ} للمشركين كما هو مقتضى التأكيد بالقسم وكما يقتضيه تعقيبه بقوله {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذريات:8].
فيتعين أن يكون {تُوعَدُونَ} مشتقا من الوعيد الذي ماضيه أوعد، وهو بمنى للمجهول فأصل {تُوعَدُونَ} تؤوعدون بهمزة مفتوحة بعد تاء المضارعة وواو بعد الهمزة هي عين فعل أوعد وبفتح العين لأجل البناء المجهول فحذفت الهمزة على ما هو المطرد من حذف همزة أفعل في المضارع مثل تكرمون، وسكنت الواو سكونا ميتا لأجل وقوع الضمة قبلها بعد أن كان سكونها حيا فصار {تُوعَدُونَ} ووزنه تافعلون.
(27/8)
والذي أوعدوه عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مثل الجوع في سني القحط السبع الذي هو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله "اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف" وهو الذي أشار إليه قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية في سورة الدخان [10, 11]. ومثل عذاب السيف والأسر يوم بدر الذي توعدهم الله به في قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] ويجوز أن يكون توعدون من الوعد، أي الإخبار بشيء يقع في المستقبل مثل قوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] فوزنه تفعلون. والمراد بالوعد الوعد بالبعث.
ووصف {لَصَادِقٌ} مجاز عقلي إذ الصادق هو الموعد به على نحو {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} . [الجاثية: 21].
والدين: الجزاء. والمراد إثبات البعث الذي أنكروه.
ومعنى {لَوَاقِعٌ} واقع في المستقبل بقرينة جعله مرتبا في الذكر على ما يوعدون وإنما يكون حصول الموعود به في الزمن المستقبل وفي ذكر الجزاء زيادة على الكناية به عن إثبات البعث تعريض بالوعيد على إنكار البعث.
وكتب في المصاحف {إنما} متصلة وهو على غير قياس الرسم المصطلح عليه من بعد لأنهما كلمتان لم تصيرا كلمة واحدة، بخلاف {إنما} التي هي للقصر. ولم يكن الرسم في زمن كتابة المصاحف في أيام الخليفة عثمان قد بلغ تمام ضبطه.
[7-9] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [7] إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [8] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[9]} .
هذا قسم أيضا لتحقيق اضطراب أقوالهم في الطعن في الدين وهو كالتذييل للذي قبله، لأن ما قبله خاص بإثبات الجزاء. وهذا يعم إبطال أقوالهم الضالة فالقسم لتأكيد المقسم عليه لأنهم غير شاعرين بحالهم المقسم على وقوعه، ومتهالكون على الاستزادة منه، فهم منكرون لما في أقوالهم من اختلاف واضطراب جاهلون به جهلا مركبا والجهل المركب إنكار للعلم الصحيح. والقول في القسم ب {السَّمَاءِ} كالقول في القسم ب {الذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1].
ومناسبة هذا القسم للمقسم عليه في وصف السماء بأنها ذات حبك، أي طرائق لأن المقسم عليه: إن قولهم مختلف طرائق قددا ولذلك وصف المقسم به ليكون إيماء إلى نوع جواب القسم.
(27/9)
والحبك: بضمتين جمع حباك ككتاب وكتب ومثال ومثل، أو جمع حبيكة مثل طريقة وطرق، وهي مشتقة من الحبك بفتح فسكون وهو إجادة النسج وإتقان الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحبك السماء نجومها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. وروي عن الحسن وسعيد بن جبير وقيل الحبك: طرائق المجرة التي تبدو ليلا في قبة الجو.
وقيل: طرائق السحاب. وفسر الحبك بإتقان الخلق. روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وهذا يقتضي أنهم جعلوا الحبك مصدرا أو اسم مصدر، ولعله من النادر: وإجراء هذا الوصف على السماء إدماج أدمج به الاستدلال على قدرة الله تعالى مع الامتنان بحسن المرأى.
واعلم أن رواية رويت عن الحسن البصري أنه قرأ {الْحُبُكِ} بكسر الحاء وضم الباء وهي غير جارية على لغة من لغات العرب. وجعل بعض أئمة اللغة الحبك شاذا فالظن أن راويها أخطأ لأن وزن فعل بكسر الفاء وضم العين وزن مهمل في لغة العرب كلهم لشدة ثقل الانتقال من الكسر إلى الضم مما سلمت منه اللغة العربية. ووجهت هذه القراءة بأنها من تداخل اللغات وهو توجيه ضعيف لأن إعمال تداخل اللغتين إنما يقبل إذا لم يفض الى زنة مهجورة لأنها إذا هجرت بالأصالة فهجرها في التداخل أجدر ووجهها أبو حيان باتباع حركة الحاء لحركة تاء {ذَاتَ} وهو أضعف من توجيه تداخل اللغتين فلا جدوى في التكلف.
والقول المختلف: المتناقض الذي يخالف بعضه بعضا فيقتضي بعضه إبطال بعض الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة فقالوا القرآن: سحر وشعر، وقالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5]، وقالوا {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ: 7] وقالوا {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [لأنفال: 31] وقالوا: مرة {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] وغير ذلك، وقالوا: وحي الشياطين.
وقالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالا: شاعر، ساحر، مجنون، كاهن، يعلمه بشر، بعد أن كانوا يلقبونه الأمين. وقالوا في أصول شركهم بتعدد الآلهة مع اعترافهم بأن الله خالق كل شيء وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [لأعراف: 28].
(27/10)
و "في" للظرفية المجازية وهي شدة الملابسة الشبيهة بملابسة الظرف للمظروف مثل {بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [لبقرة: 15].
والمقصود بقوله {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} الكناية عن لازم الاختلاف وهو التردد في الاعتقاد، ويلزمه بطلان قولهم وذلك مصب التأكيد بالقسم وحرف "إن" واللام.
{ويؤفك}: يصرف. والأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء: الصرف. وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن، قاله مجاهد كما في اللسان، وهو ظاهر كلام أئمة اللغة والفراء وشمر وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن.
وجملة {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يجوز أن تكون في محل صفة ثانية ل {قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6]، فتكون جملة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبين عنها.
ثم إن لفظ {قَوْل} يقتضي شيئا مقولا في شأنه فإذ لم يذكر بعد {قَوْلٌ} ما يدل على مقول صلح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم.
فلما جاء ضمير غيبة بعد لفظ {قَوْلٌ} احتمل أن يعود الضمير إلى {قَوْلٌ} لأنه مذكور، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير {عَنْهُ} عائد إلى {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وأن معنى {يُؤْفَكُ عَنْهُ} يصرف بسببه، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون {عَنْ} للتعليل كقوله تعالى {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] وقوله تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]، وقيل ضمير {عنه} عائد إلى {مَا تُوعَدُونَ} أو عائد إلى {الدِّين} [الذاريات:6]، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك. وعن الحسن وقتادة: أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما، وحرف "عن" للمجاوزة.
وعلى كل فالمراد بقوله {مَنْ أُفِكَ} المشركون المصروفون عن التصديق. والمراد بالذي فعل الإفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُولا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
وإنما حذف فاعل {يُؤْفَكُ} غافر وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز.
(27/11)
وقد حملهم الله بهاتين الجملتين تبعة أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].
[10،11] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} .
دعاء بالهلاك على أصحاب ذلك القول المختلف لأن المقصود بقتلهم أن الله يهلكهم، ولذلك يكثر أن يقال: قاتله الله، ثم أجري مجرى اللعن والتحقير والتعجيب من سوء أحوال المدعو عليه بمثل هذا.
وجملة الدعاء لا تعطف لأنها شديدة الاتصال بما قبلها ما أوجب ذلك الوصف لدخولهم في هذا الدعاء، كما كان تعقيب الجمل التي قبلها بها إيماء إلى أن ما قبلها سبب للدعاء عليهم، وهذا من بديع الإيجاز.
والخرص: الظن الذي لا حجة لصاحبه على ظنه، فهو معرض للخطأ في ظنه، وذلك كناية عن الضلال عمدا أو تساهلا، فالخراصون هم أصحاب القول المختلف، فأفاد أن قولهم المختلف ناشئ عن خواطر لا دليل عليها. وقد تقدم في الأنعام[116] {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فالمراد هنا الخرص بالقول في ذات الله وصفاته.
واعلم أن الخرص في أصول الاعتقاد مذموم لأنها لا تبنى إلا على اليقين الخطر أمرها وهو أصل محل الذم في هذه الآية. وأما الخرص في المعاملات بين الناس فلا يذم هذا الذم وبعضه مذموم إذا أدى إلى المخاطرة والمقامرة. وقد أذن في بعض الخرص للحاجة. ففي الموطأ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها يعني في بيع ثمرة النخلات المعطاة على وجهة العرية وهي هبة مالك النخل ثمر بعض نخله لشخص لسنة معينة فإن الأصل أن يقبض ثمرتها عند جذاذ النخل فإذا بدا لصاحب الحائط شراء تلك الثمرة قبل طيبها رخص أن يبيعها المعري بالفتح للمعري بالكسر إذا أراد المعري ذلك فيخرص ما تحمله النخلات من الثمر على أن يعطيه عند الجذاذ ما يساوي ذلك المخروص إذا لم يكن كثيرا وحدد بخمسة أوسق فأقل ليدفع صاحب النخل عن نفسه تطرق غيره لحائطه، وذلك لأن أصلها عطية فلم يدخل إضرار على المعري من ذلك.
والغمرة: المرة من الغمر، وهو الإحاة ويفسرها ما تضاف إليه كقوله تعالى: {وَلَوْ
(27/12)
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] فإذا لم تقيد بإضافة فإن تعيينها بحسب المقام كقوله تعالى : {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} في سورة المؤمنين[54] والمراد: في شغل، أي ما يشغلهم من معاداة الإسلام شغلا لا يستطيعون معه أن يتدبروا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والسهو: الغفلة. والمراد أنهم معرضون إعراضا كإعراض الغافل وما هم بغافلين فإن دعوة القرآن تقرع أسماعهم كل حين واستعمال مادة السهو في هذا المعنى نظير استعمالها في قوله تعالى {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5].
[12-14] {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [13] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [14].
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من ضمير {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10] وأن تكون
استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10] لأن جملة {قُتِلَ الْخَرَّاصُون} أفادت تعجيبا من سوء عقولهم وأحوالهم فهو مثار سؤال في نفس السامع يتطلب البيان، فأجيب بأنهم يسألون نع يوم الدين سؤال متهكمين، يعنون أنه لا وقوع ليوم الدين كقوله تعالى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ
النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ : 1-3].
و {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّين} مقول قول محذوف دل عليه {يَسْأَلونَ} لأن في فعل السؤال معنى القول. فتقدير الكلام: يقولون: أيان يوم الدين. ولك أن تجعل جملة {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} بدلا من جملة {يَسْأَلون} لتفصيل إجماله وهو من نوع البدل المطابق.و {أَيَّانَ} اسم استفهام عن زمان فعل وهو في محل نصب مبني على الفتح، أي متى يوم الدين، ويوم الدين زمان فالسؤال عن زمانه آيل إلى السؤال باعتبار وقوعه، فالتقدير: أيان وقوع يوم الدين، أو حلوله، كما تقول: متى يوم رمضان أي متى ثبوته لأن أسماء الزمان حقها أن تقع ظروفا للأحداث لا للأزمنة.
وجملة {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنون} جواب لسؤلهم جرى على الأسلوب الحكيم من تلقيايرما يتطلب إذ هم حين قالوا: أيان يوم الدين، أرادوا التهكم والإحالة فتلقى كلامهم بغير مرادهم لأن في الجواب ما يشفي وقع تهكمهم على طريقة قوله تعالى {يسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [لبقرة:189]. والمعنى: يوم الدين يقع يوم تصلون النار ويقال لكم: ذوقوا فتنتكم.
(27/13)
وانتصبْ {يوم هم َعَلي لنَّارِ يُفْتَنُونَ} على الظرفية وهو خبر عن مبتدأ محذوف دل عليه السؤال عنه بقوله: أيان يوم الدين. والتقدير: يوم الدين يوم هم على النار يفتنون.
والفتن: التعذيب والتحريق، أي يوم هم يعذبون على نار جهنم وأصل الفتن الاختيار. وشاع إطلاقه على معان منها إذابة الذهب على النار في البوتقة لاختيار ما فيه من معدن غير ذهب، ولا يذاب إلا بحرارة نار شديدة فهو هنا كناية عن الإحراق الشديد.
وجملةُ {ذوقوا فِتْنَتَكُمْ} مقول قول محذوف دل عليه الخطاب، أي يقال لهم حينئذ، أو مقولا لهم ذوقوا فتنتكم، أي عذابكم. والأمر في قوله {ذُوقُوا} مستعمل في التنكيل.
والذوق: مستعار للإحساس القوي لأن اللسان أشد الأعضاء إحساسا.
وإضافة فتنة إلى ضمير المخاطبين يومئذ من إضافة المصدر إلى مفعوله. وفي الإضافة دلالة على اختصاصها لهم لأنهم استحقوها بكفرهم، ويجوز أن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى فاعله. والمعنى: ذوقوا جزاء فتنتكم. قال ابن عباس: أي تكذيبكم. ويقوم من هذا الوجه أن يجعل الكلام موجها بتذكير المخاطبين في ذلك اليوم ما كانوا يفتنون به المؤمنين من التعذيب مثل ما فتنوا بلالا وخبابا وعمارا وشميسة وغيرهم، أي هذا جزاء فتنتكم. وجعل المذوق فتنتهم إظهارا لكونه جزاء عن فتنتهم المؤمنين ليزدادوا ندامة قال تعالى موعدا إياهم {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} [البروج:10].
وإطلاق اسم العمل على جزائه وارد في القرآن كثيرا كقوله تعالى {وَتْجَعلونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة:82] أ ي وتجعلون رزفكم أنكم تكذبون وحدانيته.
والإشارة في قوله {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} إلى الشيء الحاضر نصب أعينهم، وهكذا الشأن في مثله تذكير اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة [68].
ومعنى {كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون} كنتم تطلبون تعجيله فالسين والتاء للطلب، أي كنتم في الدنيا تسألون تعجيله وهو طلب يريدون به أن ذلك محال غير واقع.وأقوالهم في هذا كثيرة حكاها القرآن كقوله {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الملك:25].
والجملة استئناف في مقام التوبيخ وتعديد المجارم، كما يقال للمجرم: فعلت كذا،
(27/14)
وهي من مقول القول.
[15-19] {إن المتقينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} [5] أِخِذيَن ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [16] كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [17] وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [18]وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [19].
اعتراض قابل به حال المؤمنين في يوم الدين جرى على عادة القرآن في اتباع النذارة بالبشارة، والترهيب بالترغيب.
وقوله: {إّن الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} نظير قوله في سورة الدخان[51 ،52 ]{إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
وجمع {جَنَّاتٍ} : باعتبار جمع المتقين وهي جنات كثيرة مختلفة وفي الحديث إنها لجنان كثيرة، وإنه لفي الفردوس، وتنكير {جَنَّاتٍ} [البقرة: من الآية25] للتعظيم.
ومعنى {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أنهم قابلون ما أعطاهم، أي راضون به فالأخذ مستعمل في صريحه وكنايته كناية رمزية عن كون ما يؤتونه أكمل في جنسه لأن مدارك الجماعات تختلف في الاستجادة حتى تبلغ نهاية الجودة فيستوي الناس في استجادته، وهي كناية تلويحية.وأيضا فالأخذ مستعمل في حقيقته ومجازه لأن ما يؤتيهم الله بعضهم مما يتناول باليد كالفواكه والشراب والرياحين، وبعضه لا يتناول باليد كالمناظر الجميلة والأصوات الرقيقة والكرامة والرضوان وذلك أكثر من الأول.
فإطلاق الأخذ على ذلك استعارة بتشبيه المعقول بالمحسوس كقوله تعالى {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} في سورة البقرة،[63] وقوله {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} في سورة الأعراف[145].
فاجتمع في لفظ {آخِذِينَ} كنايتان ومجاز. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: "يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم? فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك? فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" .
وفي إيثار التعبير عن الجلالة بوصف "رب" مضاف إلى ضمير المتقين معنى من
(27/15)
اختصاصهم بالكرامة والإيماء إلى أن سبب ما آتاهم هو إيمانهم بربوبيته المختصة بهم وهي المطابقة لصفات الله تعالى في نفس الأمر.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} تعليل لجملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي كان ذلك جزاء لهم عن إحسانهم كما قيل للمشركين {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات:14]. والمحسنون: فاعلوا الحسنات وهي الطاعات.
وفائدة الظرف في قوله {قَبْلَ ذَلِكَ} أن يؤتى بالإشارة إلى ما ذكر من الجنات والعيون وما آتاهم ربهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيحصل بسبب تلك الإشارة تعظيم شأن المشار إليه، ثم يفاد بقوله {قَبْلَ ذَلِكَ} أي قبل التنعم به أنهم كانوا محسنين، أي عاملين الحسنات كما فسره قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} الآية. فالمعنى: أنهم كانوا في الدنيا مطيعين لله تعالى واثقين بوعده ولم يروه.
وجملة {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} بدل من جملة ْ {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} بدل بعض من كل لأن هذه الخصال الثلاث هي بعض من الإحسان في العمل. وهذا كالمثال لأعظم إحسانهم فإن ما ذكر من أعمالهم دال على شدة طاعتهم لله ابتغاء مرضاته ببذل أشد ما يبذل على النفس وهو شيئان.
أولهما: راحة النفس في وقت اشتداد حاجتهما إلى الراحة وهو الليل كله وخاصة آخره، إذ يكون فيه قائم الليل قد تعب واشتد طلبه للراحة.
وثانيهما: المال الذي تشح به النفوس غالبا، وقد تضمنت هذه الأعمال الأربعة أصلي إصلاح النفس وإصلاح الناس. وذلك جماع ما يرمي إليه التكليف من الأعمال فإن صلاح النفس تزكية الباطن والظاهر ففي قيام الليل إشارة إلى تزكية النفس باستجلاب رضى الله تعالى. وفي الاستغفار تزكية الظاهر بالأقوال الطيبة الجالبة لمرضاة الله عز وجل.
وفي جعلهم الحق في أموالهم للسائلين نفع ظاهر للمحتاج المظهر لحاجته. وفي جعلهم الحق للمحروم نفع المحتاج المتعفف عن إظهار حاجته الصابر على شدة الاحتياج.
وحرفْ {مَا} في قوله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} مزيد للتأكيد. وشاعت زيادة
{مَا} بعد اسم {قَلِيلٌ} و {كَثِيرٌ} وبعد فعل {قُلْ} {كَثُرَ} {طَالَ}.
والمعنى: كانوا يهجعون قليلا من الليل. وليست {مَا} نافية.
(27/16)
والهجوع:النوم الخفف وهو الغرار.
ودلت الآية على أنهم كانوا يهجعون قليلا من الليل وذلك اقتداء بأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاًالمزمل نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} المزمل:2-4] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بذلك كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال له: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار" قال: نعم. قال: "لا تفعل إنك إن فعلت ذلك نفهت النفس وهجمت العين" . وقال له: "قم ونم، فإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا" .
وقد اشتملت هذه الجملة على خصائص من البلاغة.
أولاها : فعل الكون في قوله {كَانُوا} الدال على أن خبرها سنة متقررة.
الثاني : العدول عن أن يقال: كانوا يقيمون الليل، أو كانوا يصلون في جوف الليل، إلى قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} لأن في ذكر الهجوع تذكيرا بالحالة التي تميل إليها النفوس فتغلبها وتصرفها عن ذكر الله تعالى وهو من قبيل قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، فكان في الآية إطناب اقتضاه تصوير تلك الحالة، والبليغ قد يورد في كلامه ما لا تتوقف عليه استفادة المعنى إذا كان يرمي بذلك إلى تحصيل صور الألفاظ المزيدة.
الثالث : التصريح بقوله {مِنَ اللَّيْلِ} للتذكير بأنهم تركوا النوم في الوقت الذي من شأنه استدعاء النفوس للنوم فيه زيادة في تصوير جلال قيامهم الليل وإلا فإن قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} يفيد أنه من الليل.
الرابع : تقييد الهجوع بالقليل للإشارة إلى أنهم لا يستكملون منتهى حقيقة الهجوع بل يأخذون منه قليلا. وهذه الخصوصية فاتت أبا قيس بن الأسلت في قوله:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
الخامس : المبالغة في تقليل هجوعهم لإفادة أنه أقل ما يهجعه الهاجع.
وانتصب {قَلِيلاً} على الظرف لأنه وصف بالزمان بقوله {مِنَ اللَّيْلِ} . والتقدير: زمنا قليلا من الليل، والعامل في الظرف {مَا يَهْجَعُونَ} و {مِنَ اللَّيْل} تبعيض.
ثم أتبع ذلك بأنهم يستغفرون في السحر، أي فإذا آذن الليل بالانصرام سألوا الله أن
(27/17)
يغفر لهم بعد أن قدموا من التهجد ما يرجون أن يزلفهم إلى رضى الله تعالى. وهذا دل على أن هجوعهم الذي يكون في خلال الليل قبل السحر. فأما في السحر فهم يتهجدون، ولذلك فسر ابن عمر ومجاهد الاستغفار بالصلاة في السحر. وهذا نظير قوله تعالىَ {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار} [آل عمران:17]، وليس المقصود طلب الغفران بمجرد اللسان ولو كان المستغفر في مضجعه إذ لا تظهر حينئذ مزية لتقييد الاستغفار بالكون في الأسحار.
والأسحار: جمع سحر وهو آخر الليل. وخص هذا الوقت لكونه يكثر فيه أن يغلب النوم على الإنسان فيه فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى. وجمع الأسحار باعتبار تكرر قيامهم في كل سحر.
وتقديم {بالأسحار} على ْ{يَسْتَغْفِرُونَ} للاهتمام به كما علمت.
وصيغ استغفارهم بأسلوب إظهار المسند إليه دون ضميره لقصد إظهار الاعتناء بهم وليقع الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي فيفيد تقوي الخبر لأنه من الندرة بحيث يقتضي التقوية لأن الاستغفار في السحر يشق على من يقوم الليل لأن ذلك وقت إعيائه.فهذا الإسناد على طريقة قولهم هو: يعطي الجزيل.
وحق السائل والمحروم: هو النصيب الذي يعطونه إياهما، أطلق عليه لفظ الحق؛ إما لأن الله أوجب على المسلمين الصدقة بما تيسر قبل أن يفرض عليهم الزكاة فإن الزكاة فرضت بعد الهجرة فصارت الصدقة حقا للسائل والمحروم، أو لأنهم ألزموا ذلك أنفسهم حتى صار كالحق للسائل والمحروم. وبذلك يتأول قول من قال: إن هذا الحق هو الزكاة.
والسائل: الفقير المظهر فقره فهو يسأل الناس، والمحروم: الفقير الذي لا يعطى الصدقة لظن الناس أنه غير محتاج من تعففه عن إظهار الفقر، وهو الصنف الذي قال الله تعالى في شأنهم {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي ولا يسأل الناس إلحافا" .
وإطلاق اسم المحروم ليس حقيقة لأنه لم يسأل الناس ويحرموه ولكن لما كان مآل أمره إلى ما يؤول إليه أمر المحروم أطلق عليه لفظ المحروم تشبيها به في أنه لا تصل إليه ممكنات الرزق بعد قربها منه فكأنه ناله حرمان.
والمقصود من هذه الاستعارة ترقيق النفوس عليه وحث الناس على البحث عنه ليضعوا صدقاتهم في موضع يحب الله وضعها فيه ونظيرها في سورة المعارج. قال ابن
(27/18)
عطية: واختلف الناس في {المحروم} اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين إذ المعنى واحد عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا. قلت ذكر القرطبي أحد عشر قولا كلها أمثلة لمعنى الحرمان، وهي متفاوتة في القرب من سياق الآية فما صلح منها لأن يكون مثالا للغرض قبل وما لم يصلح فهو مردود، مثل تفسير من فسر المحروم بالكلب. وفي تفسير ابن عطية عن الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم. وزاد القرطبي في رواية عن الشعبي قال: لي اليوم سبعون سنة منذ احتملت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ.
[20] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين} [ ا لذريات:20].
هذا متصل بالقسم وجوابه من قوله {وَالذَّارِيَاتِ} [الذريات:1] وقوله {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . إلى قوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ1} [الذريات: 6، 7] فبعد أن حقق وقوع البعث بتأكيده بالقسم انتقل إلى تقريبه بالدليل لإبطال إحالتهم إياه، فيكون هذا الاستدلال كقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39].
وما بين هاتين الجملتين اعتراض، فجملة {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة جواب القسم وهي {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذريات:5] والمعنى: وفي ما يشاهد من أحوال الأرض آيات للموقنين وهي الأحوال الدالة على إيجاد موجودات بعد إعدام أمثالها وأصولها مثل إنبات الزرع الجديد بعد أن باد الذي قبله وصار هشيما.وهذه دلائل واضحة متكررة لا تحتاج إلى غوص الفكر فلذلك لم تقرن هذه الآيات بما يدعو إلى التفكر كما قرن قوله {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21].
وأعلم أن الآيات المرموقة من أحوال الأرض صالحة للدلالة أيضا على تفرده تعالى بالإلهية في كيفية خلقها ودحوها للحيوان و الإنسان، وكيف قسمت إلى سهل وجبال وبحر، ونظام إنباتها الزرع والشجر، وما يخرج من ذلك من منافع للناس، ولهذا حذف تقييد آيات بمتعلق ليعم كل ما تصلح الآيات التي في الأرض أن تدل عليه.وتقديم الخبر في قوله {وَفِي الْأَرْضِ} للاهتمام والتشويق إلى ذكر المبتدأ.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} إلى قوله :{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ،والمثبت هو الأنسب للسياق.
(27/19)
واللام في {لِلْمُوقِنِينَ} معلق ب {آيَاتٍ} وخصت الآيات ب {الْمُوقِنِينَ} لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها فأكسبتهم الإيقان بوقوع البعث. وأوثر وصف الموقنين هنا دون الذين أيقنوا لإفادة أنهم عرفوا بالإيقان. وهذا الوصف يقتضي مدحهم بثقوب الفهم لأن الإيقان لا يكون إلا عن دليل ودلائل هذا الأمر نظرية. ومدحهم أيضا بالإنصاف وترك المكابرة لأن أكثر المنكرين للحق تحملهم المكابرة أو الحسد على إنكار حق من يتوجسون منه أن يقضي على منافعهم. وتقديم {فِي الْأَرْضِ} على المبتدأ للاهتمام بالأرض باعتبارها آيات كثيرة.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [21].
عطف على {فِي الْأَرْضِ} [الذاريات:20] فالتقدير: وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون. تفريعا على هذه الجملة المعطوفة فيقدر الوقف على {أَنْفُسَكُمْ} . وليس المجرور متعلقا ب {تبصرون} متقدما عليه لأن وجود الفاء مانع من ذلك إذ يصير الكلام معطوفا بحرفين. والخطاب موجه إلى المشركين. والاستفهام إنكاري، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات.والإبصار مستعار للتدبر والتفكر، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم.
وتقديم {فِي أَنْفُسِكُم} على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة.
والمعنى: ألا تتفكرون في خلق أنفسكم: كيف أنشأكم الله من ماء وكيف خلقكم أطوارا، أليس كل طور هو إيجاد خلق لم يكن موجودا قبل. فالموجود في الصبي لم يكن موجودا فيه حين كان جنينا.
والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلاما. وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت.
وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت يدل على تفرد مكونة تعالى بالإلهية إذ لا يقدر على إيجاد مثل الإنسان غير الله تعالى فإن بواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائب من الانتظام والتناسب، وأعجبها خلق العقل وحركاته واستخراج المعاني، وخلق النطق والإهام إلى اللغة، وخلق الحواس، وحركة الدورة الدموية وانتساق الأعضاء الرئيسة، وتفاعلها، وتسوية المفاصل، والعضلات، والأعصاب، والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز وإذا غلب الارتخاء جاء الموت.والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5]. [22] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} .
(27/20)
بعد أن ذكر دلائل الأرض ودلائل الأنفس التي هم من علائق الأرض عطف ذكر السماء للمناسبة، وتمهيدا للقسم الذي بعده بقوله {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [ الذاريات: 32] ولما في السماء من آية المطر الذي به تنبت الأرض بعد الجفاف، فالمعنى: وفي السماء آية المطر، فعدل عن ذكر المطر إلى الرزق إدماجا للامتنان في الاستدلال فإن الدليل في كونه مطرا يحيي الأرض بعد موتها. وهذا قياس تمثيل للنبت، أي في السماء المطر الذي ترزقون بسببه.
فالرزق: هو المطر الذي تحمله السحب والسماء هنا: طبقات الجو. وتقديم المجرور على متعلقه للتشويق وللاهتمام بالمكان وللرد على الفاصلة.
وعطف {وَمَا تُوعَدُونَ} إدماج بين أدلة إثبات البعث لقصد الموعظة الشاملة للوعيد على الإشراك والوعد على الإيمان إن آمنوا تعجيلا بالموعظة عند سنوح فرصتها.
وفي إيثار صيغة {تُوعَدُونَ} خصوصية من خصائص إعجاز القرآن، فإن هذه الصيغة صالحة لأن تكون مصوغة من الوعد فيكون وزن {تُوعَدُونَ} تفعلون مضارع وعد مبنيا للنائب. وأصله قبل البناء للنائب تعدون وأصله توعدون، فلما بني للنائب ضم حرف المضارعة فصارت الواو الساكنة مدة مجانسة للضمة فصار: توعدون.وصالحة لأن تكون من الإيعاد ووزنه تأفعلون مثل تصريف أكرم يكرم وبذلك صار {تُوعَدُونَ} مثل تكرمون، فاحتملت للبشارة والإنذار.
وكون ذلك في السماء يجوز أن يكون معناه أنه محقق في علم أهل السماء، أي الملائكة الموكلين بتصريفه. ويجوز أن يكون المعنى: أن مكان حصوله في السماء، من جنة أو جهنم بناء على أن الجنة وجهنم موجودتان من قبل يوم القيامة، وفي ذلك اختلاف لا حاجة إلى ذكره. وفيه إيماء إلى أن ما أوعدوه يأتيهم من قبل السماء كما قال تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11،10] فإن ذلك الدخان كان في طبقات الجو كما تقدم في سورة الدخان.
[23] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .
بعد أن أكد الكلام بالقسم ب {الذاريات} [الذاريات:1] وما عطف عليها فرع على ذلك زيادة تأكيد بالقسم بخالق السماء والأرض على أن ما يوعدون حق فهو عطف على الكلام السابق ومناسبته قوله {وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات : 22].
(27/21)
وإظهار اسم السماء والأرض دون ذكر ضميرهما لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة الرب سبحانه.
وضمير {إِنَّهُ لَحَقٌّ} عائد إلى {ماتُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. وهذا من رد العجز على المصدر لأنه رد على قوله أول السورة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] وانتهى الغرض.
وقوله {مِثْل مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} زيادة تقرير لوقوع ما أوعدوه بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون. وهذا نظير قولهم: كما أن قبل اليوم أمس، أو كما أن بعد اليوم غدا. وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقوله: مثل ما أنك هاهنا، وقولهم: كما أنك ترى وتسمع.
وقرأ الجمهور {مِثْلَ} بالنصب على أنه صفة حال محذوف قصد منه التأكيد. والتقدير: إنه لحق حقا ما أنكم تنطقون. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف مرفوعا على الصفة {لَحَقٌّ} صفة أريد بها التشبيه.
و {مَا} الواقعة بعد {مِثْل} زائدة للتوكيد. وأردفت ب {أن} المفيدة للتأكيد تقوية لتحقيق حقية ما يوعدون.
واجتلب المضارع في {تَنْطِقُون} دون أن يقال: نطقكم، يفيد التشبيه بنطقهم المتجدد وهو أقوى في الوقوع لأنه محسوس.
[24-30] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [42] إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [25] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [26] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [27] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [28] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [29] قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [30].
انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وغير أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفننا بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حل بقوم لوط حين كذبوا رسولهم، فالمقصود هو ما بعد
(27/22)
قوله {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر:57].
وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في ترتيب قصص الأمم المكذبة بابتدائها بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم قوم لوط أن المناسبة للانتقال من وعيد المشركين إلى العبرة بالأمم الماضية أن المشركين وصفوا آنفا بأنهم في غمرة ساهون فكانوا في تلك الغمرة أشبه بقوم لوط إذ قال الله فيهم {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، ولأن العذاب الذي عذب به قوم لوط ك4ان حجارة أنزلت عليهم من السماء مشبهة بالمطر. وقد سميت مطرا في قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] وقوله {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود:82] ولأن في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة. وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات.
ولما وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله {هَلْ أَتَاك} عرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه. ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب.
وتقدم القول في نظير {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ} عند قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} في سورة ص:[21] وأنه يفتتح به الأخبار الفخمة المهمة.
والضيف: اسم يقال للواحد وللجمع لأن أصله مصدر ضاف، إذا مال فأطلق على الذي يميل إلى بيت أحد لينزل عنده. ثم صار اسما فإذا لوحظ أصله أطلق على الواحد وغيره ولم يؤنثوه ولا يجمعونه وإذا لوحظ الاسم جمعوه للجماعة وأنثوه للأنثى فقالوا أضياف وضيوف وامرأة ضيفة وهو هنا اسم جمع ولذلك وصف ب {الْمُكْرَمِينَ} ، وتقدم في سورة الحجر[68] {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} .
والمعني به الملائكة الذي أظهرهم الله لإبراهيم عليه السلام فأخبروه بأنهم مرسلون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط وسماهم الله ضيفا نظرا لصورة مجيئهم في هيئة الضيف كما سمي الملكين الذين جاءا داود خصما في قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ:21]، وذلك من الاستعارة الصورية.
وفي سفر التكوين من التوراة: أنهم كانوا ثلاثة. وعن ابن عباس: أنهم جبريل
(27/23)
وميكائيل وإسرافيل. وعن عطاء: جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر.
ولعل سبب إرسال ثلاثة ليقع تشكلهم في شكل الرجال لما تعارفه الناس في أسفارهم أن لا يقل ركب المسافرين عن ثلاثة رفاق. وذلك أصل جريان المخاطبة بصيغة المثنى في نحو قفا نبك. وفي الحديث "الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب". رواه الحاكم في المستدرك وذكر أن سنده صحيح.
وقد يكون سبب إرسالهم ثلاثة أن عذاب قوم لو كان بأصناف مختلفة لكل صنف منها ملكه الموكل به.
ووصفهم بالمكرمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سن القرى، والمقصود: أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند الله تعالى كما قال {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء :ء 26] وقال {كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:11].
وظرف {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} يتعلق ب {حديث} لما فيه من معنى الفعل، أي خبرهم حين دخلوا عليه.
وقولهً {قَالَ سَلامٌا قَالَ سَلامٌ} تقدم نظيره في سورة هود. وقرأ الجمهور {قَالَ سَلامٌ} وقرأه حمزة والكسائي {قال سلم} بكسر السين وسكون اللام.
وقوله: {قوْمٌ مُنْكَرُونَ} من كلام إبراهيم. والظاهر أنه قاله خفتا إذ ليس من الإكرام أن يجاهر الزائر بذلك، فالتقدير: هم قوم منكرون.
والمنكر: الذي ينكره غيره، أي لا يعرفه. وأطلق هنا على من ينكر حاله ويظن أنه حال غير معتاد، أي يخشى أنه مضمر سوء، كما قال في سورة هود[70 ] {فلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ومنه قول الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أي كرهت ذاني.
وقصة ضيف إبراهيم تقدمت في سورة هود.
و {راغ} مال في المشي إلى جانب، ومنه: روغان الثعلب. والمعنى: أن إبراهيم حاد عن المكان الذي نزل فيه الضيوف إلى أهله، أي إلى بيته الذي فيه أهله.
وفي التوراة: أنه كان جالسا أمام باب خيمته تحت وأنه أنزل الضيوف تحت
(27/24)
شجرة وأنه أنزل الضيوف تحت الشجرة. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن الروغان ميل في المشي عن الاستواء إلى الجانب مع إخفاء إرادته ذلك وتبعه على هذا التقييد الراغب والزمخشري وابن عطية فانتزع منه الزمخشري أن إخفاء إبراهيم ميله إلى أهله من حسن الضيافة كيلا يوهم الضيف أنه يريد ان يحضر لهم شيئا فلعل الضيف أن يكفه عن ذلك ويعذره وهذا منزع لطيف.
وكان منزل إبراهيم الذي جرت عنده هذه القصة بموضع يسمى بلوطات ممرا من أرض جبرون.
ووصف العجل هنا ب {سمين} ، ووصف في سورة هود بحنيذ، أي مشوي فهو عجل سمين شواه وقربه إليهم، وكان الشوا أسرع طبخ أهل البادية وقام امرؤ القيس يذكر الصيد:
فظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
فقيد قدير ب "معجل" ولم يقيد صفيف شواء لأنه معلوم.
ومعنى {قربه} وضعه قريبا منهم، أي لم ينقلهم من مجلسهم إلى موضع آخر بل جعل الطعام بين أيديهم. وهذا من تمام الإكرام للضيف بخلاف ما يطعمه العافي والسائل فإنه يدعى الى مكان الطعام كما قال الفرزدق:
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الأنس الطعاما
ومجيء الفاء لعطف أفعال {فَرَاغَ} {فَجَاءَ} ، {فَقَرَّبَهُ} للدلالة على أن هذه الأفعال وقعت في سرعة، والإسراع بالقرى من تمام الكرم، وقد قيل: خير البر عاجله.
وجملة {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} بدل اشتمال من جملة {قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} .
و {أَلا} كلمة واحدة، وهي حرف عرض، أي رغبة في حصول الفعل الذي تدخل عليه. وهي هنا متعينة للعرض لوقوع فعل القول بدلا من فعل {قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ، ولا يحسن جعلها كلمتين من همزة استفهام للإنكار مع "لا" النافية.
والعرض على الضيف عقب وضع الطعام بين يديه زيادة في الإكرام بإظهار الحرص على ما ينفع الضيف وإن كان وضع الطعام بين يديه كافيا في تمكينه منه. وقد اعتبر ذلك إذنا عند الفقهاء في الدعوة الى الولائم بخلاف مجرد وجود مائدة طعام أو سفرة، إذ يجوز أن تكون قد أعدت لغير المدعو.
(27/25)
والفاء في {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة، كقوله {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، وقد صرح بذلك في سورة هود {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي إلى العجل {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
و {أَوْجَسَ} أحس في نفسه ولم يظهر، وتقدم نظيره في سورة هود. وقولهم له {لا تَخَفْ} لأنهم علموا ما في نفسه مما ظهر على ملامحه من الخوف، وتقدم نظيره في سورة هود.
والغلام الذي بشروه به هو إسحاق لأنه هو ابن سارة، وهو الذي وقعت البشارة به في هذه القصة في التوراة، ووصف هنا ب {عَلِيمٌ} وأما الذي ذكرت البشارة به في سورة الصافات فهو إسماعيل ووصف ب {حَلِيمٌ} ولذلك فامرأة إبراهيم الحادث عنها هنا هي سارة، وهي التي ولدت بعد أن أيست، أما هاجر فقد كانت فتاة ولدت في مقتبل عمرها. وأقبلت امرأته حين سمعت البشارة لها بغلام، أي أقبلت على مجلس إبراهيم مع ضيفه، قال تعالى في سورة هود[71] {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} .
وكان النساء يحضرن مجالس الرجال في بيوتهن مع أزواجهن ويواكلنهم. وفي الموطأ قال مالك: لا باس أن تحضر المرأة مع زوجها وضيفه وتأكل معهم.
والصرة: الصياح، ومنه اشتق الصرير. و {فِي} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
والصك: اللطم، وصك الوجه عند التعجب عادة النساء أيامئذ. ونظيره وضع اليد على الفم في قوله تعالى ِ {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9].
وقولها {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} خبر محذوف، أي أنا عجوز عقيم.
والعجوز: فعول بمعنى فاعل وهو يستوي في المذكر والمؤنث مشتق من العجز ويطلق على كبر السن لملازمة العجز له غالبا.
والعقيم: فعيل بمعنى مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوف مؤنث، مشتق من عقمها الله، إذا خلقها لا تحمل بجنين، وكانت سارة لم تحمل قط.
وقول الملائكة {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} الإشارة إلى الحادث وهو التبشير بغلام.والكاف
(27/26)
للتشبيه، أي مثل قولنا: قال ربك فنحن بلغنا ما أمرنا بتبليغه.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تعليل لجملة {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} المتقضية أن الملائكة ما أخبروا إبراهيم إلا تبليغا من الله وأن الله صادق وعده وأنه لا موقع لتعجب امرأة إبراهيم لأن الله حكيم يدبر تكوين ما يريده، وعليم لا يخفى عليه حالها من العجز والعقم.
وهذه المحاورة بين الملائكة وسارة امرأة إبراهيم وقع مثلها بينهم وبين إبراهيم كما قص في سورة الحجر، فحكي هنا ما دار بينهم وبين سارة، وحكي هناك ما دار بينهم وبين إبراهيم والمقام واحد، والحالة واحدة كما بين في سورة هود[72] {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
[31، 34] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُون [31] قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [32] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [33] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [34].
علم إبراهيم من محاورتهم فيما ذكر في هذه الآية وما ورد ذكره في آيات أخرى أنهم ملائكة مرسلون من عند الله فسألهم عن الشأن الذي أرسلوا لأجله. وإنما سألهم بعد أن قراهم جريا على سنة الضيافة أن لا يسأل الضيف عن الغرض الذي أورده ذلك المنزل إلا بعد استعداده للرحيل كيلا يتوهم سآمة مضيفه من نزوله به، وليعينه على أمره إن كان مستطيعا، وهم وإن كانوا قد بشروه بأمر عظيم إلا أنه لم يعلم هل ذلك هو قصارى ما جاءوا لأجله.؟
وحكي فعل القول بدون عاطف لأنه في مقاولة محاورة بينه وبين ضيفه.
والفاء فيما حكي من كلام إبراهيم فصيحة مؤذنة بكلام محذوف ناشىء عن المحاورة الواقعة بينه وبين ضيفه وهو من عطف كلام على كلام متكلم آخر ويقع كثيرا في العطف بالواو نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124 ] بعد قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] وقوله حكاية على نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112]. فإبراهيم خاطب الملائكة بلغته ما يؤدي مثل بفصيح الكلام العربي بعبارة {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} وتقدير المحذوف: إذ كنتم مرسلين من جانب الله تعالى فما خطبكم الذي أرسلتم من أجله.
وقد علم إبراهيم أن نزول الملائكة بتلك الصورة لا تكون بمجرد بشارته بابن يولد له ولزوجه إذ كانت البشارة تحصل له
(27/27)
بالوحي، فكان من علم النبوءة أن إرسال الملائكة إلى الأرض بتلك الصورة لا يكون إلا لخطب قال تعالى و {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8 ].
والخطب: الحدث العظيم والشأن المهم، وإضافته إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
والمعنى: ما الخطب الذي أرسلتم لأجله إذ لا تنزل الملائكة إلا بالحق. وخاطبهم بقوله {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} لأنه لا يعرف ما يسميهم به إلا وصف أنهم المرسلون، والمرسلون من صفات الملائكة كما في قوله تعالى {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفا} [المرسلات:1] عن أحد تفسيرين.
والمراد بالقوم المجرمين أهل سدوم وعمورية، وهم قوم لوط، وقد تقدمت قصتهم في سورة الأعراف وسورة هود.
والإرسال الذي في قوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} مستعمل في الرمي مجازا كما يقال: أرسل سهمه على الصيد، وهذا الإرسال يكون بعد أن أصعدوا الحجارة إلى الجو وأرسلتها عليهم، ولذلك سميت مطرا في بعض الآيات.
وحصل بين {أَرْسَلْنَا} وبين {لِنُرْسِلَ} جناس لاختلاف معنى اللفظين.
والحجارة: اسم جمع للحجر، ومعنى كون الحجارة من طين: أن أصلها طين تحجر بصهر النار، وهي حجارة بركانية من كبريت قذفتها الأرض من الجهة التي صارت بحيرة تدعى اليوم بحيرة لوط وأصعدها ناموس إلهي بضغط جعله الله يرفع الخارج من البركان إلى الجو فنزلت على قرى قوم لوط فأهلكتهم، وذلك بأمر التكوين بواسطة القوى الملكية.
والمسومة: التي عليها المسومة أي العلامة، أي عليها علامات من ألوان تدل على أنها ليست من الحجارة المتعارفة.
ومعنى {عِنْدَ رَبِّكَ} أن علاماتها بخلق الله وتكوينه.
والمسرفون: المفرطون في العصيان، وذلك بكفرهم وشيوع الفاحشة فيهم، فالمسرفون: القوم المجرمون، عدل عن ضميرهم إلى الوصف الظاهر، لتسجيل إفراطهم في الإجرام.
[35-37 ]{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [35] فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [36] وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [37].
(27/28)
هذه الجملة ليست من حكاية كلام الملائكة بل هي تذييل لقصة محاورة الملائكة مع إبراهيم، والفاء في {فَأَخْرَجْنَا} فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر هو ما ذكر في سورة هود من مجيء الملائكة إلى لوط وما حدث بينه وبين قومه، فالتقدير: فحلوا بقرية لوط فأمرناهم بإخراج من كان فيها من المؤمنين فأخرجوهم. وضمير أخرجنا ضمير عظمة الجلالة.
وإسناد الإخراج إلى الله لأنه أمر به الملائكة أن يبلغوه لوطا، ولأن الله يسر إخراج المؤمنين ونجاتهم إذ أخر نزول الحجارة إلى أن خرج المؤمنون وهم لوط وأهله إلا امرأته.
وعبر عنهم ب {الْمُؤْمِنِينَ} للإشارة إلى أن إيمانهم هو سبب نجاتهم، أي إيمانهم بلوط. والتعبير عنه ب {الْمُسْلِمِينَ} لأنهم آل نبي وإيمان الأنبياء إسلام قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وضمير {فيها} عائد إلى القرية ولم يتقدم لها ذكر لكونها معلومة من آيات أخرى كقوله {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40].
وتفريع {فَمَا وَجَدْنَا} تفريع خبر على خبر، وفعل {وَجَدْنَا} معنى علمنا لأن"وجد" من أخوات "ظن" فمفعوله الأول قوله {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} و"من" مزيدة لتأكيد النفي وقوله {فيها} في محل المفعول الثاني.
وإنما قال {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} دون أن يقول: فأخرجنا لوطا وأهل بيته قصدا للتنويه بشأن الإيمان والإسلام، أي أن الله نجاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف {الْمُؤْمِنِينَ} في تلك القرية، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين.
والمؤمن: هو المصدق بما يجب التصديق به.والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما.
والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد إلى زوجها وتضمر الكفر وممالأة
(27/29)
أهل القرية على فسادهم، قال تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] الآية، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام معا.
والوجدان في قوله {فَمَا وَجَدْنَا} مراد به تعلق علم الله بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي، ووجدان الشيء: إدراكه وتحصيله.
ومعنى {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} أن القرية بقيت خرابا لم تعمر، فكان ما فيها من آثار الخراب آية للذين يخافون عذاب الله، قال تعالى في سورة في سورة الحجر [76 ]{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . أو يعود الضمير إلى ما يؤخذ من مجموع قوله {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات:32] على تأويل الكلام بالقصة، أي تركنا في قصتهم.
والترك حقيقته: مفارقة شخص شيئا حصل معه في مكان ففارق ذلك المكان وأبقى منه ما كان معه، كقول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه
ويطلق على التسبب في إيجاد حالة تطول، كقول النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
بتشبيه إبقاء تلك الحالة فيه بالشيء المتروك في مكان. ووجه الشبه عدم التغير.
والترك في الآية: كناية عن إبقاء الشيء في موضع دون مفارقة التارك، أو هو مجاز مرسل في ذلك فيكون نظير ما في بيت النابغة.
و {لَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ} : هم المؤمنون بالبعث والجزاء من أهل الإسلام وأهل الكتاب دون المشركين فإنهم لما لم ينتفعوا بدلالة مواقع الاستئصال على أسباب ذلك الاستئصال نزلت دلالة آيته بالنسبة إليهم منزلة ما ليس بآية كما قال تعالى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45].
والمعنى: أن الذين يخافون اتعظوا بآية قوم لوط فاجتنبوا مثل أسباب هلاكهم، وأن الذين أشركوا لا يتعظون فيوشك أن ينزل عليهم عذاب أليم.
[38، 40] {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [38] فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ
(27/30)
أَوْ مَجْنُون [39] فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [40].
قوله {وَفِي مُوسَى} عطف على قوله {فِيهَا آيَةً} [الذرايات: 73].
والتقدير: وتركنا في موسى آية، فهذا العطف من عطف جملة على جملة لتقدير فعل: تركنا، بعد واو العطف، والكلم على حذف مضاف أي في قصة موسى حين أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى الخ، فيكون الترك المقدر في حرف العطف مرادا به جعل الدلالة باقية فكأنها متروكة في الموضع لا تنقل منه كما تقدم آنفا في بيت عنترة.
وأعقب قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لشهرة أمر موسى وشريعته، فالترك المقدر مستعمل في مجازيه المرسل والاستعارة. وفي الواو استخدام مثل استخدام الضمير في قول معاوية بن مالك الملقب معود الحكماء لقبوه به لقوله في ذكر قصيدته :
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما ألحق في الحدثان نابا
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمعنى: أن قصة موسى آية دائمة. وعقبت قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لما بينهما من تناسب في أن العذاب الذي عذب به الأمتان عذاب أرضي إذ عذب قوم لوط بالحجارة التي هي من طين، وعذب قوم فرعون بالغرق في البحر. ثم ذكر عاد وثمود وكان عذابهما سماويا إذ عذبت عاد بالريح وثمود بالصاعقة.
والسلطان المبين: الحجة الواضحة وهي المعجزات التي أظهرها لفرعون من انقلاب العصا حية، وما تلاها من الآيات الثمان.
والتولي حقيقته: الانصراف عن المكان. والركن حقيقته: ما يعتمد عليه من بناء ونحوه، ويسمى الجسد ركنا لأنه عماد عمل الإنسان.
وقوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} تمثيل لهيئة رفضه دعوة موسى بهيئة المنصرف عن شخص وبإيراد قوله {بِرُكْنِهِ} تم التمثيل ولولاه لكان قوله :{تَوَلَّى} مجرد استعارة.
والباء للملابسة، أي ملابسا ركنه كما في قوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83].
والمليم: الذي يجعل غيره لائما عليه، أي وهو مذنب ذنبا يلومه الله عليه،أي
(27/31)
أي يؤاخذه به. والمعنى: أنه مستوجب العقاب كما قال {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [ابراهيم: 22].
والمعنى أن قصة موسى وفرعون آية للذين يخافون العذاب الأليم فيجتنبون مثل أسباب ما حل بفرعون وقومه من العذاب وهي الأسباب التي ظهرت في مكابرة فرعون عن تصديق الرسول الذي أرسل إليه، وأن الذين لا يخافون العذاب لا يؤمنون بالبعث والجزاء لا يتعظون بذلك لأنهم لا يصدقون بالنواميس الإلهية ولا يتدبرون في دعوة أهل الحق فهم لا يزالون معرضين ساخرين عن دعوة رسولهم متكبرين عليه، مكابرين في دلائل صدقه، فيوشك أن يحل بهم من مثل ما حل بفرعون وقومه، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل، وقد كان المسلمون يقولون: إن أب جهل فرعون هذه الأمة.
[41] [42] {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ [41]مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [42]} .
نظم هذه الآية مثل نظم قوله {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ} [الذاريات:38] انتقل إلى العبرة بأمة من الأمم العربية وهم عاد وهم أشهر العرب البائدة.
و {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} هي: الخلية من المنافع التي ترجى لها الرياح من إثارة السحاب وسوقه، ومن إلقاح الأشجار بنقل غبرة الذكر من ثمار إلى الإناث من أشجارها، أي الريح التي لا نفع فيها، أي هي ضارة. وهذا الوصف لما كان مشتقا مما هو من خصائص الإناث كان مستغنيا عن لحاق هاء التأنيث لأنها يؤتى بها للفرق بين الصنفين والعرب يكرهون العقم في مواشيهم، أي ريح كالناقة العقيم لا تثمر نسلا ولا درا، فوصف الريح بالعقيم تشبيه بليغ في الشؤم، قال تعالى {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
وجملة {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} صفة ثانية، أوحال، فهو ارتقاء في مضرة هذا الريح فإنه لا ينفع وأنه يضر أضرارا عظيمة.
وصيغ {تَذَرُ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة. و ِ {شَيْءٍ} البقرة: من ال في معنى المفعول ل {تَذَر} فإن "من" لتأكيد النفي والنكرة المجرورة ب"من" هذه نصف في نفي الجنس ولذلك كانت عامة، إلا أن هذا العموم مخصص بدليل العقل لأن الريح إنما تبلي الأشياء التي تمر عليها إذا كان شأنها أن يتطرق إليها البلى، فإن الريح لا تبلي الجبال ولا البحار ولا الأودية وهي تمر عليها وإنما تبلي الديار والأشجار والناس والبهائم، ومثله
(27/32)
قوله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25].
وجملة {جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} في موضع الحال من ضمير {الرِّيحُ} مستثناة من عموم
أحوال {شَيْءٍ} يبين المعرف، أي ما تذر من شيء أتت عليه في حال من أحوال تدميرها إلا في حال قد جعلته كالرميم.
والرميم: العظم الذي بلي. يقال: رم العظم، إذا بلى، أي جعلته مفتتا.
والمعنى: وفي عاد آية للذين يخافون العذاب الأليم إذ أرسل الله عليهم الريح.
والمراد: أن الآية كائنة في أسباب إرسال الريح عليهم وهي أسباب تكذيبهم هودا وإشراكهم بالله وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فيحذر من مثل ما حل بهم أهل الإيمان. وأما الذين لا يخافون العذاب الأليم من أهل الشرك فهم مصرون على كفرهم كما أصرت عاد فيوشك أن يحل بهم من جنس ما حل بعاد.
[43-45] {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ [43] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [44] فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [45]} .
أتبعت قصة عاد بقصة ثمود لتقارنهما غالبا في القرآن من أجل أن ثمود عاصرت عادا وخلفتها في عظمة الأمم، قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [لأعراف: 74] ولاشتهارهما بين العرب.
و {فِي ثَمُودَ} عطف على {وَفِي عَادٍ} أو على {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} .
والمعنى: وتركنا آية للمؤمنين في ثمود في حال قد أخذتهم الصاعقة، أي في دلالة أخذ الصاعقة إياهم، على أن سببه هو إشراكهم وتكذيبهم وعتوهم عن أمر ربهم، فالمؤمنون اعتبروا بتلك فسلكوا مسلكالنجاة من عواقبها، وأما المشركون فإصرارهم على كفرهم سيوقعهم في عذاب من جنس ما وقعت فيه ثمود.
وهذا القول الذي ذكر هنا هو كلام جامع لما أنذرهم به صالح رسولهم وذكرهم يه من نحو قوله {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [لأعراف: 74 ] وقوله {أتتركون فيما هنا آمنين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] وقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ} [هود: 61]. ونحو ذلك مما يدل على أنهم أعطوا ما هو متاع، أي نفع في الدنيا فإن منافع الدنيا
(27/33)
زائلة، فكانت الأقوال التي قالها رسولهم تذكيرا بنعمة الله عليهم يجمعها {تَمَتَّعُوا حَتَّى حين} ، على أنه يجوز أن يكون رسولهم قال لهم هذه الكلمة الجامعة ولم تحك في القرآن إلا في هذا الموضع، فقد عمت من المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير أن أخبار الأمم تأتي موزعة على قصصهم في القرآن.
فقوله: {تَمَتَّعُوا} أمر مستعمل في إباحة المتاع. وقد جعل المتاع بمعنى النعمة في مواضع كثيرة كقوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] قوله: {وإن أدري لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111].
والمراد ب {حِينٍ} زمن مبهم، جعل نهاية لما متعوا به من النعم فإن نعم الدنيا زائلة، وذلك الأجل: إما أن يراد به أجل كل واحد منهم الذي ينتهي إليه حياته، وإما أن يراد به أجل الأمة الذي ينتهي إليه بقاؤها. وهذا نحو قوله {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [هود: 3] فكما قال الله للناس على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لعله قاله لثمود على لسان صالح عليه السلام.
وليس قوله {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} بمشير إلى قوله في الآية الأخرى {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] ونحوه لأن ذلك الأمر مستعمل في الإنذار والتأييس من النجاة بعد ثلاثة أيام فلا يكون لقوله بعده : {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} مناسبة لتعقيبه به بالفاء لأن الذي تفيده الفاء يقتضي أن ما بعدها مرتب في الوجود على ما قبلها.
والعتو: الكبر والشدة. وضمن {عُتُوٍّ} معنى أعرضوا، فعدي ب {عن} ، أي فأعرضوا عما أمرهم الله على لسان رسوله صالح عليه السلام.
وأخذ الصاعقة إياهم إصابتهم إياهم إصابة تشبه أخذ العدو عدوه.
وجملة {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حال من ضمير النصب في {أَخَذَتْهُمُ} أي أخذتهم في حال نظرهم إلى نزولها، لأنهم لما رأوا بوارقها الشديدة علموا أنها غير معتادة فاستشرفوا ينظرون إلى السحاب فنزلت عليهم الصاعقة وهم ينظرون. وذلك هول عظيم زيادة في العذاب فإن النظر إلى النقمة يزيد صاحبها ألما كما أن النظر إلى النعمة يزيد المنعم مسرة، قال تعالى: { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
وقرأ الكسائي {الصعقة} بدون ألف.
(27/34)
وقوله {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} تفريع على {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي فما استطاعوا أن يدفعوا ذلك حين رؤيتهم بوادره. فالقيام مجاز للدفاع كما يقال: هذا أمر لا يقوم له أحد، أي لا يدفعه أحد. وفي الحديث "غضب غضبا لا يقوم له أحد" ، أي فما استطاعوا أي دفاع لذلك.
وقوله {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي لم ينصرهم حتى يكونوا منتصرين لأن انتصر مطاوع نصر، أي ما نصرهم أحد فانتصروا.
[ 46] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
قرأ الجمهور {قَوْمِ} بالنصب بتقدير "اذكر"، أو بفعل محذوف يدل عليه ما ذكر من القصص قبله، تقديره: وأهلكنا قوم نوح، وهذا من عطف الجمل وليس من عطف المفردات.
وقرأ أبو عمروا وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بالجر عطفا على {ثَمُودَ} [ الذريات43 :].
على تقدير:وفي قوم نوح.
ومعنى {مِنْ قَبْلُ} أنهم أهلكوا قبل أولئك فهم أول الأمم المكذبين رسولهم أهلكو.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لما تضمنه قوله :{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} وتقدير كونهم آيه للذين يخافون العذاب: من كونهم عوقبوا وأن عقابهم لأنهم كانوا قوما فاسقين.
وأخر الكلام على قوم نوح لما عرض من تجاذب المناسبات فيما أورد من آيات العذاب للأمم المذكورة آنفا بما علمته سابقا. ولذلك كان قوله: {مِنْ قَبْلُ} تنبيها على وجه مخالفة عادة القرآن في ترتيب حكاية أحوال الأمم على حسب ترتيبهم في الوجود.وقد أومأ قوله: {قَبْلُ} إلى هذا ومثله قوله تعالى {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52]
[47] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} .
لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقبت تهديدهم بما يقوض توهمهم فوجه إليه الخطاب يذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات
(27/35)
ولم تكن شيئا فلا تعد إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلا شيئا يسيرا كما قال تعالى {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قوله {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [51] معترضة بين جملة {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [الذريات: 46] الخ وجملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [الذريات:52] الآية.
وابتدئ بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس، وعطف عليه خلق الأرض عطف الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي. وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظر فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان.
واستعير لخلق السماء فعل البناء لأنه منظر السماء فيما يبدوا للأنظار شبيه بالقبة ونصب القبة يدعى بناء.
وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته، لأن أثره ينبئ عن عظيم كيفيته، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية.
والأيد: القوة. وأصله جمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة، وتقدم عند قوله تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} في سورة ص[17].
والمعنى: بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها.
وتقديم{السَّمَاءِ} على عامله للاهتمام به، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين: مرة بنفسه، ومرة بضميره، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة. وزيد تأكيده بالتذييل بقوله {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} والواو اعتراضية.
والموسع:اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وسع، أي قدرة. وتصاريف جائية من السعة، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد مثل عمومها في {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف: 156] ووفرة المال مثل {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7 ]، وقوله و {َعَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وجاء في أسمائه تعالى الواسع {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية: الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، والحكمة، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 115} ومنه قوله هنا {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} .
(27/36)
وأكد الخبر بحرف "إن" لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بلاها.
[48 ] {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
القول في تقديم {الْأَرْضِ} على عامله وفي مجيء طريقة الاشتغال كالقول في {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} [الذريات: 47]. وكذلك القول في الاستدلال بذلك على إمكان البعث.
من دقائق فخر الدين: أن ذكر الأمم الأربع للإشارة إلى أن الله عذبهم بما هو من أسباب وجودهم، وهو التراب والماء والهواء والنار، وهي عناصر الوجود، فأهلك قوم لوط بالحجارة وهي من طين، وأهلك قوم فرعون بالماء، وأهلك عادا بالريح وهو هواء، وأهلك ثمودا بالنار.
واستغنى هنا عن إعادة {بِأَيْدٍ} [الذريات: 47] لدلالة ما قبله عليه.
والفرش: بسط الثوب ونحوه للجلوس والاضطجاع، وفي {فَرَشْنَاهَا} استعارة تبعية، شبه تكوين الله الأرض على حالة البسط بفرش البساط ونحوه.
وفي هذا الفرش دلالة على قدرة الله وحكمته إذ جعل الأرض مبسوطة لما أراد أن يجعل على سطحها أنواع الحيوان يمشي عليها ويتوسدها ويضطجع عليها ولو لم تكن كذلك لكانت محدودبة تؤلم الماشي بلة المتوسد والمضطجع.
ولما كان في فرشها إرادة جعلها مهدا لمن عليها من الإنسان اتبع {فَرَشْنَاهَا} بتفريع ثناء الله على نفسه على إجادة تمهيدها تذكيرا بعظمته ونعمته، أي فنعم الماهدون نحن.
وصيغة الجمع في قوله: {الْمَاهِدُونَ} للتعظيم مثل ضمير الجمع في [1000] وروعي في وصف خلق الأرض ما يبدو للناس من سطحها لأنه الذي يهم الناس في الاستدلال على قدرة الله وفي الامتنان عليه بما في لطفهم والرفق بهم. دون تعرض إلى تكويرها إذ لا يبلغون إلى إدراكه، كما روعي في ذكر السماء ما يبدو من قبة أجواءها دون بحث عن ترامي أطرافها وتعدد عوالمها لمثل ذلك. ولذلك اتبع الاعتراض بالتذييل بقوله : {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} المراد منه تلقين الناس الثناء على الله فيما صنع لهم فيها من منة
ـــــــ
1 كلمة غير واضحة في المطبوعة.
(27/37)
ليشكروه بذلك الثناء كما في قوله :{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
[ 49] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
لما أشعر قوله: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذريات:48] بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض اتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم بتفرده بالإلهية فقال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} والزوج: الذكر والأنثى. والمراد بالشيء: النوع من جنس الحيوان. وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يزوج من ذكر وأنثى.
وهذا الاستدلال عليه بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم، وقدحوا أفكارهم، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإنشاء الخلق بعد الفناء. وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرب بما هو واضح من أحوال أمثالها.
ولذلك أتبعه بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات، وتتفكرون في مراتب الإمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا غريب محالا.
فالتذكر مستعمل في عادة التفكر للأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوا فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوا فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيها بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وهذا في معنى قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة:60، 62 ] فقد ذيل هنالك بالحث على التذكر، كما ذيل هنا برجاء التذكر، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وهي الدالة على النشأة الآخرة.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تعليل لجملة {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم، أي دلالة مغفول عنها. والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52 ].
[ 50، 51 ] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
(27/38)
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
بعد أن بين ضلال هؤلاء في تكذيبهم بالبعث بيانا بالبرهان الساطع، ومثل حالهم بحال الأمم الذين سلفوهم في التكذيب بالرسل وما جاءوا به جميعا بين الموعظة للضالين وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكانت فيما مضى من الاستدلال دلالة على أن الله متفرد بخلق العالم وفي ذلك إبطال إشراكهم مع الله آلهة أخرى أقبل على تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يستخلصه لهم عقب بأن يدعوهم إلى الرجوع إلى الحق بقوله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فالجملة المفرعة بالفاء مقول قول محذوف والتقدير: فقل فروا، دل عليه قوله : {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} فإنه كلام لا يصدر إلا من قائل ولا يستقيم أن يكون كلام مبلغ. وحذف قول كثير الورود في القرآن وهو من ضرب إيجازه، فالفاء من الكلام الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفادها التفريع على ما تقرر مما تقدم. وليست مفرعة فعل الأمر المحذوف لأن المفرع بالفاء هو ما يذكر بعدها.
وقد غير أسلوب النوع إلى توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم هذه الموعظة لأن لتعدد الواعظين تأثير على نفوس المخاطبين بالموعظة.
والأنسب بالسياق إن الفرار إلى الله مستعار للإقلاع عن ما هم فيه من الإشراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفر منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدو فاستعمل المركب وهو {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} في هذا التمثيل.
فالمواجه ب {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} المشركون لأن المؤمنين قد فروا إلى الله من الشرك.
والفرار: الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنبا لأذى يلحقه فيه فيعدى ب {من} الابتدائية للمكان الذي به الأذى يقال: فر من بلد الوباء ومن الموت، والشيء الذي يؤذي، يقال: فر من الأسد وفر من العدو.
وجملة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} تعليل للأمر ب {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} باعتبار أن الغاية من الإنذار قصد السلامة من العقاب فصار الإنذار بهذا الاعتبار تعليلا للأمر بالفرار إلى الله، أي التوجه إليه وحده.
وقوله: ْ {مِنْهُ} صفة ل ٍ {نذير} قدمت على الموصوف فصارت حالا.
وحرفَ {مِنْ} للابتداء المجازي، المأمور له بأن أبلغكم.
(27/39)
وعطف {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً} على {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} نهي عن نسبة الإلهية إلى أحد غير الله. فجمع بين الأمر والنهي مبالغة في التأكيد بنفي الضد لإثبات ضده كقوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79].
ومن لطائف فخر الدين أن قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ} جمع الرسول والمرسل إليهم والمرسل.
[52 ]{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} .
كلمة {كَذَلِكَ} فصل خطاب تدل على إنهاء حديث والشروع في غيره، أو الرجوع إلى حديث قبله أتى عليه الحديث الأخير. والتقدير: الأمر كذلك والإشارة إلى ما مضى من الحديث، ثم يورد بعده حديث آخر والسامع يرد كلا إلى ما يناسبه، فيكون ما بعد اسم الإشارة متصلا بأخبار المم التي تقدم ذكرها من قوم لوط ومن عطف عليهم.
أعقب تهديد المشركين بأن يحل بهم ما حل بأمم المكذبين برسل الله من قبلهم بتنظيرهم بهم في مقالهم، وقد تقدم ورود {كَذَلِكَ} فصلا للخطاب عند قوله تعالى {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف،[19] فقوله: {كَذَلِكَ} فصل وجملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
ولك أن تجعل قوله {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلخ آخره مبدأ استئناف أو عودا إلى الإنحاء على المشركين في قوله المختلف بأنواع التكذيب في التوحيد والبعث وما يتفرع على ذلك.
واسم الإشارة راجع إلى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذريات:8] الآية كما علمت هنالك، أي مثل قولهم المختلف قال الذين من قبلهم لما جاءتهم الرسل فيكون قوله: {كَذَلِكَ} في محل حال وصاحب الحال {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
وعلى كلا الوجهين فالمعنى: أن حال هؤلاء كحال الذين سبقوهم ممن كانوا مشركين أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، أو مجنون فكذلك سيجيب هؤلاء عن قولك: فروا إلى الله {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} بمثل جواب قبلهم فلا مطمع في ارعوائهم عن عنادهم.
والمراد ب {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الأمم المذكورة في الآيات السابقة وغيرهم، وضمير
(27/40)
{قَبْلِهِمْ} عائد إلى مشركي العرب الحاضرين.
وزيادة {مِنْ} في قوله: {مِنْ رَسُولٍ} للتنصيص على إرادة العموم، أي أن كل رسول قال فيه فريق من قومه: هو ساحر، أو مجنون، أي قال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون، مثل قوم نوح دون السحر إذ لم يكن السحر معروفا في زمانهم قالوا {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25] وقد يجمعون القولين مثل قول فرعون في موسى.
وهذا العموم يفيد أنه لم يخل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أحد القولين، وما حكي ذلك عن بعضهم في آيات أخرى بلفظه أو بمرادفه كقول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54].
وأول الرسل هو نوح كما هو صريح الحديث الصحيح في الشفاعة. فلا يرد أن آدم لم يكذبه أهله، وأن أنبياء بني إسرائيل يوشع، وأشعيا لم يكذبهم قومهم، لأن الله قال [ مِنْ رَسُولٍ] والرسول أخص من النبي.
والاستثناء في {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} استثناء من أحوال محذوفة.
والمعنى: ما أتى الذين من قبلهم من رسول في حال من أحوال أقوالهم إلا في حال قولهم ساحر أو مجنون.
والقصر المستفاد من الاستثناء قصر ادعائي لأن للأمم أقوالا غير ذلك وأحوالا أخرى، وإنما قصروا على هذا اهتماما بذكر هذه الحالة العجيبة من البهتان، إذ يرمون أعقل الناس بالجنون وأقومهم بالسحر.
وإسناد القول إلى ضمير الذين من قبل مشركي العرب الحاضرين إسناد باعتبار أنه قول أكثرهم فإن الأمور التي تنسب إلى الأقوام والقبائل تجري على اعتبار الغالب.
[ 53] {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
الاستفهام مستعمل في التعجب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ، أي كأنهم أوصى بعضهم بعضا بأن يقولوه. فالاستفهام هنا كناية عن لازمه وهو التعجب لأن شأن الأمر العجيب أن يسأل عنه.
والجملة استئناف بياني لأن تماثل هؤلاء الأمم في مقالة التكذيب يثير سؤال سائل
(27/41)
عن منشأ هذا التشابه.
وضمير {تواصوا} عائد إلى ما سبق من الموصول ومن الضمير الذي أضيف إليه قبلهم، أي أوصى بعضهم بعضا حتى بلغت الوصية إلى القوم الحاضرين.
وضمير {بِهِ} عائد على المصدر المأخوذ من فعل ٍ {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، أي أتواصوا بهذا القول.
وفعل الوصية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء كقوله تعالى :{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
و {بَلْ} إضراب عن مفاد الاستفهام من التشبيه أو عن التواصي به، ببيان سبب التواطؤ على هذا القول فإنه إذا ظهر السبب بطل العجب. أي ما هو بتواص ولكنه تماثل في منشأ ذلك القول، أي سبب تماثل المقالة تماثل التفكير والدواعي للمقالة، إذ جميعهم قوم طاغون، وإن طغيانهم وكبرياءهم يصدهم عن اتباع رسول يحسبون أنفسهم أعظم منه، وإذ لا يجدون وصمة يصمونه به اختلقوا لتنقيصه عللا لا تدخل تحت الضغط وهي ادعاء أنه مجنون أو أنه ساحر، فاستووا في ذلك بعلة استواءهم في أسبابه ومعانيه.
فضمير {هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {أَتَوَاصَوْا} .
وفي إقحام كلمة {قَوْمِ} إيذان بأن الطغيان راسخ في نفوسهم بحيث يكون من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة[164].
[54, 55] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [54] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
تفريع على قوله {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} إلى قوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} لمشعر بأنهم بعداء عن أن تقنعهم الآيات والنذر فتول عنهم، أي اعرض عن الإلحاح في جدالهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتم من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفينة بعد الفينة كما قال :{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
(27/42)
يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، فالتولي مراد به هذا المعنى، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجدالهم غير مرة قال تعالى : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْف َيُبْصِرُونَ} في سورة الصافات.[ 174-175].
وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون: لا نلومك، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي. وجيء بضمير المخاطب مسندا إليه فقال :{فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} دون أن يقول: فلا ملام عليك، أو نحوه للاهتمام للتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه.
وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوما.
وعطف {وَذَكِّرْ} على {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} احتراس كي لا يتوهم أحد أن الإعراض إبطال للتذكير بل التذكير باق فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الناس بعد أمثال هذه الآيات فآمن بعض من لم يكن آمن من قبل، وليكون الاستمرار على التذكير زيادة في إقامة الحجة على المعرضين، ولئلا يزدادوا طغيانا فيقولوا: ها نحن أولاء قد أفحمناه فكف عما يقوله.
والأمر في {وَذَكِّرْ} :مراد به الدوام على التذكير وتجديده.
واقتصر في تعليل الأمر بالتذكير على علة واحدة وهي انتفاع المؤمنين بالتذكير لأن فائدة ذلك محققة، ولإظهار العناية بالمؤمنين في المقام الذي أظهرت فيه لقلة الاكتراث بالكافرين قال تعالى {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 9-11].
ولذلك فوصف المؤمنين يراد به المتصفون بالإيمان في الحال كما هو شأن اسم الفاعل، وأما من سيؤمن فعلته مطوية كما علمت آنفا.
والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه. ولظهور حجة المؤمنين على الكافرين يوما فيوما ويتكرر عجز المشركين عن المعارضة ووفرة الكلام المعجز.
[56، 57] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . الأظهر أن هذا معطوف على جملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} .
(27/43)
[الذاريات: 52] الآية التي هي ناشئة عن قوله {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} إلى {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر} [الذاريات:50، 51] عطف الغرض على الغرض لوجود المناسبة.
فبعد أن نظر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغرز فيهم.
فقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعا لتضليل المضلين.
والجن: جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [ الكهف:50].
والإنس: اسم جمع واحدة إنسي بياء النسبة إلى جمعه.
والمقصود في هذا الإخبار هو الإنس وإنما ذكر الجن إدماجا وستعرف وجه ذلك.
والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ.
واللام في {لِيَعْبُدُونِ} لام العلة، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. والتقدير: لإرادتي أن يعبدون، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
وهذا التقدير يلاحظ في كل لام ترد في القرآن تعليلا لفعل الله تعالى، أي ما أرضى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإلهية.
فمعنى الإرادة هنا: الرضى والمحبة، وليس معناها الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم، التي اشتق منه اسمه تعالى "المريد" لأن إطلاق الإرادة على ذلك إطلاق آخر، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة، أو عن قدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإرادة الله منهم بمعنى الإرادة الصفة، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسباب تمكنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع.
(27/44)
وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله: {لِيَعْبُدُونِ} من جعل عموم الجن والإنس مخصوصا بالمؤمنين منهم، أو تقدير محذوف في الكلام، أي إلا لآمرهم بعبادتي، أو حمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلوا منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرها ابن عطية.
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيرا من الإنس غير عابدين بدليل المشاهدة، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين.
ونقول: أن الله خلق مخلوقات كثيرا وجعل فيها نظاما ونواميس فاندفع كل مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته، فقد تعود بعض المخلوقات على بعض بنقص ما هيء هو له ويعود بعضها على غيره بنقص ما يسعى إليه، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقصت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها، فكثيرا ما تسفر عن خلاف ما أعد له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي.
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة، وكلمات أيمة اللغة فيه خفيه والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضر ملكا ذاتيا مستمرا، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
فالحصر المستفاد من قوله :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قصر علة خلق الله الإنس والجن على إرادته أن يعبدوه، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول {يَعْبُدُونَ} أي إلا ليعبدوني وحدي، أي لا ليشركوا غيري في العبادة، فهو رد للإشراك، وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى من خلق الخلائق، لكنا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه، لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا يحيط بها، وذكر بعضها كما هنا مما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى، ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود:[118، 911] بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم 21].
(27/45)
ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يقشع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم ما كذبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحدا نبذه، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فهذا معنى تقتضيه عبادة الله بدلالة الالتزام، وذلك هو ما سمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السنة في نحو قوله أن تعبد الله كأنك تراه ؛ وليس يليق أن يكون مرادا في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علة لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإسلام، واحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإن لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيرا وأصبح متعارفا بين الأمة من عهد ظهور الإسلام.
وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني لذلك الصلاح، فلا جرم أن الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره. وتلك حكمة إنشائه، فاستتبع قوله {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي فعبادة الإنسان ربه لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من خلقه وعلة لحصوله عادة.
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بمعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم. وتبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع نت كتاب المقاصد من كتابة أنواع التعريف الموافقات وفي محمل الآية عليه نظر قد علمته فحققه.
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى. وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن فقال قائلهم {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} [الجن:4].
وتقديم الجن في الذكر في قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن، ليعلموا أن الجن عباد الله تعالى، فهو نظير قوله :{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنَُ لَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وجملة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} تقرير لمعنى {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئا يصنعونه أو يتخذونه، فإنه المعروف في المعرف أن من يتخذ شيئا إنما يتخذه لنفسه، وليست الجملة لإفادة
(27/46)
الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج لذكر الضد. ولا يحسن ذكر الضد ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ.
فقوله :{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منه سدنة الأصنام.
والرزق هنا: المال كقوله تعالى :{ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7],
ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى :{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] ويمنع من إرادته هنا عطف {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
[ 58] {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} .
تعليل لجملتي {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] و {الرزقُ} هنا بمعنى ما يهم المال والإطعام.
والرزاق: الكثير الإرزاق، والقوة: القدرة.
وذو القوة: صاحب القدرة. ومن خصائص {ذُو} أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص.
والمتين: الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشديد القوة، وقد عد {الْمَتين} في أسمائه تعالى. قال العزالي: وذلك يرجع إلى معاني القدرة. وفي معارج النور شرح الأسماء المتين: كما في قوته بحيث لا يعارض ولا يداني.
فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقا فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وإظهار اسم الجلالة في {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} إخراج للكلام على خلاف مقتضى
(27/47)
الظاهر لأن مقتضاه: إني أنا الرزاق، فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال:
وحذفت ياء المتكلم من {يَعْبُدُونَ} و {يُطْعِمُونِ} للتخفيف، ونظائره كثيرةفي القرآن.
وفي قوله :{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي: لا رزاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله، وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها.
فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها: الإرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، وقال {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
[ 59] {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} .
تفريع على جملة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] باعتبار أن المقصود من سياقه إبطال عبادتهم غير الله، أي فإذا لم يفردني المشركون بالعبادة فإن لهم ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم، وهو يلمح إلى ما تقدم من ذكر ما عوقبت به الأمم السالفة من قوله :{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إلى قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات: 32، 46].
والمعنى: فإذا ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيبا عظيما من العذاب مثل نصيب أولئك.
والذين ظلموا: الذين أشركوا من العرب، والظلم: الشرك بالله.
والذنوب بفتح الذال: الدلو العظيمة يستسقي بها السقاة على القليب كما ورد في حديث الرؤيا ثم أخذها أبو بكر ففزع ذنوبا أو ذنوبين ولا تسمى ذنوبا إلا إذا كانت ملأى.
(27/48)
والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الورد يكونون متصاحبين.
وهذا التمثيل القابل للتوزيع بأن يشبه المشركون بجماعة وردت على الماء، وتشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء، ويشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء.
قال علقمة بن عبدة يمدح الملك الحارث بن أبي شمر ويشفع عنده لأخيه شأس بن عبدة وكان قد وقع في أسره مع بني تميم يوم عين أباغ:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
فلما سمعه الملك قال نعم وأذنبة وأطلق له أخاه شأس بن عبدة ومن معه من أسرى تميم، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أن يسمعه المشركون فهو تعريض، وبهذا الاعتبار أكد الخبر ب "أن" لأنهم كانوا مكذبين بالوعيد، ولذلك فرع على التأكيد قوله: {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعارا بأنه وعد مكذوب فهم في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده.
وعدي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخا لهم وإنذارا بالوعيد. وحذفت ياء المتكلم للتخفيف.
والنهي مستعمل في التهكم إظهارا لغضب الله عليهم.
[60] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} .
فرع على وعيدهم إنذار آخر بالويل، أو إنشاء زجر.
والويل: الشر وسوء الحال، وتقدم في قوله :{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة،[79]، وتنكيره للتعظيم.
والكلام يحتمل الإخبار بحصول ويل، أي عذاب وسوء حال لهم يوم أوعدوا به، ويحتمل إنشاء الزجر والتعجيب من سوء حالهم في يوم أوعدوه.
و"من" للابتداء المجازي، أي سوء حال بترقبهم عذابا آتيا من اليوم الذي أوعدوه.
(27/49)
والذين كفروا: هم الذين ظلموا، عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر لما فيه من تأكيد الاسم السابق تأكيدا بالمرادف، مع ما في صفة الكفر من الإيماء إلى أنهم لم يشكروا نعمة خالقهم.
واليوم الذي أوعدوه هو زمن حلول العذاب فيحتما أنه يراد يوم القيامة ويحتمل حلول العذاب في الدنيا، وأيا ما كان فمضمون هذه الجملة مغاير لمضمون التي قبلها.
وإضافة {يوم} إلى ضميرهم للدلالة على اختصاصه بهم، أي هو معين الجزائف كما أضيف يوم إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103]. واليوم: يصدق بيوم القيامة، ويصدق بيوم بدر الذي استأصل الله فيه شوكتهم.
ولما كان المضاف إليه ضمير الكفار المعينين وهم كفار مكة ترجح أن يكون المراد من هذا اليوم يوما خاصا بهم وإنما هو يوم بدر لأن يوم القيامة لا يختص بهم بل هو عام لكفار الأمم كلهم بخلاف اليوم الذي في قوله في سورة الأنبياء : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} لأن ضمير الخطاب فيه عائدا إلى {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] كلهم.
وفي الآية من اللطائف تمثيل ما سيصيب الذين كفروا بالذنوب، والذنوب يناسب القليب وقد كان مثواهم يوم بدر قليب بدر الذي رميت فيه أشلاء سادتهم وهو اليوم القائل فيه شدلاد بن أوس الليثي المكنى أبا بكر يرثي قتلاهم:
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام
تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لي بعد قومي من سلام
ولعل هذا مما يشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على القليب يوم بدر {قد وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف:44].
وفي قوله :{مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} مع قوله في أول السورة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} رد العجز على الصدر، ففيه إيذان بانتهاء السورة وذلك من براعة المقطع.
(27/50)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
سميت هذه السورة عند السلف سورة الطور دون واو قبل الطور. ففي جامع الطواف من الموطإ حديث مالك عن أم سلمة قالت فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ ب: َالطور وكتاب مسطور ، أي يقرأ بسورة الطور ولم ترد يقرأ بالآية لأن الآية فيها {وَالطُّورِ} بالواو وهي لم تذكر الواو.
وفي باب القراءة في المغرب من الموطأ حديث مالك عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالطور في المغرب .
وفي تفسير سورة الطور من صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال سمعت النبي يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية :{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35،37] كاد قلبي أن يطير. وكان جبير بن مطعم مشركا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ.
وكذلك وقعت تسميتها في ترجمتها من جامع الترمذي وفي المصاحف التي رأيناها، وكثير من التفاسير. وهذا على التسمية بالإضافة، أي سورة ذكر الطور كما يقال: سورة البقرة، وسورة الهدهد، وسورة المؤمنين.
وفي ترجمة هذه السورة من تفسير صحيح البخاري سورة والطور بالواو على حكاية اللفظ الواقع في أولها كما يقال سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وهي مكية جميعها بالاتفاق. وهي السورة الخامسة والسبعون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة نوح وقبل سورة المؤمنين.
(27/51)
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وأربعين، وعدها أهل الشام وأهل الكوفة تسعا وأربعين، وعدها أهل البصرة ثمانيا وأربعين.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة التهديد بوقوع العذاب يوم القيامة للمشركين المكذبين بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إثبات البعث وبالقرآن المتضمن ذلك فقالوا: هو سحر.
ومقابلة وعيدهم بوعد المتقين المؤمنين وصفة نعيمهم ووصف تذكرهم خشية، وثنائهم على الله بما من عليهم فانتقل إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال أقوالهم فيه وانتظارهم موته.
وتحديهم بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن.
وإبطال خليط من تكاذيبهم بإعادة الخلق وببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من كبرائهم وبكون الملائكة بنات الله وإبطال تعدد الآلهة وذكر استهزائهم بالوعيد.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركهم وأن لا يحزن لذلك، فإن الوعيد حال بهم في الدنيا ثم في الآخرة وأمره بالصبر، ووعده بالتأييد، وأمر بشكر ربه في جميع الأوقات.
[ 1-8] {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} .
القسم للتأكيد وتحقيق الوعيد، ومناسبة الأمور المقسم بها للمقسم عليه أن هذه الأشياء المقسم بها من شؤونه بعثة موسى عليه السلام إلى فرعون وكان هلاك فرعون ومن معه من جراء تكذيبهم موسى عليه السلام.
و {الطُّو} : الجبل باللغة السريانية قاله مجاهد. وأدخل من العربية وهو من الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن.
وغلب علما على طور سيناء الذي ناجى فيه موسى عليه السلام، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة.
(27/52)
فالقسم به باعتبار شرفه بنزول كلام الله فيه ونزول الألواح على موسى وفي ذكر الطور إشارة إلى تلك الألواح لأنها اشتهرت بذلك الجبل فسميت طور المعرب بتوراة.
وأما الجبل الذي خوطب فيه موسى من جانب الله فهو جبل حوريب واسمه في العربية الزبير ولعله بجانب الطور كما في قوله تعالى : {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} وتقدم بيانه في سورة القصص،[29] وتقدم عند قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [ في سورة البقرة.[63 ].
والقسم بالطور توطئة للقسم بالتوراة التي أنزل أولها على موسى في جبل الطور.
والمراد ب {كِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} التوراة كلها التي كتبها موسى عليه السلام بعد نزول الألواح، وضمنها كل ما أوحى الله إليه مما أمر بتبليغه في مدة حياته إلى ساعات قليلة قبل وفاته. وهي الإسفار الأربعة المعروفة عند اليهود: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، وسفر التثنية، وهي التي قال الله تعالى في شأنها {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [ في سورة الأعراف[154].
وتنكير {كِتَابٌ} للتعظيم. وإجراء الوصفين عليه لتميزه بأنه كتاب مشرف مراد بقاؤه مأمور بقراءته إذ المسطور هو المكتوب. والسطر: كتابة طويلة لأنها تجعل سطورا، أي صفوفا من الكتابة قال تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، أي يكتبون.
والرق بفتح الراء بعدها قاف مشددة الصحيفة تتخذ من جلد مرق أبيض ليكتب عليه. وقد جمعها المتلمس في قوله:
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور
والمنشور: المبسوط غير المطوي قال يزيد بن الطثرية:
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوما ما والعتاب يطول
أي: أقسم بحال نشره لقراءته وهي أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء به للقارىء والسامع.
وكان اليهود يكتبون القرآن في ورق ملصق بعضها بعض أو محيط بعضها ببعض، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيا أسطوانيا لتحفظ فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها، ومنه
(27/53)
ما في حديث الرجم "فنشروا التوراة".
وليس مراد بكتاب مسطور القرآن لأن القرآن لم يكن يومئذ مكتوبا سطورا ولا هو مكتوبا في رق.
ومناسبة القسم بالتوراة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإشارة إلى القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعا فنزلت قبله التوراة وذلك لأن المقسم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12].
والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى: فأما أن يكون تأويل ذلك على قول ابن عباس في تفسير معنى قوله تعالى : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة 13] أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلا لألفاظ التوراة، وأما أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجبهت اليهود دلالة مواضع من التوراة على صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح.
والبيت المعمور: عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور، ووصفه ب {الْمَعْمُورِ} لأنه لا يخلو من طائف به، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] الآية.
ومناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بقسم بمواطن نزول القرآن فإن من نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حراء. وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة، على أن الوحي كان ينزل حول الكعبة. وفي حديث الإسراء بينا أنا نائم عند المسجد الحرام إذ جاءني الملكان الخ، فيكون توسيط القسم بالكعبة في أثناء ما قسم به من شؤون شريعة موسى عليه السلام إد ما جاء.
وفي الطبري : أن عليا سئل: ما البيت المعمور? فقال:البيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا، يقال له: الضراح. بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة، وأن مجاهدا والضحاك وابن زيد قالوا مثل ذلك. وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل تدرون ما البيت المعمور? قال: فإنه مسجد في السماء تحته
(27/54)
الكعبة" إلى آخر الخبر. وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعا يقال له : البيت المعمور، لكن الروايات في كونه المراد من هذه الآية ليست صريحة.
وأما السقف المرفوع: ففسروه بالسماء لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32] وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] فالرفع حقيقي ومناسبة القسم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن. وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ.
والبحر: يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية. وعندي: أن المراد بحر القلزم، وهو البحر الأحمر ومناسبة القسم به أنه أهلك به فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون.
و {الْمَسْجُورِ} قيل المملوء، مشتقا من السجر وهو الملء والإمداد. فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءا ماء دون أن تملأه أودية أو سيول، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة. والظاهر عندي: أن وصفه بالمسجور للإيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره، أي أفاضه على فرعون وملئه.
وعذاب الله المقسم على وقوعه وهو عذاب الآخرة لقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} إلى قوله {تُكَذِّبُونَ} [الطور 9- 14] وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47]. وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريقة الكناية القريبة، وتهديد للمشركين بطريقة الكناية التعريضية.
والواوات التي في هذه الآية واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر، ولذلك كثيرا ما يعيدون المقسم به نحو قول النابغة:
والله والله لنعم الفتى
وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادوا صفات المقسم به.
ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم، و المعطوف على القسم قسم.
والوقوع: أصله النزول من علو واستعمل مجازا للتحقق وشاع ذلك، فالمعنى: أن عذاب ربك لمتحقق.
(27/55)
وحذف متعلق {لَوَاقِعٌ} ، وتقديره: على المكذبين، أو بالمكذبين، كما دل عليه قوله بعد {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] أي المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم لأنه ربك وهم كذبوك فقد كذبوا رسالة الرب. وتضمن قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] إثبات البعث بعد كون الكلام وعيدا لهم على إنكارهم أن يكونوا معذبين.
وأتبع قوله {لَوَاقِعٌ} بقوله {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} ، وهو خبر ثان عن {عَذَابٌ} أو حال منه، أي: ما للعذاب دافع يدفعهم عنهم.
والدفع: إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازا بعلاقة الإطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة.
وزيدت {مِنْ} في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله، أي نفي جنس الدافع.
روى أحمد بن حنبل عن جبير بن مطعم قال قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ {وَالطُّورِ} إلى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب.
[ 9 -12] {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} .
يجوز أن يتعلق {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} بقوله: {لَوَاقِعٌ} [الذاريات:7 ] على أنه ظرف له فيكون قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} تفريعا على الجملة كلها ويكون العذاب عذاب الآخرة.
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات :7] فيكون {يَوْمِ} متعلقا بالكون الذي بين المبتدأ والخبر في قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقدم الظرف على عامله للاهتمام، فلما قدم الظرف أكتسب معنى الشرطية وهو استعمال متبع في الظروف والمجرورات التي تقدم على عواملها فلذلك قرنت الجملة بعده بالفاء على تقدير: إن حل ذلك اليوم فويل للمكذبين.
وقوله : {يَوْمَئِذٍ} على هذا الوجه أريد به التأكيد للظرف فحصل تحقيق الخبر
(27/56)
بطريقين طريق المجازاة، وطريق التأكيد في قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} الآية، تصريح بيوم البعث بعد أن أشير إليه تضمنا بقوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فحصل بذلك تأكيده أيضا.
والمور بفتح الميم وسكون الواو: التحرك باضطراب، ومور السماء هو اضطراب أجسامها من الكواكب واختلال نظامها وذلك عند انقراض عالم الحياة الدنيا.
وسير الجبال: انتقالها من مواضعها بالزلازل التي تحدث عند انقراض عالم الدنيا، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:1، 6]
وتأكيد فعلي {تَمُورُ} وَ {تَسِير} بمصدرين {مَوْراً} و {سَيْراً} لرفع احتمال المجاز، أي هو مور حقيقي وتنقل حقيقي.
والويل: سوء الحال البالغ منتهى السوء، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79] وتقدم قريبا في آخر الذاريات.
والمعنى: فويل يومئذ للذين يكذبون الآن. وحذف متعلق للمكذبين لعلمه من المقام، أي الذين يكذبون بما جاءهم به الرسول من توحيد الله والبعث والجزاء والقرآن فأسم الفاعل في زمن الحال.
والخوض: الاندفاع في الكلام الباطل والكذب. والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] وهو المراد بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الأنعام:[68].
و {فِي} للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنهم أحاط بهم.
و {يَلْعَبُونَ} حالية. واللعب: الاستهزاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65 ].
[31 -16] {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاًهَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
(27/57)
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{يَوْمَ يُدَعُّونَ} بدل من {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} وهو بدل اشتمال.
والدع: الدفع العنيف، وذلك إهانة لهم وغلظة عليهم، أي يوم يساقون إلى نار جهنم سوقا بدفع، وفيه تمثيل حالهم بأنهم خائفون متقهقرون فتدفعهم الملائكة الموكلون بإزجائهم إلى النار.
وتأكيد {يَدْعُونَ} ب {دَعَا} لتوصل إلى إفادة تعظيمه بتنكيره.
وجملة {هَذِهِ النَّارُ} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه السياق. والقول المحذوف يقدر بما هو حال من ضمير {يُدْعَوْنَ} وتقديره: يقال لهم، أو مقولا لهم، والقائل هم الملائكة الموكلون بإيصالهم إلى جهنم. والإشارة بكلمة {هَذِهِ} الذي هو للمشار إليه التقريب المؤنث تومىء إلى أنهم بلغوها وهم على شفاها، والمقصود بالإشارة التوطئة لما سيرد بعدها من قولهِ {الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} إلى {لا تُبْصِرُونَ} .
والموصول وصلته في قوله :{التي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} لتنبيه المخاطبين على فساد رأيهم إذ كذبوا بالحشر والعقاب فرأوا ذلك عيانا.
وفرع على هذا التنبيه تنبيه آخر على ضلالتهم في الدنيا بقوله : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} إذ كانوا حين يسمعون الإنذار يوم البعث والجزاء يقولون: هذا سحر، وإذا عرض عليهم القرآن قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذانهم وقر ومن بيننا وبينك حجاب، فللمناسبة بين ما في صلة الموصول من معنى التوقيف على خطئهم وبين التهكم عليكم بما كانوا يقولونه دخلت فاء التفريع وهو من جملة ما يقال لهم المحكي بالقول المقدر.
و {أَمْ} منقطعة، والاستفهام {أ م} بعدها مستعمل في التوبيخ والتهكم.والتقدير: بل أنتم لا تبصرون.
ومعنى {لا تُبْصِرُونَ} لا تبصرون المرئيات كما هي في الواقع فلعلكم تزعمون أنكم لا ترون نارا كما كنتم في الدنيا تقولون: {بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي فلا نراك، وتقولون {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15].
وجيء بالمسند إليه مخبرا عنه بخبر فعلي لإفادة تقوي الحكم، فلذلك لم يقل: أم لا تبصرون، لأنه لا يفيد تقويا، ولا: أم لا تبصرون أنتم، لأن مجيء الضمير المنفصل
(27/58)
بعد الضمير المتصل يفيد تقرير المسند إليه المحكوم عليه بخلاف تقديم المسند إليه فإنه يفيد تأكيد الحكم وتقويته وهو أشد توكيدا، وكل ذلك في طريقة التهكم.
وجملة {اصْلَوْهَا} مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين، أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال: صلي النار يصلاها، إذ قاس حرها.
والأمر في {اصْلَوْهَا} إما مكني به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها، وإما مستعمل مجازا في التنكيل. وفرع على {اصْلَوْهَا} أمر للتسوية بين صبرهم على حرها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئا من العذاب، ألا ترى أنهم يقولون: {سَوَاءٌ أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم:21] لأن جرمهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه.
و {سَوَاءٌ عَلَيْكُم} خبر المبدأ محذوف، تقديره :ذلك سواء عليكم.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} مؤكدة لجملة {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} فلذلك فصلت عنها ولم تعطف. وجملة {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل لجملة {اصْلَوْهَا} إذ كلمة {إِنَّمَا} مركبة من "إن" و"ما" الكافة، فكما يصح التعليل ب "أن" وحدها كذلك يصح التعليل بها مع "ما" الكافة، وعليه فجملتا {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} معترضتان بين جملة {اصْلَوْهَا} والجملة الواقعة تعليلا لها.
والحصر المستفاد من كلمة {إِنَّمَا} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع.
وعدي {تُجْزَوْنَ} إلى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بدون الباء خلافا لقوله بعده {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19 ] ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل.
[17-19] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف بياني بعد أن ذكر حال المكذبين وما يقال لهم، فمن شأن السامع أن
(27/59)
يتساءل عن حال أضدادهم وهم الفريق الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فما جاء به القرآن وخاصة إذ كانوا السامعون المؤمنين وعادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير وعكسه، والجملة معترضة بين ما قبلها وجملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30].
وتأكيد الخبر ب "إن" للاهتمام به. وتنكير {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} لتعظيم، أي في أية جنات وأي نعيم.
وجمع {جَنَّاتٍ} تقدم في سورة الذاريات.
والفاكه: وصف من فكه كفرح، إذا طابت نفسه وسر.
وقرأ الجمهور {فَاكِهِينَ} بصيغة اسم الفاعل، وقرأه أبو جعفر {فَكِهِينَ} بدون ألف.
والباء في {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُم} للسببية والمعنى:أن ربهم أرضاهم بما يحبون.
واستحضار الجلالة بوصف {رَبِّهِمْ} للإشارة إلى عظيم ما آتاهم إذ العطاء يناسب حال المعطي، وفي إضافة {رب} إلى ضميرهم تقريب لهم وتعظيم وجملة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور:18] في موضع الحال، والواو حالية، أو عاطفة علي {فَاكِهِينَ} الذي هو حال، والتقدير: وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، وهو حال من المتقين. والمقصود من ذكر هذه الحالة: إ ظهار التباين بين حال المتقين وحال المكذبين زيادة في الامتنان فإن النعمة تزداد حسن وقع في النفس عند ملاحظة ضدها.
وفيه أيضا أن وقايتهم عذاب الجحيم عدل، لأنهم لم يقترفوا ما يوجب العقاب. وأما ما أعطوه من النعيم فذلك فضل من الله وإكرام منه لهم.
وفي قوله {رَبِّهِمْ} ما تقدم قبيله.
وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضا،تقديره: يقال: لهم، أو مقولا لهم. وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور16:].
وحذف مفعول {كُلُوا وَاشْرَبُوا} لإفادة النعيم، أي كلوا ما يؤكل واشربوا كل ما يشرب، وهو عموم عرفي، أي مما تشتهون.
و {هَنِيئاً} اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفا لمصدرين لفعلي {كُلُوا
(27/60)
وَاشْرَبُوا} أكلا وشربا، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإفراد والتذكير. وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب.
و "ما" موصولة، والباء سببية، أي بسبب العمل الصالح الذي يومي إليه قوله: {الْمُتَّقِينَ} وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه: لا فضل لي عليك وإنما هو مالك، أو نحو ذلك.
[20 ] {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَه وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} .
حال من ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطور: 19] أي يقال لهم كلوا وأشربوا حال كونهم متكئين، أي وهم في حال إكلة أهل الترف المعهود في الدنيا، فقد كان أهل الرفاهية يأكلون متكئين وقد وصف القرآن ذلك في سورة يوسف31 بقوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} أى لخر الطعام والثمار. وفي الحديث "أما أنا فلا آكل متكئا" وكان الأكاسرة ومرازبة الفرس يأكلون متكئين وكذلك كان أباطرة الرومان وكذلك شأنهم في شرب الخمر، قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وخمرة مزة راووقها خضل
و السرر: جمع سرير، وهو ما يضطجع عليه.
والمصفوفة: المتقابلة، والمعنى: أنهم يأكلون متكئين مجتمعين للتأنس كقوله تعالى {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44].
وجملة {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} عطف على {مُتَّكِئِينَ} فهي في موضع الحال.
ومعنى {زَوَّجْنَاهُمْ} : جعلنا كل فرد منهم زوجا، أي غير مفرد، أي قرناهم بنساء حور عين. والباء للمصاحبة، أي جعلنا حورا عينا معهم، ولم يعد فعل {زَوَّجْنَاهُمْ} إلى {حُورٌ} بنفسه على المفعولية كما في قوله تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37 ]، لأن {زوجنا} في هذه الآية ليس بمعنى، أنكحناهم، إذ ليس المراد عقد النكاح لنبو المراد عن هذا المعنى، فالتزويج هنا وارد بمعناه الحقيقي في اللغة وهو جعل الشيء المفرد زوجا وليس واردا بمعناه المقول عنه في العرف والشرع، وليس الباء لتعدية فعل {وَزَوَّجْنَاهُمْ} بتضمينه معنى: قرنا، ولا هو على لغة أزد شنؤة فإنه لم يسمع في فصيح الكلام : تزوج بامرأة.
وحور: صفة لنساء المؤمنين في الجنة، وهن النساء اللاتي كن أزواجا لهم في الدنيا
(27/61)
إن كن مؤمنات ومن يخلقهن الله في الجنة لنعمة الجنة وحكم نساء المؤمنين اللاتي هن مؤمنات ولم يكن في العمل الصالح مثل أزواجهن في لحاقهن بأزواجهن في الدرجات في الجنة تقدم عند قوله تعالى {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} في سورة الزخرف [70] وما يقال فيهن يقال في الرجال من أزواج النساء الصالحات.
و {عَيْنٍ} صفة ثانية، وحقها أن تعطف ولكن كثر ترك العطف.
[21] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
{والدين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنابهم ذريتهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}
اعتراض بين ذكر كرامات المؤمنين، والواو اعتراضية.
والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكون الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقنون أبنائهم الإيمان.
والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذريات مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] وهل يستطيع أحدكم أن يقي النار غيره إلا بالإرشاد. ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته.
والتنكير في قوله :{بِإِيمَانٍ} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمته بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطا في إلحاقهم بآبائهم وتكون عن النعمة في جعلهم في مكان واحد.
ويتحمل أن يكون للنوعية، أي ما يصدق عليه حقيقة الإيمان.
وقرأ الجمهور {وَاتَّبَعَتْهُمْ} من بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل. وقرأه أبو عمرو وحده {واتبعناهم} بهمزة قطع وسكون التاء.
وقوله : {ذُرِّيَّتَهُمْ} الأول قرأه الجمهور بصيغة الإفراد. وقرأه أبو عمرو {ذرياتهم} بصيغة جمع ذرية فهو مفعول {اتبعناهم}. وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضا
(27/62)
لكن مرفوعة على أنه فاعل {أتبعتهم} ، فيكون الإنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعلموا مثل عملهم.
وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عدي وأبو نعيم وابن مردويه حديثا مسندا إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه" أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي لتقر بهم عينيه ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} إلى قوله {مِنْ شَيْءٍ} .
وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسل بهم، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به.
وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المرسي الأندلسي تزيل تونس سنة 1013 ثلاث عشر وألف في كتاب له سماه الأنوار النبوية في آبار خير البرية1 قال في خاتمة الكتاب قد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام فكنت أتعلم فيهما كذا معا وسني حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحا من عود الجوز كأني أنظر لها الآن إليه مملسا من غير طفل اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيته طفال كغراب، فكتب لي في حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفا حرفا تدريبا وتقريبا فإذا سميت له حرفا أعجميا يكتب لي حرفا عربيا حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر ذلك عنه فيحرق لا محالة وقد كان يلقنني ما أقول عند رؤيتي الأصنام، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جيان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وأشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، فتخلص لي معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشائخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري... الخ.
ـــــــ
1 مخطوط عندي.
(27/63)
وإيثار فعل {أَلْحَقْنَا} دون أن يقال: أدخلنا معهم، أو جعلنا معهم لعلمه لما في معنى الإلحاق من الصلاحية للفوز والتأخير، فقد يكون ذلك الإلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده. وفعل الإلحاق يقتضي أن الذاريات صاروا في درجات آبائهم. وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ.
و {أَلَتْنَاهُمْ} نقصناهم، يقال: آلته حقه، إذا نقصه إياه، وهو من باب ضرب ومن باب علم.
فقرأه الجمهور بفتح لام {أَلَتْنَاهُمْ} وقرأه ابن كثير بكسر لام { أَلَتْنَاهُمْ} وتقدم عند قوله تعالى :{لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} في سورة الحجرات[14] والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} .
والمعنى: أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلا منه على الذين آمنوا دون عوض احتراسا من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير، وحمالة الديات، وخلاص الغارمين، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة.
و {مِنْ عَمَلِهِمْ} متعلق ب {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} و "من" للتبعيض و"من" التي في قوله {مِنْ شَيْءٍ} لتوكيد النفي وإفادة الإحاطة والشمول للنكرة.
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
جملة معترضة بين جملة {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} وبين جملة {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور:22] قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل، و {كُلُّ امْرِئٍ} يعم أهل الآخرة كلهم.وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة.
والمعنى: انتفى إنقاصنا إياهم شيئا من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهن عنده والمتقون لما كسبوا العمل الصالح كان لزاما لهم مقترنا بهم لا يسلبون منه شيئا، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس
(27/64)
العمل نفسه فقد انقضى في أبانه.
وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة وقع أشد حسنا عما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
والكسب: يطلق على ما يحصله المرء بعمله لإرادة نفع نفسه.
ورهين: فعيل بمعنى مفعول من الرهن وهو الحبس.
[22،23] {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُون يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا َأْثِيمٌ} .
عطف على {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] الخ.
والإمداد: إعطاء المدد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه، أي زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهة ولحما مما يشتهون من الفوكه واللحوم التي يشتهونها، أي ليوتي لهم بشيء لا يرغون فيه فكل منهم ما اشتهي.
وخص الفاكهة واللحم تمهيدا لقوله :{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفته نفوسهم، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر كسروا سورة حدتها في البطن بالشواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور:
سفود شرب نسوه عند مفتأد
ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النقل - بضم النون وفتحها - ويكون من ثمار ومقاث.
ولذلك جيء بقوله {يَتَنَازَعُونَ} حالا من ضمير الغائب في و {أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} الخ. والتنازع أطلق على التداول والتعاطي. وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلوه من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع، ويسمى الماتح بمثناة فوقية
(27/65)
وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه السلام لابنة شعيب لما رأى انقباضهما على الاندماج في الرعاء. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا نزعه على القليب ثم نزع أبي بكر رضي الله عنه ثم نزع عمر رضي الله عنه. ثم استعين أو جعل مجازا عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب، قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وخمرة مزة روواقها خضل
والمعنى: أن بعضهم يصب لبعض الخمر ويناوله إيثارا وكرامة.
وقيل: تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام:
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
والكأس: إناء تشرب فيه الخمر لا عروة له ولا خرطوم، وهو مؤنث، فيجوز أن يكون هنا مرادا به الإناء المعروف ومراد به الجنس، وتقدم قوله في سورة الصافات[45] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}، وليس المراد أنهم يشربون في كأس واحدة بأخذ أحدهم من آخر كأسه. ويجوز أن يراد بالكأس الخمر، وهو من إطلاق اسم المحل على الحال مثل قولهم: سأل الوادي وكما قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان البيت السابق آنفا
وجملة {لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} يجوز أن تكون صفة ل "كأس" وضمير {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} عائد إلى "كأس" ووصف الكأس ب {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} . إن فهم الكأس بمعنى الإناء المعروف فهو على تقدير: لا لغو ولا تأثيم لصاحبها، فإن "في" للظرفية المجازية التي تؤول بالملابسة، كقوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ففيهما - أي "والديك فجاهد" ، أي جاهد ببرهما، أو تأول "في" بمعنى التعليم كقول النبي صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا".
وإن فهم الكأس مرادا به الخمر كانت "في" مستعارة للسببية، أي لا لغو يقع بسبب شربها. والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغو والإثم بالسباب ولضرب ونحوه، أي أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا، ويجوز أن تكون جملة {لا لَغْوٌ فِيهَاَلا تَأْثِيمٌ} مستأنفة ناشئة عن جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } ويكون ضمير {فِيهَا} عائد إلى {جَنَّاتٍ} من قوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الطور: 17] مثل
(27/66)
ضمير {فِيهَا كَأْساً} ، فتكون في الجملة معنى التذييل لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شرب أهل الجنة.
ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} إلى قوله {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} في سورة النبأ [31-35].
واللغو: سقط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل.
والتأثيم: ما يؤثم به فاعله شرعا أو عادة من فعل أو قول مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالبا، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله لأنهم من عالم الحقائق والكمالات فهم حكماء علماء، وقد تمدح أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم.
وقرأ الجمهور {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} برفعهما على أن "لا" مشبهة ب "ليس" . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن "لا" مشبهة ب "إن" وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غير محتملة ومثله قولها في حديث أم زرع: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة رويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب.
[ 24] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} .
عطف على جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} [الطور: 23] فهو من تمامه وواقع موقع الحال مثله، وجيء به في صيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر، أي ذلك لا ينقطع بخلاف لذات الدنيا فإنها لا بد لها من الانقطاع بنهايات تنتهي إليها فتكره لأصحابها الزيادة منها مثل الغول، والإطباق، ووجع الأمعاء في شرب الخمر ومثل الشبع في تناول الطعام وغير ذلك من كل ما يورث العجز عن الازدياد من اللذة ويجعل الازدياد ألما.
ولم يستثن من ذلك إلا لذات المعارف ولذات المناظر الحسنة والجمال.
ولما أشعر فعل {يَطَّوَّفَ} بأن الغلمان يناولونهم ما فيه لذاتهم كان مشعرا بتجدد المناولة وتجدد الطواف وقد صار كل ذلك لذة لا سآمة منها.
والطواف: مشي متكرر ذهابا ورجوعا وأكثر ما يكون على استدارة، ومنه طواف الكعبة، وأهل الجاهلية بالأصنام ولأجله سمي الصنم دورا لأنهم يدورون به. وسمي
(27/67)
مشي الغلمان بينهم طوافا لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقة ودوائر ليستوي في مرآهم كما أشار إليه في قوله تعالى في سورة الصافات[44] {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} ومنه جعلت مجالس الدروس حلقا وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم حلقا. وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل: أدارت الحارثة الخمر، وهذا الذي يناول الخمر المدير.
وترك ذكر متعلق {يَطَّوَّفَ} لظهوره من قوله {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} وقوله {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] ودل عليه قوله تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [ الزخرف: 71]. وقوله {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:45،46] فلما تقدم ذكر ما شأنه أن يطاف به ترك ذكره بعد فعل {يُطَافُ} بخلاف ما في الآيتين الأخريين.
والغلمان: جمع غلام، وحقيقته من كان في سن يقارب البلوغ أو يبلغه، ويطلق على الخادم لأنهم كانوا أكثر ما يتخذون خدمهم من الصغار لعدم الكلفة في حركاتهم وعدم استثقال تكليفهم، وأكثر ما يكونون من العبيد ومثله إطلاق الوليدة على الأمة الفتية كأنها قريبة عهد بولادة أمها.
فمعنى قوله {غِلْمَانٌ لَهُمْ} خدمة لهم. وعبر عنهم بالتنكير وتعليق لام الملك بضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} دون الإضافة التي هي على تقدير اللام لما في الإضافة من معنى تعريف المضاف بالانتساب إلى المضاف إليه عند السامع من قبل. وليس هؤلاء الغلمان بمملوكين للمؤمنين ولكنهم مخلوقون لخدمتهم خلقهم الله لأجلهم في الجنة قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [ الإنسان: 19] وهذا على نحو قوله تعالى{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] أي صنف من عبادنا غير معروفين للناس.
وشبهوا باللؤلؤ المكنون لحسن المرأى. واللؤلؤ: الدر. والمكنون: المخزون لنفاسته على أربابه فلا يتحلى به إلا في المحافل والمواكب فلذلك يبقى على لمعانه وبياضه.
[25-28] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} .
عطف على جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسأ} [الطور:23]. والتقدير: وقد أقبل بعضهم
(27/68)
على بعض يتساءلون، أي هم في تلك الأحوال قد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
ولما كان إلحاق ذرياتهم بهم مقتضيا مشاركتهم إياهم في النعيم كما تقدم آنفا عند قوله {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] كان هذا التساؤل جاريا بين الجميع من الأصول والذريات سائلين و مسؤولين.
وضمير {بَعْضُهُمْ} عائد إلى {الْمُتَّقِينَ} [الطور:17] وعلى {ذُرِّيَّتَهُمْ} الطور:21].
وجملة {قَالُوا} بيان لجملة {يَتَسَاءَلُونَ} على حد قوله تعالى {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ضمير {قَالُوا} عائد إلى البعضين، أي يقول كل فريق من المتسائلين للفريق الآخر هذه المقالة.
وإشفاق: توقع المكروه وهو ضد الرجاء، وهذا التوقع متفاوت عند المتسائلين بحسب تفاوت ما يوجبه من التقصير في أداء حق التكليف، أو من العصيان. ولذلك فهو أقوى في جانب ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بأصولهم بدون استحقاق. ولعله في جانب الذريات أظهر في معنى الشكر وأن أصولهم من أهلهم فهم يعلمون أن ذرياتهم كانوا مشفقين من عقاب الله تعالى أو بمنزلة من يعلم ذلك من مشاهدة سيرهم في الفاء بحقوق التكليف، وكذلك أصولهم بالنسبة إلى من يعلم حالهم من أصحابهم أو يسمع منهم إشفاقهم واستغفارهم. وحذف متعلق {مُشْفِقِينَ} لأنه دل عليه {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} .
وعلى هذا الوجه يكون معنى "في" الظرفية. ويتعلق {فِي أَهْلِنَا} ب {كُنَّا} ، أي حين كنا في ناسنا في الدنيا. ف {أَهْلِنَا} هنا في معنى آلنا.
ويجوز أن تكون المقالة صادرة من الذين آمنوا يخاطبون ذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم يكونوا يحسبون أنهم سيلحقون بهم: فالمعنى: إنا كنا قبل مشفقين عليكم، فتكون "في" للظرفية المجازية المفيدة للتعليل، أي مشفقين لأجلكم.
ومعنى {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} من علينا بالعفوا عنكم فأذهب عنا الحزن ووقانا أن يعذبكم بالنار. فلما كان عذاب الذريات يحزن آباءهم جعلت وقاية الذريات منه بمنزلة وقاية آبائهم فقالوا: {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} إغراقا في الشكر عنهم وعن ذرياتهم، أي فمن علينا جميعا ووقانا جميعا عذاب السموم.
والسموم بفتح السين، أصله اسم الريح التي تهب من جهة حارة جدا فتكون جافة شديدة الحرارة وهي معروفة في بلاد العرب تهلك من يتنشقها. وأطلق هنا على ريح جهنم
(27/69)
على سبيل التقريب بالأمر المعروف، كما أطلقت على العنصر الناري في قوله تعالى {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} في سورة الحجر [27] وكل ذلك تقريب بالمألوف.
وجملة {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم، أي كنا من قبل اليوم ندعوه، أي في الدنيا.
وحذف متعلق {نَدْعُوهُ} للتعميم، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا، وسبب العموم داخل ابتداء وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة.
ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلا على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإجابة، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر وولد صالح يدعوا له بخير" .
وقوله {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة "أنه" على تقدير حرف الجر محذوفا حذفا مطردا مع "أن" وهو هنا اللام تعليلا ل {َنَدْعُوهُ} ، وقرأه الجمهور بكسر همزة "إن" وموقع جملتها التعليل.
والبر: المحسن في رفق.
والرحيم: الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة.
وضمير الفصل لإفادة الحصر وهو لقصر صفتي {الْبِرَّ} و {الرَّحِيمِ} على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة، وغير الله بر في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئا.
[29] {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} .
تفريع على ما تقدم كله من قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب المكذبين والافتراء عليه، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في
(27/70)
استمرار التذكير حكمة أرادها الله، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلا في إيمانهم، ففرع على ذلك أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير.
فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] ولما كان أثر التذكير أهم بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإيمان روعي ما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتا على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم لهو: هو كاهن أو هو مجنون، فربط الله جأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} والباء في {نعْمَتِ رَبِّكَ} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير {أَنْتَ} .
ونفي هذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، ولذلك حسن تعقيبه بقوله {أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30] مصرحا فيه ببعض أقوالهم، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم.
وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها "ما أنت بكاهن" دون : فلست بكاهن، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر.
وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو {كَاهِنٍ} أو {مَجْنُون} لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإخبار عنه بالخبر كقولنا: الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء. وأفاد أيضا قصرا إضافيا بقرينه المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم: هو كاهن أو مجنون، على طريقة قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} [هود:91].
وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان، وجيء بالحال قبل الخبر، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين.
وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفة بالإضافة وبوصفه الرب لإفادة
(27/71)
لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربه ويدبر نفعه، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه. وقوله تعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} رد على مقالة شيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال: هو مجنون، ويدل لكونه ردا على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور: 30 ] ما سيكون وما خفي مما هو كائن.
والكاهن: الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسجاع قصيرة. وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة، ونظيرها في العبرية الكوهين وهو حافظ الشريعة والمفتي بها، وهو من بني لاوي، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} في سورة الشعراء.[ 210].
وقد اكتفي في إبطال كونه كاهنا أو مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاف في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة.
[30] {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} .
إن كانت {أَمْ} مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، وإلا فهي عطف على جملة {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29].
وعن الخليل كل ما في سورة الطور من {أَمْ} فاستفهام وليس بعطف، يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات. وهذا ضابط ظاهر. ومراده: أن الاستفهام مقدر بعد {أَمْ} وهي منقطعة وهي للإضراب عن مقالتهم المردودة بقوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} الطور:[ 29] للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم هو شاعر {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 29] وعدل عن الإتيان بحرف "بل" مع أنه أشهر في الإضراب الانتقالي، لقصد تضمن {أَمْ} للاستفهام. والمعنى: بل أيقولون شاعر الخ. والاستفهام المقرر إنكاري.
ومناسبة هذا الانتقال عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير يشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر.
(27/72)
روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس: تربصوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش.
وعن الضحاك ومجاهد: أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آرائهم في محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا بنو عبد الدار: هو شاعر تربصوا به ريب المنون، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها، أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر، وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون وجاء {يَقُولُونَ} مضارعا للدلالة على تجدد ذلك القول منهم. والتربص مبالغة في: الربص، وهو الانتظار.
والريب هنا: الحدثان، وفسر بصرف الدهر وعن ابن عباس: ريب في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور {رَيْبَ الْمَنُونِ} .
والباء في {بِهِ} يجوز أن تكون للسبب، أي بسببه، أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة ب {َتَرَبَّصُ} ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق ب {رَيْبَ الْمَنُونِ} حالا منه مقدما على صاحبها، أي حلول ريب المنون به.
والمنون: من أسماء الموت ومن أسماء الدهر، ويذكر. وقد فسر بكل المعنيين، فإذا فسر بالموت فإضافة {رَيْبَ} إليه بيانية؛ أي الحدثان الذي هو الموت وإذ فسر النون بالدهر فالإضافة على أصلها، أي أحداث الدهر مثل موت أو خروج من البلد أو الرجوع إلى دعوته، فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم: فسيهلك، فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيان ريب الموت أو إن أرادوه مثالا لريب الدهر، وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم.
وقد ورد {رَيْبَ الْمَنُونِ} في كلام العرب بالمعنيين؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمتعب من يجزع
ومن وروده بمعنى حدثان الدهر قول الأعشعى:
أإن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل
أراد أضر بذاته حدثان الدهر، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب.
(27/73)
ولما كان انتفاء كونه شاعرا أمرا واضحا يكفي فيه مجرد التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحل به ما حل بالشعراء الذين هم من جملة الناس.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول: {تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] وهو جواب منتصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانبين أو حلول المنية مشترك الإلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخرة.
[31 ] {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} .
وردت جملة {قُلْ تَرَبَّصُوا} مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} الطور: 30} [ الخ]، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأمر بقوله، ومثله قوله تعالى {مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
والأمر في {تَرَبَّصُوا} مستعمل في التسوية، أي سواء عندي تربصهم بي وعدمه. وفرع عليه {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذا لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل.
وتأكيد الخبر ب {أن} في قوله {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.
والمعية في قوله {مَعَكُمْ} ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص.
ولما كان قوله : {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} مقدرا معه "بكم" لمقابلة قولهم : {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره، إشارة إلى أن وقعة بدر إذ أصابهم من الحدثان القتل والأسر، فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة[52] {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} . وإنما قال هنا: {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} ليشير إلى أن النبي يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين، وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
(27/74)
قد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نهي به من شبه التذييل بقوله : {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} إذ تمت به المفاصلة.
32] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} .
إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدر بعد {أَمْ} من معنى التعجب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة.
قال الزمخشري. وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى والمعنى:أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول.
والإشارة في قوله : {بِهَذَا} إلى المذكور من القول المعرض به في قوله: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] والمصرح به في قوله :{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، وهذا كما يقول من يلوم عاقلا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد: أعاقل أنت ? أو: هذا لا يفعله عاقل بنفسه، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له : {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
والحلم:العقل، قال الراغب: المانع من هيجان الغضب. وفي القاموس هو الأناة. وفي معارج النور:والحلم ملكة غريزية تورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة.
ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل1 له. قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي.
ـــــــ
1 رواه القرطبي عن الحكيم الترمذي صاحب "نوادر الأصول".
(27/75)
والأمر في : {تَأْمُرُهُمْ} مستعار للباعث أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول.
{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
إضراب انتقالي أيضا متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان. والاستفهام المقدر مستعمل: إما في التشكيك باعثا على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون، وإما مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين.
وإقحام كلمة {قَوْمِ} يمهد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم، كما قدمناه في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : [124] في سورة البقرة، أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال.
[33، 34] {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .
انتقال متصل بقوله : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30] الخ. وهذا حكاية لإنكارهم أن يكون القرآن وحيا من الله، فزعموا أنه تقوله النبي صلى الله عليه وسلم على الله، فالاستفهام إنكار لقولهم وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة {يَقُولُونَ} المفيدة للتجدد.
والتقول: نسبة كلام إلى أحد لم يقله، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من ينسب إليه بحرف "على"، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين}ِ [الحاقة:44، 45] الآية. وضمير النصب في {تَقَوَّلَهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام.
وابتدىء الرد عليهم بقوله : {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} لتعجيل تكذيبهم قبل الإدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرعا على قوله : {لا يُؤْمِنُون} بمنزلة دليل ثان. ومعنى {لا يُؤْمِنُونَ} أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقول القرآن بينة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترا لمكابرتهم.
ولما كانت مقالتهم هذه طعنا في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت دعواهم أنه تقول على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
(27/76)
كَانُوا صَادِقِينَ} أي صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون.
ووجه الملازمة أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحد العرب وهو ينطق بلسانهم. فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة، فلو كان القرآن قد قاله محمد صلى الله عليه وسلم لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادرا على تأليف مثله، فلما تحداهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغائهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن دالا على عجز البشر عن الإتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود[13،14] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } .
كما قال تعالى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
والإتيان بالشي: إحضاره من مكان آخر. واختير هذا الفعل دون نحو: فليقولوا مثله ونحوه، لقصد الأعذار لهم بأن يقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم، وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة[ 23] : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أنه يحتمل معنيين، هما: فأتوا بسورة من مثل القرآن، أو فأتوا من مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، أي من أحد من الناس.
والحديث: الإخبار بالحوادث وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة، ثم توسع فأطلقت على الواقعات، ولو كانت قديمة كقولهم: حوادث سنة كذا، وتبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقا، وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخبارا، ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلم مجازا بعلاقة الإطلاق، أي فليأتوا بكلام مثله، أي في غرض من الأغراض التي تشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار. ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار، أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالا لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها، فإنهم كانوا يقولون أن القرآن أساطير الأولين، أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم: فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قبل لعقولهم به، وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه.
ومعنى المثلية في قوله: {مِثْلِهِ} المثلية في فصاحته وبلاغته، وهي خصوصيات
(27/77)
يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم. وقد بينا أصول الإعجاز في المقدمة العاشرة من العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
ولام الأمر في {فَلْيَأْتُوا} مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
وقوله : {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي في زعمهم أنه تقوله، أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون. وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} الواقع موقعا شبيها بالتذليل والمختوم بكلمة الفاصلة، أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله : {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31].
[،35،36] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} .
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} .
إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث، وقد عملت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاء على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل، فإذ وفي حق ما اقتضته تلك المنسبات ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49].
فكان قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} الآيات أدلة على أن ما خلقه الله من بدء الخلق أعظم من إعادة خلق الإنسان. وهذا متصل بقوله آنفا : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هي قولهم : {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء: 49] ونحو ذلك.
فحرف "من" في قوله : {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يجوز أن يكون للابتداء، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد "أم" تقريريا. والمعنى: أيقرون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عدما فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى ينشأون من عدم في النشأة الآخرة، وذلك إثبات لإمكان
(27/78)
البعث فيكون في معنى قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5، 8] وقوله : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] ونحو ذلك من الآيات.
ومعنى {شَيْءٍ} على هذا الوجه: الموجود فغير شيء: المعدوم، والمعنى: اخلقوا من عدم. ويجوز أن تكون "من" للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد "أم" إنكاريا، ويكون اسم {شَيْءٍ} صادقا على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف "من" التعليلية، والمعنى: إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلوا عنها فعل أحكم الحكماء، فيكون في معنى قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقوله :{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر: 85 ].
ولحرف "من" في هذا الكلام الوقع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهية العليا. ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري، أعني صيغة النفي بأن يقال: أما خلقوا من غير شيء؛ والعدول عن تعيين ما أضيف إليه : {غَيْرِ} إلى الإتيان بلفظ مبهم وهو لفظ شيء، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة.
وإذا كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله:
{أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
وهو إضراب انتقال أيضا، والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكاري، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدعوا ذلك فالإنكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون.
وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقه تعريف الجزأين قصرا إضافيا للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله، لأنهم عدوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم، فجعلوه خارجا عن قدرة اله، فالتقدير: أم هم الخالقون لا نحن. والمعنى: نحن الخالقون لا هم.
(27/79)
وحذف مفعول {الْخَالِقُونَ} لقصد العموم، أي الخالقون للمخلوقات وعلى هذا جرى الطبري وقدره المفسرون عدا الطبري: أم هم الخالقون أنفسهم كأنهم جعلوا ضمير {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} دليل على أن المحذوف اسم معاد ذلك الضمير ولا افتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين، فلذلك لم يتصد إلى الاستدلال على هذا الانتفاء.
وجملة {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يظهر لي أنها بدل من جملة {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} بدل مفصل من مجمل إن كان مفعول {الْخَالِقُونَ} المحذوف مرادا به العموم وكان المراد بالسماء والأرض ذاتيهما مع من فيهما أو بدل بعض من كل أن المراد ذاتي السماء والأرض، فيكون تخصيص السماوات والأرض بالذكر لعظم خلقهما.
وإعادة حرف {أَمْ} للتأكيد كما يعاد عامل المبدل منه في البدل، والمعنى: أم هم الخالقون للسماوات والأرض.
والاستفهام إنكاري والكلام كناية عن إثبات أن الله خالق السماوات والأرض.
والمعنى: أن الذي خلق السماوات والأرض لا يعجزه إعادة الأجساد بعد الموت والفناء. وهذا معنى قوله تعالى :{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99] أي أن يخلق أمثال أجسادهم بعد انعدامهم.
{بَلْ لا يُوقِنُونَ} .
إضراب إبطال على مضمون الجملتين اللتين قبله، أي لم يخلقوا من غير شيء ولا خلقوا السماوات والأرض، فإن ذلك بين لهم فما إنكارهم البعث إلا ناشئ عن عدم إيقانهم في مظان الإيقان وهي الدلائل الدالة على إمكان البعث وأنه ليس أغرب من إيجاد المخلوقات العظيمة، فما كان إنكارهم إياه إلا عن مكابرة وتصميم على الكفر.
والمعنى: أن الأمر لا هذا ولا ذاك ولكنهم لا يوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة بل رانت المكابرة على قلوبهم.
[37] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} .
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} .
انتقال بالعودة إلى رد جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غير أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأصل الذي ركزوا عليه جحودهم توهم أن الله لو أرسل رسولا
(27/80)
من البشر لكان الأحق بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ: من 8] وقال تعالى : {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعنون قرية مكة وقرية الطائف.
والمعنى: إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمر على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاءون ويمنعون من يشاءون.
والخزائن: جمع خزينة وهي البيت، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات، أو المال وما هو نفيس عند خازنه، وتقدم عند قوله تعالى : {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]. وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات، ومنها اصطفاء من هيأه من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر، وقد تقدم في سورة الأنعام قوله : {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} سورة الأنعام: [50] قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
وقد سلك معهم هنا مسلك الإيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم: كاهن، ومجنون، وشاعر. الخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله.
فقوله تعالى هنا : {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} هو كقوله في سورة ص:[8،9] {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [صّ:8] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} وقوله في سورة الزخرف [32 ] {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} .
وكلمة {عند} تستعمل كثيرا في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59 ] فالمعنى: أيملكون خزائن ربك، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة {خَزَائِنُ} إلى {رَبُّكَ} على نحو {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [لنجم:35]. وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ} [الإسراء: 100].
(27/81)
{أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [37].
إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون.
والمصيطر: يقال بالصاد والسين في أوله: اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين، إذا حفظ وتسلط، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع، ومنه الساطور، وهو حديد يقطع به اللحم والعظم. وصيغ منه وزن فعيل للإلحاق بالرباعي كقولهم: بيقر، بمعنى هلك أو تحضر، وبيطر بمعنى شق، وهيمن، ولا خامس لها في الأفعال. وإبدال السين صادا لغة فيه مثل الصراط والسراط.
وقرأ الجمهور {الْمُصَيْطِرُونَ} بصاد. وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر، وحفص في روايته بالسين في أوله.
وفي معنى الآية قوله تعالى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: [32]، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} لأن وضوحه كنار على علم. وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه.
[38] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
لما نفي أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم اطلاع على ما قدره الله لعباده اطلاعا يخولهم إنكار أن يرسل الله بشرا أو يوحي إليه وذلك لإبطال قولهم {تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] ومثل ذلك قولهم : {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} الطور:[الطور:30] المقتضي أنهم واثقون بأنهم يشهدون هلاكه. وحذف مفعول {يَسْتَمِعُونَ} ليعم كلاما من شأنه أن يسمع من الأخبار المغيبة بالمستقبل وغيره الواقع وغيره.
وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سلم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي من أمر تتلقاه الملائكة أو أهل الملأ الأعلى بعضهم مع بعض فيسترقوا بعض العلم مما هو محجوب عن الناس إذ من المعلوم أنه لا سلم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد.
(27/82)
وعلم من اسم السلم أنه آلة الصعود، وعلم من ذكر السماوات في الآية قبلها أن المراد سلم يصعدون به إلى السماء، فلذلك وصف ب {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي يرتقون به إلى السماء فيستمعون وهم فيه، أي في درجاته الكلام الذي يجري في السماء. و {فِيهِ} ظرف مستقر حال من ضمير {يَسْتَمِعُونَ} ، أي وهم كائنون فيه لا يفارقونه إذ لا يفرض أنهم ينزلون منه إلى ساحات السماء.
وإسناد الاستماع إلى ضمير جماعتهم على اعتبار أن المستمع سفير عنهم على عادة استعمال الكلام العربي من إسناد فعل بعض القبيلة إلى جميعها إذا لم تصله عن عمله في قولهم: قتلت بنو أسد حجرا، ألا ترى أنه قال بعد هذا {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} ، أي من استمع منهم لأجلهم، أي أرسلوه للسمع. ومثل هذا الإسناد شائع في القرآن وتقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وما بعده من الآيات في سورة البقرة.[49].
و "في" للظرفية وهي ظرفية مجازية اشتهرت حتى ساوت الحقيقة لأن الراقي في السلم يكون كله عليه، فالسلم له كالظرف للمظروف، وإذ كان في الحقيقة استعلاء ثم شاع في الكلام فقالوا: صعد في السلم، ولم يقولوا: صعد على السلم ولذاك اعتبرت ظرفية حقيقية، أي حقيقة عرفية بخلاف الظرفية في قوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] لأنه لم يشتهر أن يقال: صلبه في جذع، بل يقال: صلبه على جذع، فلذلك كانت استعارة، فلا منافاة بين قول من زعم أن الظرفية مجازية وقول من زعمها حقيقة.
والفاء في {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} لتفريع هذا الأمر التعجيزي على النفي المستفاد من استفهام الإنكار. فالمعنى: فما يأتي مستمع منهم بحجة تدل على صدق دعواهم. فلام الأمر مستعمل في إرادة التعجيز بقرينة انتفاء أصل الاستماع بطريق استفهام الإنكار.
والسلطان: الحجة، أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أو في كونه على وشك الهلاك.
والمراد بالسلطان ما يدل على إطلاعهم على الغيب من أمارات كأن يقولوا: آية صدقنا فيما ندعيه وسمعناه من حديث الملأ الأعلى، أننا سمعنا أنه يقع غدا حادث كذا وكذا مثلا، مما لا قبل للناس بعلمه، فيقع كما قالوا ويتوسم منه صدقهم فيما عداه. وهذا معنى وصف السلطان المبين، أي المظهر لصحة الدعوى.
(27/83)
هذا تحد لهم بكذبهم فلذلك اكتفى بأن يأتي بعضهم بحجة دون تكليف جميعهم بذلك على نحو قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْله} [البقرة:23] أي فليأت من يتعهد منهم بالاستماع بحجة. وهذا بمنزلة التذييل للكلام على نحو ما تقدم في قوله: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] وقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } [الطور:34].
[ 39] {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}.
لما جرى نفي أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملأ الأعلى إبطالا لمقالاتهم في شؤون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي، فهذه الجملة معترضة بين جملة {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور:38] وجملة {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} [ الطور: 40]، ويقدر الاستفهام إنكارا لأن يكون لله البنات.
ودليل الإنكار لنفس الأمر استحالة الولد على الله تعالى ولكن لما كانت عقول أكثر المخاطبين بهذا الرد غير مستعدة لإدراك دليل الاستحالة، وكان اعتقادهم البنات لله منكرا، تصدي لدليل الإبطال وسلك في إبطاله دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} .
فجملة {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} في موضع الحال من ضمير الغائب، أي كيف يكون لله البنات في حال أن لكم بنين وهم يعلمون أن صنف الذكور أشرف من صنف الإناث على الجملة كما أشار إليه قوله تعالى {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [ا لنجم:21، 22] فهذا مبالغة في تشنيع قولهم فليس المراد أنهم لو نسبوا لله البنين لكان قولهم مقبولة لأنهم لم يقولوا ذلك فلا طائل تحت إبطاله.
وتغير أسلوب الغيبة المتبع ابتداء من قوله {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} إلى أسلوب الخطاب التفات مكافحة لهم بالرد بجملة الحال.
وتقديم {لَكُمُ} على {الْبَنُونَ} لإفادة الاختصاص، أي لكم البنون دونه فهم لهم بنون وبنات، وزعموا أن الله ليس له إلا البنات.
وأما تقديم المجرور على المبتدأ في قوله {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} فللاهتمام باسم الجلالة وقد أنهي الكلام بالفاصلة لأنه غرض مستقل.
[40 ]{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} .
(27/84)
هذا مرتبط بقوله {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [ الطور:33] وقوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] إذ كل ذلك إبطالا للأسباب التي تحملهم على زعم انتفاء النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم فبعد أن أبطل وسائل اكتساب العلم بما زعموه عاد إلى إبطال الدواعي التي تحملهم على الإعراض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك جاء هذا الكلام على أسلوب الكلام الذي اتصل هو به، وهو أسلوب خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال هنا {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} وقال هنالك {أم عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37].
والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} مستعمل في التهكم بهم بتنزيلهم منزلة من يتوجس خيفة من أن يسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم أجرا على إرشادهم.
والتهكم استعارة مبنية على التشبيه، والمقصود ما في التهكم من معنى أن ما نشأ عنه التهكم أمر لا ينبغي أن يخطر بالبال.
وجيء بالمضارع في قوله {تَسْأَلُهُمْ} لإفادة التجدد، أي تسألهم سؤالا متكررا لأن الدعوة متكررة، وقد شبهت بسؤال سائل.
وتفريع {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} لما فيه من بيان الملازمة بين سؤال الأجر وبين تجهم من يسأل والتحرج منه. وقد فرع قوله: {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} على الفعل المستفهم عنه لا على الاستفهام، أي ما سألتهم أجرا فيثقل غرمه عليهم، لأن الاستفهام في معنى النفي، والإثقال يتفرع على سؤال الأجر المفروض لأن مجرد السؤال محرج للمسؤول لأنه بين الإعطاء فهو ثقيل وبين الرد وهو صعب.
والمغرم بفتح الميم مصدر ميمي، وهو الغرم. وهو ما يفرض على أحد من عوض يدفعه.
والمثقل: أصله المحمل بشيء ثقيل، وهو هنا مستعار لمن يطالب بما يعسر عليه أداؤه، شبه طلبه أداء ما يعسر عليه بحمل الشيء الثقيل على من لا يسهل عليه حمله. وَ {مِنْ} للتعليل، أي مثقلون من أجل مغرم حمد عليهم.
والمعنى: أنك ما كلفتهم شيئا يعطونه إياك فيكون ذلك سببا لإعراضهم عنك تخلصا من أداء ما يطلب منهم، أي انتفى عذر إعراضهم عن دعوتك.
[41] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون} .
(27/85)
هذا نظير الإضراب والاستفهام في قوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: [37]، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجيدونه فيه ويروونه للناس، أما عندهم الغيب حتى يكتبوه، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإسلام بأنهم كالذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أجرا على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما أدعى الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما اطلعوا عليه فيجدونه مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: لما قالوا {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] قال الله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغيب} أي حتى علموا متى يموت محمد أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعا إلى قوله :{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] والوجه ما سمعته آنفا.
والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل، أي ما غاب عن علم الناس.
والتعريف في {الْغَيْبِ} تعريف الجنس وكلمة {عِنْدَ} ا تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لعلم به غيرهم.
والكتابة في قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل، كما قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فيكون الخبر في قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} مستعملا في معناه من إفادة النسبة الخبرية.
ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها، أي فهم يسجلون ما اطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوما لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله : {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} مستعملا في معنى الفرض والتقدير تبعا لفرض قوله: {عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} ويكون من باب قوله تعالى : {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم:35] وقوله: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداًأَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 77،88 ].
وحاصل المعنى: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.
[42 ] {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} .
انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبييت للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدعوة الإسلام من الإضرار والإخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم
(27/86)
وتنبيه للمؤمنين للحذر من كيدهم.
وحذف متعلق {كَيْداً} ليعم كل ما يستطيعون أن يكيدوه فكانت هذه الجملة بمنزلة التتميم لنقض غزلهم والتذييل بما يعم كل عزم يجري في الأغراض التي جرت فيها مقالاتهم.
والكيد والمكر متقاربان وكلاهما إظهار إخفاء الضر بوجه الإخفاء تغريرا بالمقصود له الضر.
وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} وكان مقتضى الظاهر أن يقال فهم المكيدون لما تؤذن به الصلة من وجه حلول الكيد بهم لأنهم كفروا بالله، فالله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين وعن دينه كيدهم ويوقعهم فيما نووا إيقاعهم فيه.
وضمير الفصل أفاد القصر، أي الذين كفروا المكيدون دون من أرادوا الكيد بهم.
وإطلاق اسم الكيد على ما يجازيهم الله به عن كيدهم من نقض غزلهم إطلاق على وجه المشاكلة بتشبيه إمعان الله إياهم في نعمة إلى أن يقع بهم العذاب بفعل الكائد لغيره، وهذا تهديد صريح لهم، وقد تقدم قوله : {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} في سورة الأنفال.[30] ومن مظاهر هذا التهديد ما حل بهم يوم بدر على غير ترقب منهم.
والقول في تفريع {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} كالقول في تفريع قوله : {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [ الطور: 40].
[:43 ]{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
هذا آخر سهم في كنانة الرد عليهم وأشد رمي لشبح كفرهم، وهو شبح الإشراك وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى.
فلما كان ما نعي عليهم من أول السورة ناقضا لأقوالهم ونواياهم، وكان ما هم فيه من الشرك أعظم لم يترك عد ذلك عليهم من اشتهاره بعد استيفاء الغرض المسوق له الكلام لهذه المناسبة، ولذلك كان هذا المنتقل إليه بمنزلة التذييل لما قبله لأنه ارتقاء إلى الأهم في نوعه والأهم يشبه الأعم فكان كالتذييل، ونظيره في الارتقاء في كمال النوع قوله تعالى : {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد 13، 17] الآية.
(27/87)
وقد وقع قوله : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} إتماما للتذييل وتنهية المقصود من فضح حالهم.
وظاهر أن الاستفهام المقدر بعدْ {أَمْ} استفهام إنكاري. واعلم أن الآلوسي نقل عن الكشف على الكشاف كلاما في انتظام الآيات من قوله تعالى : {يَقُولُونَ شَاعِرٌ} إلى قوله : {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} فيه نكت وتدقيق فانظره.
44-46 ] {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} .
عطف على جملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور: 3] وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أروا كسفا ساقطا من السماء وقيل لهم: هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم.
ويجوز أن يكون {كِسَفاً} تلويحا إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإسراء {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}. وظاهر ما حكاه الطبري عن ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك.
والمعنى: أن يروا كسفا من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا: هذا سحاب، وهذا المعنى مروي عن قتادة. وهو من قبيل قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14، 15].
والكسف بكسر الفاء: القطعة، ويقال: كسفه. وقد تقدم في سورة الإسراء.
و {مِنَ السَّمَاءِ} صفة ل {كِسَفاً} و {مِنَ} تبعيضية، أي قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب.
والمركوم: المجموع بعضه فوق بعض يقال: ركمه ركما، وهو السحاب الممطر قال تعالى {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43].
والمعنى: أن يقع ذلك في المستقبل يقول سحاب، وهذا لا يقتضي أنه يقع لأن
(27/88)
أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع. وقع {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} خبر عن مبتدأ محذوف، وتقديره: هو سحاب وهذا سحاب.
والمقصود: أنهم يقولون ذلك عنادا مع تحققهم أنه ليس سحابا. ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم، أي يترك عرض الآيات عليهم، أي أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات لأنهم لا يقترحون ذلك طلبا للحجة ولكنهم يكابرون، قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96،97]. وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم.
ويجوز أن يكون الأمر في قوله {فَذَرْهُمْ} مستعملا في تهديديهم لأنهم يسمعونه حتى يقرأ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه: دعه فإنه لا يقلع.
وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد لأنهم بعد أن يصعقوا لا تعاد محاجتهم بالأدلة والآيات.
وقرأ الجمهور {يُلاقُوا} . وقرأه أبو جعفر {يلقوا} بدون ألف بعد اللام.
واليوم الذي فيه يصعقون: هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض.
وإضافة اليوم إلى ضميرهم لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة. وذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين: فلان قدري، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر. فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه أو لأنه اليوم الذي أوعدوه، فالإضافة لأدنى ملابسة.
ونظيره قوله تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
والصعق: الإغماء من خوف أو هلع قال تعلى {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، وأصله مشتق من الصاعقة لأن المصاب بها يغمى عليه أو يموت، يقال: صعق، بفتح فكسر، وصعق بضم وكسر.
(27/89)
وقرأه الجمهور {يُصْعَقُونَ} بفتح المثناة التحتية، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة.
وذلك هو يوم الحشر قال تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه، شبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثبات الملاقاة إليه تخييل. والملاقاة مستعارة أيضا للحلول فيه، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره.
و {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} بدل من {يَوْمِهِمْ} وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى معرب.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته، وإذا قيل: أغنى عنه كان معناه: أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام.
والمراد هنا لا يغني عنهم شيئا من العذاب المفهوم من إضافة {يَوْمَ} إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله {الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} .
و {كَيْدُهُمْ} من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} [الطور: 42] أي لا يستطيعون كيدا يومئذ كما كانوا في الدنيا.
فالمعنى: لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره
...
أي لا منارة له فيهتدى به.
وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم، وعطف عليه {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية.
[47] {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
جملة معترضة والواو اعتراضية، أي وإن لهم عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وهو عذاب الجوع في سني القحط، وعذاب السيف يوم بدر.
وفي قوله: {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال:
(27/90)
وإن له عذابا جريا على أسلوب قوله: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] فخولف مقتضى الظاهر لإفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإشراك بالله.
وكلمة {دُونِ} أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالا قريبا، وكثر إطلاقه على الأقل، يقال: هو في الشرف دون فلان، وعلى السابق لأنه قرب أقرب حلولا من المسبوق، وعلى معنى "غير"، و {دُونِ} في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة، إذ المراد عذاب في الدنيا وهو قل من عذاب الآخرة قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَر} [السجدة:21]، وهو مغاير له كما هو بين.
ولكون هذا العذاب مستبعدا عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمة مستمرة كما قال تعالى {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [ فصلت:50] أكد الخبر ب {أَنَّ} فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن، كما دل عليه تعقيبه بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
والاستدراك الذي أفادته "لكن" راجع إلى مفاد التأكيد, أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه، أي لا يخطر ببالهم وقوعه، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول {لا يَعْلَمُونَ} محذوف اختصارا للعلم به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير.
والظلم: الشرك قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وهو الغالب في إطلاقه في القرآن.
[ 48،49] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} .
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
عطف على جملة {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ} [الطور: 45] الخ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] المسوق مساق التسلية له، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى
(27/91)
ختمت بالسورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمد الله شكرا له على تفضيله بالرسالة.
والمراد ب {ِحُكْمِ رَبِّك} ما حكم به وقدره من انتفاء إجابة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم.
فاللام في قوله: {لِحُكْمِ رَبُّكَ} يجوز أن تكون بمعنى "على" فيكون لتعدية فعل {اصْبِرْ} كقوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون} [المزمل:10] ويجوز فيها معنى "إِلَى" أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [يونس: 109] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون {لِحُكْمِ رَبِّكَ} هو ما حكم به من إرساله إلى الناس، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك.
فللام في هذا الموقع جامع لا يفيد غير اللام مثله.
والتفريع في قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} تفريع العلة على المعلول {اصْبِرْ} لأنك بأعيننا، أي بمحل العناية والكلاءة منا، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم، وقد وفى بهذا كله التمثيل في قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، فإن الباء للإلصاق المجازي، أي لا نغفل عنك، يقال: هو بمرأى مني ومسمع، أي لا يخفى علي شأنه. وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من نصر والجزاء والحفظ.
وقد آذن بذلك قوله: {لِحُكْمِ رَبِّكَ} دون أن يقول: واصبر لحكمنا، أو لحكم الله، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب.
وجمع الأعين:أمامبالغة في التمثيل كأن الملاحظة بأعين عديدة كقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] وهو من قبيل {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47].
ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلقات الملاحظة فملاحظة للذب عنه، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة, وملاحظة لجزاء إعداده بما يستحقونه، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13، 14] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم، وذلك خلاف قوله في قصة موسى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فإنه
(27/92)
تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40].
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} [49].
التسبيح: التنزيه، والمراد ما يدل عليه من قول، وأشهر ذلك هو قول سبحان الله وما يرادفه من الألفاظ، ولذاك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار.
والباء في قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} للمصاحبة جمعا بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال.
و {حِينَ تَقُومُ} وقت الهبوب من النوم، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أمر بالصبر والتسبيح والحمد.
فالتسبيح مراد به: الصلاة، والقيام: جعل وقت للصلوات: إما للنوافل، وإما للصلاة الفريضة وهي الصبح.
وقيل: التسبيح في قوله سبحان الله، والقيام: الاستعداد للصلاة و الهبوب من النوم وروى ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم، أي يقول القائم: سبحان الله وبحمده أو سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولا إله غيرك.
وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة: أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من جلس مجلسا فكثر فيه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية.
و {مِنَ اللَّيْلِ} أي زمنا هو بعض الليل، فيشمل وقت النهي للنوم وفيه تتوارد على الإنسان ذكريات مهماته، ويشمل وقت التهجد في الليل.
وقوله: {فَسَبِّحْهُ} اكتفاء، أي واحمده.
وانتصب {وَإِدْبَارَ النُّجُوم} على الظرفية لأنه على تقدير: ووقت إدبار النجوم.
والإدبار: رجوع الشيء من حيث جاء لأنه ينقلب إلى جهة الدبر، أي الظهر.
وإدبار النجوم: سقوط طوالعها، فإطلاق الإدبار هنا مجاز في المفارقة والمزايلة،
(27/93)
أي عند احتجاب النجوم. وفي الحديث "إذا أقبل الليل من ههنا" الإشارة إلى المشرق "وأدبر النهار من ههنا" الإشارة إلى جهة الغرب "فقد أفطر الصائم".
وسقوط طوالعها التي تطلع: أنها تسقط في جهة المغرب عند الفجر إذا أضاء عليها ابتداء ظهور شعاع الشمس، فإدبار النجوم: وقت السحر، وهو وقت يستوفي فيه الإنسان حظه من النوم ويبقى فيه ميل إلى استصحاب الدعة، فأمر بالتسبيح فيه ليفصل بين النوم المحتاج إليه وبين التناوم الناشىء عن التكاسل، ثم إن وجد في نفسه بعد التسبيح حاجة إلى غفوة من النوم اضطجع قليلا إلى أن يحين وقت صلاة الصبح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد صلاة الفجر حتى يأتيه المؤذن بصلاة الصبح.
والنجوم: جمع نجم وهو الكوكب الذي يضيء في الليل غير القمر، وتقدم قوله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ} في سورة النحل[12].
والآية تشير إلى أوقات الرغائب من النوافل وهي صلاة الفجر والأشفاع بعد العشاء وقيام آخر الليل. وقيل: أشارت إلى الصلوات الخمس بوجه الإجمال وبينته السنة.
(27/94)
سم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
سميت سورة النجم بغير واو في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه. وقال: يكفني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا الرجل أمية بن خلف. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون. فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم.
وسموها سورة والنجم بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .
ووقعت في المصاحف بالوجه وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ النجم أو حكاية لفظ والنجم .
وسموها {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس. وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم.
وهي مكية، قال ابن عطية: بإجماع المتأولين. وعن ابن عباس وقتادة: استثناء قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] الآية قالا: هي آية مدنية. وسنده ضعيف. وقيل: ونسب إلى الحسن البصري: أن السورة كلها مدنية، وهو شذوذ.
وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
(27/95)
وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور. نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.
وعد الجمهور العادين آيها إحدى وستين، وعدها أهل الكوفة أثنتين وستين.
قال ابن عطية: سبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك.
أغراض هذه السورة
أول أغراضها تحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما نبلغه عن الله تعالى وإنه منزه عما ادعوه.
وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل.
وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة.
وإبطال إلهية أصنام المشركين.
وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث.
وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة.
وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله. وذكر لذلك مثال من قصة الوليدين المغيرة، أو قصة ابن أبي سرح.
وإثبات البعث والجزاء.
وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الرسل أهل الشرائع.
وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا.
وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم.
(27/96)
وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين.
[1-3] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[1] مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى[2] وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [3]} .
كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والنجم: الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لامعا في جو السماء ليلا.
أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى.
وتعريف {النَّجْمُ} باللام، يجوز أن يكون للجنس كقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. وقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، ويتمل تعريف العهد. وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار، ومن أقوالهم: طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كمساء طلع النجم غدية وابتغى الراعي شكية تصغير شكوة وعاء من جلد يوضع فيه الماء واللبن يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحر.
وقيل {النَّجْمُ} الشعرى اليمانية وهي العبور وكانت معظمة عند العرب وعبدتها خزاعة.
ويجوز أن يكون المرادب {النَّجْمُ} الشهاب، وبهوية:سقوطه من مكانه إلى مكان آخر، قال تعالى :{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6،7] وقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
والقسم ب {النَّجْمُ} لما في خلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76].
وتقييد القسم بالنجم بوقت غروبه لإشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أوجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى، ولذلك قال إبراهيم {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76].
والوجه أن يكون {إِذَا هَوَى} بدل اشتمال من النجم، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هويه، ويكون {إِذَا} اسم زمان
(27/97)
مجردا عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم، وبذلك نتفادى من إشكا ل طلب متعلق {إِذَا} وهو إشكال أورده العلامة الجنزي1 على الزمخشري، قال الطيبي وفي المقتبس قال الجنزي: فاوضت جار الله في قوله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ما العامل في {إِذَا} ? فقال: العامل فيه ما تعلق به الواو, فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأم معناه قسم الآن, وليس معناه أقسم بعد هذا2 فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف تقديره: وهوي النجم إذا هوى, فعرضته على زين المشائخ3 فلم يستحسن قوله الثاني. والوجه أ ن {إِذَا} قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد, ونحوه: آتيك إذا احمر البسر, أي وقت احمراره فقد عري عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله: آتيك اهـ . كلام الطيبي, فقوله: فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشائخ أو من كلام صاحب المقتبس أو من كلام الطيبي, وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع {إِذَا} هنا, وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون إ ذا ظرفا للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في المفصل مع أن خروجها عن ذلك كما تواطأت عليه أقوال المحققين.
والهوي: السقوط, أطلق هنا على غروب الكوكب, استعير الهوي إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوي: سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء, فهو هوي حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه.
وفي ذكر {إِذَا هَوَى} احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقرارا لعبادة نجم الشعرى, وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهوي حالة انخفاض ومغيب في تخيل الرائي لأنهم يعدون طلوع النجم أوجا لشرفه ويعدون غروبه حضيضا, ولذلك قال الله تعالى :{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [ الأنعام: 76].
ـــــــ
1 هو عمر بن عثمان بن الحسن الجنزي بفتح الجيم وسكون النون نسبة إلى جنزة أعظم مدينة بأران قرأ على أبي المظفر الأبيوردي وتوفي بمرو سنة 550هـ.
2 يريد أن مقتضى حرف القسم فعل إنشائي حاصل في حال النطق ومقتضى إذا الزمن المستقبل فتنافيا.
3 هو محمد بن أبي القاسم بن بايجوك البقالي الأدمي أو الآدمي الخوارزمي النحوي أخذ اللغة والنحو عن الزمخشري ، وجلس بعد مكانه توفي سنة 562هـ عن نيف وسبعين سنة.
(27/98)
ومن مناسبات هذا يجيء قوله : {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} في هذه السورة, وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولا إلى الحق.
فيكون قوله : {إِذَا هَوَى} إشعارا بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله في مسيرة في نظام أوجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلا لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها.
وقال الراغب قيل أراد بذلك أي {النَّجْمُ} القرآن المنزل المنجم قدرا فقدرا, ويعني بقوله : {هَوَى} نزوله اه.
ومناسبة القسم ب {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} , أن الكلام مسوق لإثبات أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابه حال نزوله الاعتباري حال النجم في حالة هويه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منير إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية, شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله وهو تمثيل المعقول بالمحسوس, أو الإشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله, أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس, وقد يشبهون سرعة الجري بانقضاض الشهاب, قال أوس بن حجر يصف فرسا:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
والضلال: عدم الاهتداء إلى الكريق الموصول إلى المقصود, وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق.
والغواية: فساد الرأي وتعلقه بالباطل.
والصاحب: الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب, والمراد بالصاحب هنا: الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه, والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كقول أبي معبد الخزاعي الوارد في أثناء قصة الهجرة لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وفيها أم معبد وذكرت له معجزة مسحه على ضرع شاتها هذا صاحب قريش , أي صاحب الحوادث الحادثة بينه وبينهم.
وإيثار التعبير عنه بوصف {صَاحِبُكُمْ} تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة اطلاعهم على أحواله وشؤونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة
(27/99)
علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم. ووقع في خطبة الحجاج بعد دير الجماجم قوله للخوارج ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر يريد أنه لا تخفى عنه أحوالهم فلا يحاولون التنصل من ذنوبهم بالمغالطة والتشكيك.
وهذا رد من الله على المشركين وإبطال في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا: مجنون, وقالوا: شاعر, وقالوا في القرآن: إن هذا إلا اختلاق.
فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب, والكذب والسحر ضلال وغواية, والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية.
وعطف على جواب القسم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وهذا وصف كمال لذاته. والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان:4] وقالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5 ] وذلك ونحوه لا يعدو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يجترع وما يختار بقطع النظر عن كونه حقا أو باطلا، فإن من الشعر حكمة، ومنه حكاية واقعات، ومنه تخيلات ومفتريات. وكله ناشئ عن محبة الشاعر أن يقول ذلك، فأراهم الله أن القرآن داع إلى الخير.
و"ما" نافية نفت أن ينطق عن الهوى.
والهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل.
ونفي النطق عن هوى يقتضي نفي جنس ما ينطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم.
واعلم أن تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة. ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمزح ولا يقول إلا حقا وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} .
وبين {هَوَى} و {الهوى} جناس شبه التام.
(27/100)
[ 4-10] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
استئناف بياني لجملة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [لنجم:3].
وضمير {هُوَ} عائد إلى المنطوق به المأخوذ من فعل ٌ {يَنْطِقُ} كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائد:8] أي العدل المأخوذ من فعل {اعْدِلُوا} .
ويجوز أن يعود الضمير إلى معلوم من سياق الرد عليهم لأنهم زعموا في أقوالهم المردودة بقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] زعموا القرآن سحرا، أو شعرا، أو كهانة، أو أساطير الأولين، أو إفكا افتراه.
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بغير القرآن عن وحي كما في حديث الحديبية في جوابه للذي سأله: وما يفعل المعتمر? وكقوله "إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها" ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها قال الله تعالى ونحوه.
وفي سنن أبي داود و الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" .
وقد ينطق عن اجتهاد كأمره بكسر القدور التي طبخت فيها الحمر الأهلية فقيل له: أونهريقها ونغسلها? فقال: "أو ذاك".
فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها كان نزولها في أول أمر الإسلام وإن كان الأصح أن يجوز له الاجتهاد وأنه وقع منه وهي من مسائل أصول الفقه.
والوحي تقدم عند قوله تعالى :{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} في سورة النساء[163] وجملة {يُوحَى} مؤكدة لجملة { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} مع دلالة المضارع على أن ما ينطق به متجدد وحيه غير منقطع.
(27/101)
ومتعلق {يُوحَى} محذوف تقديره: إليه، أي إلى صاحبكم.
وترك فاعل الوحي لضرب من الإجمال الذي يعقبه التفصيل لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
وجملة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} الخ، مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان كيفية الوحي.
وضمير الغائب في {عَلَّمَهُ} عائد إلى الوحي، أو إلى ما عاد إليه ضمير {هُوَ} من قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} وضمير {هُوَ} يعود إلى القرآن، وهو ضمير في محل أحد مفعولي علم وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: علمه إياه، يعود إلى {صَاحِبُكُمْ} ، ويجوز جعل هاء {عَلَّمَهُ} عائدا إلى {صَاحِبُكُمْ} والمحذوف عائد إلى {وَحْيٌ} إبطالا لقول المشركين {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
و علم هنا متعد إلى مفعولين لأنه مضاعف علم المتعدي إلى مفعول واحد.
و {شَدِيدُ الْقُوَى} : صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شؤون الملائكة، أي ملك شديد القوى. واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه السلام.
والمراد ب {الْقُوَى} استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقلية والجسمانية، فهو الملك الذي ينزل على الرسل بالتبليغ.
والمرة، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله ووصف بشديد القوى، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء، ولذلك لما ناول الملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء كأس لبن وكأس خمر، فاختار اللبن قال له جبريل: اخترت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك.
وقوله: {فَاسْتَوَى} مفرع على ما تقدم من قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.
والفاء لتفصيل {عَلَّمَهُ} ، والمستوي هو جبريل. ومعنى استوائه: قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله، كما يقال: استقل قائما، ومثل: بين يدي فلان، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيؤ لقبول الرسالة من عند الله، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} . والضمير لجبريل لا محالة، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي.
والأفق: اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طرف منتهى النظر من الأرض وبين
(27/102)
منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب.
ووصفه ب {الْأَعْلَى} في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء. وذكر هذا ليرتب عليه قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} .
{ثُمَّ} عاطفة على جملة {فَاسْتَوَى} ، والتراخي الذي تقيده {ثُمَّ} تراخ رتبي لأن الدنو يبلغ الوحي هو الأهم في هذا المقام.
والدنو: القرب، وإذ قد كان فعل الدنو قد عطف ب {ثُمَّ} على {فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} علم أنه دنا إلى العالم الأرضي أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتدلى: انخفض من علو قليلا، أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدليا، وهو ينزل من السماء غير منقض.
وقاب، وقيل معناه: قدر. وهو واوي العين، ويقال: قاب وقيب بكسر القاف، وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين. وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس أي وسط عوده المقوس وما بين سيتيها أي طرفيها المنعطف الذي يشد به الوتر فللقوس قابان وسيتان، ولعل هذا الإطلاق هو الأصل للآخر، وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد.
وعلى كلا التفسيرين فقوله: {قَابَ قَوْسَيْنِ} أصله قابي قوس أو قابي قوسين بتثنية أحد اللفظين المضاف والمضاف إليه، أو كليهما فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنبا لثقل المثنى كما في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أي قلباكما.
وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذراع يذرع به ولعله ذا مصدر قاس فسمي به ما يقاس به
والقوس: آلة من عود نبع، مقوسة يشد بها وتر من جلد ويرمي عنها السهام. والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب.
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع
(27/103)
بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئا يشق عليه، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغط قال النبي صلى الله عليه وسلم "فغطني حتى بلغ مني الجهد" ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثر وسورة المزمل قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة أنه جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيان الإيمان والإسلام بقوله إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته "يا عمر أتدري من السائل? قال عمر: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
وقوله: {أَوْ أَدْنَى} {أَوْ} فيه للتخيير للتقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخير بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقرير لا مبالغة فيه.
وتفريع {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} على قوله: {فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} المفرع على المفرع على قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبين لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالا، وهذه كيفية من صور الوحي.
وضمير {أَوْحَى} عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} كما تقدم، والمعنى: فأوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كاف في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإيحاء لإبطال إنكارهم إياه.
وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان {عَبْدِهِ} إظهار في مقام الإضمار في اختصاص الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.
(27/104)
وفي قوله: {ما أَوْحَى} إيهام لتفخيم ما أوحى إليه.
[11،12] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [11] أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [12]} .
الأظهر أن هذا رد لتكذيب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الملك جبريل وهو الذي يؤذن به قوله بعد {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} .
واللام في قوله: {الْفُؤَادُ} عوض عن المضاف إليه، أي فؤاده وعليه فيكون تفريغ الاستفهام في قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} استفهاما إنكاريا لأنهم ماروه.
ويجوز أن يكون قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} تأكيدا لمضمون قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [لنجم: 9] فإنه يؤذن بأنه بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم برفع احتمال المجاز في تشبيه القرب، أي هو قرب حسي وليس مجرد اتصال روحاني فيكون الاستفهام في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} مستعملا في الفرض والتقدير، أي أفستكذبونه فيما يرى بعينيه كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله، كما يقول قائل أتحسبني غافلا وقول عمر بن الخطاب للعباس وعلي في قضيتهما أتحاولان مني قضاء غير ذلك.
وقرأ الجمهور {مَا كَذَبَ} بتخفيف الذال، وقرأه هشام عن ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الذال، والفاعل والمفعول على حالهما كما في قراءة الجمهور.
والفؤاد: العقل في كلام العرب قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [القصص: 10].
والكذب: أطلق على التخييل والتلبيس من الحواس كما يقال: كذبته عينه.
و {مَا} موصولة، والرابط محذوف وهو ضمير عائد إلى {عَبْدِهِ} في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [لنجم: 10] أي ما رآه عبده ببصره.
وتفريع {أَفَتُمَارُونَهُ} على جملة {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} .
وقرأ الجمهور {أَفَتُمَارُونَهُ} من المماراة وهي الملاحات والمجادلة في الإبطال. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف {أفتما رونه} بفتح الفوقية وسكون الميم مضارع مراه إذا جحده، أي أتجحدونه أيضا فيما رأى، ومعنى القراءتين متقارب.
وتعدية الفعل فيهما بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة، أي هبكم غالبتموه على
(27/105)
عبادتكم الآلهة، وعلى الإعراض عن سماع القرآن ونحو ذلك أتغلبونه على ما رأى ببصره.
[ 13-18] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [13] عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [14] عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [15] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [16] مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [17] لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [18]} .
أي إن كنتم تجحدون رؤيته في الأرض فلقد رآه رؤية أعظم منها إذ رآه في العالم العلوي مصاحبا، فهذا من الترقي في بيان مراتب الوحي، والعطف عطف قصة على قصة أبتدئ بالأضعف وعقب بالأقوى.
فتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق لأجل ما في هذا الخبر من الغرابة من حيث هو قد رأى جبريل ومن حيث أنه عرج به إلى السماء ومن الأهمية من حيث هو دال على عظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم، فضمير الرفع في {رَآهُ} عائد إلى {صَاحِبُكُمْ} [لنجم: 2]، وضمير النصب عائد إلى جبريل.
و {نَزْلَةً} فعل من النزول فهو مصدر دال على المرة: أي في مكان آخر من النزول الذي هو الحلول في المكان، ووصفها ب {أُخْرَى} . بالنسبة إلى ما في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [لنجم:8] فإن التدلى نزول بالمكان الذي بلغ إليه.
وانتصاب {نَزْلَةً} على نزع الخافض، أو على النيابة عن ظرف المكان، أو على حذف مضاف بتقدير: وقت نزلة أخرى: فتكون نائبا عن ظرف الزمان.
وقوله: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} متعلق ب {رَآهُ} وخصت بالذكر رؤيته عند سدرة المنتهى لعظيم شرف المكان بما حصل عنده من آيات ربه الكبرى ولأنها منتهى العروج في مراتب الكرامة.
و {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} اسم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة، وقد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة.
ولعله شبه ذلك المكان بالسدرة التي هي واحدة شجر السدر إما في صفة تفرعه، وإما في كونه حدا انتهى إليه قرب النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع لم يبلغه قبله ملك. ولعله مبني على إصلاح عندهم بأن يجعلوا في حدود البقاع سدرا.
(27/106)
إضافةَ {سِدْرَةِ} إلى {الْمُنْتَهَى} يجوز أن تكون إضافية بيانية. ويجوز كونها تعريف السدرة بمكان ينتهي إليه لا يتجاوزه أحد لأن ما وراءه لا تطيقه المخلوقات.
والسدرة: واحدة السدر وهو شجر النبق قالوا: ويختص بثلاث أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فجعلت السدرة مثلا المكان ما جعلت النخلة مثلا للمؤمن.
وفي قوله: {مَا يَغْشَى} إبهام للتفخيم الإجمالي وأنه تضيق عنه عبارات الوصف في اللغة.
وجنة المأوى: الجنة المعروفة بأنها مأوى المتقين فإن الجنة منتهى مراتب ارتقاء الأرواح الزكية. وفي حديث الإسراء بعد ذكر سدرة المنتهى "ثم أدخلت الجنة".
وقوله :{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ظرف مستقر في موضع الحال من {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أريد به التنويه بما حف بهذا المكان المسمى سدرة المنتهى من الجلال والجمال. وفي حديث الإسراء "حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي" . وفي رواية "غشيها نور من الله ما يستطيع أحد أن ينظر إليها" ، وما حصل فيه للنبي صلى الله عليه وسلم من التشريف بتلقي الوحي مباشرة من الله دون واسطة الملك ففي حديث الإسراء "حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة" الحديث.
وجملة {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} معترضة وهي في معنى جملة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إلى آخرها، أي رأى جبريل رؤية لا خطأ فيها ولا زيادة على ما وصف، أي لا مبالغة.
والزيغ: الميل عن القصد، أي ما مال بصره إلى مرئي آخر غير ما ذكر، والطغيان: تجاوز الحد.
وجملة {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} تذييل، أي رأى آيات غير سدرة المنتهى، وجنة المأوى، وما غشي السدرة من البهجة والجلال، رأى من آيات الله الكبرى.
والآيات: دلائل عظمة الله تعالى التي تزيد الرسول ارتفاعا.
[19-23 ] {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [19]وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [20] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
(27/107)
الْأُنْثَى [21] تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى [22] إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي: اللات، والعزى، ومناة التي هي أحجار مقرها الأرض لا تملك تصرفا ولا يعرج بها إلى رفعة. فكان هذا التضاد جامعا خياليا يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته.
فانتقل الكلام من غرض إثبات النبي صلى الله عليه وسلم موحى إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام، ومناط الإبطال قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [لنجم:12] المفرعة على جملة {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [لنجم:11].
والروية في {أَفَرَأَيْتُمْ} يجوز أن تكون بصرية تتعدى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولا ثانيا ويكون الاستفهام تقريريا تهكميا، أي كيف ترون اللات والعزى ومناة بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تهكم بهم وإبطال لإلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان. وأكثر استعمال َ أَرَأَيْتَ أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضي الدين.
وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الخ استئنافا وارتقاء في الرد أو بدل اشتمال من جملة {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} لأن مضمونا مما تشتمل عليه مزاعمهم، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب الكشاف وسياق الآيات يقتضيه.
ويجوز أن يكون الرؤية علمية، أي أزعمتم اللات والعزى ومناة فحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} عليه والتقدير: أزعمتموهن بنات
(27/108)
الله، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور، وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الخ بيانا للإنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور.
وجعل صاحب الكشف قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} سادا ومسد المفعول الثاني أرأيتم.
وأيضا لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حضي بها النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعد قدرة الله تعالى وعظيم ملوكته مما يسجل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناما مثل اللات والعزى ومناة. فساد زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مخيلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق ففرع {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الخ فيكون الاستفهام تقريريا إنكاريا، والرؤيا علمية والمفعول الثاني هو قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} .
وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} الخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإنكار، أي وزعتموهن بنات لله أو وزعتموهم الملائكة بنات لله.
وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعا مقصود في هذا المقام.
ولك أن تجعل فعل أرأيتم على اعتبار الرؤية علمية معلقا عن العمل لوقوع {إِنَّ} النافية بعده في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} وتجعل جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} إلى قوله: {ضِيزَى} اعتراضا.
واللات: صنم كان لتثقيف بالطائف، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه، وله شهرة عند قريش، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء. وقال الفخر: كان على صورة إنسان،وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان.
والألف واللام في أول {اللَّاتَ} زائدتان. و"أل" الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله: لات، بمعنى معبود، فلما أرادوا جعله علما على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في {اللَّهِ} فإن أصله إله. ويوفق عليه بسكون تاءه في الفصحى.
وقرأ الجمهور: {اللَّاتَ} بتخفيف المثناة الفوقية. وقرأ رويس عن يعقوب بتشديد
(27/109)
التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيرا من العرب يقولون: أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلت السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبدا.
و {العزى} : فعل من العز: اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر: كان على صورة نبات ولعله يعني: أن الصخرة فيها صورة شجر، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان الجمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أحد يخاطب المسلمين لنا العزى ولا عزى لكم.
وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذ شرعوا في عمل قالوا: باسم اللات باسم العزى.
وأما {وَمَنَاةَ} فعلم مرتجل، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بها تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء، ويكون ممنوعا من الصرف، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفا لأن تاء لات مثل باء باب، وأصله: منوة بالتحريك وقد يمد فيقال: منآءة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعا لخط المصحف، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذو قديد بين مكة والمدينة، وكان الأوس والخزرج يطوفون حوله في الحج عوضا عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعوا بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} كما تقدم عن حديث عائشة في الموطا في سورة البقرة[158 ].
وقرأ الجمهور {وَمَنَاةَ} بتاء بعد الألف وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين. والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعا لرسم المصحف فتكون التاء حرفا من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء {اللَّاتَ} ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس.
ووصفها بالثالثة لأن ثالثة في الذكر وهو صفة كاشفة، ووصفها بالأخرى أيضا صفة كاشفة لأن كونها ثالث في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع، فالحاصل من الصفتين تأكيد ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك، فاللات في أعلى تهامة بالطائف، والعزى في وسطها بنخلة بين مكة والطائف، ومناة بالمشلل بين مكة
(27/110)
والمدينة فهي ثالثة البقاع.
وقال ابن عطية: كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدرا وأكثرها عبادة ولذلك قال تعالى: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فأكدها بهاتين الصفتين.
والأحسن أن قوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظن أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا وفلان هو الآخر ووجهه هنا أن عباد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه.
وجملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ارتقاء في الإبطال والتهكم والتسفيه كما تقدم، وهي مجاراة لاعتقادهم أن تلك الأصنام الثلاثة بنات الله وأن الملائكة بنات الله، أي اجعلتم لله بنات خاصة وانتم تعلمون أن لكم أولادا ذكورا وإناثا وأنكم تفضلون الذكور وتكرهون الإناث وقد خصصتم الله بالإناث دون الذكور والله أولى بالفضل والكمال لو كنتم تعلمون فكان في هذا زيادة تشنيع لكفرهم إذ كان كفرا وسخافة عقل.
وكون العزى ومناة عندهم انثتين ظاهر من صيغة أسميهما، وأما اللات فبقطع النظر عن اعتبار التاء في الاسم علامة تأثيث أو أصلا من الكلمة فهم كانوا يتوهمون اللات أنثى، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لعروة بن مسعود الثقفي يوم الحديبية أمصص أو أعضض بظر اللات.
وتقديم المجرورين في {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} للاهتمام بالاختصاص الذي أفاده اللام اهتماما في مقام التهكم والتسفيه على أن في تقديم {وَلَهُ الْأُنْثَى} إفادة الاختصاص أي دون الذكر.
وجملة {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ، أي قد جرتم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإنكار.
والإشارةب {تِلْكَ} إلى المذكور باعتبار عنه بلفط {قِسْمَةٌ} فإنه مؤنث اللفظ.
و {َإِذَن} حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإنكاري، أي يترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضيزى، أي قسمتم قسمة جائزة.
(27/111)
و {ضِيزَى} : وزنه فعلى بضم الفاء من ضازه حقه، إذا نقصه، وأصل عين ضاز همزة، يقال: ضازه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا: ضازه بالألف. ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي: يجوز ضاز يضيز، وضازة يضوز. وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تلحقه بالواو أو الياء، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا: ضازه حقه ضيزا ولم يقولوا ضوزا لأن الضوز لوك التمر في الفم، فأرادوا التفرقة بين المصدرين، وهذا من محاسن الاستعمال. وعن المورج السدوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا: ضيزى. كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى.
ووزن {ضِيزَى} فعلى اسم تفصيل مثل كبرى وطوبى شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حركوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واوا فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج. وهذا كما فعلوا في بيض جمع ابيض ولو اعتبروه تفضيلا من ضاز يضوز لقالوا: ضوزى ولكنهم أهملوه.
وقيل: وزن {ضِيزَى} فعلى بكسر الفاء على أنه أسم مثل دفلى وشعرى، ويبعد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر. قال سيبويه: لا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات، أو على أنه مصدر مثل ذكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية.
وقرأ الجمهور {ضِيزَى} بياء ساكنة بعد الضاد، وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفا. وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته.
وجملة {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} استئناف يكر بالإبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم متوهم إنكار نسبتهم البنات لله انه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولادا ذكورا وإناثا أو أن مصب الإنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات. والضمير {هِيَ} عائد إلى اللات والعزى ومناة. وما صدق الضمير الذات والحقيقة، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماء لا مسميات لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40].
والقصر إضافي، أي هي أسماء لا حقائق عاقلة متصرفة كما تزعمون، وليس القصر
(27/112)
حقيقيا لأن لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة.
وجملة {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة.
وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحدا من رسله بأن للأصنام أرواحا أو ملائكة، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين.
والسلطان: الحجة، وإنزالها من الله: الإخبار بها، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها، فنفي إنزال الحجة بها من باب:
على لا حب لا يهتدي بمناره
أي لا منار له فيهتدي به.
وعبر عن الإخبار الموحى به بفعل أنزل لأنه إخبار يرد من العالم العلوي فشبه بالدلاء جسم من أعلى إلى أسفل.
وكذلك عبر عن إقامة دلائل الوجود بالإنزال لأن النظر الفكري من خلق الله وشبه بالإنزال كقوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فاستعمال {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} من استعمال اللفظ في معنييه المجازيين. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} في سورة الحج،[17] وتقدم في سورة يوسف[40 ] قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
وأكد نفي إنزال السلطان بحرف "من" الزائدة لتوكيد نفي الجنس.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات، وهو استئناف بياني فضمير {يَتَّبِعُونَ} عائد إلى الذين كان الخطاب موجها إليهم.
(27/113)
أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيها يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأماني محبوبة لهم يعيشون في غرورها.
وجيء بالمضارع في {يُتْبِعُونَ} للدلالة على أنهم سيسمرون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على انهم اتبعوا ذلك من قبل بدلاله لحن الخطاب أو فحواه.
وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقا بالمغيبات كما في قوله تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ} في سورة البقرة[46] وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} في سورة الأنعام[116] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وهو المراد هنا بقرينة عطف {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} عليه كما عطف {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} على نظيره في سورة الأنعام، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالبا كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حسن أو ذم على حسب الأدلة، ولذلك استنبط علماؤنا إن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة.
والمراد ب {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} : ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني، دون الأدلة فإن كل الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حبه إلا قبولا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمساجد" وقال "وجعلت قرة عيني في الصلاة" .
فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم.
ثم أن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاما ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها، فمنه محمود ومنه مذموم، كما قال تعالى {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقيل: الحزن سوء الظن بالناس.
والتعريف في {الْأَنْفُسُ} عوض عن المضاف إليه، أي وما تهواه أنفسهم و {مَا} .
(27/114)
الموصولة.
وعطف {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} على الظن عطف العلة على المعلول،أي الظن الذي يبعثهم على اتباعهم انه موافق لهداهم وإلفهم.
وجملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} حالية مقررة للتعجيب من حالهم، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أريل إليهم رسولا بالهدى.
ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمرارا لا يظن مثله بعاقل.
والتعبير عن الجلالة بعنوان {رَبِّهِمْ} لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطا بالعصيان والتمرد على خالقهم.
والتعريف في {الْهُدَى} للدلالة على معنى الكمال، أي الهدى الواضح.
[24،25] {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} .
إضراب انتقالي ناشئ عن قوله: و {مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [ النجم: 23].
والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكاري قصد به إبطال نوال الإنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثا عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه. وهذا متصل بقوله :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفا للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس ووقوعه في حيز الإنكار المساوي للنفي جعله عاما في كل إنسان.
والموصول في {مَا تَمَنَّى} بمنزلة المعرف بلام الجنس ووقوعه في حيز الاستفهام الإنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم، أي ما للإنسان شيء مما تمنى، أي ليس الشيء جاريا على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن
(27/115)
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم وذلك ما يؤفن به قوله بعد هذا {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} [النجم:6 2]. وتمنيهم أن يكون الرسول ملكا وغير ذلك نحو قوله {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [ يونس:15].
وفرع على الإنكار أن الله مالك الآخرة والأولى، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإنسان. وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم.
وتقديم المجرور في {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} لأن محط الإنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يعرضون عن كل ما يخالف أهوائهم، فتقديم المعمول هنا لإفادة القصر وهو قصر قلب، أي ليس ذلك مقصورا عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنون، أي بل أماني الإنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقول: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} .
وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإنسان في أن يكون ويتمناه حاصلا رغبة لو تبصر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذرا لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أعطي لأحد ما يتمناه حرم من يتمنى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة، ولكل أحد نصيب، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضا بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة. وفي الحديث "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعد فإن لها ما كتب لها" .
وتفريع {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} تصريح بمفهوم القصر الإضافي كما علمت آنفا. وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي لله لا للإنسان.
{والآخرة} : العالم الأخروي، {والأولى} : العالم الدنيوي. والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور، أي أمور الآخرة وأمور الأولى، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله :{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17].
وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلا أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأن الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، مع ما في هذا التقديم من
(27/116)
الرعاية للفاصلة.
[26] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}
لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإنسان ما تمنى، ضرب لذلك مثالا من الأماني التي هي أعظم أماني المشركين وهي قولهم في الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولهم :{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [ يونس: 18]، فبين إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع اذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين اللذين يقولون َ {هؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله، وقد نفى الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملة {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] وليس هذا الانتقال اقتضابا لبين عظم أمر الشفاعة.
و {كَمْ} اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم} .
وقد تقدم الكلام على {كَمْ} في قوله تعالى {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} في سورة البقرة[211]، وقوله :{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ َهْلَكْنَاهَا} لأعراف: [4].
و {فِي السَّمَاوَاتِ} صفة ل {مُلْكِ} والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار.
وجملة {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم} الخ، خبر عن {كَمْ} ، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام بوقوع الفعل في سياق النفي، ولإضافة شفاعة إلى ضميرهم، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلو مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم.
و {شَيْئاً} مفعول مطلق للتعميم، أي شيئا من الإغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم.
(27/117)
ولما كان ظاهر قوله : {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم وليس ذلك مرادا لأن المراد أنهم لا يجرأون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله : {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، وذلك ما اقتضاه قوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة 225] أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له.
فالمراد ب {لمن َْ يَشَاءُ} من يشاؤه الله منهم، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته. واللام في قوله {لمن َْ يَشَاءُ} هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم عن حد قوله تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وليست اللام متعلقة ب {يَأْذَنَ اللَّهُ} ومفعول يأذن محذوف دل علي قوله: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} ، وتقديره: أن يأذنهم الله.
ويجوز أن تكون اللام لتعدية {يَأْذَنَ} إذ أريد به معنى يستمع، أي أن يظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه. ومعنى ذلك أن الملائكة لا يزالون يتقربون بطلب إلحاق المؤمنين بالمراتب العليا كما دل عليه قوله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُ} [غافر:8] وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5] فإن الاستغفار دعاء والشفاعة توجه أعلى، فالملائكة يعلمون إذ أراد الله استجابة دعوتهم في بعض المؤمنين أذن لأحدهم أن يشفع له عند الله فيشفع فتقبل شفاعته، فهذا تقريب كيفية الشفاعة. ونظيره ما ورد في حديث شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في موقف الحشر.
وعطف {وَيَرْضَى} على {لِمَنْ يَشَاءُ} للإشارة إلى أن إذن الله بالشفاعة يجري على حسب إرادته إذا كان المشفوع له أهلا لن يشفع له. وفي هذا الإبهام تحريض للمؤمنين أن يجتهدوا في التعرض لرضى الله عنهم ليكونوا أهلا للعفو عما فرطوا فيه من الأعمال.
[27،28] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى [27] وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} .
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} .
اعتراض واستطراد لمناسبة ذكر الملائكة وتبعا لما ذكر آنفا من جعل المشركين اللات والعزى ومناة بنات لله بقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} إلى قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَر ُ
(27/118)
وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم :19] ثني إليهم عنان الرد والإبطال لزعمهم أن الملائكة بنات الله جمعا بين رد باطلين متشابهين، وكان مقتضى الظاهر أن يعبر عن المردود عليهم بضمير الغيبة تبعا لقوله {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]، فعدل عن الإضمار إلى الإظهار بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التوبيخ لهم والتحقير لعقائدهم إذ كفروا بالآخرة وقد تواتر على ألسنة الرسل وعند أهل الأديان المجاورين لهم من اليهود والنصارى والصابئة، فالموصولية هنا مستعملة في التحقير والتهكم نظير حكاية الله عنهم {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] إلا أن التهكم المحكي هنالك تهكم المبطل بالمحق لأنهم لا يعتقدون وقوع الصلة، وأما التهكم هنا فهو تهكم المحق بالمبطل لأن مضمون الصلة ثابت لهم.
والتسمية مطلقة هنا على التوصيف لأن الاسم قد يطلق على اللفظ الدال على المعنى وقد يطلق على المدلول المسمى ذاتا كان أو معنى كقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي السلام عليكما، وقوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وقوله تعالى {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [ الإنسان:18] أي توصف بهذا الوصف في حسن مآبها، وقوله تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، أي ليس لله مثيل وقد مر بيانه مستوفي عند تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الفاتحة[:1].
والمعنى: أنهم يزعمون الملائكة إناثا وذلك توصيف قال تعالى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] وكانوا يقولون الملائكة بنات الله من سروات الجن قال تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] وقال {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158].
والتعريف في {الْأُنْثَى} تعريف الجنس الذي هو في معنى المتعدد والذي دعا إلى هذا النظم مراعاة الفواصل ليقع لفظ {الْأُنْثَى} فاصلة كما وقع لفظ {الْأُولَى} ولفظ {يَرْضَى} ولفظ {شَيْئاً} .
وجملة {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من ضمير {يسَمُّونَ} ، أي يثبتون للملائكة صفات الأنثى في حال انتفاء علم منهم بذلك وإنما هو تخيل وتوهم إذ العلم لا يكون إلا عن دليل لهم فنفي العلم مراد به نفيه ونفي الدليل على طريقة الكناية.
(27/119)
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} .
موقع هذه الجملة ذو شعب: فإن فيها بيانا لجملة {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} وعودا إلى جملة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} ، وتأكيدا لمضمونها وتوطئة لتفريع {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم:29].
واستعير الاتباع للأخذ بالشيء واعتقاد مقتضاه أي ما يأخذون في ذلك إلا بدليل الظن المخطئ.
وأطلق الضن على الاعتقاد المخطئ كما هو غالب إطلاقه مع قرينة قوله عقبه {وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} وتقدم نظيره آنفا.
وأظهر لفظ {الظَّنَّ} دون ضميره لتكون الجلة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال.
ونفي الإغناء معناه نفي الإفادة، أي لا يفيد شيئا من الحق فحرف {من} بيان وهو مقدم على المبين أعني شيئا.
و {شَيْئاً} منصوب على المفعول به ل {يُغْنِي} .
والمعنى: أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم المعرف بأنه تصور المعلوم على ما هو عليه والظن لا يفيد ذلك الإدراك بذاته فلو صادف الحق فذلك على وجه الصدفة والاتفاق، وخاصة الظن المخطئ كما هنا.
[29،30] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم فرع عليه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم ذلك لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو التولي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإعراض إعراضا عنهم فإن الإعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب {مَنْ تَوَلَّى} الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفا بقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىْ} [النجم:2] وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [لنجم:19] والمخبر عنهم بقوله {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} الخ وقوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النجم: 27] الخ.
(27/120)
والإعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه؛ فأما الإعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال.
وحقيقة الإعراض: لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه.
وحقيقة التولي: الإدبار والانصراف، وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإرشاد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال.
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63] وقوله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} في سورة الأنعام[106]، فضم إليه ما هنا.
وما صدق {مَنْ تَوَلَّى} القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ {مَنْ} ألا ترى قوله {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ} بضمير الجمع.
وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار فقيل {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} دون: فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه.
والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن.
ومعنى {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} كناية عن عدم الإيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادوها ولو ببعض أعمالهم.
وجملة {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} اعتراض وهو استئناف بياني بين به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم.
(27/121)
وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل وعلتها في قوله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية.
وأعني حاصل قوله :{وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
وقوله: {ذَلِكَ} :إشارة إلى المذكور في الكلام السابق من قوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} استعير للشيء الذي لم يعلموه اسم الحد الذي يبلغ إليه السائر فلا يعلم ما بعده من البلاد.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .
تعليل لجملة وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والخبر مستعمل في معنى أنه متولي حسابهم وجزائهم على طريقة الكناية، وفيه وعيد للضالين. والتوكيد المفاد ب {إِنَّ} وبضمير الفعل راجع إلى المعنى الكنائي، وأما كونه تعالى أعلم بذلك فلا مقتضى لتأكيدها لما كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: هو أعلم منك بحالهم.
وضمير الفصل مفيد القصر وهو قصر حقيقي. والمعنى: أنت لا تعلم دخائلهم فلا تتحسر عليهم.
وجملة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} تتميم، وفيه وعد للمؤمنين وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم. والباء في ب {مَنْ ضَلَّ} في ب {مَنِ اهْتَدَى} لتعدية صفتي {أَعْلَمُ} وهي للملابسة، أي هو أشهد علما ملابسا لمن ضل عن سبيله، أي ملابسا لحال هذا المقام، وأما ذكر المهتدين فتتميم.
[31 -32] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
عطف على قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [لنجم:25] انتقل إلى أهم ما يجزي في
(27/122)
الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [لنجم: 30] المراد به الإشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء.
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} الآية مقترنا بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر.
فيجوز أن يتعلق قوله: {لِيَجْزِيَ} بما في الخبر من معنى الكون المقدر في الجار والمجرور المخبر به عن{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي كائن ملكا لله كونا علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض، وهم الذين يصدر منهم الإساءة والإحسان فاللام في قوله {ليجزي} لام التعليل، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السماوات والأرض.
ومعنى هذا التعليل أن من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطا أوليا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد، فأن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشىء عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم إن لها حياتين وإن لها أفعالا حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالدا في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غاية لإيجاد على الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرها لأن العلة الباعثة يكمن تعددها في الحكمة.
ويجوز أن يتعلق بقوله: {أَعْلَمُ} من قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النجم: 30]، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتبا عليه الجزاء.
والباء في قوله: {بِمَا عَمِلُوا} وقوله: {بِالْحُسْنَى} لتعديد فعلي {لِيَجْزِيَ} و {يَجْزِي} فما بعد الباءين في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء وقوله: {بِمَا عَمِلُوا} حين إذ تقديره: بمثل ما عملوا، أي جزاء عاملا مماثلا لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ.
(27/123)
وقوله: {بِالْحُسْنَى} أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة مضاعفة الحسنات كقوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89]. والحسنى: صفة لموصوف محذوف يدل عليه {يَجْزِي} وهي المثوبة بمعنى الثواب.
وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} على طريقة اللف والنشر المرتب.
وقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ} الخ صفة {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} ، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى. وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعد من الإحسان لأن الفعل السيئات ينافي وصفهم بالذين احسنوا فانهم إذا آتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات السيئات.
وقرأ الجمهور {كَبَائِرَ الْأِثْمِ} بصيغة جمع كبيرة . وقرأه حمزة والكسائي {كَببيرَ الْأِثْمِ} بصيغة الإفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.
والمراد بكبائر الإثم: الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد دين التحذير منه أو ذكر وعيدا بالعذاب أو وصف على فاعله حدا.
قال إمام الحرمين: الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبرقة ديانته.
وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثما.
والفواحش: الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزا الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة، وقد تقدم في تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [لأعراف: 33] الآية وفي سورة النساء[ 13] في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} .
واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإثم ولا من الفواحش.
فالاستثناء بمعنى الاستدراك. ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر
(27/124)
منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العمة فلكي لا يعامل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يفل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم ولينصرف اهتمام إلى تجنب الكبائر. فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم. وقد أخطأ وضاح اليمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته:
فما نولت حتى تضرعت عندها ... وأنبأتها ما رخص الله في اللمم
واللمم: الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفي منهم بعدم الإكثار من ارتكابه. وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر. بالكبائر.
فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة. سمي: اللمم، وهو اسم مصدر ألم بالمكان إلماما إذا حل به ولم يطل المكث، ومن أبيات الكتاب:
قريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نبهان التمار كان له دكان يبيع فيه تمرا أي بالمدينة فجاءته امرأة تشتري تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته أي غصبا عليها إلا الجماع" ، فنزلت هذه الآية، أي فتكون هذه الآية مدنية ألحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة.
والمعنى: أن الله تجاوز له لأجل توبته. ومن المفسرين من فسر اللمم بالهم بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي.
وقوله {إِن َّرَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإثم والفواحش شرطا في ثبوت وصف {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} لهم.
وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه: {رَبُّكَ} دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق.
وفي إضافة "رب" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته.
(27/125)
والواسع: الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحل فيه قال تعالى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} وتقدم في سورة غافر [7].
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمَْجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
الخطاب للمؤمنين، ووقوعه عقب قوله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ينبئ عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير موجه لليهود كما في أسباب النزول للواحدي وغيره. وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري. قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون: هو صديق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد" ، فأنزل الله هذه الآية. وعبد الله بن لهيعة ضعفه ابن معين وتركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. وقال الذهبي: العمل على تضعيفه، قلت: لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال: فانزل الله هذه الآية، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذا بعموم قوله {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الخ، حجة عليهم، وإلا فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة.
وقال ابن عطية: حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم. وكأن الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عما لو أخذهم به لأحرجهم فقوله {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} نظير قوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [لأنفال: 66] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} .
فينبغي أن تحل جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخرها استئنافا بيانيا} لجملة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} لما تضمنته جملة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} من الامتنان، فكأن السامعين لما يسمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيرا من بله ما اطلعتم عليه" .
(27/126)
وقوله {إِذْ أَنْشَأَكُمْ} ظرف متعلق ب {أَعْلَمُ} أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم.
والمعنى: أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم. وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإسراء من قول موسى لمحمد عليهما السلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة إن أمتك لا تطيق ذلك وأني جربت بني إسرائيل أي وهم أشد من أمتك قوة، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقررفي علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء:28]، فإن إنشاء أصل الإنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج" .
وقوله {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو مقتضى قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
والأجنة: جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث.
و {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه.
وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيرا باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.
وجملة {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} اعتراض بين جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} وجملة {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [لنجم:33] الخ، والفاء لتفريع الاعتراض، وهو تحذير للمؤمنين من العجب بأعمالهم الحسنة عجبا يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحد على غيره بالثناء عليه بعمله.
و {تُزَكُّوا} مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جهله، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة.
فقوله {أَنْفُسَكُمْ} صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله {فَلا تُزَكُّوا} إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل: ركب القوم دوابهم.
(27/127)
والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. وعن الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع {أَنْفُسَكُمْ} إلى معنى قومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي ليسلم بعضكم على بعض. والمعنى: فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيره ذلك.
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم. ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية رحمة الله عليك أبا السائب كنية عثمان بن مظعون فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه" ، فقالت: إذا لم يكرمه الله فمن يكرمه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" . قالت أم عطية: فلا أزكي أحدا بعد ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون: إذ أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرا ولا أزكي على الله أحدا.
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الاسم. وسميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم" ، قالوا: بم نسميها? قال: "سموها زينب" .
وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس، أي طهارتها وصلاحها، تفويضا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفة الموافقة لظواهرهم وبين أنواعها بون. وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخبرة واتهام القرائن والبوارق.
فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثلما أريد من قوله تعالى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن
(27/128)
ومرادهم منه واضح.
ووقعت جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} موقع البيان لسبب النهي أو لأهم أسبابه، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها. وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير لا أزكي على الله أحدا أي لا أزكي أحدا معتليا حق الله، أي متجاوزا قدري.
[33-35] {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} .
الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [لنجم: 31] إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدا جهلا بأن للإنسان ما سعى، وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه. ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم.
فالذي تولى وأعطى قليلا هو هنا ليس فريقا مثل الذي عناه قوله {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [لنجم: 29] بل هو شخص بعينه. واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين، ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ {الَّذِي} دون كلمة {مَنْ} لأن {الَّذِي} أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ {مَنْ} .
واختلفوا في تعيين هذا {الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً} ، فروى الطبري والقرطبي عن مجاهد وابن زيد أن المراد به الوليد بن المغيرة قالوا: كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع إلى قراءته وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظه فقارب أن يسلم فعاتبه رجل من المشركين لم يسموه وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار كان ينبغي أن تنصرهم فكيف يفعل بآبائك فقال : إني خشيت عذاب الله فقال: اعطني شيئا وأنا أحمل عنك كل عذاب كان عليك فأعطاه ولعل ذلك كان عندهم التزاما يلزم ملتزمه وهم لا يؤمنون بجزاء الآخرة فلعله تفادى من غضب الله في الدنيا ورجع إلى الشرك ولما سأله الزيادة بخل عنه وتعاسر وأكدى.
وروى القرطبي عن السدي: أنها نزلت في العاصي بن وائل السهمي، وعن محمد بن كعب: نزلت في أبي جهل، وعن الضحاك: نزلت في النضر بن الحارث.
(27/129)
ووقع في أسباب النزول للواحدي والكشاف أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح حين صد عثمان بن عفان عن نفقة في الخير كان ينفقها أي قبل أن يسلم عبد الله بن سعد رواه الثعلبي عن قوم.قال ابن عطية: وذلك باطل وعثمان منزه عن مثله, أي عن أن يصغي إلى ابن أبي سرح فيما صده. فأشار قوله تعالى {الَّذِي تَوَلَّى} إلى أنه تولى عن النظر في الإسلام بعد أن قاربه.
وأشار قوله {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} إلى ما أعطاه للذي يحمله عنه العذاب.
وليس وصفه ب {تَوَلَّى} داخلا في التعجيب ولكنه سيق مساق الذم، ووصف عطاؤه بأنه قليل توطئة لذمه بأنه مع قلة ما أعطاه قد شح به فقطعه. وأشار قوله {وَأَكْدَى} إلى بخله وقطعه العطاء يقال: أكدى الذي يحفر، إذا اعترضته كدية أي حجر لا يستطيع إزالته. وهذه مذمة ثانية بالبخل زيادة على بعد الثبات على الكفر فحصل التعجيب من حال الوليد كله تحقيرا لعقله وأفن رأيه. وقيل المراد بقوله {وَأَعْطَى قَلِيلاً} أنه أعطى من قبله وميله للإسلام قليلا وأكدى، أي انقطع بعد أن اقترب كما يكدى حافر البئر إذا اعترضته كدية.
والاستفهام في {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} إنكاري على توهمه أن استئجار أحد ليتحمل عنه عذاب الله ينجيه من العذاب، أي ما عنده علم الغيب. وهذا الخبر كناية عن خطئه فيما توهمه.
والجملة استئناف بياني للاستفهام التعجيبي من قوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الخ.
وتقديم {َعِنْدَهُ} وهو مسند على {عِلْمُ الْغَيْبِ} وهو مسند إليه للاهتمام بهذه العندية العجيب ادعاؤها، والإشارة إلى بعده عن هذه المنزلة.
وعلم الغيب: معرفة العوالم المغيبة، أي العلم لاصل من أدلة فكأنه شاهد الغيب بقرينة قوله {فَهُوَ يَرَى} .
وفرع على هذا التعجيب قوله {فَهُوَ يَرَى} أي فهو يشاهد أمور الغيب، بحيث عاقد على التعارض في حقوقها. والرؤية في قوله {فَهُوَ يَرَى} بصرية ومفعولها محذوف، والتقدير: فهو يرى الغيب.
والمعنى: أنه آمن نفسه من تبعة التولي عن الإسلام ببذل شيء لمن تحمل عنه تبعة
(27/130)
توليه كأنه يعلم الغيب ويشاهد أن ذلك يدفع عنه العقاب، فقد كان فعله ضغثا على إبالة لأنه ظن أن التولي جريمة، وما بذل المال إلا لأنه توهم أن الجرائم تقبل الحمالة في الآخرة.
وتقديم الضمير المسند إليه على فعله المسند دون أن يقول: فيرى، لإفادة تقوي الحكم، نحو: هو يعطي الجزيل. وهذا التقوي بناء على ما أظهر من اليقين بالصفقة التي عاقد عليها وهو أدخل في التعجيب من حاله.
[36-38] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى [36] وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [37] أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
{أَمْ} لإضراب الانتقال إلى متعجب منه وإنكار عليه آخر وهو جهله بما عليه أن يعلمه الذين يخشون الله تعالى من علم ما جاء على ألسنة الرسل الأولين فإن كان هو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهلا تطلب ما أخبرت به رسل من قبل، طالما ذكر هو وقومه أسمائهم وشرائعهم في الجملة، وطالما سأل هو وقومه أهل الكتاب عن أخبار موسى، فهلا سأل عما جاء عنهم في هذا الغرض الذي يسعى إليه وهو طلب النجاة من عذاب الله فينبئه العاملون، فإن مآثر شريعة إبراهيم مأثور بعضها عند العرب، وشريعة موسى معلومة عند اليهود. فالاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} والتقدير: بل ألم ينبأ بما في صحف موسى الخ.
و {صُحُفِ وَمُوسَى} . : هي التوراة، وصحف {إِبْرَاهِيمَ} : صحف سجل فيها ما أوحى الله إليه، وهي المذكورة في سورة الأعلى[18، 19] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . وروى ابن حيان والحاكم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتب التي أنزلت على الأنبياء فذكر له منها عشرة صحائف أنزلت على إبراهيم، أي أنزل عليه ما هو مكتوب فيها.
وإنما خص هذه الصحف بالذكر لأن العرب يعرفون إبراهيم وشريعته ويسمونها الحنيفية وربما ادعى بعضهم أنه على إثارة منها مثل: زيد بن عمرو بن نفيل.
وأما صحف موسى فهي مشتهرة عند أهل الكتاب، والعرب يخالطون اليهود في خيبر وقريظة والنضير وتيما، ويخالطون نصارى نجران، وقد قال الله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48].
(27/131)
وتقديم {صُحُفِ وَمُوسَى} لأنها اشتهرت بسعة ما فيها من الهدى والشريعة، وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة. وقدرت بعشر صحف، أي مقدار عشر ورقات بالخط القديم، تسع الورقة قرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع ملفي صحف إبراهيم مقدار أربعين آية.
وإنما قدم في سورة الأعلى صحف إبراهيم على صحف موسى مراعاة لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى فقدم في الذكر أقدمها.
وعندي أن تأخير صحف إبراهيم ليقع ما بعدها هنا جامعا لما احتوت عليه صحف إبراهيم فتكون صحف إبراهيم هي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم الذكورة في قوله في سورة البقرة [124] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي بلغهن إلى قومه ومن آمن به، ويكون قوله هنا {الَّذِي وَفَّى} وفي معنى قوله {فَأَتَمَّهُنَّ} في سورة البقرة[124].
ووصف إبراهيم بذلك تسجيل على لمشركين بأن إبراهيم بلغ ما أوحي إليه إلى قومه وذريته ولكن العرب أهملوا ذلك واعتاضوا عن الحنفية بالإشراك.
وحذف متعلق {وَفَّى} ليشمل توفيات كثيرة منها ما في قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وما في قوله تعالى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105].
وقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يجوز أن يكون بدلا من ما في صحف موسى وإبراهيم بدل مفصل من مجمل، فتكون "أن" مخففة من الثقيلة. والتقدير: أم لم ينبأ بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ويجوز أن تكون "أن" تفسيرية فسرت ما في صحف موسى وإبراهيم لأن ما من الصحف شيء مكتوب والكتابة فيها معنى القول دون حروفه فصلح ما في صحف موسى لأن تفسره "أن" التفسيرية. وقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] في هذه السورة عن السدي عن أبي صالح قال هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [لنجم:56] كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.و {تَزِرُ} من مضارع وزر، إذا فعل وزرا.
وتأنيث {وَازِرَةٌ} بتأويل:نفس،وكذلك تأنيث {أخْرَى} ، ووقع نفس
(27/132)
و{أخْرَى}، في سياق النفي يفيد العموم فيشم نفي ما زعمه الوليد ابن المغيرة من تحمل الرجل عنه عذاب الله.
وهذا مما كان في صحف إبراهيم، ومنه ما حكى الله في قوله {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87، 89].
وحكي في التوراة عن إبراهيم أنه قال في شأن قوم لوط أفتهلك البار مع الآثم .
وأما نظيره في صحف موسى ففي التوراة1 لا يقتل الآباء عن الأولاد لا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيئته يقتل . وحكى الله عن موسى قوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]. وعموم لفظ {وِزْرَ} يقتضي إطراد الحكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة.
وأما قوله في التوراة2 أن الله قال أفتقد الأبناء بذنوب الآباء إلى الجيل الثالث فذلك في ترتيب المسببات على الأسباب الدنيوية وهو تحذير.
وليس حمل المتسبب في وزر غيره حملا زائدا على وزره من قبيل تحمل وزر الغير، ولكنه من قبيل زيادة العقاب لأجل تضليل الغير، قال تعالى {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وفي الحديث "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، ذلك أنه أول من سن القتل"
[39] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .
عطف على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] فيصح أن تكون عطفا على المجرور بالباء فتكون "أن" مخففة من الثقيلة، ويصح أن تكون عطفا على {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فتكون {أَنْ} تفسيرية، وعلى كلا الاحتمالين تكون {أَنْ} تأكيدا لنظيرتها في المعطوف عليها.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى: لا يختص به إلا ما سعاه.
ـــــــ
1 سفر التثنية إصحاح 24.
2 سفر الخروج إصحاح 20.
(27/133)
والسعي: العمل والاكتساب، وأصل السعي: المشي، فأطلق على العمل مجازا مرسلا أو كناية. والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلا لقوله {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].
والمعنى: لا تحصل لأحد فائدة عمل إلا ما عمله بنفسه، فلا يكون عمل غيره، ولام الاختصاص يرجع أن المراد ما سعاه من الأعمال الصالحة، وبذلك يكون ذكر هذا تتميما لمعنى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} احتراسا من أن يخطر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر، وإن الخير ينال غير فاعله.
ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى، وإذ قد تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضا أو نفلا على العين، وأما تحمل أحد حمالة لفعل فعله غيره مثل ديات القتل الخطأ فذلك من المؤاساة المفروضة.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ومحملها: فعن عكرمة أن قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة.
وعن الربيع بن أنس أنه تأول الإنسان في قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ب الإنسان الكافر، وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره.
ومن العلماء من تأول الآية على أنها نفت أن تكون للإنسان فائدة ما عمله غيره، إذا لم يجعل الساعي عمله لغيره. وكأن هذا ينحو إلى أن استعمال {سَعَى} في الآية من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه العقليين. ونقل ابن الفرس: أن من العلماء من حمل الآية على ظاهرها وأنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، ويؤخذ من كلام ابن الفرس أن ممن قال بذلك الشافعي في أحد قوليه بصحة الإجارة على الحج.
واعلم أن أدلة لحاق ثواب بعض العمال إلى غير من عملها ثابتة على الجملة وإنما تتردد الأنظار في التفصيل أو التعميم، وقد قال اله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] وقد بيناه في
(27/134)
تفسير سورة الطور. وقال تعالى {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]، فجعل أزواج الصالحين المؤمنات وأزواج الصالحات المؤمنين يتمتعون في الجنة مع أن التفاوت بين الأزواج في الأعمال ضروري وقد بيناه في تفسير سورة الزخرف.
وفي حديث مسلم "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له" وهو عام في كل ما يعمله الإنسان، ومعيار عمومه الاستثناء فالاستثناء دليل عن أن المستثنيات الثلاثة هي من عمل الإنسان. وقال عياض في الإكمال هذه الأشياء لما كان هو سببها فهي من اكتسابه. قلت: وذلك في الصدقة الجارية وفي العلم الذي بثه ظاهر، وأما في دعاء الولد الصالح لأحد أبويه فقال النووي لأن الولد من كسبه. قال الأبي: الحديث "ولد الرجل من كسبه"1 فاستثناء هذه الثلاثة متصل.
وثبتت أخبار صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن عمل أحد عن آخر يجزى عن المنوب عنه، ففي الموطأ حديث الفضل بن عباس أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه? قال: "نعم حجي عنه". وفي قولها: لا يثبت على الرحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة.
وفي كتاب أبي داود حديث بريدة أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يقضي عنها أن أصوم عنها? قال: "نعم" . قالت: وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها? قال: "نعم" .
وفيه أيضا حديث ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها? قال: "نعم" .
وفي حديث عمرو بن العاص وقد اعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيدا فسأل عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يفعل مثل فعل أخيه فقال له: "لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك" .
وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقابا واعتكفت عنه.
ـــــــ
1 رواه أبو داود.
(27/135)
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر وابن عباس أنهما أفتيا امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بمسجد قباء ولم تف بنذرها أن تصلي عنها بمسجد قباء.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن عبادة أن يقضي نذرا نذرته أمه، قيل كان عتقا، وقيل صدقة، وقيل نذرا مطلقا.
وقد كانت هذه الآية وما ثبت من الأخبار مجالا لأنظار الفقهاء في الجمع بينهما والأخذ بظاهر الآية وفي الاقتصار على نوع ما ورد فيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم أو القياس عليه.
ومما يجب تقديمه أن تعلم أن التكاليف الواجبة على العين فرضا أو سنة مرتبة المقصد من مطالبة المكلف بها ما يحصل بسببها من تزكية نفسه ليكون جزءا صالحا فإذا قام بها غيره عنه فات المقصود من مخاطبة أعيان المسلمين بها، وكذا اجتناب المنهيات لا تتصور فيها النيابة لأن الكف لا يقبل التكرر فهذا النوع ليس للإنسان فيه إلا ما سعى ولا تجزىء فيه نيابة غيره عنه في أدائها فأما الإيمان فأمره بين لأن ماهية الإيمان لا يتصور فيها التعدد بحيث يؤمن أحد عن نفسه ولا يؤمن من غيره لأنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فقد صار ذلك إيمانه. قال ابن الفرس في أحكام القرآن: أجمعوا على أنه لا يؤمن أحد عن أحد.
وأما ما عدا الإيمان من شرائع الإسلام الواجبة فأما ما هو منها من عمل الأبدان فليس للإنسان إلا ما سعى منه ولا يجزئ عنه سعي غيره لأن المقصود من الأمور العينية المطالب بها المرء بنفسه هو ما فيها من تزكية النفس وارتياضها على الخير كما تقدم آنفا.
ومثل ذلك الرواتب من النوافل والقربات حتى يصلح الإنسان ويرتاض على مراقبة ربه بقلبه وعمله والخضوع له تعالى ليصلح بصلاح الأفراد صلاح مجموع الأمة والنيابة تفيت هذا المعنى.
فما كان من أفعال الخير غير معين بالطلب كالقرب النافلة فإن فيه مقصدين مقصد ملحق بالمقصد الذي في الأعمال المعينة بالطلب، ومقصد تكثير الخير في جماعة المسلمين بالأعمال والأقوال الصالحة وهذا الاعتبار الثاني لا تفيته النيابة.
والتفرقة بين ما كان من عمل الإنسان ببدنه وما كان من عمله بماله لا أراه فرقا مؤثرا في هذا الباب، فالوجه اطراد القول في كلا النوعين بقبول النيابة أو بعدم قبولها:
(27/136)
من صدقات وصيام ونوافل الصلوات وتجهيز الغزاة للجهاد غير المتعين على المسلم المجهز بكسر الهاء ولا على المجهز بفتح الهاء، والكلمات الصالحة في قراءة القرآن وتسبيح وتحميد ونحوهما وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يكون تحرير محل ما ذكره ابن الفرس من الخلاف في نقل عمل أحد إلى غيره.
قال النووي الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما. وكذلك قضاء الدين اه. وحكى ابن الفرس مثل ذلك، والخلاف بين علماء الإسلام فيما عدا ذلك.
وقال مالك: يتطوع عن الميت فيتصدق عنه أو يعتق عنه أو يهدي عنه، وأما من كان من القرب الواجبة مركبا من عمل البدن وإنفاق المال مثل الحج والعمرة والجهاد فقال الباجي: حكى القاضي عبد الوهاب عن المذهب أنها تصح النيابة فيها وقال ابن القصار: لا تصح النيابة فيها. وهو المشتهر من قول مالك ومبنى اختلافهما أن مالكا كره أن يحج أحد عن أحد إلا أنه إن أوصى بذلك نفذت وصيته ولا تسقط الفرض.
ورجح الباجي القول بصحة النيابة في ذلك بأن مالكا أمضى الوصية بذلك، وقال: لا يستأجر له إلا من حج عن نفسه فلا يحج عنه صرورة، فلوا أن حج الأجير على وجه النيابة عن الموصي لما اعتبرت صفة المباشر بالحج. قال ابن الفرس: أجاز مالك الوصية بالحج الفرض، ورأى أنه إذا أوصى بذلك فهو من سعيه. والمحرر من مذهب الحنفية صحة النيابة في الحج لغير القادر بشرط دوام عجزه إلى الموت فإن زال عجزه وجب عليه الحج بنفسه، وقد ينقل عن أبي حنيفة غير ذلك في كتب المالكية.
وجوز الشافعي الحج عن الميت ووصية الميت بالحج عنه. قال أبن الفرس: وللشافعي في أحد قوليه أنه لا يجوز واحتج بقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} اه.
ومذهب احمد بن حنبل جوازه ولا تجب عليه إعادة الحج إن زال عذره.
وأما القرب غير الواجبة وغير الرواتب من جميع أفعال البر والنواف؛ فأما الحج عن غير المستطيع فقال الباجي: قال ابن الجلاب في التفريع يكره أن يستأجر من يحج عنه فإن فعل ذلك لم يفسخ وقال ابن القصاب: يجوز ذلك في الميت دون المعضوب وهو العاجز عن النهوض. وقال ابن حبيب قد جاءت الرخصة في ذلك عن الكبير الذي لا
(27/137)
ينهض وعن الميت أنه يحج عنه ابنه وإن لم يوص به.
وقال الأبي في شرح مسلم: ذكر أن الشيخ ابن عرفة عام حج اشترى حجة للسلطان أبي العباس الحفصي على مذهب المخالف، أي خلافا لمذهب مالك.
وأما الصلاة والصيام فسئل مالك عن الحج عنة الميت فقال: أما الصلاة والصيام والحج عنه فلا نرى ذلك. وقال في المدونة: يتطوع عنه بغير هذا أحب إلي: يهدى عنه، أو يعتق عنه. قال الباجي: ففصل بينها وبين النفقات.
وقال الشافعي في أحد قوله: لا يصله ثواب الصلوات التطوع وسائر التطوعات. قال صاحب التوضيح من الشافعية: وعندنا يجوز الاستنابة في حجة التطوع على أصح القولين، وقال أحمد: يصله ثواب الصلوات وسائر التطوعات.
والمشهور من مذهب الشافعي: أن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت لا يصله ثوابها، وقال أحمد بن حنبل وكثير من أصحاب الشافعي يصله ثوابها.
وحكى ابن الفرس عن مذهب مالك: أن من قرأ ووهب ثوان قراءته لميت جاز ذلك ووصل للميت أجره ونفعه فما ينسب إلى مالك من عدم جواز إهداء ثواب القراءة في كتب المخالفين غير محرر.
وقد ورد في حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ نفسه بالمعوذات فلما ثقل به المرض كنت أنا أعوذ بهما وأضع يده على جسده رجاء بركتها فهل قراءة المعوذتين إلا نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله بنفسه، فإذا صحت النيابة في التعوذ والتبرك بالقرآن فلماذا لا تصح في ثواب القراءة.
وأعلم أن هذا كله في تطوع أحد عن أحد بقربة، وأما الاستئجار على النيابة في القرب: فأما الحج فقد ذكروا فيه جواز الاستئجار بوصية، أو بغيرها، لأن الإنفاق من مقومات الحج، ويظهر أن كل عبادة لا يجوز أخذ فاعلها أجرة على فعلها كالصلاة والصوم لا يصح الاستئجار على الاستنابة فيها، وأن القرب التي يصح أخذ الأخذ عليها يصح الاستئجار على النيابة فيها مثل قراءة القرآن، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعل الذين أخذوا أجرا على رقية الملدوغ بفاتحة الكتاب.
وإذا علمت هذا كله فقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وهو حكم كان في شريعة سالفة، فالقائلون بأنه لا ينسحب علينا لم يكن فيما ورد من الأخبار بصحة
(27/138)
النيابة في الأعمال في ديننا معارض لمقتضى الآية، والقائلون بأن شرع غيرنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، منهم من أعمل عموم الآية وتأول الأخبار المعارضة لها بالخصوصية، ومنهم جعلها مخصصة للعموم، أو ناسخة، ومنهم من تأول ظاهر الآية بأن المراد ليس له ذلك حقيقة بحيث يعتمد على عمله، أو تأول السعي بالنية. وتأول اللام في قوله {لِلْإِنْسَانِ} بمعنى على، أو ليس عليه سيئات غيره.
وفي تفسير سورة الرحمان من الكشاف: أن عبد الله بن طاهر قال للحسين بن الفضل: أشكلت علي ثلاث آيات.فذكر له منها قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فما بال الأضعاف، أي قوله تعالى {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كثيرة} [البقرة:245]، فقال الحسين: معناه أنه ليس له إلا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا1.
[40، 41] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [40] ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} ,
يجوز أن تكون عطفا على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [لنجم:38] فهي من تمام تفسير {مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} [ النجم:36، 37] فيكون تغيير الأسلوب إذ جيء في هذه الآية بحرف {أَنَّ} المشددة لاقتضاء المقام عن يقع الإخبار عن سعي الإنسان بأنه يعلن به يوم القيامة وذلك من توابع أن ليس له إلا ما سعى، فلما كان لفظ {وَأَنَّ سَعْيَهُ} صالحا للوقوع اسما لحرف {أَنَّ} زال مقتضىاجتلاب ضمير الشأن فزال مقتضي "أن" المخففة. وقد يكون مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم ما حكاه الله عنه من قوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87].
ويجوز أن لا يكون في قوله مضمون قوله {وَأَنَّ سَعْيَهُ} مشمولا لما في صحف موسى وإبراهيم فعطفه على"ما" الموصولة من قوله : {بما َفِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} [النجم:36،37]، عطف المفرد على المفرد فيكون معمولا لباء الجر في قوله: {فِي صُحُفِ مُوسَى} الخ, والتقدير: لم ينبأ بأن سعي الإنسان سوف يرى، أي لا بد أن يرى، أي يجازى عليه، أي لم ينبأ بهذه الحقيقة الدينية وعليه فلا نتطلب ثبوت مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم عليه السلام.
و {سَوْفَ} حرف استقبال والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد.
ـــــــ
1 انظر: ما يأتي عند قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} في سورة [الرحمن: 29]
(27/139)
ومعنى {يُرَى} : يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا. ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يعلن بها عنها كما في قوله تعالى {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] وما في الحديث "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان" فيقدر مضاف تقديره: وأن عنوان سعيه سوف يرى.
ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [لأعراف: 49] الآية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة" ، فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم وإشهاره.
وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسوء الأحدوثة.
وقوله {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} وهو المقصود من الجملة.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن حصول الجزاء أهم من إظهاره أو إظهار المجزي عنه.
وضمير النصب في قوله {يُجْزَاهُ} عائد إلى السعي، أي يجزى عليه، أو يجزى به فحذف حرف الجر ونصب على نزع الخافض فقد كثر أن يقال: جزاه عمله، وأصله: جزاه على عمله أو جزاه بعمله.
والأوفى: اسم تفضيل من الوفاء وهو التمام والكمال, والتفضيل مستعمل هنا في القوة، وليس المراد تفضيله على غيره. والمعنى: أن الجزاء على الفعل من حسن أو سيء موافق للمجزي عليه, قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] وقال {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] وقال {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وقال {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} [الإسراء: 63].
وانتصب {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} على المفعول المطلق المبين للنوع.
وقد حكى الله عن إبراهيم {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87].
[42] {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} .
(27/140)
القول في موقعها كالقول في موقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم:40] سواء، فيجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فتكون تتمة لما في صحف موسى وإبراهيم، ويكون الخطاب في قوله {إِلَى رَبِّكَ} التفاتا من الغيبة إلى الخطاب والمخاطب غير معين فكأنه قيل: وأن إلى ربه المنتهى، وقد يكون نظيرها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
ويجوز أنها ليست مما اشتملت عليه صحف موسى وإبراهيم ويكون عطفها عطف مفرد على مفرد، فيكون المصدر المنسبك من {أَنَّ} ومعمولها مدخولا للباء، أي لم ينبأ بأن إلى ربك المنتهى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وعليه فلا نتطلب لها نظيرا من كلام إبراهيم عليه السلام.
ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه المحض الذي لا تلابسه أحكام هي في الظاهر من تصرفات المخلوقات مما هو شأن أمور الدنيا، فالكلام على حذف مضاف دل عليه السياق.
والتعبير عن الله بلفظ {رَبِّكَ} تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم والتعريض بالتهديد لمكذبيه لأن شأن الرب الدفاع عن مربوبه.
وفي الآية معنى آخر وهو أن يكون المنتهى مجازا عن انتهاء السير، بمعنى الوقوف، لأن الوقوف انتهاء سير السائر، ويكون الوقوف تمثيلا لحال المطيع لأمر الله تشبيها لأمر الله الذي تحدد به الحوائط على نحو قول أبي الشيص:
وقف الهوي بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
كما عبر عن هذا المعنى بالوقوف عند الحد في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. والمعنى: التحذير من المخالفة لما أمر الله ونهى.
وفي الآية معنى ثالث وهو انتهاء دلالة الموجودات على وجود الله ووحدانيته لأن الناظر إلى الكائنات يعلم أن وجودها ممكن غبر واجب فلا بد لها من موجود، فإذا خليت الوسوسة للناظر أن يفرض للكائنات موجدا مما يبدو له من نحو الشمس أو القمر أو النار لما يرى فيها من عظم الفاعلية، لم يلبث أن يظهر له أن ذلك المفروض لا يخلو من تغير يدل على حدوثه فلا بد له من محدث أوجد فإذا ذهب الخيال يسلسل مفروضات الإلهية
(27/141)
كما في قصة إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] الآيات لم يجد العقل بدا من الانتهاء إلى وجوب وجود صانع لممكنات كلها، وجوده غير ممكن بل واجب، وأن يكون متصفا بصفات الكمال وهو الإله الحق, فالله هو المنتهى الذي ينتهي إليه استدلال العقل، ثم إذا لا ح له دليل وجود الخالق وأفضى به إلى إثبات أنه واحد لأنه لو كان متعددا لكان كل من المتعدد غير كامل الإلهية إذ لا يتصرف أحد المتعدد فيما قد تصرف فيه الآخر، فكان كل واحد محتاجا إلى الآخر ليرضى بإقراره على إيجاد ما أوجده، وإلا لقدر على نقض ما فعله، فيلزم أن يكون كل واحد من المتعدد محتاجا إلى من يسمح له بالتصرف، قال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وقال {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] وقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فانتهى العقل لا محالة إلى منتهى.
[43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} .
انتقال من الاعتبار بأحوال الآخرة إلى الاعتبار بأحوال الدنيا وضمير {هُوَ} عائد إلى {رَبُّكَ} من قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42].
والضحك: أثر سرور النفس، والبكاء: أثر الحزن، وكل من اضحك والبكاء من خواص الإنسان وكلاهما خلق عجيب دال على انفعال عظيم في النفس.
وليس لبقية الحيوان ضحك ولا بكاء وما ورد من إطلاق ذلك على الحيوان فهو كالتخيل أو التشبيه كقول النابغة:
بكاء حماقة تدعو هديلا ... مطوقة على فنن تغني
ولا يخلو الإنسان من حالي حزن وسرور لأنه إذا لم يكن حزينا مغموما كان مسرورا لأن الله خلق السرور والانشراح ملازما للإنسان بسبب سلامة مزاجه وإدراكه لأنه إذا كان سالما كان نشيط الأعصاب وذلك النشاط تنشأ عنه المسرة في الجملة وإن كانت متفاوتة في الضعف والقوة، فذكر الضحك والبكاء يفيد الإحاطة بأحوال الإنسان بإيجاز ويرمز إلى أسباب الفرح والحزن ويذكر بالصانع الحكيم، ويبشر إلى أن الله هو المتصرف في الإنسان لأنه خلق أسباب فرحه ونكده وألهمه إلى اجتلاب ذلك بما في مقدوره وجعل حدا عظيما من ذلك خارجا على مقدور الإنسان وذلك لا يمتري فيه أحد إذا تأمل وفيه ما يرشد إلى
(27/142)
الإقبال على طاعة الله والتضرع إليه ليقدر للناس أسباب الفرح، ويدفع عنهم أسباب الحزن وإنما جرى ذكر هذا في هذا المقام لمناسبة أن الجزاء الأوفى لسعي الناس: بعضه سار لفريق وبعضه محزن لفريق آخر.
وأفاد ضمير الفصل قصرا لصفة خلق أسباب الضحك والبكاء على الله تعالى لإبطال الشريك في التصرف فتبطل الشركة في الإلهية، وهو قصر إفراد لأن المقصود نفي تصرف غير الله تعالى وإن كان هذا القصر بالنظر إلى نفس الأمر قصرا حقيقيا لإبطال اعتقاد أن الدهر متصرف.
وإسناد الإضحاك والإبكاء إلى الله تعالى لأنه خالق قوتي الضحك والبكاء في الإنسان، وذلك خلق عجيب ولأنه خالق طبائع الموجودات التي تجلب أسباب الضحك والبكاء من سرور وحزن.
ولم يذكر مفعول {ضْحَكَ وَأَبْكَى} لأن القصد إلى الفعلين لا إلى مفعوليهما فالفعلان منزلان منزلة اللازم، أي أوجد الضحك والبكاء.
ولما كان هذا الغرض من إثبات انفراد الله تعالى بالتصرف في الإنسان بما يجده الناس في أحوال أنفسهم من خروج أسباب الضحك والبكاء على قدرتهم تعين أن المراد: أضحك وأبكى في الدنيا, ولا علاقة لهذا بالمسرة والحزن الحاصلين في الآخرة.
وفي الاعتبار بخلق الشيء وضده إشارة دقائق حكمة الله تعالى.
وفي هذه الآية محسن الطباق بين الضحك والبكاء وهما ضدان.
وتقديم الضحك على البكاء لأن فيه امتنانا بزيادة التنبيه على القدرة وحصل بذلك مراعاة الفاصلة.
وموقع هذه الجملة في عطفها مثل موقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40] في الاحتمالين، فإن كانت مما شملته صحف إبراهيم كانت حكاية لقوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
[44] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} .
انتقل من الاعتبار بانفراد الله بالقدرة على إيجاد أسباب المسرة والحزن وهما حالتان لا تخلو عن إحداهما نفس الإنسان إلى العبرة بانفراده تعالى بالقدرة على الإحياء والإماتة,
(27/143)
وهما حالتان لا يخلو الإنسان عن إحداهما فإن الإنسان أول وجوده نطفة ميتة ثم علقة ثم مضغة قطعة ميتة وإن كانت فيها مادة الحياة إلا أنها لم تبرز مظاهر الحياة فيها ثم ينفخ فيه الروح ثم يصير إلى حياة وذلك بتدبير الله تعالى وقدرته.
ولعل المقصود هو العبرة بالإماتة لأنها أوضح عبرة وللرد عليهم قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وأن عطف {وَأَحْيَا} تتميم واحتراس كما في قوله : {الذَِّي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2]. ولذلك قدم {أمَاتَ} على {أَحْيَا} مع الرعاية على الفاصلة كما تقدم في {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [لنجم:43].
وموقع الجملة كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} . [النجم:43]. فإن كان مضمونها مما شملته صحف إبراهيم كان المحكي بها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81].
وفعلا {أَمَاتَ وَأَحْيَا} منزلان منزلة اللازم كما تقدم في قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] إظهارا لبديع القدرة على هذا الصنع الحكيم مع التعريض بالاستدلال على كيفية البعث وإمكانه حيث إحالة المشركون, وشاهده في خلق أنفسهم.
وضمير الفصل للقصر على نحو قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] ردا على أهل الجاهلية الذين يسندون الإحياء والإماتة إلى الدهر فقالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. فليس المراد الحياة الآخرة لأن المتحدث عنهم لا يؤمنون بها, ولأنها مستقبلة والمتحدث عنه ماض.
وفي هذه الآية محسن الطباق أيضا لما بين الحياة والموت من التضاد.
[46،45] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .
هذه الآية وإن كانت مستقلة بإفادة أن الله خالق الأزواج من الإنسان خلقا بديعا من نطفة فيصير إلى خصائص نوعه وحسبك بنوع الإنسان تفكيرا أو مقدرة وعملا، وذلك ما لا يجهله المخاطبون فما كان ذكره إلا تمهيدا وتوطئة لقوله {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم:47] على نحو قوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] وباعتبار استقلالها بالدلالة على عجيب تكوين نسل الإنسان, وعطفت عليها جملة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم:47] وإلا لكان مقتضى الظاهر أن يقال: إن عليه النشأة الأخرى بدون عطف وبكسر همزة "إن".
(27/144)
ومناسبة الانتقال إلى هذه الجملة أن فيها كيفية ابتداء الحياة.
والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من خصوص الإنسان لأن سياق الكلام للاعتبار ببديع صنع الله وذلك أشد اتفاقا في خلقة الإنسان, ولأن اعتبار الناس بما في أحوال أنفسهم أقرب وأمكن ولأن بعض الأزواج من الذكور والإناث لا يتخلق من نطفة بل من بيض وغيره.
ولعل وجه ذكر الزوجين والبدل منه {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} دون أن يقول: وأنه خلقه, أي الإنسان من نطفة, كما قال {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5،6] الآية أمران:
أحدهما : إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكل إنسان زوجة كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] الآية.
الثاني: الإشارة إلى أن لكلا الزوجين حظا من النطفة التي منها يخلق الإنسان فكانت لذكر نطفة وللمرأة نطفة كما ورد في الحديث الصحيح "أنه إذا سبق ماء الرجل أشبه المولود أباه وإن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمه" , وبهذا يظهر أن لكل من الذكر والأنثى نطفة وإن كان المتعارف عند الناس قبل القرآن أن النطفة هي ماء الرجل إلا أن القرآن يخاطب الناس بما يفهمون ويشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبرون.
وحسبك ما وقع بيانه بالحديث المذكور آنفا.
والنطفة: فعلة مشتقة من: نطف الماء, إذا قطر, فالنطفة ماء قليل وسمي ما منه النسل نطفة بمعنى منطوف, أي مصبوب فماء الرجل مصبوب, وماء المرأة أيضا مصبوب فإن ماء المرأة يخرج مع بويضة دقيقة تتسرب مع دم الحيض وتستقر في كيس دقيق فإذا باشر الذكر الأنثى انحدرت تلك البيضة من الأنثى واختلطت مع ماء الكر في قرارة الرحم.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ} ابتدائية فإن خلق الإنسان آت وناشئ بواسطة النطفة, فإذا تكونت النطفة وأمنيت ابتدأ خلق الإنسان.
و {تَمَنَّى} تدفق وفسروه بمعنى تقذف أيضا.
وقيل أن {تَمَنَّى} بمعنى تراق، وجعلوا تسمية الوادي الذي بقرب مكة منى لأنه تراق به دماء البدن من الهدايا. ولم يذكر أهل اللغة في معاني مني أو أمنى أن منها الإراقة. وهذا من مشكلات اللغة.
(27/145)
ثم إن {تَمَنَّى} يحتمل أنه مضارع أمنى بهمزة التعدية وسقطت في المضارع فوزنه تأفعل، ويحتمل أنه مضارع منى مثل رمى فوزنه: تفعل.
وبني فعل {تَمَنَّى} إلى المجهول لأن النطفة تدفعها قوة طبيعية في الجسم خفية فكان فاعل الإمناء مجهولا لعدم ظهوره.
وعن الأخفش {تَمَنَّى} تقدر، يقال: منى الماني، أي قدر المقدر. والمعنى: إذا قدر لها، أي قدر لها أن تكون مخلقة كقوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5].
والتقييد ب {إِذَا تُمْنَى} لما في اسم الزمان من الإيذان بسرعة الخلق عند دفق النطفة في رحم المرأة فإنه عند التقاء النطفتين يبتدىء تخلق النسل فهذه إشارة خفيفة إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة حاصلة في الرحم فإذا أمنيت علها نطفة الذكر أخذت في التخلق إذ لم يعقها عائق.
ثم لما في فعل {تَمَنَّى} من الإشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر لأن الصب يقتضي مصبوبا عليه فيشير إلى التخلق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى, فعند اختلاط المائين يحصل تخلق النسل فهذا سر التقييد بقوله: {إِذَا تُمْنَى} .
وفي الجمع بين الذكر والأنثى محسن الطباق لما بين الذكر والأنثى من شبه التضاد.
ولم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللتين قبلها لعدم الداعي إلى القصر إذ لا ينازع أحد في أن الله خالق الخلق وموقع جملة {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} إلى آخرها كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40].
[47] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}.
كان مقتضى الظاهر من التنظير أن يقدم قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } [لنجم:48] على قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} لما في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} من الامتنان وإظهار الاقتدار المناسبين لقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [لنجم:43، 45] الخ. إذ ينتقل من نعمة الخلق إلى نعمة الرزق كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78،79] وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم:40] ولكن عدل عن ذلك على طريقة تشبه الاعتراض ليقرن بين البيانين ذكر قدرته على النشأتين.
(27/146)
ومما يشابه هذا ما قاله الواحدي في شرح قول المتنبي في سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاء وثغرك باسم
أنه لما أنشد هذين البيتين أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما وقال: ينبغي أن تطبق عجز الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول ثم قال له: وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم اسبإ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ووجه الكلام في البيتين على ما قاله أهل العلم بالشعر أن يكون عجز الأول على الثاني والثاني على الأول أي مع نقله كلمة للذة من صدر الأول إلى الثاني, وكلمة ولم أقل من صدر الثاني إلى الأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع المر للخيل بالكر وسبأ الخمر مع تبطن الكاعب فقال أبو الطيب أطال الله عز مولانا إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا, ومولانا يعرف أن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله, وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر الأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء, وإنما لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه, ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاء, لأجمع بين الضدين في المعنى اه.
ولو أن أبا الطيب شعر بهذه الآية لذكرها لسيف الدولة فكانت له أقوى حجة من تأويله شعر امرئ القيس.
وجملة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} تحقيق لفعله إياها شبها بالحق الواجب على المحقوق به بحيث لا يتخلف فكأنه حق واجب لأن الله وعد بحصول بما اقتضته الحكمة الإلهية لظهور أن الله لا يكرهه شيء, فالمعنى: أن الله أراد النشأة الأخرى كقوله تعالى :{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12].
و {النَّشْأَةَ} : المرة من الإنشاء, أي الإيجاد والخلق.
(27/147)
و {الْأُخْرَى} مؤنث الأخير, أي النشأة التي لا نشأة بعدها, وهي مقابل النشأة الأولى التي يتضمنها قوله تعالى : {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم:45]. وهذه المقابلة هي مناسبة ذكر هذه النشأة الأخرى.
وقرأ الجمهور {النَّشْأَةَ} بوزن الفعلة وهو اسم مصدر أنشأ, وليس مصدرا, إذ ليس نشأ المجرد بمعتد وإنما يقال: أنشأ.
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {النَّشْأَةَ} بألف بعد الشين المفتوحة بوزن الفعالة وهو من أوزان المصادر لكنه مقيس في مصدر الفعل المضموم العين في الماضي نحو الجزالة والفصاحة. ولذلك فالنشاءة بالمد مصدر سماعي مثل الكآبة. ولعل مدتها من قبيل الإشباع مثل قول عنترة:
ينباع من ذفرى غصوب جسرة
أي: نبع.
وتقديم الخبر على اسم {أَنَّ} للاهتمام بالتحقيق الذي أفادته {عَلَى} تنبيها على زيادة تحقيقه بعد أن حقق بما في "أن"من التوكيد.
[48] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} .
ومعنى {أَغْنَى} جعل غنيا, أي أعطى ما به الغنى, والغنى التمكن من الانتفاع بما يحب الانتفاع به.
ويظهر أن معنى {أقنى} ضد معنى {أَغْنَى} رعيا لنظائره التي زاوجت بين الضدين من قوله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [لنجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [لنجم: 44,] و {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [لنجم: 45] , ولذلك فسره ابن زيد والأخفش وسليمان التميمي بمعنى أرضى.
وعن مجاهد وقتادة والحسن: أقنى: أخدم, فيكون مشتقا من القن وهو العبد أو المولود في الرق فيكون زيادة على الإغناء. وقيل: أقنى: أعطى القنية. وهذا زيادة في الغنى. وعن ابن عباس: أقنى: أرضى, أي أرضى الذي أغناه بما أعطاه, أي أغناه حتى أرضاه فيكون زيادة في الامتنان.
والإتيان بضمير الفصل لقصر صفة الإغناء والإقناء عليه تعالى دون غيره وهو قصر ادعائي لمقابلة ذهول الناس عن شكر نعمة الله تعالى بإسنادهم الأرزاق لوسائله العادية,
(27/148)
مع عدم التنبه إلى أن الله أوجد مواد الإرزاق وأسبابها وصرف موانعها, وهذا نظير ما تقدم من القصر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وموقع جملة {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40].
[49] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} .
فهذه الجملة لا يجوز اعتبارها معطوفة على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [لنجم:38} إذ لا تصح لأن تكون مما في صحف موسى وإبراهيم لأن الشعرى لم تعبد في زمن إبراهيم ولا في زمن موسى عليهما السلام فيتعين أ تكون معطوفة على "ما" الموصولة من قوله :{بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [لنجم: 36،37 ] الخ.
الشعرى: اسم نجم من نجوم برج الجوزاء شديد الضياء ويسمى: كلب الجبار, لأن برج الجوزاء يسمى الجبار عند العرب أيضا, وهو من البروج الربيعية, أي التي تكون مدة حلول الشمس فيها في فصل الربيع.
وسميت الجوزاء لشدة بياضها في سواد الليل تشبيها له بالشاة الجوزاء وهي الشاة السوداء التي وسطها أبيض.
وبرج الجوزاء ذو كواكب كثيرة ولكثير منها أسماء خاصة والعرب يتخيلون مجموع نجومها في صورة رجل واقف بيده عصا وعلى وسطه سيف, فلذلك سموه الجبار. وربما تخيلوها صورة امرأة فيطلقون على وسطها اسم المنطقة.
ولم أقف على وجه تسميتها الشعرى, وسميت كلب الجبار تخيلوا الجبار صائدا والشعرى يتبعه كالكلب وربما سموا الشعرى يد الجوزاء, وهو أبهر نجم برج الجوزاء, وتوصف الشعرى باليمانية لأنها إلى جهة اليمن. وتوصف بالعبور بفتح العين لأنهم يزعمون أنها زوج كوكب سهيل وأنهما كانتا متصلين وأن سهيلا انحدر نحو اليمن فتبعته الشعرى وعبرت نهر المجرة, فلذلك وصفت بالعبور فعول بمعنى فاعلة, وهو احتراز عن كوكب آخر ليس من كوكب الجوزاء يسمونه الشعرى الغميضاء بالغين المعجمة والصاد المهملة بصيغة تصغير وذكروا لتسميته قصة.
والشعرى تسمى المرزم كمنبر ويقال: مرزم الجوزاء لأن نؤه يأتي بمطر بارد في
(27/149)
فصل الشتاء فاشتق له اسم آلة الرزم وهو شدة البرد فإنهم كنوا ريح الشمال أم رزم.
وكان كوكب الشعرى عبدته خزاعة والذي سن رجل من سادة خزاعة يكنى أبا كبشة. واختلف في اسمه ففي تاج العروس عن الكلبي أن اسمه جزء بجيم وزاي وهمزة. وعن الدارقطني أنه وجز بواو وجيم وزاي بن غالب بن عامر بن الحاررث بن غبشان كذا في التاج , والذي في جمهرة ابن حزم أن الحارث هو غبشان الخزاعي. ومنهم من يقال: أن اسم أبي كبشه عبد الشعرى. ولا أحسب إلا أن هذا وصف غلب عليه بعد أن اتخذ الشعرى معبودا له ولقومه, ولم يعرج ابن حزم في الجمهرة على ذكر أبي كبشة.
والذي عليه الجمهور أن الشعرى لم يعبدها من العرب الا خزاعة. وفي تفسير القرطبي عن السدي أن حمير عبدوا الشعرى.
وكانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا كبشة خيل لمخالفته إياهم في عبادة الأصنام. وكانوا يصفونه بابن أبي كبشة. وقيل لأن أبا كبشة كان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه يعرضون أو يموهون على دهمائهم بأنه يدعو إلى عبادة الشعرى يريدون التغطية على الدعوة إلى توحيد الله تعالى فمن ذلك قولهم لما أراهم انشقاق القمر سحركم ابن أبي كبشة وقول أبي سفيان للنفر الذين كانوا معه في حضرة هرقل لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخاف ملك بني الأصفر.
قال ابن أبي الأصبع في هذه الآية من البديع محسن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه فقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها.
وتخصيص الشعرى بالذكر في هاته السورة أنه تقدم ذكر اللات والعزى ومناة وهي معبودات وهمية لا مسميات لها كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [لنجم: 23] وأعقبها بإبطال إلهية الملائكة وهي من الموجودات المجردات الخفية, أعقب ذلك بإبطال عبادة الكواكب وخزاعة أجوار لأهل مكة فلما عبدوا الشعرى ظهرت عبادة الكواكب في الحجاز, وإثبات أنها مخلوقة لله تعالى دليل على إبطال إلهيتها لأن المخلوق لا يكون إلها, وذلك مثل قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] مع ما في لفظ الشعرى من مناسبة فواصل هذه السورة.
(27/150)
والإتيان بضمير الفصل يفيد قصر مربوبية الشعرى على الله تعالى وذلك كناية عن كونه رب ما يعتقدون أنه من تصرفات الشعرى, أي هو رب تلك الآثار ومقدرها وليست الشعرى ربة تلك الآثار المسندة إليها في مزاعمهم, وليس لقصر كون رب الشعرى على الله تعالى دون غيره لأنهم لم يعتقدوا أن للشعرى ربا غير الله ضرورة أن منهم من يزعم أن الشعرى ربة معبودة ومنهم من يعتقد أنها تتصرف بقطع النظر عن صفتها.
[50-52 ] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [50] وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [51] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} .
لما استوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وطعنهم في القرآن, ومن عبادة الأصنام, وقولهم في الملائكة, وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة, وفي المتصرف في الدنيا, وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيها بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم: عاد, وثمود, وقوم نوح, وقوم لوط.
فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح, وكان معاصرا للمؤتفكة عالما بهلاكها.
ولكون هلاك هؤلاء معلوما لم تقرن الجملة بضمير الفصل.
ووصف عاد ب {الْأُولَى} على اعتبار عاد اسما للقبيلة كما هو ظاهر. ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكروا وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح.
وأما القول بأن عادا هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى ترف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح.
ويجوز أن يكون {الْأُولَى} وصفا كاشفا, أي عادا السابقة. وقيل {الْأُولَى} صفة عظمة, أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة, وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف.
وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضا.
وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف.
وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عادا
(27/151)
وثمودا أشهر في العرب وأكثر ذكرا بينهم وديارهم في بلاد العرب.
وقرأ الجمهور {عَاداً الْأُولَى} بإظهار تنوين {عَاداً} وتحقيق همزة {الْأُولَى} وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو {عاد لولى} بحذف همزة {الأولى} بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وإدغام نون التنوين من {عَاداً} {لولى} . وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة {الْأُولَى} بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفةط {عاد لؤلى} على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزا, كما قرئ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29].
وقرأ الجمهور {وَثَمُودَا} بالتنوين على إطلاق اسم جد القبيلة عليها. وقرأه عاصم وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} تعليل لجملة {أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} إلى آخرها, وضمير الجمع في {إِنَّهُمْ كَانُوا} يجوز أن يعود إلى قوم نوح, أي كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود. ويجوز أن يكون عائد إلى عاد وثمود وقوم نوح والمعنى: أنهم أظلم وأطغى من قومك الذين كذبوك فتكون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الرسل من قبله لقوا من أممهم أشد مما لقيه محمد صلى الله عليه وسلم, وفيه إيماء إلى أن الله مبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها لأنه قدر دخول بقيتها في الإسلام ثم أبنائها.
وضمير الفصل في قوله: {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لتقوية الخبر.
[53،54] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [ 53] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} .
والمؤتفكة صفة لموصوف محذوف يدل عليه اشتقاق الوصف كما سيأتي, والتقدير: القرى المؤتفكة, وهي قرى قوم لوط الأربع وهي سدوم و عمورة و آدمة و صبوييم. ووصفت في سورة براءة بالمؤتفكات لأن وصف جمع المؤنث يجوز أن يجمع وأن يكون بصيغة المفرد المؤنث. وقد صار هذا الوصف غالبا عليها بالغلبة.
وذكرت القرى باعتبار ما فيها من السكان تفننا ومراعاة للفواصل.
ويجوز أن تكون المؤتفكة هنا وصفا للأمة, أي لأمة لوط ليكون نظيرا لذكر عاد وثمود وقوم نوح كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} في سورة الحاقة [9]. والائتفاك: الانقلاب, يقال: أفكها فاتفكت. والمعنى: التي خسف بها فجعل عاليها سافلها, وقد تقدم ذكرها في سورة براءة.
(27/152)
وانتصب {َالْمُؤْتَفِكَةَ} مفعول {أهْوَى} أي أسقط أي جعلها هاوية.
والإهواء: الإسقاط, يقال: أهواه فهوى, ومعنى ذلك: أنه رفعها في الجو ثم سقطت أو أسقطها في باطن الأرض وذلك من أثر زلازل وانفجارات أرضية بركانية.
ولكون {المؤتفكة} علما انتفى أن يكون بين {الْمُؤْتَفِكَةَ} و {أَهْوَى} تكرير. وتقديم المفعول للاهتمام بعبرة انقلابها.
وغشاها: غطاها وأصابها من أعلى.
و {مَا غَشَّى} فاعل {غَشَّاهَا} , و"ما" موصولة, وجيء بصلاتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليها, وذلك لا يفيد خبرا جديدا زائدا على مفاد الفعل.
والمقصود منه التهويل كأن المتكلم أراد أن يبين بالموصول والصلة وصف فاعل الفعل فلم يجد لبيانه أكثر من إعادة الفعل إذ لا يستطاع وصفه. والذي غشاها هو مطر من الحجارة المحماة, وهي حجارة بركانية قذفت من فوهات كالآبار كانت في بلادهم ولم تكن ملتهبة من قبل قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] وقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. وفاضت عليها مياه غمرت بلادهم فأصبحت بحرا ميتا.
وأفاد العطف بفاء التعقيب في قوله: {فَغَشَّاهَا} إن ذلك كان بعقب أهوائها.
[55] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} .
تفريع فذلكة لما ذكر من أول السورة: مما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} إلى قوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [لنجم:2- 18] ومما يشمله ويشمل غيره من قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} إلى قوله: {هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [لنجم:43- 49] فإن ذلك خليط من نعم وضدها على نوع الإنسان وفي مجموعها نعمة تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بمنافع الاعتبار بصنع الله. ثم من قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] إلى هنا. فتلك نقم من الضالين والظالمين لنصر رسل الله, وذلك نعمة على جميع الرسل ونعمة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي بشارته بأن الله سينصره, فجميع ما عدد من النعم على أقوام والنقم عن آخرين هو نعم محضة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
و"أي" اسم استفهام يطلب به تمييز متشارك في أمر يعم بما يميز البعض عم البقية
(27/153)
من حال يختص به مستعمل هنا في التسوية كناية عم تساوي ما عدد من الأمور في أنها نعم على الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ليس لواحد من هذه المعدودات نقص عن نظائره في النعمة كقول فاطمة بنت الخرشب وقد سئلت: أي بنيك أفضل ثكلتهم إن كنت أدري أيهما أفضل , أي إن كنت أدري جواب السؤال, وكقول الأعشى:
باشجع أخاذ على الدهر حكمه ... فمن أي ما تأتي الحوادث أفرق
والمقصود من هذا الاستفهام تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النعم.
فالمعنى أنك لا تحصل لك مرية في واحدة من آلاء ربك فإنها سواء في الإنعام, والخطاب بقوله: {رَبُّكَ} الأظهر أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب لذكر الآلاء والموافق لإضافة "رب" إلى ضمير المفرد المخاطب في عرف القرآن.
وجوزوا أن يكون الخطاب في قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ} لغير معين من الناس, أي المكذبين أي باعتبار أنه لا يخلو شيء مما عدد سابقا عن نعمة لبعض الناس أو باعتبار عدم تخصيص الآلاء بما سبق ذكره بل المراد جنس الآلاء كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:16].
والآلاء: النعم, وهو جمع مفرده: إلى, بكسر الهمزة وبفتحها مع فتح اللام مقصورا, ويقال: إلى, وألي, بسكون اللام فيهما وآخره ياء متحركة, ويقال: ألو, بهمز مفتوحة بعدها لام ساكنة وآخره واو متحركة مثل: دلو.
والتماري: التشكك وهو تفاعل من المرية فإن كان الخطاب بقوله: {رَبُّكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم كان {تَتَمَارَى} مطاوع ماراه مثل التدافع مطاوع دفع في قول المنخل:
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
والمعنى: فبأي آلاء ربك يشككونك, وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [لنجم:12] , أي لا يستطيعون أن يشككوك في حصول آلاء ربك التي هي نعم النبوة والتي منها رؤية جبريل عند سدرة المنتهى. فالكلام مسوق لتأييس المشركين من الطمع في الكف عنهم.
وإن كان الخطاب لغير معين كان {تَتَمَارَى} تفاعلا مستعملا في المبالغة في حصول الفعل, ولا يعرف فعل مجرد للمراء, وإنما يقال:امترى, إذا شك.
(27/154)
[56] {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} .
استئناف ابتدائي أو فذلكة لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإشارة فإن جعلت اسم الإشارة راجعا إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه, فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداء لما بعد اسم الإشارة على أسلوب قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [ابراهيم: 52].
والكلام موجه إلأى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير, دون أن يقول: نذير وبشير, كما قال في الآية الأخرى {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188].
والإنذار بعضه صريح مثل قوله: {ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [لنجم:31] الخ, وبعضه تعريض كقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] وقوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [لنجم:42].
وإن جعلت اسم الإشارة عائدا إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور, أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلا, ابتداء من قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [لنجم:36] إلى هنا على كلام التأويلين المتقدمين, فتكون الإشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلا لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه.
و النذير حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضر بالمخبر بالفتح , وجمعه: نذر, هذا هو الأشهر فيه. ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد.
ويطلق النذير على الإنذار وهو خبر المخبر على طريقة المجاز العقلي. قال أبو القاسم الزجاجي: يطلق النذير على الإنذار يريد أنه اسم مصدر ومنه قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] أي إنذاري وجمعه نذر أيضا, ومنه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] , أي بالمنذرين. وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي, أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي.
والمراد بالنذر الأولى: السالفة, أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقول النبي "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"
(27/155)
أي من كلام الأنبياء قبل الإسلام.
[ 57،58] { أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [57] لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} .
تتنزل هذه الجملة من التي قبلها منزلة البيان للإنذار الذي تضمنه قوله {هَذَا نَذِيرٌ} [لنجم: 56].
فالمعنى: هذا نذير بآزفة قربت, وفي ذكر فعل القرب فائدة أخرى زائدة على البيان وهي أن المنذر به دنا وقته, فإن: أزفت معناه: قرب وحقيقته القرب المكان, واستعير لقرب الزمان لكثرة ما يعاملون الزمان معاملة المكان.
والتنبيه على قرب المنذر به من كمال الإنذار للبدار بتجنب الوقوع فيما ينذر به.
وجيء لفعل {أَزِفَتِ} بفاعل من مادة الفعل للتهويل على السامع لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تعيين هذه المحادثة التي أزفت, ومعلوم أنها من الأمور المكروهة لورود ذكرها عقب ذكر الإنذار.
وتأنيث {َالْآزِفَةِ} بتأويل الوقعة, أو الحادثة كما يقال: نزلت به نازلة, أو وقعت الواقعة, وغشيته غاشية, والعرب يستعملون التأنيث دلالة على المبالغة في النوع, ولعلهم راعوا أن الأنثى مصدر كثرة النوع.
والتعريف في {الْآزِفَة} تعريف الجنس, ومنه زيادة تهويل بتمييز هذا الجنس من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويل لأنه حقيق بالتدبر في المخلص منه نظير التعريف في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] , وقولهم: أرسلها العراك.
والكلام يحتمل آزفة في الدنيا من جنس ما أهلك به عاد وثمود وقوم نوح فهي استئصالهم يوم بدر, ويحتمل آزفة وهي القيامة. وعلى التقديرين فالقرب مراد به التحقق وعدم الانقلاب منها كقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [ القمر:1] وقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6،7].
وجملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ {الْآزِفَة} مستأنفة بيانية أو صفة ل {الْآزِفَة} و {كَاشِفَةٌ} يجوز أن يكون مصدر بوزن فاعلة كالعافية, وخائنة الأعين وليس لوقعتها كاذبة. والمعنى ليس لها كشف.
ويجوز أن يكون اسم فاعل قرن بهاء التأنيث للمبالغة مثل راوية, وباقعةو وداهية,
(27/156)
أي ليس لها كاشف قوي الكشف فضلا عمن دونه.
والكشف يجوز أن يكون بمعنى التعرية مراد به الإزالة مثل ويكشف الضر, وذلك ضد ما يقال: غشية الضر.
فالمعنى: لا يستطيع أحد إزالة وعيدها غير الله, وقد أخبر بأنها واقعة بقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} كناية عن تحقيق وقوعها.
ويجوز أن يكون الكشف بمعنى إزالة الخفاء, أي لا يبين وقت الآزفة أحد له قدرة على البيان على نحو قوله تعالى {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] فالمعنى: أن الله هو العالم بوقتها لا يعلمه أحد إلا إذا شاء أن يطلع عليه أحدا من رسله أو ملائكته.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غير الله, و{مِنْ} مزيدة للتوكيد, وهو متعلق بالكون الذي ينوى في خبر ليس في قوله {لَهَا} .
[59،61] {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [59] وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ [60] أَنْتُمْ سَامِدُونَ} .
تفريع على {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] وما عطف عليه وبين به من بيان أو صفة, فرع عليه استفهام إنكار وتوبيخ.
والحديث: الكلام والخبر.
والإشارة إلى ما ذكر من الإنذار بأخبار الذين كذبوا الرسل, فالمراد بالحديث بعض القرآن بما في قوله {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81].
ومعنى العجب هنا الاستبعاد والإحالة كقوله {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] , أو كناية عن الإنكار.
والضحك: ضحك الاستهزاء.
والبكاء مستعمل في لازمه من خشية الله كقوله تعالى {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109].
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين حيث حلوا بحجر ثمود في غزوة تبوك "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم , أي ضارعين لله أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم أو خاشعين أن يصيبكم مثل ما أصابهم،" أي
(27/157)
ضارعين الله أن لا يصيبهم مثل ما أصابهم أو خاشين أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والمعنى: ولا تخشون سوء عذاب الإشراك فتقلعوا عنه.
{سَامِدُونَ} : من السمود وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس, يقال: سمد البعير, إذا رفع رأسه في سيره, مثل به حال المتكبر المعرض عن النصح المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه.
وقيل السمود: الغناء بلغة حمير, والمعنى: فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة الاكتراث بما تسمعون من القرآن كقوله {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [لأنفال:35] على أحد تفسيرين.
وتقديم المجرور للقصر, أي هذا الحديث ليس أهلا لأن تقابلوه بالضحك والاستهزاء والتكذيب ولا لأن لا يتوب سامعه, أي لو قابلتم بفعلكم كلاما غيره لكان لكم شبهة في فعلكم, فأما مقابلتكم هذا الحديث بما فعلتم فلا عذر لكم فيها.
[62] {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} .
تفريع على الإنكار والتوبيخ المفرعين على الإنذار بالوعيد, فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله. ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} موجه إلى المشركين.
والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. والمعنى: أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن.
ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن المر بأن يسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام, ألا ترى إلى قوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42،43], أي من الذين شأنهم الصلاة. وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فيجوز فيه المحملان.
(27/158)
وعطف على ذلك أمرهم بعبادة الله لأنهم إذا خضعوا له حق الخضوع عبدوه وتركوا عبادة الأصنام وقد كان المشركون يعبدون الأصنام بالطواف حولها ومعرضين عن عبادة الله, ألا ترى أنهم عمدوا إلى الكعبة فوضعوا فيها الأصنام ليكون طوافهم بالكعبة طوافا بما فيها من الأصنام.
أو المراد: واعبدوا العبادة الكاملة وهي التي يفرد بها لأن إشراك غيره في العبادة التي يستحقها إلا هو كعدم العبادة إذ الإشراك إخلال كبير بعبادة الله قال تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36].
وقد ثبت في ا?بار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها أي عند قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وسجد من كان معه من المسلمين والمشركين إلا شيخا مشركا هو أمية بن خلف أخذ كفا من تراب أو حصى فرفعه إلى جهته. قال: يكفيني هذا. وروي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يسجدان عند هذه الآية في القراءة في الصلاة.
وفي أحكام ابن العربي أن ابن عمر سجد فيها, وفي الصحيحين والسنن عن زيد بن ثابت قال قرأت: النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الدرداء سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء. وعن أبي بن كعب: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة, وسورة النجم من المفصل.
واختلف العلماء في السجود عند هذه الآية فقال مالك: سجدة النجم ليست من عزائم القرآن أي ليست مما يسن السجود عندها. هذا مراده بالعزائم وليس المراد أن من سجود القرآن عزائم ومنه غيره عزائم ف عزائم وصف كاشف ولم ير سجود القرآن في شيء من المفصل، ووافقه أصحابه عدا أبن وهب قرآها من عزائم السجود، هي وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق مثل قول أبي حنيفة. وفي المنتقى : أنه قول ابن وهب وابن نافع.
وقال أبو حنيفة: هي من عزائم السجود. ونسب ابن العربي في أحكام القرآن مثله إلى الشافعي، وهو المعروف في كتب الشافعية والحنابلة.
وإنما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإن كان الأمر في قوله {فَاسْجُدُوا} مفرعا على خطاب
(27/159)
المشركين بالتوبيخ، لأن المسلمين أولى بالسجود لله وليعضد الأمر القوي بالفعل ليبادر به المشركون. وقد كان ذلك مذكرا للمشركين بالسجود لله فسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ السجود فيها بعد ذلك فلم يروا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ولخبر زيد بن ثابت وأبي بن كعب وعمل معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة.
(27/160)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
اسمها بين السلف سورة اقتربت الساعة. ففي حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الفطر والأضحى، وبهذا الاسم عنون لها البخاري في كتاب التفسير.
وتسمى سورة القمر وبذلك ترجمها الترمذي. وتسمى سورة اقتربت حكاية لأول كلمة فيها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن مقاتل: أنه استثنى منها قوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} إلى قوله : {وَأَمَرُّ} [القمر: 44،46] قال: نزل يوم بدر ولعل ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية يوم بدر.
وهي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الطارق وقبل سورة ص.
وعدد آيها خمس وخمسون باتفاق أهل العدد.
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1،2].
وفي أسباب النزول للواحدي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد محمد صلى الله عليه وسلم فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السفار، فقالوا نعم قد رأينا، فأنزل الله عز وجل {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] الآيات
وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة ففي الصحيح أن عائشة قالت:
(27/161)
أنزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46].
وكانت عقد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، أي في أواخر سنة أربع قبل الهجرة بمكة، وعائشة يومئذ بنت ست سنين، وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمس قبل الهجرة وعن ابن عباس كان بين نزول آية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وبين بدر سبع سنين.
أغراض هذه السورة
تسجيل مكابرة المشركين في الآيات المبينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مكابرتهم.
وإنذارهم باقتراب القيامة وبما يلقونه حين البعث من الشدائد.
وتذكيرهم بما لقيته الأمم أمثالهم من عذاب الدنيا لتكذيبهم رسل الله وأنهم سيلقون مثل ما لقي أولئك إذ ليسوا خيرا من كفار الأمم الماضية.
وإنذارهم بقتال يهزمون به، ثم لهم عذاب الآخرة وهو أشد.
وإعلامهم بإحاطة الله علما بأفعالهم وأنه مجازيهم شر الجزاء ومجاز المتقين خير الجزاء. وإثبات البعث، ووصف بعض أحواله.
وفي خلال ذلك تكرير التنويه بهدي القرآن وحكمته.
[1 ] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .
من عادة القرآن أن ينتهز الفرصة لإعادة الموعظة والتفكير حين يتضاءل تعلق النفوس بالدنيا، وتفكر فيما بعد الموت وتعير آذانها لداعي الهدى. فتتهيأ لقبول الحق في رمضان ذلك على تفاوت في استعدادها وكم كان مثل هذا الانتهاز سببا في إيمان قلوب قاسي، فإذا أظهر الله الآيات على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد صدقه شفع ذلك بإعادة التذكير كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت شاهدة على المشركين بظهور آية كبرى ومعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي معجزة انشقاق القمر. ففي صحيح البخاري و
(27/162)
جامع الترمذي عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. زاد الترمذي عنه فانشق القمر بمكة فرقتين، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله :{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2].
وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر.
وظاهره أن ذلك في موسم الحج. وفي سيرة الحلبي كان ذلك ليلة أربع عشرة أي في أواخر ليالي منى ليلة النفر. وفيها اجتمع المشركون بمنى وفيهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والعاصي بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق القمر فرقتين فانشق القمر.
والعمدة في هذا التأويل على حديث عبد الله بن مسعود في الصحيح قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا واشهدوا" . زاد في رواية الترمذي عنه يعني واقتربت الساعة وانشق القمر. قلت: وعن ابن عباس نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان.
وروي ثله عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وحذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وجبير بن مطعم، وهؤلاء لم يشهدوا انشقاق القمر لأن من عدا عليا وابن عباس وابن عمر لم يكونوا بمكة ولم يسلموا إلا بعد الهجرة ولكنهم ما تكلموا إلا عن يقين.
وكثرة رواة هذا الخبر تدل على أنه كان خبرا مستفيضا. وقال في شرح المواقف : هو متواتر. وفي عبارته تسامح لعدم توفر شرط التواتر. ومراده: أنه مستفيض.
وظاهر بعض الروايات لحديث ابن مسعود عند الترمذي أن الآية نزلت قبل حصول انشقاق القمر الواقع بمكة لما سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أو سألوه انشقاق القمر فأراهم انشقاق القمر وإنما يحصل عند اقتراب الساعة. وروي هذا عن الحسن وعطاء وهو المعبر عنه بالخسوف في سورة القيامة[7، 8] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} الآية.
وهذا لا ينافي وقوع انشقاق القمر الذي سأله المشركون ولكنه غير المراد في هذه الآية لكنه مؤول بما في روايته عند غير الترمذي.
(27/163)
ولحديث انس بن مالك أن الآية نزلت بعد انشقاق القمر.
وعلى جميع تلك الروايات فانشقاق القمر الذي هو معجزة حصل في الدنيا. وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان. وعن الحسن وعطاء أن انشقاق القمر يكون عند القيامة واختاره القشيري، وروي عن البلخي. وقال الماوردي: هو قول الجمهور، ولا يعرف ذلك للجمهور.
وخبر انشقاق القمر معدود في مباحث المعجزات من كتب السيرة و دلائل النبوة .
وليس لفظ هذه الآية صريحا في وقوعه ولكنه ظاهر الآية يقتضيه كما في الشفاء.
فإن كان نزول هذه الآية واقعا بعد حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث ابن مسعود في جامع الترمذي فتصدير السورة ب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} للاهتمام بالموعظة كما قدمناه آنفا إذ قد تقرر المقصود من تصديق المعجزة.
فجعلت تلك المعجزة وسيلة للتذكير باقتراب الساعة على طريقة الإدماج بمناسبة أن القمر كائن من الكائنات السماوية ذات النظام المساير لنظام الجو الأرضي فلما حدث تغير في نظامه لم يكن مألوفا ناسب تنبيه الناس للاعتبار بإمكان اضمحلال هذا العالم، وكان فعل الماضي مستعملا في حقيقته. وروي أن حذيفة بن اليمان قرأ وقد {انْشَقَّ الْقَمَرُ} .
وإن كان نزولها قبل حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث أنس بن مالك فهو إنذار باقتراب الساعة وانشقاق القمر الذي هو من أشراط الساعة ومع الإيماء إلى أن الانشقاق سيكون معجزة لما يسألوه المشركون. ويرجح هذا المحمل قوله تعالى عقبه {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر2] كما سيأتي هنالك.
وإذ قد حمل معظم السلف من المفسرين ومن خلفهم هذه الآية على أن انشقاق القمر حصل قبل نزولها أو بقرب نزولها فبنا أن نبين إمكان حصول هذا الانشقاق مسايرين للاحتمالات الناشئة عن روايات الخبر عن الانشقاق إبطالا لجحد الملحدين، وتقريبا لفهم المصدقين.
فيجوز أن يكون قد حدث خسف عظيم في كرة القمر أحدثت في وجهه هوة لاحت للناظرين في صورة شقه إلى نصفين بينهما سواد حتى يخيل أنه منشق إلى قمرين، فالتعبير عنه بالانشقاق مطابق للواقع لأن الهوة انشقاق وموافق لمرأى الناس لأنهم رأوه كأنه مشقوق.
(27/164)
ويجوز أن يكون قد حصل في الأفق بين سمت القمر وسمت الشمس مرور جسم سماوي من نحو بعض المذنبات حجب ضوء الشمس عن وجه القمر بمقدار ضل ذلك الجسم على نحو ما يسمى بالخسوف الجزئي، وليس في لفظ أحاديث أنس بن مالك عند مسلم والترمذي، وابن مسعود وابن عباس عند البخاري ما يناكد ذلك.
ومن الممكن أن يكون الانشقاق حدثا مركبا من خسوف نصفي في القمر على عادة الخسوف فحجب نصف القمر، والقمر على سمت أحد الجبلين قد حصل في الجو ساعة إذ سحاب مائي أنعكس في بريق مائه صورة القمر مخسوفا بحيث يخالطه الناظر نصفا آخر من القمر دون كسوف طالعا على جهة ذلك الجبل، وهذا من غرائب حوادث الجو. وقد عرفت حوادث من هذا القبيل بالنسبة لأشعة الشمس ويجوز أن يحدث مثلها بالنسبة لضوء القمر على أنه نادر جدا وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} في سورة الأعراف.[171].
ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية فسماه ابن عباس كسوفا تقريبا لنوعه.
وهذا الوجه لا ينافي كون الانشقاق معجزة لأن حصوله في وقت سألهم من النبي صلى الله عليه وسلم آية وإلهام الله إياهم أن يسألوا ذلك في حين تقدير الله كاف في كونه آية صدق. أو لأن الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم به قبل حصوله دليل على أنه مرسل من الله إذ لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة أوقات ظواهر التغيرات للكواكب. وبهذا الوجه يظهر اختصاص ظهور ذلك بمكة دون غيرها من العالم، وإما على الوجه الأول فإنما لم يشعر به غير أهل مكة من الأرض لأنهم لم يكونوا متأهبين إليه إذ كان ذلك ليلا وهو وقت غفلة أو نوم ولأن القمر ليس ظهوره في حد واحد لأهل الأرض فإن مواقيت طلوعه تختلف باختلاف البلدان في ساعات الليل والنهار وفي مسامته السماء.
قال ابن كيسان: هو على التقديم والتأخير. وتقديره: انشق القمر واقتربت الساعة، أي لأن الأصل في ترتيب الأخبار أن يجري على ترتيبها في الوقوع وأن كان العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا في الوقوع.
{وَانْشَقَّ} مطاوع شقه، والشق: فرج وتفرق بين أديم جسم ما بحيث لا تنفصل قطعة مجموع ذلك الجسم عن البقية، ويسمى أيضا تصدعا كما يقع في عود أو جدار.
(27/165)
فإطلاق الانشقاق على حدوث هوة في سطح القمر إطلاق حقيقي وإطلاقه على انطماس بعض ضوئه استعارة، وإطلاقه على تفرقة نصفين مجاز مرسل.
والاقتراب أصله صيغة مطاوعة، أي قبول فعل الفاعل، وهو هنا للمبالغة في القرب فإن حمل على حقيقة القرب فهو قرب اعتباري، أي قرب حلول الساعة فيما يأتي من الزمان قربا نسبيا بالنسبة لما مضى من الزمان ابتداء من خلق السماء والأرض على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بسباته والوسطى فإن تحديد المدة من وقت خلق العالم أو من وقت خلق الإنسان أمر لا قبل للناس به وما يوجد في كتب اليهود مبني على الحسد والتوهمات، قال ابن عطية: وكل ما يروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف واهن اه.
وفائدة هذا الاعتبار أن يقبل الناس على نبذ الشرك وعلى الاستكثار من الأعمال الصالحات واجتناب الآثام لقرب يوم الجزاء.
والساعة: علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم. ويجوز أن يراد بالساعة ساعة معهودة أنذروا بها في آيات كثيرة وهي ساعة استئصال المشركين بسيوف المسلمين.
وأن حمل القرب على المجاز، أي الدلالة على الإمكان، فالمعنى: اتضح للناس ما كانوا يجدونه محالا من فناء العالم فإن لحصول المثل والنظائر إقناعا بإمكان أمثالها التي هي أقوى منها.
وعطف {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} عطف جملة على جملة.
والخبر مستعمل في لازم معناه وهو الموعظة إن كانت الآية نزلت بعد انشقاق القمر كما تقدم لأن علمهم بذلك حاصل فليسوا بحاجة إلى لإفادتهم حكم هذا الخبر وإنما هم بحاجة إلى التذكير بأن من أمارات حلول الساعة أن يقع خسف في القمر بما تكررت موعظتهم به كقوله تعالى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامه:7،8] الآية إذ ما يأمنهم أن يكون ما وقع من انشقاق القمر أمارة على اقتراب الساعة فما الانشقاق إلا نوع من الخسف فإن أشراط الساعة وعلاماتها غير محدودة الأزمنة في القرب والبعد من مشروطها.
[2] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .
(27/166)
يجوز أن يكون تذييلا للإخبار بانشقاق القمر فيكون المراد ب {آيَةٍ} في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} القمر. فقد جاء في بعض الآثار: أن المشركين لما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا سحر محمد بن أبي كبشة وفي رواية قالوا: قد سحر محمد القمر، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من ذكر أحوال تكذيبهم ومكابرتهم وعلى كلا الوجهين فإن وقوع آية، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم.
وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم.
وضمير {يَرَوْا} عائد إلى ضمير غير مذكور في الكلام دال عليه المقام وهو المشركون، كما جاء في مواضع كثيرة من القرآن، مع أن قصة انشقاق القمر وطعنهم فيها مشهور يومئذ معروفة أصحابه، فهم مستمرون عليه كلما رأوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووصف {مُسْتَمِرٌّ} يجوز أن يكون مشتقا من فعل مر الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل، أي لا يبقى القمر منشقا. ويجوز أن يكون مشتقا من المرة بكسر الميم، أي القوة، والسين والتاء للطلب، أي طلب لفعله مرة، أي قوة، أي تمكننا. والمعنى: هذا سحر معروف متكرر، أي معهودا منه مثله.
[3 ] {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ و وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} .
{وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .
وهذا إخبار عن حالهم فيما مضى بعد أن أخبر عن حالهم في المستقبل بالشرط الذي في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُو} [القمر:2]. ومقابلة ذلك بهذا فيه شبه احتباك كأنه قيل: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سحر، وقد رأوا الآيات وأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وسيكذبون ويتبعون أهواءهم.
وعطف {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} عطف العلة على المعلول لأن تكذيبهم لا دافع لهم إليه إلا اتباع ما تهواه أنفسهم من بقاء حالهم على ما ألفوه وعهدوه واشتهر دوامه.
وجمع الأهواء دون أن يقول واتبعوا الهوى كما قال {إِنْ يَتَّبِعُون إلاالظن} [الأنعام: 116] حيث إن الهوى اسم جنس يصدق بالواحد والمتعدد، فعدل عن الإفراد إلى الجمع لمزاوجة ضمير الجمع المضاف إليه، وللإشارة إلى أن لهم أصنافا متعددة من الهواء: من حب الرئاسة، ومن حسد المؤمنين على ما آتاهم الله، ومن حب اتباع ملة آبائهم، ومن
(27/167)
محبة أصنامهم، وإلف لعوائدهم، وحفاظ على أنفتهم.
{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} .
هذا تذييل للكلام السابق من قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} إلى قوله: {أَهْوَاءَهُمْ} [القمر:2،3] فهو اعتراض بين جملة {وَكَذَّبُوا} وجملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر: 4]، والواو اعتراضية وهو جار مجرى المثل.
و {كُلِّ} من أسماء العموم. وأمر: اسم يدل على جنس عال ومثله شيء، وموجود، وكائن، ويتخصص بالوصف كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] وقد يتخصص بالعقل أو العادة كما تخصص شيء في قوله تعالى عن ريح عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] أي من الأشياء القابلة للتدمير. وهو هنا يعم الأمور ذوات التأثير، أي تتحقق آثار مواهيها وتظهر خصائصها ولو اعترضتها عوارض تعطل حصول آثارها حينا كعوارض مانعة من ظهور خصائصها، أو مدافعات يراد منها إزالة نتائجها فإن المؤثرات لا تلبث أن تتغلب على تلك الموانع والمدافعات في فرص تمكنها من ظهور الآثار والخصائص.
والكلام تمثيل شبهت حال التردد آثار الماهية بين ظهور وخفاء إلى إبان التمكن من ظهور آثارها، بحالة سير السائر إلى المكان المطلوب في مختلف الطرق بين بعد وقرب إلى أن يستقر في المكان المطلوب. وهي تمثيلية مكنية لأن التركيب الذي يدل على الحال المشبهة بها حذف ورمز إليه بذكر شيء من روادف معناه وهو وصف مستقر.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] وقد أخذه الكميت بن زيد في قوله:
فالآن صرت إلى أمي ... ة والأمور إلى مصائر
فالمراد بالاستقرار الذي في قوله: {مُسْتَقِرٌّ} من الاستقرار في الدنيا.
وفي هذا تعريض بالإيماء إيماء إلى أن أمر دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سيرسخ ويستقر بعد تقلقله.
ومستقر: بكسر القاف اسم فاعل من استقر، أي قر، والسين والتاء للمبالغة مثل السين والتاء في استجاب.
(27/168)
وقرأ الجمهور برفع الراء من {مُسْتَقِرّ} . وقرأه أبو جعفر بخفض الراء على جعل {أَمْرٍ} عطفا على الساعة. والتقدير: واقترب كل أمر. وجعل {مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1] صفة {أمر} .
والمعنى: أن إعراضهم عن الآيات وافتراءهم عليها بأنها سحر ونحوه وتكذيبهم الصادق وتمالؤهم على ذلك لا يوهن وقعها في النفوس ولا يعوق إنتاجها. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم صائر إلى مصير أمثاله الحق من الانتصار والتمام واقتناع الناس به وتزايد أتباعه، وأن اتباعهم أهواءهم واختلاق معاذيرهم صائر إلى مصير أمثاله الباطلة من الانخذال والافتضاح وانتقاص الأتباع.
وقد تضمن هذا التذييل بإجماله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمشركين واستدعاء لنظر المترددين.
[4،5] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَر [4] حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} .
عطف على جملة {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 3] أي جاءهم في القرآن من أنباء الأمم ما فيه مزدجر لهؤلاء، أو أريد بالأنباء الحجج الواردة في القرآن، أي جاءهم ما هو أشد في الحجة من انشقاق القمر. و {مِنَ الْأَنْبَاءِ} بيان ما فيه مزدجر قدم على المبين و {مِنْ} بيانية.
والمزدجر: مصدر ميمي، وهو مصاغ بصيغة اسم المفعول الذي فعله زائد على ثلاثة أحرف. وازدجره بمعنى زجره، ومادة الافتعال فيه للمبالغة. والدال بدل من تاء الافتعال التي تبدل بعد الزاي إلا مثل ازداد، أي ما فيه مانع لهم من ارتكاب ما ارتكبوه. والمعنى: ما هو زاجر لهم فجعل الازدجار مظروفا فيه مجازا للمبالغة في ملازمته له على طريقة التجريد كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أي هو أسوة.
و {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} بدل من {مَا} ، أي جاءهم حكمة بالغة.
والحكمة: إتقان الفهم وإصابة العقل. والمراد هنا الكلام الذي يتضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة، فوصف الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال، وتقدم في سورة البقرة،
(27/169)
[269] {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} .
والبالغة: الواصلة، أي واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.
وفرع عليه قوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ، أي جاءهم ما فيه مزدجر فلم يغن ذلك، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم.
و {مَا} تحتمل النفي، أي لا تغني عنهم النذر بعد ذلك. وهذا تمهيد لقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 6]، فالمضارع للحال والاستقبال، أي ما هي مغنية، ويفيد بالفحوى أن تلك الأنباء لم تغن عنهم فيما مضى بطريق الأحرى، لأنه إذا كان ما جاءهم من الأنباء لا يغني عنهم من الانزجار شيئا في الحال والاستقبال فهو لم يغن عنهم فيما مضى إذ لو أغنى عنهم لارتفع اللوم عليهم.
ويحتمل أن تكون {مَا} استفهامية للإنكار، أي ماذا فيد النذر من أمثالهم المكابرين المصرين، أي لا غناء لهم في تلك الأنباء، ف {مَا} على هذا في محل نصب على المفعول المطلق ل {تُغْنِ} [القمر:]، وحذف ما أضيف إليه {مَا} [البقرة: 17]. والتقدير: فأي غناء تغني النذر وهو المخبر بما يسوء، فإن الأنباء تتضمن إرسال الرسل من الله منذرين لقومهم فما أغنوهم ولم ينتفعوا بهم ولأن الأنباء فيها الموعظة والتحذير من مثل صنيعهم فيكون. فالمراد ب {النُّذُرُ} آيات القرآن، جعلت كل آية كالنذير: وجمعت على نذر، ويجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار اسم مصدر، وتقدم عنه قوله تعالى {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} في آخر سورة النجم[56].
[6-8 ] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ نكر [6] خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [ 7 ] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} .
تفريع على {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، أي أعرض عن مجادلتهم فإنهم لا تفديهم النذر كقوله {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [لنجم: 29]، أي أنك قد بلغت فما أنت بمسؤول عن استجابتهم كما قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمين له بأنه ما قصر في أداء الرسالة. ولا تعلق لهذه الآية بأحكام قتالهم إذ لم يكن السياق له ولا حدثت دواعيه يومئذ فلا وجه للقول بأنها منسوخة.
(27/170)
{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
استئناف بياني لأن المر بالتولي مؤذن بغضب ووعيد فمن شأنه أن يثير في نفس السامع تساؤلا عن مجمل هذا الوعيد. وهذا الاستئناف وقع معترضا بين جملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر: 4] وجملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر: 9].
وإذ قد كان المتوعد به شيئا يحصل يوم القيامة قدم الظرف على عامله وهو {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ليحصل بتقديمه إجمال يفصله بعض التفصيل ما يذكر بعده، فإذا سمع السامع هذا الظرف علم أنه ظرف لأهوال تذكر بعده هي تفصيل ما أجمله قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} من الوعيد بحيث لا يحسن وقع شيء مما في هذه الجملة هذا الموقع غير هذا الظرف، ولولا تقديمه لجاء الكلام غير موثوق العرى، وانظر كيف جمع فيما بعد قوله: {يوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} كثيرا من الأهوال آخذ بعضها بحجز بعض بحسن اتصال ينقل كل منها ذهن السامع إلى الذي بعده من غير شعور بأنه يعدد له أشياء.
وقد عد سبعة من مظاهر الأهوال.
أولها : دعاء الداعي فإنه مؤذن بأنهم محضرون إلى الحساب، لأن مفعول {يَدْعُ} محذوف بتقدير: يدعوهم الداعي بدلالة ضمير {عَنْهُمُ} على تقدير المحذوف.
الثاني : أنه يدعو إلى شيء عظيم لأن ما في لفظ {شَيْءٍ} من الإبهام يشعر بأنه مهول، وما في تنكيره من التعظيم يجسم ذلك الهول.
وثالثها: وصف شيء بأنه {نُكُرٍ} ، أي موصوف بأنه تنكره النفوس وتكرهه.
والنكر بضمتين: صفة، وهذا الوزن قليل في الصفات، ومنه قولهم: روضة أنف، أي جديدة لم ترعها الماشية، ورجل شلل، أي خفيف سريع في الحاجات، ورجل سجح بجيم قبل الحاء، أي سمح، وناقة أجد: قوية موثقة فقار الظهر، ويجوز إسكان عين الكلمة فيها للتخفيف وبه قرأ ابن كثير هنا.
ورابعها : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجوه الناس، وهي نظرة الخائف المفتضح وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما.
(27/171)
وخامسها : تشبيههم بالجراد المنتشر في الاكتظاظ واستتار بعضهم ببعض من شدة الخوف زيادة على ما يفيده التشبيه من الكثرة والتحرك.
وسادسها : وصفهم بمهطعين، والمهطع: الماشي سريعا مادا عنقه، وهي مشية مذعور غير ملتف إلى شيء، يقال: هطع وأهطع.
وسابعها : قولهم: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وهو قول من أثر ما في نفوسهم من خوف. و {عَسِرٌ} : صفة مشبهة من العسر وهو الشدة والصعوبة. ووصف اليومب {عَسِرٌ} وصف مجازي عقلي باعتبار كونه زمانا لأمور عسر شديدة من شدة الحساب وانتظار العذاب.
وأبهم {شَيْءٍ نُكُرٍ} للتهويل، وذلك هو أهوال الحساب وإهانة الدفع ومشاهدة ما أعد لهم من العذاب.
وانتصب {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} على الحال من الضمير المقدر في {يَدْعُ الدَّاعِ} وإما من ضمير {يَخْرُجُونَ} مقدما على صاحبه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {خُشَّعاً} بصيغة جمع خاشع. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {خُشَّعاً} بصيغة اسم الفاعل. قال الزجاج: لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والتذكير نحو خاشعا أبصارهم. ولك التوحيد والتأنيث نحو قراءة ابن مسعود {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} ولك الجمع نحو {بْصَارُهُمْ} اه.
و {أَبْصَارِهِمْ} فاعل {خُشَّعاً} ولا ضير في كون الوصف الرافع للفاعل على صيغة الجمع لأن المحضور هو لحاق علامة الجمع والتثنية للفعل إذا كان فاعله الظاهر جمعا أو مثنى، وليس الوصف كذلك، كما نبه عليه الرضي على إنه إذا كان الوصف جمعا مكسرا، وكان جاريا على موصوف هو جمع، فرفع الاسم الظاهر الوصف المجموع أولى من رفعه بالوصف المجموع المفرد على ما اختاره المبرد وابن مالك كقول امرئ القيس:
وقوفا بها صبحي على مطيهم
وشاهد هذا القراء.
وقوله {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} إظهار في مقام الإضمار لوصفهم بهذا الوصف الذميم وفيه تفسير الضمائر السابقة.
(27/172)
والأجداث: جمع جدث وهو القبر، وقد جعل الله خروج الناس إلى الحشر من مواضع دفنهم في الأرض، كما قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فيعاد خلق كل ذات من التراب الذي فيه بقية من أجزاء الجسم وهي ذرات يعلمها الله تعالى.
والجراد: اسم جمع واحدة جرادة وهي حشرة ذات أجنحة أربعة مطوية على جنبيها وأرجل أربعة، أصفر اللون.
والمنتشر: المنبث على وجه الأرض. والمراد هنا الدبي وهو فراخ الجراد قبل أن تظهر له الأجنحة لأنه يخرج من ثقب في الأرض هي مبيضات أصوله فإذا تم خلقه خرج من الأرض يزحف بعضه فوق بعض قال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وهذا التشبيه تمثيلي لأنه تشبيه هيئة خروج الناس من القبور متراكمين بهيئة خروج الجراد متعاظلا يسير غير ساكن.
[9] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} .
استئناف بياني ناشئ عن قوله {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4] فإن من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم، وسبق الإنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة. والخبر مستعمل في التذكير وليفرع عليه ما بعده. فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهم من تلك الأنباء.
وفائدة ذكر الظرف {قَبْلِهِمْ} تقرير تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله {مِنْ قَبْلِكَ} نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرضون.
واعلم أنه يقال: كذب، إذا قال قولا يدل على التكذيب، ويقال كذب أيضا، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا، فإن كان فعل {كُذِّبَتْ} هنا مستعملا في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحا بأنه كاذب، وإن كان مستعملا في اعتقادهم كذبه، فقد دل على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان.
(27/173)
وعرف {قَوْمِ نُوحٍ} بالإضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به.
وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل كما تقدم في سورة هود.
والفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} لتفريع الإخبار بتفصيل تكذيبهم إياه بأنهم قالوا: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ، على الإخبار بأنهم كذبوه على الإجمال، وإنما جيء بهذا الأسلوب لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فرع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قوم نوح رسولهم وتكذيب المشركين محمدا صلى الله عليه وسلم في أنه تكذيب لمن أرسله الله واصطفاه بالعبودية الخاصة، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان إذ قال كلا الفريقين لرسوله: مجنون، ومشوب ببذاءة إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه. فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريما له، والإخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجار. فأصل تركيب الكلام: كذبت قبلهم قوم نوح فقالوا: مجنون وازدجر. ولما أريد الإيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء جعل ما بعد التسلية مفرعا بفاء التفريع ليظهر قصد استقلال ما قبله ولولا ذلك لكان الكلام غنيا عن الفاء إذ كان يقول: كذبت قوم نوح عبدنا.
وأعيد فعل {كَذَّبُوا} لإفادة توكيد التكذيب، أي هو تكذيب قوي كقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63]، وقول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
وقد نبه على ذلك ابن جني في إعراب هذا البيت من ديوان الحماسة، وذكر أن أبا علي الفارسي نحا غير هذا الوجه ولم يبينه.
وحاصل نظم الكلام يرجع إلى معنى: أنه حصل فعل فكان حصوله على صفة خاصة أو طريقة خاصة.
ويجوز أن يمون فعل {كُذِّبَتْ} مستعملا في معنى: إنهم اعتقدوا كذبه، فتفريع {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} عليه تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه. فيكون فعل {كذبوا} مستعملا في معنى غير الذي استعمل فيه فعل {كُذِّبَتْ} ، والتفريع ظاهر على هذا الوجه.
(27/174)
وهذا الوجه يتأتى في قوله تعالى : {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي} في سورة سبأ. [45].
ويجوز أن يكون قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إخبارا عن تكذيبهم بتفرد الله بالإلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح ولم يكن قبله رسول وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهرا.
و {وَازْدُجِرَ} معطوف على {قَالُوا} وهو افتعل من الزجر. وصيغة الافتعال هنا للمبالغة مثلها: افتقر واضطر.
ونكتة بناء الفعل للمجهول هنا التوصل إلى حذف ما يسند إليه فعل الازدجار المبني للفاعل وهو ضمير {قَوْمِ نُوحٍ} ، فعدل عن أن يقال: وازدجروه، إلى قوله {وَازْدُجِرَ} محاشاة للدال على ذات نوح وهو ضمير من أن يقع مفعولا لضميرهم. ومرادهم أنهم ازدجروه، أي نهوه عن ادعاء الرسالة بغلظة قال تعالى {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [لأعراف: 66] وقال: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116] وقال : {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38].
[10،14] {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [10] فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [11] فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [12] وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [13] تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [14].
تفريع على {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ} [القمر:9] وما تفرع عليه.
والمغلوب مجاز، شبه يأسه من أجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل.
و {أَنِّي} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر محذوفة، أي دعا بأني مغلوب، أي بمضمون هذا الكلام في لغته.
وحذف متعلق {فَانْتَصِرْ} للإيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير: فانتصر لي، أي انصرني.
(27/175)
وجملة {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} إلى آخرها مفرعة على جملة {فَدَعَا رَبَّهُ} ، ففهم من التفريع أن الله استجاب دعوته وأن إرسال هذه المياه عقاب لقوم نوح. وحاصل المعنى: فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة.
وقرأ الجمهور {فَفَتَحْنَا} بتخفيف التاء. وقرأه ابن عامر بتشديدها على المبالغة. والفتح بمعنى شدة هطول المطر.
وجملة {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} مركب تمثيلي لهيئة اندفاق الأمطار من الجو بهيئة خروج الجماعات من أبواب الدار على طريقة:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
والمنهمر: المنصب، أي المصبوب يقال: همر الماء إذا صبه، أي نازل بقوة.
والتفجير: إسالة الماء، يقال: تفجر الماء، إذا سال، قال تعالى {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء:9].
وتعدية {وَفَجَّرْنَا} إلى اسم الأرض تعدية مجازية إذ جعلت الأرض من كثرة عيونها كأنها عين تتفجر. وفي هذا إجمال جيء من أجله بالتمييز له بقوله {عُيُوناً} لبيان هذه النسبة، وقد جعل هذا ملحقا بتمييز النسبة لأنه محول عن المفعول إذ المعنى: وفجرنا عيون الأرض، وهو مثل المحول عن الفاعل في قوله تعالى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4]، أي شيب الرأس إذ لا فرق بينهما، ونكتة ذلك واحدة. قال في المفتاح: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال للرأس إذ وازن اشتعل شيب الرأس، واشتعل الرأس شيبا وازن اشتعلت النار في بيتي واشتعل في بيتي نارا اه.
والتقاء الماء: تجمع ماء الأمطار مع ماء عيون الأرض فالالتقاء مستعار للاجتماع، شبه الماء النازل من السماء والماء الخارج من الأرض بطائفتين جاءت كل واحدة من مكان فالتقتا في مكان واحد كما يلتقي الجيشان.
والتعريف في {الْمَاءُ} للجنس. وعلم من إسناد الالتقاء أنهما نوعان من الماء ماء المطر وماء العيون.
و {على} من قوله: {عَلَى أَمْرٍ} يجوز أن تكون بمعنى في كقوله تعالى :{و َدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15]، وقول الفرزدق:
(27/176)
على حالة لو أن في البحر حاتما ... على جوده لظن بالماء حاتم
والظرفية مجازية. ويجوز أن تكون {عَلَى} للاستعلاء المجازي، أي ملابسا لأمر قد قدر ومتمكنا منه.
ومعنى التمكن: شدة المطابقة لما قدر، وأنه لم يحد عنه قيد شعرة.
والأمر: الحال والشأن وتنوينه للتعظيم.
ووصف الأمر بأنه {قدْ قُدِرَ} ، أي أتقن وأحكم بمقدار، يقال: قدره بالتخفيف إذا ضبطه وعينه كما قال تعالى :{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ومحل {عَلَى أَمْر} النصب على الحال من الماء.
وأكتفي بهذا الخبر عن بقية المعنى. وهو طغيان الطوفان عليهم اكتفاء بما أفاده تفريع {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء السماء} كما تقدم انتقالا إلى وصف إنجاء نوح من ذلك الكرب العظيم، فجملة {وَحَمَلْنَاهُ} معطوفة على التفريع عطف احتراس.
والمعنى: فأغرقناهم ونجيناه.
و {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} صفة السفينة، أقيمت مقام الموصوف هنا معوضا عن أن يقال: وحملناه على الفلك لأن في هذه الصفة بيان متانة هذه السفينة وإحكام صنعها. وفي ذلك إظهار لعناية الله بنجاة نوح ومن معه فإن الله أمره بصنع السفينة وأوحى إليه كيفية صنعها ولم تكن تعرف سفينة قبلها، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] وعادة البلغاء إذا احتاجوا لذكر صفة بشيء وكان ذكرها دالا على موصوفها أن يستغنوا عن ذكر الموصوف إيجازا كما قال تعالى :{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11]، أي دروعا سابغات.
والحمل: رفع الشيء على الظهر أو الرأس لنقله {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] وله مجازات كثيرة.
والألواح: جمع لوح وهو القطعة المسواة من الخشب.
والدسر: جمع دسار، وهو المسمار.
وعدي فعل {حملنا} إلى ضمير نوح دون من معه من قومه لأن هذا الحمل كان إجابة
(27/177)
لدعوته ولنصره فهو المقصود الأول من هذا الحمل، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [الأعراف: 72] وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ونحوه من الآيات الدالة على أنه المقصود بالانجاء وأن نجاة قومه بمعيته، وحسبك قوله تعالى في تذييل هذه الآية {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} فإن الذي كان كفر هو نوح كفر به قومه.
و{عَلَى} للاستعلاء المجازي وهو التمكن كقوله تعالى: {إِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، وإلا فإن استقراره في السفينة كائن في جوفها كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40].
والباء في {بِأَعْيُنِنَا} للملابسة.
وأعين: جمع عين بإطلاقه المجازي، وهو الاهتمام والعناية، كقول النابغة:
علمتك ترعاني بعين بصيرة
وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وجمع العين لتقوية المعنى لأن الجمع أقوى من المفرد، أي بحراسات منا وعنايات. ويجوز أن يكون الجمع باعتبار أنواع العنايات بتنوع آثارها. وأصل استعمال لفظ العين في مثله تمثيل بحال الناظر إلى الشيء المحروس مثل الراعين كما يقال للمسافر عين الله عليك ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فجمع بذلك الاعتبار. وتقدم في سورة هود.
و {جَزَاءُ} مفعول لأجله ل {فَتَحْنَا} وما عطف عليه، أي: فعلنا ذلك كله جزاء لنوح. و {مَنْ كَانَ كُفِرَ} هو نوح فإن قومه كفروا به، أي لم يؤمنوا بأنه رسول وكان كفرهم به منذ جاءهم بالرسالة فلذلك أقحم هنا فعل {كَانَ} ، أي لمن كفر منذ زمان مضى وذلك ما حكي في سورة نوح[5،9] بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} إلى قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
وحذف متعلق {كَفَرَ} لدلالة الكلام عليه. وتقديره: كفر به، أو لأنه نصح لهم ولقي في ذلك أشد العناء فلم يشكروا له بل كفروه فهو مكفور فيكون من باب قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
(27/178)
[15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
ضمير المؤنث عائد إلى {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ، أي السفينة. والترك كناية عن الإبقاء وعدم الإزالة، قا ل تعالى {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} في سورة الذاريات [37]، وقال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} في سورة البقرة [17]، أي أبقينا سفينة نوح محفوظة من البلى لتكون آية يشهدها الأمم الذين أرسلت إليهم الرسل متى أراد واحد من الناس رؤيتها ممن هو بجوار مكانها تأييدا للرسل وتخويفا بأول عذاب عذبت به الأمم أمة كذبت رسولها فكانت حجة دائمة مثل ديار ثمود.
ثم أخذت تتناقص حتى بقي منها أخشاب شهدها صدر الأمة الإسلامية فلم تضمحل حتى رآها ناس من جميع الأمم بعد نوح فتواتر خبرها بالمشاهدة تأييدا لتواتر الطوفان بالأخبار المتواترة. وقد ذكر القرآن أنها استقرت على جبل الجودي فمنه نزل نوح ومن معه وبقيت السفينة هنالك لا ينالها أحد، وذلك من أسباب حفظها عن الاضمحلال. واستفاض الخبر بأن الجودي جبيل قرب قرية تسمى باقردى بكسر القاف وسكون الراء ودال مفتوحة مقصورا من جزيرة ابن عمر قرب الموصل شرقي دجلة.
وفي صحيح البخاري قال قتادة: لقد شهدها صدر هذه الأمة قال تعالى في سورة العنكبوت[15] {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وقد تقدم ذلك مفصلا هنالك.
والآية: الحجة. وأصل الآية الأمارة التي يصطلح عليها شخصان فأكثر {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41].
وإن ما قال هنا {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} وقال في سورة العنكبوت [15] {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لأن ذكرها في سورة القمر ورد بعد ذكر كيفية صنعها وحدوث الطوفان وحمل نوح في السفينة. فأخبرت بأنها أبقيت بعد تلك الأحوال، فالآية في بقاءها، وفي سورة العنكبوت ورد ذكر السفينة ابتداء فأخبر بأن الله جعلها آية إذ أوحى إلى نوح بصنعها، فالآية في إيجادها وهو المعبر عنه ب {جَعَلْنَاهَا} .
وفرع على إبقاء السفينة آية استفهام عمن يتذكر بتلك الآية وهو استفهام مستعمل في معنى التحضيض على التذكر بهذه الآية واستقصاء خبرها مثل الاستفهام في قول طرفة:
إذ القوم قالوا من فتى... البيت
(27/179)
والتحضيض موجه إلى جميع من تبلغه هذه الآيات. و {مِنْ} زائدة للدلالة على عموم الجنس في الإثبات على الأصح من القولين.
و {مدكر} أصله: مذتكر مفتعل من الذكر بضم الذال، وهو التفكر في الدليل فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، وأدغم الذال في الدال لذلك، وقراءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم في سورة يوسف [45] {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} .
[16] { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }.
تفريع على القصة بما تضمنته من قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر: 11] إلى آخره. و"كيف" للاستفهام عن حالة العذاب. وهو عذاب قوم نوح بالطوفان. والاستفهام مستعمل في التعجيب من شدة هذا العذاب الموصوف. والجملة في معنى التذييل وهو تعريض بتهديد المشركين أن يصيبهم عذاب جزاء تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وإعراضهم وأذاهم كما أصاب قوم نوح.
وحذف ياء المتكلم من {نَذْرٍ} وأصله: نذري. وحذفها في الكلام في الوقف فصيح وكثر في القرآن عند الفواصل.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر كالنذارة وتقدم آنفا في هذه السورة وإنما جمعت لتكرر النذارة من الرسول لقومه طلبا لإيمانهم.
[71 ] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
لما كانت هذه النذارة بلغت القرآن والمشركون معرضون عن استماعه حارمين أنفسهم من فوائده ذيل خبرها بتنويه شأن القرآن بأنه من عند الله وأن الله يسره وسهله لتذكر الخلق بما يحتاجونه من التذكير مما هو هدى وإرشاد. وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالا على مدارسته وتعريضا بالمشركين عسى أن يرعووا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حال المشركين الشاكين في أنه من عند الله.
والتيسير: إيجاد اليسر في شيء، من فعل كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185].
(27/180)
أو قول كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58].
واليسر: السهولة، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء. وإذ كان القرآن كلاما فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به دون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للإذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة.
وأما من جانب المعاني فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولد معان من معان أخر كلما كرر المتدبر تدبره في فهمها.
ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدم بسطها في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير ومن أهمها إيجاز اللفظ ليسرع تعلقه بالحفظ، وإجمال المدلولات لتذهب نفوس السامعين في انتزاع المعاني منها كل مذهب يسمح به اللفظ والغرض والمقام، ومنها الإطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدقة والخفاء.
ويتأتى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمح ألفاظا وتراكيب بوفرة المعاني وبكون تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللغة، فهو خيار من خيار من خيار. قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
ثم يكون المتلقين له أمة هي أذكى الأمم عقولا وأسرعها أفهاما وأشدها وعيا لما تسمعه، وأطولها تذكرا له. دون نسيان، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوت اقتضته سنة الكون لا ينكاد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر، لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لمجموعهم معان لا يحصيها والواحد منهم وحده.
وقد فرض الله على علماء القرآن تبيينه تصريحا كقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتعريضا كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق.
وفي الحديث "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه
(27/181)
بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" .
واللام في قوله {لِلذِّكْرِ} متعلقة ب {يَسَّرْنَا} وهي ظرف لغو غير مستقر، وهي لام تدل على أن الفعل تعلقت به فعل لانتفاع مدخول هذه اللام به فمدخولها لا يراد منه مجرد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التعليل المجرد ومعنى المفعول لأجله المنتصب بإضمار لام التعليل البسيطة، ولكن يراد أن مدخول هذه اللام علة خاصة مراعاة في تحصيل فعل الفاعل لفائدته، فلا يصح أن يقع مدخول هذه اللام مفعولا لأن المفعول لأجله علة بالمعنى الأعم ومدخول هذه اللام علة خاصة فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السببية في نحو {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، ومجرور هذه اللام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو {نْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]، وهو أيضا شديد الشبه بالمفعول الأول في باب كسا وأعطى، فهذه اللام من القسم الذي سماه ابن هشام في مغني اللبيب: شبه التمليك. وتبع في ذلك ابن مالك في شرح التسهيل.
وأحسن من ذلك تسمية ابن مالك إياه في شرح كافيته وفي الخلاصة معنى التعدية. ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذا اللام قد تعدى إليه الفعل الذي تعلقت به اللام تعدية مثل تعدية الفعل المتعدي إلى المفعول، وغفل ابن هاشم عن هذا التدقيق، وهو المعنى الخامس من معاني اللام الجارة في مغنى اللبيب وقد مثله بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الشورى:11]، ومثل له ابن مالك في شرح التسهيل بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]، ومن الأمثلة التي تصلح له قوله تعالى {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يّس:72] وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، ألا ترى أن مدخول اللام في هذه الأمثلة دال على المتنفعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أول المفعولين من باب كسا.
وإنما بسطنا القول في هذه اللام لدقة معناها وليتضح معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} .
وأصل معاني لام الجر هو التعليل وتنشأ من استعمال اللام في التعليل المجازي معان شاعت فساوت الحقيقة فجعلها النحويون معاني مستقلة لقصد الإيضاح.
والذكر: مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني، والذي يرادفه الذكر بضم
(27/182)