الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
[71,70] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم وربأ بهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتسموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المناكر التلبس بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول. والقول السديد مبث الفضائل.
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإصغاء إليه. ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان يقتضي ما سيؤمرون به. ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصدا ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شعب التقوى كما هو من شعب الإيمان.
والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه.
والسديد: الذي يوافق السداد.والسداد: الصواب والحق ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القول السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي بحبه: إني أحبك.
والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر. وفي الحديث: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" ، وفي الحديث الآخر: "رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم" ، وفي الحديث الآخر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" .
ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء. فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث: "الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد. وفي الحديث: "نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه. ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح. ومن القول السديد الأذان والإقامة قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} في سورة فاطر [10]. فبالقول السديد
(21/342)
تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما في التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح جعل للآتي بهما جزاء بإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب. وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد.
وغفران الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة،والتحول عن المعاصي بعد الهم بها ضرب من مغفرتها.
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كانا عائدين على الذين آمنوا كانا عامين لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولا سديدا أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولا سديدا والعاملين به من سامعيه،وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قول غيره. وفي الحديث: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول، وكذلك التقوى تكون سببا لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسيا أو حياء فتتعطل بعض المعاصي،وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر.
وذكر {لَكُمْ} مع فعلي {يُصْلِحْ} {يَغْفِرْ} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
وجملة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} عطف على جملة {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي وتفوزوا فوزا عظيما إذا أطعتم الله بامتثال أمره. وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل. وهذا نسج من نظم الكلام وهو
(21/343)
إفادة غرضين بجملة واحدة.
[72] {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
استئناف ابتدائي أفاد الأنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملات بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقا فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعرا لهم بمصيرهم ومبينا سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض.
وموقع هذه الآية عقب ما قبلها وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطا بمضمون ما قبلها،ويصلح عونا لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها،ولو بتقليل الاحتمال،والمصير إلى المآل.
والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع.
وافتتاح الآية بمادة العرض، وصوغها في صيغة المضي، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يومئ إلى أن متعلق هذا العرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرض أزلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فصولها المقومة لمواهبها وخصائصها ومميزاتها الملائمة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية.
واختتام الآية بالعلة من قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإنسان في رعي الأمانة وإضاعتها.
فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإنسان علم أن المراد بالإنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة،بتعذيب المنافقين والمشركين،ولما كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمة
(21/344)
مناسبة لتصرفات الله تعالى.
فتعريف {الْأِنْسَانُ} تعريف الجنس،أي نوع الإنسان.
والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله ومنه عرض الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرض المجندين على الأمير لقبول من تأهل منهم. وفي حديث ابن عمر: "عرضت على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردني وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". وتقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} في سورة هود [18]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} في سورة الكهف [48].
فقوله: {عَرَضْنَا} هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء،وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السماوات والأرض والجبال ووضعها في الإنسان بحالة من يعرض شيئا على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحية الإنسان لذلك، فشهبت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإنسان ذلك بعرض شيء على أشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها.
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف {الْجِبَالِ} على {الْأَرْضِ} وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصار عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنى لها أن تختار وترفض وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد كمه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال : الطبيعة عمياء،أي لا اختيار لها،أي للجبلة وإنما تصدر منها آثارا قسرا.
ولذلك فأفعال {عَرَضْنَا ، أَبَيْنَ ، يَحْمِلْنَهَا ، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ، وَحَمَلَهَا} أجزاء للمركب
(21/345)
التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إيداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مصحح مواهي السماوات والأرض والجبال لإيداع الأمانة فيها بالإباء، ويشبه الإيداع بالتحميل والحمل،ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإشفاق،ويشبه التلاؤم ومصحح القبول لإيداع وصف الأمانة في الإنسان بالحمل للثقل.
ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ. وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل.
وقد عدت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها ترددا دل على الحيرة في تقويم معناها.ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العرض على السماوات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإباء والإشفاق.
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل. وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولا وبعضها متداخل في بعض ولنبتدئ بالإلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها.
فقيل: الأمانة الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة التوحيد، أو دلائل الوحدانية، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش بالعمل، وقيل: الأمانة العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإنسان كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية.
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض.
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفتر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول.
ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإنسان وفطرته.
(21/346)
فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإيمان، أي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وتقدم في سورة الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة ملازمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإيمان بوحدانية الله.
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفسية تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته ملائمة لأن يكون عاقلا فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سببا في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به.فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفا، فإنه لا يستطيع في الإفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
ومناسبة قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] الآية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول.
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه،وذلك أن الإنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملا لصفة الأمانة بفطرته والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة
(21/347)
الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودك الجبال.
والذي بين هذا المعنى قول حذيفة: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر،حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت1، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل2 كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" أي من أمانة لأن الإيمان من الأمانة لأنه عهد الله.
ومعنى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرفها، وحينئذ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.
والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيأ الإنسان لها إلا العقل كما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ثم قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها.
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرون الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عهد به ورعيه والحذار من الإخلال به سهوا أو تقصيرا فيسمى تفريطا وإضاعة،أو عمدا فيسمى خيانة وخيسا لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال
ـــــــ
1 الوكت: الشية في الشيء من غير لونه.
2 المجل: نفاخة في الجلد مرتفعة يكون ما تحتها فارغاً مثل ما يقع في أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات في الجلد.
(21/348)
تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15] وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وهذا المحمل يتضمن أيضا أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هي العقل لأن قبول الأخلاق فرع منه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} محلها اعتراض بين جملة {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} والمتعلق بفعلها وهو {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبر أن الإنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإنسان بما حمله وتحمله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله.
فمعنى {كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيرا: بعضه من غمد وهو المعبر منه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولا،فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل.
والظلم: الاعتداء على حق الغير وأريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة.
والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإنسان بمواقع الصواب فيها تحمل به، فقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير: وحملها الإنسان فلم يف بها إنه كان ظلوما جهولا، فكأنه قيل: فكان ظلوما جهولا، أي ظلوما، أي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه إجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيا كان، وجهولا في عدم تقدير قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعة بها،ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فطر على تحملها.
ويجوز أن يراد {ظَلُوماً جَهُولاً} في فطرته، أي في طبع الظلم،والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها.
ولك أن تجعل ضمير {إِنَّهُ} عائدا على الإنسان وتجعل عمومه مخصوصا بالإنسان الكافر تخصيصا بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر.
أو تجعل في ضمير {إِنَّهُ} استخداما بأن يعود إلى الإنسان مرادا به الكافر وقد أطلق
(21/349)
لفظ الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن مرادا به الكافر كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] الآية وقوله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] الآيات.
وفي ذكر فعل {كَانَ} إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة.
فصيغتا المبالغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإنساني والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب.وهذا الإجمال يبينه قوله عقبه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين: أحدهما: مضيع للأمانة والآخرة مراع لها.
ولذلك أثنى الله على الذين وفوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} [الأحزاب: 15] وقال فيها: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] وقال في ضد ذلك {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26, 27].
[73] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
متعلق بقوله: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين من أصناف الإنسان. وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لام العاقبة. وقد تقدم القول فيها غير مرة إحداها قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} في آل عمران [178].
والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وعادة النحاة وعلماء البيان يقولون: إنها في معنى فاء التفريع: وإذ قد كان هذا عاقبة لحمل الإنسان الأمانة وكان فيما تعلق به لام التعليل إجمال تعين أن هذا يفيد بيانا لما أجمل في قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جهولاً} [الأحزاب: 72] كما قدمناه آنفا، أي فكان الإنسان فريقين: فريقا ظالما جاهلا، وفريقا راشد عالما.
(21/350)
والمعنى: فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في أصل الفطرة وبحسب الشريعة، وتاب على المؤمنين فغفر من ذنوبهم لأنهم وفوا بالأمانة التي تحملوها. وهذا مثل قوله فيما مر: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] أي كما تاب كلى المؤمنين بأن يندموا على ما فرط من نفاقهم فيخلصوا الإيمان فيتوب الله عليهم وقد تحقق ذلك في كثير منهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} وكان الظاهر إضماره لزيادة العناية بتلك التوبة لما في الإظهار في مقام الإضمار من العناية.
وذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين في حين الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء نحو قولهم: حل ببني فلان مرض يريدون وبنسائهم.
فذكر النساء في الآية إشارة إلى أن لهن شأنا كان في حوادث غزوة الخندق من إعانة لرجالهن على كيد المسلمين وبعكس ذلك حال نساء المسلمين.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله عاملهم بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة.
(21/351)
المجلد الثاني والعشرون
سورة سبأ
...
سورة سبأ
هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراءة ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة. ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها أهل سبأ.
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه. وعن مقاتل أن آية: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلى قوله: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] نزلت بالمدينة. ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام. والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد، قاله قتادة، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الخ.
ولابن الحصار أن سورة سبا مدنية لما رواه الترمذي: عن فروة بن مسيك العطيفي المرادي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ? الحديث. قال ابن الحصار: هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف. وقال ابن الحصار: يحتمل أن يكون قوله "وأنزل" حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل.
وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور، نزلت بعد سورة لقمان سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في "الإتقان"، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 90- 92] إنهم عَنَوا
(22/5)
قوله تعالى في هذه السورة: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين. وليس يتعين أن يكون قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} معنياً به هذه الآية لجواز أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم هددهم بذلك في موعظة أخرى.
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور،وخمس وخمسون في عد أهل الشام.
أغراض هذه السورة
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعُبّادها.
ثم موضوع البعث، وعن مقاتل: أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] الآية الأخيرة من سورة الأحزاب. قال لأصحابه: كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3] الآية. وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1، 2] تمهيد للمقصود من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} .
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.
وإثبات صدق النبيء صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب.
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل. وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأزراء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ، وحذروا من الشيطان، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله، وأنذروا بما
(22/6)
سيلقون يوم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم.
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
افتتحت السورة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإخبار باختصاصه به. فجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هنا يجوز كونها إخبارا بأن جنس الحمد مستحق لله تعالى فتكون اللام في قوله: {لِلَّهِ} لام الملك. ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام: أحمد الله.
وقد تقدم الكلام على {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف.
وهذه إحدى سور خمس مفتتحة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهن كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه، والربع الأخير، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف.
واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإنشاء الثناء عليه لأن ملكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجاد تلك المملوكات وذلك الإيجاد عمل جميل يستحق صاحبه الحمد، وأيضا هو يتضمن نعما جمة. وهي أيضا يقتضي حمد المنعم، لأن الحمد يكون للفضائل والفواضل، فما في السماوات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية، فيها هدى حسي ونفساني، واليه معارج للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السير، وإزالة الغير، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين.
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونسوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.
(22/7)
وجملة {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالك الأمر كله في الآخرة.
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.
واعلم أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصرا مجازيا للمبالغة كما تقدم في سورت الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة {لَهُ الْحَمْدُ} لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، فالمعنى: أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرف غيره بتصرفه.
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجع التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة: إتقان التصرف بالإيجاد وضده،والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدل على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإحكام وهو الإتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها،وهو يستلزم التمكن من تصريفها، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين اقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة.
[2] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }.
بيان لجملة {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها
(22/8)
وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقان العمل بالعلم.
وخص بالذكر في متعلق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يدب على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دابا وجائلا فيهما والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدب عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها.
والولوج: الدخول والسلوك مثل ولوج المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يقبرون في الأرض وأحوالهم، والذي ينزل من السماء: المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواطف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء وعروج الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
واعلم أن كلمتي {يَلِجُ} و {يَخْرُجُ} أوضح ما يعبر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي {يَنْزِلُ} و {يَعْرُجُ} أوضح ما يعبر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالة مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يكتفي بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقها بكتابي: "أصول الإنشاء والخطابة" بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.
ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكلم الطيب أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن
(22/9)
وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.
[3] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعرا بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات: 25، 26] وقال: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها موميا إلى عروج الأرواح عند مفاقرة الأجساد ونزول الأرواح لترد إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ: 1] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطرادا واعتراضا، وتقدم آنفا ما قيل: إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.
وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعلم بالغبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعرف المسلمين.
و {السَّاعَةُ} : علَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر.
وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت، لأن وقوعها هو إتيانها.
وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس.
ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإبطال المؤكد على عادة إرشاد
(22/10)
القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد.
و {بَلَى} حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير "بل" أو مركب من "بل" وألف زائدة، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثمة وربة، لكن {بَلَى} حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفا و بل يجاب به الإثبات والنفي وهو عاطف، وتقدم الكلام على {بَلَى} عند قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} في سورة البقرة [81].
وأكد ما اقتضاه {بَلَى} من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين.
وعُدِّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون:لتأتينا، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال: وأتاكم العدو، وأتاك أتاك اللاحقون، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب.
وفعل {أَتَى} يرد كثيرا في معنى حلول المكروه مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] و {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} [الزمر: 25] و {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقول النابغة:
فلتأتينك قصائد وليدفعَن ... جيشا إليك قوادم الأكوار
وقوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل {أَتَى} بحرف "على" فيقولون: أتى على كذا، إذا استأصله. ويكثر في غير ذلك استعمال فعل "جاء"، وقد يكون للمكروه نحو {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22].
{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
{عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] في قراءة من قرأه بالرفع، وصفة لـ {رَبَِّي} المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكره مناسبة تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس.
(22/11)
وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.
والغيب تقدم في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] على معان ذكرت هنالك.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {عَالِمُ الْغَيْبِ} بصيغة اسم الفاعل، وبرفع: {عَالِمُ} على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضا ومجرورا على الصفة لاسم الجلالة في قوله: {رَبِّي} .
وقرأ حمزة الكسائي: {عَلاَّمِ} بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلا سفسطائيا على أنها ليست بواقعة ولذلك سماها القرآن الواقعة في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 1، 2].
والعزوب: الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بكسر الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [61].
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [47].
وأشار بقوله: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} إلى تقريب معنى إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رفاتا وترابا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلا يستلزم القدرة في على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإذا عدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزق كان الله عالم بكل جزء فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتنفخ فيها أرواحها. فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو تسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن
(22/12)
أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ثم تنمو تلك الأجسام سريعا فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا.
وانظر قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} في سورة القمر [6، 7]، وقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} في سورة القارعة [4] فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البيض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تصير جرادا وتطير. ولهذا سمى الله ذلك البعث نشأة لأن فيه إنشاء جديدا وخلقا معادا وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع روح كل جسد إليه بعد تصويره بما سمي بالنفخ فقال: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 47] وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [ق: 15، 16] الآية. أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبو أنفسهم للتأمل.
وأشار بقوله: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.
[4، 5] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [5]}.
لام التعليل تتعلق بفعل: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] دون تقييد الإتيان بخصوص المخاطبين بل المراد ما شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل: لتأتين الساعة ليجزي الذين آمنوا ويجزي الذين سعوا في لآياتنا معجزين، وهم المخاطبون، وضمير "يجزي" عائد إلى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3].
والمعنى: أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم، أي جزاء صالحا مماثلا، وجزاء المفسدين جزاء سيئا، وعلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه.
والإتيان باسم الإشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إلية جدير بما سيرد بعد اسم
(22/13)
الإشارة من الحكم لأجل ما قبل أسم الإشارة من الأوصاف.
فجملة: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ابتدائية معترضة بين المتعاطفين.
وجملة: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ} ابتدائية أيضا.
وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} عطف على {الَّذِينَ آمَنُوا} وتقدير الكلام. ليجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق.
والمعنى: أن عالم الإنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم، وفاسدين متفاوت فسادهم، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاء على إحسانه ولا المفسد جزاء إفساده، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحا، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم. وإذ قد شوهد أن لم يحصل في هذه الحياة عامنا أنت بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى، فهذا مما يدل عليه العقل السليم وقد أعلمنا خالق الخلق على ذلك بلسان رسوله ورسله صلى الله عليه وسلم فتوافق العقل والنقل، وبطل الدجل والدخل.
وجُعل جزاء الذين آمنوا مغفرة، أي تجاوزوا عن آثامهم، ورزقا كريما وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آيلون إلى المغفرة والرزق الكريم.
ووصف بالكريم، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
وقوبل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بـ {الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها وبذلك يشمل عمل السيئات وهو سيئة من السيئات، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] الخ.
ومعنى: {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها: فالسعي مستعار للجد في فعل ما، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
(22/14)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} في سورة الحج [51]. وآيات الله هنا: القرآن كما يدل عليه قوله بعد: {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
و {مُعَاجِزِينَ} مبالغة في معجزين، وهو تمثيل: شبهت حالهم في مكرهم بالنبيء صلى الله عليه وسلم بحال من يمشي مشيا سريعا ليسبق غيه ويعجزه. العذاب: عذاب جهنم. والرجز: أسوأ العذاب وتقدم في قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} في سورة البقرة [59]. و {مِنْ} بيانيه فإن العذاب نفسه رجز.
وقرأ الجمهور: {مُعَاجِزِينَ} بصيغة المفاعلة تمثيل لحالا لحل ضنهم النجاة والانفلات من تعذيب الله إياهم بإنكارهم البعث والرسالة بحال من يسابق غيره ويعاجزه، أي يحاول عجزه عن لحاقه.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده: {مُعْجِزِينَ} بصيغة اسم الفاعل عن عجز بتشديد الجيم، ومعناه: مثبطين الناس عن اتباع آيات الله أو معجزين من آمن بآيات الله بالطعن والجدال.
وقرأ الجمهور: {أَلِيمٍ} بالجر صفة لـ {رِجْزٍ} . وقرأه ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع صفة لـ {عَذَابٌ} ، وهما سواء في المعنى.
[6] {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .
عطف على: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ: 4] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمراد بالذين سعوا في الآيات الذين كفروا، عدل عن جعل اسم الموصول {كَفَرُوا} [سبأ: 3] لتصلح الجملة أن تكون تمهيدا لإبطال قول المشركين في الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديرا بأن يمهد لإبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض، وهذه طريقة في إبطال شبه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبه ما يقابلها من إبطالها وربما سلك أهل الجدل طريقه أخرى هي تقديم الشبه ثم الكرور عليها بالإبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب "المواقف"، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها
(22/15)
التفتزاني في كتاب "المقاصد".
والحق أن الطريقتين جادتان وقد سُلكتا في القرآن.
ويجوز أن تكون جملة: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} عطفا على جملة: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [سبأ: 5] فبعد أن أوردت جملة: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} لمقابلة جملة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ: 4] الخ اعتبرت مقصودا من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} للإشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيبا للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى.
والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون "ويَعْلَمُ" للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العلم بالمرئيات التي علمها ضروري، ومفعولا {يَرَى} {الَّذِي أُنْزِلَ} و {الْحَقَّ} . وضمير {هُوَ} فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصرا إضافيا، أي لا ما يقوله المشركون مما يعرضون به القرآن، ويجوز أيضا أن يفيد قصرا حقيقيا ادعائيا، أي قصر الحقية المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل.
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخبارا عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، فهذا تحد للمشركين وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وليس احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبئ صلى الله عليه وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذ تبعا لعامتهم.
وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مَن آمنوا بالنبيء صلى الله عليه وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فضا غليظا حتى إذا أسلم رق قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام. وهذا
(22/16)
ما أعرب عنه قول بي خراش الهذلي خالطا فيه الجد بالهزل:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
فإنهم كانوا إذا لقوا النبيء صلى الله عليه وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوة فملأتهم حكمة وتقوى. وقد قال النبئ صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: "لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها". وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيِّهم ومعاهَدهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة. وعلى هذا المحمل حمل: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} في سورة الحج [54] ويؤيده قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} في سورة الروم [56].
وجملة: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} في موضع المعطوف على المفعول الثاني لـ {يَرَى} . والمعنى: يرك الذين أتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هاديا إلى العزيز الحميد، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو {الحْقَّ} فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق. والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإشعارها بتجدد الهداية وتكررها. وإيثار وصفي {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن بقية المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ويبلغ إلى الحمد، أي الخصال الموجبة للحمد، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل.
[7، 8] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [7] أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [8]}.
انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} دعوى وقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مستند تلك الدعوى، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه.
وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بتقيض دليلهم، ثم إرداف ذلك
(22/17)
التعجيب بالطعن في المتعجب به.
والمخاطب بقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ} غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولا بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقول كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل: {نَدُلُّكُمْ} من أنه خطاب لمن يبلغهم قول النبيء صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]، وهو عرض مكنى به من التعجيب، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال.
والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هيأوا ما يكون جوابا للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعى أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسم وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم قولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن? قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا يسجعه. قالوا فنقول مجنون? قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا فنقول شاعر? قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقلوا: فنقول ساحر? قال: ما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا شمس? قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزجه وبين المرء وعشيرته.
فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} طمعا منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبسا باستحالة هذا الخلق الجديد.
ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} .
(22/18)
ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضهم لبعض، فالتعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بـ {رَجُلِ} منكر من كونه معروفا بينهم وعن أهل بلدهم، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلا منهم. قال السكاكي كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما.
وإن كان قول المشركين موجها إلى الواردين مكة في الموسم، كان التعبير بـ {رَجُلٍ} جرا على مقتضى الظاهر لأن الواردين لا يعرف النبيء صلى الله عليه وسلم ولا دعوته فيكون كقول أبي ذر قبل إسلامه لأخيه: "اذهب فاستعلم لنا خبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي".
ومعنى: {نَدُلُّكُمْ} نعرفكم ونرشدكم. وأصل الدلالة الإرشاد إلى الطريق الموصل إلى مكان مطلوب. وغالب استعمال هذا الفعل أن يكون إرشاد من يطلب معرفة، وبذلك فالآية تقتضي أن هذا القول يقولونه للذين يسألونهم عن خبر رجل ظهر بينهم يدعي النبوة فيقولون: هل ندلكم على رجل يزعم كذا، أي ليس بنبي بل مفتر أو مجنون، فمورد الاستفهام هو ما تضمنه قولهم: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ، أي هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته، أي وليس من صفته أنه نبيء بل هو: إما كاذب أو غير عاقل.
والإنباء: الإخبار عن أمر عظيم، وعظمة هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع.
وجملة: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} هي المنبَّأ به.ولما كان الإنباء في معنى القول لأنه إخبار صح أن يقع بعده ما هو من قول المنبأ. فالتقدير من جهة المعنى: يقول إنكم لفي خلق جديد، ولذلك اجتلبت "إنّ" المكسورة الهمزة دون المفتوحة لمراعاة حكاية القول.
وهذه حكاية ما نبَّأ به لأن المنبئ إنما نبأ بأن الناس يصيرون في خلق جديد.
وأما شبه الجملة وهو قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فليس مما نَبَّأ به الرجل وإنما هو اعتراض في كلام الحاكين تنبيها على استحالة ما يقوله هذا الرجل على أنه لازم لإثبات الخلق الجديد لكل الأموات. وليس {إِذَا} بمفيد شرطا للخلق الجديد لأنه ليس يلزم للخلق الجديد أن يتقدمه البلى، ولكن المراد أنه يكون البلى حائلا دون الخلق الجديد المنبَّأ به.
وتقديم هذا الاعتراض للاهتمام به ليتقرر في أذهان السامعين لأنه مناط الإحالة في زعمهم، فإن إعادة الحياة للأموات تكون بعد انعدام أجزاء الأجساد، وتكون بعد تفرقها
(22/19)
تفرقاً قريباً من العدم، وتكون بعد تفرق ما، وتكون مع بقاء الأجساد على حالها بقاء متفاوتا في الصلابة والرطوبة، وهم أنكروا إعادة الحياة في سائر الأحوال ولكنهم خصوا في كلامهم الإعادة بعد التمزق كل ممزق، أي بعد اضمحلال الأجساد أو تفرقها الشديد، لقوة استحالة إرجاع الحياة إليها بعدئذ.
والتمزيق: تفكيك الأجزاء المتلاصقة بعضها عن بعض بحيث تصير قطعا متباعدة.
والممزَّق: مصدر ميمي لمزَّقه مثل المسرَّح للتسريح.
و {كُلَّ} على الوجهين مستعملة في معنى الكثرة كقوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقول النابغة:
بها كل ذيال ... ... ... ... ... ... ...
وقد تقدم غير مرة.
والخلق الجديد: الحديث العهد بالوجود،أي في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان، فجديد فعيل من جد بمعنى قطع. فأصل معنى جديد مقطوع وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج فإذا أتمه قطعه من المنوال. أريد به أنه بحدثان قطعه فصار كناية عن عدم لبسه، ثم شاع ذلك فصار الجديد وصفا بمعنى الحديث العهد، وتنوسي معنى المفعولية منه فصار وصفا بمعنى الفاعلية، فيقال: جَدَّ الثوب بالرقع، بمعنى: كان حديث عهد بنسج. ويشبه أن يكون "جَدّ" اللازم مطاوعا لـ"جَدَّه" المتعدي كما كان "جَبَر العظمُ" مطاوعا لـ"جَبَر" كما في قول العجاج:
قد جبر الدِّينَ الإله فجبر
وبهذا يحق الجمع بين قول البصريين الذين اعتبروا جديدا فعيلا بمعنى فاعل، وقول الكوفيين بأنه فعيل بمعنى مفعول، وعلى هذين الاعتبارين يجوز أن يقال: ملحفة جديد كما قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف: 56].
ووصف الخلق الجديد باعتبار أن المصدر بمنزلة اسم الجنس يكون قديما فهو إذن بمعنى الحاصل بالمصدر، ويكون جديدا فهو بمنزلة اسم الفاعل فوصف بالجديد ليتمحض لأحد احتماليه، والظرفية من قوله: {فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مجازية في قوة التلبس بالخلق الجديد تلبسا كتلبس المظروف بالظرف.
(22/20)
وجملة: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} في موضع صفة ثانية لـ {رَجُل} أتوا بها استفهامية لتشريك المخاطبين معهم في ترديد الرجل بين هذين الحالين.
وحذفت همزة فعل {أَفْتَرَى} لأنها همزة وصل فسقطت لأن همزة الاستفهام وصلت بالفعل فسقطت همزة الوصل في الدرج.
وجعلوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم دائرا بين الكذب والجنون بناء على أنه إن كان ما قاله من البعث قاله عن عمد وسلامة عقل فهو في زعمهم مفتر لأنهم يزعمون ان ذلك لا يطابق الواقع لأنه محال في نظرهم القاصر،وإن كان قاله بلسانه لإملاء عقل مختل فهو مجنون وكلام المجنون لا يوصف بالافتراء. وإنما رددوا حاله بين الأمرين بناء على أنه أخبر عن تلقي وحي من الله فلم يبق محتملا لقسم ثالث وهو أن يكون متوهما أو غالطا كما لا يخفى.
وقد استدل الجاحظ بهذه الآية لرأيه في أن الكلام يصفه العرب بالصدق إن كان مطابقا للواقع مع اتقاد المتكلم لذلك، وبالكذب أن كان غير مطابق للواقع ولا للاعتقاد، وما سوى هذين الصنفين لا يوصف بصدق ولا كذب بل هو واسطة بينهما وهو الذي يخالف الواقع ويوافق اعتقاد المتكلم أو يخالف الاعتقاد الواقع أو يخالفهما معا أو لم يكن لصاحبه اعتقاد ومن هذا الصنف الأخير كلام المجنون.
ولا يصح أن تكون هذه الآية دليلا له لأنها حكت كلام المشركين في مقام تمويههم وضلالهم أو تضليلهم فهو من السفسفطة، ثم إن الافتراء أخص من الكذب لأن الافتراء كان من عمد فمقابلته بالجنون لا تقتضي أن كلام المجنون ليس من الكذب بل إنه ليس من الافتراء.
والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
وقد رد الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالون أو مضلون، وواهمون أو موهمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإضراب، ثم بجملة: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} . فقابل ما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لأن الذي يكذب على الله يسلط الله عليه عذابه، وأنهم في الضلال البعيد، وذلك مقابل قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} .
(22/21)
وعدل عن أن يقال: بل أنتم في العذاب والضلال إلى: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ} إدماجا لتهديدهم.
و {الضَّلاَل} : خطأ الطريق الموصل إلى المقصود. و {الْبَعِيد} وصف به الضلال باعتبار كونه وصفا لطريق الضال، فإسناد وصفه إلى الضلال مجازي لأنه صفة مكان الضلال وهو الطريق الذي حاد عن المكان المقصود، لأن الضال كلما توغل مسافة في الطريق المضلول فيه ازداد بعدا عن المقصود فاشتد ضلاله وعسر خلاصه، وهو مع ذلك ترشيح للإسناد المجازي.
وقوله: {فِي الْعَذَابِ} إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا.
والظرفية بمعنى الإعداد لهم فحصل في حرف الظرفية مجازان إذ جعل العذاب والضلال لتلازمهما كأنهما حاصلان معا، فهذا من استعمال الموضوع للواقع فيما ليس بواقع تنبيها على تحقيق وقوعه.
[9] {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [9]}.
الفاء لتفريع ما بعدها على قوله: {بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ} [سبأ: 8] الخ لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل.
والاستفهام للتعجب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإنسان بعد العدم.
والرؤية البصرية بقرينة تعليق {إِلَى} . فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي. والمقصود: حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه. وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
(22/22)
بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
والمراد بـ {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وبـ {مَا خَلْفَهُمْ} ما هو وراء كل أحد منها فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها وبعضها هاو إلى مغربه وقمرا مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة،وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق. وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه.
و {مِن} في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} تبعيضية.
والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
وجملة {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ} اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيكة من سقوط الكسف.
وقرأ الكسائي وحده نخسبهم بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك: اضرب فلانا، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضرب مالكا، ولا تدغم الميم في الباء كقولك: اضمم بكرا، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصب.
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} في سورة الإسراء [92].
وقرأ الجمهور: {نَخْسِفْ} و {نُسْقِطْ} بنون العظمة. وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام.
(22/23)
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} تعليل للتعجيب الإنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفا، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل، كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
ولك أن تجعل الجملة تذييلا. والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من الكائنات فيهما.
والآية: الدليل. والتعريف للجنس،فالمفرد المعرف مساو للجمع، أي لآيات كثيرة.
والمنيب: الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدر المواعظ حق قدرها ويتلقاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مترديا برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم.
[10، 11] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [10] أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [11]}.
مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفية. فقال ابن عطية: ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجا على ما منح محمد، أي لا تستعبدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما.
وقال الزمخشري عند قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9] لأن المنيب لا يخلوا من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به اهـ. فقال الطيبي: فيه إشارة إلى نظام بيان هذه الآية بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} لأنه كالتخلص منه إليه، لأن من المنيبين المتفكرين في آيات الله قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] اهـ يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثل في المنيبين بما أشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعيا غليظا إلى أن اصطفاه الله نبيا وملكا صالحا مصلحا لأمة عظيمة، فهو مثل المنيبين كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]، فلإنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله.وفي ذكر فضله عبر للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضا بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله، وفي هذا
(22/24)
إيماء إلى بشارة النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإيماء أوضح في قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الآية في سورة ص.[17]. وسمي الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصا، والوجه أن يسميه استطرادا أو اعتراضا وإن كان طويلا، فأن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعد ما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20].
وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء [163] وعند قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} في سورة الأنعام [84].
و"مِن" في قوله: {مِنَّا} ابتدائية متعلقة بـ {آتَيْنَا} ، أي من لدنا ومن عندنا، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود، كقوله تعالى: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]. وتنكير {فَضْلاً} لتعظيمه وهو فضل النبوة وفضل الملك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سعة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطول العمر في الصلاح وغير ذلك.
وجملة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} مقول قول محذوف، وحذف القول استعمال شائع، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لجملة: {آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} .
هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون لو ما كانت حرف عطف.
والأمر في: {أَوِّبِي مَعَهُ} أمر تكوين وتسخير.
والتأويب: الترجيع، أي ترجيع الصوت، وقيل التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب باللغة العبرية، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء.
و {الطَّيْرَ} منصوب بالعطف على المنادى لأن المعطوف المعرف على المنادى يجوز نصبه ورفعة والنصب أرجح عند يونس وأبو عمرو وعيسى ابن عمر والجرمي وهو أوجه، وجوز أن يكون {وَالطَّيْرَ} مفعولا معه لِـ {أَوِّبِي} ،والتقدير: أوبى معه ومع الطير، فيفيد أن الطير تأوب معه أيضا.
(22/25)
وإلانة الحديد: تسخيره لأصابعه حينما يلوي حلق الدروع ويغمز المزامير.
و {أَن} تفسيرية لما في {أَلَنَّا لَهُ} من معنى: أشعرناه بتسخير الحديد ليقدم على صنعه فمان في {أَلَنَّا} معنى: وأوحينا إليه: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} .
و {الْحَدِيد} : تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب. وتقدم تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} في سورة الإسراء [50].
و {سَابِغَاتٍ} صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
ومعنى: {قَدِّرْ} اجعله على تقدير والتقدير: جعل الشيء على مقدار مخصوص.
و {السَّرْد} : صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تشد شقق الدرع بعضها ببعض كالخياطة للثوب، والدرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة. قال أبو ذويب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبَّعُ
ويقال لناسج الدروس: سرد وزاد بالسين والزاي، وقال المعري يصف درعاً:
وداود قين السابغات أذالها ... وتلك أضاة صانها المرء تبع
فلما سخر الله له ما أستصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحا لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم.
وضمير {اعْمَلُوا} لداود وآله كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] أو له وحده على وجه التعظيم.
وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} موقع "إنّ" فيه موقع فاء التسبب كقول بشار:
إنّ ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدم غير مرة.
والبصير: المطلع العليم، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح.
[12] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ
(22/26)
مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [12]}.
عطف فضيلة سليمان على فضيلة داود للاعتبار بما أوتيه سليمان من فضل كرامة لأبيه على إنابته ولسليمان على نشأته الصالحة عند أبيه، فالعطف على: {لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ: 10] والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفا بالإنابة قال تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ} في سورة ص [34].
و {الرِّيحَ} عطف على: {الْحَدِيد} في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] بتقدير فعل يدل عليه: {وَأَلَنَّا} . والتقدير: وسخرنا لسليمان الريح على نحو قول الشاعر:
متقلدا سيفا ورمحا1
أي وحاملاً رمحاً.
واللام في قوله: {لِسُلَيْمَانَ} لام التقوية أنه لما حذف الفعل لدلالة ما تقدم عليه قرن مفعول الأول بلام التقوية لأن الاحتجاج إلى لام التقوية عند حذف الفعل أشد من الاحتجاج إليها عند تأخير الفعل عن المفعول. و {الرِّيحَ} مفعول ثان.
ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سير سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحا موسمية تهب شهرا مشرقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهب شهرا مغربه لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} في سورة الأنبياء [81].
فأطلق الغدو على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيها بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيها بغدو الناس في الصباح.
وأطلق الرواح على الرجوع من النهمة التي يخرج لها كقول أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت غاد فمُبْكِر ... غداة غد أم رائح فمؤخِّرُ
لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء فهو مشتق من راح إذا رجع إلى مقره.
وقرأ الجمهور: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} بلفظ إفراد {الرِّيح} وبنصب: {الرِّيحَ} على أنه معطوف على: {الْحَدِيد} في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]. وقرأ أبو بكر عن عاصم
ـــــــ
1 أوّله: ورأيت زوجك في الوغى.
(22/27)
برفع: {الرِّيحُ} على أنه من عطف الجمل، و {الرِّيحُ} مبتدأ و {لِسُلَيْمَانَ} خبر مقدم. وقرأه أبو جعفر {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع منصوباً.
و {الْقِطْر} بكسر القاف وسكون الطاء: النحاس المذاب. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} في سورة الكهف [96].
والإسالة: جعل الشيء سائلا، أي منبطحا في الأرض كمسيل الوادي. و {عَيْن الْقِطْرِ} ليست عينا حقيقية ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من فساقي ونحوها من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة أصهار النحاس وتوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودرقا، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقين للمعتاد بقوة إلهية، شبه الإصهار بالكهرباء أو بالأسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته ملك من ملوك زمانه.
ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار كقول كثير:
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
ويكون: {أَسَلْنَا} أيضا ترشيحا لاستعارة اسم العين لمعنى مذاب القطر، ووجه الشبه الكثرة.
وقوله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يجوز أن يكون عطفا على جملة: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} فقوله: {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} مبتدأ وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} خبر. و {مِن} في قوله: {مِنَ الجِْنِِّ} بيان لإبهام {مَنْ} قدم على المبيَّن للاهتمام به لغرابته، وهو في موضع الحال. ولك أن تجعل: {مَنْ يَعْمَلُ} عطفا على: {الرِّيح} في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي سخرنا له من يعمل بين يديه من الجن، وتجعل جملة: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومعنى: {يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يخدمه ويطيعه. يقال: أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقضي هذا أن يكون عملته الجن وحدهم بل يقتضي أن منهم عملة، وفي آية النمل: [17] {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} .
والزيغ: تجاوز الحد والطريق. والمعنى: من يعص أمرنا الجاري على لسان سليمان.
(22/28)
وذكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل.
و {عَذَابِ السَّعِيرِ} : عذاب النار تشبيه أي عذاب كعذاب جهنم وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب.
[13] {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [13]} .
و {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} جملة مبينة لجملة {يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} .
و {مِنْ مَحَارِيبَ} بيان لـ {مَا يَشَاءُ} .
والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدو والمهاجم للمدينة، أو لأنه يرمي شرفاته بالحراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وقد سموا قصور غمدان في اليمن محاريب غمدان. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية. ثم أطلق المحراب على الذي يختلي فيه للعبادة فهوا بمنزلة المسجد الخاص قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} وتقدم في سورة آل عمران [39]. وكان لداود محراب يجلس فيه للعبادة قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} في سورة ص [21].
وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإمام الذي يؤم الناس، يجعل مثل كوة غير نافذة واصلة إلى ارض المسجد في حائط القبلة يقف الأمام تحته، فتسميه ذلك محرابا تسمية حديثة ولم أقف على تعيين الزمن الذي ابتدئ فيه إطلاق اسم المحراب على هذا الموقف. واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية ، والمظنون أنه حدث في أولها قي حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاق أو الطاقة وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محرابا، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة قال عمر بن أبي ربيعة:
دمية عند راهب قسيس ... صوروها في مذابح المحراب
والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية.
(22/29)
وما حكي عن أنس بن مالك إن صح فإنما يعني بيت للصلاة خاص. ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال: المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محراب المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذ مطلقا على مكان العبادة.
ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرب النبيء صلى الله عليه وسلم يصلي فيه صورة محراب منفصل يسمونه محراب النبيء صلى الله عليه وسلم وإنما هو علامة على تحري موقفه.
والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة دلالة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيرا، ثم وسعوها شيئا فشيئا حتى صيروها في صوره نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق ثم أن الخليفة الوليد ابن عبد الملك أمر في جعله في المسجد النبوي حين وسعه وأعاد بناءه وذلك في مدة أمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب "خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى".
والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء، ووزنه تفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تفعال بكسر التاء، وأما قياس هذا الباب وأكثره فهو بفتح التاء. والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين: تبيان وتلقاء بمعنى اللقاء. وأما الأسماء فورد منه على الكسر نحو من أربعة عشر اسما منها:تمثال، أحصاها ابن دريد، وزاد ابن العربي في أحكام القرآن عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين. والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صورا مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود فقد كان كرسي سليمان محفوفا بتماثيل أسود أربعة عشر كما وصف في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول. وكان قد جعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس.
ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة وقد حرمها الإسلام لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها
(22/30)
لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك. واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس. وحكم صنعها يتبع اتخاذها. ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت.
والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء. وقدرت الجفنة في التوارة بأنها تسع أربعين بثا "بالمثلثة" ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال. وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي. وهي جمع: جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع قال الأعشى:
نفي الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي.
وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا ببيت المقدس لأجل وضع الماء ليغسلوا فيها ما يقربونه من المحرقات كما في الإصحاح الرابع منسفر الأيام الثاني.
وكتب في المصحف: {كَالْجَوَابِ} بدون ياء بعد الموحدة. وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين. وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف.
والقدرو: جمع قدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل. قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي:
له بفناء البيت سوداء فخمة ... تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر
بقية قِدر من قدور تورثت ... لآل الجلاح كابراً بعد كابر
أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مرقا ونحوه.
وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالا في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
(22/31)
والراسيات: الثابتات في الأرض التي لا تنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباح مساء.
وجملة: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} مقول قول محذوف، أي قلنا: اعملوا يا آل داود، ومفعول: {اعْمَلُوا} محذوف دل عليه قوله: {شُكْراً} . وتقديره: اعملوا صالحا، كما تقدم آنفا، عملا لشكر الله تعالى، فانتصب: {شُكٍْراً} على المفعول لأجله. والخطاب لسليمان وآله.
وذيل بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فهو من تمام المقول، وفيه حث على الاهتمام بالعمل الصالح. ويجوز أن يكون هذا التذييل كلاما جديدا جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة.
و {الشَّكُورُ} : الكثير الشكر. وإذ كان العمل شكرا أفاد أن العاملين قليل.
[14] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [14]}.
تفريع على قوله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 12، 13] أي دام عملهم له حتى مات: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} إلى آخره. ولا شك أن ذلك لم يطل وقته لأن مثله في عظمة ملكه لا بد أن يفتقده أتباعه، فجملة: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} الخ جواب "لما قضَْيَنا عليه الموتَ".
وضمير: {دَلَّهُمْ} يعود إلى معلوم من المقام، أي أهل بلاطه.
والدلالة: الإشعار بأمر خفي. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7].
و {دَابَّةُ الْأَرْضِ} هي الأرضة "بفتحات ثلاث" وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث: سوس ينخر الخشب. فالمراد من الأرض مصدر أرضت السرفة الخشب من باب ضرب، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيرا من السُرف فتعجَّل لها النخر.
وجملة: {فَلَمَّا خَرَّ} مفرعة على جملة: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} . وجملة: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} جواب "لمّا خَرّ". والمنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين، وتُخفَّفُ الهمزة فتصير
(22/32)
ألفا هي العصا العظيمة، قيل هي كلمة من لغة الحبشة.
وقرأ نافع وأبو عمرو بألف بعد السين. وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر. بهمزة مفتوحة بعد السين. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفا وهو تخفيف نادر.
وقرأ الجمهور: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} بفتح الفوقية والموحدة والتحتية. وقرأه رويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول، أي تبين الناس الجن. و {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين.
وقوله: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} إسناد مبهم فصله قوله: {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} فـ {أَنْ} مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من {الجِْنّ} بدل اشتمال، أي تبينت أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، أي تبين عدم علمهم الغيب، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب.
و {الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : المذل، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزليا وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جنيا يأتيه بأخبار الغيب،ويسمونه رئيا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهون عليهم.
[15] {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [15]}.
جرّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين ملك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة بلقيس، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان إذ كان هذان مثلا في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلا لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المنعم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعم المتفرد بالإلهية.
وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ: 10]
(22/33)
"لما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم "أي للمشركين أي لحالهم" بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ" اهـ. فهذه القصة تمثيل أمة بأمة، وبلاد بأخرى، وذلك من قياس وعبره. وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112، 113] فسوق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ. والمعنى: لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية. والآية هنا: الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته.
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلة من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم، وتجريد {كَانَ} من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل المجرور.
واللام في {لِسَبَإٍ} متعلق بـ {آيَة} . والمساكن: البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} والمساكن: ديار السكنى. وتقدم الكلام على سبأ عند قوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} في سورة النمل [22].
واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله.
وقرأ الجمهور: {فِي مَسَاكِنِهِمْ} بصيغة جمع مسكن. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد {فِي مَسْكَنِهِمْ} إلا أن حمزة وحفصا فَتَحا الكاف، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين. وشذ نحو قولهم: مسجد لبيت الصلاة.
و {جَنَّتَانِ} بدل من {آيَة} باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر.
و {جَنَّتَانِ} تشبيه بليغ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجارا ذات ثمر متصل بعضه ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السائر كجنة، وما على يساره كجنة. وقيل كان لكل رجل في مسكنه، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفؤون ظلالهما في الصباح والمساء ويجتنبون ثمارها من نخيل وأعناب وغيرها، فيكون معنى التركيب على التوزيع،
(22/34)
أي: لكل مسكن جنتان، كقولهم: ركب القوم دوابهم، وهذا مناسب لقوله: {فِي مَسَاكِنِهِمْ} دون أن يقول في بلادهم، أو ديارهم، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمرونها مثل غوطة دمشق، وهذا يناسب قوله بعد {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد.
والمعنى: أنهم كانوا أهل جنات مغروسة أشجارا مثمرة وأعنابا.
وكانت مدينتهم مأرب "بهمزة ساكنة بعد الميم" وهي بين صنعاء وحضرموت، قبل كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلا لوجده قد ملئ ثمارا مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها. ولعل في هذا القول شيئا من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة. وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب.
وجملة: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله:
امتلأ الحوض وقال قَطْني
وإما أبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم قيل بعث فيهم اثنا عشر نبيا، أي مثل تبع أسعد، فقد نقل أنه كان نبيا كما أشار إليه قوله تعالى: {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق: 14] أو غيره، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ، وفي جعل: {جَنَّتَانِ} في نظم الكلام بدلا عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم. قيل كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام.
والطيبة: الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] وقال: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] وقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]. وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط "بئرحاء": "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". والطيب ضد الخبيث قال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
(22/35)
واشتقاقه من الطيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة.
وجملة: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول، أي بلدة لكم طيبة، وتنكير: {بَلْدَة} للتعظيم. و {بَلْدَةٌ} مبتدأ و {طَيِّبَةٌ} نعت لـ {بَلْدَة} ، وخبره محذوف تقديره: لكم، وعُدل عن إضافة {بَلْدَة} إلى ضميرهم لتمون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل.
وجملة {وَرَبٌّ غَفُورٌ} عطف على جملة {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} .
وتنكير {رَبّ} للتعظيم. وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} ، والتقدير: ورب لكم، أي ربكم غفور.
والعدول عن إضافة {رَبّ} لضمير المخاطبين إلى تنكير {رَبّ} وتقدير لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص وتكون جملة على وزان التي قبلها طابا للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل.
ومعنى: {غَفُور} : متجاوز عنكم، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان بلقيس بدين سليمان عليه السلام، ولا يعلم مقدار مدة بقائهم على الإيمان.
[16] {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [16]}.
تفريع على قوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] وقع اعتراضا بين أجزاء القصة التي بقيتها قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى} [سبأ: 18] الخ. وهو اعتراض بالفاء مثل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} وتقدم في سورة الأنفال [14].
والإعراض يقتضي سبق دعوة رسول أو نبي، والمعنى: أعرضوا عن الاستجابة لدعوة التوحيد بالعودة إلى عبادة الشمس بعد أن اقلعوا في زمن سليمان وبلقيس فلعل بلقيس كانت حولتهم من عبادة الشمس فقط فقد كانت الأمم تتبع أديان ملوكهم وقد قيل إن بلقيس لم تعمر بعد زيارة سليمان إلا بضع سنين.
والإرسال: الطلاق وهو ضد الحبس، وتعديته بحرف "على" موذنة بأنه إرسال نقمة فإن سيل العرم كان محبوسا بالسد في مأرب فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يسقون جناتهم،
(22/36)
فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد قدر الله لهم عقابا بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء فكان لهم خطرا وإتلافا للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلاف نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه، وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم.
و {الْعَرِم} يجوز أن يكون وصفا العرامة وهي الشدة والكثرة فتكون إضافة "السيل" إلى {الْعَرِم} من إضافة الموصوف إلى الصفة. ويجوز أن يكون {الْعَرِم} اسما للسيل الذين كان ينصب في السد فتكون الإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم، أي السيل العرم.
وكانت للسيول والأدوية في بلاد العرب أسماء كقولهم: سيل مهزور ومذينيب الذي كانت تسقى به حدائق المدينة، ويدل على هذا المعنى قول الأعشى:
ومأرب عفى عليها العرم
وقيل: {الْعَرِم} اسم جمع عَرَمة بوزن شجرة، وقيل لا واحد له من لفظه وهو ما بني ليمسك الماء لغة يمنية وحبشية. وهي المسناة بلغة أهل الحجاز، والمسناة بوزن مفعلة التي هي أسم الآلة مشتق من سنيت بمعنى سقيت،ومنه سميت الساقية سانية وهي الدلو المستقى به والإضافة على هذين أصلية.
والمعنى: أرسلنا السيل الذي كان مخزونا بالسد.
وكان لأهل سبأ سد عظيم قرب بلاد مأرب "ومأرب من كور اليمن" وكان أعظم السداد في بدلا اليمن التي كانت فيها سداد كثيرة متفرقة وكانوا جعلوا هذه السداد لخزن الماء الذي تأتى به السيول في وقت نزول الأمطار في الصيف والخريف فكانوا يعمدون إلى ممرات السيول من بين الجبال فيبنون في ممر الماء سورا من صخور يبنونها بناء محكما يصبون في الشقوق التي بين الصخور القار حتى تلتئم فينحبس الماء الذي يسقط هنالك حتى إذا امتلأ الخزان جعلوا بجانبيه جوابي عظيمة يصب فيها الماء يفيض من أعلى السد فيقيمون من ذلك ما يستطيعون من توفير الماء المختزن.
وكان سدّ مأرب الذي يحفظ فيه: {سَيْل الْعَرِم} شرع في بنائه سبأ أول ملوك هذه الأمة ولم يتمه فأتمه ابنه حمير. وأما ما يقال من أن بلقيس بنته فذلك اشتباه إذ لعل بلقيس بنت حوله خزانات أخرى فرعيه أو رممت بناءه ترمبما أطلق عليه اسم البناء، فقد كانوا
(22/37)
يتعهدون تلك السداد بالإصلاح والترميم كل سنة حتى تبقى تجاه قوة السيول الساقطة فيها.
وكانوا يجعلون للسد منافذ مغلقة يزيلون عنها السكر إذ أرادوا إرسال الماء إلى الجهات المتفرقة التي تسقى منه إذ جعلوا جناتهم حول السد مجتمعة. وكان يصب في سد مأرب سبعون واديا.
وجعلوا هذا السد بين جبلين يعرف كلاهما بالبلق فهما البلق الأيمن والبلق الأيسر.
وأعظم الأودية التي كانت تصب فيه اسمه "إذنه" فقالوا: أن الأودية كانت تأتي إلى سبأ من الشجر وأودية اليمن.
وهذا السد حائط طوله من الشق إلى الغرب ثمانمائة ذراعا وارتفاعه بضع عشرة ذراعا وعرضه مائة وخمسون ذراعاً.
وقد شاهد الحسن الهمداني ووصفه في كتابه المسمى بالإكليل وهو من أهل أوائل القرن الرابع بما سمعت حاصلة. ووصفه الرحالة "أرنو" الفرنسي سنة 1883 والرحالة غلازر الفرنسي.
ولا يعرف وقت انهدام هذا السد ولا أسباب ذلك. والظاهر إن سبب انهدامه اشتغال ملوكهم بحروب داخليه بينهم ألهتهم عن تفقد ترميمه حتى تخرب، أو يكون قد خربه بعض من حاربهم من أعدائهم، وأما ما يذكر في القصص من أن السد خربته الجرذان فذلك من الخرافات.
وفي {الْعَرِم} قال النابغة الجعدي:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العَرِما
والتبديل: تعويض شيء بآخر وهو يتعدى إلى المأخوذ بنفسه وإلى المبذول بالباء وهي باء العوض كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} في سورة النساء [2].
فالمعنى:أعطيناهم أشجار خَمْط وأثل وسدر عوض عن جنتيهم، أي صارت بلادهم شعراء قاحلة ليس فيها إلا شجر العضاة والبادية، وفيما بين هذين الحالين أحوال عظيمة انتابتهم فقاسوا العطش وفقدان الثمار حتى اضطروا إلى مفارقة تلك الديار فلما كانت هذه النهاية دالة على تلك الأحوال طوي ذكر ما قبلها واقتصر على {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
(22/38)
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} إلى آخره.
وإطلاق اسم الجنتين على هذه المنابت مشاكلة للتهكم كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فجعلنا قراكم ... قبيل الصبح مرادة طحونا
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24].
وقد وصف الأعشى هذه الحالة بدءا ونهاية بقوله:
وفي ذاك للمؤنسي عِبرة ... ومأرب عفى عليه العرم
رخام بنته لهم حِمير ... إذا جاء موّاره لم يَرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذا قُسم
فعاشوا بذلك في غبطة ... فحاربهم جارف منهزم
فطار القيول وقيلاتها ... ببهماء فيها سراب يطِم
فطاروا سراعا وما يقدرو ... ن منه لشرب صبيّ فُطم
والخَمْط: شجر الأراك. ويطلق الخمط على الشيء المر. والأثل: شجر عظيم من شجر العظاه يشبه الطرفاء. والسدر:شجر من العضاة أيضا له شوك يشبه شجر العناب. وكلها تنبت في الفيافي.
والسدر: أكثرها ظلا وأنفعها لأنه يغسل بورقه مع الماء فينظف وفيه رائحة حسنة ولذلك وصف هنا بالقليل لإفادة أن معظم شجرهم لا فائدة منه، وزيد تقليله قلة يذكر كلمة {شَيْء} المؤذنة في ذاتها بالقلة، يقال شيء من كذا، إذا كان قليلا.
وفي القرآن: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67].
والأكل يضم الهمزة وسكون الكاف ويضم الكاف: المأكول. قرأ نافع وابن كثير بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه باقي العشرة بضم الكاف.
وقرأ الجمهور: {أُكُلٍ} بالتنوين مجرورا فإذا كان {خَمْط} مرادا به الشجر المسمى بالخمط، فلا يجوز أن يكون {خَمْط} صفة لـ {أُكُل} لأن الخمط شجر، ولا أن يكون بدلا من {أُكُل} كذلك، ولا عطف بيان كما قدره أبو علي لأن عطف البيان كالبدل المطابق، فتعين أن يكون {خَمْط} هنا صفة يقال: شيء خامط إذا كان مرا.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {أُكُل} بالإضافة إلى {خَمْط} ، فالخمط إذن مراد به شجر
(22/39)
الأراك،وأكله ثمره وهو البرير وهو مر الطعم.
ومعنى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} صاحبتي {أُكُلٍ} فـ"ذوات" جمع "ذات" التي بمعنى صاحبة، وهي مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، وأصل ذات ذواة بهاء التأنيث مثل ذوات ووزنها فعله بفتحتين ولامها واور، فأصلها ذووه فلما تحركت الواو إثر فتحة قلبت ألفا ثم خففوها في حال الإفراد بحذف العين فقالوا: ذات فوزنها فلت أو فله. وقال الجوهري:أصل التاء في ذات هاء مثل نواة لأنك إذا وقفت عليها في الواحد قلت: ذاه بالهاء، ولكنهم لما وصلوا بما بعدها بالإضافة صارت تاء ويدل لكون أصلها هاء أنه إذا صغر يقال ذويه بهاء التأنيث اهـ. ولم يبين أئمة اللغة وجه هذا الإبدال ولعله لكون الكلمة بنيت على حرف واحد وألف هي مدة الفتحة فكان النطق بالهاء بعدهما ثقيلا في حال الوقف، ثم لما ثنوها ردوها إلى أصلها لأن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها فقالوا: ذواتا كذا، وحذفت النون للزوم إضافته، وأصله: ذويات. فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ووزنه فعلتان وصار وزنه بعد القلب فعاتان وإذا جمعوها عادوا إلى الحذف فقالوا ذوات كذا بمعنى صاحبات،وأصله ذويات فقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فأصل وزن ذواتى فعلات ثم صار وزنه بعد القلب فعات، وهو مما ألحق بجمع المؤنث السالم لأن تاءه في المفرد أصلها هاء، وأما تاؤه في الجمع فهي تاء صارت عوضا عن الهاء التي في المفرد على سنة الجمع بألف وتاء.
[17] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [17]}.
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] فهو من تمام الاعتراض.
واسم الإشارة يجوز أن يكون في محل نصب نائبا عن المفعول المطلق المبين لنوع الجزاء،وهو من البيان بطريق الإشارة،أي جزيناهم الجزاء المشار إليه وهو ما تقدم من التبديل بجنتيهم جنتين أخريين. وتقديمه على عامله للاهتمام بشدة ذلك الجزاء. واستحضاره باسم الإشارة لما فيه من عظمة هوله.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة في محل رفع بالابتداء وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} إلى قوله: {مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ويكون جملة: {جَزَيْنَاهُمْ} خبر المبتدأ والرابط ضمير محذوف تقديره: جزيناهموه.
(22/40)
والباء في: {بِمَا كَفَرُوا} للسبيبة و "مَا" مصدرية، أي بسبب كفرهم.
وكفر هو الكفر بالله، أي إنكار إلهيته لأنهم عبدة الشمس.
والاستفهام في: {وَهَلْ يُجَازَي} إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء.
و {الْكَفُورُ} : الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون اللهو يعبدون الشمس فهم أسوأ حالا من أهل الشرك.
والمعنى: ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء. والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} تعين أن المراد: وهل يجازى مثل جزائهم إلا الكفور، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازى على معصيته، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإشارة من بيان نوع الجزاء، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين.
وقرأ الجمهور: {يُجَازَى} بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع {الْكَفُورُ} .
وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب {الْكَفُورَ} .
[18] {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [18]} .
تكملة القصة بذكر نعمة بعد نعمة فإن ما تقدم لنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإقامة، وما هنا لنعمة الأمن وتيسير الأسفار وعمران بلادهم.
والمراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلدا أو دارا للاستراحة واستراحوا وتزودوا. فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزوادا إذا خرجوا من مأرب.
وهذه القرى الظاهرة يحتمل أنها تكونت من عمل الناس القاطنين حفافي الطريق السابلة بين مأرب وجلق قصد استجلاب الانتفاع بنزول القوافل بينهم وابتياع الأزواد منهم وإيصال ما تحتاجه تلك القرى من السلع والثمار وهذه طبيعة العمران.
ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم
(22/41)
واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذا بهم عند نزولهم. فيكون ذلك من جملة ما وطد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها.
وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى لأنه الملهم الناس والملوك أو لأنه الذي خلق لهم تربة طيبة تتوفر محاصيلها على حاجة السكان فتسمح لهم بتطلب ترويجها في بلاد أخرى.
ووصف: {ظَاهِرَةً} أنها متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض. وقيل: الظاهرة التي تظهر للسائر من بعد بأن كانت القرى مبنية على الآكام والظراب يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها. وقال ابن عطية الذي يظهر لي أن معنى: {ظَاهِرَةً} أنها خارجة عن المدن فهي في ظواهر المدن ومنه قولهم: نزلنا بظاهر المدينة الفلانية، أي خارجا عنها. فقوله: {ظَاهِرَةً} كتسمية الناس إياها بالبادية وبالضاحية، ومنه قول الشاعر وأنشده أهل اللغة:
فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطح لا قريش الظواهر
وفي حديث الاستسقاء: "وجاء أهل الظواهر يشتكون الغرق" اهـ. وهو تفسير جميل. ويكون في قوله: {ظَاهِرَةً} على ذلك كناية عن وفرة المدن حتى أن القرى كلها ظاهرة منها.
ومعنى تقدير السير في القرى أن أبعادها على تقدير وتعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة. فكان الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية. فالمعنى: قدرنا مسافات السير في القرى، أي في أبعادها. ويتعلق قوله: {فِيهَا} بفعل {قَدَّرْنَا} لا بالسير لأن التقدير في القرى وأبعادها لا في السير إذ تقدير السير تبع لتقدير الأبعاد.
وجملة: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ} مقول قول محذوف. وجملة القول بيان لجملة: {قَدَّرْنَا} أو بدل اشتمال منها.
وهذا القول هو قول التكوين وهو جعلها يسيرون {فِيهَا} عائد إلى القرى، والظرفية المستفادة من حرف الظرف تخييل لمكنية، شبهت القرى لشدة تقاربها بالظرف وحذف المشبه به ورمز إليه بحرف الظرفية. والمعنى:
(22/42)
سيروا بينها.
وكانوا يسيرون غدوا وعشيا فيسيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون، ويسيرون المساء فتعرضهم قرية يبيتون بها. فمعنى قوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً} سيروا كيف شئتم.
وتقديم الليالي على الأيام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القطاع والسباع.
[19] {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [19]}.
الفاء من قوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا} لتعقيب قولهم هذا أثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار، والتعقيب في كل شيء بحسبه فلما تمت النعمة بطروها فحلت بهم أسباب سلبها عنهم.
ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري: "من لم يشكر النِّعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جوابا عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية فهم يجيبون بهذا القول إفحاما لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، قبل هذا "فأعرضوا فإن الإعراض يقتضي دعوة لشيء" ويفيد هذا المعنى قوة {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} عقب حكاية قولهم لفأنه أما معطوف على جملة: {فَقَالُوا} ، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك فإن ظلم النفس أطلق كثيرا على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلا أعظم كفران نعمة الخالق.
ويجوز أن تكون جملة: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} في موضع الحال، والواو واو الحال، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارنا للإشراك.
وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسببا بسببين كما هو صريح قوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} إلى قوله: {إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 16،
(22/43)
17].
فالمسبَّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} كما ستعرفه، والمسبب على كفران نعمة تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق ، أي تفريقهم، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوش.
ودرج المفسرون على أنهم دعوا الله بذلك، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدروا نعمته العظيمة قدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب.
ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال، وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها.
والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف. فالمعنى: ربنا ابعد بين أسفارنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب".
وقرأه الجمهور: {بَاعِدْ} . وقرأ ابن كثير وابن عمرو: {بَعِّدْ} بفتح الباء وتشديد العين. وقرأه يعقوب وحده: {رَبُّنَا} بالرفع و {بَاعَدَ} بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على إن الجملة خبر المبتدأ. والمعنى: أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلوه وطلبوا أن تزداد البلاد قربا وذلك من بطر النعمة بطلب ما يتعذر حينئذ.
والتركيب يعطي معنى "اجعل البعد بين أسفارنا". ولما كانت {بَيْنَ} تقتضي أشياء تعين أن المعنى: باعد بين السفر والسفر من أسفارنا. ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفرا، أي باعد بين مراحل أسفارنا.
ومعنى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث،أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعا فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعمله.وفعل الجعل يقتضي تغييرا ولما علق
(22/44)
بذواتهم انقلبت من ذوات مشاهدة إلى كونها أخبارا مسموعة. والمعنى: انهم هلكوا وتحدث الناس بهم. وهذا نظير قولهم: دخلوا في خبر كان، وإلا فإن الحديث لا يخلوا منها أحد ولا جماعة. وقد يكون في المدح كقوله:
هاذي قبورهم وتلك قصورهم ... وحديثهم مستودع الأوراق
أو أريد: فجعلناهم أحاديث اعتبار وموعظة، أي فأصبناهم بأمر غريب من شأنه أن يتحدث به الناس فيكون {أَحَادِيثَ} موصوفا بصفة مقدرة دل عليها السياق مثل قوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79]، أي كل سفينة صالحة بقرينة قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79].
والتمزيق: تقطيع الثوب قطعا، استعير هنا للتفريق تشبيها لتفريق جامعة القوم شذر مذر بتمزيق الثوب قطعا.
و {كُلَّ} منصوب على المفعولية المطلقة لأنه بمعنى الممزق كله، فاكتسب معنى المفعولية المطلقة من إضافته إلى المصدر.
ومعنى: {كُلّ} كثيرة التمزيق لأن "كلا" ترد كثيرا بمعنى الكثير لا بمعنى الجميع، قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقال النابغة:
بها كل ذيال
وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أصيبت به قبيلة سبا إذ حملهم خراب السد وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقا ضربت به العرب المثل في قولهم: ذهبوا، أو تفرقوا أيدي سبا، أو أيادي سبا، بتخفيف همزة سبا لتخفيف المثل. وفي لسان العرب في مادة "يدي" قال المعري: لم يهمزوا سبا لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد. هكذا ولعله التباس أو تحريف، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء "أيادي" أو "أيدي" كما هو مقتضى التعليل لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبأ كشأن المركب المزجي.قال في "لسان العرب": وبعضهم ينوِّنه إذا خففه، قال ذو الرمة:
فيا لك من دار تفرق أهلها ... أيادي سباً عنها وطال انتقالها
والأكثر عدم تنوينه قال كثير:
أيادي سبا يا عز ما كنتُ بعدكم ... فلم يحلُ بالعينين بعدكِ منظر
(22/45)
والأيادي والأيدي فيه جمع يد. واليد بمعنى الطريق.
والمعنى: أنهم ذهبوا في مذاهب شتى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن: 11]. وقيل: الأيادي جمع يد بمعنى النعمة لان سبا تلفت أموالهم.
وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشرة أفخاذ وهم: الأزد، وكندة، ومذحج، والأشعريون، وأنمار، وبجيلة،وعاملة، وهم خزاعة، وغسان، ولخم، وجذام.
فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن ولأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب، ولعلهم معدودون في لخم، ولقت غسان ببصرى والغوير من بلاد الشام، ولحقت لخم بالعراق.
وقد ذكر أهل القصص لهذا التفرق سببا هو أشبه بالخرافات فأعرضت عن ذكره، وهو موجود في كتب السير والتواريخ. وعندي أن ذلك من خذلان من الله تعالى سلبهم التفكير في العواقب فاستخفف الشيطان أحلامهم فجزعوا من انقلاب حالهم ولم يتدرعوا بالصبر حين سلبت عنهم النعمة ولم يجأروا إلى الله بالتوبة فبعثهم الجزع والطغيان والعناد وسوء التدبير من رؤسائهم على أن فارقوا أوطانهم عوضا من أن يلموا شعثهم ويرقعوا خرقهم فتشتتوا في الأرض، ولا يخفى ما يلاقون من ذلك من نصب وجوع ونقص من الأنفس والحمولة والأزواد والحلول في ديار أقوام لا يرثون لحالهم ولا يسمحون لهم بمقاسمة أموالهم فيمونون بينهم عافين.
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} تذييل فلذلك قطعت، وافتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخير. والمشار إليه بذلك هو ما تقدم من قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسَاكِنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ: 15].
ويظهر أن هذا التذييل تنهية للقصة وأن ما بعد هذه الجملة متعلق بالغرض الأول المتعلق بأقوال المشركين والمنتفل منه إلى العبرة بداود وسليمان والممثل لحال المشركين فيه بحال أهل سبأ.
وجُمع: {الآيَات} لأن في تلك القصة عدة آيات وعبر فحلة مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه. وفيه آية على أنه الواحد بالتصرف، وفي إرسال سير العرم عليه آية
(22/46)
على انفراده وحده بالتصرف، وعلى أنه المنتقم وعل أنه واحد، فلذلك عاقبهم على الشرك،وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم وآية على صفات الأحوال لله تعالى من خلق ورزق وإحياء وإماتة، وفي ذلك آية من عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر. وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات، وآية من الأمن أساس العمران. وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المفضي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها وفيما صاروا إليه من النزوح عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يلجئ الاضطرار إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره كما يقول المثل: الحمى أرضعتني إليك.
والجمع بين {صَبَّارٍٍ} و {شَكُورٍ} في الوصف لإفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخلقين وهما: الصب على المكاره، والشمر على النعم، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فيطروها، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض، ولا تسأل عما لا قوة في ذلك من المتآلف والمذلات.
فالصبار يعتبر من تلك الأحوال فيعلم أن الصبر علك المكاره خير من الجزع ويرتكب أخف الضرين، ولا يستخفه الجزع فيلقي بنفسه إلى الأخطار ولا ينظر في العواقب.
والشكور يعتبر بما أعطى من النعم فيزداد شكرا لله تعالى ولا يبطر النعمة ولا يطغى فيعاقب بسلبها كما سلبت عنهم، ومن وراء ذلك أن يحركهم الله التوفيق. وأن يقذف بهم الخذلان في بنيات الطريق.
وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] وقال: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، فلذلك قال هنا: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18].
(22/47)
وعلى أن الإجحاف في إيفاء النعمة حقها من الشكر يعرض بها للزوال وانقلاب الأحوال قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
من أجل ذلك كله كان حقا على ولاة أمور الأمة أن يسعوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل وكان ذلك من ما أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين وما يبذل فيه أهل الخير من الموسرين أموالهم عونا على ذلك وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وكان حقا على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأئمة والأمة إلى طريق الخير وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الأجمال، فقد افتقرت الأمة إلى العمل وسئمت الأقوال.
[20، 21] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [20] وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [21]}.
الأظهر أن هذا عطف على قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] الآية وأن ما بينها من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير: {عَلَيْهِمْ} عائدا إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ} الخ. والذي درج عليه المفسرون أن ضمير: {عَلَيْهِمْ} عائد إلى سبأ المتحدث عنهم. ولكن لا مفر من أن قوله تعالى بعد ذلك: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22] الآيات هو عود إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبأ. وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها وهذا من بلاغة القرآن المستفاده من ترتيب مواقع الآية.
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شرك وسوسته.
فالمعنى: أن الشطان سول للمشركين أو سول للممثل بهم حال المشركين الإشراك
(22/48)
بالمنعم وحسن لهم ضد النعمة حتى تمنوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكره إليهم نصائح الصالحين منهم فصدق توسمه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها واعرضوا عن خلافها فاتبعوه.
ففي قوله: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} إيجاز حذف لأن صدق الضن المفرع عنه أتباعهم يقتضي. أنه دعاهم إلى شيء ظانا استجابة دعوته إياهم.
وقرأ الجمهور: {صَدَقَ} بتخفف الدال فـ {إِبْلِيسُ} فاعل و {ظَنَّهُ} منصوب على نزع الخافض، أي في ظنه. و {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {صَدَّقَ} لتضمينه معنى أوقع أو ألقى، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه. والصدق بمعنى الإصابة في الظن لأن الإصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق. قال أبو الغول الطهوي من شعراء الحماسة:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارسَ صُدقت فيهم ظنوني
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صدَّق} بتشديد الدال بمعنى حقق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لما وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجد في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم.
وفي "على" إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم.
وقوله: {فَاتَّبَعُوهُ} تفريع وتعقيب على فعل {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإشراك والكفران.
و {إِلَّا فَرِيقاً} استثناء من ضمير الرفع في {فَاتَّبَعُوهُ} وهو استثناء متصل إن كان ضمير "اتّبَعُوه" عائدا على المشركين وأما إن كان عائدا على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة، أو الذين آمنوا من أهل سبأ. فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم.
والفريق: الطائفة مطلقا،واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30].
والتعريف في {الْمُؤْمِنِينَ} للاستغراق و {مِن} تبعيضية، أي إلا فريقا هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان.
(22/49)
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه.
وفعل {كَانَ} في النفي مع {مِنْ} التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان، أي الملك والتصريف للشيطان، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} استثناء من علل. فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله،أي لكن جعلنا الشيطان سببا يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوسته فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال والممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات.
ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان، وحذف المستثنى ودل عليه علته والتقدير: إلا سلطانا لنعلم من يؤمن بالآخرة. فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة.
وانظر ما قلناه عند قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} في سورة الحجر [42] وضُمّه إلى ما قلناه هنا.
واقتُصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز من يؤمن بالآخرة ومن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سبا وهم كفار قريش لأن جحودهم قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين،والمتقين من المعرضين. وكني ب{نعلم} عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف. قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس فأن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلا لكان مترددا في إقدامه. فالمعنى: ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقا جزئيا عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزي لعلم الله. ورأيت في: "الرسالة الخاقانية" اعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك
(22/50)
التعلق ولم يعين قائله. وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة {مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} فعلية،وجاءت جملة {هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} اسمية لأن الإيمان بالآخرة طارئ على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا، فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه. وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الاسمية.
وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله: {مِنْهَا} بقوله: بـ"شك". وجملة {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} تذييل. والحفيظ: الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعها تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يتبع الحفظ بالعلم كثيرا كقوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم {كُلِّ شَيْءٍ} أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم.
[22، 23] {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [22] وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [23]}.
كانت قصة سبأ قد ضربت مثلا وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] وقوله: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالا مناسبته بينة وهو أيضا عود إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضا فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأولياءه.
وافتتح الكلام بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات
(22/51)
المتتابعة بكلمة: {قُلْ} فأمر بالقول تجديدا لمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن.
والأمر في قوله: {ادْعُوا} مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استمروا على دعائكم.
و {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} معناه زعمتموهم أربابا، فحذف مفعولا الزعم: أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصدا لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} صفة لمحذوف تقديره: زعمتم أولياء.
ومعنى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أنهم مبتدؤون من جانب غير جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة.
وجملة: {لا يَمْلِكُونَ} مبينه لما في جملة: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} من التخطئة.
وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرة من السماء والأرض.
والذرة: بيضة النمل التي تبدوا حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} في سورة يونس [61]. والمراد بالسماوات ولأرض جوهرها وعينهما ل ما تشملان عليه من المجودات لأن جوهرهما لا يدعي المشركون فيه ملكا لآلهتهم، فالمثقال: إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازا مرسلا، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازا، وتقدم المثقال عند قوله: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} في سورة الأنبياء [47].
ومثقال الذرة: ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئا من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به.
وقد نفي أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم الشرك في شيء من السماء والأرض، أي شرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازا لأنه محل الوفاق.
ثم نفى أن يكون منهم ظهير، أي معين لله تعالى. وتقدم الظهير في قوله تعالى:
(22/52)
{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} في سورة الإسراء [88]. وهنا تعين التصريح المتعلق ردا على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تقرب إليه وتبعد عنه، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء. وقد صرح بالمتعلق هنا أيضا ردا على قول المشركين {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع. وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} لا يبطل شفاعة الأصنام فافْهمْ.
وجاء نظم قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نظما بديعا من وفرة المعنى، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة:
ولا حلفي على البراءة نافع
ومنه قوله تعالى: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه. ومنه: دواء نافع، ونفعني فلان. فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشروع له بالشفاعة، أي أصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافا إلى الفاعل أو إلى المفعول أحتمل النفع أن يكون نفع الفاعل، أي قبول شفاعته، ونفع المفعول، أي قبول شفاعة من شفع فيه.
وتعدية فعل الشفاعة باللام دون {في} ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعا ومشفوعا فيه فكان بذلك أوفر معنى.
فالاستثناء في قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء متعلق {تَنْفَعُ} لأن الفعل لا يعدى إلى مفعوله باللام إلا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع، وأن "مَن" المجرورة باللام صادقة على الشافع، أي لا تقبل شفاعة إلا شفاعة كائنة لمن أذن الله له، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك فقولك: الكرم لزيد، أي هو كريم فيكون في معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]. وأن
(22/53)
تكون اللام داخلة على المشفوع فيه، و"مَن" صادقة على مشفوع فيه، أي إلا شفاعة لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك: قمت لزيد، فهو كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء : 28].
وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجاؤهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعو.
وقد جمعة الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فابطل هذا الزعم قوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفهم في الأرض وأما في الأرض فبقوله: {وَلا فِي الْأَرْضِ} . ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإلهيه فنفي ذلك بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} ، ومنهم من يزعم أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} الآية.
وقرأ الجمهور: {أَذِنَ} بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب. والمجرور من قوله: {لَهُ} في موضع نائب الفاعل.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} {حَتَّى} ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد {حَتَّى} عائدة على ما يصلح لها في الجمل التي قبلها. وقد أفادت {حَتَّى} الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} من أن هنالك إذنا يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناسا من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبله الشفاعة فيهم، أي وأيس المحرمون من قبول الشفاعة فيهم. وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكره نظيره أو ضد، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسر المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء.
(22/54)
وقد طويت جمل من وراء {حَتَّى} ، والتقدير: إلا لمن أذن له ويومئذ يبقى الناس مرتقبين الأذن لمن يشفع، فزعين من أن لا يؤذن لأحد زمنا ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حين يؤذن للشافعين بأن يشفعوا، وهو إيجاز حذف.
و {إِذَا} ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} متعلق بـ {قَالُوا} .
و {فُزِّعَ} قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة، وهو مضاعف فزع. والتضعيف فيه للإزالة مثل: قشر العود، ومرض المريض إذا باشر علاجه، وبني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم، ففيه جانب الأذن فيه، وجانب المبلغ له وهو الملك.
والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ليعلموا من أذن له ممن لم يؤذن له، وهذا كما يوكرر النظر ويعاود المطالعة من ينتظر القبول، أو هم تساءلون عن ذلك من شدة الخشية فإنهم إذا فزع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقيق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق.
فضمير {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} عائد على بعض مدلول قوله: {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وهم الذين أذن للشفعاء لقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافين، وضمير {قَالُوا الْحَقَّ} عائد إلى المسؤولين وهم الملائكة.
ويظهر أن كلمة {الْحَقَّ} وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال:ماذا قال القاضي للخصم? فيقال: قال الفصل. فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى.
وانتصاب {الْحَقَّ} على أنه مفعول {قَالُوا} يتضمن معنى الملام، أي قال الكلام الحق، كقوله:
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها. وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قداد، وتفرقوا بَددا بَددا.
و {ذَا} من قوله: {مَاذَا} إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل: {مَاذَا قَالَ} :
(22/55)
ما هذا الذي قال، فلما كثر استعمالها بدون ذكر اسم الموصول قيل إن "ذا" بعد الاستفهام تصير اسم موصول، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} [البقرة: 255].
وقرأ أبن عامر ويعقوب: {فَزَّعَ} بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل، أي فزّع الله عن قلوبهم.
وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم: أخرج بعث النار من ذريتك وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر كلهم "ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار". وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له "سل تُعْطَ واشْفَع تُشفَّعْ" ، وفي حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل فيه ضخضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه".
وجملة: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} تتم جواب المجيبين، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله وهما صفة {الْعَلِيّ} وصفة {الْكَبِير} .
والعلو: علو الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم.
والكبر: العظمة المعنوية، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه يخفي عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل.
وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} في سورة الحج [62].
واعلم أنه ورد في صفة تلقى الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" وغيره: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضي الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم? قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير" اهـ. فمعنى قوله في الحديث: قضى صدر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه، وقوله في الحديث "في السماء" يتعلق بـ"قضى" بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقر الملائكة، وقوله: "خضعانا لقوله" أي خوفا وخشية، وقوله: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي أزيل الخوف عن نفوسهم.
(22/56)
وفي حديث ابن عباس من الترمذي: "إذا قضي ربنا أمرا سبح له حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم" قال: "ثم أهل كل سماء" الحديث. وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلتقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة.
وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مرادا به أنه وارد في ذلك، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ.وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسفوها في تفسير هذه الآية وتعلقها بما قبلها.
[24] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24]}.
انتقال من دمغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عبادة فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم، وهذا احتجاج بالدليل النظري بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض.
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدي للتبليغ دال على الاهتمام، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام.
و {مَن} استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله: {قُلِ اللَّهُ} لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} في سورة يونس [31]. وتقدم نظير صدر الآية في سورة الرعد.
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية توقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بين موافقة الحق وعدمها، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدونهما. ولذلك جيء بحرف {أَوْ} المفيد للترديد المنتزع من الشك.
(22/57)
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.
ومن لطائفه هنا أن أشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتب وهو أصل اللف. فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين، فأومأ إلى أن الأولين موجهون إلى الهدى ولآخرين موجهون إلى الضلال المبين، لا سيما بعد قرينة الاستفهام، وهذا أيضا من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم.
وفيه أيضا تجاهل العارف فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات.
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تكثيلا لحال المهتدي بحال متصرف في فرسه يركضه حيث شاء متمكن من شيء بلغ به مقصده. وهي حالة مماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب. متسع النظر، منشرح الصدر: ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.
وجيء في جانب الضالين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبيس بالوصف تمثيلا لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه. وفيه أيضا تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125].
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطئ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفر دون كفر: فوصف كفرهم بأنه أشد الكفر،فإن
(22/58)
المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.
[25] {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [25]}.
أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالا آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقد آنفا واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإصغاء إليه.
ولما كان هذا القول يتضمن بيانا للقول الذي قبله فصلت جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق، فإنه لما ردد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما هلى هدى ولآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإجرام اتسع بالمحاجة فقيل لهم: إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مؤاخذين بجرمنا وإذا عملتم عملا فنحن غير مؤاخذين به، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أي الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله.
وأيضا فصلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافا ابتدائيا، وهي مع ذلك اعتراض بين أثناء الاحتجاج.
فمعنى {لا تُسْأَلونَ} ، {وَلا نُسْأَلُ} أن كل فريق له خويّصته.
والسؤال: كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإجرام بمثله كما هو في قول كعب بن زهير:
وقيل إنك منسوب ومسؤول
أراد ومؤاخَذ بما سبق منك لقوله قبله:
لذاك أهيب عندي إذ أكمله
وإسناد الإجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبني على زعم المخاطبين، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] كان المشركون يؤنّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم.
وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأن متحقق على زعم المشركين. وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملا تعريضا بأنهم يأتون عملا غير ما عملوه، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم.
(22/59)
وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين.
وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال.
[26] {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [26]}.
إعادة فعل {قُلْ} لما عرفت في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافا ابتدائيا.
وأيضا فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالا عن عمل نفسه فبين بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تحقق ما أنكروه.
وهنا تدرج الجدل من الإيماء إلى الإشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنه الضالون. ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقي.
والفتح الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإظهار ما خلفها.
وجملة {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته ولإحاطة العلم، وبذلك كان تذيلا لجملة {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} المتضمنة حكما جزئيا فذيل بوصف كلي، وإنما أتبع {الْفَتَّاحُ} بـ {الْعَلِيمُ} للدلالة على أن حكمه عدل محض لأنه عليم لا تحف بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب.
[27] {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27]}.
أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على
(22/60)
بطلان الشرك فهو كالنتيجة لجملة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
والأمر في قوله: {أَرُونِي} مستعمل في التعجيز، وهو تعجيز للمشركين عن إبداء حجة لإشراكهم، وهو انتقال من الاحتجاج على بطلان إلهية الأصنام بدليل النظير في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} إلى إبطال ذلك بدليل البداهة.
وقد سُلك من طرق الجدل أن يكون الاستفسار، والمصطلح عليه عند أهل الجل أن يكونه الاستفسار مقدما على طرائق المناظرة وإنما أخر هنا لأن كان مفضيا إلى إبطال دعوى الخصم بحذافرها فأريد تأخيره لئلا يفوت افتضاح الخصم بالأدلة السابقة تبسيطا لبساط المجادلة حتى يكون كل دليل مناديا على غلط الخصوم وباطلهم. وافتضاح الخطأ من مقاصد المناظر الذي قامت حجته.
والإراءة هنا من الرؤية البصرية فيتعدى إلى مفعولين: أحدهما بالأصالة، والثاني بهمزة التعدية.
والمقصود: أروني شخوصهم لنبصر هل عليها ما يناسب صفة الإلهية، أي أن كل من يشاهد الأصنام بادئ مرة يتبين له أنها خلية عن صفات الإلهية إذ يرى حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه لأن انتفاء الإلهية عن الأصنام بديهي ولا يحتاج إلى أكثر من رؤية حالها كقول البحتري:
أن يرى مبصر ويسمع واع
والتعبير عن المرئي بطريق الموصلية لتنبيه المخاطبين على خطئهم في جعلهم إياهم شركاء لله تعالى في الربوبية على نحو قول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وفي جعل الصلة {أَلْحَقْتُمْ} إيماء إلى أن تلك الأصنام لم تكن موصوفة بالإلهية وصفا ذاتيا حقا ولكن المشركين ألحقوها بالله تعالى، فتلك خلعة خلعها عليهم أصحاب الأهواء.
وتلك حالة تخالف صفة الإلهية لأن الإلهية صفة ذاتية قديمة، وهذا الإلحاق اخترعه لهم عمرو بن لحي ولم يكن عند العرب من قبل، وضمير {بِهِ} عائد إلى أسم الجلالة من جملة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24].
(22/61)
وانتصب: {شَرَكَاءَ} على الحال من اسم الموصول. والمعنى: شركاء له.
ولما أعرض عن الخوض في آثار هذه الإراءة علم أنهم مفتضحون عند تلك الإراءة فقدرت حاصلة، وأعقب طلب تحصيلها بإثبات أثرها وهو الردع عن اعتقاد إلهيتها، وإبطالها عنهم بإثباتها لله تعالى وحده فلذلك جمع بين حرفي الردع والإبطال ثم الانتقال إلى تعيين الإله الحق على طريقة قوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17].
وضمير: {هُوَ اللهُ} ضمير الشأن. والجملة بعده تفسير لمعنى الشأن و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبران، أي بل الشأن المهم الله العزيز الحكيم لا آلهتكم، ففي الجملة قصر العزة والحكم على الله تعالى كناية عن قصر الإلهية عليه تعالى قصر إفراد.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الإله المفهوم من قوله: {الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} وهو مبتدأ والجملة بعده خبر. ويجوز أن يكون عائدا إلى المستحضر في الذهن وهو الله. وتفسيره قوله: {اللهُ} فاسم الجلالة عطف بيان. و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبران عن الضمير. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول يظهر في اختلاف مدلول الضمير المنفصل واختلاف موقع اسم الجلالة بعده، واختلاف موقع الجملة بعد ذلك.
والعزة: الاستغناء عن الغير.و {الْحَكِيمُ} : وصف من الحكمة وهي منتهى العلم، أو من الإحكام وهو إتقان الصنع، شاع في الأمرين. وهذا إثبات لافتقار أصنامهم وانتفاء العلم عنها. وهذا قول إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42].
[28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [28]}.
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وغير أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإخبار برسالة النبيء صلى الله عليه وسلم تشريفا له بتوجيه هذا الإخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض.
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات عمومها على
(22/62)
منكريها من اليهود.
فإن: {كَافَّةً} من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالا من "النَّاسِ" مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} في سورة البقرة [208]، وعند قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} في سورة براءة [36]. وذكرنا أن التحقيق: أن {كَافّة} يوصف به العاقل وغيره وأنه تعتوره وجوه الإعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافا لابن هشام في "مغني اللبيب"، وأن ما شدد به التنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز. والتقدير في هذه الآية: وما أرسلناك للناس إلا كافة. وقدم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم.
وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل: {كَافَّة} نعتا لمحذوف، أي إرساله كافة، أي عامة. وقد رد عليه ابن مالك في التسهيل وقال: قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كيسان. وقلت: وجوزه ابن عطية والرضي. وجعل الزجاج: {كَافَّة} هنا حالا من الكاف في {أَرْسَلْنَاكَ} وفسره بمعنى جامع للناس في الإنذار والإبلاغ، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلامة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضا.
وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج {كَافَّة} عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معين إلى معنى الجمع الكلي المستفاد من وراء ذلك. وهذا كمن يعمد إلى "كل" فيقول: إنك كل الناس، أي جامع للناس؛ أو يعمد إلى "على" الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول: إياك وعلى، يريد إياك والاستعلاء.
والبشير النذير تقدم في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} في سورة البقرة: [119].
وأفاد تركيب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} وهو قصر إضافي، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإيمان والإرشاد كما قال عبد الله بن أبي بن سلول للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلسا هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبي: "لا أحسنَ مما تقول
(22/63)
أيها المرء ولكن اقعد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه، ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الرد على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها.
وموقع الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغر المتأمل لأنهم لا يعلمون.
ومفعول: {يَعْلَمُونَ} محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لا يعلمون ما بشرت به المؤمنين وما أنذرت به الكافرين، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين.
ويجوز أن يكون فعل: {يَعْلَمُونَ} منزل منزلة اللام مقصودا منه نفي صفة العلم عنهم على حد قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة.
[29، 30] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [29] قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [30]}.
كان من أعظم ما أنكروه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم القيامة والبعث ولذلك عقب إبطال قولهم في إنكار الرسالة بإبطال قولهم في إنكار البعث، والجملة معطوفة على خبر {لَكِنَّ} [سبأ: 28]. والتقدير: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حق البشارة والنذارة ويتهكمون فيسألون عن وقت هذا الوعد الذي هو مظهر البشارة والنذارة. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو للاستئناف.
وضمير {يَقُولُونَ} عائد إلى المحاجين من المشركين الذين صدرت عنهم هذه المقالة.وصيغة المضارع في {يَقُولُونَ} تفيد التعجيب من مقالتهم كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] مع إفادتها تكرر ذلك القول منهم وتجدده.
وجملة: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه، وحسن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه.
(22/64)
وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقا للمقصود من الاستفهام، ولذلك زيد في الجواب كلمة {لَكُمْ} إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء.
وضمير جمع المخاطب في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إما للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن معه جماعة يخبرون بهذا الوعد، وإما الخطاب موجه للمسلمين.
واسم الإشارة في هذا الوعد للاستخفاف والتحقير كقول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وجواب: {كُنْتُمْ صَادِقِينَ} دل عليه السؤال، أي إن كنتم صادقين فعينوا لنا ميقات هذا الوعد. وهذا كلام صادر عن جهالة لأنه لا يلزم من الصدق في الإخبار بشيء أن يكون المخبر عالما بوقت حصوله ولو في المضي فكيف به في الاستقبال.
وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إلى الإتيان باسم ظاهر وهو {مِيعَادُ يَوْمٍ} لما في هذا الاسم النكرة من الإبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك، وهو أن يكون يوم البعث أو يوما آخر يحل فيه عذاب أئمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر ولعل الذين قتلوا يومئذ هم أصحاب هم أصحاب مقالة: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وأفاد تنكير {يَوْمٍ} تهويلا وتعظيما بقرينة المقام.
والميعاد: مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية. ويجوز كونه مستعملا في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه.
وجملة: {لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً} إما صفة لـ {مِيعَاد} وإما حال من ضمير {لَكُمْ} .
والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل: استجاب، فالسين والتاء للمبالغة.
وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه ميعاد بأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره، ويكون {وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} تتميما لتحققه عند وقته المعين في علم الله.
والساعة: حصة من الزمن، وتنكيرها للتقليل بمعونة المقام.
[31] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى
(22/65)
إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [31]}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإسلام وأخذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة، وقد كانوا قبل ظهور الإسلام لاهين عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسمائهم دعوة الإسلام اضطربت أقوالهم: فقالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، وقالوا غير ذلك، فمن ذلك أنهم لجأوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليتلقوا منهم ملقنات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتاب يُملون عليهم كلما لقوهم ما عساهم أن يموهوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية، فمرة يقولون: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48]، ومرة يقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93]، وكثيرا ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولا إليهم مختارا من عند الله فقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وإلى قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93]، وهم لا يحاجون ذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمدا ما هو بدع من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49] الآية. فلما لم يجدوا سبيلا للمكابرة في مساواة حاله بحالة الرسل الأولين وأووا إلى مأوى الشرك الصريح فلجأوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31].
وقد كان القرآن حاجّهم بأنهم كفروا {بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} كما في سورة القصص [48]، أي كفر أمثالهم من عبدة الأصنام وهم قبط مصر بما أوتي موسى وهوا من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل.
فهذا وجه قولهم: {وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} لأنهم لم يكونوا مدعوين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإلزام الجدلي.
(22/66)
وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملة {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [سبأ: 29].
والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها باد لكل من يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح.
وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها.
وجيء بحرف {لَنْ} لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييسا للنبي والمسلمين من الطمع في إيمانهم به.
واسم الإشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهد. وليس في اسم الإشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان، ألا قول الوليد ابن المغيرة: "إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعدق" ، وقول عبد الله بن أبي بعد ذلك: "لا أحسن مما تقول أيها المرء"، وأن عتبة بن ربيعة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال له: "هل ترى بما أقول بأسا?" فقال: "لا والدماء" . وكيف وقد تحداهم الإتيان بسورة مثله فلم يفعلوا،ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخف لقالوا: نحن نترفع عن معالجة الإتيان بمثله.
ومعنى: {بَيْنَ يَدَيْهِ} القريب منه سواء كان سابقا كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة" 1 أم كان جائيا بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السلام: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في سورة آل عمران [50]. وليس مرادا هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}.
أردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزاءهم وتصوير فظاعته بما في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الآية من الإبهام المفيد للتهويل.
والمناسبة ما تقدم من قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [سبأ: 29] فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} [سبأ: 30] الخ أتبعه بتصوير حالهم فيه.
والخطاب في {وَلَوْ تَرَى} لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممن تبلغه هذه الآية، أي
ـــــــ
1 رواه أحمد في "مسنده" وأبو يعلى والطبراني.
(22/67)
ولو يرى الرائي هذا الوقت.
وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل وهو حذف شائع. وتقديره: لرأيت أمرا عجبا.
و {إِذْ} ظرف متعلق بـ {تَرَى} أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم.
والظالمون: المشركون، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وتقدم قريب منه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} في سورة الأنعام [27]، وقد وقع التصريح بأنه إيقاف جمع بين المشركين والذين دعوهم إلى الإشراك في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} الآية في سورة يونس [28].
والإتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف اسمية هنا لإفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولا يستوجب الضجر ويملأ القلوب رعبا وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبيء صلى الله عليه وسلم لأهل المحشر: "تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتد عليهم حرها فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا" الحديث.
وجملة: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} في موضع الحال من {الظَّالِمُونَ} أو من ضمير {مَوْقُوفُونَ} .
وجيء بالمضارع في قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} لاستحضار الحالة كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74].
ورجْع القول: الجواب، ورجع البعض إلى البعض: المجاوبة والمحاورة. وهي أن يقول بعضهم كلاما ويجيبه الآخر عنه وهكذا؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول كأن المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكفائه وعدله قال بشار:
وكأن رجع حديثها ... قِطَع الرياض كُسين زهرا
أي كأن تجيبه، ومنه حيث تجيبه،ومنه قيل للجواب: رد. ورجْع الرشق في الرمي: ما ترد عليه من التراشق.
{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة {يَرْجِعُ
(22/68)
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}. وجيء بالمضارع فيها على نحو ماجيء في قوله: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} ليكون البيان كالمبيِّن بها لاستحضار حالة القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرونهم به حتى أوقعهم في هذا المأزق.
والسين والتاء في {اسْتُضْعِفُوا} للعد والحسبان، أي الذين يغدهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم.
والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتجاج في المهام إلى من يضطلع بشؤونهم ويذب عنهم ويصرفهم كيف يشاء.
ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل بـ"الذين استكبروا"، أي عدوا أنفسهم كبراء وهم ما عدوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوصفوا بالغرور والإعجاب الكاذب. ولهذا عبر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبني للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم، وقد تقدم في سورة هود.
و {لَوْلاَ} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه "أي أنتفائه" لأجل وجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنه اختصروا العبارة، ومعنى: لأجل وجود شرطه، أي حصوله في الوجود، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الاسمية فيلزم إيلاؤه اسما ومبتدأ. وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالبا بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف {لَوْلاَ} يؤذن بتعليق حصول جوابه على وجود شرطه. فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصارا. ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومة من السياق لأنه لا يكون الوجود المجرد لشيء سببا في وجود غيره وإنما يؤخذ أخص أحواله الملازمة لوجوده.
وهذا المعنى عبر عنه النحويون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود المطلق، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط.
وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير "الذين استكبروا" فاقتضى أن المستضعفين ادَّعوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين. فاقتضى أن جميع أحوال
(22/69)
المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإيمان فكأن وجودهم لا أثر له إلا في ذلك من انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دل عليه قولهم فيما بعد {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} [سبأ: 33] من فرط إلحادهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات، فكأنه استغرق وجودهم،لأن الوجود كون في أزمنة فكان قولهم هنا {لَوْلا أَنْتُمْ} مبالغة في شدة حرصهم على كفرهم. وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه.
واعلم أن المراد بقولهم: {مُؤْمِنِينَ} بالمعنى اللقبي الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لـ{مُؤْمِنِينَ} متعلق.
[32] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [32]}.
جُرِّد فعل {قَالَ} عن العاطف لأنه جاء على طريقة المجاوبة والشأن فيه حكاية القول بدون عطف كما بيناه غير مرة.
وهمزة الاستفهام مستعملة في الإنكار على قول المستضعفين تبرؤا منهم. وهذا الإنكار بهتان وإنكار للواقع بعثه فيهم خوف إلقاء التبعة عليهم وفرط الغضب والحسرة من انتقاض اتباعهم عليهم وزوال حرمتهم بينهم فلم يتمالكوا أن لا يكذبوهم ويذيلوا بتوريطهم.
وأتى بالمسند إليه قبل المسند الفعلي في سياق الاستفهام الإنكاري الذي هو في قوة النفي ليفيد تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي على طريقة: ما أنا قلت هذا.
والمعنى: ما صددناكم ولكن صدكم شيء آخر وهو المعطوف بـ {بَلْ} التي للإبطال بقوله: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} ، أي ثبت لكم الإجرام من قبل وإجرامكم هو الذي صدكم إذ لم تكونوا على مقاربة الإيمان فنصدكم عن ولكنكم صددتهم وأعرضتم بإجرامكم ولم تقبلوا دعوة الإيمان.
وحاصل المعنى: أن حالنا وحالكم سواء، كل فريق يتحمل تبعة أعماله فإن كلا الفريقين كان معرضا عن الإيمان. وهذا الاستدلال مكابرة منهم وبهتان وسفسطة فإنه كانوا يصدون الدهماء عن الدين ويختلقون لهم المعاذير. وإنما نفوا هنا أن يكونوا محولين لهم عن الإيمان بعد تقلده وليس ذلك هو المدعى. فموقع السفسطة هو قولهم: {بَعْدَ إِذْ
(22/70)
جَاءَكُمْ} لأن المجيء فيه مستعمل في معنى الاقتراب منه والمخالطة له.
و {إِذْ} في قوله: {إِذْ جَاءَكُمْ} مجرده عن معنى الظرفية ومحضة لكونها أسم زمان غير ظرف وهو أصل وضعها كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة [30]، ولهذا صحت إضافة {بَعْدَ} إليها لأن الإضافة قرينة على تجريد {إِذْ} من معنى الظرفية إلى مطلق الزمان مثل قولهم: حينئذ ويومئذ. والتقدير: بعد زمن مجيئهم إياكم. و {بَلْ} إضراب إبطال عن الأمر الذي دخل عليه الاستفهام الإنكاري، أي ما صددناكم بل كنتم مجرمين.
والإجرام: الشرك وهو مؤذن بتعمدهم إياه وتصميمهم عليه على بصيرة من أنفسهم دون تسويل مسول.
[33] {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [33]}.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً}.
لم تجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكي بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية، فجيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ} [سبأ: 32] الآية لنكتة دقيقة، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم المحكية بقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] تنبيها على أن مقالتهم تلقفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلغوهم ريقهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولمنهم قاطعوا كلامهم من فرط الجزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون.
وحكي قولهم هذا بفعل المضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون، انقلب جوابا عن تبرؤ
(22/71)
المستكبرين من أن يكونوا صدوا المستضعفين عن الهدى، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف {بَلْ} وبزيادة {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} . وأصل الكلام: يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تؤمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله وأن نكفر بالله الخ. فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف {بَلْ} إبطالا لقول المستكبرين {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32]. وبذلك أفد تكملة الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا انه جواب عن كلام المستكبرين فقط، وهذا من أبدع الإيجاز.
و {بَلْ} للإضراب الإبطالي أيضا إبطالا لمقتضى القصر في قولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ: 32] فإنه واقع في حيز نفي لأن الاستفهام الإنكاري له معنى النفي.
و {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من الإضافة على معنى "في". وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق،أي مكركم بنا.
وارتفع {مَكْرُ} على الابتداء. والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه.فالتقدير: بل مكركم صدنا،فيفيد القصر، أي ما صدنا إلا مكركم، وهو نقض تام لقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى} [سبأ: 32] وقولهم: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32].
والمكر: الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليغر المحتال عليه، وتقدم وفي قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في آل عمران [54].
وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم: إنه دين آباءكم وكيف تؤمنون غضب الآلهة عليكم إذا تركتم دينكم ونحو ذلك. والاحتلال لا يقتضي أن المحتال غير مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله.
والمعنى: ملازمتهم المكر ليلا ونهارا، وهو كناية عن دوام الإلحاح عليهم في التمسك بالشرك. و {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرف لما في {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من معنى "صدّنا" أي حين تأمروننا أن نكفر بالله.
والأنداد: جمع ند، وهو المماثل، أي نجعل لله أمثالا في الإلهية.
وهذا تطاول من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم واحتقروهم
(22/72)
حين علموا كذبهم وبهتانهم.
وقد حكي نظير ذلك في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآيتين في سورة البقرة [166].
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] فتكون حالاً. ويجوز أن تعطف على جملة: {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31].
وضمير الجمع عائد إلى جميع المذكورين قبل وهم الذين استضعفوا والذين استكبروا. والمعنى: أنهم كشف لهم عن العذاب المعد لهم، وذلك عقب المحاورة التي جرت بينهم، فعلموا أن ذلك الترامي الواقع بينهم لم يغن عن أحد من الفريقين شيئا، فحينئذ أيقنوا بالخيبة وندموا على ما فات منهم في الحياة الدنيا وأسروا الندامة في أنفسهم،وكأنهم أسروا الندامة استبقاء للطمع في صرف ذلك عنهم أو اتقاء للفضيحة بين أهل الموقف، وقد أعلنوا بها من بعد كما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} في سورة الأنعام [31]، وقوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في سورة الزمر [58].
وذكر الزمخشري وابن عطية: أن من المفسرين من فسر: {أَسَرُّوا} هنا بمعنى أظهروا، وزعم أن "أَسَرَّ" مشترك بين ضدين. فأما الزمخشري فسلمه ولم يتعقبه وقد فس الزوزني الإسرار بالمعنيين في قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... علي حراصا لو يسرون مقتلي
وأما ابن عطية فأنكره، وقال: "ولم ثبت قط في اللغة أن "أسَرَّ" من الأضداد" . قلت: وفيه نظر. وقد هذه الكلمة في الأضداد كثير من أهل اللغة وأنشد أبو عبيدة قول الفرزدق:
ولما رأى الحجاج جرد سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا
وفي كتاب "الأضداد" لأبي الطيب الحلبي قال أبو حاتم: ولا أثق بقول أبي عبيدة في القرآن ولا في قول الفرزدق والفرزدق كثير التخليط في شعره. وذكر أبو الطيب عن التوزي أن غير أبي عبيدة أنشد بيت الفرزدق والذي جر على تفسير: {أَسَرُّوا} بمعنى أظهروا هنا هو ما يقتضي إعلانهم بالندامة من قولهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]. وفي
(22/73)
آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].الآية.
والندامة: التحسر من عمل فات تداركه. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} في سورة المائدة [31].
{وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [33]}.
عطف على جملة: {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} [سبأ: 31] والتقدير: ولو ترى إذ جعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. وجواب {لَوْ} المحذوف جواب للشرطين.
و {الأَغْلاَلَ} : جمع غُلّ بضم العين، وهو دائرة من حديد أو جلد على سعة الرقبة توضع في رقبة المأسور ونحوه ويشد إليها بسلسلة أو سير من جلد أو حبل، وتقدم في أول سورة الرعد. وجعل الأغلال في الأعناق شعار على إنهم يساقون إلى ما يحاولون الفرار والانفلات منه. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} في الرعد [5]. و {الَّذِينَ كَفَرُوا} هم هؤلاء الذين جرت عليهم الضمائر المتقدمة فالإتيان بالاسم الظاهر وكونه موصولا للإيماء إلى أن ذلك جزاء الكفر،ولذلك عقب بجملة: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا استعظم هذا العذاب وهو تعريض بهم.
والاستفهام بـ {هَلْ} مستعمل في الإنكار باعتبار ما يعقبه من الاستثناء، فتقدير المعنى: هو جزوا بغير ما كانوا يعملون، والاستثناء مفرغ.
و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هو المفعول الثاني لفعل {يُجْزَوْنَ} لأن "جَزى" يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه لأنه من باب أعطى، كما يتعدى إليه بالباب على تضمينه معنى: عوَّضه.
وجعل جزاؤهم م كانوا يعملون على معنى التشبيه البليغ، أي مثل ما كانوا يعملون، وهذه المماثلة كناية عن المعادلة فيما يجاوزونه بمساواة الجزاء للأعمال التي جوزا عليها حتى كأنه نفسها كقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ: 26].
واعلم أن كونه مماثلاً في المقدار أمر لا يعلمه إلا مقدر الحقائق والنيات،وأما كونه {وِفَاقاً} في النوع فلأن وضع لأغلال في الأعناق منع من حرية التصرف في أنفسهم لأصنامهم كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] وما تقبلوه من استعباد زعمائهم وكبرائهم إياهم قال تعالى:
(22/74)
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} [[الأحزاب: 67].
ومن غُرر المسائل أن الشيخ ابن عرفة لما كان عرض عليه في درس التفسير عند قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] فسأله بعض الحاضرين: هل يستقيم أن نأخذ من هذه الآية ما يؤيد فعل الأمراء أصلحهم الله من الإتيان بالمحاربين ونحوهم مغلولين من أعناقهم مع قول مالك رحمه الله بجواز القياس في العقوبات على فعل الله تعالى: "في حدث الفاحشة" فأجابه الشيخ بأن لا دلالة فيها لأن مالكا إنما أجاز القياس على فعل الله في الدنيا، وهذا من تصرفات الله في الآخر فلا بد لجوازه من دليل.
[34] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [34]}.
اعتراض للانتقال إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما مُنِيَ به من المشركين من أهل مكة وخاصة ما قابله به سادتهم وكبراؤهم من التأليب عليه بتذكيره أن تلك سنة الرسل من قبله فليس في ذلك غضاضة عليه ولذلك قال في الآية في الزخرف: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [23] الخ، أي وكذلك التكذيب الذي كذبك أهل هذه القرية. والتعويض بقومه الذي عادوه بتذكيرهم عاقبة أمثالهم من أهل القرى التي كذب أهلها وأغراهم يذلك زعمائهم.
والمترَفون: الذين أُعطوا الترف، والترف: النعيم وسعة العيش، وهو مبني للمفعول بتقدير: إن الله أترفهم كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة الأنبياء [33].
وفي بنائه للمفعول تعريض بالتذكير بنعمة الله عليهم لعلهم يشكرونها ويقلعون عن الإشراك به، وبعض أهل اللغة يقول تقديره: أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم.
و {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ} حكاية للقول بالمعنى: أي قالوا مترفو كل قرية لرسولهم: إنا بما أرسلت به كافرون. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع التي يراد منها التوزيع على آحاد الجمع.
وقولهم: {أُرْسِلْتُمْ بِهِ} تهكم بقرينة قولهم: {كَافِرُونَ} وهو كقوله تعالى: {وَقَالُوا
(22/75)
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]؛ أو المعنى: إنا بما ادّعيتم أنكم أرسلتم به.
[35، 36] {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [35] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [36]}.
قَفَّوْا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كنوا به عن إبطال حقيقة الإسلام بدليل سفسطائي فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى، فضمير: {وَقَالُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31] الخ. وهذا من تمويه الحقائق بما يحف بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والوالد من حجة على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما عليه هو الحق. وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببه على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد. وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات.
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ الجأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم.
فجملة: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} عطف على جملة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31] الخ. وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالنتيجة لقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} ، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنساخ الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإبطال ما جاء به الإسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لجانب المسلمين بإشارة إلى قياس استثنائي على ملازمة موهومة، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقربون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد. ولولا هذا التأويل لخلا تلك الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب بـ {قُلْ إِنَّ رَبِّي
(22/76)
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أشد اتصالا بالمعنى، أي قل لهم: إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي، والهدى والضلال، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيقة على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون.
وهذا ما جعل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} مصيبا المحز فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زينها وشينها.
وقد أفاد هذا أن حالها غير دال على رضي الله عنهم ولا عدمه، وهذا الإبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضا إجماليا.
وبسط الرزق: تيسيره وتكثيره، استعير له البسط وهو نشر الثوب ونحوه لأن المبسوط تكثر مساحة انتشاره.
وقدْر الرزق:عسر التحصيل عليه وقلة حاصله؛ استعير له القدْر، أي التقدير وهو التحديد لأن الشيء القليل يسهل عده وحسابه ولذلك قيل في ضده: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]، ومفعول: {يَقْدِرُ} محذوف دل عليه مفعول: {يَبْسُطُ} . وتقدم نظيره في سورة الرعد.
ومفعول: {يَعْلَمُونَ} محذوف دل عليه الكلام، أس لا يعلمون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر باعتبار عموم من يشاء من كونه صالحا أو طالا، ومن انتفاء عملهم بذلك أنهم توهموا بسط الرزق علامة على القرب عند الله،وضده علامة على ضد ذلك. وبهذا أخطأ قول أحمد بن الراوندي:
كم عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
فلو كان عالما نحريرا لما تحير فهمه، وما تزندق من ضيق عطن فكره.
[37] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [37]}.
يجوز أن تكون جملة: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ} عطفا على جملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [سبأ: 36] الخ فيكون كلاما موجها من جانب الله تعالى إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً
(22/77)
وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] فتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً}.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ: 36]، فيكون مما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويبلغه عن الله تعالى، ويكون في ضمير: {عِنْدَنَا} التفات، وضمائر الخطاب تكون عائدة إلى الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] وفيها وجه ثالث ننبه عليه قريبا.
وهو ارتقاء من إبطال الملازمة إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضي من الله تعالى على طريقة النقض التفصيلي المسمى بالمناقضة أيضا في علم المناظرة. وهو مقام الانتقال من المنع إلى الاستدلال على إبطال دعوى الخصم،فقد أبطلت الآية أن تكون أموالهم وأولادهم مقرة عند الله تعالى وأنه لا يقرب إلى الله إلا الإيمان والعمل الصالح.
وجيء بالجملة المنفية في صيغة حصر بتعريف المسند إليه والمسند،لأن هذه الجملة أريد منها نفي قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا أنتم، فكان كلامهم في قوة حصر التقريب إلى الله في كثرة الأموال والأولاد فنفي ذلك بأسره.
وتكرير {لاَ} النافية بعد العاطف في: {وَلاَ أَوْلادُكُمْ} لتأكيد تسلط النفي على كلا المذكورين ليكون كل واحدا مقصودا بنفي كونه مما يقرب إلى الله ومتلفتا إليه.
ولما كانت الأموال والأولاد جمعي تكسير عوملا معاملة المفرد المؤنث فجيء بخبرهما اسم موصول المفرد المؤنث على تأويل جماعة الأموال وجماعة الأولاد ولم يتلفت إلى تغلب الأولاد على الأموال فيخبر عنهما معا بـ"الذين" ونحوه.
وعدل عن أن يقال: بالتي تقربكم إلينا، إلى: {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا} لأن التقريب هنا مجاز في التشريف والكرامة لا تقريب مكان.
والزلفى: اسم للقرب مثل الرجعي وهو مفعول مطلق نائب عن المصدر، أي تقربكم تقريبا، ونظيره: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17].
وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناء منقطع. و {إِلاَّ} بمعنى "لكنْ" المخففة النون التي هي للاستدراك وما بعدها كلام مستأنف وذلك من استعمالات الاستثناء المنقطع؛ فإنه إذا كان ما بعد {إِلاَّ} ليس من جنس المستثنى منه كان الاستثناء منقطعا، ثم إن كان ما بعد {إِلاَّ} مفردا فإن {إِلاَّ} تقدَّر بمعنى "لكنَّ" أخت "إنّ" عند أهل الحجاز
(22/78)
فينصبون ما بعدها على توهم اسم "لكنّ" وتقدر بمعنى "لكنْ" المخففة العاطفة عند بني تميم فيتبع الاسم الذي بعدها إعراب الاسم الذي قبلها وذلك ما أشار إليه سيبويه في باب يختار فيه النصب من أبواب الاستثناء1.
فأما إن كان من بعد {إِلاَّ} جملة اسمية أو فعلية فإن {إِلاَّ} تقدر بمعنى "لكنْ" المخففة وتجعل الجملة بعد استئنافا، وذلك في قول العرب "والله لأفعلن كذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا" قال سيبويه: "فإن: أَن أفعل كذا، بمنزلة: إلاّ فِعْل كذا، وهو مبني على حِلّ [أي هو خبر له[ وحِلّ مبتدأ كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا" اهـ2.
قال ابن مالك في "شرح التسهيل": وتقرير الإخراج في هذا أن تجعل قولهم: إلا حل ذلك، بمنزلة: لا أرى لهذا العقد مبطلا إلا فعل كذا. وجعل ابن خروف من هذا القبيل قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية: 22- 24] على أن يكون {مَنْ} مبتدأ و"يُعَذِّبُهُ الله" الخبر ودخل الفاء لتضمين المبتدأ معنى الجزاء. وقال أبو يسعود: إن {إِلاَّ} في الاستثناء المنقطع يكون ما بعدها كلاما مستأنفا اهـ.
وعلى هذا فقوله تعالى هنا: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} تقديره: لكن من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف، فيكون {مَن} مبتدأ مضمَّنا معنى الشرط و {لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} جملة خبر عن المبتدأ وزيدت الفاء في الخبر لتضمين المبتدأ معنى الشرط.
وأسهل من هذا أن نجعل {مَنْ} شرطيه وجملة: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} جواب الشرط، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية. وهذا تحقيق لمعنى الاستثناء المنقطع وتفسير للآية بدون تكلف ولا تردد في النظم.
ويجوز أن تكون جملة: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} الخ اعتراضا بين جملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وجملة: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
ـــــــ
1 انظر الجزء الأول ص319 طبع باريس.
2 نفس المصدر والجزء ص326.
(22/79)
مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [ سبأ: 39] وتكون ضمائر الخطاب موجهة إلى جميع الناس المخاطبين بالقرآن من مؤمنين وكافرين. وعليه يكون قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الخ مستثنى من ضمير الخطاب، أي ما أموالكم بالتي تقربكم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وتكون جملة: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} ثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وجيء باسم الإشارة في الأخبار عن: {مَنْ آمَنَ} للتنويه بشأنهم والتنبيه على أنهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الأوصاف التي تقدمت اسم الإشارة على ما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وغيره. ووزان هذا المعنى وزان قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} إلى قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران: 196- 198] الآية.
و {الضِّعْف} : المضاعف المكرر فيصدق بالمكرر مرة واكثر.وفي الحديث "والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" وقد أشار إليه قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].
وإضافة: {جَزَاءُ} إلى: {الضَِّعْفِ} إضافة بيانية، أي الجزاء الذي هو المضاعفة لأعمالهم، أي لما تستحقه كما تقدم. وكني عن التقريب بمضاعفة الجزاء لأن ذلك أمارة كرامة المجزي عند الله، أي أولئك يقربون زلفى فيجزون جزاء الضعف على أعمالهم لا على وفرة أموالهم وأولادهم، فالاستدراك ورد على جميع ما أفاده كلام المشركين من الدعوى الباطلة والفخر الكاذب لرفع توهم أن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله بحال فإن من أموال المؤمنين صدقات ونفقات، ومن أولادهم أعوانا على البر ومجاهدين وداعين لآبائهم بالمغفرة والرحمة.
والباء في قوله: {بِمَا عَمِلُوا} تحتمل السبيبة فتكون دليلا على ما هو المضاعف وهو ما يناسب السبب من الصالحات كقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وتحتمل العوض فيكون "مَا عَمِلوا" هو المجازى عليه كما تقول: جزيته بألف، فلا تقدير في قوله: {جَزَاءُ الضِّعْفِ} .
و {الْغُرُفَاتِ} : جمع غرفة. وتقدم في آخر الفرقان وهي البيت المعتلي وهو أجمل منظرا وأشمل مرأى. و {آمِنُونَ} خبر ثاني يعني تلقي في نفوسهم الأمن من انقطاع ذلك النعيم.
(22/80)
وقرأ الجمهور: {فِي الْغُرُفَاتِ} بصيغة الجمع، وقرأ حمزة: {فِي الْغُرْفَةِ} بالإفراد.
[38] {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [38]}.
جرى الكلام عل عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه، فكان هذا بمنزلة الاعتراض بين الثناء على المؤمنين الصالحين وبين إرشادهم إلى الانتفاع بأموالهم للقرب عند الله بجملة: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ: 39] الخ. والذين يسعون في الآيات هم المشركون بصدهم عن سماع القرآن وبالطعن فيه بالباطل واللغو عند سماعه.
والسعي مستعار للاجتهاد في العمل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات: 22] وإذا عدّشي بـ {فِي} كان في الغالب مرادا منه الاجتهاد في المضرة فمعنى: {يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} يجتهدون في إبطالها، و {مُعَاجِزِينَ} مغالبين مطالبين العجز. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} في سورة الحج [51].
واسم الإشارة للتنبيه على إنهم استحقوا الجحيم لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة مثل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] و {فِي الْعَذَابِ} خبر عن اسم الإشارة. و {محضرون} هنا كناية عن الملازمة فهو ارتقاء في المعنى الذي دلت عليه أداة الظرفية من إحاطة العذاب بهم وهو خبر ثان عن اسم الإشارة ومتعلقه محذوف دل عليه الظرف وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} في سورة الروم [6].
[39] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [39]}.
أتبع إبطال أن تكون الأموال والأولاد بذاتهما وسيلة قرب لدى الله تعالى ردا على مزاعم المشركين بما يشبه معنى الاستدراك على ذلك الإبطال من إثبات فالانتفاع بالمال للتقرب إلى رضى الله إن استعمل في طلب مرضاة الله تفضيلا لما أشير إليه إجمالا من أن ذلك قد يكون فيه قربى إلى الله بقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ: 37] كما تقدم.
وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} تقدم نظيره قريبا تأكيدا لذلك وليبنى عليه قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية. فالذي تقدم رد على المشركين والمذكور هنا ترغيب للمؤمنين والعبارات واحدة والمقاصد مختلفة. وهذا من
(22/81)
وجوه الإعجاز أن يكون الكلام الواحد صالحا لغرضين وأن يتوجه إلى طائفتين.
ولما كان هذا الثاني موجها إلى المؤمنين أشير إلى تشريفهم بزيادة قوله: {مِنْ عِبَادِهِ} أي المؤمنين، وضمير: {لَهُ} عائد إلى: {مَنْ} ، أي ويقدر لمن يشاء من عباده. ومفعول: {يَقْدِرُ} محذوف دل عليه مفعول {يَبْسُطُ} .
وكان ما تقدم حديثا أن يبسط الرزق لغير المؤمنين فلم ينعموا بوصف {مِنْ عِبَادِهِ} لأن في الإضافة تشريفا للمؤمنين، وفي هذا امتنان على الذين يبسط عليهم الرزق بأن جمع الله لهم فضل الإيمان وفضل سعة الرزق، وتسلية للذين قدر عليهم رزقهم بأنهم نالوا فضل الإيمان وفضل الصبر على ضيق الحياة.
وفي تعليق: {لَهُ} بـ {يَقْدِرُ} إيماء إلى أن ذلك القدر لا يخلو من فائدة للمقدور عليه رزقه، وهي فائدة الثواب على الرضى من قسم له والسلامة من الحساب عليه يوم القيامة. وفي الحديث "ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يُشاكُها" .
ولولا هذا الإيماء لقيل: ويقدر عليه، كما قال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. وأما حال الكافرين فإنهم ينعم على بعضهم برزق يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة إذ لم يشكروا رازقهم، ويقدر على بعضهم فلا يناله إلا الشقاء. وهذا توطئة لقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} حثا على الإنفاق. والمراد الإنفاق فيما أذن فيه الشرع.
وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 201، 202]فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله تعالى ويسرها لمن يسرها في علمه بغيبه، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان وعلى كثير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكثير من أئمة الدين مثل مالك بن أنس والشافعي والشيخ عبد الله بن أبي زيد وسحنون.
فأما اختيار الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غايات الكمال من التمحض لتلقي الوحي وجميل الخصال ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم وقد بسطناه بيانا في رسالة طعام رسول الله عليه السلام. وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في
(22/82)
الإنفاق في سبيل الله فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإنفاق لأن وعد الله بإخلافه مع تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنافقين.
وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط ويجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لما في: {مَا} من العموم، وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تذييل للترغيب والوعد بزيادة، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق. {خَيْرُ} بمعنى أخير لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة.
والمراد بالإنفاق: الإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء والإنفاق في سبيل الله بنصر الدين. روى مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى: "يا بن آدم أنفق أنفق عليك" . قال ابن العربي: قد يعوض مثله أو أزيد، وقد يعوض ثوابا، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإجابة اهـ. قلت:وقد يعوض صحة وقد يعوض تعميرا. ولله في خلقه أسرار.
[40، 41] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [40] قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [41]}.
عطف على جملة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] الآية استكمالاً لتصوير فضاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعا لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين، فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.
وضمير الغيبة من: {نَحْشُرُهُمْ} عائد إلى ما عاد عليه ضمير: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] الذي هو عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31]. والكلام كله منتظم في أحوال المشركين, جميع: فعيل بمعنى مفعول، أي مجموع وكثر استعماله وصفا لإفادة شمول أفراد ما أجرى هو عليه من ذوات وأحوال، أي يجمعهم المتكلم قال لبيد:
(22/83)
عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثُمامها
وتقدم عند قوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} في سورة هود [55]. فلفظ: {جَمِيعاً} يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقط كان مشركو العرب نحلا شتى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهبا منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضا.
والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله، وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كما في سورة الزخرف [20]. وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسبا فكانوا يقولون: الملائكة بنات الله من سروات الجن.
وقد كان حي من خزاعة يقال لهم: بنو مليح، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، يعبدون الجن والملائكة. والاقتصادر على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونه ممن أعيد من دون الله بدلالة الفحوى، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أجل ما جعل الحشر لأجله.
وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل بالتعريض بالمشركين على طرقة المثل "إياك أعني واسمعي يا جارة".
والإشارة بـ {هَؤُلاَءِ} إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.
وتقديم المفعول على: {يَعْبُدُونَ} للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.
وجواب الملائكة يتضمن إقرار مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يحكي كفر أحد فيقول قال: هو مشرك بالله، وإنما القائل قال: أنا مشرك بالله.
فمورد التنزيه في قول الملائكة: {سُبْحَانَكَ} هو أن يكون غير الله مستحقا أن يعبد، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا معبدودين.
والولي: الناصر والحليف والصديق مشتق من الولي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم وكل من فاعل الوَلْي ومفعوله ولي الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلاً
(22/84)
صالحا لمعنى فاعل ولمعنى مفعول. فيقع اسم الولي على الموالى بكسر اللام وعلى الموالي بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيراً.
فمعنى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} لا نوالي غيرك،أي لا نرضى به وليا، والعبادة ولاية بين العابد والمعبود، ورضي المعبود بعبادة عابده إياه ولاية بين المعبود وعابده، فيقول الملائكة: {سُبْحَانَكَ} تبرؤ من الرضى بأن يعيدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإلهية، لأن العابد لا يكون معبودا. ولقد تقدم الكلام على لفظ "ولي" عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام [14] وفي آخِر سورة الرعد.
و {مِنْ} زائدة للتوكيد و"دُونِ" اسم لمعنى غير، أي أنت ولينا وهم ليس أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم فـ {مِنْ دُونِهِمْ} تأكيد لما أفادته جملة: {أَنْتَ وَلِيُّنَا} من الحصر لتعريف الجزءين.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي انتقالا من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سولوا لهم عبادة غير الله تعالى، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة، والمعنى بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجن راضين بعبادتهم إياهم. وحاصل المعنى، أنا منكرون عبادتهم إيانا ولم نأمرهم بها ولكن الجن سولت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.
وجملة: {أَكْثَرُهُمْ} للمشركين وضمير: {بِهِمْ} للجن والمقام يرد كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي أحرز جمع المشركين ما جمعه المسلمون من مغانم.
وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ} و {نَقُولُ} بنون العظمة. وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما، والضمير عائد إلى {رَبِّي} من قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} .
[42] {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [42]}.
(22/85)
{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجن. والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة. وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به: التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به. والمعنى: إذ علمتم أنكم عبتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا.
ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخا لهم وإظهارا للغضب عليهم تحقيقا للتبرؤ منهم، والفاء أيضا فصيحة وهي ظاهرة.
وقُدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذ قد أختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عبادتهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإضلال، وكذلك الضر في الدنيا أيضاً.
والمِلك هنا بمعنى: القدرة، أي لا يقدر بعضكم على نصر أو نفع.بعض. وتقدم عند وقوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في سورة العقود [17].
وقدم النقع في حيز النفي تأييسا لهم لأنهم يرجون أن يشفعوا لهم يومئذ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
عطف على قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سبأ: 40]. وقد وقع الإخبار عن هذا القول بعد الإخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذ إظهار لاستحقاقهم هذا الحكم الشديد، ولكنه كالمعلول لقوله: {لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
والذوق: مجاز لمطلق الإحساس، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله.
ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها في صلة الموصول من إيذان بغلطهم
(22/86)
وتنديمهم.
وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة [20] {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} لأن القول المخبر عنه هنا هو قو ل الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى: آنفا: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33] فإن الذي يرى هو ما به العذاب، وأما القول المحكي في سورة السجدة [20] فهو قول ملائكة العذاب بليل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
وتقديم المجرور للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
[43] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [43]}.
انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتاب والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لمل تقدم من كفرهم.
وجملة: {إِذَا تُتْلَى} معطوفة على جملة: {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [سبأ: 40]عطف القصة على القصة. وضمير: {عَلَيْهِمْ} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 31] وهم المشركون من أهل مكة.
وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدة بالزمن الذي تتلى عليه فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأن وقت ظهور حجة صدقة لكل عاقر متبصر.
وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقة قدم الظرف على عامله والتشويق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح.
والمراد بالآيات البينات آيات القرآن، ووصفها بالبيان لأجلل ظهور أنها من عند الله لإعجازها إياهم من معارضتها، ولما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على
(22/87)
صدق ما تدعوا إليه، فهي محفوظة بالبيان بألفاظها ومعانيها.
وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو تالي آيات الله، فالإشارة في قولهم: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستحضروه بطريقة الإشارة دون الاسم إفادة لحضور مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فصلت وقراءته على عبد الله بن أبي بن سلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون.
وابتدأوا بالطعن في التالي لأن الغرض الذي يرمن إليه، وأثبتوا له إرادة صدهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضهم حمية بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلا حقا ولا يفعلون إلا صوابا وحكمة، فلا جرم أن يكون مريد الصد عنها محاولا الباطل وكاذبا في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قول غير مطابق للواقع فهو الكذب.
وفعل: {كَانَ} في قولهم: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة. وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيعاز لصدورهم ليتألبو على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزادوا تمسكا بدينهم وقد قصروا للرسو عليه السلام على صفة إرادة صدهم قصراً إضافياً، أي إلا رجل صادق فما هو برسول.
وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلو بأنه كذب مفترى وإعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعا لهما في نفس السامعين فجملة: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} عطف على جملة: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} فالفعلان مشتركان بالظرف.
والإشارة الثانية إلى القرآن الذي تضمنه: {تُتْلَى} لتعينه لذلك.
والإفك: الكذب، ووصفه بالمفترى إما أن بتوجه إلى نسبته إلى الله تعالى أو أريد أنه في ذاته إفك وزادوا فجعلوه مخترعا من النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسبوقاً به.
فكونه إفكا يرجع إلى جميع ما في القرآن، وكونه مفترى يرجعونه إلى ما فيه من قصص الأولين. وهذا القول من بهتانهم لأنهم كثيرا ما يقولون: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] فليس: {مُفْتَرىً} تأكيد لـ {إِفْكٌ} .
(22/88)
ثم حكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، فهذا المقال الثالث يشمل ما نقدم وغيره، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل. وأظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معادا للضمير فقيل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ولم يقل: وقالوا للحق لما جاءهم، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
وأظهر المشار إليه قبل اسم الإشارة في قوله: {لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} لأن لا دليل عليه في الكلام السابق، أي إذ اظهر لهم ما هو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا: ما هذا إلا سحر مبين. فالمراد من الحق: ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان: أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهن من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحيل وخفة أيد تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات، فذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدة معجزة تكثير الماء في بعض غزوات النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت لقومها "أتيت أسحر الناس، أو هو نبيء كما زعموه".
ومعنى: {مُبِينُ} أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.
وجملة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على جملة: {وَإِذَا تُتْلَى}.
[44] {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [44]}.
الواو للحال، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ: 43] الآية، تحميقا لجهالتهم وتعجيبا من حالهم في أمرين.
"أحدهما": أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه، فيكون معنى الآية: فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدر بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب
(22/89)
لقوله: {يَدْرُسُونَهَا} أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.
"وثانيهما": أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدق الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر: فيكون المعنى: التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم، فليس معنى جملة: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ} الخ على العطف ولا على الإخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار به. ولكن على الحال إفادة التعجيب والتحميق، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.
والدراسة: القراءة بتمهل وتفهّم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} في آل عمران [79].
وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قيد الإرسال بقوله: {قَبْلَكَ} لأن الإيتاء هو التمكين من الشي وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه.
ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجر إلى معذرة أهل الكتاب في عضهم بالنواجذ على دينهم، على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيضا لا يكون للتقييد بـ {قَبْلَكَ} فائدة خاصة كما علمت. وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعدا وأبعد عن القصد جدا.
[45] {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [45]}.
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذبوه، فموقع التسلية منه قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، وموقع التهديد بقية الآية، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذبت رسلها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [الزخرف: 8].
(22/90)
ومفعول: {كَذَّبَ} محذوف دل عليه ما بعده، أي كذبوا بالرسل، دل عليه قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي}.
وضمير: {بَلَغُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، والضمير المنصوب في: {آتَيْنَاهُمُ} عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]. والمقام يرد على كل ضمير إلى معاده، كما قريبا عند قوله تعالى: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . [سبأ: [41].
والمعشار: العشر، وهو الجزء العاشر مثل المرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية.
وذكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} لا يستقيم معها سياق الآية.
وجملة: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} معترضة، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} .[الروم: 27].
والفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} للتفريع على قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، باعتبار أن المفرع: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، وبذلك كانت جملة: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} تأكيد الجملة: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ونظيره قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} في سورة القمر [9]، ولكون الفاء الثانية في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} تأكيدا لفظيا للفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} .
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} مفرع على قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
و"كيف" استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعديل ابن الفرخ: {فكيف رأيت الله أمكن منك} ، أي أمكنني منك، في قصة هروبه.
فجملتا: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . والتقدير: وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل، ولكن لما كانت جملة {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مقصودا منها تسلية الرسول ابتداء جعلت مقصورة على ذلك اهتماما بذلك الغرض وانتصارا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خصت عبرة تسبب التكذيب بالعقاب بجملة تخصها تهويلا للتكذيب وهو من مقامات
(22/91)
الإطناب، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحدا اتحاد السبب لمسببين أو العلة لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم. وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنبا لثقل إعادة الجملة إعادة ساذجة ففرعت الثانية على الأولى واظهر فيها مفعول: {كَذَّبَ} وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كما تقدم، ونظيره قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9].
والتنكير: اسم للإنكار وهو عد الشيء منكرا، أي مكروها،واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية.
والمعنى: فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره، أي كان عقابا عظيما على وفق إنكارنا تكذيبهم.
و {نَكِيرِ} بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها. وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه السكون.
[46] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [46]}.
افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها، استقصاء لهم في الحجة وإعذارا لهم في المجادلة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
ولذلك اجتلبت صيغة الحصر بـ {إِنَّمَا} ، أي ما أعظكم إلا بواحدة، طيا لبساط المناظرة وإرسال على الخلاصة من المجادلات الماضية، وتقريبا لشقة الخلاف بيننا وبينكم.
(22/92)
وهو قصر إضافي، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة، أي أن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقط كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب: أما ينتهي أبن أخيك من شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول: والخلاصة أو الفذلكة كذا.
وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهموا الإقبال على النظر الذي عقدوا نيا تهم على رفضه، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهدا ولا يضيع عليهم زمنا فليتأملوا فيه قليلا ثم يقضوا قضاءهم، والكلام على لسان النبيء صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يخاطبهم به.
والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في لا ضده. وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف [145]، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} في سورة النور [17].
و"واحدة" صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة.
والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبا للأفهام واختصارا في الاستدلال وإيجاز في نظم الكلام واستنزالا لطائر نفورهم وأعراضهم.
وبنيت هذه الواحدة بقول: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} إلى آخره، فالمصدر المنسبك من: {أَنْ} والفعل في موضع البدل من "واحدة"، أو قل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق،وإنما أختلف التعبير عنه عند المتقدمين فلا تخض في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا.
والقيام في قوله: {أَنْ تَقُومُوا} مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} .[النساء: 127]
واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت: 25]، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.
وكلمة: {مَثْنَى} معدول بها عن قولهم: اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريرا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يعد بعدد اثنين منه مرصفا على نحو عدده.
(22/93)
وكلمة: {فُرَادَى} معدول بها عن قولهم: فردا فردا تكريرا يفيد معنى الترصيف كذلك. وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وتقدم في سورة النساء [3].
وانتصب: {مَثْنَى وَفُرَادَى} على الحال من ضمير: {تَقُومُوا} أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى: أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد، فيكون: {مَثْنَى} كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازما للتثنية ادعاء كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] فإن البصر لا يرجع خاسئا من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر ومنه قولهم: لبيك وسعديك، وقولهم: دواليك.
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعينا أحدكم بصاحب له او منفرد بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخلوة. ومنهم من حاله بعكس هذا، فلهذا أقتصر على {مَثْنَى وَفُرَادَى} لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه. وقدم {مَثْنَى} لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعا ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخلو مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء بما يلزم نواياهم من الخبث تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل ولا صدا عن الاخنلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ، ولا حياء يهذب من حدتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا {مَثْنَى وَفُرَادَى} فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلى ثاني أثنين فهو إنما يختا ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه.
وحرف {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبونه.
والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في الأنعام. [50]
(22/94)
وقوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} نفي يعلق فعل: {تَتَفَكَّرُوا} عن العمل لأجل حرف النفي.
والمعنى: ثم تعلموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} معمولة لـ {تَتَفَكَّرُوا} . ومن وقف على: {تَتَفَكَّرُوا} لم يتقن التفكر.
والمراد بالصاحب: المخالط مطلقا بالموافقة والمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خلقه كقول الحجاج في خطبته للخوارج "ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر" يعني فلا تخفى علي مقاصدكم. وتقدم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في سورة الأعراف [184].
والتعبير: {بِصَاحِبِكُمْ} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ما بي من جنة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا. وفائدته التنبيه على أن حال معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تذر للجهالة مجالا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .[يونس: 16].
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجنة عن النبيء صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا:ساحر، وقالوا:كاذب. فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجنة عنه حتى إذا أذعنوا إلى انه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن قال تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] في السورة الثانية نزولا. وقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] في السورة السابعة [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمروا عليه قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قال عد لهود: {إِِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]، وقالت ثمود لصالح: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود: 62].
فبقيت دعواهم أنه ساحر وانه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب "حاشاه". فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما، فأما انتفاء السحر فبين لأنه يحتاج إلى معالجة تعلم ومزاولة طويلة والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يخفي عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته
(22/95)
منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة،فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قولهم: {بِصَاحِبِكُمْ} فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبا كما قال النظر بن الحارث: فلما رأيتم الشيب في صدغيه قلتم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون،و والله ما هو بأولئكم. وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه كذبا قبل أن يقول ما قال? قال أبو سفيان: لا. قال: فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
ومن أجل هذا التدرج الذي طوي تحت جملة: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أعقب ذلك بحصر أمره في النذارة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة.
قال في "الكشاف": "أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وأما عاقل راجح والعقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمد صلى الله عليه وسلم ما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا وأصدقهم قولا وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن يظنوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب" اهـ.
فالقصر المستفاد من: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.
ومعنى: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ} القرب، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية، أي قبل عذاب، وقد تقدم آنفا في هذه السورة، والمراد عذاب الآخرة.
[47] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [47]}.
هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم:كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا انه يريد بهذه الدعوى نفعا لنفسه يكون أجرا له على التعليم والإرشاد.
وهم لما دعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض
(22/96)
لجائزة الشاعر، وحلوان الكاهن، فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجرا على الإرشاد فقيل لهم: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} إن كان بكم ظن انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه، فما كان لي من أجر عليه فخذوه. وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجرا {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 86، 87] أو أن كنت سألتكم أجرا فلا تعطونيه وإن كنتم أعطيتم شيئا فاستردوه، فكني بهذا الشرط المحقق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالبا أجرا منهم على حد قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} . [المائدة: 116]. وهذا ما صرح به عقبه من قوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} ، فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدل على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر، على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفاءه في المستقبل أيضا. وهذا جار مجرى التحدي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجرا منهم لجاروا حين هذا التحدي بمكافحته وطالبوه برده عليهم.
وينتقل من هذا إلى تعيين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أجرا أو يتطلب نفعا لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يؤيد جزاء منهم.
و {مَا} يجوز أن تكون شرطية، و {مِنْ أَجْرٍ} بيانا لإبهام {مَا} وجملة {فَهُوَ لَكُمْ} جواب الشرط. ويجوز أن تكون {مَا} نافية. وتكون {مِنْ} لتوكيد عموم النكرة في النفي، وتكون الفاء في قوله: {فَهُوَ لَكُمْ} تفريعا على نفي الأجر، وضمير {هو} عائدا على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [سبأ: 43] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة. ويكون معنى الآية نظير معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 86، 87].
والأجر تقدم عنه قوله تعالى: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ} في سورة القصص [25].
وجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر أن يسأل
(22/97)
السامع: كيف لا يكون له على ما قام به أجر، فأجيب بأن أجره مضمون وعده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره.
وحرف {عَلَى} يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وعده الصادق، ثم ذيل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها، وعليم بخفاياها فهو من باب {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] أي وهو شاهد على ذلك كله.
والأجر: عوض نافع عن عمل سواء كان مالا أو غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء {أَجْرِيَ} مفتوحة. وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإضافة.
[48] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [48]}.
لا جرم انتهى الاستدلال والمجادلة أن ينتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.
وأعيد فعل {قُلْ} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفا.
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبيه ويؤيده. فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعم الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوي لأن تقوي الجملة حصل بحرف التأكيد. وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} من معنى: الناصر لي دونكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
والقذف: إلقاء الشيء من اليد، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه. والمعنى: أن ربي يقذفكم بالحق.
أو هو إشارة إلى قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء : 18] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.
(22/98)
وتخصيص وصف {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} من بين الأوصاف الإلهية للإشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلا أنه أرسله إليكم، فالإعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدته وهو العلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} يرسل الوحي، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ويكون قوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون: لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
وارتفع {عَلَّامُ} على أنه خبر مبتدأ محذوف،أي هو علام الغيوب، أو على أنه نعت لاسم {إِنَّ} إما مقطوع،وإما لمراعاة محل اسم {إِنَّ} حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق.وقال الفراء:رفع الاسم هذا هو غالب كلام العرب. ومثله بالبدل في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64].
وقرأ الجمهور: {الْغُيُوبِ} بضم الغين.وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في باء {بُِيُوتٍ} .
[49] {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [49]}.
أعيد فعل {قُلْ} للاهتمام بالمقول كما تقدم أنفا.
وجملة: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} تأكيد لجملة {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإسلام. وعطف {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} على {جَاءَ الْحَقُّ} لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حل فيه الحق.
و {يُبْدِئُ} مضارع أبدأ بهمزة في أوله وهمزة في أخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة: أجاء، وأسرى. وإسناد الإبداء والإعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.
ومعنى: {مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} في سورة الإسراء [81]. وذلك أن الموجود الذي تكون له آثار إما أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إبداء ولا
(22/99)
إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون {وَمَا يُبْدِئُ} {وَمَا يُعِيدُ} كناية عن الهلاك كما قال عبيد بن الأبرص:
أفقر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
"يعني نفسه".
ويقولون أيضا: فلان ما يبدئ وما يعيد، أي يتكلم ببادئة ولا عائدة، أي لا يرتجل كلاما ولا يجيب عن كلام غيره. وأكثر ما يستعمل فعل "أبدأ" المهموز أوله مع فعل "أعاد" مزدوجين في إثبات أو نفي، وقد تقدم قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} في سورة العنكبوت [19].
[50] {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [50]}.
لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبيء عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الرد عليهم قاطعا بأنه على هدى بقوله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] انتقل هنا إلى متاركة جدالهم وتركهم وشأنهم لقلة جدوى مراجعتهم.
وهذا محضر خاص وطي بساط مجاس واحد، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلا مشتملا على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم.
وصيغة القصر التي في قوله: {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} لقصر الضلال المفروض، أي على نفسي لا عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلع عما دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم.
وتعدية {أَضِلُّ} بحرف {عَلَى} تتضمن استعارة مكنية إذ شبه الضلال بجريرة عليه فعداه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكره عليها غير الملائمة، عكس اللام، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يقال: ضمن {أَضِلُّ} معنى أجني، لأن {ضَلَلْتُ} الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر.
(22/100)
وأما قوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصرا على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} .[الشورى: 52].
واختير في جانب الهدى فعل {اهْتَدَيْتُ} الذي هو مطاوع "هدى" لما فيه من الإيماء إلى أن له هاديا، وبينه بقوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} ليحصل شكره لله إجمالا ثم تفصيلا، وفي قوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحيا من الله وارد إليه.
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه، من إسناد فعل {أَضِلُّ} إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم، وهو أغرق في التعلق به، وليس الغرض من ذلك الكلام بيان التسبب ولمن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به، ولم يرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتداءه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملا له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناس إلى اتباعه، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجح جانب اهتدائه بقوله: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}.
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه.
وجملة: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابلة من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه.
والقريب هنا كناية عن العلم والإحاطة فيه فهو قريب مجازي. وهذا تعريض بالتهديد.
[51- 53] {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [51] وَقَالُوا آمَنَّا
(22/101)
بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [52] وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [53]}.
لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله: {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحل بهم الفزع من مشاهدة ما هددوا به.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب. وحذف جواب {لَوْ} للتهويل. والتقدير: لرأيت أمرا فظيعا.
ومفعول {تَرَى} يجوز أن يكون محذوفا، أي لو تراهم، أو ترى عذابهم ويكون {إِذْ فَزِعُوا} ظرفا لـ {تَرَى} ، ويجوز أن يكون {إِذْ} هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية، أي لو ترى ذلك الزمان، أي ترى ما يشمل عليه.
والفزع: الخوف المفاجئ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع" . وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيئين لهذا الوقت أسباب النجاة من هوله.
والأخذ: حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} .[الحاقة: 10]. والمعنى: أمسكوا وقبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب.
وجملة {فَلا فَوْتَ} معترضة بين المتعاطفات. والفوت: التفلت والخلاص من العقاب، قال رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... مما علي بذنب منكم فوت
أي إذ أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم.
وفي "الكشاف": "ولو، وإذ، والأفعال التي هي فزعوا، وأخذوا، وحيل بينهم، كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد لتحققه" اهـ. ويزداد عليها فعل {وَقَالُوا} .
والمكان القريب: المحشر، أي أخذوا منه إلى النار، فاستغنى بذكر {مِن} الابتدائية
(22/102)
عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية، ومعنى قريب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب.
وليس بين كلمتي {قَرِيبٍ} هنا والذي في قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأك 50] ما يشبه الإيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسن الجناس التام.
وعطف {وَقَالُوا} على {أُخِذُوا} أي يقولون حينئذ: آمنا به.
وضمير {بِهِ} للوعيد أو ليوم البعث أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، إذا كان الضمير محكيا من كلامهم لأن جميع ما يصح معادا للضمير مشاهد لهم وللملائكة، فأجمعوا فيما يراد الإيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه منجيا لهم من العذاب، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ: 48] لأن الحق يتضمن ذلك كله.
ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم: {آمَنَّا بِهِ} إلى إضاعتهم وقت الإيمان بجملة {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} إلى آخرها.
و {أَنَّى} استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإنكار.
و {التَّنَاوُشُ} قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه، قال غيلان بن حريث:
باتت تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
يتحدث عن رحلته، أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.
وجملة: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المكنة منها حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاؤوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله.
وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بالهمز في موقع الواو
(22/103)
فقال الزجاج: وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وقولهم: أَجوهٌ: جمع وجه. وبحث فيه أبو حيان، وقال الفراء والزجاج أيضا. هو من ناش بالهمز إذ أبطأ وتأخر في عمل. ومنه قول نهشل بين حري النهشلي:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
أي تمنى أخيرا. وفسر المعري في رسالة الغفران نئيشا بمعنى: بعد ما فات. وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم: {آمَنَّا بِهِ} بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته.
وفي الجمع بين {مَكَانٍ قَرِيبٍ} و {مَكَانٍ بَعِيدٍ} محسن الطباق.
وجملة {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} في موضع الحال، أي كيف يقولون آمنا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .[القلم: 43].
و {يَقْذِفُونَ} عطف على {كَفَرُوا} فهي حال ثانية. والتقدير: وكانوا يقذفون بالغيب. واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38].
والقذف: الرمي باليد من بعد. وهو هنا مستعار للقول بدون ترو ولا دليل، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم: هم شفعاؤنا عند الله.
ولك أن تجعل {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيلا مثل ما في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ، شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة.
وحذف مفعول {يَقْذِفُونَ} لدلالة فعل {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} عليه، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا.
والغيب: المغيب. والباء للملابسة، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير {يَقْذِفُونَ} ، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد.
و {مَكَانٍ بَعِيدٍ} هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا، وهي مكان بعيد عن الآخرة
(22/104)
للاستغناء عن استعارته لما لا يشاهد منه بقوله: {بِالْغَيْبِ} كما علمت، فتعين للحقيقة لأنها الأصل، وبذلك فليس بين لفظ {بَعِيدٍ} المذكور هنا والذي في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ما يشبه الإيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة.
[54] {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [54]}.
عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه وهي جمل {فَزِعُوا} ، {وَأُخِذُوا} ، {وَقَالُوا} [سبأ: 51، 52] أي وحال زجهم في النار بينهم وبين ما يأملونه من النجاة بقولهم: {آمَنَّا بِهِ} .[سبأ: 52]. وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أو عودتهم إلى الدنيا،فقد حكي عنهم في آيات أخرى أنهم تمنوه {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، "ربنا أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل".
والتشبيه في قوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإمهال حين حل بهم عذاب الدنيا، مثل فرعون وقومه إذ قال {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان، وما من أمة حل بها عذاب إلا وتمنت الإيمان حينئذ فلم ينفعهم إلا قوم يونس.
والأشياع: المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين. وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله {مِنْ قَبْلُ} ، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد.
وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركوا أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليوقنوا أن سنة الله واحدة وانهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها. وفعل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وصف لهم من أهواله.
وإنما جعلت حالتهم شكا لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكين وفي بعضها موقنين،
(22/105)
ألا ترى قوله تعالى: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} .[الجاثية: 32]. وإذا كان الشك مفضيا إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإيمان به وعدم النظر في دليله.
ويجوز أن تكون جملة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئة عن سؤال يثيره قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} كأن سائلا سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنوه? فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشيهم اليأس، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل.
والمريب: الموقع في الريب. والريب: الشك، فوصف الشك به وصف له بما هو مشتق من مادته لإفادة المبالغة كقولهم: شعر شاعر، وليل أليل، أو ليل داج. ومحاولة غير هذا تعسف.
(22/106)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطر
سميت "سورة فاطر" في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في "صحيح البخاري" وفي "سنن الترمذي" وفي كثير من المصاحف والتفاسير "سورة الملائكة" لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب "الإتقان".
فوجه تسميتها "سورة فاطر" أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميته "سورة الملائكة" أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى.
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين: آية {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] الآية، وآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] الآية، ولم أر هذا لغيره.
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن. نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين.
أغراض هذه السورة
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية.
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.
(22/107)
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه.
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.
والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان.
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [1]} .
افتتاحها بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة من خلقه السماوات والأرض وافضل ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وإيذان {الْحَمْدُ لِلَّهِ} باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة.
والفاطر: فاعل الفطر، وهو الخلق، وفيه معنى التكون سريعا لأنه مشتق من الفطر وهو الشق، ومنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]. وعن ابن عباس "كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض أي: لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها" وأحسب أن وصف الله بـ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مما سبق به القرآن، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام [14]، وقوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في آخر سورة يوسف [101] فضُمَّه إلى ما هنا.
(22/108)
وأما {جَاعِلِ} فيطلق بمعنى مكون، وبمعنى مصير، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله: {رُسُلاً} بين أن يكون مفعولا ثانيا لـ {جَاعِلِ} أي جعل الله من الملائكة، أي ليكونوا رسلا منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية، وبين أن يكون حالا من {الْمَلائِكَةِ} ، أي يجعل من أحوالهم أن يرسلوا. ولصلاحية للمعنيين أوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول {فَاطِرِ} .
وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم.
وأجري عليهم صفة أنهم رسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة، أي جاعلهم رسلا منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس.
وقوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} يجوز أن يكون حالا من {الْمَلائِكَةِ} ، فتكون الأجنحة ذاتية لهم من مقومات خلقهم، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {رُسُلاً} فيكون خاصة بحالة مرسوليتهم.
و {أَجْنِحَةٍ} : جمع جناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم حقيقة، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعودا ونزولا لا يعلم كنهها إلا الله تعالى.
و {مَثْنَى} وأخواته كلمات دالة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثلاث ورباع. والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة، وقيل يجوز إلى العشرة. والمعنى: اثنين اثنين الخ. وتقدم قوله: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} في سورة سبأ [46].
والكلام على {أُولِي} تقدم.
والمعنى: أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف، وبعضها ثلاثة ثلاثة، وبعضها أربعة أربعة، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعدادا كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح".
ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين. والأظهر أن الأجنحة للملائكة
(22/109)
من أحوال التشكل الذي يتشكلون به، وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح وإن العرش لعلى كاهله".
واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب "المقاصد" إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة، شأنهم الخير والطاعة، والعلم، والقدرة على الأعمال الشاقة، ومسكنهم السماوات، وقال: هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة" اهـ. ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات.
وعندي: أن تعريف صاحب "المقاصد" لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليط في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات.
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال: أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض.
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورايتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم. دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة في صورة "رجل شديد بياض الثياب سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد أي من أهل المدينة حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه إلى فخذيه" الحديث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل: "هل تدرون من السائل? قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" كما في "الصحيحين" عن عمر بن الخطاب.
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي، وظهوره للنبي صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ناسا لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم.
وجملة {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما ذكر من صفات
(22/110)
الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة، فأجيب بهذا الاستئناف بان مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا توقت. ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه. فالمراد بالخلق: المخلوقات كلها،أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خلق آخر. فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام. ويجوز أن تكون جملة {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . صفة ثانية للملائكة، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل: مثنى وثلاث ورباع وأكثر، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . وعليه فالمراد بالخلق ما خلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على ما لبعض آخر.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لجملة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]، فأجيبوا بقول الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
[2] {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [2]}.
هذا من بقية تصدير السورة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، وهو عطف على {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الخ. والتقدير: وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه.
و {مَا} شرطية، أي اسم فيه معنى الشرط. وأصلها اسم موصول ضمن معنى الشرط. فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جوابا واقترنت بالفاء لذلك، فأصل {مَا} الشرطية هو الموصولة. ومحل {مَا} الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر.
و {مِنْ رَحْمَةٍ} بيان لإبهام {مَا} والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب.
والفتح: تمثيلية لإعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء،فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح، وبيانه بقوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} قرينة الاستعارة التمثيلية.
(22/111)
والإمساك حقيقته: أخذ الشيء باليد مع الشد عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت، وهو يتعدى بنفسه،أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.
وأما قولهم: أمسك بكذا، فالباء إما لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وإما لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
وقد أوهم في "القاموس" و"اللسان" و"التاج" أنه لا يتعدى بنفسه.
فقوله هنا: {وَمَا يُمْسِكْ} حذف مفعوله لدلالة قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} عليه والتقدير: وما يمسكه من رحمة، ولم يذكر له بيان استغناء ببيانه من فعل.
والإرسال: ضد الإمساك،وتعدية الإرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.
و {مِنْ بَعْدِهِ} بمعنى: من دونه كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6]، أي فلا مرسل له دون الله، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه. وتذكير الضمير في قوله: {فَلا مُرْسِلَ لَهُ} مراعاة للفظ {مَا} لأنها لا بيان لها، وتأنيثه في قوله: {فَلا مُمْسِكَ لَهَا} لمراعاة بيان {مَا} في قوله: {مِنْ رَحْمَةٍ} لقربه.
وعطف {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل رجح فيه جانب الإخبار فعطف، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولا لإفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها، وأنه لا يستطيع أحد نقض ما أبرمه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه، فأن نقض ما أبرم ضر من الهوان والمذلة. ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
وضمير {لَهَا} وضمير {لَهُ} عائدان إلى {مَا} من قوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} ، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى {مَا} فإنه اسم صادق على {رَحْمَةٍ} وقد بين بها، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ {مَا} لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه. وهما اعتباران كثيران في مثله فصيح الكلام، فالمتكلم بالخيار بين أي الاعتبارين شاء. والجمع بينهما في هذه الآية تفنن. وأوثر بالتأنيث ضمير {مَا} لأنها مبينة بلفظ مؤنث وهو
(22/112)
{رَحْمَةٍ}.
[3] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [3]}.
لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا نعمة الله عليهم الخاصة وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم وما هي إلا بعض رحمة الله بمخلوقاته.
والمقصود من تذكر النعمة شكرها وقدرها قدرها. ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي. فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان فهو من عموم المشترك أو من إرادة القدر المشترك فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدهما الأخر وإلا لكان الأول هذيانا والثاني كتمانا. قال عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، أي وفي كليهما فضل.
ووصفت النعمة بـ {عَلَيْكُمْ} لأن المقصود من التذكر التذكر الذي يترتب عليه الشكر، وليس المراد مطلق التذكر بمعنى الاعتبار والنظر في بديع فضل الله، فذلك له مقام آخر، على أن قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} قد تضمن الدعوة إلى النظر في دليل الوحدانية والقدرة والفضل.
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك اقترن ما بعده بـ {مِنْ} التي تزاد لتأكيد النفي، واختير الاستفهام بـ {هَلْ} دون الهمزة لما في أصل معنى {هَلْ} من الدلالة على التحقيق والتصديق لأنها في الأصل بمعنى "قَدْ" وتفيد تأكيد النفي.
والاهتمام بهذا الاستثناء قدم في الذكر قبل ما هو في قوة المستثنى منه. وجعل صفة لـ {خَالِقٍ} لأن {غَيْرُ} صالحة للاعتبارين ولذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار {غَيْرُ} هنا وصفا لـ {خَالِقٍ} ، فجمهور القراء قرأوه برفع {غَيْرُ} على اعتبار محل {خَالِقٍ} المجرور بـ {مِنْ} لأن محله رفع بالابتداء. وإنما لم يظهر الرفع للاشتغال بحركة حرف الجر الزائد.وقرأه حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بالجر على إتباع اللفظ دون المحل. وهما استعمالان فصيحان في مثله اهتم بالتنبيه عليهما سيبويه في "كتابه".
(22/113)
وجملة {يَرْزُقُكُمْ} يجوز أن تكون وصفا ثانيا لـ {خَالِقٍ} . ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً.
وجُعل النفي متوجها إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سنته في الكلام المقيد لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقا لكان رازقا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثا ينزه عنه الموصوف بالإلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإيجاد والإمداد.
وزيادة {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تذكير بتعدد مصادر الأرزاق، فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب، ومنه طهور، وسبب نبات أشجار وكلا، وكالمن الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجو، وكالضياء من الشمس، والاهتداء بالنجوم في الليل، وكذلك أنواع الطير الذي يصاد، كل ذلك من السماء.
ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلأ وكمأة وأسماك البحار والأنهار.
وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفل أن أرزاقا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضا، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييته، وهذا رجل حي ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت. فانتقل إبراهيم إلى أن قال له {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
هذا نتيجة عقب ذكر الدليل إذ رتب على انفراده بالخالقية والرازقية انفراده بالإلهية لأن هذين الوصفين هما أظهر دلائل الإلهية عند الناس فجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مستأنفة. وفرع عليه التعجيب من انصرافهم عن النظر في دلائل الوحدانية بجملة {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
(22/114)
و {أَنَّى} اسم استفهام يجيء بمعنى استفهام عن الحالة أو عن المكان أو عن الزمان. والاستفهام عن حالة انصرافهم هو المتعين هنا وهو استفهام مستعمل في التعجيب من انصرافهم عن الاعتراف بالوحدانية تبعا لمن يصرفهم وهم أولياؤهم وكبراؤهم.
و {تُؤْفَكُونَ} مبني للمجهول من أفكه من باب ضربه، إذا صرفه وعدل به، فالمصروف مأفوك. وحذف الفاعل هنا لأن آفكيهم أصناف كثيرون، وتقدم في قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} في سورة براءة [30].
[4] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [4]}.
عطف على جملة {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي وإن استمروا على انصرافهم عن قبول دعوتك ولم يشكروا النعمة ببعثك فلا عجب فقد كذب أقوام من قبلهم رسلا من قبل. وهو انتقال من خطاب الناس إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبة جريان خطاب الناس على لسانه فهو مشاهد لخطابهم، فلا جرم أن يوجه إليه الخطاب بعد توجيهه إليهم إذ المقام واحد كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29].
وإذ قد أبان لهم الحجة على انفراد الله تعالى بالإلهية حين خاطبهم بذلك نقل الإخبار عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنكروا قبوله منه فإنه لما استبان صدقه في ذلك بالحجة ناسب أن يعرض إلى الذين كذبوه بمثل عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبله وقد أدمج في خلال ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه إياه بأنه لم يكن مقامه في ذلك دون مقام الرسل السابقين.
وجيء في هذا الشرط بحرف {إِنْ} الذي أصله أن يعلق به شرط غير مقطوع بوقوعه تنزيلا لهم بعد ما قدمت إليهم الحجة على وحدانية الله المصدقة لما جاءهم به الرسول عليه الصلاة والسلام فكذبوه فيه، منزلة من أيقن بصدق الرسول فلا يكون فرض استمرارهم على تكذيبه إلا كما يفرض المحال.
وهذا وجه إيثار الشرط هنا بالفعل المضارع الذي في حيز الشرط يتمخض للاستقبال، أي إن حدث منهم تكذيب بعد ما قرع أسمائهم من البراهين الدامغة.
والمذكور جوابا للشرط إنما هو سبب لجواب محذوف إذ التقدير: وإن يكذبوك فلا يحزنك تكذيبهم إذ قد كذبت رسل من قبلك فاستغني بالسبب عن المسبب لدلالته عليه.
(22/115)
وإنما لم يعرف {رُسُلٌ} وجيء به منكرا لما في التنكير من الدلالة على تعظيم أولئك الرسل زيادة على جانب صفة الرسالة من جانب كثرتهم وتنوع آيات صدقهم ومع ذلك كذبهم أقوامهم.
وعطف على هذه التسلية والتعريض ما هو كالتأكيد لهما والتذكير بعاقبة مضمونها بأن أمر المكذبين قد آل إلى لقائهم جزاء تكذيبهم من لدن الذي ترجع إليه الأمور كلها، فكان أمر أولئك المكذبين وأمر أولئك الرسل في جملة عموم الأمور التي أرجعت إلى الله تعالى إذ لا تخرج أمورهم من نطاق عموم الأمور.
وقد اكتسبت هذه الجملة معنى التذييل بما فيها من العموم.
{الْأُمُورُ} : جمع أمر وهو الشأن والحال،أي إلى الله ترجع الأحوال كلها يتصرف فيها كيف شاء، فتكون الآية تهديدا للمكذبين وإنذارا.
[5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [5]}.
أعيد خطاب الناس أعذارا لهم وإنذارا بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث وهو وعد واقع لا يتخلف وذلك بعد أن قدم لهم التذكير بدلائل الوحدانية المشتملة عليها، مع الدلالة على نعم الله عليهم ليعلموا أنه لا يستحق العبادة غيره وأنه لا يتصف بالإلهية الحق غيره.
وبعد أن أشار إليهم بأن ما أنتجته تلك الدلائل هو ما أنبأهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلمون صدقه فيما أنبأهم من توحيد الله وهو أكبر ما قرع آذانهم وأحرج شيء لنفوسهم، فإذا تأيد بالدليل البرهاني تمهد السبيل لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به من وعد الله وهو يوم البعث لأنه لما تبين صدقه في الأولى يعلم صدقه في الثانية بحكم قياس والمساواة.
والخطاب للمشركين، أو لهم وللمؤمنين لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله.
وتأكيد الخبر بـ {إِنَّ} إما لأن الخطاب للمنكرين، وإما لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة.
والوعد مصدر، وهو الإخبار عن فعل المخبر شيئا في المستقبل، والأكثر أن يكون
(22/116)
فيما عدا الشر، ويخص الشر منه باسم الوعيد،يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية في سورة البقرة [286].
وإضافة إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقا لأن الله لا يأتي منه الباطل.
والحق هنا مقابل الكذب. والمعنى: أن وعد الله صادق. ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيته.
والمراد به: الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الآية.
والغُرور بضم الغين ويقال التغرير: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضر وفساد. وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة آل عمران [196] وعند قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام [112].
والمراد بالحياة:ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف،وانتهائها بالموت والعدم مما يسول الناس أن ليس بعد هذه الحياة أخرى.
وإسناد التغرير إلى الحياة ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغار للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه.
والنهي في الظاهر موجه للناس ولمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة.ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم: لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أريينك ههنا، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2]، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} آخر آل عمران [196].
وكذلك القول في قوله تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
والغرور بفتح الغين: هو الشديد التغرير. والمراد به الشيطان، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]. وهو بغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويها بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس.
والباء في قوله: {بِاللَّهِ} للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي، بشأن الله، أي
(22/117)
يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غر يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عدي إليه بواسطة حرف الجر، فقد يعدى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] وقوله في سورة الحديد {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف، أي حال من أحواله. وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإيجاز. وليست هذه الباء باء السببية.
وقد تضمنت الآية غرورين: غرورا يغتره المرء من تلقاء نفسه ويزين نفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في الدنيا ما يتوهمه خيرا ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفي مضاره في بادئ الرأي ولا يظن أنه من الشيطان.
وغرورا يتلقاه ممن يغره وهو الشيطان، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإنس والجن،فترك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل ولأهم، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان. وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].
[6] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [6]}.
لما كان في قوله: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} إبهام ما في المراد بالغرور عقب ذلك بيانه بأن الغرور هو الشيطان ليتقرر المسند إليه بالبيات بعد الإبهام. فجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} تتنزل من جملة {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} منزلة البيان من المبين فلذلك فصلت ولم تعطف، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على لإرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغرور أن الغرور هو الشيطان.
وأظهر اسم الشيطان في مقام الإضمار للإفصاح عن المراد بالغرور أنه الشيطان وإثارة العداوة بين الناس الشيطان معنى من معاني القرآن تصريحا وتضمينا، وهو هنا مريح كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36].
وتلك عداوة مودعة في جبلته كعداوة الكلب للهر لأن جبلة الشيطان موكولة في بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسنة مزينة، وشواهد ذلك تظهر للإنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
(22/118)
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].
وتأكيد الخبر بحرف التأكسد لقصد تحقيقه لأنهم بفعلتهم عن عداوة الشيطان محال من ينكر أن الشيطان عدو.
وتقديم {لَكُمْ} على متعلقة للاهتمام بهذا المتعلق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوا لأنهم إذا علموا أنه عدو لهم حق عليهم اتخاذه عدوا وإلا لكانوا في حماقة. وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان.
والكلام على لفظ عدو تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
واللام في {لَكُمْ} لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافا إليه صرح باللام ليحصل معنى الإضافة.
وإنما أمر الله باتخاذ العدو عدوا ولم يندب إلى العفو عنه والإغضاء عن عداوته كما أم في قوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدو لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملة لأن مناواتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فعداوة الشيطان لما كانت جبلية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوا لأن إذا لم يتخذ عدوا لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته. ومن لوازم اتخاذه عدوا العمل بخلاف ما يدعوا إليه لتجنب مكائده ولمته بالعمل الصالح.
فالإيقاع بالناس في الضر لا يسلم من أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وطره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئز وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوسه إلى أن يبلغ حد الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "إيه يا بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" . وورد في
(22/119)
في "الصحيح" "إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان" الحديث. وورد "أنه مارِيءَ الشيطان أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة".
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوا بتحذير من قبول دعوته وحث على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضر أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقفهم في السعير. وهذا يؤكد الأمر باتخاذه عدوا لأن أشد الناس تضررا به هم حزبه وأولياؤه.
وجملة: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} تعليل لجملة {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} . وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو من تلك الغاية ولو في وقت ما. وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضا في معنى التذييل لما قبله كله.
ومقتضى وقوع فعل {يَدْعُو} في حيز القصر أن مفعوله وهو قوله: {حِزْبَهُ} هو المقصود من القصر، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه، والشيطان يدعو الناس كلهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يكن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. وحكى الله عن الشيطان بقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف.والتقدير: إنما يدعوا حزبه دعوة بالغة مقصده. والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة.
واللام في قوله: {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} يجوز أن يكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعيا لغاية إيقاع الآدمين في العذاب نكاية بهم، وهي علة للدعوة فخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفائها من جملة كيده وتزيينه، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] قال ابن عطية: لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم من دعائه إلى ذلك.
و {السَّعِيرِ} : النار الشديدة، وغلب في لسان الشرع على جهنم.
[7] {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [7]}.
(22/120)
استئناف ابتدائي يفيد مفاد الفذلكة والاستنتاج مما تقدم. وهذا الاستئناف يومي إلى أن الذين كفروا هم حزب الشيطان لأن لما ذكر أن حزبه من أصحاب السعير وحكم هنا بأن الذين كفروا لهم عذاب شديد علم أن الذين كفروا من أصحاب السعير إذ هو العذاب الشديد فعلم أنهم حزب الشيطان بطريقة قياس مطوي،فالذين كفروا هم حزب الشيطان لعكوفهم على متابعته وإن لم يعلنوا ذلك لاقتناعه منهم بملازمة ما يمليه عليهم.
وأما المؤمنون العصاة فليسوا من حزبه لأنهم يعلمون كيده ولكنهم يتبعون بعض وسوسته بدافع الشهوات وهم مع ذلك يلعنونه ويتبرأون منه. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم".
وذكر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تتميم بأن الذين لم يكونوا من حزبه قد فازوا بالخيرات.
وقد أشارت الآية إلى طرفين في الضلال والاهتداء وطويت ما بين ذينك من المراتب ليعلم أن ما بين ذلك ينالهم نصيبهم من أشبه أحوالهم بأحوال أحد الفريقين على عادة القرآن في وضع المسلم بين الخوف والرجاء. والأمل والرهبة.
[8] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [8]}.
لما جرى تحذير الناس من غرور الشيطان وإيقاظهم إلى عداوته للنوع الإنساني، وتقسيم الناس إلى فريقين: فريق انطلت عليه مكائد الشيطان واغتروا بغروره ولم يناصبوه العداء، وفريق أخذوا حذرهم منه واحترسوا من كيده وتجنبوا السير في مسالكه، ثم تقسيمهم إلى كافر معذب ومؤمن صالح منعم عليه، أعقب ذلك بالإيماء إلى استحقاق حزب الشيطان عذاب السعير، وبتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على من لم يخلصوا من حبائل الشيطان من أمة دعته بأسلوب الملاطفة في التسلية ففرع على جميع ما تقدم قوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} إلى قوله: {بِمَا يَصْنَعُونَ} فابتداؤه بفاء التفريع ربط له بما تقدم ليعود الذهن إلى ما حكي من أحوالهم، فالتفريع على قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، ثم بإبراز الكلام المفرع في صورة الاستفهام الإنكاري، واجتلاب الموصل الذي تومئ صلته إلى علة الخبر المقصود، فأشير إلى أن وقوعه في
(22/121)
هذه الحالة ناشئ من تزين الشيطان له سوء عمله، فلمزين للأعمال السيئة هو الشيطان قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] فرأوا أعمالهم السيئة حسنة فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسل.
و {مَنْ} موصولة صادقة على جمع من الناس كما دل عليه قوله في آخر الكلام {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} بل ودل عليه تفريع هذا على قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] و {مَنْ} في موضع رفع الابتداء والخبر عنه محذوف إيجازا لدلالة ما قبله عليه وهو قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} عقب قوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . فتقديره بالنسبة لما استحقه حزب الشيطان من العذاب: أفأنت تهدي من زين له عمله فرآه حينا فأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وتقديره بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك مصيره فأن الله مطلع عليه.
وفرع عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وفرع على هذا قوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} إي فلا تفعل ذلك، أي لا ينبغي لك ذلك فأنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنا وهو من فعل أنفسهم فلماذا تتحسر عليهم.
وهذا الخبر مما دلت عليه المقابلة في قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر: 7] فقد دل ذلك عل أن الكفر سوء وأن الإيمان حسن فيكون "من زين له سوء عمله" هو الكافر، ويكون ضده هو المؤمن،ونظير هذا التركيب قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} في سورة الزمر [19]، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} في سورة الرعد [33].
والتزيين: تحسين ما ليس بحسن بعضه أو كله. وقد صرح هنا بضده في قوله: {سُوءُ عَمَلِهِ} ، أي صورة لهم أعمالهم السيئة بصورة حسنة ليقدموا عليها بشره وتقدم في أوائل سورة النمل.
وجملة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مفرعة، وهي تقرير للتسلية وتأييس من اهتداء من لم يخلق الله فيه أسباب الاهتداء إلى الحق من صحيح النظر
(22/122)
وإنصاف المجادلة.
وإسناد الإضلال والهداية إلى الله بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرفه تعالى بالخلق وهو سر من الحكمة عظيم لا يدرك غوره وله أصول وضوابط سأبينها في "رسالة القضاء والقدر" إن شاء الله تعالى.
وجملة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} مفرعة على المفرع على جملة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} الخ فتؤول إلى التفريع على الجملتين فيؤول إلى أن يكون النظم هكذا: أفتتحسر من زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنات واختاروا لأنفسهم طريق الضلال فأن الله أضلهم باختيارهم وهو قد تصرف بمشيئته فهو أضلهم وهدى غيرهم بمشيئته وأرادته التي شاء بها إيجاد الموجودات لا بأمره ورضاه الذي دعا به الناس إلى الرشاد، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وإنما حسرتهم على أنفهم إذ رضوا لها باتباع الشيطان ونبذوا اتباع إرشاد الله كما دل عل ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} تسجيلا عليهم أنهم ورطوا أنفسهم فيما أوقعوها فيه بصنعهم.
فالله أرشدهم بإرسال رسوله ليهديهم إلى ما يرضيه، والله أضلهم بتكوين نفوسهم نافرة عن الهدى تكوينا متسلسلا من كائنات جمة لا يحيط بها إلا علمه وكلها من مظاهر حكمته ولو شاء لجعل سلاسل الكائنات على غير هذا النظام فلهدى الناس جميعا، وكلهم ميسر بتيسيره إلى ما يعلم منهم فعدل عن النظم المألوف إلى هذا النظم العجيب. وصيغ بالاستفهام الإنكاري والنهي التثبيتي، ونظير هذه الآية في هذا الأسلوب قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} في سورة الزمر [10]، فإن أصل نظمها: أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه من النار، أفأنت تنقذ الذين في النار. إلا أن هذه الآية زادت بالاعتراض وكان المفرع الأخير فيها نهيا والأخرى عريت عن الاعتراض وكان المفرع الأخير فيها استفهاما إنكارياW.
والنهي موجه إلى نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حسرات على الضالين ولم يوجه إليه بأن يقال: فلا تذهب عليهم حسرات، الرسول صلى الله عليه وسلم ونفسه متحدان فتوجيه الني إلى نفسه دون أن يقال فلا تذهب عليهم حسرات للإشارة إلى أن الذهاب مستعار إلى التلف والانعدام كما يقال:طارت نفسها شعاعا،ومثله في كلامهم كثير كقول الأعرابي من شعراء الحماسة:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
(22/123)
لتحصل فائدة توزيع النهي والخطاب على شيئين في ظاهر الأمر فهو تكرير الخطاب والنهي لكليهما. وهي طريقة التجريد المعدود في المحسنات، وفائدة التكرير الموجب تقرير الجملة في النفس. وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى: {وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} في سورة البقرة [9].
والحسرة تقدمت في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} من سورة مريم [39].
وانتصب: {حَسَرَاتٍ} على المفعول لأجله، أي لا تتلف نفسك لأجل الحسرة عليهم، وهو كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] أي من حزن نفسه لا من حزن العينين.
وجمعت الحسرات مع أن اسم الجنس صالح للدلالة على تكرر الأفراد قصدا للتنبيه على إرادة أفراد كثيرة من جنس الحسرة لأن تلف النفس يكون عند تعاقب الحسرات الواحدة تلوى الأخرى لدوام المتحسر منه فكل تحسر يترك حزازة وكمدا في النفس حتى يبلغ إلى الحد الذي لا تطيقه النفس فينفطر له القلب فإنه قد علم في الطب أن الموت من شدة الألم كالضرب المبرح وقطع الأعضاء سببه اختلال حكة القلب من توارم الآلام عليه.
وقرأ الجمهور: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} بفتح الفوقية والهاء ورفع: {نَفْسُكَ} على أنه نهي لنفسه وهو كناية ظاهرة عن نهيه. وقرأه أبو جعفر بضم الفوقية وكسر الهاء ونصب: {نَفْسَكَ} على أنه نهي الرسول أن يذهب نفسه.
وقد اشتملت هذه الآية على فاآت أربع كلها للسببية والتفريع وهي التي بلغ بها نظم الآية إلى هذا الإيجاز البالغ حد الإعجاز وفي اجتماعها محسن جمع النظائر.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} تصلح لإفادة التصبر والتحلم، أي أن الله عليم بصنعهم في المخالفة عن أمره فكما أنه لحلمه في المخالفة عن أمره فكما أنه لحلمه لم يعجل بمؤاخذتهم فكن أنت مؤتسيا بالله ومتخلقا بما تستطيعه من صفاته وفي ضمن هذا كناية عن عدم إفلاتهم من العذاب على سوء عملهم، وليس في هذه الجملة معنى التعليل لجملة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لآن كمد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لأجل تأخير عقابهم ولكن لأجل عدم اهتدائهم.
(22/124)
وتأكيد الخبر بـ {إِنَّ} إما تمثيل لحال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال من أغفله التحسر عليهم عن التأمل في إمهال الله إياهم فأكد له الخبر بـ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وإما لجعل التأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر لتكون {إِنَّ} مغنية غناء فاء التفريغ فتتمخض الجملة لتقرير التسلية والتعريض بالجزاء عن ذلك.
وعبر بـ {يَصْنَعُونَ} دون: يعلمون، للإشارة إلى أنهم يدبرون مكائد للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين فيكون هذا الكلام إيذانا بوجود باعث آخر على النزع عن الحسرة عليهم. وعن ابن عباس: أن المراد به أبو جهل وحزبه.
[9] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [9]}.
لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرجه بالإلهية ثني هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر، فهذا عطف على قوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
وإظهار اسم الجلالة في مقام إضمار دون أن يقول وهو الذي أرسل الرياح فيعود الضمير إلى اسم الله من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
واختير من دلائل الوحدانية دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل لإحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإدماج.
وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإحياء وتقرر وقوعه جيء بفعل المضي في قوله: {أَرْسَلَ} . وأما تغييره إلى المضارع في قوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي في خصوصيته بحال تستغرب وتهم السامع. وهو نظير قول تأبط شراً:
بأني قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
فابتدأ بـ"لقيت" للإفادة وقوع ذلك ثم ثني بـ"أضربها" لاستحضار تلك الصورة
(22/125)
العجيبة من إقدامه وثباته حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة. ولم يؤت بفعل الإرسال في هذه الآية بصيغة المضارع بخلاف قوله في سورة الروم [48] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} الآية لأن القصد هنا استدلال بما هو واقع إظهارا لإمكان نظيره وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه.
والقول في الرياح والسحاب تقدم غير مرة أولها في سورة البقرة.
وفي قوله: {فَسُقْنَاهُ} بعد قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} التفات من الغيبة إلى التكلم.
وقوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} سبيله سبيل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر: 5] الآيات من إثبات البعث مع تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عنه، إلا أن ما قبله كان مأخوذا من فحوى الدلالة لما ظهرت في برهان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبارقة الإمكان ما يسوق أذهانهم إلى استقامة التصديق بوقوع البعث.
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} إلى المذكور من قوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ} . والأظهر أن تكون الإشارة إلى مجموع الحالة المصورة أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن نصنع صنعا يكون به النشور بأن يهيئ الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منها حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها أمر الله بالنفخة الأولى والثانية فإذا الأجساد قائمة ماثلة أمر الله بنفخ الأرواح بالأجنة عند استكمال تهيئتها لقبول الأرواح.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تقريب ذلك بمثل هذا مما رواه أحمد وابن أبي شيبه وقريب منه في "صحيح مسلم" عن عروة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قيل لرسول الله: كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه? فقال: هل مررت في واد أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا? قيل نعم: فكذلك يحي الله الموتى وتلك آيته في خلقه". وفي بعض الروايات عن ابن رزين العقيلي أن السائل أبو رزين.
وقرأ الجمهور: {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع. وقرأ حمزة والكسائي {الرِّيحَ} بالإفراد، والمعروف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.
(22/126)
[10] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [10]}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}.
مضى ذكر غرورين إجمالا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر: 5] {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] فأخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر: 6] وما استتبعه من التنبيه على أحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذر من مصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقعين في حبائله والمعافين من أدوائه، بدارا بتفصيل الأهم والأصل، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا.
وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئا عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباع يعتزون بقوة قادتهم، لا جرم كانت إرادة العزة ملاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض، وتألبهم على مناوأة الإسلام، فوجه الخطاب إليهم لكشف اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا، فكل مستمسك بحبل الشرك معرض عن التأمل في دعوة الإسلام، لا يمسكه بذلك إلا لإرادة العزة،فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من كان ذلك صارفه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإسلام وأن ما هم فيه من العزة كالعدم.
و {مَنْ} شرطيه، وجعل جوابها {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مقامه واستغني بها عن ذكره إيجازا، وليصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرره في ذهن السامع،والتقدير: من كان يريد العذاب فليستجب إلى دعوة الإسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية. وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطأ في زعمه كما في قول الربيع بن زياد العبسي في مقتل مالك بن زهير العبسي:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالليل قبل تبلج الإسفار
أراد أن مَن سَرّه مقتل مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى
(22/127)
ساحة نسوتنا انقلب سروره غما وحزنا إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتله بادية له، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلا إذا أخذ ثأره. هذا ما فسره المرزوقي وهو الذي تلقيته عن شيخنا الوزير وفي البيتين تفسير آخر.
وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5].
وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول النابغة:
فمن يكن قد قضى من خلة وطرا ... فإنني منك ما قضيت أوطاري
وقول ضابي بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقول الكلابي:
فمن يكلم يعرض فإني وناقتي ... بحجر إلى أهل الحمى غرضان
فتقديم المجرور يفيد قصرا وهو قصر ادعائي، لعدم الاعتداد بما للمشركين من عزة ضئيلة، أي فالعزة لله لا لهم.
ومنه ما يكون فيه ترتيب الجواب على الشرط في الوقوع، وهو الأصل كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] الآية، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15].
و {جَمِيعاً} أفادت الإحاطة فكانت بمنزلة التأكيد للقصر الادعائي فحصلت ثلاثة مؤكدات، فالقصر بمنزلة تأكيدين1 و {جَمِيعاً} بمنزلة تأكيد. وهذا قريب من قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139] فإن فيه تأكيدين: تأكيدا بـ"إِنَّ" وتأكيدا بـ {جَمِيعاً} لأن تلك الآية نزلت في وقت قوة الإسلام فلم يحتج فيها إلى تقوية التأكيد. وتقدم الكلام على {جَمِيعاً} عند قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} في سورة سبأ [40].
ـــــــ
1 لقول السكاكي: ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيداً على تأكيد.
(22/128)
وانتصب {جَمِيعاً} على الحال من {الْعِزَّةُ} وكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي العزة كلها لله لا يشذ شيء منها فيثبت لغيره، لأن العزة المتعارفة بين الناس كالعدم إذ لا يخلو صاحبها من احتياج ووهن والعزة الحق لله.
وتعريف {الْعِزَّةُ} تعريف الجنس. والعزة: الشرف والحصانة من أن ينال سوء. فالمعنى: من كان يريد العزة فانصرف عن دعوة الله إبقاء على ما يخاله لنفسه من عزة فهو مخطئ إذ لا عزة له فهو كمن أراق ماء للمع سراب. والعزة الحق لله الذي دعاهم على لسان رسوله. وعزة المولى ينال حزبه وأولياءه حظ منها فلو اتبعوا أمر الله فالتحقوا بحزبه صارت لهم عزة الله وهي العزة الدائمة،فإن عزة المشركين يعقبها ذل الانهزام والقتل والأسر في الدنيا وذل الخزي والعذاب في الآخرة، وعزة المؤمنين في تزايد الدنيا ولها درجات كمال في الآخرة.
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
كما أتبع تفصيل غرور الشيطان بعواقبه في الآخرة بقوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] الآية، وبذكر مقابل عواقبه من حال المؤمنين، كذلك أتبع تفصيل غرور الأنفس أهلها بعواقبه وبذكر مقابله أيضا ليلتقي مال الغرورين ومقابلهما في ملتقى واحد،ولكن قدم في الأول عاقبة أهل الغرور بالشيطان ثم ذكرت عاقبة أضدادهم، وعكس في ما هنا لجريان ذكر عزة الله فقدم ما هو المناسب لآثار عزة الله في حزبه وجنده.
وجملة: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا بمناسبة تفصيل الغرور الذي يوقع فيه.
والمقصود أن أعمال المؤمنين هي التي تنفع ليعلم الناس أن أعمال المشركين سعي باطل. والقربات كلها ترجع إلى أقوال وأعمال، فالأقوال ما كان ثناء على الله تعالى واستغفار ودعاء، ودعاء الناس إلى الأعمال الصالحة. وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} في سورة الأحزاب [70].والأعمال فيها قربات كثيرة. وكان المشركون يتقربون إلى أصنامهم بالثناء والتمجيد كما قال أبو سفيان يوم أحد: اعل هبل، وكانوا يتحنثون بأعمال من طواف وحج وإغاثة ملهوف وكان ذلك كله مشوبا بالإشراك لأنهم ينوون بها التقرب إلى الآلهة فلذلك نصبوا أصناما في الكعبة وجعلوا هبل وهو كبيرهم على سطح الكعبة، وجعلوا إسافا ونائلة فوق الصفا والمروة، لتكون مناسكهم لله
(22/129)
مخلوطة بعبادة الآلهة تحقيقا لمعنى الإشراك في جميع أعمالهم.
فلما قدم المجرور من قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أفيد أن كل ما يقدم من الكلم الطيب إلى غير الله لا طائل تحته.
وأما قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، فـ {الْعَمَلُ} مقابل {الْكَلِمُ} ، أي الأفعال التي ليست من الكلام، وضمير الرفع عائد إلى معاد الضمير المجرور في قوله {إِلَيْهِ} وهو اسم الجلالة من قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} . والضمير المنصوب من {يَرْفَعُهُ} عائد إلى {الْعَمَلُ الصَّالِحُ} أي الله يرفع العمل الصالح.
والصعود: الإذهاب في مكان عال. والرفع: نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه،فالصعود مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر وهو كناية عن القبول لديه.
والرفع: حقيقته نقل الجسم من مقره إلى أعلى منه وهو هنا كناية للقبول عند عظيم، لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان. فيكون كل من "يصعد" و"يرفع" تبعتين قرينتي مكنية بأن شبه جانب القبول عند الله تعالى بمكان مرتفع لا يصله إلا ما يصعد إليه.
فقوله: {الْعَمَلُ} مبتدأ وخبره {يَرْفَعُهُ} ، وفي بناء المسند الفعلي على المسند إليه ما يفيد تخصيص المسند إليه بالمسند، فإذا انضم إليه سياق جملته عقب سياق جملة القصر المشعر بسريان حكم القصر إليه بالقرينة لاتحاد المقام إذ لا يتوهم أن يقصر صعود الكلم الطيب على الجانب الإلهي ثم يجعل لغيره شركة معه في رفع العمل الصالح، تعين معنى التخصيص، فصار المعنى: الله الذي يقبل من المؤمنين أقوالهم وأعمالهم الصالحة.
وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإخبار عنه بجملة {يَرْفَعُهُ} ولم يعطف على {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين:
أولاهما: الإيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة لأن معظم العمل الصالح أوسع نفعا من معظم الكلم الطيب عدا كلمة الشهادتين وما ورد تفضيله من الأقوال في السنة مثل دعاء يوم عرفة فلذلك أسند إلى الله رفعه بنفسه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يديه يمين، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل الجبل".
وثانيهما: أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعلة ومفعولة فلا يناسبه إسناد الصعود إليه
(22/130)
وإنما يحسن أن يجعل متعلقا لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .
هذا فريق من الذين يريدون العزة من المشركين وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية قاله أبو العالية فعطفهم على {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} تخصيص لهم بالذكر لما اختصوا به من تدبير المكر. وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام بذكره.
والمكر: تدبير إلحاق الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره، وفعله قاصر. وهو يتعلق بالمضرور بواسطة الباء التي للملابسة، يقال: مكر بفلان. ويتعلق بوسيلة المكر بباء السببية يقال: مكر بفلان بقتله، فانتصاب {السَّيِّئَاتِ} هنا على أنه وصف لمصدر المكر نائبا مناب المفعول المطلق المبين لنوع الفعل فكأنه قيل: والذين يمكرون المكر السيئ. وكان حق وصف المصدر أن يكون مفردا كقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه} [فاطر: 43] فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر عدل عن الإفراد إلى الجمع وأوتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفعلات من المكر، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة، كما جاء ذلك في لفظ "صالحة" كقول جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
أي صالحات كثيرة، وأنواع مكراتهم هي ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
والتعريف في {السَّيِّئَاتِ} تعريف الجنس. وجيء باسم الموصول للإيماء إلى أن مضمون الصلة علة فيما يرد بعدها من الحكم، أي لهم عذاب شديد جزاء مكرهم. وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دأبهم وهجراهم.
ولما توعدهم الله بالعذاب الشديد على مكرهم أنبأهم أن مكرهم لا يروج ولا ينفق وأن الله سيبطله فلا ينتفعون منه في الدنيا، ويضون بسببه في الآخرة فقال {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} .
وعبر عنهم باسم الإشارة دون الضمير الذي هو مقتضى الظاهر لتمييزهم أكمل تمييز، فيكنى بذلك عن تمييز المكر المضاف إليهم ووضوحه في علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بما أعلمه الله به منه، فكأنما أشير إليهم وإلى مكرهم باسم إشارة واحد على سبيل الإيجاز.
(22/131)
والضمير التوسط بين {وَمَكْرُ أُولَئِكَ} وبين {يَبُورُ} ضمير فصل إذ لا يحتمل غيره. ومثله قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104].
والراجح من أقوال النحاة قول المازني: إن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع،وحجته قوله: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} دون غير المضارع، ووافقه عبد القاهر الجرجاني في "شرح الإيضاح" لأبي علي الفارسي، وخالفهما أبو حيان وقال: لم يذهب أحد إلى ذلك فيما علمنا. وأقول: إن وجه وقوع الفعل المضارع بعد ضمير الفصل أن المضارع يدل على التجدد فإذا اقتضى المقام إرادة إفادة التجدد في حصول الفعل من إرادة الثبات والدوام في حصول النسبة الحكمية لم يكن إلى البليغ سبيل للجمع بين القصدين إلا أن يأتي بضمير الفصل ليفيد الثبات والتقوية لتعذر إفادة ذلك بالجملة الإسلامية. وقد تقدم القول في ذلك عند قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، فالفصل هنا يفيد القصر، أي مكرهم يبور دون غيره، ومعلوم أن غيره هنا تعريض بأن الله يمكر بهم مكرا يصيب المحز منهم على حد قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
والبوار حقيقته: كساد التجارة وعدم نفاق السلعة، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبيء صلى الله عليه وسلم بضر وبين ما ينمقه التاجر وما يخرجه من عيابه ويرصفه على مبناته وسط اللطيمة مع السلع لاجتلاب شره المشترين. ثم لا يقبل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيم كف الخيبة، فارغ الكف والعيبة.
[11] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [11]}.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً}.
هذا عود إلى سوق دلائل الوحدانية بدلالة عليها من أنفس الناس بعد أن قدم لهم ما هو من دلالة الآفاق بقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9]. فهذا كقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21] فابتدأهم في بتذكيرهم بأصل التكوين الأول من تراب وهو ما تقرر علمه لدى جميع البشر من أن أصلهم وهو البشر الأول، خلق من طين فصار ذلك حقيقة
(22/132)
مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق بـ"الأصول الموضوعة" القائمة مقام المحسوسات.
ثم استدرجهم إلى التموين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة وذلك علم مستقر في النفوس وذلك بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبوية، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء.
والنطفة تقدمت عند قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الكهف [37].
وقوله: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج. فـ {ثُمَّ} عاطفة الجملة فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهم في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} .
والمعنى: ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجا لتركيب تلك النطفة، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع. وفيها غنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان.
والأزواج: جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجا، أي شافعا، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}
بعد الاستدلال بما في بدء التكوين الثاني من التلاقح بين النطفتين استدلال بما ينشأ عن ذلك من الأطوار العارضة للنطفة في الرحم وهو أطوار الحمل من أوله إلى الوضع.
وأدمج في ذلك دليل التنبيه على إحاطة فلم الله بالكائنات الخفية والظاهرة، ولكون العلم بالخفيات أعلى قدم ذكر الحمل على ذكر الوضع، والمقصود من عطف الوضع أن يدفع توهم وقوف العلم عند الخفيات التي هي من الغيب دون الظواهر بأن يستغل عنها بتدبير خفياتها كما هو شأن كبراء العلماء من الخلق، ولظهور استحالة توجه لإرادة الخلق نحو مجهول عند مريده.
(22/133)
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. والباء للملابسة. والمجرور في موضع الحال.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
لا جرم أن الحديث عن التكوين يستتبع ذكر الموت المكتوب على كل بشر فجاء بذكر علمه الآجال والأعمار للتنبيه على سعة العلم الإلهي.
والتعمير: جعل الإنسان عامر، أي باقيا في الحياة، فأن العمر هو مدة الحياة يقال: عمر فلان كفرح ونصر وضرب، إذا بقي زمانا، فمعنى عمره بالتضعيف: جعله باقيا مدة زائدة على المدة المتعارفة في أعمال الأجيال، ولذلك قوبل بالنقص من العمر، ولذلك لا يوصف بالتعمير صاحبه إلا بالمبني للمجهول فيقال: عمر فلان فهو معمر. وقد غلب في هذه الأجيال أن يكون الموت بين الستين والسبعين فما بينهما، فهو عمر متعارف، والمعمر الذي يزيد عمره على السبعين، والمنقوص عمره الذي يموت دون الستين ولذلك كان أرجح الأقوال في تعمير المفقود عند فقهاء المالكية هو الإبلاغ به سبعين سنة من تاريخ ولادته ووقع القضاء في تونس بأنه ما تجاوز ثمانين سنة غير قليل فلا ينبغي الحكم باعتبار المفقود ميتا إلا بعد ذلك لأنه يترتب عليه الميراث ولا ميراث بشك، ولأنه بعد الحكم باعتباره ميتا تزوج امرأته، وشرط صحة التزوج أن تكون المرأة خلية من عصمة، ولا يصح إعمال الشرط مع الشك فيه. وهو تخريج فيه نظر.
وضمير {مِنْ عُمُرِهِ} عائد إلى {مُعَمَّرٍ} على تأويل {مُعَمَّرٍ} بـ"أحد" كأنه قيل: وما يعمر من أحد ولا ينقص عمره، أي عمر أحد وآخر. وهذا كلام جار على التسامح في مثله في الاستعمال واعتماد على أن السامعين يفهمون المراد كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] لظهور أنه لا ينقلب الميت وارثا لمن قد ورثه ولا وارث ميتا موروثا لوارثه.
والكتاب كناية عن علم الله تعالى الذي لا يغيب عنه معلوم كما أن الشي المكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص، ويجوز أن يجعل الله موجودات هي كالكتب تسطر فيها الآجال مفصلة وذلك يسير في مخلوقات الله تعالى. ولذلك قال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي لا يلحقه من هذا الضبط عسر ولا كد.
(22/134)
وقد ورد هنا الإشكال العام الناشئ عن التعارض بين أدلة جريان كل شيء على ما هو سابق في علم الله في الأزل، وبين إضافة الأشياء إلى أسباب وطلب اكتساب المرغوب من تلك الأسباب واجتناب المكروه منها فكيف يثبن في هذه الآية للأعمار زيادة ونقص مع كونها في كتاب وعلم لا يقبل التغيير. وكيف يرغب بالصدقة مثلا أنها تزيد في العمر، أن صلة الرحم تطيل في العمر.
والمخلَص من هذا ونحوه هو القاعدة الأصلية الفارقة بين كون الشيء معلوم لله تعالى وبين كونه مرادا،فإن العلم يتعلق بالأشياء الموجودة والمعدومة، والإرادة تتعلق بإيجاد الأشياء على وفق العلم بأنها توجد، فالناس مخاطبون بالسعي لما تتعلق به الإرادة بالشيء علمنا أن الله علم وقوعه، وما تصرفات الناس ومساعيهم إلا أمارات على ما علمه الله لهم، فصدقة المتصدق أمارة على أن الله علم تعميره،والله تعالى يظهر معلوماته في مظاهر تكريم أو تحقير ليتم النظام الذي أسس الله عليه هذا العالم ويلتئم جميع ما أراده الله من هذا التكوين على وجوه لا يخل بعضها ببعض وكل ذلك الحكمة العالية. ولا مخلص من هذا الإشكال إلا هذا الجواب وجميع ما سواه وإن أقنع ابتدأ الإشكال.
[12] {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [12]}.
انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها، على عظم مخلوقات الله تعالى، فصيغ هذا الاستدلال على أسلوب بديع إذ اقتصر فيه على التنبيه على الحكمة الربانية في المخلوقات وهي ناموس تمايزها بخصائص مختلفة واتحاد أنواعها في خصائص متماثلة استدلالا على دقيق صنع الله تعالى كقوله: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] ويتضمن ذلك الاستدلال بخلق البحرين أنفسها لأن ذكر اختلاف مذاقهما يستلزم تذكر تكوينهما.
فالتقدير: وخلق البحرين العذب والأجاج على صورة واحدة وخالف بين أعراضها، ففي الكلام إيجاز حذف، وإنما قدم من هذا الكلام تفاوت البحرين في المذاق واقتصر عليه
(22/135)
لأنه المقصود من الاستدلال بأفانين الدلائل على دقيق صنع الله تعالى.
وفي "الكشاف": ضرب البحرين العذب والمالح مثلا للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} .
والبحر في كلام العرب: اسم للماء الكثير القار في سعة، فالفرات والدجلة بحران عذبان وبحر خليج العجم ملح. وتقدم ذكر البحرين عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} في سورة الفرقان [53] وقد اتحدا في إخراج الحيتان والحلية، أي اللؤلؤ والمرجان، وهما يوجد أجودهما في بحر العجم حيث مصب النهرين ولماء النهرين العذب واختلاطه بماء البحر المالح أثر في جودة اللؤلؤ كما بيناه فيما تقدم في سورة النحل، فقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} كلية، وقوله: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} كل لا كلية لأن من مجموعها تستخرجون حلية. وكلمة {كُلّ} صالحة للمعنيين، فعطف {وَتَسْتَخْرِجُونَ} من استعمال المشترك في معنييه.
فالاختلاف بين البحرين بالعذوبة والملوحة دليل على دقيق صنع الله. والتخالف في بعض مستخرجاتهما والتماثل في بعضها دليل أخر على دقيق الصنع وهذا من أفانين الاستدلال.
والعذب: الحول حلاوة مقبولة في الذوق.
والملح بكسر الميم: الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه، فأما الشيء الذي يلقى فيه الملح حتى يكتسب ملوحة فإنما يقال له: مالح، ولا يقال: ملح.
ومعنى {سَائِغٌ شَرَابُهُ} أن شربه لا يكلف النفس كراهة، وهو مشتق من الإساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره. قال عبد الله بن يعرب:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم
والأجاج: الشديد الملوحة، وتقدم ذكر البحر في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في سورة الأنعام [59]، وبقية الآية تقدم نظيره في أول سورة النحل.
وتقديم الظرف في قوله: {فِيهِ مَوَاخِرَ} على عكس آية سورة النحل، لأن هذه الآية مسوقة مساق الاستدلال على دقيق صنع الله تعالى في المخلوقات وأدمج فيه الامتنان
(22/136)
بقوله: {تَأْكُلُونَ... وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} وقوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فكان المقصد الأول من سياقها الاستدلال على عظيم الصنع فهو الأهم هنا. ولما كان طفو الفلك على الماء حتى لا يغرق فيه أظهر في الاستدلال على عظيم الصنع من الذي ذكر من النعمة والامتنان قدم ما يدل عليه وهو الظرفية في البحر. والمخر في البحر آية صنع الله أيضا بخلق وسائل ذلك والإلهام له، إلا أن خطور السفر من ذلك الوصف أو ما يتبادر إلى الفهم فأخر هنا لأنه من مستتبعات الغرض لا من مقصده فهو يستتبع نعمة تيسير الأسفار لقطع المسافات التي لو قطعت بسير القوافل لطالب مدة الأسفار.
ومن هنا يلمع بارق الفرق بين هذه الآية وآية سورة النحل في كون فعل {لِتَبْتَغُوا} غير معطوف بالواو هنا ومعطوفا نظيره في آية النحل لأن الابتغاء علق هنا بـ {مَوَاخِرَ} إيقافا على الغرض من تقديم الظرف، وفي آية النحل ذكر المخر في عداد الامتنان لأن به تيسير الأسفار، ثم فصل بين {مَوَاخِرَ} وعلته بظرف {فِيهِ} ، فصارما يومئ إليه الظرف فصلا بغرض أدمج إدماجا وهو الاستدلال على عظيم الصنع بطفو الفلك على الماء، فلما أريد الانتقال منه إلى غرض أخر وهو العود إلى الامتنان بالمخر لنعمة التجارة في البحر عطف المغاير في الغرض.
[13، 14] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [14]}.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
استدلال عليهم بما في مظاهر السماوات من الدلائل على بديع صنع الله في أعظم المخلوقات ليتذكروا بذلك أنه الإله الواحد.
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة لقمان، سوى أن هذه الآية جاء فيها {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ} فعدي فعل {يَجْرِي} باللام وجيء في آية سورة لقمان تعدية فعل {يَجْرِي} بحرف {إِلَى} ، فقيل اللام تكون بمعنى {إِلَى} في الدلالة على الانتهاء، فالمخالفة بين الآيتين تفنن في النظم. وهذا أباه الزمخشري في سورة لقمان وردة أغلظ رد فقال:
(22/137)
ليس ذلك من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن ولكن المعنيين أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأن قولك:يجري إلى أجل مسمى معناه يبلغه، وقوله: {يَجْرِي لِأَجَلٍ} تريد لإدراك أجل. اهـ.
وجعل اللام للاختصاص أي ويجري لأجل أجل، أي لبلوغه واستيفائه، والانتهاء والاختصاص كل منهما ملائم للغرض، أي فمآل المعنيين واحد وإن كان طريقه مختلفا، يعني فلا يعد الانتهاء معنى للام كما فعل ابن مالك وابن هشام، وهو وإن كان يرمي إلى تحقيق الفرق بين معاني الحروف وهو ما نميل إليه إلا أننا لا نستطيع أن ننكر كثرة ورود اللام في مقام معنى الانتهاء كثرة جعلت استعارة حرف التخصيص لمعنى الانتهاء من الكثرة إلى مساويه للحقيقة، اللهم إلا أن يكون الزمخشري يريد أن الأجل هنا هو أجل كل إنسان، أي عمره وأن الأجل في سورة لقمان هو أجل بقاء هذا العالم.
وهو على الاعتبارين إدماج للتذكير في خلال الاستدلال ففي هذه الآية ذكرهم بأن لأعمارهم نهاية تذكيرا مرادا به الإنذار والوعيد على نحو قوله تعالى في سورة الأنعام [60] {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} . واقتلاع الطغيان والكبرياء من نفوسهم.
ويريد ذلك أن معظم الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين، ألا ترى إلى قوله بعدها {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} وفي سورة لقمان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو عام لكل مخاطب من مؤمن وكافر فكان إدماج التذكير فيه بأن لهذا العالم انتهاء أنسب بالجميع ليستعد له الذين آمنوا وليرغم الذين كفروا على العلم بوجود البعث لأن نهاية هذا العالم ابتداء لعالم آخر.
[13- 14] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [13] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [14]}.
استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة بعد تفصيلها.
واسم الإشارة موجه إلى من جرت عليه الصفات والأخبار السابقة من قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9] الآيات فكان اسمه حريا بالإشارة إليه بعد إجراء تلك الصفات إذ بذكرها يتميز عند السامعين أكمل تمييز حتى كأنه مشاهد لأبصارهم مع ما في اسم الإشارة من البعد المستعمل كناية عن تعظيم المشار إليه، ومع ما يقتضيه إيراد اسم الإشارة عقب أوصاف كثيرة من التنبيه على أنه حقيق بما سيرد بعد الإشارة من أجل تلك
(22/138)
الصفات فأخبر عنه بأنه صاحب الاسم المختص به الذي لا يجهلونه، وأخبر عنه بأنه رب الخلائق بعد أن سجل عليهم ما لا قبل لهم بإنكاره من أنه الذي خلقهم خلقا من بعد خلق، وأن خلقهم من تراب، وقدر آجالهم وأوجد ما هو أعظم منهم من الأحوال السماوية والأرضية مما يدل على أنه لا يعجزه شيء فهو الرب دون غيره وهو الذي الملك والسلطان له لا لغيره أفاد ذلك كله قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} ، فانتهض الدليل.
وعطف عليه التصريح بأن أصنامهم لا يملكون من الملك شيئا ولو حقيرا وهو الممثل بالقطمير.
والقطمير: القشرة التي في شق النواة كالخيط الدقيق. فالمعنى: لا يملكون شيئا ولو حقيرا، فكونهم لا يملكون أعظم من القطمير معلوم بفحوى الخطاب، وذلك حاصل بالمشاهدة فإن أصنامهم حجارة جاثمة لا تملك شيئا بتكسب ولا تحوزه بهبهة، فإذا انتفى أنها تملك شيئا انتفى عنها وصف الإلهية بطريق الأولى، فنفى ما كانوا يزعمونه من أنها تشفع لهم.
وجملة: {إِنْ تَدْعُوهُمْ} خبر ثان عن {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [فاطر: 13]. والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع، وليس ذلك استدلالا فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} فإنها معطوفة على جملة: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} ، وليست الواو اعتراضية، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم، أي لا ترد عليكم بقبول، وهذا استدلال سنده المشاهدة، فطالما دعوا الأصنام فلم يسمعوا منها جوابا وطالما دعوها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة،فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته، فقد لزمهم إما عجزها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مرضين لهذا. وهذا من أبدع الاستدلال الموطأ بمقدمة متفق عليها.
وقوله: {مَا اسْتَجَابُوا} يجوز أن يكون بمعنى إجابة المنادي بكلمات الجواب. ويجوز أن يكون بمعنى إجابة السائل بتنويله ما سأله. وهذا من استعمال المشترك في
(22/139)
معنييه.
ولما كشف حال الأصنام في الدنيا بما فيه تأييس من انتفاعهم بها فيها كمل كشف أمرها في الآخرة بأن تلك الأصنام ينطقها الله فتتبرأ من شركهم، أي تتبرأ من أن تكون دعت له أو رضيت به.
والكفر: جحد في كراهة.
والشرك أضيف إلى فعله، أي بشرككم إياهم في الإلهية مع الله تعالى.
وأجرى على الأصنام موصول العاقل وضمائر العقلاء {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} [فاطر: 13] إلى قوله: {يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} على تنزيل الأصنام منزلة العقلاء مجاراة للمردود عليم على طريقة التهكم.
وقوله: {وَلا وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ مِثْلُ خَبِيرٍ} تذييل لتحقيق هذه الأخبار بأن المخبر بها هو الخبير بها وبغيرها ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو.
وعبر بفعل الإنباء لأن النبأ هو الخبر عن حدث خطير مهم.
والخطاب في قوله: {يُنَبِّئُكَ} لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مرسل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونه بمخاطب معين.
و {خَبِيرٍ} : صفة مشبهة مشتقة من خبر،بضم الباء، فلان الأمر، إذا علمه علما لاشك فيه. والمراد بـ {خَبِيرٍ} جنس الخبير،فلما أرسل هذا القول مثلا وكان شأن الأمثال أن تكون موجزة صيغ على أسلوب الإيجاز فحذف منه متعلق فعل "ينبِّئ" ومتعلق وصف {خَبِيرٍ} ، ولم يذكر وجه المماثلة لعلمه من المقام. وجعل {خَبِيرٍ} نكرة مع أن المراد خبير معين وهو المتكلم فكان حقه التعريف، فعدل إلى تنكيره لقصد التعميم في سياق النفي لأن إضافة كلمة {مِثْلُ} إلى خبير لا تفيد تعريفا.وجعل نفي فعل الإنباء كناية عن نفي كناية عن نفي المنبئ. ولعل التركيب: ولا يوجد أحد ينبئك بهذا الخبر يماثل هذا الخبير الذي أنبأك به، فإذا أردف مخبر خبره بهذا المثل كان ذلك كناية عن كون المخبر بالخبر المخصوص يريد بـ {خَبِيرٍ} نفسه للتلازم بين معنى هذا المثل وبين تمثل المتكلم منه. فالمعنى: ولا ينبئك بهذا الخبر مثلي لأني خبرته، فهذا تأويل هذا التركيب.
(22/140)
والمِثل بكسر الميم وسكون المثلثية المساوي، إما في قدر فيكون بمعنى ضعف، وإما المساوي في صفة فيكون بمعنى شبيه وهو بوزن فعل بمعنى فاعل وهو قليل. ومنه قولهم: شبه، وند، وخدن.
[15] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [15]}.
لما أشبع أدلة، ومواعظ، وتذكيرات، مما فيه مقنع لمن نصب نفسه منصب الانتفاع والاقتناع، ولم يظهر مع ذلك كله من أحوال القوم ما يتوسم منه نزعهم عن ضلالهم وربما أحدث ذلك في نفوس أهل العزة منهم إعجابا بأنفسهم واغترارا بأنهم مرغوب في انضمامهم إلى جماعة المسلمين فيزيدهم ذلك الغرور قبولا لتسويل مكائد الشيطان لهم أن يعتصموا بشركهم، ناسب أن ينبئهم الله بأنه غني عنه وأن دينه لا يعتز بأمثالهم وأنه مصيرهم إلى الفناء وآت بناس يعتز بهم الإسلام.
فالمراد بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هم المشركون كما هو غالب اصطلاح القرآن، وهم المخاطبون بقوله: آنفا {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] الآيات.
وقبل أن يوجه إليهم الإعلام بأن الله غني عنهم وجه إليهم لإعلام بأنهم الفقراء إلى الله لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غني عنهم فإنهم يوقنون بأنهم الفقراء إلى الله ولكنهم لا يوقنون بالمقصد الذي يقضي إليه علمهم بذلك، فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم ويتكعكعوا عن غرور أنفسهم، على انهم لا يخلو جمعهم من أصحاب عقول صالحة للوصول إلى حقائق الحق فأولئك إذا قرعت أسماعهم بما لم يكونوا يسمعونه من قبل ازدادوا يقينا بمشاهدة ما كان محجوبا عن بصائرهم بأستار الاشتغال بفتنة ضلالهم عسى أن يؤمن من هيأة الله بفطرته للإيمان، فمن بقي على كفره كان بقاؤه مشوبا بحيرة ومر طعم الحياة عنده، فأين ما كانت تتلقاه مسامعهم من قبل تمجيدهم وتمجيد آبائهم وتمجيد آلهتهم، ألا ترى أنهم لما عاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مراجعتهم عدوا عليه شتم آبائهم، فحصل بهذه الآية فائدتان.
وجملة {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تفيد القصر لتعريف جزأيها، أي قصر صفة الفقر على الناس المخاطبين قصرا إضافيا بالنسبة إلى الله، أي أنتم المفتقرون إليه وليس هو بمفتقر إليكم وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] المشعر بأنهم
(22/141)
يحسبون أنهم يغيضون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قبول دعوته. فالوجه حمل القصر المستفاد من جملة {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إلى القصر الإضافي، وهو قصر قلب، وأما حمل القصر الحقيقي ثم تكلف أنه ادعائي فلا داعي إليه.
وإتباع صفة {الْغَنِيُّ} بـ {الْحَمِيدُ} تكميل، فهو احتراس لدفع توهمهم أنه لما كان غنيا عن استجابتهم وعبادتهم فهم معذورون في أن لا يعبدوه، فنبه على أنه موصوف بالحمد لمن عبده واستجاب لدعوته كما أتبع الآية الأخرى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7] بقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. ومن المحسنات وقوع {الْحَمِيدُ} في مقابلة قوله: {إِلَى اللَّهِ} كما وقع { الْغَنِيُّ} في مقابلة قوله: {الفقراء} لأنه لما قيد فقرهم بالكون إلى الله قيد غنى الله تعالى بوصف {الْحَمِيدُ} لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده فهو يحمد من يتوجه إليه.
[16، 17] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [16] وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [17]}.
واقع موقع البيان لما تضمنته جملة {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] من معنى قلة الاكتراث بإعراضهم عن الإسلام، ومن معنى رضاه على من يعبده فهو تعالى لغناه عنهم وغضبه عليهم لو شاء لأبادهم وأتى بخلق آخرين يعبدونه فخلص العالم من عصاه أمر الله وذلك في قدرته ولكنه أمهلهم إعمالا لصفة الحلم.
فالمشيئة هنا المشيئة الناشئة عن الاستحقاق، أي أنهم استحقوا أن يشاء الله إهلاكهم ولكنه أمهلهم، لا أصل المشيئة التي هي كونه مختارا في فعله لا مكره له لأنها لا يحتاج إلى الإعلام بها.
والإذهاب مستعمل في الإهلاك، أي الإعدام من هذا العالم، أي أن يشأ يسلط عليهم موتا يعمهم فكأنه أذهبهم من مكان إلى مكان لأن يأتي بهم إلى دار الآخرة.
والإتيان بخلق جديد مستعمل في إحداث ناس لم يمونوا موجودين ولا مترقبا وجودهم، أي يوجد خلقا من الناس يؤمنون بالله.
فالخلق هنا بمعنى المخلوق مثل قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]. وهذا في معنى قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
(22/142)
يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وليس المعنى: أنه إن يشأ يعجل بموتهم فيأتي جيل أبنائهم مؤمنين لأن قوله: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} ينبو عنه.
وعطف عليه الإعلام بأن ذلك لو شاء لكان هينا عليه وما هو عليه بعزيز.
والعزيز: المتمنع الغالب، وهذا زيادة في الإرهاب والتهديد ليكونوا متوقعين حلول هذا بهم.
ومفعول فعل المشيئة محذوف استغناء بما دل عليه جواب الشرط وهو {يُذْهِبْكُمْ} إي أن يشأ إذهابكم، ومثل هذا الحذف لمفعول المشيئة كثير في الكلام.
والإشارة في قوله: {وَمَا ذَلِكَ} عائدة إلى الإذهاب المدلول عليه بـ {يُذْهِبْكُمْ} أو إلى ما تقدم بتأويل المذكور.
[18] {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [18]}.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.
لما ما قبل هذه الآية مسوقا في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمأنة المسلمين من عواقب التهديد، فعقب بأن من لم يأت وزرا لا يناله جزاء الوازر في الآخرة قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 72]. وقد يكون وعدا بالإنجاء من عذاب الدنيا إذ نزل بالمهددين الإذهاب والإهلاك مثلما اهلك فريق الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين، فيكون هذا وعدا خاصا لا يعارضه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وما ورد في حديث أم سلمة قالت: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون? قال: نعم إذا كثر الخُبْث".
فموقع قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كموقع قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله
(22/143)
تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [لأنفال: 33] بقرينة قول عقبه {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأولى ويجوز أن يكون المراد: ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة، أي أن يشأ يذهبكم جميعا ولا يعذب المؤمنين في الآخرة، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يحشرون على نياتهم".
والوجه الأول أعم وأحسن. وأيًّا مَّا كان فأن قضية {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} في سورة العنكبوت [13]، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركة له للحامل على اقتراف الوزر، وإما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موهوا الضلالة وثبتوا عليها، فإن أول تلك الآية {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإقبال على الإيمان بالأخرى.
وأصل الوزر بكسر الواو: هو الوقر بوزنه ومعناه. وهو الحمل بكسر الحاء، أي ما يحمل، ويقال: وزر إذا حمل. فالمعنى: ولا تحمل حاملة حمل أخرى، أي لا يحمل الله نفسا حملا جعله لنفس أخرى عدلا منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وأن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته.
وجرى وصف الوازرة على التأنيث لأن أريد به النفس.
ووجه اختيار الإسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإضمار على التذكير بتأويل الشخص، لأن متى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} في سورة الأنعام [164] وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} في سورة المدثر [38]، وغير ذلك من الآيات.
ثم نبه على أن هذا الحكم العادل مطرد مستمر حتى لو استغاثت نفس مثقلة في الأوزار من ينتدب لحمل أوزارها أو بعضها لم تجد من يحمل عنها شيئاً، لئلا يقيس الناس الذين في الدنيا أحوال الآخرة على ما تعارفوه، فإن العرب تعارفوا النجدة إذا استنجدوا ولو كان لأمر يضر بالمنجد. ومن أمثالهم {لو دعي الكريم إلى حتفه لأجاب} وقال وداك ابن ثميل المازني:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
(22/144)
ولذلك سمي طلب الحمل هنا دعاء لأن في الدعاء معنى الاستغاثة.
وحذف مفعول {تَدْعُ} لقصد العموم. والتقدير: وإن تدع مثقلة أي مدعو.
وقوله: {إِلَى حِمْلِهَا} متعلق بـ {تَدْعُ} ، وجعل الدعاء إلى الحمل لأن الحمل سبب الدعاء وعلته. فالتقدير: وإن تدع مثقلة أحدا إليها لأجل أن يحمل عنها حملها، فحذف أحد متعلقي الفعل المجرور باللام لدلالة الفعل ومتعلقة المذكور على المحذوف.
وهذا إشارة إلى ما سيكون في الآخرة، أي لو استصرخت نفس من يحملها عنها شيئا من أوزارها، كما كانوا يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم أو غيرهم، لا تجد من يجيبها لذلك.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} في موضع الحال من {مُثْقَلَةٌ} . و {لَوْ} وصلية كالتي في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
والضمير المستتر في {كَانَ} عائد إلى مفعول {تَدْعُ} المحذوف، إذ تقديره: وإن تدع مثقلة أحدا إلى حملها كما ذكرنا، فيصير التقدير: ولو كان المدعو ذا قربى، فإن العموم الشمولي الذي اقتضته النكرة في سياق الشرط يصير في سياق الإثبات عموما بدليا.
ووجه ما اقتضته المبالغة من {لَوْ} الوصلية أن ذا القربى أرق وأشفق على قريبه، فقد يظن انه يغني عنه في الآخرة بأن يقاسمه الثقل الذي يؤدي به إلى العذاب فيخف عنه العذاب بالاقتسام.
والإطلاق في لا القربى يشمل قريب القرابة كالأبوين والزوجين كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34، 35].
وهذا إبطال لاعتقاد الغناء الذاتي بالتضامن والتحامل فقد كان المشركون يقيسون أمور الآخرة على أمر الدنيا فيعللون أنفسهم إذا هددوا بالبعث بأنه إن صح فإن لهم يومئذ شفعاء وأنصار، فهذا سياق توجيه هذا إلى المشركين ثم هو بعمومه ينسحب حكمه على جميع أهل المحشر، فلا يحمل أحد عن أحد أثمه. وهذا لا ينافي الشفاعة الواردة في الحديث، كما تقدم في سورة سبأ، فأنها إنما تكون بأذن الله تعالى إظهاراً لكرامة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي ما جعله الله للمؤمنين من مكفرات الذنوب كما ورد أن إفراط المؤمنين يشفعون لأمهاتهم، فتلك شفاعة جعلية جعلها الله كرامة للأمهات المصابة من
(22/145)
المؤمنات.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
استئناف كلامي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بأن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيأوا للإيمان.
إيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم،وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء. فأقبل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ فيه وأنها إنما ينتفع بها المسلمون، وهو أيضا يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإنذار والوعيد.
وأطلق الإنذار هنا على حصول أثره، وهو الانكفاف أو التصديق به، وليس المراد حقيقة الإنذار، وهو الإخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينة تكرر الإنذار للمشركين الفينة بعد الفينة وما هو ببعيد عن هذه الآية، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أنذر المشركين طول مدة دعوته، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه بـ {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} تعلق على معنى حصول أثر الفعل.
فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظن النبي صلى الله عليه وسلم انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته، وأن كانت صيغة القصر صالحة لمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإضافي. ونظير هذه الآية قوله في سورة يس [11]: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} في سورة ق [45]، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم.
والغيب: ما غاب عنك، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان، أي الذين آمنوا حقا غير مرائين أحدا.
و {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإقامة كما تقدم في أول سورة البقرة.
ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى: إنما تنذر المؤمنين، فعدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع
(22/146)
ما فيهما من الإطناب، تذرعا بذكر هاتين الصلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإيمان في الاعتقاد والعمل.
وجملة {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} تذييل جار مجرى المثل. وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيل داخل في التذييل بادئ ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يخص العام به، فالمعنى: أن الذين خشوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم، فالمعنى: إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
والمقصود من القصر في قوله: {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضرا على أنفسهم.
وجملة {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تكميل للتذييل، والتعريف في {الْمَصِيرُ} للجنس، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكى، أي وكل يجازى بما يناسبه.
وتقديم المجرور في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة.
[19- 23] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [19] وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [20] وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [21] وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22] إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [23]}.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [19] وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [20] وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [21] وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ}.
أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين، وللإيمان والكفر، شبه الكافر بالأعمى، والكفر بالظلمات، والحرور والكافر بالميت، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإيمان بالنور والذل، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس. فبعد أن بين قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالا كاشفة عن اختلاف حاليهما، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن، وعلى حالة الكفر والإيمان، وعلى أثر الإيمان وأثر الكفر.
(22/147)
وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقال إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإيضاح ما أفاده القصر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] كما تقدم آنفا من أنه قصر إضافي قصر قلب، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه.
والمقصود: أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه.
والعمى يعبر به عن الضلال، قال ابن رواحة:
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبين للأشياء، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتيادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.
وجيء في {الظُّلُمَاتُ} بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلا بصيغة الجمع. وقد تقدم في قوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في الأنعام [1].
وضرب الظل مثلا لأثر الإيمان، وضده وهو الحرور مثلا لأثر الكفر، فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالبا إلا في بعض فصل الشتاء، وقوبل بالحرور لأنه مؤلم ومعذب في عرفهم كما علمت، وفي مقابلته بالحرور إيذان تشبيه بالظل في حالة استطابته.
و {الْحَرُورُ} : حر الشمس، ويطلق أيضا على الريح الحارة وهي السموم، أو الحرور: الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة {الْحَرُورُ} . وفواصل القرآن من متممات فصاحته، فلها حظ من الإعجاز.
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريث وإتقان. وحال الكافر يشبه الحرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه القول من
(22/148)
التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجلة متفككة.
واعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطف وأدوات نفي، فكل من الواوين الذين في قوله: {وَلا الظُّلُمَاتُ} الخ، وقوله: {وَلا الظِّلُّ} الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين. والتقدير: ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظل والحرور، وقد صرح بالمقدر أخيرا في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ}.
وأما الواوات الثلاثة في قوله: {وَالْبَصِيرُ} {وَلا النُّورُ} {وَلا الْحَرُورُ} فكل واو عاطف مفردا على مفرد، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق، فـ {الْبَصِيرُ} عطف على: {الْأَعْمَى} ، و {النُّورُ} عطف على {الظُّلُمَاتُ} ، و {الْحَرُورُ} عطف على {الظِّلُّ} ، ولذلك أعيد حرف النفي.
وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما {وَلا الظُّلُمَاتُ} ، {وَلا الظِّلُّ} ، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو: {وَلا النُّورُ} ، وواو: {وَلا الْحَرُورُ} ، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف: {لاَ} وبعضه بالمرادف وهو حرف: {مَا} ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدئ به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس. وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل، ومنه قوله تعالى: {لاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} في سورة فصلت [34].
وجملة: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل: {يَسْتَوِي} لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميت، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد [16] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}.
فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعا للمدارك والمساعي، شبه الإيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه،
(22/149)
وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيها بالحي مشابهة كاملة لما خرج من الكفر إلى الإيمان، فكأنه بالإيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام [122] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ، وكان الكافر شبيها بالميت ما دام على كفره. واكتفى بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإيمان وبالعكس لتلازمهما، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح، وعكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [23]}.
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيه بالموت أوضح شبها به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تلقوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18]، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له: إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسهم لقبول الذكر والعلم، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تسمع الأموات، فجاء قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} على مقابلة قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} مقابلة اللف بالنشر المرتب.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} تعليل لجملة {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، لأن معنى القصر ينحل إلى إثبات ونفي فكان مفيدا فريقين: فريقا انتفع بالإنذار، وفريقا لم ينتفع، فعلل ذلك بـ {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ}.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك.
واستعير {مَنْ فِي الْقُبُورِ} للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات بـ {مَنْ فِي
(22/150)
الْقُبُورِ} لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادى حاجز الأرض. فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى.
وجيء بصيغة الجمع {الْأَحْيَاءُ} و {الْأَمْوَاتُ} تفننا في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسما له أفراد بخلاف النور والظل والحرور، وأما جمع {الظُّلُمَاتُ} فقد علمت وجهه آنفا.
وجملة: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} أفادت قصرا إضافيا بالنسبة إلى معالجة تسميعهم الحق، أي أنت نذير للمشابهين من في القبور ولست بمدخل الإيمان إلى قلوبهم، وهذا مسوق مساق المعذرة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسليته إذا كان مهتما من عدم إيمانهم.
والنذير: المنبئ عن توقع حدوث مكروه أو مؤلم.
والاقتصار على وصفه بالنذير لأن مساق الكلام على المصممين على الكفر.
[24] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [24]}.
استئناف ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وتنويه به بالإسلام. وفيه دفع توهم أن يكون قصره على النذارة قصرا حقيقا لتبين أن قصره على النذارة بالنسبة للمشركين الذين شابه حالهم حال أصحاب القبور،أي أن رسالتك تجمع بشارة ونذارة، فالبشارة لمن قبل الهدى، والنذارة لمن أعرض عنه، وكل ذلك حق لأن الجزاء على حسب القبول، فهي رسالة ملابسة للحق ووضع الأشياء مواضعها.
فقوله: {بِالْحَقِّ} إما حال من ضمير المتكلم في {أَرْسَلْنَاكَ} أي محقين غير لاعبين، أو من كاف الخطاب، أي محقا أنت غير كاذب، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالا ملابسا بالحق لا يشوبه شيء من الباطل. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} إبطال لاستبعاد المشركين أن يرسل الله إلى الناس بشرا منهم،فإن تلك الشبهة كانت من أعظم ما صدهم عن التصديق به، فلذلك أتبعت دلائل الرسالة بإبطال الشبهة الحاجبة على حد قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 9].
وأيضا في ذلك تسفيه لأحلامهم إذ رضوا أن يكونوا دون غيرهم من الأمم التي شرفت بالرسالة.
(22/151)
ووجه الاقتصار على وصف النذير هنا دون الجمع بينه وبين وصف البشير هو مراعاة العموم الذي في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} ، فإن من الأمم من لم تحصل لها بشارة لأنها لم يؤمن منها أحد، ففي الحديث عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر معه الرهط، والنبيء يمر معه الرجل الواحد، والنبي يمر وحده الحديث، فإن الأنبياء الذين مروا وحدهم هم الأنبياء الذين لم يستجب لهم أحد من قومهم، وقد يكون عدم ذكر وصف البشارة للاكتفاء بذكر قرينة اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وأوثر وصف النذير بالذكر لأنه أشد مناسبة لمقام خطاب المكذبين.
ومعنى الأمة هنا: الجذم العظيم من أهل نسب ينتهي إلى جد واحد جامع لقبائل كثيرة لها مواطن متجاورة مثل أمة الفرس وأمة الروم وأمة الصين وأمة الهند وأمة يونان وأمة إسرائيل وأمة العرب وأمة البربر، فما من أمة من هؤلاء إلا وقد سبق فيها نذير، أي رسول أو نبي ينذرهم بالمهلكات وعذاب الآخرة. فمن المنذرين من علمناهم، ومنهم من أنذروا وانقرضوا ولم يبق خبرهم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].
والحكمة في الإنذار أن لا يبقى الضلال رائجا وأن يتخول الله عباده بالدعوة إلى الحق سواء عملوا بها أم لم يعملوا فإنها لا تخلوا من أثر صالح فيهم. وإنما لم يسم القرآن إلا الأنبياء والرسل الذين كانوا في الأمم السامية القاطنة في بلاد العرب وما جاورها لأن القرآن حين نزوله ابتدأ بخطاب العرب ولهم علم بهؤلاء الأقوام فقد علموا أخبارهم وشهدوا آثارهم فكان الاعتبار بهم أوقع، ولو ذكرت لهم رسل أمم لا يعرفونهم لكان إخبارهم عنهم مجرد حكاية ولم يكن فيه استدلال واعتبار.
[25، 26] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [25] ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [26]}.
أعقب الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بتسليته على تكذيب قومه وتأنيسه بأن تلك سنة الرسل مع أممهم.
وإذ قد كان سياق الحديث في شأن الأمم جعلت التسلية في هذه الآية بحال الأمم مع رسلهم عكس ما في آية آل عمران [184] {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} لأن سياق آية أل عمران كان في رد محاولة أهل
(22/152)
الكتاب إفحام الرسول لأن قبلها {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183].
وقد خولف أيضا في هذه الآية أسلوب آية آل عمران إذ قرن كل من "الزبر والكتاب المنير" هنا بالباء، وجردا منها في آية آل عمران وذلك لأن آية آل عمران جرت في سياق زعم اليهود أن لا تقبل معجزة رسول إلا معجزة قربان تأكله النار،فقيل في التفرد ببهتانهم: قد كذبت الرسل الذين جاء الواحد منهم بأصناف المعجزات مثل عيسى عليه السلام ومن معجزاتهم قرابين تأكلها النارفكذبتموهم، فترك إعادة الباء هنالك إشارة إلى أن الرسل جاءوا بالأنواع الثلاثة.
ولما كان المقام هنا لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب أن يذكر ابتلاء الرسل بتكذيب أممهم على اختلاف أحوال الرسل، فمنهم الذين آتوا بآيات، أي خوارق عادات فقط مثل صالح وهود ولوط، ومنهم من أتوا بالزبر وهي المواعظ التي يؤمر بكتابتها وزبرها، أي تخطيطها لتكون محفوظة وتردد على الألسن كزبور داود وكتب أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل مثل أرمياء وإيلياء، ومنهم من جاءوا بالكتاب المنير، يعني كتاب الشرائع مثل إبراهيم وموسى وعيسى، فذكر الباء مشير إلى توزيع أصناف المعجزات على أصناف الرسل.
فزبور إبراهيم صحفه المذكورة في قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19].
وزبور موسى كلامه في المواعظ الذي ليس فيه تبليغ عن الله مثل دعائه الذي دعا به في قادش المذكور في الإصحاح التاسع من سفر التثنية، ووصيته في عبر الأردن التي في الإصحاح السابع والعشرين من السفر المذكور، ومثل نشيده الوعظي الذي نطق به وأمر بني إسرائيل بحفظه والترنم به في الإصحاح الثاني والثلاثين منه، ومثل الدعاء الذي بارك به أسباط إسرائيل في عربات مؤاب في آخر حياته في الإصحاح الثالث والثلاثين منه.
وزبور عيسى أقواله المأثورة في الأناجيل مما لم يكن منسوبا إلى الوحي.
فالضمير في {جَاءُوا} [آل عمران: 184] للرسل وهو على التوزيع، أي جاء مجموعهم بهذه الأصناف من الآيات، ولا يلزم أن يجيء كل فرد منهم بجميعها كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا.
وجواب {إِنْ يُكَذِّبُوكَ} محذوف دلت عليه علته وهي قوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
(22/153)
قَبْلِكَ} [فاطر: 4]. والتقدير: إن يكذبوك فلا تحزن، ولا تحسبهم مفلتين من العقاب على ذلك إذ قد كذب الأقوام الذين جاءتهم رسل من قبل هؤلاء وقد عاقبناهم على تكذيبهم.
فالفاء في قوله: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فاء فصيحة أو تفريع على المحذوف.
وجملة {جَاءَتْهُمْ} صلة {الَّذِينَ} و {مِنْ قَبْلِهِمْ} في موضع الحال من اسم الموصول مقدم عليه أو متعلق بـ {جَاءَتْهُمْ}.
و {ثُمَّ} عاطفة جملة {أَخَذْتُ} على جملة {جَاءَتْهُمْ} أي ثم أخذتهم،وأظهر {الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع ضمير الغيبة للإيماء إلى أن أخذهم لأجل ما تضمنته صلة الموصول من أنهم كفروا.
والأخذ مستعار للاستئصال والإفناء، شبه إهلاكهم جزاء على تكذيبهم بإتلاف المغيرين على عدوهم يقتلونهم ويغنمون أموالهم فتبقى ديارهم بلقعا كأنهم أخذوا منها.
و"كيف" استفهام مستعمل في التعجيب من حالهم وهو مفرع بالفاء على {أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، والمعنى: أخذتهم أخذا عجيبا كيف ترون أعجوبته. وأصل "كيف" أن يستفهم به عن الحال فلما استعمل في التعجيب من حال أخذهم لزم أن يكون حالهم معروفا، أي يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وكل من بلغته أخبارهم فعلى تلك المعرفة المشهورة بني التعجيب.
والنكير: اسم لشدة الإنكار، وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب.
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا ولرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل يعتبر فيها الوقف، وتقدم في سبأ.
[27] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [27]}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}.
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جبلي فطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي.
(22/154)
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن.
وضرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلا لاختلاف البواطن تقريبا للأفهام، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئب إليه الأفهام عند سماع قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 22].
والرؤية بصرية، والاستفهام تقريري، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} في سورة الأعراف [148] وفي آيات أخرى.
وضمير {فَأَخْرَجْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم.
والألوان: جمع لون وهو عرض، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيفه النور كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشبه الصبح هو لون البياض، فهما الأصلان للألوان، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهة. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} في سورة البقرة [69]، وتقدم في سورة النحل.
والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل، وألوان العنب مع ألوان التين، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان.
وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] وذلك أرعى للاعتبار.
وجيء بالجملتين الفعليتين في {أَنْزَلَ} و"أخرجنا" لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {أَنْزَلَ} وقوله: "أخرجنا" لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات.
وضمير التكلم أنسب بما فيه امتنان.
وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف
(22/155)
الناس في المنافع والمدارك والعقائد.وفي الحديث: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها".
وجرد {مُخْتَلِفاً} من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأن النعت السببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإفراد وضده، ولا يوافق في ذلك منعوته، لأنه لما كان الفاعل جمعا لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزا في الاستعمال، وآثره القرآن إيثارا للإيجاز.
والمراد بالثمرات: ثمرات النخيل والأعناب وغيرها، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألوانا، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود.
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}.
عطف على جملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} فهي مثلها مستأنفة،وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة.
و {جُدَدٌ} مبتدأ {وَمِنَ الْجِبَالِ} خبره. وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثا على التأمل والنظر.
و {مِنَ} تبعيضية على معنى: وبعض تراب الجبال جدد، ففي الجبل الواحد توجد جدد مختلفة، وقد يكون بعض الجدد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر.
و {جُدَدٌ} : جمع جدة بضم الجيم، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه. يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جدة، وللظبي جدتان مسكيتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخورا بيضاء مثل المروة، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصبر في لون الأهصب فيقال: تراب أبيض، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب، والجدد الحمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال.
و {غَرَابِيبُ} : جمع غربيب، والغربيب: اسم الشيء الأسود الحالك سواده، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد.
(22/156)
و {سُودٌ} : جمع أسود وهو الذي لونه السواد.
فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود، فكان مقتضى الظاهر أن يكون {غَرَابِيبُ} متأخرا عن {سُودٌ} لأن الغالب أنهم يقولون: أسود غربيب، كما يقولون: أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان، ولا يقولون: غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداء من قوله: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، على أن في دعوى أن يكون غريبا تابعا لأسود نظرا والآية تؤيد هذا النظر، ودعوى كون {غَرَابِيبُ} صفة لمحذوف يدل عليه {سُودٌ} تكلف واضح، وكذلك دعوى الفراء: أن الكلام على التقديم والتأخير، وغرض التوكيد حاصل على كل حال.
[28] {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [28]}.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}.
موقعه كموقع قوله: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فان تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة.
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي. وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر، وقد تقدم عند قوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} في سورة الروم [22].
و {مِنَ} تعبيضية. والمعنى: أن المختلف ألوانه بعض من الناس، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام، وهو نظم دقيق دعا إليه الإيجاز.
وجيء في جملة {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} [فاطر: 27] و {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإيجاد اختلافا دائما لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل.
{كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
(22/157)
الأظهر عندي أن {كَذَلِكَ} ابتداء كلام يتنزل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى: كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم، فجملة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} مستأنفة عن جملة {كَذَلِكَ}. وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتى منهم خشية الله فدل على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18].
وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصا للتنويه بأهل العلم والإيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29] الآية...
فقوله: {كَذَلِكَ} خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام. والتقدير: كذلك الاختلاف، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف [91] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده.
وأما جعل {كَذَلِكَ} من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه.
والقصر المستفاد من {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي لا يخشاه الجهال، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم، فالمؤمنون يومئذ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشيت الله. ثم أن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتا كثيرا. وتقديم فعول {يَخْشَى} على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.
والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.
(22/158)
وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد "والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة".
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير. ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإعراض عنهم مما قد يحدث يأسا في نفوس المقاربين منهم، ألفت قلوبهم بإتباع وصف {عَزِيزٌ} ، بوصف {غَفُورٌ} أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة {غفور} حظا عظيما لأحد طرفي القصر وهو العلماء، أي غفور لهم.
[29، 30] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [29] لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [30]}.
استئناف لبيان جملة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] الآية، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء، وقد تخلص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتبعوا الذكر وخشوا الرحمان بالغيب فإن حالهم مضاد لحال الذين لم يسمعوا القرآن وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئا. فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجماليا بقوله: تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، وأجمل حسن جزائهم بذكر صفة {غَفُورٌ} [فاطر: 28] ولذلك ختمت هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فصل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه.
فالمراد بـ {الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعرفوا به وهم المراد بالعلماء. قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]. وهو أيضا كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلا من صدق به وتلقاه باعتناء. وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه.
وكتاب الله القرآن وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته من تعظيم شأنه.
(22/159)
واتبع ما هو علامة قبول الإيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة [2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ} فإنها أعظم الأعمال البدنية،ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإنفاق، والمراد بالإنفاق حيثما أطاق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ، على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نصب ولا تحديد ثم حددت بالنصب والمقادير.
وجيء في جانب إقامة الصلاة والإنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه، وامتثال الذي كلفوا يقتضي أنهم مداومون عليه.
وقوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة.
ووقع الالتفات من الغيبة من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ} إلى التكلم في قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} لأنه المناسب للامتنان.
وانتصب {سِرّاً وَعَلانِيَةً} على الصفة لمصدر {أَنْفَقُوا} محذوف، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع.
والمعنى: أنهم لا يريدون من الإنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإنفاق.
وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه، وذكر العلانية للإشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإنفاق فهم قد أعلنوا بالإيمان وشرائعه حب من حب أو كره من كره.
و {يَرْجُونَ تِجَارَةً} هو خبر {إِنَّ} .
والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل: ليرجوا تجارة، وزاده التعليل بقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} قرينة على إرادة التبشير.
والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق.
ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة.
(22/160)
والمعنى: ليرجوا أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة.
والبوار: الهلاك. وهلاك التجارة: خسارة التاجر. فمعنى {لَنْ تَبُورَ} أنها رابحة. و {لَنْ تَبُورَ} صفة {تِجَارَةً} . والمعنى: أنهم يرجون عدم بوار التجارة.
فالصفة مناط التبشير والرجاء لا أصل التجارة لأن مشابهة العمل الفظيع لعمل التاجر شيء معلوم.
و {لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بـ {يَرْجُونَ} ، أي بشرناهم بذلك وقدرناه لهم لنوفيهم أجورهم ووقع الالتفات من التكلم في قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إلى الغيبة رجوعا إلى سياق الغيبة من قوله: {يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي ليوفي الله الذين يتلون كتابه.
والتوفية: جعل الشيء وافيا، أي تاما لا نقيصة فيه ولا غبن.
وأسجل عليهم الفضل بأنه يزيدهم على ما تستحقه أعمالهم ثوابا من فضله، أي كرمه، وهو مضاعفة الحسنات الواردة في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية.
وذيل هذا الوعد بما يحققه وهو أن الغفران والشكران من شأنه، فإن من صفاته الغفور الشكور، أي الكثير المغفرة والشديد الشكر.
فالمغفرة تأتي على تقصير العباد المطيعين، فإن طاعة الله الحق التي هي بالقلب والعمل والخواطر لا يبلغ حق الوفاء بها إلا المعصوم ولكن الله تجاوز عن الأمة فيما حدثت به أنفسها، وفيما همت به ولم تفعله. وفي اللمم، وفي محو الذنوب الماضية بالتوبة، والشكر كناية عن مضاعفة الحسنات على أعمالهم فهو يشكر بالعمل لأن الذي يجازى على عمل عمله المجزي بجزاء وافر يدل جزاؤه على أنه حمد للفاعل فعله.
وأكد هذا الخبر بحرف التأكيد زيادة في تحقيقه، ولما في التأكيد من الإيذان بكون ذلك علة لتوفية الأجور والزيادة فيها.
وفي الآية ما يشمل ثواب قراء القرآن، فإنهم يصدق عنهم أنهم من الذين يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة ولو لم يصاحبهم التدبر في القرآن فإن للتلاوة حظها من الثواب والتنور بأنوار كلام الله.
[31] {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
(22/161)
بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [31]}.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.
لما كان المبدأ به من أسباب ثواب المؤمنين هو تلاوتهم كتاب الله أعقب التنويه بهم بالتنويه بالقرآن للتذكير بذلك، ولأن في التذكير بجلال القرآن وشرفه إيماء إلى علة استحقاق الذين يتلونه ما استحقوا. وابتدئ التنويه به بأنه وحي من الله إلى رسوله، وناهيك بهذه الصلة تنويها بالكتاب، وهو يتضمن تنويها بشأن الذي أنزل عليه من قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ففي هذه مسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبشارة له بأنه أفضل الرسل وأن كتابه أفضل الكتب.
وهذه نكتة تعريف المسند إليه باسم الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه كونه الحق الكامل، دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر بأنأألأألأأن يقال: وهو الكتاب الحق.
فالتعريف في {الْكِتَابِ} تعريف العهد.
و {مِنَ} بيانية لما في الموصول من الإبهام، والتقدير: والكتاب الذي أوحينا إليك هو الحق. فقدم الموصول الذي حقه أن يقع صفة للكتاب تقديما للتشويق بالإبهام ليقع بعده التفصيل فيتمكن من الذهن فضل تمكن.
فجملة: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} فهي مثلها في حكم الاستئناف.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل، وهو تأكيد لما أفاده تعريف المسند من القصر.
والتعريف في {الْحَقُّ} تعريف الجنس. وأفاد تعريف الجزأين قصر المسند على المسند إليه، أي قصر جنس الحق على {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بحقية ما عداه من الكتب.
فأما الكتب غير الإلهية مثل "الزند فستا" كتاب "زراد شت" ومثل كتب الصابئة فلأن ما فيها من قليل الحق قد غمر بالباطل والأوهام.
وأما الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وما تضمنته كتب الأنبياء كالزبور وكتاب أرميا من الوحي الإلهي، فما شهد القرآن بحقيته فقد دخل في شهادة قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وما جاء نسخه بالقرآن فقد بين النسخ تحديد صلاحيته في القرآن. وذلك أيضا
(22/162)
تصديق لها لأنه يدفع موهم بطلانها عند من يجد خلافها في القرآن وما عسى أن يكون قد نقل على تحريف أو تأويل فقد دخل فيما أخرجه القصر. وقد بين القرآن معظمه وكشف عن مواقعه كقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85].
ومعنى "ما بين يديه" ما سبقه لأن السابق يجيء متقدما على المسبوق فكأنه يمشي بين يديه كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. والمراد بما بين يديه ما قبله من الشرائع، وأهمها شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام.
وانتصب {مُصَدِّقاً} على الحال من {الْكِتَابِ} والعامل في الحال فعل {أَوْحَيْنَا} ليفيد أنه مع كونه حقا بالغا في الحقية فهو مصدق للكتب الحقة، ومقرر لما اشتملت عليه من الحق.
{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
تذييل جامع لما تضمنته الآيات قبله من تفضيل بعض عباد الله على بعض ومن انطواء ضمائرهم على الخشية وعدمها، وإقبال بعضهم على الطاعات وإعراض بعض، ومن تفضيل بعض كتب الله على بعض المقتضى أيضا تفضيل بعض المرسلين بها على بعض، فموقع قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} موقع إقناع السامعين بأن الله عليم بعباده وهو يعاملهم بحسب ما يعلم منهم، ويصطفي منهم من علم أنه خلقه كفئا لاصطفائه، فألقهم بهذا الذين قالوا {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] حجرا، وكأولئك أيضا الذين ينكرون القرآن من أهل الكتاب بعلة أنه جاء مبطلا لكتابهم.
والخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية.
والبصير: العالم بالأمور المبصرة. وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل. وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإسلام، وقد تكرر إرداف الخبير بالبصير في مواضع كثيرة من القرآن.
والتأكيد بـ {إَِنَّ} واللام للاهتمام بالمقصود من هذا الخبر.
[32] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [32]}.
{ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل فهي هنا لعطف الجمل عطفا
(22/163)
ذكريا، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات، فهذه الجملة كالمستأنفة، و {ثُمَّ} للترقي في الاستئناف. وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم وعروج في مسرته وتبشيره، فبعد أن ذكر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيرا بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطفون من عباد الله تعالى، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم، لقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية، فهذه البشارة أهم عند النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهم.
وحمل الزمخشري {ثُمَّ} هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى.
والمراد بـ {الْكِتَاب} الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [فاطر: 31] أي القرآن.
و {أَوْرَثْنَا} جعلنا وارثين. يقال: ورث،إذا صار إليه مال ميت قريب. ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض، فيكون معناه: جعلناهم آخذين الكتاب منا، أو نجعل الإيراث مستعملاً في الأمر بالتلقي، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن، أي يتلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الاحتمالين ففي الإيراث معنى الإعطاء فيكون فعل {أَوْرَثْنَا} حقيقا بأن ينصب مفعولين. وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الأخذ في المعنى هو المفعول الأول والأخر ثانيا، وإنما خولف هنا فقدم المفعول الثاني لأمن اللبس قصدا للاهتمام بالكتاب المعطى. وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة.
والمراد بالذين اصطفاهم الله: المؤمنون كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 77، 78]. وقد اختار الله للإيمان والإسلام أفضل أمة من الناس، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في "تفسيره".
ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بشروا به جيء بالتفريع في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} إلى آخره، فهو تفصيل لمراتب المصطفين لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها،فمناط الاصطفاء هو الإيمان والإسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام.
(22/164)
وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلا لمسرته.
والفاء في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن. وضمير منهم الأظهر أنه عائد إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} ، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفين. وقيل هو عائد إلى {عِبَادِنَا} أي ومن عبادنا علمه والإطلاق. وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر. ويسري أثر هذا الخلاف في محمل ضمير {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33] ولذلك يكون قول الحسن جاريا على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح.
والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميمها عليه. قال تعالى: حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نهيا عنه من أكل الشجرة {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] وقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 110] وقال {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} في سورة النمل [11]، وقال {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} في سورة الزمر [53].
واللام في {لِنَفْسِهِ} لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل.
والمقتصد: هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق علم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق.
والسابق أصله: الواصل إلى غاية معينة قبل غيره من الماشين إليها. وهو هنا مجاز لإحراز الفضل لأن السابق يحرز السبق بفتح الباء، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنى عن الإكثار من الخير لأن السبق يستلزم إسراع الخطوات، والإسراع إكثار. وفي هذا السبق تفاوت أيضا كخيل الحلبة.
(22/165)
والخيرات: جمع خير على غير قياس،والخير: النافع. والمراد بها هنا الطاعات لأنها أعمال صالحة نافعة لعاملها وللناس بآثارها.
والباء للظرفية، أي في الخيرات كقوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 62].
وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضا، ولك أن تجعل معنى {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أنه ناقصها من الخيرات كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص عن معتادها في الإثمار في سورة الكهف [33].
والإذن مستعمل في التيسير على سبيل المجاز، والباء للسببية متعلقة بـ {سَابِقٌ} ، وليس المراد به الأمر لأن الله أمر الناس كلهم بفعل الخير سواء منهم من أتى به ومن قصر فيه.
ولك أن تجعل الباء للملابسة وتجعلها ظرفا مستقرا في موضع الحال من {سَابِقٌ} أي متلبسا بإذن الله ويكون الإذن مصدرا بمعنى المفعول، أي سابق ملابس لما أذن الله به، أي لم يخالفه.
وعلى الوجه الأول هو تنويه بالسابقين بأن سبقهم كان بعون من الله وتيسير منه.
وفيما رأيت من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذ من كلام الأئمة، مع ضميمة لا بد منها. تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولا.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} إلى الاصطفاء المفهوم من {اصْطَفَيْنَا} أو إلى المذكور من الاصطفاء وإيراث الكتاب.
و {الْفَضْلُ} : الزيادة في الخير، و {الْكَبِيرُ} مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإيمان والإسلام. وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى: ظالم، ومقتصد، وسابق. وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل.
(22/166)
ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55]
[33] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [33]}.
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] فإن ما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل ولأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لبيان الفضل الكبير وقد بين بأعظم أصنافه. والمعنى واحد.
وضمير الجماعة في {يَدْخُلُونَهَا} راجع إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] المقسم إلى ثلاثة أقسام: ظالم، ومقتصد، وسابق، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت. وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة" . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال أبو بكر بن العربي في "العارضة": من الناس من قال: إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة [8- 10]: {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} ، و {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} ، و {السَّابِقُونَ} . وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] فجعلهم مصطفين. ثم قال في آخرهم {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ولا يصطفى إلا من يدخل الجنة، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهو العاصي والظالم المطلق
(22/167)
هو الكافر، وقيل عنه: الظالم لنفسه رفقا به، وقيل للآخر السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد اهـ.
وفي الإخبار بالمسند الفعلي عن المسند إليه إفادة تقوي الحكم وصوغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل، وكذلك صوغ {يُحَلَّوْنَ} وهو خبر ثان عن {جَنَّاتُ عَدْنٍ} . وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر {وَلُؤْلُؤاً} بالنصب عطفا على محل {وَلُؤْلُؤاً} لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل {يُحَلَّوْنَ} فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه. وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ، وهما وجهان.
[34، 35] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [34] الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35]}.
الأظهر أن جملة {وَقَالُوا} في موضع الحال من ضمير {يُحَلَّوْنَ} [فاطر: 33] لئلا يلزم تأويل الماضي بتحقيق الوقوع مع أنه لم يقصد في قوله: {يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 33]. وتلك المقالة مقارنة للتحلية واللباس، وهو كلام يجري بينهم ساعتئذ لإنشاء الثناء على الله على ما خولهم من دخول الجنة، ولما فيه من الكرامة.
وإذهاب الحزن مجاز في الإنجاء منه فتصدق بإزالته بعد حصوله ويصدق بعدم حصوله.
و {الْحَزَنَ} : الأسف. والمراد: أنهم لما أعطوا ما أعطوه زال عنهم ما كانوا فيه قبل من هول الموقف ومن خشية العقاب بالنسبة للسابقين والمقتصدين ومما كانوا فيه من عقاب بالنسبة لظالمي أنفسهم.
وجملة {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} استئناف ثناء على الله شكروا به نعمة السلامة أثنوا عليه بالمغفرة لما تجاوز عما اقترفوه من اللمم وحديث الأنفس ونحو ذلك مما تجاوز الله عنه بالنسبة للمقتصدين والسابقين، ولما تجاوز عنه من تطويل العذاب وقبول الشفاعة بالنسبة لمختلف أحوال الظالمين أنفسهم وأثنوا على الله بأنه شكور لما رأوا من إفاضته الخيرات عليهم ومضاعفة الحسنات مما هو أكثر من صالحات أعمالهم. وهذا على نحو
(22/168)
ما تقدم في قوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30].
و {الْمُقَامَةِ} : مصدر ميمي من أقام بالمكان إذا قطنه. والمراد: دار الخلود. وانتصب {دَارَ الْمُقَامَةِ} على المفعول الثاني لـ {أَحَلَّنَا} أي أسكننا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ فَضْلِهِ} ابتدائية في موضع الحال من {دَارَ الْمُقَامَةِ} .
والفضل: العطاء،وهو أخو التفضل في أنه عطاء منه وكرم.
ومن فضل الله أن جعل لهم الجنة جزاء على الأعمال الصالحة لأنه لو شاء لما جعل للصالحات عطاء ولكان جزاؤها مجرد السلامة من العقاب،وكان أمر من لم يستحق الخلود في النار كفافا، أي لا عقاب ولا ثواب فيبقى كالسوائم، وإنما أرادوا من هذا تمام الشكر والمبالغة في التأدب.
وجملة {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} حال ثانية.
والمس: الإصابة في ابتداء أمرها، والنصب: التعب من نحو شدة حر وشدة برد. واللغوب: الإعياء من جراء عمل أو جري.
وإعادة الفعل المنفي في قوله: {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} لتأكيد انتفاء المس.
[36] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [36]}.
مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقينا بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان.
وفي قوله تعالى في الكفار {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} إيماء إلى أن نار عقاب المؤمنين خفية عن نار المشركين.
فجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على جملة {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}.
ووقع الإخبار عن نار جهنم بأنها {لَهُمْ} بلام الاستحقاق للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في سورة البقرة [24] وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في سورة آل عمران
(22/169)
[31]، فنار عقاب عصاة المؤمنين نار مخالفة أو أنها أعدت للكافرين.
وإنما دخل فيها من أدخل من المؤمنين الذين ظلموا أنفسهم لاقترافهم الأعمال السيئة التي شأنها أن تكون للكافرين.
وقدم المجرور في: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} على المستند إليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن.
وجملة: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بدل اشتمال من جملة: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} ، والقضاء: حقيقته الحكم، ومنه قضاء الله حكمه وما أوجده في مخلوقاته. وقد يستعمل بمعنى أماته كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]. وهو هنا محتمل للحقيقة، أي لا يقدر الله موتهم، فقوله: {فَيَمُوتُوا} مسبب على القضاء.والمعنى: لا يقضي عليهم بالموت فيموتوا، ومحتمل للمجاز وهو الموت.وتفريع: {فَيَمُوتُوا} على هذا الوجه أنهم لا يموتون إلا الإماتة التي يتسبب عليها الموت الحقيقي الذي يزول عنده الإحساس، فيفيد أنهم يماتون موتا ليس فيه من الموت إلا آلامه دون راحته، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].
وضمير: {عَذَابِهَا} عائد إلى جهنم ليشمل ما ورد من أن المعذبين يعذبوهن بالنار ويعذبون بالزمهرير وهو شدة البرد وكل ذلك من عذاب جهنم.
ووقع: {كَذَلِكَ} موقع المفعول المطلق لقوله: {نَجْزِي} أي نجزيهم جزاء كذلك الجزاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} تذييل. والكفور: الشديد الكفر، وهو المشرك.
وقرأ الجمهور: {نَجْزِي} بنون العظمة ونصب: {كُلَّ} . وقرأه أبو عمرو وحده: {يُجْزَى} بياء الغائب والبناء للنائب ورفع: {كُلُّ}.
[37] {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [37]}.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
الضمير إلى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [فاطر: 36] والجملة عطف على جملة: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}
(22/170)
[فاطر: 36] ولا تجعل حالا لأن التذييل آذن بانتهاء الكلام وباستقبال كلام جديد.
و {يَصْطَرِخُونَ} مبالغة في "يصرخون" لأن افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد،فالصطراخ مبالغة فيه، أي يصيحون من شدة ما نابهم.
وجملة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} بيان لجملة: {يَصْطَرِخُونَ} ، يحسبون أن رفع الأصوات أقرب إلى علم الله بندائهم وإظهار عدم إطاقة ما هم فيه.
وقولهم: {نَعْمَلْ صَالِحاً} وعد بالتدارك لما فاتهم من الأعمال الصالحة ولكنها إنابة بعد أبانها.
ولإرادة الوعد جزم: {نَعْمَلْ صَالِحاً} في جواب الدعاء. والتقدير: إن تخرجنا نعمل صالحا.
و {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} نعت لـ {صَالِحاً} ، أي عملا مغايرا لما كنا نعمله في الدنيا وهذا ندامة على ما كانوا يعملونه لأنهم أيقنوا بفساد عملهم وضره فإن ذلك العالم عالم الحقائق.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.
الواو عاطفة فعل قول محذوفا لعلمه من السياق بحسب الضمير في {نُعَمِّرْكُمْ} معطوفا على جملة: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} فإن صراخهم كلام منهم، والتقدير: يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم.
والاستفهام تفريع للتوبيخ، وجعل التقرير على النفي توطئة لينكره المقرر حتى إذا قال: بلى علم أنه لم يسعه الإنكار إليه.
والتعمير: تطويل العمر. وقد تقدم غير مرة،منه عند قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96]له: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} في هذه السورة [11].
و {مَا} ظرفية مصدرية، أي زمان تعمير معمر.
وجملة: {يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} صفة لـ {مَا} ، أي زمانا كافيا بامتداده للتذكر والتبصير.
و {النَّذِيرُ} : الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
(22/171)
وجملة {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} عطف على جملة {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} لأن معناها الخبر فعطف عليها الخبر، على أن عطف الخبر على الإنشاء جائز على التحقيق وهو هنا حسن.
ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة.
والفاء في {فَذُوقُوا} للتفريع، وحذف مفعول "ذوقوا" لدلالة المقام عليه، أي ذوقوا العذاب.
والأمر في قوله: {فَذُوقُوا} مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب.
وقوله: {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} تفريع على ما سبق من الحكاية. فيجوز أن يكون من جملة الكلام الذي وبخهم الله به فهو تذييل له وتفريع عليه لتأييسهم من الخلاص يعني: فأين الذين زعمتم أنهم أولياؤكم ونصراؤكم فما لكم من نصير.
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال: فما لكم من نصير، إلى الاسم الظاهر بوصف {الظالمين} لإفادة سبب انتفاء النصير عنهم، ففي الكلام إيجاز، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير،فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين.
ويجوز أن يكون كلاما مستقلا مفرعا على القصة ذيلت بها للسامعين من قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36]، فليس فيه عدول عن الإضمار إلى الإظهار لأن المقصود إفادة شمول هذا الحكم لكل ظالم فيدخل الذين كفروا المتحدث عنهم في العموم.
والظلم: هو الاعتداء على حق صاحب حق، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفسية وهو الوحدانية، واعتداء المشرك على نفسه إذ أقحمها في العذاب قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وتعميم "الظالمين" وتعميم "النصير" يقتضي أن نصر الظالم تجاوز للحق، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير، إذ واجب الحكمة والحق أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها.
وفي هذا إبطال لخلق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم "انصر أخاك ظالما أو
(22/172)
مظلوما". وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثل حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال: "إذ كان ظالما تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه".
[38، 39] {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [38] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً [39]}.
جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} استئناف واصل بين جملة {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] وبين جملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ} [فاطر: 40] الآية، فتسلسلت معانيه فعاد إلى فذلكة الغرض السالف المنتقل عنه من قوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 25- 31]، فكانت جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كالتذييل لجملة {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} .
وفي هذا إيماء إلى أن الله يجازي كل ذي نية على حسب ما أضمره ليزداد النبيء صلى الله عليه وسلم يقينا بأن الله غير عالم بما يكنه المشركون.
وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مستأنفة هي كالنتيجة لجملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن ما في الصدور من الأمور المغيبة فيلزم من علم الله بغيب السماوات والأرض علمه بما في صدور الناس.
و"ذَاتِ الصُّدُورِ" ضمائر الناس ونياتهم، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال [43].
وجيء في الإخبار بعلم الله بالغيب بصيغة اسم الفاعل، وفي الإخبار بعلمه بذات الصدور بصيغة المبالغة لأن المقصود من إخبار المخاطبين تنبيههم على أنه كناية عن انتفاء أن يفوت علمه تعالى شيء. وذلك كناية عن الجزاء عليه فهي كناية رمزية.
وجملة {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} معترضة بين جملة {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية وبين جملة {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} .
والخلائف: جمع خليفة، وهو الذي يخاف غيره في أمر كان لذلك الغير، كما تقدم
(22/173)
عند قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة [30]، فيجوز أن يكون بعد أمم مضت كما في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} في سورة يونس [14] فيكون هذا بيانا لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ويكون ما صدق ضمير جماعة للمخاطبين شاملا للمؤمنين وغيرهم من الناس.
ويجوز أن يكون المعنى: هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض، كقوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، فيكون الكلام بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قدر أن يكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويظهر بذلك دين الإسلام على الدين كله.
والجملة الاسمية مفيدة تقوي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض.
وقد تفرع على قوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دوامهم على الكفر.
وجملة: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} بيان لجملة: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبين، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإخبار به فعطفت على الجملة المبينة بمضمونها تنبيها على ذلك الاستقلال، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف، أما ما تفيده من البيان فهو أمر لا يفوت لأنه تقتضيه نسبة معنى الجملة الثانية من معنى الجملة الأولى.
والمقت: البغض مع خزي وصغار، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} في سورة النساء [22]، أي يزيدهم مقت الله إياهم، ومقت الله مجاز عن لازمه وهو إمساك لطفه عنهم وجزاؤهم بأشد العقاب.
وتركيب جملة: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله فلما كفروا زادهم كفرهم مقتا عنده، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله. فتأويل
(22/174)
الآية: أنهم لما وصفوا بالكفر ابتداء ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتا علم أن المراد بكفرهم الثاني الدوام على الكفر يوما بعد يوم، وقد كان المشركون يتكبرون على المسلمين ويشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبلوا الإسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم وأنهم لا يفارقون دين آبائهم، ويحسبون ذلك مقتا منهم للمسلمين فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، يعني: ينادون في المحشر، وكذلك القول في معنى قوله: {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} .
والخسار: مصدر خسر مثل الخسارة، وهو: نقصان التجارة. واستعير لخيبة العمل، شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعا زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإفلاس، وقد تقدم ذلك في آيات كثيرة منها ما في سورة البقرة.
[40] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً [40]}.
لم يزل الكلام موجها لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما جرى ذكر المشركين وتعنتهم وحسبان أنهم مقتوا المسلمين عاد إلى الاحتجاج عليهم في بطلان إلهية آلهتهم بحجة أنها لا يوجد في الأرض شيء يدعى أنها خلقته، ولا في السماوات شيء لها فيه شرك مع الله فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاجهم ويوجه الخطاب إليهم بانتفاء صفة الإلهية عن أصنامهم، وذلك بعد أن نفى استحقاقها لعبادتهم بأنها لا ترزقهم كما في أول السورة، وبعد أن أثبت الله التصرف في مظاهر الأحداث الجوية والأرضية واختلاف أحوالها من قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9]، وذكرهم بخلقهم وخلق أصلهم وقال عقب ذلك {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فاطر: 13] الآية عاد إلى بطلان إلهية الأصنام.
وبنيت الحجة على مقدمة مشاهدة انتفاء خصائص الإلهية عن الأصنام، وهي خصوصية خلق الموجودات وانتفاء الحجة النقلية بطريقة الاستفهام التقريري في قوله: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} يعني: إن كنتم رأيتموهم فلا سبيل لكم إلا الإقرار بأنهم لم يخلقوا شيئاً.
(22/175)
والمستفهم عن رؤيته في مثل هذا التركيب في الاستعمال هو أحوال المرئي وإناطة البصر بها،أي أن أمر المستفهم عنه واضح باد لكل من يراه كقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1، 2] وقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] الخ.. والأكثر أن يكون ذلك توطئة لكلام يأتي بعده يكون هو كالدليل عليه أو الإيضاح له أو نحو ذلك، فيؤول معناه بما يتصل به من كلام بعده، ففي قوله هنا {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} تمهيد لأن يطلب منهم الإخبار عن شيء خلقه شركاؤهم فصار المراد من {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} انظروا ما تخبرونني به من أحوال خلقهم شيئا من الأرض، فحصل في قوله: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} إجمال فصله قوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} فتكون جملة {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا} بدلا من جملة {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} بدل اشتمال أو بدل مفصل من مجمل.
والمراد بالشركاء من زعموهم شركاء الله في الإلهية فلذلك أضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين، أي الشركاء عندكم، لظهور أن ليس المراد أن الأصنام شركاء مع المخاطبين بشيء فتمحضت الإضافة لمعنى مدعيكم شركاء لله.
والموصول والصلة في قوله: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} للتنبيه على الخطأ في تلك الدعوة كقول عبدة بن الطيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وقرينة التخطئة تعيقبه بقوله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} فإنه أمر للتعجيز إذ لا يستطيعون أن يروه شيئاً خلقته الأصنام، فيكون الأمر التعجيزي في قوة نفي أن خلقوا شيئا ما، كما كان الخبر في بيت عبدة الوارد بعد الصلة قرينة على كون الصلة للتنبيه على خطأ المخاطبين.
وفعل الرؤية قلبي بمعنى الأعلام والإنباء، أي أنبئوني شيئا مخلوقا للذين تدعون من دون الله في الأرض.
و {مَاذَا} كلمة مركبة من {مَا} الاستفهامية و {ذَا} التي بمعنى الذي حين تقع بعد اسم استفهام، وفعل الإرادة معلق عن العمل في المفعول الثاني والثالث بالاستفهام. والتقدير: أروني شيئا خلقوه مما في الأرض.
(22/176)
و {مِن} ابتدائية، أي شيئا ناشئا من الأرض، أو تبعيضية على أن المراد بالأرض ما عليها كإطلاق القرية على سكانها في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
و {أَمْ} منقطعة للإضراب الانتقالي، وهي تؤذن باستفهام بعدها. والمعنى: بل ألهم شرك في السماوات.
والشرك بكسر الشين: اسم للنصيب المشترك به في ملك شيء.
والمعنى: ألهم شرك مع الله في ملك السماوات وتصريف أحوالهما كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر.
ولما كان مقر الأصنام في الأرض كان من الراجح أن تتخيل للهم الأوهام تصرفا كاملا في الأرض فكأنهم آلهة أرضية، وقد كان مزاعم العرب واعتقاداتهم أفانين شي مختلطة من اعتقاد الصابئة ومن اعتقاد الفرس واعتقاد الروم فكانوا أشباها لهم فلذلك قيل لأشباههم في الإشراك {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} ، أي فكان تصرفهم في ذلك تصرف الخالقية، فأما السماوات فقلما يخطر ببال المشركين أن للأصنام تصرفا في شؤونها، ولعلهم لم يدعوا ذلك ولكن جاء قوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } مجيء تكملة الدليل على الفرض والاحتمال، كما يقال في آداب البحث "فإن قلتَ". وقد كانوا ينسبون للأصنام بنوة لله تعالى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23].
فمن أجل ذلك جيء في جانب الاستدلال على انتفاء تأثير الأصنام في العوالم السماوية بإبطال أن يكون لها شرك في السماوات لأنهم لا يدعون لها في مزاعمهم أكثر من ذلك.
ولما قضي حق البرهان العقلي على انتفاء إلهية الذين يدعون من دون الله تعالى المثبتة آلة دونه لأن الله اعلم بشركائه وأنداده لو كانوا، فقال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَاتٍ مِنْهُ} المعنى: بل آتيناهم كتابا فهم يتمكنون من حجة فيه تصرخ بإلهية هذه الآلهة المزعومة.
وقرأ نافع وأبن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم {عَلَى بَيِّنَاتٍ} بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب {عَلَى بَيِّنَةٍ} بصيغة الإفراد.
(22/177)
فأما قراءة الجمع فوجهها أن شأن الكتاب أن يشتمل على أحكام عديدة ومواعظ مكررة ليتقرر المراد من إيتاء الكتب من الآلة القاطعة بحيث لا تحتمل تأويلا ولا مبالغة ولا نحوها على حد قول علماء الأصول في دلالة الأخبار المتواترة دلالة قطعية، وإما قراءة الإفراد فالمراد منها جنس البينة الصادق بأفراد كثيرة.
ووصف البينات أو البينة بـ {مِنْهُ} لآلة على أن المراد وكون الكتاب المفروض إيتاؤه مشتملاً على حجة لهم تثبت إلهية الأصنام. وليس مطلق كتاب يؤتونه أمارة من الله على أنه بأنه راض منهم بما هم عليه كدلالة المعجزات على صدق الرسول، وليست الخوارق ناطقة بأنه صادق فأريد: أآتيانهم كتابا ناطقا مثل مال آتينا المسلمين القرآن.
ثم كر على كله الإبطال بواسطة {بَلْ} ، بأن ذلك كله منتصف وأنهم لا باعث لهم على مزاعمهم الباطلة إلا وعد بعضهم بعضا مواعيد كاذبة يغر بعضهم بها بعضاً.
والمراد بالذين يعدونهم رؤساء المشركين وقادتهم بالموعودين عامتهم ودهماؤهم، أو أريد أن كلا الفريقين واعد وموعود في الرؤساء وأئمة الكفر يعدون العامة نفع الأصنام وشفاعتها وتقريبها إلى الله ونصرها غرورا بالعامة تعد رؤساءها التصميم على الشرك قال تعالى: حكاية عنهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42].
و {إِنْ} نافية، والاستثناء مفرع عن جنس الوعد محذوفا.
وانتصب {غُرُوراً} على أنه صفة للمثنى المحذوف. والتقدير: إن يعد الظالمون بعضهم بعضا وعدا إلا وعدا غرورا.
والغرور تقدم معناه عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في آل عمران [196].
[41] {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [41]}.
انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيوم على السماوات والأرض لتبقيا موجودتين فهو الحافظ بقدرته نظام بقائها. وهذا الإمساك هو الذي يعبر عنه علم الهيئة بنظام الجاذبية بحيث لا يعتريه خلل.
(22/178)
وعبر عن ذلك الحفظ بالإمساك على طريقة التمثيل.
وحقيقة الإمساك: القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق، فمثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يمسكه الممسك بيده، ولما كان في الإمساك معنى المنع عدي إلى الزوال بـ {مِنْ} ، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع {أَنْ} و {أَنَّ} في الغالب لا، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} في سورة الحج [65]. ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، فالزوال المفروض أيضا مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما.
فالزوال يطلق على العدم، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء، وتقدم آخر سورة إبراهيم.
وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك فإن الله يمسكهما من أن يعدما، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما، كما قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]. فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضها قيض فيها لا طوارئ الخلل والفساد والخرق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يعلم مصيره إلا الله تعالى وحينئذ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء.
وفي هذا إيقاظ للبصائر لتعلم ذلك علما إجماليا وتتدبر في انتساق هذا النظام البديع.
فاللام موطئة للقسم. والشرط وجوابه مقسم عليه، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده، وجواب الشرط هو الجملة المنفية بـ {إِنْ} النافية وهي أيضا سادة مسد جواب القسم.
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض
(22/179)
لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل انه ممسكهما من الزوال.
وأسند فعل: {زَالَتَا} إلى: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على تأويل السماوات سماء واحدة. وأسند الزوال أليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} .
وجيء في نفس إمساك أحد بحرف {مِنْ} المؤكدة للنفي تنصيصا على عموم النكرة في سياق النفي، أي لا يستطيع أحد كائنا من كان إمساكهما وإرجاعهما.
و"من بعد" صفة {أَحَدٍ} و {مِنْ} ابتدائية،أي أحد ناشئ أو كائن من زمان بعده، لأن حقيقة "بعد" تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاف إليه "بعد" وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، أي غير الله فالضمير المضاف إليه "بعد" عائد إلى الله.
وهذا نظير استعمال "وراء" بمعنى "دون" أو بمعنى "غير" أيضا في قول النابغة:
وليس وراء الله للمرء مذهب
وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإطناب في محاجة المشركين وتفظيع غرورهم تعريض بأن ما يدعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفا لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً يَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم: 89، 90] وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها، وهو أيضا تعريض بالتهديد.
ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة بما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في الإمهال إعذارا للظالمين لعلهم يرجعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده". لما رأى ملك الجبال فقال له: "إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين".
وفعل {كَانَ} المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنتين.
[42، 43] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى
(22/180)
الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [42] اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [43]}.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [42] اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.
هذا شيء حكاه القرآن عن المشركين فهو حكاية قول صدر عنهم لا محالة،ولم يرو خبر عن السلف يعين صدور مقالتهم هذه، ولا قائلها سوى كلام أثر عن الضحاك هو أشبه بتفسير الضمير من {أَقْسَمُوا} ، وتفسير المراد {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ولم يقل إنه سبب نزول.
وقال كثير من المفسرين إن هذه المقالة صدرت عنهم قبل بعثة النبيء صلى الله عليه وسلم لما بلغهم أن اليهود والنصارى كذبوا الرسل.والذي يلوح لي: أن هذه المقالة صدرت عنهم في مجاري المحاورة أو المفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة، أو يقدمون هم عليهم في لا أسفارهم إلى يثرب أو إلى بلاد الشام، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى أتباع اليهودية أو النصرانية ويصغون الشرك في نفوسهم، فكان المشركون لا يجرأون على تكذيبهم لأنهم كانوا مرموقين عندهم بعين الوقار إذ كانوا يفضلونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلا إلى العرب ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم، كما قال تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157]. والأظهر أن يكون الداعون لهم هم النصارى لأن الدعاء إلى النصرانية من شعار أصحاب عيسى عليه السلام فإنهم يقولون: إن عيسى أوصاهم أن يرشدوا بني الإنسان إلى الحق وكانت الدعوة إلى النصرانية فأشبه في بلاد العرب أيام الجاهلية وتنصرت قبائل كثيرة مثل تغلب، ولخم، وكلب، ونجران، فكانت هذه الدعوة إن صح إيصاء عيسى عليه السلام بها دعوة إرشاد إلى التوحيد لا دعوة تشريع، فإذا ثبتت هذه الوصية فما آراها إلا توطئة لدين يجيء تعم دعوته سائر البشر، فكانت وصيته وسطا بين أحوال الرسل الماضين إذ كانت دعوتهم خاصة وبين حالة الرسالة المحمدية العامة لكافة الناس عزما.
(22/181)
أما اليهود فلم يكونوا يدعون الناس إلى اليهودية ولكنهم يقبلون من يتهود كما تهود عرب اليمن.
وأحسب أن الدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام، أو تشهير أنها لا تستحق العبادة، لا يخلو عنها علماء موحدون، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون بعض النصاح من أحبار يهود يثرب يعرض لقريش إذا مروا على يثرب بأنهم على ضلال من الشرك فيعتذرون بما في هذه الآية. وهي تساوق قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 155- 157].
فيتضح بهذا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من أخبار ضلال المشركين في شأن الربوبية وفي شأن الرسالة والتدين، وأن ما حكى فيها هو من ضلالاتهم ومجازفتهم.
والقسم بين أهل الجاهلية أكثره بالله، وقد يقسمون بالأصنام وبآبائهم وعمرهم.
والغالب في ذلك أن يقولوا: واللات والعزى، ولذلك جاء في الحديث: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" ، أي من جرى على لسانه ذلك جري الكلام الغالب وذلك في صدر انتشار الإسلام.
وجهد اليمين: أبلغها وأقواها. وأصله من الجهد وهو التعب، يقال: بلغ كذا مني الجهد، أي عملته حتى بلغ عمله مني تعبي، كناية عن شدة عزمه في العمل. فجهد الأيمان هنا كناية عن تأكيدها، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود [53]، وتقدم في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة النور.
وانتصب {جَهْدَ} على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأنه صفة لما كان حقه أن يكون مفعولاً مطلقا وهو {أَيْمَانِهِمْ} إذ هو جميع يمين وهو الحلف فهو مرادف لـ {أَقْسَمُوا} ، فتقديره: وأقسموا بالله قسما جهدا، وهو صفة بالمصدر أضيفت إلى موصوفها.
وجملة {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} الخ بيان لجملة {أَقْسَمُوا} كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 120] الآية.
(22/182)
وعبر عن الرسول بالنذير لأن مجادلة أهل الكتاب إياهم كانت مشتملة على تخويف وإنذار، ولذلك لم يقتصر على وصف النذير في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. وهذا يرجح أن تكون المجادلة جرت بينهم وبين بعض النصارى لأن الإنجيل معظمه نذارة.
و {إِحْدَى الْأُمَمِ} أمة من الأمم ذات الدين، فإن عنوا بها أمة معروفة: إما الأمة النصرانية، وإما الأمة اليهودية، أو الصابئة كان التعبير عنها بـ {إِحْدَى الْأُمَمِ} إبهاما لها يحتمل أن يكون إبهاما من كلام المقسمين تجنبا لمجابهة تلك الأمة بصريح التفضيل عليها، ويحتمل أن يكون إبهاما من كلام القرآن على عادة القرآن في الترفع عما لا فائدة في تعيينه إذ المقصود أنهم أشهدوا الله على أنهم إن جاءهم رسول يكونوا أسبق من غيرهم اهتداء فإذا هم لم يشمموا رائحة الاهتداء. ويحتمل أن يكون فريق من المشركين نظروا في قسمهم بهدي اليهود، وفريق نظروا بهدي النصارى، وفريق بهدي الصائبة، فجمعت عبارة القرآن ذلك بقوله: {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ليأتي على مقالة كل فريق مع الإيجاز.
وذكر في "الكشاف" وجها آخر أن يكون {إِحْدَى الْأُمَمِ} بمعنى أفضل الأمم، فيكون من تعبير المقسمين، أي أهدى من أفضل الأمم، ولكنه بناه على التنظير بما ليس له نظير، وهو قولهم "إحدى الإحد" بكسر الهمزة وفتح الحاء في الإحد ولا يتم التنظير لأن قولهم: "إحدى الإحد"، جرى مجرى المثل في استعظام الأمر في الشر أو الخير. وقرينة إرادة الاستعظام إضافة {إِحْدَى} إلى اسم من لفظها فلا يقتضي أنه معنى يراد في حالة تجرد "إحدى" عن الإضافة.
وبين: {أَهْدَى} و {إِحْدَى} الجناس المحرف.
وهذه الآية وغيرها وما يؤثر من تنصر بعض العرب ومن اتساع بعضهم في التحنف يدل على أنهم كانوا يعلمون رسالة الرسل، وأما ما حكي عنهم في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فذلك صدر منهم في الملاجة والمحاجة لما لزمتهم الحجة بأن الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا من البشر وكانت أحوالهم أحوال البشر مثل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] فلجأوا إلى إنكار أن يوحي الله إلى بشر شيئا.
وأما ما حكي عنهم هنا فهو شأنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
(22/183)
والنذير: المنذر بكلامه. فالمعنى: فلما جاءهم رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن جاءهم رسول قبله كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46] وهذا غير القسم المحكي في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109].
والزيادة: أصلها نماء وتوفر في ذوات. وقد يراد بها القوة في الصفات على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. ومن ثمة تطلق الزيادة أيضا على طرو حال على حال، أو تغيير حال إلى غيره كقوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ: 30].
وتطلق على ما يطرأ من الخير على الإنسان وإن لم يكن نوعه عنده من قبل كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، أي وعطاء يزيد في خيرهم.
ولما كان مجيء الرسول يقتضي تغيير أحوال المرسل إليهم إلى ما هو أحسن كان الظن بهم لما أقسموا قسمهم ذلك أنهم إذا جاءهم النذير اهتدوا وازدادوا من الخير أن كانوا على شأن من الخير فإن البشر لا يخلو من جانب من الخير قوي أو ضعيف فإذا بهم صاروا نافرين من الدين الذي جاءهم.
والاستثناء مفرع من مفعول {زَادَهُمْ} المحذوف، أي ما أفادهم صلاحاً وحالاً أو نحو ذلك إلا نفورا فيكون الاستثناء في قوله: {إِلَّا نُفُوراً} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنهم لم يكونوا نافرين من قبل.
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما أقسموا: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى} كان حالهم حال النفور من قبل دعوة النصارى إياهم إلى دينهم أو من الاتعاظ بمواعظ اليهود في تقبيح الشرك فأقسموا ذلك القسم تفصيا من المجادلة، وباعثهم عليه النفور من مفارقة الشرك، فلما جاءهم الرسول ما زادهم شيئاً وإنما زادهم نفورا، فالزيادة بمعنى التغيير والاستثناء تأكيد للشيء بما يشبه ضده. والنفور هو نفورهم السابق، فالمعنى لم يزدهم شيئا وحالهم هي هي.
وضمير {زَادَهُمْ} عائد إلى رسول أول إلى المجيء المأخوذ من {جَاءَهُمْ}. وإسناد الزيادة إليه على كلا الاعتبارين مجاز عقلي لأن الرسول أو مجيئه ليس هو يزيدهم ولكنه سبب تقوية نفورهم أو استمرار نفورهم.
و {اسْتِكْبَاراً} بدل اشتمال من {نُفُوراً} أو مفعول لأجله، لأن النفور في معنى
(22/184)
الفعل فصح إعماله في المفعول له. والتقدير:نفروا لأجل الاستكبار في الأرض.
والاستكبار: شدة التكبر، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب.
والأرض: موطن القوم كما في قوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88] أي بلدنا، فالتعريف في {الْأَرْضِ} للعهد. والمعنى: أنهم استكبروا في قومهم أن يتبعوا واحدا منهم.
و {مَكْرَ السَّيِّئِ} عطف على {اسْتِكْبَاراً} بالوجوه الثلاثة، وإضافة {مَكْرَ} إلى {السَّيِّئِ} من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل: عشاء الآخرة. وأصله: أن يمكروا المكر السيء بقرينة قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.
و {الْمَكْرُ} : إخفاء الأذى وهو سيئ لأنه من الغدر وهو مناف للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل: ومكروا سيئا ولم يرخص في المكر إلا في الحرب لأنها مدخول فيها على مثله أي مكرا بالنذير وأتباعه وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره.
وقد تبين كذبهم في قسمهم إذ قالوا "لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى منهم" وأنهم ما أرادوا به إلا التفصي من اللوم.
وجملة: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} تذييل أو موعظة. و {يَحِيقُ} : ينزل بشيء مكروه حاق به، أي نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله. وفيه حذف مضاف تقديره: ضر المكر السيء أو سوء المكر السيء كما دل عليه فعل {يَحِيقُ} ، فإن كان التعريف في {الْمَكْرُ} للجنس كان المراد بـ"أهله" كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا ادعائيا مبنيا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد
(22/185)
بكيد الآخر قبل أن يقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء، ولهذا قيل في المثل "وما ظالم إلا سيبلى بظالم". قال الشاعر:
لكل شيء آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المبرد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} " ، ومن كلام العرب: "من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا"، ومن كلام عامة أهل تونس: "يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك".
وإذا كان تعريف {الْمَكْر} تعريف العهد كان المعنى: ولا يحيق هذا المكر إلا بأهله، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفورا، فيكون موقع قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلى الله عليه وسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح،فيكون على نحو قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فالقصر حقيقي.
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية.
واعلم أن قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قد جعل في علم المعاني مثالا للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب. وأول من رأيته مثل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في "الإيضاح" وفي "تلخيص المفتاح"، وهو مما زاده على ما في "المفتاح" ولم يمثل صاحب "المفتاح" للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه.
وإذ قد صرح صاحب "المفتاح" "أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم" فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بله المعجز. ومن العجيب إقرار العلامة التفتزاني كلام صاحب "تلخيص المفتاح" وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه، فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيئ
(22/186)
بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريق الإيجاز.
وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير: ولا يحيق ضر المكر السيء إلا بأهله على أن في قوله: {بِأَهْلِهِ} إيجازا لأنه عوض عن أن يقال: بالذين تقلدوه. والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة.
وقرأ حمزة وحده {وَمَكْرَ السَّيِّئْ} بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
تفريع على جملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} الآية.
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} على الوجه الثاني في تعريف {الْمَكْر} وفي المراد بـ {بِأَهْلِهِ} ، أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرهم كذلك هؤلاء.
و {يَنْظُرُونَ} هنا من النظر بمعنى الانتظار. كقول ذي الرمة:
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر العطاش حيا الغمام
فقوله: "إلى" مفرد مضاف، وهو النعمة وجملة آلاء.
ومعنى الانتظار هنا: أنهم يستقبلون ما حل بالمكذبين قبلهم فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة.
والسُّنة: العادة: والأولون: هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم، بقرينة سياغ الكلام. و {سُنَّتَ} مفعول {يَنْظُرُونَ} وهو على حذف مضاف. تقديره: مثل أو قياس، وهذا كقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102].
والفاء في قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} فاء فصيحة لأن ما قبلها لما ذكر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطراد سنن الله تعالى في خلقه. والتقدير: إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلاً.
و {لَنْ} لتأكيد النفي.
(22/187)
والخطاب في {تَجِدَ} لغير معين فيعم كل مخاطب، وبذلك يتسنى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين.
والتبديل: تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} في سورة النساء [2].
والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى غيره، وكأنه مشتق من الحول وهو الجانب.
والمعنى: أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب، ولا يترك عقاب الجاني. وفي هذا المعنى قول الحكماء: ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف.
[44] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [44]}.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
عطف على جملة: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} [فاطر: 43] استدلالا على أن مساواتهم للأولين تنذر بأن سيحل بهم ما حل بأولئك من نوع من يشاهدونه من آثار استئصالهم في ديارهم.
وجملة: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} في موضع الحال، أي كان عاقبتهم الاضمحلال مع انهم اشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.
وجيء بهذا الحال في هذه الآية لما يفيد موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثارا للإيجاز لاقتراب ختم السورة. ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصف في قوله في سورة غافر [21]: {الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} ، وفي سورة الروم [9]: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} حيث أوثر فيها الإطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [44]}.
لما عرض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين تهديدا واستعدادا لتلقي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة ان لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم: أن لهم آلهة تمنعهم
(22/188)
من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها فقيل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ، أي هبكم أقوى من الأولين واشد حيلة منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم، فما انتم بمفلتين من عذاب الله لأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء كقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22]
وجيء بلام الجحود مع {كَانَ} المنفية لإفادة تأكيد نفي كل شيء يحول دون قدرة الله وإرادته، فهذه الجملة كالاحتراس.
ومعنى "يعجزه": يجعله عاجزا عن تحقيق مراده فيه فيفلت أحد عن مراد الله منه.
وجملة: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} تعليل لانتفاء شيء يغالب مراد الله بأن الله شديد العلم واسعه لا يخفي عليه شيء وبأنه شديد القدرة.
وقد حصر هذان الوصفان انتفاء أن يكون شيء يعجز الله لأن عجز المريد عن تحقيق إرادته: إما أن يكون سببه خفاء موضع تحقق الإرادة، وهذا ينافي إحاطة العلم، أو عدم استطاعة التمكن منه وهذا ينافي عموم القدرة.
[45] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [45]}.
تذكير لهم عن أن يغرهم تأخير المؤاخذة فيحسبوه عجزا أو رضى من الله بما هم فيه فهم الذين قالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فعلمهم أن لعذاب الله آجالا اقتضتها حكمه، فيها رعي مصالح أمم آخرين، أو استبقاء أجيال آتين. فالمراد بـ {النَّاس} مجموع الأمة، وضمير "ما كسبوا" وضمير {يُؤَخِّرُهُمْ} عائد إلى {أَجَلٍ} .
ونظير هذه الآية تقدم في سورة النحل إلى قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} إلا أن هذه الآية جاء فيها {بِمَا كَسَبُوا} وهنالك جاء فيها {بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] لأن ما كسبوا يعم الظلم وغيره. وأوثر في سورة النحل {بِظُلْمِهِمْ} لأنها جاءت عقب تشنيع ظلم عظيم من ظلمهم وهو ظلم بناتهم الموؤدات وإلا أن هنالك قال {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} وهنا {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} وهو تفنن تبعه المعري في قوله:
(22/189)
وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
والضمير للأرض هنا وهناك في البيت لأنها معلومة من المقام. والظهر: حقيقته متن الدابة الذي يظهر منها، وهو ما يعلو الصلب من الجسد وهو مقابل البطن فأطلق على ظهر الإنسان أيضا وإن كان غير ظاهر لأن الذي يظهر من الإنسان صدره وبطنه. وظهر الأرض مستعار لبسطها الذي يستقر عليه مخلوقات الأرض تشبيها للأرض بالدابة المركوبة على طريقة المكنية. ثم شاع ذلك فصار من الحقيقة.
فأما قوله هنا {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} ، وقد قال هنالك {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] ، فما هنا إيماء هي الحكمة في تأخيرهم إلى أجل مسمى. والتقدير: فإذا جاء أجلهم أخذهم بما كسبوا فإن الله كان بعباده بصيرا، أي عليما في حالي التأخير ومجيء الأجل، ولهذا فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} دليل جواب "إِذَا" وليس هو جوابها، ولذلك كان حقيقا بقرنه بفاء التسبب، وأما ما في سورة النحل فهو الجواب وهو تهديد بأنه إذا جاء أجلهم وقع بهم العذاب دون إمهال.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} هو أيضا جواب عن سؤال مقدر أن يقال: ماذا جنت الدواب حتى يستأصلها الله بسبب ما كسب الناس، وكيف يهلك كل من على الأرض وفيهم المؤمنون والصالحون، فأفيد أن الله اعلم بعدله. فأما الدواب فإنها مخلوقة لأجل الإنسان كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، فإهلاكها قد يكون إنذارا للناس لعلهم يقلعون عن إجرامهم، وأما حال المؤمنين في حين إهلاك الكفار فالله أعلم بهم فلعل الله أن يجعل لهم طريقا إلى النجاة كما نجى هودا ومن معه، ولعله إن أهلكهم أن يعوض لهم حسن الدار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم يحشرون على نياتهم".
(22/190)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يس
سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا يس على موتاكم" . وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف "قلب القرآن" لوصفها في قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس" ، رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنونها "سورة حبيب النجار" وهو صاحب القصة {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي "سورة التين" عنونها "سورة الزيتون".
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال: "إلا أن فرقة قالت قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "ديارَكم تُكتبُ آثارُكم" . وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة" اهـ.
وفي الصحيح أن النبيء صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده
(22/191)
الجعبري، نزلت بعد سورة {قُلْ أُوحِيَ} وقبل سورة الفرقان.
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" . قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي: حديثها ضعيف.
أغراض هذه السورة
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد
(22/192)
أخرى.
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.
ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.
ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.
ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.
والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.
وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.
وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباع دعاة الخير.
ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى "قلب القرآن" لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.
قال الغزالي: إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه
(22/193)
السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.
[1] {يس [1]}.
القول فيه كالقول في الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي، وفيه عن ابن عباس أنه: يا إنسان، بلسان الحبشة. وعنه أنها كذلك بلغة طيء. ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.
ومن الناس من يدعي أن يس أسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وبني عليه إسماعيل ابن بكر الحميري شاعر الرافضة المشهورة عندهم بالسيد الحميري قوله:
يا نفس لاتمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات [130] {سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ} فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من قال: إن يس اختزال: يا سيد، خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ويوهنه نطق القرآن بها بنون.
ومن الناس من يسمي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية ومنهم الشيخ يس بن زيد الدين العلمي الحمصي المتوفى سنة 1061 صاحب التعاليق القيمة فإنما يكتب اسمه بحسب ما ينطق به لا بحروف التهجي وإن كان الناس يغفلون فيكتبونه بحرفين كما يكتب أول هذه السورة.
قال ابن العربي قال أشهب: سألت مالكا هل ينبغي لأحد أن يسمي يس? قال: ما أراه ينبغي لقول الله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2] يقول هذا: اسمي يس. قال ابن العربي: وهو كلام بديع لأن العبد لا يجوز أن يسمي باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله: عالم وقادر، وإنما منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يدري معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد فيقدم على خطر فاقتضى النظر رفعه عنه اهـ. وفيه نظر.
والنطق باسم "يا" بدون مد تخفيف كما في كهيعص.
(22/194)
[2- 4] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [2] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [3] عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [4]}.
القسم بالقرآن كناية عن شرف قدره وتعظيمه عند الله تعالى، وذلك هو المقصود من الآيات الأول من هذه السورة. والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر مع ذلك التنويه.
و {الْقُرْآنِ} : علَم بالغلبة على الكتاب الموحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من وقت مبعثه إلى وفاته للإعجاز والتشريع، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} في سورة يونس [61].
و {الْحَكِيمِ} : يجوز أن يكون بمعنى المحكم بفتح الكاف، أي المجعول ذا إحكام والإحكام: الإتقان بماهية الشيء فيما يراد منه.
ويجوز أن يكون بمعنى صاحب الحكمة، ووصفه بذلك مجاز عقلي لأنه محتو عليها.
وجملة: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم، وتأكيد هذا الخبر بالقسم وحرف التأكيد ولام الابتداء باعتبار كونه مرادا به التعريض بالمشركين الذين كذبوا بالرسالة فهو تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بالمشركين، فالتأكيد بالنسبة إليه زيادة تقرير وبالنسبة للمعنى الكنائي لرد إنكارهم، والنكت لا تتزاحم.
{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان لـ"إِنَّ"، أو حال من اسم "إِنَّ". والمقصود منه: الإيقاظ إلى عظمة شريعته بعد إثبات أنه مرسل كغيره من الرسل.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن كما تقدم في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]. وليس الغرض من الإخبار به عن المخاطب إفادة كونه على صراط مستقيم لأن ذلك معلوم حصوله من الأخبار من كونه أحد المرسلين فقد علم أن المراد من المرسلين المرسلون من عند الله، ولكن الغرض الجمع بين حال الرسول عليه الصلاة والسلام وبين حال دينه ليكون العلم بأن دينه صراط مستقيم علما مستقلا لا ضمنيا.
والصراط المستقيم: الهدى الموصل إلى الفوز في الآخرة، وهو الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، والخلق الذي لقنه الله، شبه بطريق مستقيم لا اعوجاج فيه في أنه موثوق به في الإيصال إلى المقصود دون أن يتردد السائر فيه.
(22/195)
فالإسلام فيه الهدى في الحياتين فمتبعه كالسائر في صراط مستقيم لا حيرة في سيره تعتريه حتى يبلغ المكان المراد.
والقرآن حاوي الدين فكان القرآن من الصراط المستقيم.
وتنكير {صِرَاطٍ} للتوصل إلى تعظيمه.
[5، 6] {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [5] لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [6]}.
راجع إلى {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] إذ هو المنزل من عند الله، فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به، وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله. وذلك أنهم إذا أجروا حديثا على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصولي، أو عبد الله بن الزبير الأسدي أو محمد بن سعيد الكاتب، وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلت
تقديره: هو فتى.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب {تَنْزِيلَ} على تقدير: أعني. والمعنى: أعني من قسمي قرآنا نزلته، وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع.
والتنزيل: مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلا.
وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} لأن ما أشتمل عليه القرآن لا يعدو أن يكون من آثار عزة الله تعالى، وهو ما فيه من حمل الناس على الحق وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإنذار والوعيد على العصيان والكفران.
وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نصب الأدلة وتقريب البعيد وكشف
(22/196)
الحقائق للناظرين، مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى، وذلك هو ما ورد بيانه بعد إجمالا من قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، ثم تفصيلا بقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وبقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]
فاللام في {لِتُنْذِرَ} متعلقة بـ {تَنْزِيلَ} وهي لام التعليل تعليلا لإنزال القرآن.
واقتصر على الإنذار لأن أول ما ابتدئ به القوم من التبليغ إنذارهم جميعا بما تضمنته أول سورة نزلت من قوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] الآية. وما تضمنته سورة المدثر لأن القوم جميعا كانوا على حالة لا ترضي الله تعالى فكان حالهم يقتضي الإنذار ليسرعوا إلى الإقلاع عما هم فيه مرتبكون.
والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم: إما العرب العدنانيون فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيرا، وإنما يبتدأ عد آبائهم من جدهم الأعلى في عمود نسبهم الذين تميزوا به جدما وهو عدنان، لأنه جذم العرب المستعربة، أو أريد أهل مكة. وإنما باشر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإسلام ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعون الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوته وتأييده. فانضم إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصارا ثم تتابع إيمان قبائل العرب.
وفرع عليه قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فتسبب على عدم إنذار آبائهم أنهم متصفون بالغفلة وصفا ثابتا، أي فهم غافلون عما تأتي به الرسل والشرائع فهم في جهالة وغواية إذ تراكمت الضلالات فيهم عاما فعاما وجيلا فجيلا.
فهذه الحالة تشمل جميع من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سواء من آمن بعد ومن لم يؤمن.
والغفلة: صريحها الذهول عن شيء وعدم تذكره، وهي هنا كناية عن الإهمال والإعراض عما يحق التنبيه إليه كقول النابغة:
يقول أناس يجهلون خليقتي ... لعل زيادا لا أبا لك غافل
[7] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [7]}.
هذا تفصيل لحال القوم الذين أرسل محمد صلى الله عليه وسلم لينذرهم، فهم قسمان: قسم لم تنفع
(22/197)
فيه النذارة، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة. وبين أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب، أي علم الله أنهم لا يؤمنون بما جبل عليه عقولهم من النفور عن الخير، فحقق في علمه وكتب أنهم لا يؤمنون، فالفاء لتفريع انتفاء إيمان أكثرهم على القول الذي حق على أكثرهم.
و {حَقَّ} : بمعنى ثبت ووقع فلا يقبل نقضا. و {الْقَوْلُ} : مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي، أو مما أوحى الله به إلى رسله.
والتعريف في {الْقَوْل} تعريف الجنس، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه.
والتقدير: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون.
[8] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [8]}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على ما تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلا.
والجعل: تكوين الشيء، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، فيجوز أن يكون تمثيلا بأن شبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين، أي الرافعين رؤوسهم الغاضين أبصارهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية.
وذكر {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطئ رأسه وجعه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة.
وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأغلال، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإنصاف بالإقماح.
فالفاء في قوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} عطف على جملة {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ
(22/198)
أَغْلالاً} ، أي جعلنا أغلالاً، أي فأبلغنا إلى الأذقان.
والجعل: هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة.
والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقر ليمنع الغل من الانحلال والتفلت، وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} في سورة الرعد [5].
والفاء في قوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} تفريع على جملة {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} .
والمقمح: بصيغة اسم المفعول المجعول قامحاً، أي رافعاً رأسه ناظراً إلى فوقه يقال: قمحه الغل، إذ جعل رأسه مرفوعا وغض بصره، فمدلوله مركب من شيئين. والأذقان: جمع ذقن بالتحريك، وهو مجتمع اللحين. وتقدم في الإسراء.
ويجوز أن يكون قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} الخ وعيدا بما سيحل بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} في سورة غافر [71، 72]، فيكون فعل {جَعَلْنَا} مستقبلا وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، أي سنجعل في أعناقهم أغلالا.
[9] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً}.
هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملا بان فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه، فمثلت حالهم بحالة من جعلوا بين سدين، أي جدارين: سدا أمامهم، وسدا خلفهم، فلو راموا تحولا عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ} [يس: 67]، وقول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
(22/199)
وقد صرخ بذلك في قول...:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت على الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد
وتقدم السد في سورة الكهف.
وفي "مفاتيح الغيب": مانع الإيمان: إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجا عنها. ولهم المانعان جميعا: أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53].
وإعادة فعل {وَجَعَلْنَا} على الوجه الأول في معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} [يس: 8] الآية تأكيد لهذا الجعل، وأما على الوجه الثاني في معنى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} فإعادة فعل: {وَجَعَلْنَا} لأنه جعل حاصل في الدنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: {سُدّاً} بالضم وهو اسم الجدار الذي يسد بين داخل وخارج.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يسد به.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
تفريع على كلا المفعولين {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} و {جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} لأن في كلا الفعلين مانعا من أحوال النظر.
وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانيا على تمثيلهم بمن جعلوا بين سدين من عدم استطاعة التحول عما هم عليه.
والإغشاء: وضع الغشاء. وهو ما يغطى الشيء. والمراد: أغشينا أبصارهم، ففي الكلام حذف مضاف دل عليه السياق وأكده التفريع بقوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوي الحكم، أي تحقيق عدم إبصارهم.
[10] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [10]}.
(22/200)
عطف على جملة: {لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، أي إنذارك وعدمه سواء بالنسبة إليهم، فحرف "عَلَى" معناه الاستعلاء المجازي وهو هنا للملابسة، متعلق بـ {سَوَاءٌ} الدال على معنى "استوى"، وتقدم نظيرها في أول سورة البقرة.
وهمزة التسوية أصلها الاستفهام ثم استعملت في التسوية على سبيل المجاز المرسل، وشاع ذلك حتى عدت التسوية من معاني الهمزة لكثرة استعمالها في ذلك مع كلمة سواء وهي تفيد المصدرية. ولما استعملت الهمزة في معنى التسوية استعملت {أَمْ} في معنى الواو، وقد جاء على الاستعمال الحقيقي قول بثينة:
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
وجملة {لا يُؤْمِنُونَ} مبينة استواء الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم.
[11] {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [11]}.
لما تضمن قوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [يس: 10] أن الإنذار في جانب الذين حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون هو وعدمه سواء وكان ذلك قد يوهم انتفاء الجدوى من الغير وبعض من فضل أهل الإيمان أعقب ببيان جدوى الإنذار بالنسبة لمن اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب.
و {الذِّكْر} : القرآن.
والاتباع: حقيقته الانتفاء والسير وراء سائر، وهو هنا مستعار للإقبال على الشيء والعناية به لأن المتبع شيئا يعتني باقتفائه، فاتباع الذكر تصديقه والإيمان بما فيه لأن التدبر فيه يفضي إلى العمل به، كما ورد في قصة إيمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه وجد لوحا فيه سورة طه عند أخته فأخذ يقرأ ويتدبر فآمن.
وكان المشركون يعرضون عن سماع القرآن ويصدون الناس عن سماعه، ويبين ذلك ما في قصة عبد الله بن أبي بن سلول في مبدأ حلول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس عبد الله بن أبي فنزل فسلم وتلا عليهم القرآن حتى إذا فرغ قال عبد الله بن أبي: "يا هذا أنه أحسن من حديثك إن كان حقا، فأجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه ومن لم يأتك فلا تغته به". ولما الإقبال على سماع القرآن مفضيا إلى
(22/201)
الإيمان بما فيه لأنه يداخل القلب كما قال الوليد بن المغيرة: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمتمر" . أتبعت صلة {اتَّبَعَ الذِّكْرَ} بجملة {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} ، فكان المراد من اتباع الذكر أكمل أنواعه الذي لا يعقبه إعراض فهو مؤد إلى امتثال المتبعين ما يدعوهم إليه.
وخشية الرحمان: تقواه في خويصة أنفسهم، وهؤلاء هم المؤمنون تنويها بشأنهم وبشأن الإنذار، فهذا قسيم قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وهو بقية تفصيل قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً} [يس: 6]. والغرض تقوية دعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في الإنذار، والثناء على الذين قبلوا نذارته فآمنوا.
فمعنى فعل {تُنْذِرُ} هو الإنذار المترتب عليه أثره من الخشية والامتثال، كأنه قيل: إنما تنذر فينتذر من اتبع الذكر، أي من ذلك شأنهم لأنهم آمنوا ويتقون.
والتعبير بفعل المضي للدلالة على تحقيق الاتباع والخشية. والمراد: ابتداء الاتباع.
ثم فرع على هذا التنويه الأمر بتبشير هؤلاء بمغفرة ما كان في زمن الجاهلية وما يقترفون من اللمم.
والجمع بين {تُنْذِرُ} و"بشر" فيه محسن الطباق، مع بيان أن أول أمرهم الإنذار وعاقبته التبشير.
والأجر: الثواب على الإيمان والطاعات، ووصفه بالكريم لأنه الأفضل في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
والتعبير بوصف {الرَّحْمَنَ} دون اسم الجلالة لوجهين: أحدهما: أن المشركين كانوا ينكرون اسم الرحمن، كما قال تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]. والثاني: الإشارة إلى رحمته لا تقتضي عدم خشيته فالمؤمن يخشى الله مع علمه برحمته فهو يرجو الرحمة.
فالقصر المستفاد من قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} وهو قصر الإنذار على التعلق بـ {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} وخشي الله هو بالتأويل الذي تؤول به معنى فعل {تُنْذِرُ} ، أي حصول فائدة الإنذار يكون قصرا حقيقياً، وإن أبيت إلا إبقاء فعل {تُنْذِرُ} على ظاهر استعمال الأفعال وهو الدلالة على وقوع مصادرها فالقصر ادعائي بتنزيل إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا منزلة عدم الإنذار في انتفاء فائدته.
(22/202)
[12] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [12]}.
لما اقتضى القصر في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11] نفي أن يتعلق الإنذار بالذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا الرحمان، وكان في ذلك كناية تعريضية بأن الذين لم ينتفعوا بالإنذار بمنزلة الأموات لعدم انتفاعهم بما ينفع كل عاقل، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس: 70] وكما قال {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] استطرد عقب ذلك بالتخلص إلى إثبات البعث فإن التوفيق الذي حف بمن اتبع الذكر وخشي الرحمان هو كإحياء الميت لن حالة الشرك حالة ضلال يشبه الموت، والإخراج منه كإحياء الميت، فهذه الآية اشتملت بصريحتها على علم بتحقيق البعث واشتملت بتعريضها على رمز واستعارتين ضمنيتين: استعارة الموتى للمشركين، واستعارة الأحياء للإنقاذ من الشرك، والقرينة هي الانتقال من كلام إلى كلام لما يومئ إليه الانتقال من سبق الحضور في المخيلة فيشمل المتكلم مما كان يتكلم في شأنه إلى الكلام فيما خطر له. وهذه الدلالات من مستتبعات المقام وليست من لوازم معنى التركيب. وهذا من أدق التخلص بحرف "إِنَّ" لأن المناسبة بين المنتقل منه والمنتقل إليه تحتاج إلى فطنة، وهذا مقام خطاب الذكي المذكور في مقدمة علم المعاني.
فيكون موقع جملة "إنا نحيي الموتى" استئنافا ابتدائيا لقصد إنذار الذين لم يتبعوا الذكر، ولم يخشوا الرحمان، وهم الذين اقتضاهم جانب النفي في صيغة القصر.
ويجوز ان يكون الإحياء مستعارا للإنقاذ من الشرك، والموتى: استعارة لأهل الشرك، فإحياء الموتى توفيق من آمن من الناس إلى الإيمان كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] الآية.
فتكون الجملة امتنانا على المؤمنين بتيسير الإيمان لهم، قال تعالى: {فمن فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] وموقع الجملة لقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11].
والمراد بكتابة ما قدموا الكناية عن الوعد بالثواب على أعمالهم الصالحة والثواب على آثارهم.
(22/203)
وهذا الاعتبار يناسب الاستئناف الابتدائي ليكون الانتقال بابتداء كلام منبها السامع إلى ما اعتبره المتكلم في مطاوي كلامه.
والتأكيد بحرف "إِنَّ" منظور فيه إلى المعنى الصريح كما هو الشأن، و {نَحْنُ} ضمير فصل لا للتقوية وهو زيادة تأكيد. والمعنى: نحييهم للجزاء، فلذلك عطف {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ، أي نحصى لهم أعمالهم من خير وشر قدموها في الدنيا لنجازيهم.
وعطف ذلك إدماج للإنذار والتهديد بأنهم محاسبون على أعمالهم ومجازون عليها.
والكناية: كناية عن الإحصاء وعدم غفلات شيء من أعمالهم أو إغفاله. وهي ما يعبر عنه بصحائف الأعمال التي يسجلها الكرام الكاتبون.
فالمرد بـ {مَا قَدَّمُوا} ما عملوا من العمال قبل الموت، شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة كما يقدم المسافر ثقله وأحماله.
وأما الآثار فهي آثار الأعمال وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته بـ {مَا قَدَّمُوا} مثل ما يتركون من خير أو يثير بين الناس وفي النفوس.
والمقصود بذلك ما علموه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها وآثارهم كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أعمالهم شيئا".
فالآثار مسببات أسباب عملوا بها. وليس المراد كتابة كل ما عملوه لأن ذلك لا تحصل منه فائدة دينية يترتب عليها الجزاء. فهذا وعد ووعيد كل يأخذ بحظه منه.
وقد ورد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا: البقاع خالية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" . مرتين رواه مسلم. ويعني آثار أرجلهم في المشي إلى صلاة الجماعة.
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد زاد: أنه قرأ عليهم: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فجعل الآثار عاما للحسية والمعنوية، وهذا يلاقي الوجه الثاني في موقع جملة: {إِنَّا نَحْنُ
(22/204)
نُحْيِ الْمَوْتَى}. وهو جار على ما أسسناه في المقدمة التاسعة. وتوهم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه ومكيتها تنافيه.
والإحصاء: حقيقته العد والحساب وهو هنا كناية عن الإحاطة والضبط وعدم تخلف شيء عن الذكر والتعيين لأن الإحصاء والحساب يستلزم أن لا يفوت واحد من المحسوبات.
والإمام: ما يؤم به في الاقتداء على حسب ما يدل عليه، قال النابغة:
بنو مجد الحياة على إمام
أطلق الإمام على الكتاب لأن الكتاب يتبع ما فيه من الأخبار والشروط، قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ... قض ما في المهارق الأهواء
والمراد {وَكُلَّ شَيْءٍ} بحسب الظاهر هو كل شيء من أعمال الناس كما دل عليه السياق، فذكر {وَكُلَّ شَيْءٍ} لإفادة الإحاطة والعموم لما قدموا وآثارهم من كبيرة وصغيرة. فكلمة {كُلّ} نص على العموم من اسم الموصول ومن الجمع المعرف بالإضافة، فتكون جملة {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} مؤكد لجملة {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} ، ومبينة لمجملها، ويكون عطفها دون فصلها مراعى فيه ما اشتملت عليه من زيادة الفائدة.
ويجوز أن يكون المراد بـ {كُلّ شَيْءٍ} كل ما يوجد من الذوات والأعمال، ويكون الإحصاء إحصاء علم، أي تعلق العلم بالمعلومات عند حدوثها، ويكون الإمام المبين علم الله تعالى. والظرفية ظرفية إحاطة، أي عدم تفلت شيء عن علمه كما لا ينفلت المظروف عن الظرف.
وجعل علم الله إماما لأنه تجري على وفقه تعلقات الإرادة الربانية والقدرة فتكون جملة {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} على هذا تذيلا مفيدا أن الكتابة لا تختص بأعمال الناس الجارية على وفق التكاليف أو ضدها بل تع جميع الكائنات. وإذ قد كان الشيء يرادف الموجود جاز أن يراد بـ {كُلّ شَيْءٍ} الموجود بالفعل أو ما قبل الإيجاد وهو الممكن، فيكون إحصاؤه هو العلم بأنه يكون أو لا يكون ومقادير كونه وأحواله، كقوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن: 28].
(22/205)
[13، 14] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [13] إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [14]}.
أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدى القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل، ومنه: ضرب ختمه. وضربت بيتا، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
والمعنى: اجعل أصحاب القرية المرسلين إليهم شبها لأهل مكة وإرسالك إليهم.
و {لَهُمْ} يجوز أن يتعلق بـ {اضْرِبْ} أي اضرب مثلا لأجلهم، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28]. ويجوز أن يكون {لَهُمْ} صفة لـ"مثَل"، أي اضرب شبيها لهم كقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74].
والمثل: الشبيه، فقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} معناه ونظر مثلا، أي شبه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جعل {مَثَلاً} مفعولا لـ {اضْرِبْ} ، أي نظر حالهم بمشابهه فيها فحصل الاختلاف بين {اضْرِبْ} و {مَثَلاً} بالاعتبار. وانتصب {مَثَلاً} على الحال.
وانتصب {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} على البيان لـ {مَثَلاً} ، أو بدل، ويجوز أن يكون مفعولا أول لـ {اضْرِبْ} و {مَثَلاً} مفعولا ثانيا كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} [النحل: 112].
والمعنى: أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم.
و {الْقَرْيَةِ} ، قال المفسرون عن ابن عباس هي "أنطاكية" وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان.
والمرسلون إليها قال قتادة: هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رفع عيسى. وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك.
وتحقيق القصة: أن عيسى عليه السلام لم يدع بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإلهية إكماله من شريعة التوارة، ولكن
(22/206)
عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام. وكان ذلك في حدود سنة أربعين مولد عيسى عليه السلام.
ووقعت اختلاف للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل إنطاكية وتحريفات في الأسماء، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمل الرسل من كتب العهد الجديد1 أن "برنابا" و"شاول" المدعو "بولس" من تلاميذ الحواريين ووصفا بأنهما من الأنبياء، كانا في إنطاكية مرسلين للتعليم، وأنهما عُززا بالتلميذ2 "سيلا". وذكر المفسرين أن الثالث هو "شمعون"، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بولس وبرنابا عززا بسمعان. ووقع في الإصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبي في أنطاكية اسمه "سمعان".
والمكذبون هم من كانوا سكانا بإنطاكية من اليهود واليونان، وليس في أعمال الرسل سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين والمرسل إليهم، فذكر أن كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم، حتى اضطر "بولس وبرنابا" إلى ان خرجا من إنطاكية وقصدا ايقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن، وأن أحبار النصارى في تبلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى إنطاكية. وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أوشلين أن يؤدهما برجلين من الأنبياء هما "برسابا" و"سيلا". فأما "برسابا" فلم يمكث. وأما "سيلا" فبقي مع "بولس وبرنابا" يعظون الناس. ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحاب هم من الحواريين. فهذا معنى قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله.
والتعزيز: التقوية وفي هذه المادة معنى جعل المقوى عزيزا فالأحسن أن التعزيز هو النصر.
ـــــــ
1 "الإصحاح" 13، أعمال الرسل 1- 9.
2 "الإصحاح" 15، أعمال الرسل 34- 35.
(22/207)
وقرأ أبو بكر عن عاصم {فَعَزَزْنَا} بتخفيف الزاي الأول، وفعل عز بمعنى يحيى مرادفا لعزز كما قالوا شد وشدد. وقرأ الباقون بتشديد الزاي.
وتأكيد قولهم: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا، ويسمى هذا ضربا طلبيا.
وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.
[15] {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [15]}.
كان أهل "أنطاكية" والمدن المجاورة لها خليطا من اليهود وعبدة الأصنام من اليونان، فقول: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} صالح لأن يصدر من عبدة الأوثان وهو ظاهر لظنهم أن الآلهة لا تبعث الرسل ولا توحي إلى أحد، ولذلك جاء في سفر أعمال الرسل1 أن بعض اليونان من أهل مدينة "لسترة" رأوا معجزة من بولس النبي فقالوا بلسان يوناني: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون "برنابا" "زفس". أي كوكب المشتري، و"بولس" "هرمس" أي كوكب عطارد وجاءهما كاهن "زفس" بثيران ليذبحها لهما، وأكاليل ليضعها عليهما، فلما رأى ذلك "بولس وبرنابا" مزقا ثيابهما وصرخا: "نحن بشر مثلكم نعظكم أن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماوات والأرض" الخ.
وصالح لأن يصدر من اليهود الذين لم ينتصروا لأن ذلك القول يقتضي أنهما وبقية اليهود سواء وأن لا فضل لهما بما يزعمون من النبوة ويقتضي إنكار أن يكون الله أنزل شيئا، أي بعد التوراة. فمن إعجاز القرآن جمع مقالة الفريقين في هاتين الجملتين.
واختيار وصف {الرَّحْمَنُ} في حكاية قول الكفرة {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} لكونه صالحا لعقيدة الفريقين لأن اليونان لا يعرفون اسم الله، ورب الأرباب عندهم هو "زفس" وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم الله الذي هو في لغتهم "يهوه" فيعوضونه بالصفات.
ـــــــ
1 انظر "الإصحاح" 14.
(22/208)
والاستثناء في {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} استفهام مفرغ من أخبار محذوفة فجملة {تَكْذِبُونَ} في موضع الخبر عن ضمير {أَنْتُمْ}.
[16، 17] {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [16] وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [17]}.
حكيت هذه المحاورة على سنن حكاية المحاورات بحكاية أقوال المتحاورين دون عطف.
و {رَبُّنَا يَعْلَمُ} قسم لأنه استشهاد بالله على صدق مقالتهم، وهو يمين قديمة انتقلها العرب في الجاهلية فقال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني لحرها اليوم صالي
ويظهر أنه كان مغلظا عندهم لقلة وروده في كلامهم ولا يكاد يقع إلا في مقام مهم. وهو عند علماء المسلمين يمين كسائر الأيمان فيها كفارة عند الحنث. وقال بعض علماء الحنفية: إن لهم قولا بأن الحالف به كاذبا تلزمه الردة لأنه نسب إلى علم الله ما هو مخالف للواقع، فآل إلى جعل علم الله جهلا. وهذا يرمي إلى التغليظ والتحذير وإلا فكيف يكفر أحد بلوازم بعيدة.
واضطرهم إلى شدة التوكيد بالقسم ما رأوا من تصميم كثير من أهل القرية على تكذيبهم. ويسمى هذا المقدار من التأكيد ضربا إنكاريا.
وأما قولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فذلك وعظ وعظوا به القوم ليعلموا أنهم لا منفعة تنجر لهم من إيمان القوم وإعلان لهم بالتبرؤ من عهدة بقاء القوم على الشرك وذلك من شأنه أن يثير النظر الفكري في نفوس القوم.
و {الْبَلاغُ} : اسم مصدر من أبلغ إذا أوصل خبرا، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وقال {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم : 52]. ولا يستعمل البلاغ في إيصال الذوات. والفقهاء يقولون في كراء السفن والرواحل: إن منه ما هو على البلاغ. يريدون على الوصول إلى مكان معين بين المكري والمكتري.
و {الْمُبِينُ} : وصف للبلاغ، أي البلاغ الواضح دلالة وهو الذي لا إيهام فيه ولا مواربة.
(22/209)
[18] {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [18]}.
لما غلبتهم الحجة من كل جان وبلغ قول الرسل {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعا للرسل بترك دعوتهم ظنا منهم أن ما يدعونه شيء خفي لا قبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه، وذلك بأن زعموا أنهم تطيروا بهم ولحقهم منهم شؤم، ولا بد للمغلوب من بارد العذر.
والتطير في الأصل تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يتوهم منه أحد أنه كان سببا في لحاق شر به فصار مرادفا للتشاؤم.
وفي الحديث: "لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير" وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا إنا تشاءمنا بكم.
ومعنى: {بِكُمْ} بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حل بها حادث سوء يعم الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضر العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم، وقد جوزه بعض المفسرين، وإنما معنى ذلك: أن أحدا لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه. ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارنتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أمورا لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه، وأن يعينوا من المقارنات ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] وحكى عن مشركي مكة {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78].
ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافا بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جزاء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي يقولها
(22/210)
الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.
ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وبذلك ألجأوا "بوليس" و"برنابا" إلى الخروج من إنطاكية فخرجا إلى إيقونية وظهرت كرامة "بولس" في أيقونية ثم في "لسترة" ثم في "دربة". ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم، فمسهم من ذلك عذاب وضر ورجم "بولس" في مدينة "لسترة" حتى حسبوا أن قد مات.
ولام {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.
[19] {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [19]}.
حكي قول الرسول بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي تعريضا بأهل الشرك من قريش الذين ضربت القرية مثلا لهم، فالرسل لم يذكروا مادة الطيرة والطير وإنما أتوا بما دل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم لا جاء من المرسلين إليهم فحكي بما يوافقه في كلام العرب تعريضا بمشركي مكة، وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة من شؤون المشبهين بأصحاب القصة.
ولما كانت الطيرة بمعنى الشؤم مشتقة من اسم الطير لوحظ فيها مادة الاشتقاق.
وقد جاء إطلاق الطائر على معنى الشؤم في قوله تعالى في سورة الأعراف [131] {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] على طريقة المشاكلة.
ومعنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الطائر الذي تنسبون إليه الشؤم هو معكم، أي في نفوسكم، أرادوا أنكم لو تدبرتم لوجدتم أن سبب ما سميتموه شؤما هو كفركم وسوء سمعكم للمواعظ، فإن الذين استمعوا أحسن القول اتبعوه ولم يعتدوا عليكم، وأنتم الذين آثرتم الفتنة وأسعرتم البغضاء والإحن فلا جرم أنتم سبب سوء لحالة التي حدثت في المدينة.
وأشار آخر كلامهم إلى هذا القول إذ قالوا {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بطريقة الاستفهام الإنكاري الداخل على {إِنْ} الشرطية، فهو استفهام على محذوف دل عليه الكلام السابق، وقيد ذلك المحذوف بالشرط الذي حذف جوابه أيضا استغناء عنه بالاستفهام عنه، وهما بمعنى واحد إلا أن سيبويه يرجح إذا اجتمع الاستفهام والشرط أن يؤتى بما يناسب الاستفهام
(22/211)
لو صرح به، فكذلك لما حذف يكون المقدر مناسب للاستفهام. والتقدير: أتتشاءمون بالتذكير إن ذكرتم، لما يدل عليه قول أهل القرية {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]، أي بكلامكم وأبطلوا أن يكون الشؤم من تذكيركم بقولهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي لا طيرة فيما زعمتم ولكنكم قوم كافرون غشيت عقولكم الأوهام فظننتم ما فيه نفعكم ضرا لكم، ونطتم الأشياء بغير أسبابها من إغراقكم بالجهالة والكفر وفساد الاعتقاد. ومن إسرافكم اعتقادكم بالشؤم والبخت.
وقرأ الجمهور: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزة استفهام داخلة على {إِنْ} المكسورة الهمزة الشرطية وتشديد الكاف. وقرأ أبو جعفر {أَأَنْ ذُكِّرْتُمْ} بفتح كلتا الهمزتين وبتخفيف الكاف من {ذُكِرْتُمْ} . والاستفهام تقرير، أي الأجل إن ذكرنا أسماعكم حين دعوناكم حل الشؤم بينكم كناية عن كونه أهلا لأن تكون أسمائهم شؤما.
وفي ذكر كلمة {قَوْمٌ} إيذان بأن الإسراف متمكن ومنهم وبه قوام قوميتهم كما تقدم في قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
[20- 25] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [20] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [21] وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [22] أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ [23] إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [24] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [25]}.
عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحال الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة من نفر قليل من أهل القرية.
فلك أن تجل جملة: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} عطفا على جملة: {جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] ولك أن تجعلها عطفا على جملة: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14].
والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله: {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] عبر عنها هنا بالمدينة تفتنا، فيكون {أَقْصَى} صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة. والتقدير: من بعيد المدينة، أي طرف المدينة، وفائدة ذكر انه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة
(22/212)
لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وإجبار اليهود وهم أبعد من الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليهم الرسل، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم بخلاف أطراف سكان المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.
وبهذا يظهر وجه تقديم {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} على {رَجُلٌ} للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة. وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترفق وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
وأما قوله تعالى في سورة القصص [20] {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}. فجاء النظم على الترتيب الأصلي إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحا ولم يكن داعيا للإيمان.
وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به. وعن ابن عباس وأصحابه وجد أن اسمه حبيب بن مره قيل كان نجارا وقيل غير ذلك فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن. وقيل: كلن مؤمنا من قبل، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنجار أنه هو "سمعان" الذي يدعى "بالنيجر" المذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل وأن وصف النجار محرف عن "نيجر" فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن ابن عباس اسم شمعون الصفا أو سمعان. وليس هذا الاسم موجودا في كتاب أعمال الرسل.
ووصفُ الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعا وأنه بلغه هم أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشية عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل يفسد أنه ممن يقتدى به في الإسراع إلى تغير المنكر.
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ} بدل اشتمال من جملة "جاء رجل" لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.
وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قصد منه أن في كلامه الإيماء إلى أن
(22/213)
ما سيخاطبهم به هو محض نصيحة لأنه يحب لقومه ما يحب لنفسه.
والاتباع: الامتثال، استعير له الاتباع تشبيها للآخذ برأي غيره بالمتبع له في سيره.
والتعريف في {الْمُرْسَلِينَ} للعهد.
وجملة {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} مؤكدة لجملة {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} مع زيادة الإيماء إلى علة اتباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يدعون إلى هدى ولا نفع ينجر لهم من ذلك فتمحضت دعوتهم لقصد هداية المرسل إليهم، وهذه كلمة حكمة جامعة، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئا من ديناكم وتربحون صحة دينكم.
وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم يجرون لأنفسهم نفعا من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه. فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة ولتيهيوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم، والتخلية تقدم على التحلية، فكانت جملة {لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} أهم في صلة الموصول.
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة. فلما نفي عنهم أن يسألوا أجرا فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.
وبعد ذلك تهيأ الموقع لجملة {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، أي وهم متصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيبا في متابعتهم.
واعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في "الإيضاح" و"التلخيص" للإطناب المسمى بالإيغال وهو أن يؤتي بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتم المعنى بدونه لنكتة، وقد تبين لك مما فسرنا به أن قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها، وكان قوله: {مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} كالتوطئة له. ونعتذر لصاحب "التلخيص" بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير.
(22/214)
وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلا عن دوامه وثباته، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد.
وقوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عطف على جملة: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} قصد إشعارهم بأنه اتبع المرسلين وخلع عبادة الأوثان، وأبرز الكلام في صورة استفهام إنكاري وبصيغة: ما لي لا أفعل، التي شأنها أن يوردها المتكلم في رد من أنكر عليه فعلاً، أو ملكه العجب من فعله أو يوردها من يقدر ذلك في قلبه، ففيه إشعار بأنهم كانوا منكرين عليه الدعوة إلى تصديق الرسل الذين جاءوا بتوحيد الله فإن ذلك يقتضي أنه سبقهم بما أمرهم به.
و {مَا} استفهامية في موضع رفع الابتداء، والمجرور من قوله: {لِي} خبر عن {مَا} الاستفهامية.
وجملة: {لا أَعْبُدُ} حال من الضمير. والمعنى: وما يكون لي في حال لا أعبد الذي فطرني، أي لا شيء يمنعني من عبادة الذي خلقني، وهذا الخبر مستعمل في التعريض بهم كأنه يقول: وما لي لا أعبد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم بقرينة قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، إذ جعل الإسناد إلى ضميرهم تقوية لمعنى التعرض، وإنما ابتدأه بإسناد الخبر إلى نفسه لإبرازه في معرض المناصحة لنفسه وهو مريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويدارهم فيسمعهم الحق على وجه لا يثير غضبهم ويكون أعون على قبولهم إياه حين يرون أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.
ثم أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره، والاستفهام إنكاري أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة، أي لا أتخذ آلهة.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ وهو التناول، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل، فالاتخاذ مشعر بأنه صنع وذلك كم تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإله الحق لا يجعل جعلا ولكنه مستحق الإلهية بالذات.
ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذ بجملة الشرط بقوله: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ
(22/215)
بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}. والمقصود: التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المولى أقوى وأهم، ولحاق العار بالولي في عجزه عنه أشد.
وجاء بوصف {الرَّحْمَنُ} دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} [يس: 15].
والإنقاذ: التخليص من غلب أو كرب أو حيرة، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني.
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يشفع لا يشفع، فكأنه قال: أتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة. وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضر وينفع في صفات الإلهية كان انتفاء أن ينقذوا أولى. وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى على دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإيمان وهو أساس الصلاح.
وجملة: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} جواب للاستفهام الإنكاري. فحرف {إِذاً} جزاء للمنفي لا للنفي، أي إن اتخذت من دون الله آلهة أكن في ضلال مبين.
وجملة: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل. وهذا إعلان لإيمانه وتسجيل عليهم بأن الله هو ربهم لا تلك الأصنام.
وأكد الإعلان بتفريع {فَاسْمَعُونِ} استدعاء لتحقيق أسماعهم أن كانوا في غفلة.
[26، 27] {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27]}.
استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجزل. وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتاركوه أو آذوه كما يؤذي أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوى الدهماء فيجاب بما دل عليه قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقينا وثباتا
(22/216)
في إيمانهم، وأما المشركون فحظهم من المثل ما تقدم وما يأتي من قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29].
وفي قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} كناية عن قتله شهيدا في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم، قال بعض المفسرين: قتلوه رجما بالحجارة، وقال بعضهم: أحرقوه، وقال بعضهم: حفروا له حفرة وردموه فيها حيا.
وإن هذا الرجل المؤمن قد أدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولا غير موسع. ففي الحديث: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تأكل من ثمار الجنة".
والقائل: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} هو الله تعالى.
والمقول له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجرورا باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
وإذ لم يقص في المثل أنه غادر مقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك، ويفهم منه أنه مات قتيلا في ذلك الوقت أو بأثره.
وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصح بأنهم قتلوه إغماضا لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة. وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين.
وجملة: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة. والمعنى: أنه لم يلهه دخول الجنة عن حال قومه، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإيمان فيؤمنوا وما تمنى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متسما بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور.
(22/217)
وأدخلت الباء على مفعول {يَعْلَمُونَ} لتضمينه معنى: يخبرون، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال.
و {مَا} من قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} مصدرية، أي يعلمون بغفران ربي وجعله إياي من المكرمين.
والمراد بالمكرمين: الذين تلحقهم كرامة الله تعالى وهم الملائكة والأنبياء وأفضل الصالحين قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء : 26] يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام.
[28، 29] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ [28] إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [29]}.
رجوع إلى قصة أصحاب القرية بعد أن انقطع الحديث عنهم بذكر الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ناصحا لهم وكان هذا الرجوع بمناسبة أن القوم قوم ذلك الرجل.
فجملة {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} الخ عطف على جملة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فهي مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يتشوف إلى معرفة ما كان من هذا الرجل ومن أمر قومه الذين نصحهم فلم ينتصحوا فلما بين للسامع ما كان من أمره عطف عليه بيان ما كان من أمر القوم بعده.
وافتتاح قصة عقابهم في الدنيا بنفي صورة من صور الانتقام تمهيد للمقصود من انهم ما حل بهم إلا مثل ما حل بأمثالهم من عذاب الاستئصال، أي لم ننزل جنودا من السماء مخلوقة لقتال قومه، أو لم ننزل جنودا من الملائكة من السماء لإهلاكهم، وما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من ملك واحد أهلكتهم جميعا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} مزيدة في الظرف لتأكيد اتصال المظروف بالظرف. وأصلها {مِنْ} الابتدائية، وإضافة {بَعْد} إلى ضمير الرجل على تقدير مضاف شائع الحذف، أي بعد موته كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] و {مِنْ} في قوله: {مِنْ جُنْدٍ} مؤكدة لعموم {جُنْدٍ} في سياق النفي، و {مِنَ} في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية وفي الإتيان بحرف {مِنْ} ثلاث مرات مع اختلاف المعنى
(22/218)
محسن الجناس.
وفي هذا تعريض بالمشتركين من أهل مكة إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92] أي تأتي بالله الذي تدعي أنه أرسلك ومعه جنده من الملائكة ليثأر لك.
فجملة: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} معترضة بين نوعي العقاب المنفي والمثبت، لقصد الرد على المشركين بأن سنة الله تعالى لم تجر بإنزال الجنود على المكذبين وشأن العاصين أدون من هذا الاهتمام.
والصيحة: المرة من الصياح، بوزن فعلة، فوصفها بواحدة تأكيد لمعنى الوحدة لئلا يتوهم أن المراد الجنس المفرد من بين الأجناس، و {صَيْحَةً} منصوب على أنه خبر {كَانَتْ} بعد الاستثناء المفرغ، ولحاق تاء التأنيث بالفعل مع نصب {صَيْحَةً} مشير إلى أن المستثنى منه المحذوف العقوبة أو الصيحة التي دلت عليها {صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي لم تكن العقوبة أو الصيحة إلا صيحة من صفتها أنها واحدة إلى آخره. وقرأ أبو جعفر برفع {صَيْحَةً} على أن "كَانَ" تامة، أي ما وقعت إلا صيحة واحدة.
ومجيء "إذا" الفجائية في الجملة المفرعة على {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} لإفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصيحة.
وهذه الصيحة صاعقة كما قال تعالى: حكاية عن ثمود {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73].
والخمود: انطفاء النار، استعير للموت بعد الحياة المليئة بالقوة والطغيان، ليتضمن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النار وحال موتهم بخمود النار فحصل لذلك استعارتان إحداهما صريحة مصرحة، وأخرى ضمنية مكنية ورمزها الأولى، وهما الاستعارتان اللتان تضمنهما قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وتقدم قوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} في سورة الإسراء [15]، فكان هذا الإيجاز في الآية بديعا لحصول معنى بيت لبيد في ثلاث كلمات.
وهذا يشير إلى حدث عظيم حدث بأهل إنطاكية عقب دعوة المرسلين وهو كرامة لشهداء أتباع عيسى عليه السلام، فإن كانت الصيحة صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كان الذين خمدوا بها جميع أهل القرية فلعلهم كانوا كفارا كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة أهل القرية فلعلهم كانوا كفارا كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة الرسل القرية. ولكن مثل هذا الحادث لم يذكر التاريخ حدوثه في إنطاكية، فيجوز أن يهمل
(22/219)
التاريخ بعض الحوادث وخاصة في أزمنة الاضطراب والفتنة.
[30] {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [30]}.
تذييل وهو من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأمم المكذبة الرسل شامل للأمة المقصودة بسوق الأمثال السابقة من قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر: 13] ، واطرد هذا السنن القبيح فيهم. فالتعريف في {الْعِبَادِ} تعريف الجنس المستعمل في الاستغراق وهو استغراق ادعائي روعي فيه حال الأغلب على الأمم التي يأتيها رسول لعدم الاعتداء في هذا المقام بقلة الذين صدقوا الرسل ونصروهم فكأنهم كلهم قد كذبوا.
{الْعِبَادِ} : اسم للبشر وهو جمع عبد. والعبد: المملوك وجميع الناس عبيد الله تعالى لأنه خالقهم والمتصرف فيهم قال تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} [ق: 11]، وقال المغيرة بن حبناء:
أمسى العباد بشر لا غياث لهم ... إلا المهلب بعد الله والمطر
ويجمع على عبيد وعباد وغلب الجمع الأول على عبد بمعنى مملوك، والجمع الثاني على عبد بمعنى آدمي، وهو تخصيص حسن من الاستعمال العربي.
والحسرة: شدة الندم مشوبا بتلهف على نفع فائت. وحرف النداء هنا لمجرد التنبيه على خطر ما بعده ليصغي إليه السامع وكثر دخوله في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإخبار فيكون اقتران ذلك الإنشاء بحرف التنبيه إعلانا بما في نفس المتكلم من مدلول الإنشاء كقولهم: يا خيبة، ويا لعنة، ويا ويلي، ويا فرحي، ويا ليتني، ونحو ذلك، قالت امرأة من طي من أبيات الحماسة:
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه ... ببطن الشرا مثل الفينق المسدم
وبيت الكتاب:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
وقد يقع النداء في مثل ذلك بالهمزة كقول جعفر بن علبة الحارثي:
ألهفني بقرى سحبل حين أجلبت ... علينا الولايا والعدو المباسل
وأصل هذا النداء أنه على تنزيل المعنى المثير للإنشاء منزلة العاقل فيقصد اسمه بالنداء لطلب حضوره فكأن المتكلم يقول: هذا مقامك فأحضر، كما ينادي من يقصد في أمر عظيم، وينتقل من ذلك إلى كتابة عما لحق المتكلم من حاجة إلى ذلك المنادي ثم
(22/220)
كثر ذلك وشاع حتى تنوسي ما فيه من الاستعمار والكناية وصار لمجرد التنبيه على ما يجيء بعده، والاهتمام حاصل في الحالين.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} في سورة النساء [73]، وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} في سورة الفرقان [28].
وموقع مثله في كلام الله تعالى تمثيل لحال عباد الله تعالى في تكذيبهم رسل الله بحال من يرثى له أهله وقوعه في هلاك أرادوا منه تجنبه.
وجملة {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} بيان لوجه التحسر عليهم لأن قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية فإنه لما عمم على جميع العباد حدث إيهام في وجه العموم. فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضرب بهم المثل ومن ضرب لهم في تلك الحالة الممثل بها ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فعلم وجه الحسرة عليهم إجمالا من هذه الآية ثم تفصيلا من قوله بعد {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [يس: 31] الخ.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} مفرغ من أحوال عامة كم الضمير في {يَأْتِيهِمْ} أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا في حالة استهزائهم به.
وتقديم المجرور على {يَسْتَهْزِئُونَ} للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به مع تأتي الفاصلة بهذا التقديم فحصل منه غرضان من المعاني ومن البديع.
[31] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [31]}.
هذه الجملة بيان لجمل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] لما فيها من تفصيل الإجمال المستفاد من قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين، فعدم اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقة.
وضمير {يَرَوْا} عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر. والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفا، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم
(22/221)
يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولها. فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله: {قَبْلَهُمْ} يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها.
وقيل: يجوز أن يكون ضمير: {أَلَمْ يَرَوْا} عائدا إلى ما عاد إليه من ضمير: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} [يس:13] ويكون المثل قد انتهى بجملة: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ... [يس:30] الآية. وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} كما عطفت جملة: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] الآية، وجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، وجملة: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، ولا مُلجئ إلى هذا الاعتبار في المعاد، وقد عملت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم.
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا؛ نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزل عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور، ويجوز كون الاستفهام تقريرا بني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلا الإقرار بأنهم عاملون فيكون إقرارهم أشد لزوما لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك.
والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها. وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود {كَمْ} لأن {كَمْ} لها صدر الكلام سواء كانت استفهاما أم خبرا، فإن {كَمْ} الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده.
و {وكَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} : ومفادها كثرة مبهمة فسرت بقوله: {مِنَ الْقُرُونِ} ووقعت {كَمْ} في موضع المفعول لقوله: {أَهْلَكْنَا} .
و {قَبْلَهُمْ} ظرف لـ {أَهْلَكْنَا} . ومعنى {قَبْلَهُمْ} : قبل وجودهم.
وقوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل اشتمال من جملة {أَهْلَكْنَا} لأن الإهلاك يشتمل على عدم الرجوع؛ أبدل المصدر المنبسك من "أَنَّ" وما بعدها من معنى جملة: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} لأن معنى تلك الجملة كثرة افهلاك وكثرة المهلكين. وفعل الرؤية عامل في: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة: {كَمْ أَهْلَكْنَا} لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل.
(22/222)
وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإهلاك لزيادة التخويف، ولاستحضار تلك السورة في الإهلاك أي إهلاكا لا طماعية معه للرجوع إلى الدنيا، فإن ما يشتمل عليه الإهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحا.
و {إِلَيْهِمْ} متعلق بـ {يَرْجِعُونَ} وتقديمه إلى متعلقه للرعاية على الفاصلة.
وضمير {إِلَيْهِمْ} عائد إلى العبادة، وضمير {أَنَّهُمْ} عائد إلى {الْقُرُونِ}.
[32] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [32]}.
أرى أن عطفه على جملة: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] واقع موقع الاحتراس من توهم المخاطبين بالقرآن أن قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} مؤيد اعتقادهم انتفاء البعث.
و {إِنْ} يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والأفصح إهمالها عن العمل فيما بعدها، والأكثر أن يقترن خبر الاسم بلام تسمى اللام الفارقة لأنها تفرق بين {إِنْ} المخففة من الثقيلة وبين {إِنْ} النافية لئلا يلتبس الخبر المؤكد بالخبر المنفي فيناقض مقصد المتكلم، وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لَمَّا} مخفف الميم كما قرأ الجمهور: {لَمَّا جَمِيعٌ} ، فهي مركبة من اللام الفارقة و"ما" الزائدة للتأكيد، ويجوز أن تكون {إِنْ} نافية بمعنى "لا" ويكون {لَمَّا} بتشديد الميم على أنها حرف استثناء بمعنى "إلا" تقع بعد النفي ونحوه كالقسم. وكذلك قرأ ابن عامر وحمزة وأبو جعفر. والتقدير: وما كلهم إلا محضرون لدينا.
و {كُلٌّ} مبتدأ وتنوينه تنوين العوض عما أضيف إليه "كل"، أي كل القرون، أو كل المذكورين من القرون والمخاطبين.
و {جَمِيعٌ} اسم على وزن فعيل، أي مجموع، وهو ضد المتفرق. يقال: جمع أشياء كذا، إذا جعلها متقاربة متصلة بعد أن كانت مشتتة ومتباعدة.
والمعنى:أن كل القرون محضرون لدينا مجتمعين، أي ليس إحضارهم في أوقات مختلفة ولا في أمكنة متعددة؛ فكلمة {كُلٌّ} أفادت أن الإحضار محيط بهم بحيث لا ينفلت فريق منهم، وكلمة {جَمِيعٌ} أفادت أنهم محضرون مجتمعين فليست إحدى الكلمتين بمغنية عن ذكر الأخرى، ألا ترى أنه لو قيل: وأن أكثرهم لما جميع لدينا
(22/223)
محضرون، لما كان تناف بين "أكثرهم" وبين "جميعهم" أي أكثرهم يحضر مجتمعين؛ فارتفع {جَمِيعٌ} على الخبرية في قراءة تخفيف {لَمَّا} وعل الاستثناء على قراءة تشديد {لَمَّا} . و {مُحْضَرُونَ} نعت لـ {جَمِيعٌ} على القراءتين. وروعي في النعت معنى المنعوت فألحقت به علامة الجماعة، كقول لبيد:
عريت وكان بها الجميع فأبكروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
والإحضار: الإحضار للحساب والجزاء والعقاب.
[33] {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [33]}.
عطف على قصة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] فإنه ضرب لهم مثلا لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعاقبة ذلك كله. ثم أعقب ذلك التفصيل لإبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإشراك بالله.
وابتدئ بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف، وفي ذلك إثبات الوحدانية.
و {وَآيَةٌ} مبتدأ و {لَهُمُ} صفة {آيَةٌ} ، و {الْأَرْضُ} خبر {آيَةٌ} ، و {الْمَيْتَةُ} صفة {الْأَرْضُ} . وجملة {أَحْيَيْنَاهَا} في موضع الحال من {الْأَرْضُ} وهي حال مقيدة لأن إحياء الأرض هو مناط للدلالة على إمكان البعث بعد الموت، أو يكون جملة {أَحْيَيْنَاهَا} بيانا لجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} لبيان موقع الآية فيها، أو بدل اشتمال من جملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} ، أو استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل: كيف كانت الأرض الميتة?
وموت الأرض: جفافها وجرازتها لخلوها من حياة النبات فيها، وأحياؤها: خروج النبات منها من العشب والكلأ والزرع.
وقرأ نافع وأبو جعفر {الْمَيْتَةُ} بتشديد الياء. وقرأ الباقون بتخفيف الياء، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال.
والحب: اسم جمع حبة، وهو بزرة النبت مثل البرة والشعيرة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] في سورة البقرة.
(22/224)
وإخراج الحب من الأرض: هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة. وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرع عليه {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}. وتقديم {مِنْهُ} على {يَأْكُلُونَ} للاهتمام تنبيها على النعمة ولرعاية الفاصلة.
[34, 35] {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [34] لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [35]}.
هذا من إحياء الأرض بإنبات الأشجار ذات الثمار، وهو إحياء أعجب وأتقى وإن كان الإحياء بإنبات الزرع والكلأ أوضح دلالة لأنه سريع الحصول.
وتقدم ذكر {جَنَّاتِ} في أول سورة الرعد [4].
وتفجير العيون تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [74].
والثمر بفتحتين وبضمتين: ما يغله النخل والأعناب من أصناف الثمر وأصناف العنب والثمرة بمنزلة الحب للسنبل. وقرأ الجمهور: {ثَمَرِهِ} بفتحتين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضمتين. والنخيل: اسم جمع نخل.
والأعناب جمع عنب، وهو يطلق على شجرة الكرم وعلى ثمرها. وجمع النخيل والأعناب باعتبار تعدد أصناف شجره المثمر أصنافا من ثمره.
وضمير {مِنْ ثَمَرِهِ} عائد إلى المذكور، أي من ثمر ما ذكرنا، كقول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له: هلا قلت: كأنها ? فقال: أردت كأن ذلك ويلك. وتقدم عند قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة [68].
ويجوز أن يعود الضمير على النخيل وتترك الأعناب للعلم بأنها مثل النخيل. كقول الأزرق بن طرفة بن العمود القراطي1 الباهلي:
ـــــــ
1 كذا في نسخة "تفسير ابن عطية"، ولم أقف على معنى هذه النسبة.
(22/225)
رماني بذنب كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني1
فلم يقل: بريئين، للعلم بأن والده مثله.
ويجوز أن تكون {مَا} في قواه {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} موصولة معطوفة على {ثَمَرِهِ} ، أي ليأكلوا من ثمر ما عملته أيديهم، فيكون إدماجا للإرشاد إلى إقامة الجناة بالخدمة والسقي والتعهد ليكون ذلك أوفر لأغلالها. وضمير {عَمِلَتْهُ} على هذا عائد إلى اسم الموصول. ويجوز أن يكون {مَا} نافية والضمير عائد إلى ما ذكر من الحب والنخيل والأعناب. والمعنى: أن ذلك لم يخلقوه. وهذا أوفر في الامتنان وأنسب بسياق الآية مساق الاستدلال. وقرأ الجمهور {وَمَا عَمِلَتْهُ} بإثبات هاء الضمير عائدا إلى المذكور من الحب والنخيل والأعناب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {وَمَا عَمِلَتْ} بدون هاء، وكذلك هو مرسوم في المصحف الكوفي وهو جار على حذف المفعول إن كان معلوما. ويجوز أن يكون من حذف المفعول لإرادة العموم. والتقدير: وما عملت أيديهم شيئا من ذلك. وكلا الحذفين شائع.
وفرع عليه استفهام الإنكار لعدم شكرهم بأن اتخذوا للذي أوجد هذا الصنع العجيب أندادا. وجيء بالمضارع مبالغة في كفرهم بأن الله حقيق بأن يكرروا شكره فكيف يستمرون على الإشراك به.
[36] {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [36]}.
اعتراض بين جملة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} [يس: 33] وجملة {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37]، أثاره ذكر إحياء الأرض وإخراج الحب والشجر منها فإن ذلك أحوالا وإبداعا عجيبا يذكر بتعظيم مودع تلك الصنائع بحكمته وذلك تضمن الاستدلال بخلق الأزواج على طريقة الإدماج. و {سُبْحَانَ} هنا لإنشاء تنزيه الله تعالى عن أحوال المشركين تنزيها عن كل ما لا يليق بإلهيته وأعظمه الإشراك به وهو المقصود هنا. وإجراء الموصول على الذات العلية للإيماء إلى وجه إنشاء التنزيه والتعظيم. وقد مضى الكلام على {سُبْحَانَ} في سورة البقرة وغيرها.
و {الْأَزْوَاجَ} : جمع زوج وهو يطلق على كل من الذكر والأنثى من الحيوان، ويطلق
ـــــــ
1 نازعه ناس من قشير في بئر لدى الحاكم فقال القشيري للأزرق: هو لص ابن لص ليغري به الحاكم، ونسب بعضهم هذا إلى البيت للفرزدق، ولا يصح.
(22/226)
الزوج على معنى الصنف المتميز بخواصه من الموجودات تشبيها له بصنف الذكر وصنف الأنثى كما في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وتقدم في سورة طه [53]، والإطلاق الأول هو الكثير كما يؤخذ من كلام الراغب، وهو الذي يناسبه اللفظ من الزوج الذي يكون ثانيا لآخر، فيجوز أن يحمل {الْأَزْوَاجَ} في هذه الآية على المعنى الأول فيكون تذكيرا بخلق أصناف الحيوان الذي منه الذكر والأنثى، وتكون {وَمِنْ} في المواضع الثلاثة ابتدائية متعلقة بفعل {خَلَقَ} .
وهذا إدماج لذكر آيه أخرى من آيات الانفراد بالخلق، فخلق الحيوان بما فيه من القوى لتناسله وحماية نوعه وإنتاج منافعه، هو أدق الخلق صنعا وأعمقه حكمة، وأدخله في المنة على الإنسان، بأن جعلت منافع الحيوان له كما في آية سورة المؤمنين. فمن أجل ذلك خص من الخلق الآخر بقرنه بالتسبيح لخالقه تنويها بشأنه وتفننا في سرد أعظم المواليد الناشئة عن إبداع قوة الحياة للأرض وانبثاق أنواع الأحياء وأصنافها منها، كما أشار إليه الابتداء بذكر {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} قبل غيره من مبادئ التخلق لأنه الأسبق في تكوين مواد حياة الحيوان فإنه يتولد من النطف الذكور والإناث،وتتولد النطف من قوى الأغذية الحاصلة من تناول النبات فذلك من معنى قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي ومما يتكون فيهم من أجزائهم الحيوانية.
وجئ بضمير جماعة العقلاء تغليبا لنوع الإنسان نظرا لكونه المقصود بالعبرة بهذه الآية، وللتخلص إلى تخصيصه بالعبرة في قوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} .
وإشارة قوله تعالى: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} إلى أسرار مودعة في خلق أنواع الحيوان وأصنافه هي التي ميزت أنواعه عن بعض وميزت أصنافه وذكوره عن إناثه، وأودعت فيه الروح الذي امتاز به عن النبات بتدبير شؤونه على حسب استعداد كل نوع وكل صنف حتى يبلغ في الارتقاء إلى أشراف الأنواع وهو نوع الإنسان، فمعنى {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} : مما لا يعلمونه تفصيلا وان كانوا قد يشعرون به إجمالا، فإن المتأمل يعلم أن في المخلوقات أسرارا خفيفة لم تصل إفهامهم إلى إدراك كنهها، ومن ذلك الروح فقد قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
وقد يتفاضل الناس في إدراك بعض تلك الخصائص إجمالا وتفصيلا ثم يستوون في عدم العلم ببعضها، وقد يمتاز بعض الطوائف أو الأجيال بمعرفة شئ من دقائق الخلق بسبب اكتشاف أو تجربة أو تقضي آثار لم يكن يعرفها غير أولئك ثم يستوون فيما بقي
(22/227)
تحت طي الخفاء من دقائق التكوين،فبهذا الشعور الإجمالي بها وقع عدها في ضمن الاعتبار بآية خلق الأزواج من جميع النواحي.
وإذا حمل {الْأَزْوَاجَ} في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} على المعنى الثاني لهذا اللفظ وهو إطلاقه على الأصناف والأنواع كما في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] كانت {مِنْ} في المواضع الثلاثة بيانية، والمجرور بها في فحوى عطف البيان، أو بدل مفصل من مجمل قوله {الْأَزْوَاجَ} والمعنى: الأزواج كلها التي هي: ما تنبت الأرض، وأنفسهم، وما لا يعلمون. ويدل قوله: {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} على محذوف تقديره: وما يعلمون، وذلك من دلالة الإشارة.
فخص بالذكر أصناف النبات لأن بها قوام معاش الناس ومعاش أنعامهم ودوابهم، وأصناف أنفس الناس لأن بها أقوى، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21]. ثم ذكر ما يعم المخلوقات مما يعلمه الناس وما لا يعلمونه في مختلف الأقطار والأجيال والعصور. وقدم ذكر النبات إيثارا له بالأهمية في هذا المقام لأنه أشبه بالبعث الذي أومأ إليه قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32].
وتكرير حرف {مِنْ} بعد واو العطف للتوكيد على كلا التفسيرين.
وضمير {أَنْفُسِهِمْ} عائد إلى {الْعِبَادِ} في قوله: {حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]. والمراد بهم: المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم.
[37] {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [37]}.
انتقال إلى دلالة مظاهر العوالم على دقيق نظام الخلق فيها مما تؤذن به المشاهدة مع التبصر. وابتدئ منها بنظام الليل والنهار لتكرر وقوعه أمام المشاهدة لكل راء. وجملة {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} تحتمل جميع الوجوه التي ذكرناها في جملة {أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] آنفا.
والسلخ: إزالة الجلد عن حيوانه، وفعله يتعدى إلى الجلد المزال بنفسه على المفعولية، ولذلك يقال للجلد المزال من جسم الحيوان: سلخ "بكسر السين وسكون اللام" بمعنى مسلوخ، ولا يقال للجسم الذي أزيل جلده: سلخ. ويتعدى فعل سلخ إلى الجسم الذي أزيل جلده بحرف الجر، والأكثر أنه "من" الابتدائية، ويتعدى بحرف "عن" أيضا لما في السلخ من معنى المباعدة والمجاوزة بعد الاتصال. فمفعول {نَسْلَخُ} هنا هو
(22/228)
{النَّهَارَ} بلا ريب، وعدي السلخ إلى ضمير {اللَّيْلُ} بـ"من" فصار المعنى: الليل آية لهم في حال إزالة غشاء نور النهار عنه فيبقى عليهم الليل، فشبه النهار بجلد الشاة ونحوها يغطي ما تحته منها كما يغطي النهار ظلمة الليل في الصباح. وشبه كشف النهار وإزالته بسلخ الجلد عن نحو الشاة فصار الليل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده، وليس الليل بمقصود بالتشبيه وإنما المقصود تشبيه زوال النهار عنه فاستتبع ذلك أن الليل يبقى شبه الجسم المسلوخ عن جلده. ووجه ذلك أن الظلمة هي الحالة السابقة للعوالم قبل خلق النور في الأجسام النيرة لأن الظلمة عدم والنور وجود، وكانت الموجودات في ظلمة قبل أن يخلق الله الكواكب النيرة ويوصل نورها إلى الأجسام التي تستقبلها كالأرض والقمر.
وإذا كانت الظلمة هي الحالة الأصلية للموجودات فليس يلزم أن تكون أصلية للأرض لأن الظاهر أن الأرض انفصلت عن الشمس نيرة وإنما ظلمة نصف الكرة الأرضية إذا غشيها نور الجسم معتبرة كالجسم الذي غشيه جلده فإذا أزيل النور عادت الظلمة فشبه ذلك بسلخ الجلد عن الحيوان كما قال تعالى: في مقابله في سورة الرعد [3]: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}. فليس في الآية دليل على أن أصل أحوال العالم الأرضي هو الظلمة ولكنها ساقت للناس اعتبارا ودلالة بحالة مشاهدة لديهم ففرع عليه {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} بناء على ما هو متعارف. وقد اعتبر أئمة البلاغة الاستعارة في الآية أصلية تبعية ولم يجعلوها تمثيلية لما قدمناه من أن المقصود بالتشبيه هو حالة زوال نور النهار عن الأفق فتخلفها ظلمة الليل لقوله {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} .
وإسناد {مُظْلِمُونَ} إلى الناس من إسناد إفعال الذي الهمزة فيه للدخول في الشي مثل أصبح وأمسى.
[38] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [38]}.
{الشَّمْسُ} يجوز أن يكون معطوفا على {اللَّيْلُ} من قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37] عطف مفرد على مفرد ويقدر له خبر مماثل لخبر الليل، والتقدير: والشمس آية لهم، وتكون جملة: {تَجْرِي} حالا من {الشَّمْسُ} مثل جملة: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37].
ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ويكون قوله: {تَجْرِي} خبرا عن {الشَّمْسُ}. وأياما كان هو تفصيل لإجمال جملة: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] الخ كما دل غليه قوله الآتي {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وكان مقتضى
(22/229)
الظاهر من كونه تفصيلا أن لا يعطف فيقال: الشمس تجري لمستقر لها، فخولف مقتضى الظاهر لأن في هذا التفصيل آية خاصة وهي آية سير الشمس والقمر.
وقدم التنبيه على آية الليل والنهار لما ذكرناه هنالك، فكانت آية الشمس المذكورة هنا مرادا بها دليل آخر على عظيم صنع الله تعالى وهو نظام الفصول.
وجملة: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يتحمل الوجوه التي ذكرناها في جملة {أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] من كونها حالا أو بيانا لجملة {وَءآيَةٌ لَهُمُ} [يس: 33] أو بدل اشتمال من {وَءآيَةٌ}.
والجري حقيقته: السير السريع لذوات الأرجل، وأطلق مجازا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلا سريعا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جد التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس. وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفة للناس معرفة إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر، والمعروفة لأهل العلم بالهيئة تفصيلا واستدلالا وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.
والمستقر: مكان الاستقرار، أي القرار أو زمانه، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل: استجاب بمعنى أجاب. واللام في {لِمُسْتَقَرٍّ} يجوز أن تكون لام التعليل على ظاهرها، أي تجري لأجل أن تستقر، أي لأجل أن ينتهي جريها كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه، وهو متعلق بـ {تَجْرِي} على أنه نهاية له لأن سير الشمس لما كانت نهايته انقطاعه نزل الانقطاع عنه منزلة العلة كما يقال "لدوا للموت وابنوا للخراب".
وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكلام، ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. والمعنى: أنها تسير سيرا دائبا مشاهدا إلى أن تبلغ الاحتجاب عن الأنظار.
ويجوز أن تكون اللام بمعنى "إلى" ، أي تجري إلى مكان استقرارها وهو مكان الغروب، شبه غروبها عن الأبصار بالمستقر والمأوى الذي يأوي إليه المرء في آخر النهار بعد الأعمال. وقد ورد تقريب ذلك في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي "البخاري" و"مسلم" و"جامع الترمذي" بروايات مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال: "كنت مع رسول الله
(22/230)
في المسجد عند غروب الشمس فسألته أو قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقر لها ومستقرها تحت العرش فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}.
وهذا تمثيل وتقريب لسير اليومي الذي يبتدئ بشروقها على بعض الكرة الأرضية وينتهي بغروبها على بعض الكرة الأرضية، في خطوط دقيقة، وبتكرر طلوعها وغروبها تتكون السنة الشمسية.
وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معين لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعا لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العلم الدنيوي.
واللام في قوله: {لَهَا} لام الاختصاص وهو صفة {لِمُسْتَقَرٍّ} . وعدل عن إضافة مستقر لضمير الشمس المغنية عن إظهار اللام إلى الإتيان باللام ليتأتى تنكير "مستقر" تنكيرا مشعرا بتعظيم ذلك المستقر.
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا تمثيل لحال الغروب والشروق اليوميين. وجعل سجود الشمس تمثيلا لتسخرها لتسخير الله إياها كما جعل القول تمثيلا له في آية {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
واعلم أن قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس للناس لأن الناس لا يشعرون به فهو كقوله تعالى: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} [الأنعام: 60] عقب الامتنان بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام: 60].
والإشارة بـ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى المذكور: إما من قوله: {وَالشَّمْسُ
(22/231)
تَجْرِي} أي ذلك الجري، وإما منه ومن قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} [يس: 37] أي ذلك المذكور من تعاقب الليل والنهار.
وذكر صفتي {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} لمناسبة معناهما للتعلق بنظام سير الكواكب، فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم، والعلم يناسب النظام البديع الدقيق،وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في سورة الفرقان [61].
[39] {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [39]}.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب برفع {وَالْقَمَرَ} فهو إما معطوف على {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} [يس: 38]عطف المفردات،وإما مبتدأ والعطف من عطف الجمل.
وجملة: {قَدَّرْنَاهُ} إما حال وإما خبر. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلف بنصب {الْقَمَرَ} على الاشتغال فهو إذن من عطف الجمل.
وتقدم تفسير منازل القمر عند قوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} في سورة يونس [5].
والتقدير: يطلق على جعل الأشياء بقدر ونظام محكم، يطلق على تحديد المقدار من شي تطلب معرفة مقداره مثل تقدير الأوقات وتقدير الكميات من الموزونات والمعدودات، وكلا الإطلاقين مراد هنا. فإن الله قدر للشمس والقمر نظام سيرهما وقدر بذلك حساب الفصول السنوية والأشهر والأيام والليالي.
وعدي فعل {قَدَّرْنَاهُ} إلى ضمير {الْقَمَرَ} الذي هو عبارة عن ذاته وإنما التقدير لسيره ولاكن عدي التقدير إلى اسم ذاته دون ذكر المضاف مبالغة في لزوم السير له من وقت خلقه حتى كأن تقدير سيره تقدير لذاته.
وانتصب {مَنَازِلَ} على الظرفية المكانية مثل:سرت أميالا، أي قدرنا سيره في منازل ينتقل بسيره فيها منزلة بعد أخرى.
و {حَتَّى} ابتدائية، أي ليست حرف جر فإن ما بعدها جملة. ومعنى الغاية لا يفارق {حَتَّى} فآذن ما فيها من معنى الغاية بمغيا محذوف فالغاية تستلزم ابتداء شي. والتقدير:
(22/232)
فابتداء ضوءه وأذ في الازدياد ليلة قليلة ثم أخذ في التناقص حتى عاد، أي صار كالعرجون التقديم، أي شبيها به. وعبر عنه بهذا التشبيه إذ ليس لضوء القمر في أواخر لياليه اسم يعرف به بخلاف أول أجزاء ضوئه المسمى هلالا، ولأن هذا التشبيه يماثل حالة استهلاله كما يماثل حالة انتهائه.
و {عَادَ} بمعنى صار شكله للرائي كالعرجون. والعرجون: العود الذي تخرجه النخلة فيكون الثمر فيها منتهاه وهو الذي يبقى متصلا بالنخلة بعد قطع الكباسة منه وهي مجتمع أعواد التمر.
و {الْقَدِيمِ} : هو البالي لأنه إذا انقطع الثمر تقوس واصفر وتضاءل فأشبه صورة ما يواجه الأرض من ضوء القمر في آخر ليالي الشهر وفي أول ليلة منه، وتركيب {عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} صالح لصورة القمر في الليلة الأخيرة وهي التي يعقبها المحاق ولصورته في الليلة الأولى من الشهر هو الهلال. وقد بسط لهم بيان سير القمر ومنازله لأنهم كانوا يتقنون علمه بخلاف سير الشمس.
[40] {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [40]}.
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سماها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكأن الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلمة بعلامات نجومية تسمى بروجا بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليما بأن للشمس سيرا لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيرا لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الأخر وأن ما يتراءى للناس من شدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى و إنما ذلك من تباعد
(22/233)
الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربا لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طلب فحصل للذي طلبه، يقال: بغاه فانبغى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبا، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. يقال: لا ينبغي لك كذا، ففرق ما بين قولك: ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك: لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] وتقدم قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} في سورة مريم [92]، ومنه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] في هذه السورة.
والإدراك: اللحاق والوصول إلى البغية فقوله: {أَنْ تُدْرِكَ} فاعل {يَنْبَغِي} فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمس القمر. والمعنى: نفي أن تصطدم الشمس بالقمر، خلافا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الأخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقوي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} خصوصيتان.
ولما ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر، وكان القمر مقارنا لليل، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أن الليل ليس بمفلت للنهار، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة، كقول مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} في سورة العنكبوت
(22/234)
[4]، و المعنى: أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأولية بالسير لأن ذلك لا يتصور في تداول الليل والنهار، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداء التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين.
والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخر فاستقر في الأفق لتعطلت منافع جمة من حياة الناس والحيوان.
وفي الكلام اكتفاء، أي لأن التقدير: ولا القمر يدرك الشمس، ولا النهر سابق الليل.
وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} عطف على جملة: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}. والواو عاطفة ترجيحا لجانب الإخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل، وإلا فحق التذييل الفصل. وما أضيف إليه {كُلٌّ} محذوف، وتنوين {كُلٌّ} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، فالتقدير: وكل الكواكب.
وزيدة قرينة السياق تأكيدا بضمير الجمع في قوله: {يَسْبَحُونَ} مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.
والفلك: الدائرة المفروضة في الخلاء الجوي لسير أحد الكواكب سيرا مطردا لا يحيد عنه، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.
وسمى العرب تلك الطرائق أفلاكا وأحدها فلك اشتقوا له اسما من اسم فلكة المغزل، وهي عود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلف المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفيها. فلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسما كرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفلك. وسمو ما بين مبدأ المدتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة واصلح لهم ما توهموا بقوله:
(22/235)
{يَسْبَحُونَ} ، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.
وجيء بضمير: {يَسْبَحُونَ} ضمير جمع مع أن التقدم ذكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.
وجملة {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ} فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.
[41- 44] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [41] وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [42] وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [43] إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [44]}.
انتقال من عد آيات في السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفلك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها.
وقد ذكر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان. ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جعلت الآية نفس الحمل إدماجا للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل:وآية لهم صنع الفلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم.
وأطلق الحمل على الإنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسبيية، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفلك حين الطوفان.
والذريات: جمع ذرية وهي نسل الإنسان. و {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه وهو {الْمَشْحُونِ} ولم يقل: المشحونة كما قال: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء [119] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.
(22/236)
وتعدية: {حَمَلْنَا} إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.
ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحا بصنع الفلك لإنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نزل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في ومن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازا في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة: 11, 12].
وضمير {ذُرِّيَّتَهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {لَهُمْ} أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهم لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحا بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملا لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفا.
هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي: وهي من أشكل ما في السورة، وقال ابن عطية: "قد خلط بعض الناس حتى قالوا: الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة" وتقدم قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} في سورة الأعراف [172].
وقرأ نافع وابن عامر {ذُرِّيَّتَهُمْ} بلفظ الجمع. وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع، والمعنى واحد. وقد فهم من دلالة قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} صريحا وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جدة وأهل ينبع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه: أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم. وقد وصف طرفة السفن في معلقته.
وجملة: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيرا بنعمة خلق الإبل صالة للأسفار فحكيت آية الإلهام بصنع الفلك من
(22/237)
حيث الحكمة العظيمة في الإلهام وتسخير البحر لها وإيجاد في وقت الحاجة لحفظ النوع، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإيجاد دون صنع الناس. وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل {خَلَقْنَا} ، ونظير هذه المقارنة قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12]، فما صدق {مَا يَرْكَبُونَ} هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحا لمخر البحار، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البر و {مِنَ} التي في قوله: {مِنْ مِثْلِهِ} بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من {مَا} الموصولة في قوله: {مَا يَرْكَبُونَ} . والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.
وجملة {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} عطف على جملة {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيراً بأن الله تعالى الذي امتن عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها. وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة. وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحض في سياق الشرط لكونه مستقبلاً، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء: 68- 69]
والصريخ: الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب: جاءهم الصريخ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه، وهو فعيل بمعنى فاعل. ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيبا بما يطمئن له من النصر. وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في "الكامل":
إنا إذا أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
والظنابيب: جمع ظنبوب وهو مسمار يكون في جبة السنان. وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعدادا للخروج.
والمعنى: لا يجدون من يستصرخون به وهم في لجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.
(22/238)
والإنقاذ: الانتشال من الماء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} لإفادة تقوي الحكم وهو نفي الحكم وهو نفي إنقاذ أحد إياهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا رَحْمَةً} منقطع فإن الرحمة ليست من الصريخ ولا من المنقذ وإنما هي إسعاف الله تعالى إياهم بسكون البحر وتمكينهم من السبح على أعواد الفلك.
و {وَمَتَاعاً} عطف على {رَحْمَةً} ، أي إلا رحمة هي تمتيع إلى أجل معلوم فإن كل حي طائر إلى الموت فإذا نجا من موته استقبلته موتة أخرى ولكن الله أودع في فطرة الإنسان حب زيادة الحياة مع علمه بأنه لا محيد له عن الموت.
[45, 46] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [45] وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [46]}.
تخلص الكلام من عدم انتفاعهم بالآيات الدالة على وحدانية الله إلى عدم انتفاعهم بالأقوال المبلغة إليهم في القرآن من الموعظة، والتذكير بما حل بالأمم المكذبة أن يصيبهم مثل ما أصابهم، وبعدم انتفاعهم بتذكير القرآن إياهم بالأدلة على وحدانية الله، وعلى البعث.
وبناء فعل {قِيلَ} للمجهول لظهور أن القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله تعالى، أي قيل لهم في القرآن.
وما بين الأيدي يراد منه المستقبل، وما هو خلف يراد منه الماضي، قال تعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50]، أي ما تقدمني. وذلك أن أصل هذين التركيبين تمثيلان فتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف إليه بسائر إلى مكان فالذي بين يديه هو ما سيرد هو عليه، والذي من ورائه هو ما خلفه خلفه في سيره، وتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف بسائر، فهو إذا كان بين يدي المضاف إليه فقد سبقه في السير فهو سابق له وإذا كان خلف المضاف إليه فقد تأخر عنه فهو وارد بعده.
وقد فسرت هذه الآية بالوجهين فقيل: ما بين أيديكم من أمر الآخرة وما خلفكم من أحوال الأمم في الدنيا، وهو عن مجاهد وابن جبير عن ابن عباس. وقيل: ما بين أيديكم
(22/239)
أحوال الأمم في الدنيا وما خلفكم من أحوال الآخرة وهو عن قتادة وسفيان. ومتى حمل أحد الموصولين على ما سبق من أحوال الأمم وجب تقدير مضافين قبل {مَا} الموصولة هما المفعول، أي اتقوا مثل أحوال ما بين أيديكم، أو أحوال ما خلفكم، ولا يقدر مضافان في مقابله لأن ما صدق {مَا} الموصولة فيه حينئذ هو عذاب الآخرة فهو مفعول {اتَّقُوا} . وتقدم قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة البقرة [66].
و"لعل" للرجاء، أي ترجى لكم رحمة الله، لأنهم إذا اتقوا حذروا ما يوقع في المتقى فارتكبوا واجتنبوا وبادروا بالتوبة فيما فرط فرضي ربهم عنهم فرحمهم بالثواب وجنبهم العقاب. والكلام في "لعل" الواردة في كلام الله تعالى تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة [21].
وجواب {إِذَا} محذوف دل عليه قوله في الجملة المعطوفة {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . فالتقدير هنا: كانوا معرضين.
وجملة: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} واقعة موقع التذييل لما قبلها، ففيها تعميم أحوالهم وأحوال ما يبلغونه من القرآن، فكأنه قيل: وإذا لهم اتقوا أعرضوا، والإعراض دأبهم في كل ما يقال لهم.
والآيات: آيات القرآن التي تنزل فيقرؤها البني صلى الله عليه وسلم عليهم، فأطلق على بلوغها إليهم فعل الإتيان. ووصفها بأنها من آيات ربهم للتنويه بالآيات والتشنيع عليهم بالإعراض عن كلام ربهم كفرا بنعمة خلقه إياهم.
و {مَا} نافية، والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما تأتيهم آية في حال من أحوالهم إلا كانوا عنها معرضين. وجملة {كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في موضع الحال.
[47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [47]}.
كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفيا منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله:
(22/240)
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قبل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فبقولون: لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا. وقد يقول بعضهم ذلك جهلا فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20].
وإظهار الموصول من قوله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في مقام الإضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: قالوا أنطعم الخ لنكتة الإيمان إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإنفاق عليهم.
روى ابن عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشركين بالإنفاق على الساكين في شدة أصابت الناس فشح فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ، ويجوز أن تكون اللام للعلة، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: 11] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإنفاق على فقراء المؤمنين.
والاستفهام في {أَنُطْعِمُ} إنكاري، أي لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم.
والتعبير في جوابهم بالإطعام مع أن المطلوب هو الإنفاق: إما المجرد التفنن تجنبا لإعادة اللفظ فإن الإنفاق يراد منه الإطعام، وإما لأنهم سئلوا الإنفاق وهو أعم من الإطعام لأنه يشمل الإكساء والإسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإنفاق، ولأنهم كانوا يعيرون من يشح بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى.
(22/241)
وجملة {أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} من قول المشركين يخاطبون المؤمنين، أي ما أنتم في قولكم {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح. وجعلوه ضلالا لجهلهم بصفات الله، وجعلوه مبينا لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه.
والجملة تعليل للإنكار المستفاد من الاستفهام.
[48- 50] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [48] مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [49] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [50]}.
ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لما منعوهم الإنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحل بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب. وأطلق الوعد على الإنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعم ويتعين للخير والشر بالقرينة. واسم الإشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس ابن الخيطم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يفلتون من أخذتها.
وفعل {يَنْظُرُونَ} مشتق من النظرة وهو الترقب، وتقدم في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنعام: 158].
والصيحة: الصوت الشديد الخارج من حلق الإنسان لزجر, أو استغاثة. وأطلقت الصيحة في مواضع في القران على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73]. فالصحة هنا تحمل المجاز، أي ما ينظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة. والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية، فيكون أسلوب الكلام خارجا على الأسلوب الحكيم إعراضا عن جوابهم لنهم لم يقصدوا حقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه.
ومعنى: {تَأْخُذُهُمْ} تهلكهم فجأة، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المغيرين على
(22/242)
الحي لأخذ أنعامه وسبي نسائه، فأطلق على ذلك الحلول فعل {تَأْخُذُهُمْ} كقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] أي تحل بهم وهم يختصمون. وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقية عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها.
ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل، فيكون إنذار بعذاب الدنيا. ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعرض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر.
و {يَخِصِّمُونَ} من الخصومة والخصام وهو الجدال، وتقدم في قوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105]، وقوله {هَذَانِ خَصْمَانِ} في سورة الحج [19]. وأصله: يختصمون فوقع إبدال التاء ضادا لقرب مخرجيهما طلبا للتخفيف بالإدغام.
واختلف القراء في كيفية النطق بها، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك: فقرأ ورش عن نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية عنه {يَخِصِّمُونَ} بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صادا المسكنة لأجل الإدغام، ألقيت حركتها على الخاء التي كانت ساكنة. وقرأة قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكونا مختلساً "بالفتح" لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشددة. وقرأه عاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب وخلف {يَخِصِّمُونَ} بكسر الخاء وكسر الصاد مشددة. وقرأه حمزة {يَخْصِّمُونَ} بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع "خصم" قيل بمعنى جادل. وقرأ أبو جعفر {يَخْصِّمُونَ} بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين.
والاختصام: اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حل بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير. وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} لإفادة تقوي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم.
وفرع على {تَأْخُذُهُمْ} جملة {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي لا يتمكنون من توصية على أهلهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم، إذا لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك
(22/243)
يأتي على جميع الناس.
وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى: أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر، أو إلى ترقب وصول الجيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يوصونه بأهليهم.
والتوصية: مصدر وصى المضاعف وتنكيرها للتقليل، أي لا يستطيعون توصية ما.
وقوله: {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} يجوز أن تكون عطفا على {تَوْصِيَةً} ، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة "لا يستطيعون" فيكون مما شمله التفريع بالفاء، أي فلا يرجعون إلى أهلهم، أي هم هالكون على الاحتمالين، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير {يَرْجِعُونَ} بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولون كبر التكذيب والعناد، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح.
[51] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [51]}.
يجوز أن تكون الواو للحال والجملة موضع الحال، أي ما ينظرون إلا صيحة واحدة وقد نفخ في الصور الخ..ويجوز أن تكون الواو اعتراضية، وهذا الاعتراض واقع بين جملة {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] الخ... وجملة {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} [يس: 66].
والمقصود: وعظهم بالبعث الذي أنكروه وبما وراءه.
والماضي مستعمل في تحقق الوقوع مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]. والمعنى: وينفخ في الصور، أي وينفخ نافخ في الصور، وهو الملك الموكل به، وأسمه إسرافيل. وهذه النفخة الثانية التي في قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].
و"إذا" للمفاجأة وهي حصول مضمون الجملة التي بعدها سريعا وبدون تهيؤ. وضمير {هُمْ} عائد إلى ما عادت إليه الضمائر السابقة. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام، أي فإذا الناس كلهم ومنهم المتحدث عنهم.
و {الْأَجْدَاثِ} : جمع جدث بالتحريك، وهو القبر.
(22/244)
و {يَنْسِلُونَ} يمشون مشيا سريعا. وفعله من باب ضرب وورد من باب نصر قليلا. والمصدر: النسلان، على وزن الغليان لما في معنى الفعل من التقليب والاضطراب، وتقدم في آخر سورة الأنبياء. وهذا يقتضي أنهم قبروا بعد الصيحة التي أخذتهم فإن كانت الصيحة الواقعة فلأجداث هي ما يعلوهم من التراب في المدة التي بين الصيحة والنفخة. وقد ورد أن بينهما أربعين سنة إذ لا يبقى بعد تلك الصيحة أحد من البشر ليدفن من هلك منهم، وإن كانت الصيحة صيحة الفزع إلى القتل فالأجداث على حقيقتها مثل قليب بدر.
ومعنى: {إِلَى رَبِّهِمْ} إلى حكم ربهم وحسابه، وهو متعلق بـ {يَنْسِلُونَ} .
[52] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [52]}.
استئناف بياني لأن وصف هذه الحال بعد حكاية إنكارهم البعث وإحالتهم إياه يثير سؤال من يسأل عن مقالهم حينما يرون حقيقة البعث.
و {يَا وَيْلَنَا} كلمة يقولها الواقع في مصيبة أو المتحسر. والويل: سوء الحال، وإنما قالوا ذلك لأنهم رأوا ما أعد لهم من العذاب عندما بعثوا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعا لحكاية ما قبله بصيغة المضي لتحقيق الوقوع.
وحرف النداء الداخل على {وَيْلَنَا} للتنبيه وتنزيل الويل منزلة من يسمع فينادى ليحضر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى} في سورة هود [72].
و {مَنْ} استفهام عن فاعل البعث مستعمل في التعجب والتحسر من حصول البعث. ولما كان البعث عندهم محالا كنوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله لأن الأفعال الغريبة تتوجه العقول إلى معرفة فاعلها لأنهم لما بعثوا وأزجي بهم إلى العذاب علموا أنه بعث فعله من أراد تعذيبهم.
والمرقد: مكان الرقاد. وحقيقة الرقاد: النوم. وأطلقوا الرقاد على الموت والاضطجاع في القبور تشبيها بحالة الراقد.
ثم لم يلبثوا أن استحضرت نفوسهم ما كانوا ينذرون به في الدنيا فاستأنفوا عن
(22/245)
تعجبهم قولهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . وهذا الكلام خبر مستعمل في لازم الفائدة وهو أنهم علموا سبب ما تعجبوا منه فبطل العجب، فيجوز أن يكونوا يقولون ذلك كما يتكلم المتحسر بينه وبين نفسه، وأن يقوله بعضهم لبعض كل يظن أن صاحبه لم يتفطن للسبب فيريد أن يعلمه به.
وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمان إكمالا للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارنا للبعث في تكذيبهم وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60].
والإشارة بقوله: {هَذَا} إشارة إلى الحالة المرئية لجميعهم وهي حالة خروجهم من الأرض.
وجملة: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} عطف على جملة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وهو مستعمل في التحسر على أن كذبوا الرسل.
وجمع المرسلون مع أن المحكي كلام المشركين الذين يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] إما لأنهم استحضروا أن تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم كان باعثه إحالتهم إن يكون الله يرسل بشرا رسولا، فكان ذلك لأنهم لا يصدقون أحدا يأتي برسالة من الله كما حكى عنهم قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فلما تحسروا على خطإهم ذكروه بما يشمله ويشمل سببه كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الشعراء [105]. وقوله في سورة الفرقان [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} ، وإما لأن ذلك القول صدر عن جميع الكفار المبعوثين من الأمم فعلمت كل أمة خطأها في تكذيب رسولها وخطأ غيرها في تكذيب رسلهم فنطقوا جميعا بما يفصح عن الخطأين، وقد مضى أن ضمير {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} [يس: 53] يجوز أن يعود على جميع الناس.
ومن المفسرين من جعل قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} من كلام الملائكة يجيبون به قول الكفار {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} فهذا جواب يتضمن بيان من بعثهم مع تنديمهم على تكذيبهم به في الحياة الدنيا حين أبلغهم الرسل ذلك عن الله تعالى. واسم {الرَّحْمَنُ} حينئذ من كلام الملائكة لزيادة توبيخ الكفار على تجاهلهم به في الدنيا.
[53] {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [53]}.
(22/246)
فذلكة لجملة {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] إلى قوله: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] لأن النفخ مرادف للصيحة في إطلاقها المجازي، فاقتران فعل كانت بتاء التأنيب لتأويل النفخ مأخوذ من {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] بمعنى النفخة ينظر إلى الإخبار عنه بـ {صَيْحَةً} . ووصفها بـ {وَاحِدَةً} لأن ذلك الوصف هو المقصود من الاستثناء المفرغ، أي ما كان ذلك الفخ إلا صيحة واحدة لا يكرر استدعاؤهم للحضور بل النفخ الواحد يخرجهم من القبور ويسير بهم ويحضرهم للحساب.
وأما قول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] فتلك نفخة سابقة تقع على الناس في الدنيا فيفنى بها الناس وسيأتي ذكرها في سورة الزمر.
ولما كان قوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً} في قوة التكرير والتوكيد لقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] كان ما تفرع عليه من قوله: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بمنزلة العطف على قوله: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] فكأنه مثل {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] و {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، وإعادة حرف المفاجأة إيماء إلى حصول مضمون الجملتين المقترنتين بحرف المفاجأة في مثل لمح البصر حتى كأن كليهما مفاجأ في وقت واحد. وتقدم الكلام على نظير هذا التركيب آنفا.
و {جَمِيعٌ} نعت للمبتدأ، أي هم جميعهم، فالتنوين في {جَمِيعٌ} عوض المضاف إليه الرابط للنعت بالمنعوت، أي مجتمعون لا يحضرون أفواجا وزرافات، وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]} في هذه السورة.
وقرأ الجمهور بنصب {صَيْحَةً}. وقراه أبو جعفر بالرفع إلى أن كان تامة، وتقدم نظيره في أوائل السورة.
[54] {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [54]}.
إن كان قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] حكاية لكلام الكفار يوم البعث كان هذا كلاما من قبل الله تعالى بواسطة الملائكة وكانت الفاء في قوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فاء فصيحة وهي التي تفصح وتنبئ عن كلام مقدر نشأ عن قوله: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] فهو خطاب للذين قالوا: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. والمعنى: فقد أيقنتم أن وعد الله حق وأن الرسل صدقوا فاليوم يوم
(22/247)
الجزاء كما كان الرسل ينذرونكم.
وإن كان قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس: 52] من كلام الملائكة كانت الفاء تفريعا عليه وكانت جملة {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] الخ معترضة بين المفرع والمفرع علبه.
و"اليوم" ظرف وتعريفه للعهد، وهو عهد حضور يعني يوم الجزاء. وفائدة ذكر التنويه بذلك اليوم بأنه يوم العدل.
وأشعر قوله: {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} بالتعريض بأنهم سيلقون جزاء قاسياً لكنه عادل لا ظلم فيه لأن نفي الظلم يشعر بأن الجزاء مما يخال أنه متجاوز معادلة الجريمة، وهو معنى: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إلا على وفاق ما كنتم تعملون وعلى مقداره. وانتصب {شَيْئاً} على المفعول المطلق، أي شيئا من الظلم.
ووقوع {نَفْسٌ} و {شَيْئاً} وهما نكرتان في سياق النفي يعم انتفاء كل ذلك عن كل نفس وانتفاء كل شيء من حقيقة الظلم وذلك يعم جميع الأنفس..ولكن المقصود أنفس المعاقبين، أي أن جزاءهم على حسب سيئاتهم جزاء عادل. وإذ قد كان تقديره من الله تعالى وهو العليم بكل شيء كانت حقيقة العدل محققة في مقدار جزائهم إذ كل عدل غير عدل الله معرض للزيادة والنقصان في نفس الأمر ولكنه يجري على حسب اجتهاد الحاكمين، والله لم يكلف الحاكم إلا ببذل جهده في إصابة الحق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد".
[55- 57] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [55] هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [56] لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [57]}.
هذا من كلام الذي يلقى من الملائكة، والجملة مستأنفة، وهذا مما يقال لمن حق عليهم العذاب إعلاما لهم بنزول مرتبتهم عن مراتب أهل الجنة إعلانا بالحقائق لأن ذلك عالم الحقائق وإدخالا للندامة عليهم على ما فرطوا فيه من طلب الفوز في الآخرة. وهذا يؤذن بأن أهل الجنة عجل بهم إلى النعيم قبل أن يبعث إلى النار أهلها، وأن أهل الجنة غير حاضرين ذلك المحضر.
وتعريف {الْيَوْمَ} للعهد كما تقدم. وفائدة ذكر الظرف وهو {الْيَوْمَ} التنويه بذلك
(22/248)
اليوم بأنه يوم الفضل على المؤمنين المتقين.
والشغل: مصدر شغله، إذا ألهاه. يقال: شغله بكذا عن كذا فاشتغل به. والظرفية مجازية، جعل تلبسهم بالشغل كأنهم مظروفون فيه، أي أحاط بهم شغل عن مشاهدة موقف أهل العذاب صرفهم الله عن منظر المزعجات لأن مشاهدتها لا تخلو من انقباض النفوس، ولكون هذا هو المقصود عدل عن ذكر ما يشغلهم إذ لا غرض في ذكره، فقوله: {فِي شُغُلٍ} خبر {إِنَّ} و {فَاكِهُونَ} خبر ثان.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {شُغُلٍ} بضم فسكون. وقرأه الباقون بضمتين وهما لغتان فيه.
والفاكه: ذو الفكاهة بضم الفاء، وهي المزاح بالكلام المسر والمضحك، وهي اسم مصدر: فكه بكسر الكاف، إذا مزح وسر. وعن بعض اللغة: أنه لم يسمع له فعل من الثلاثي، وكأنه يعني قلة استعماله، وأما الأفعال غير الثلاثية من هذه المادة فقد جاء في المثل: لا تفاكه أمه ولا تبل على أكمه، وقال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65].
وقرأ الجمهور: {فَاكِهُونَ} بصيغة اسم الفاعل. وقرأه أبو جعفر بدون ألف بصيغة مثال المبالغة.
وجملة: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} إلى آخرها واقعة موقع البيان لجملة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الخ. والمراد بأزواجهم: الأزواج اللاتي أعدت لهم في الجنة. ومنهن من كن أزواجا لهم في الدنيا إن كن غير ممنوعات من الجنة قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23].
والضلال قرأه الجمهور بوزن فعال بكسر أوله على جمع ظل، أي ظل الجنات. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {ظِللٍ} بضم الظاء وفتح اللام جمع "ظلة" وهي ما يظل كالقباب. وجمع الظلال على القراءتين لأجل مقابلته بالجمع وهم أصحاب الجنة، فكل منهم في ظل أو في ظلة.
و {الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة، والأريكة: اسم لمجموع السرير والحجلة، فإذا كان السرير في الحجلة سمي الجميع أريكة. وهذا من الكلمات الدالة على شيء مركب من شيئين مثل المائدة اسم للخوان الذي عليه طعام.
والاتكاء: هيئة بين الاضطجاع والجلوس وهو اضطجاع على جنب دون وضع
(22/249)
الرأس والكتف على الفراش. وهو افتعال من وكأ المهموز، إذا اعتمد، أبدلت واوه تاء كما أبدلت في: تجاه وتراث، وأخذ منه فعل اتكاء لأن المتكئ يشد قعدته ويرسخها بضرب من الاضطجاع. والاسم منه التكأة بوزن همزة، وهو جلوس المتطلب للراحة والإطالة وهو جلسة أهل الرفاهية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} في سورة يوسف [31]. وكان المترفهون من الأمم المتحضرة يأكلون متكئين كان ذلك عادة سادة الفرس والروم ومن يتشبه بهم من العرب ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا" وذلك لأن الاتكاء يعين على امتداد المعدة فتقبل زيادة الطعام ولذلك كان الاتكاء في الطعام مكروها للإفراط في الرفاهية. وأما الاتكاء في غير حال الأكل فقد اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه كما في حديث صمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر: أنه دخل المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: "هو ذلك الأزهر المتكئ".
والفاكهة: ما يؤكل للتلذذ لا للشبع كالثمار النقول وإنما خصت بالذكر لأنها عزيزة النوال للناس في الدنيا ولأنها استجلبها ذكر الاتكاء لأن شأن المتكئين أن يشتغلوا بتناول الفواكه.
ثم عمم ما أعد لهم بقوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} و {يَدَّعُونَ} يجوز أن يكون متصرفا من الدعاء أو من الادعاء، أي ما يدعون إليه أو ما يدعون في أنفسهم أنه لهم بإلهام إلهي. وصيغ له وزن الافتعال للمبالغة، فوزن {يَدَّعُونَ} يفتعلون. أصله يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين طلبا للتخفيف لأن الضم على الياء ثقيل يعد حذف حركة العين فبقيت الياء ساكنة وبعدها واو الجماعة لأنه مفيد معنى الإسناد إلى الجمع.
وهذا الافتعال لك أن تجعله من "دعاء"، والافتعال هنا يجعل فعل "دعاء" قاصرا فينبغي تعليق مجرور به. والتقدير: ما يدعون لأنفسهم، كقول لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل1
اشتوى إذا شوى لنفسه واجتمل إذا جمل لنفسه، أي جمع الجميل وهو الشحم المذاب وهو الإهالة.
ـــــــ
1 قبله:
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ماسأل
أرسلته فأتاه رزقه ... .................... الخ.
(22/250)
وإن جعلته من الادعاء فمعناه: أنهم يدعون ذلك حقا لهم، أي تتحدث أنفسهم بذلك فيؤول إلى معنى: ويتمنون في أنفسهم دون احتياج إلى أن يسألوا بالقول فلذلك قيل معنى: {يَدَّعُونَ} يتمنون. يقال: ادع علي ما شئت، أي تمن علي، وفلان في خير ما ادعى، أي في خير ما يتمنى، ومنه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} في سورة فصلت [31].
[58] {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [58]}.
استئناف قطع عن أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه، وهو الدلالة على الكرامة والعناية بأهل الجنة من جانب القدس إذ يوجه إليهم سلام الله بكلام يعرفون أنه قول من الله: إما بواسطة الملائكة، وإما بخلق أصوات يوقنون بأنها مجعولة لأجل إسماعهم كما سمع موسى كلام الله حين ناداه من جانب الطور من الشجرة فبعد أن أخبر بما حباهم به من النعيم مشيرا إلى أصول أصنافه، أخبر بأن لهم ما هو أسمى وأعلى وهو التكريم بالتسليم عليهم قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
و {سَلامٌ} مرفوع في جمع القراءات المشهورة. وهو مبتدأ وتنكيره للتعظيم. ورفعه للدلالة على الدوام والتحقيق، فإن أصله النصب على المفعولية المطلقة نيابة عن الفعل مثل قوله: {قَالُوا سَلاماً} [هود: 69]. فلما أريدت الدلالة على الدوام جيء به مرفوعا مثل قوله: {قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
وحذف خبر {سَلامٌ} لنيابة المفعول المطلق وهو {قَوْلاً} عن الخبر لأن تقديره: سلام يقال لهم قولا من الله، والذي اقتضى حذف الفعل ونيابة المصدر عنه هو استعداد المصدر لقبول التنوين الدال على التعظيم، والذي اقتضى أن يكون المصدر منصوبا دون أن يؤتى به مرفوعا هو ما يشعر به النصب من كون المصدر جاء بدلا عن الفعل.
و {مِنْ} ابتدائية. وتنوين {رَبٍّ} للتعظيم، ولأجل ذلك عدل عن إضافة {رَبٍّ} إلى ضميرهم، واختير في التعبير عن الذات العلية بوصف الرب لشدة مناسبته للإكرام والرضى عنهم بذكر أنهم عبدوه في الدنيا فاعترفوا بربوبيته.
[59] {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [59].
(22/251)
يجوز أن يكون عطفا على جملة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] ويجوز أن يعطف على {سَلامٌ قَوْلاً} [يس: 58]، أي ويقال: امتازوا اليوم أيها المجرمون، على الضد مما يقال لأصحاب الجنة. والتقدير: سلام يقال لأهل الجنة قولا، ويقال للمجرمين: امتازوا، فتكون من توزيع الخاطبين في مقام واحد كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29].
وامتاز مطاوع مازه، إذا أفرده عما مختلطا معه، وجه الأمر إليهم بأن يمتازوا مبالغة في الإسراع بحصول الميز لأن هذا الأمر تكوين فعبر عن معنى. فيكون الميز بصوغ الأمر من مادة المطاوعة، فإن قولك: لتنكسر الزجاجة أشد في الإسراع بحصول الكسر فيها من أن تقول: اكسروا الزجاجة. والمراد: امتيازهم بالابتعاد عن الجنة، وذلك بأن يصيروا إلى النار فيؤول إلى معنى: ادخلوا النار. وهذا يقتضي أنهم كانوا في المحشر ينتظرون ماذا يفعل بهم كما أشرنا إليه عند قوله تعالى آنفا: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55]، فلما حكي ما فيه أصحاب الجنة من النعيم حين يقال لأصحاب النار: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [يس: 54]، حكي ذلك ثم قيل للمشركين: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59}.
وتكرير كلمة {الْيَوْمَ} ثلاث مرات في هذه الحكاية للتعريض بالمخاطبين فيه وهم الكفار الذين كانوا يجحدون وقوع ذلك اليوم مع تأكيد ذكره على أسماعهم بقوله: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} [يس: 54] وقوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس: 55] وقوله: {امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
ونداؤهم بعنوان: و {الْمُجْرِمُونَ} للإيماء إلى علة ميزهم عن أهل الجنة بأنهم مجرمون، فاللام في {الْمُجْرِمُونَ} موصولة، أي أيها الذين أجرموا.
[60- 62] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [60] وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [61] وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [62]}.
إقبال على جميع البشر الذي جمعهم المحشر غير أهل الجنة الذين عجلوا إلى الجنة، فيشمل هذا جميع أهل الضلالة من مشركين وغيرهم، ولعله شامل لأهل الأعراف، وهو إشهاد على المشركين وتوبيخ لهم.
(22/252)
والاستفهام تقريري، وخطبوا بعنوان {بَنِي آدَمَ} لأن مقام التوبيخ على عبادتهم الشيطان يقتضي تذكيرهم بأنهم أبناء الذي جعله الشيطان عدوا له، كقول النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيدا الذي عند حارب
وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمس بالجيش دار المحارب
يعني بلاد من حارب أصوله.
والعهد: الوصاية، ووصاية الله آدم بألا يعبدوا الشيطان هي ما تقرر واشتهر في الأمم بما جاء به الرسل في العصور الماضية فلا يسع إنكاره. وبهذا الاعتبار صح الإنكار عليهم في حالهم الشبيه بحال من يجحد هذا العهد.
واعلم أن في قوله تعالى: {أَعْهَدْ} تولي العين والهاء حرفان متقاربا المخرج من حروف الحلق إلا أن تواليهما لم يحدث ثقلا في النطق بالكلمة ينافي الفصاحة بموجب تنافر الحروف لأن انتقال النطق في مخرج العين من وسط الحلق إلى مخرج الهاء من أقصى الحلق خفف النطق بهما، وكذلك الانتقال من سكون إلى حركة زاد ذلك خفة. ومثله قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26] المشتمل على حاء وهي من وسط الحلق وهاء وهي من أقصاه إلا أن الأولى ساكنة والثانية متحركة وهما متقاربا المخرج، ولا يعد هذا من تنافر الحروف، ومثل له بقول أبي تمام:
كريم متى أمدحه ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فإن كلمة "امدحه" لا تعد متنافرة الحروف على أن تكريرها أحدث عليها ثقلا ما فلا يكون ذلك مثل قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلى1
المجعول مثالا للتنافر فإن تنافر حروفه انجر إليه من تعاقب ثلاثة حروف: السين والشين والزاي، ولولا الفصل بين السين والشين بالتاء لكان اشد تنافرا.
وموجبات التنافر كثيرة ومرجعها إلى سرعة انتقال اللسان في مخارج حروف شديد التقارب أو التباعد مع عوارض تعرض لها من صفات الحروف من: جهر وهمس، أو شدة ورخو، أو استعلاء واستفال، أو انفتاح وانطباق، أو إصمات وانذلاق. ومن حركاتها
ـــــــ
1 تمامه: تضل العقاص في مثنى ومرسل.
(22/253)
وسكناتها وليس لذلك ضابط مطرد ولا كنه مما يرجع فيه إلى ذوق الفصحاء. وقد حاول أبن سنان الخفاجي إرجاعه إلى تقارب مخارج الحروف فرده أبن الأثير عليه بما لا مخلص منه.
وإذا اقتضى الحال من حق البلاغة إيثاق كلمة ذكر إذ لا يعدلها غيره فعرض من تصاريفها عارض ثقل لا يكون حق مقتضى الحال البلاغي موجبا إيرادها.
و {أَنْ} تفسيرية، فسرت إجمال العهد لأن العهد فيه معنى القول دون حروفه فـ {أَنْ} الواقعة بعد تفسيرية.
وعبادة الشيطان: عبادة ما يأمر بعبادته من الأصنام ونحوها.
وجملة: {لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليل الجملة {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وقد أغنت {أَنْ} عن فاء السببية كما تقدم غير مرة.
و {مُبِينٌ} أسم فاعل من أبان بمعنى بان للمبالغة، أي عدواته واضحة، ووجه وضوحها أن المرء إذ راقب عواقب الأعمال التي توسوسها له نفسه واتهمها وعرضها على وصايا الأنبياء والحكماء وجدها عواقب نحسة، فوضح له أنها من الشيطان بالوسوسة وأن الذي وسوس بها عدو له لأنه لو كان ودودا لما أوقعه في الكوارث ولا يضن به الإيقاع في ذلك عن غير بصيرة لأن التكرر أمثال تلك الوسواس للمرء ولأمثاله ممن يبوح له بأحواله يدل ذلك التكرر على أنها وسواس مقصودة للإيقاع في المهالك فعلم أن المشير بها عدو ألد، ولعل هذا المعنى هو المشار إليه بقوله: تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}.
وجملة: {وَأَنِ اعْبُدُونِي} عطف على {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} بإعادة {أَنْ} التفسيرية فهما جملتان مفسرتان لعهدين.
وعدل عن الإتيان بصيغة قصر لأن في الإتيان بهاتين الجملتين زيادة فائدة لأن من أهل الضلالة الدهريين والعاطلين فهم وإن لم يعبدوا الشيطان ولكنهم لم يعبدوا الله فكانوا خاسئين بالعهد.
والإشارة في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} للعهد المفهوم من فعل {أَعْهَدْ} أو للمذكور في "تفسيره" من جملتي: {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} {وَأَنِ اعْبُدُونِي} ، أي هذا المذكور صراط مستقيم، أي كالطريق القويم في الإبلاغ إلى المقصود. والتنوين للتعظيم.
(22/254)
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} عطف على {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فعداوته واضحة بدليل التجربة فكانت علة للنهي عن عبادة ما يأمرهم بعبادتهم.
والمعنى: إن عداوته واضحة وضوح الصراط المستقيم لأنها تقررت بين الناس وشهدت بها العصور والأجيال فإنه لم يزل يضل الناس إضلالا تواتر أمره وتعذر إنكاره.
والجبل: بكسر الجيم وكسر الموحدة وتشديد اللام كما قرأه نافع وعاصم وأبو جعفر. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب نضم الجيم وضم الباء الموحدة وتخفيف اللام. وقرأه ابن عامر وأبو بكر بضم الجيم وسكون الباء.
والجبل: الجمع العظيم، وهو مشتق من الجبل بسكون الباء بمعنى الخلق. وفرع عليه توبيخهم بقلة العقول بقوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ، فالاستفهام إنكاري عن عدم كونهم يعقلون، أي يدركون، إذ لو كانوا يعقلون لتفطنوا إلى إيقاع الشيطان بهم في مهاوي الهلاك. وزيادة فعل الكون للإيماء إلى أن العقل لم يتكون فيهم ولا هم كائنون به.
[63, 64] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [63] اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [64]}.
إقبال على خطاب الذين عبدوا معبودات يسولها لهم الشيطان، إذ تبدو لهم جهنم بحيث يشار إليها ويعرفون أنها هي جهنم التي كانوا في الدنيا ينذرون بها وتذكر لهم في الوعيد مدة الحياة. والأمر بقوله: {اصْلَوْهَا} مستعمل في الإهانة والتنكير.
و {اصْلَوْهَا} أمر من صلي يصلى، إذا استدفأ بحر النار، وإطلاق الصلي على الإحراق تهكم.
والتعريف في {الْيَوْمَ} تعريف العهد، أي هذا اليوم الحاضر وأريد به جواب ما كانوا يقولون في الحياة الدنيا من استبطاء الوعد والتكذيب إذ يقولون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48].
والباء في {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} سببية، أي بسبب كفركم في الدنيا.
[65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
(22/255)
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وقوله: {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {نَخْتِمُ} .
والقول في لفظ {الْيَوْمَ} كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل.
وضمائر الغيبة في {أَفْوَاهِهِمْ ، أَيْدِيهِمْ ، أَرْجُلُهُمْ ، يَكْسِبُونَ} عائدة على الذين خوطبوا بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] على طريقة الالتفات. وأصل النظم: اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون. ومواجهتهم بهذا الإعلام تأسيس لهم بأنهم لا ينعهم إنكار ما أطلعوا عليه من صحائف إعمالهم كما قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي أخر فقد قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22- 23] وقال {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28- 29] .
وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخاطب العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم? فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول الله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، فيختم على فيه. فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" ، وإنما طوي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود.
وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين. والمراد بتكلم الأيدي تكلهما بالشهادة، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة، ففي كلتا الجملتين احتباك. والتقدير: وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد.
ويتعلق: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بكل من فعلي {تُكَلِّمُنَا, وَتَشْهَدُ} على وجه التنازع. وما يكسبونه: هو الشرك وفروعه. وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألحقوا به من الأذى.
(22/256)
[66، 67] {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ [66] وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ [67]}.
عطف على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48]. وموقع هاتين الآيتين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة كان ذلك مثيرا لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مثل هذا الإلجاء فألجأهم إلى الإقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته، فهو قد جعل الدنيا جاريا على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها واثارها وتوالداتها حتى إذا بدل هذا العالم الحقيقة أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة. والمعنى أنا ألجأناهم إلى الإقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم.
ولما كانت {لَوْ} تقتضي امتناعا لامتناع فهي تقتضي معنى: لكنا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجا وتمييزا بين الخبيث والطيب. فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله.
فالطمس والمسخ المتعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة. والطمس: مسخ شواهد العين بإزالة سوادها وبياضها أو اختلاطهما وهو العمى أو العور، ويقال: طريق مطموسة، إذا لم تكن فيها آثار السائرين ليقفوها السائر. وحرف الاستعلاء للدلالة على تمكن الطمس وإلا فإن طمس يتعدى بنفسه.
والاستباق: افتعال من السبق والافتعال دال على التكلف والاجتهاد في الفعل أي فبادروا.
و {الصِّرَاطَ} : الطريق الذي يمشى فيه، وتعدية فعل الاستباق إليه على حذف "إلى" بطريقة الحذف والإيصال، قال الشاعر وهو من شواهد الكتاب:
تمرون الديار ولم تعوجوا
أراد: تمرون على الديار.
(22/257)
أو على تضمين "استبقوا" معنى ابتدروا، أي ابتدروا الصراط متسابقين، أي مسرعين لما دهمهم رجاء أن يصلوا إلى بيوتهم قبل أن يهلكوا فلم يبصروا الطريق. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا} في سورة يوسف [17].
و"أنى" استفهام بمعنى "كيف" وهو مستعمل في الإنكار، أي لا يبصرون وقد طمست أعينهم، أي لو شئنا لعجلنا لهم عقوبة في الدنيا يرتدعون بها فيقلعوا عن إشراكهم.
والمسخ: تصيير جسم الإنسان في صورة جسم من غير نوعه، وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} في سورة البقرة [65].
وعن ابن عباس أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وعليه فلا شيء من الأشياء الموجودة الآن ببقية مسخ.
والمكانة: تأنيث المكان على تأويله بالبقعة كما قالوا: مقام ومقامة، ودار ودارة، أي لو نشاء لمسخنا الكافرين في الدنيا في مكانهم الذي أظهروا فيه التكذيب بالرسل فما استطاعوا انصرافا إلى ما خرجوا إليه ولا رجوعا إلى ما أتوا منه بل لزموا مكانهم لزوال العقل الإنساني منهم بسبب المسخ.
وكان مقتضى المقابلة أن يقال: ولا رجوعا، ولكن عدل إلى {وَلا يَرْجِعُونَ} لرعاية الفاصلة فجعل قوله: {وَلا يَرْجِعُونَ} عطفا على جملة "ما استطاعوا" وليس عطفا على {مُضِيّاً} لأن فعل استطاع لا ينصب الجمل. والتقدير: فما مضوا ولا رجعوا فجعلنا لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة وأرحنا منهم المؤمنين وتركناهم عبرة وموعظة لمن بعدهم.
[68] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ [68]}.
قد يلوح في بادئ الرأي أن موقع هذه الآية كالغريب عن السياق قيظن ظان أنها كلام مستأنف انتقل به غرض الحديث عن المشركين وأحوالهم والإملاء لهم إلى التذكير بأمر عجيب من صنع الله حتى يخال أن الذي اقتضى وقوع هذه الآية في هذا الموقع أنها نزلت في تباع نزول الآيات قبلها لسبب اقتضى نزولها.
فجعل كثير من المفسرين موقعها موقع الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا
(22/258)
يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غير خلقة المعمرين من قوله إلى ضعف، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخفي وبالأدون، فيكون معطوفا على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل: لو نشاء لطمسنا الخ لأنا قادرون على قلب الأحوال، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا. وبعد هذا كله فموقع أو العطف غير شديد الانتظام. وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضا قياس تقريب بالخفي وبالأدون.
ومنهم من تكلم عليها معرضا عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبينوا وجه اتصالها بما قبلها. ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا: ما لبثنا في الدنيا إلا عمرا قليلا ولو عمرنا طويلا لما كان منا تقصير، وهو بعيد عن مقتضى قوله: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} . وكل هذا التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري، أي في خلقته أو في أثر خلقه.
وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام، فالذي يظهر أن الذي دفع المفسرين إلى ذلك هو ما ألفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المعمر، فلما تأوله بهذا المعنى ألحقوا تأويل: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} على ما يناسب ذلك.
والوجه عندي أن لكون جملة: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} عطفا على جملة: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط تعليقي، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإملاء لهم، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدهم بحلولها بهم، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة، فمعنى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} من نعمره منهم.
فالتعمير بمعنى الإبقاء، أي من نبقيه منهم ولا نستأصله منهم، أي من المشركين فجعله بين الأمم دليلا، فالتعمير المراد هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]، بأن معناها: ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله: {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} . وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم: فلان من المعمرين، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} . وقد طويت في الكلام جملة تقديرها: ولو نشاء
(22/259)
لأهلكناهم، يدل عليها قوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} ، أي نبقه حيا.
والنكس: حقيقة قلب الأعلى أسفل ما يقرب من الأسفل، قال تعالى: {نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12]. ويطلق مجازا على الرجوع من حال حسنة إلى سيئة، ولذلك يقال: فلان نكس، إذا كان ضعيفا لا يرجى لنجدة، وهو فعل بمعنى مفعول كأنه منكوس في خلائق الرجولة، فـ {نُنَكِّسْهُ} مجاز لا محالة إلا أنا نجعله مجازا في الإذلال بعد العزة وسوء الحالة بعد زهرتها.
و {الْخَلْقِ} : مصدر خلقه، ويطلق على المخلوق كثيرا وعلى الناس. وفي حديث عائشة عن الكنسية التي رأتها أم سلمة وأم حبيبة بالحبشة قال النبي صلى الله عليه وسلم وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ، أي شرار الناس.
ووقوع حرف {فِي} هنا يعين أن الخلق هنا مراد به الناس، أي تجعله دليلا في الناس وهو أليق بهذا المعنى دون في خلقته لأن الإنكاس لا يكون في أصل الخلقة إنما يكون في أطوارها، وقد فسر بذلك قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] أي زادكم قوة وسعة في الأمم، أي في الأمم المعاصرة لكم، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين بالنصر على المشركين ووقوعهم تحت نفوذ المسلمين، فإن أولئك الذين كانوا رؤوسا للمشركين في الجاهلية صاروا في أسر المسلمين يوم بدر وفي حكمهم يوم الفتح فكانوا يدعون الطلقاء.
وقرأ الجمهور: {نُنَكِّسْهُ} بفتح النون الأولى وسكون النون الثانية وضم الكاف مخففة وهو مضارع نكس المتعدي، يقال: نكس رأسه. وقرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وكسر الكاف مشددة مضارع نكس المضاعف.
وفرع على الجمل الشرطية الثلاث وما تفرع عليها قوله: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} استئنافا إنكاريا لعدم تأملهم في عظيم قدرة الله تعالى الدالة على أنه لو شاء لطمس على أعينهم ولو شاء لمسخهم على مكانتهم، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنهم لا يسلمون من نصره المسلمين عليهم لأنهم لو قاسوا مقدورات الله تعالى المشاهدة لهم لعلموا أن قدرته على مسخهم فما دونه من إنزال مكروه بهم أيسر من قدرته على إيجاد المخلوقات العظيمة المتقنة وأنه لا حائل بين تعلق قدرته بمسخهم إلا عدم إرادته ذلك لحكمة علمها فإن القدرة إنما تتعلق بالمقدورات على وفق الإرادة.
(22/260)
وقرأ نافع وابن ذكوان عن أبي عامر وأبو جعفر {أَفَلا يَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب وهو خطاب للذين وجه إليهم قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] الآية. وقرأ الباقون بياء الغيبة لأن تلك الجمل الشرطية لا تخلوا من مواجهة بالتعريض للمتحدث عنهم فكانوا أحرياء أن يعقلوا مغزاها ويتفهموا معناها.
[69, 70] {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [69] لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [70]}.
هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس: 46] فقد بينا أن المراد بالآيات آيات القرآن، فإعراضهم عن القرآن له أحوال شتى: بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 47] الآية، وبعضها بالتكذيب لما ينذرهم به من الجزاء، وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48]. ومن إعراضهم عنه طعنهم في آيات القرآن بأقوال شتى منها قولهم: هو قول شاعر، فلما تصدى القرآن لإبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم: {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء : 5], فقولهم {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يقتضي لا محاولة أنهم يقولون: القرآن شعر.
فالجملة معطوفة على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء: 38], عطف القصة على القصة والغرض على الغرض. ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون الواو للاستئناف، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعرا والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا دون التعرض لتنزيه عن أن يكون ساحرا، أو أن يكون مجنونا لأن الغرض الرد على إعراضهم عن القرآن، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41, 42].
وضير {عَلَّمْنَاهُ} عائد إلى معلوم من مقام الرد وليس عائد إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد.
وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلم للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس
(22/261)
بشاعر. وانتصب {الشِّعْرَ} على أنه مفعول ثان لفعل {عَلَّمْنَاهُ} ، وهذا الفعل من أفعال العلم، ومجرده يتعدى إلى مفعول واحد غالبا نحو علم المسألة. ويتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فإذا دخله التضعيف صار متعدياً إلى مفعولين فقط اعتدادا بأن مجرده متعد إلى واحد كقوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [المائدة: 110] في سورة العقود، وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} في هذه السورة يس~ وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختبار أهل اللسان نبه عليه الرضي في "شرح الكافية" في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعد إلى واحد. فتقدير المعنى: نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحى إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى: أن القرآن ليس من الشعر في شيء، فكانت هاته الجملة ردا على قولهم: هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.
ودل على أن هذا هو المقصود من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} قوله عقبة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكرا وقرآنا وما هو بشعر. والتعليم هنا بمعنى الوحي، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 4, 5] وقال {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113].
وكيف يكون القرآن شعرا والشعر كلام موزون مقفى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة، فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعر، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه. ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول هذا ولا شبهة لهم فيه بحال، فما قولهم ذلك إلا بهتان.
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم وكل من زاول مبادئ القافية من المولدين، ولا أحسبهم دعوه شعرا إلا تعجلا في الإبطال، أو تمويها على الإغفال، فأشاعوا في العرب أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر، وأن كلامه شعر، وينبني عن هذا الظن خبر أنيس بن جنادة الغفاري أخي أبي ذر، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله ابن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: "قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم
(22/262)
وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. قال أبو ذر: فما يقول الناس? قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعة قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على إقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون" ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويطهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق "أنه جمع قريشا عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن وفود العرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بضا، فقالوا: نقول كاهن? فقال: والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون? فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر? قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر..." إلى آخر القصة.
فمعنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} : وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه.
وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبيء القدرة على نظم الشعر لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليما حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وسنتكلم عليه قريبا.
وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا، وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين، وإذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية، بعضها يلتئم منه بيت كامل، وبعضها يتقوم منه مصراع واحد، ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر. في آي القرآن.
وقد أثار الملاحدة هذا المطعن، فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه "إعجاز القرآن" وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي، فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه: إن البيت المفرد لا يسمى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت. وأرى هذا غير كاف هنا لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع وأولى عن البيت.
وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب "مفتاح العلوم":
(22/263)
"إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمدا صلى الله عليه وسلم على أحد أمرين: إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر، وإما أن الدعوى باطلة، وذلك أن في قرآنكم {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر".
ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا:
فمن الطويل من "صحيحه" {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
ومن مخرومه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55].
ومن بحر المديد: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].
ومن بحر الوافر: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
ومن بحر الكامل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
ومن بحر الهجز من مخرومه: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91].
ومن بحر الرجز: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الانسان: 14] .
ومن بحر الرمل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، ونظيره {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3- 2].
ومن البحر السريع: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] ونظره {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء : 18] ومنه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259].
ومن بحر المنسرح: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الانسان: 2].
ومن بحر الخفيف: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1- 2] ومنه {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78]، ونحوه: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود: 78].
ومن بحر المضارع من مخرومه: {يَوْمَ التَّنَاد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32- 33].
ومن بحر المقتضب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10].
ومن بحر المتقارب: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].
فيقال لهم من قبل النظر فيها أوردوه: هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفا أم
(22/264)
لا. وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا. ومن قبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا "يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعرا إلا إذا قصد قائله أن يكون موزونا، ومذهب الذين قالوا: إن تعمد الوزن ليس بواجب بل يكفي أن يلفى موزونا ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول" يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعارا، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لقلته، ويجرى ذلك القرآن مجرى الخالي عن الشعر فيقال بناء على مقتضى البلاغة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} اهـ. كلامه، وقد نحا به نحو أمرين:
أحدهما: أن ما وقع في القرآن من الكلام المتزن ليس بمقصود منه الوزن، فلا يكون شعرا على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن لأنه الله تعالى لم يعبأ باتزانه.
الثاني: إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإن نفي كون القرآن شعرا جرى على الغالب. فلا يعد قائله كاذبا ولا جاهلا فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمدا صلى الله عليه وسلم.
ومال ابن العربي في "أحكام القرآن" إلى أن ما تكلفوه من استخراج فقرات من القرآن على موازين شعرية لا يستقيم إلا بأحد أمور مثل بتر الكلام أو زيادة ساكن أو نقص حرف أو حرفين، وذكر أمثلة لذلك في بعضها ما لا يتم له فراجعه.
ولا محيص من الاعتراف باشتمال القرآن على فقرات متزنة يلتئم منها بيت أو مصراع، فأما ما يقل عن بيت فهو كالعدم إذ لا يكون الشعر أقل من بيت، ولا فائدة في الاستنكار من جلب ما يلفى متزنا فإن وقوع ما يساوي بيتا تاما من بحر من بحور الشعر العربي ولو نادرا أو مزحفا أو معلا كاف في بقاء الإشكال، فلا حاجة إلى ما سلك ابن العربي في رده ولا كفاية لما سلكه السكاكي في كتابه، لأن المردود عليهم في سعة من الأخذ بما يلئم نحلتهم من أضعف المذاهب في حقيقة الشعر وفي زحافه وعلله. وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامهما بعدم القصد إلى الوزن، من لزوم خفاء ذلك على علم الله تعالى فلماذا لا تجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتزان.
ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة، وقد مضت عليها من الزمان برهة، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها.
(22/265)
فالذي بدا لي أن نقول: أن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاما كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعا من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية.
ومعلوم أن القرآن جاء معجزا لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حدا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حق الفصاحة والبلاغة ألفاظا وتركيبا ونظما فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جاريا على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدودا من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال، اللهم إلا أن يكون قصد به تفننا في الإتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإعجاز.
الثالث: أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسن الجمع بين النثر والنظم لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدين به بلغاء العرب وجلهم شعراء وبلاغتهم هي الجمع بين الإعجاز وبين سد باب الشبهة التي تعرض لهم أو جاء القرآن على موازين الشعر، وهي شبه الغلط أو المغالطة بعدهم النبي صلى الله عليه وسلم في زمن الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر، فكان القرآن معجزا لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحودا لذلك، ولكنه ليس من الصنف المسمى بالشعر بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.
ولقد ظهرت حكمة علام الغيوب في ذلك فإن المشركين لما سمعوا القرآن ابتدروا
(22/266)
إلى الطعن في كونه منزلا من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأنيس بن جنادة الغفاري، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعرا قصر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقة. وسنذكر عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وجوها ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. وقد قال ابن عطية: إن الضمير المجرور باللام في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.
وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحى به للنبي صلى الله عليه وسلم شعرا بنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبيء صلى الله عليه وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذبين دابر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا وأن يكون قرآنه شعرا ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها، والواو اعتراضية.
وضمير {يَنْبَغِي} عائد إلى الشعر، وضمير {لَهُ} يجوز أن يكون عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {عَلَّمْنَاهُ} وهو الظاهر. وجوز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل {عَلَّمْنَاهُ} فجعل جملة {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} بمنزلة التعليل لجملة {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} .
ومعنى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ما يتأتى له الشعر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] تفصيل ذلك في سورة مريم، وتقدم قريبا عند قوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40]. فأصل معنى: {يَنْبَغِي} يستجيب للبغي، أي الطلب الملح. ثم غلب في معنى يتأتى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار {يَنْبَغِي} بمعنى يتأتى يقال: لا ينبغي كذا، أي لا يتأتى. قال الطيبي: روي عن الزمخشري أنه قال في "كتاب سيوبية" "كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على
(22/267)
الانفعال: كضرب وطلب وعلم، وما ليسي فيه علاج: كعدم وفقد لا يأتي في مطاوعه الانفعال البتة" ا هـ.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له لأن الشعر صنف من القول له موازين وقواف، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست من طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر لأن إنشاد الشعر غير تعلمه، وكم من رواية للأشعار ومن نقاد للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعرا. وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختل وزنه في إنشاده1 وذلك من تمام النافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، إلا ترى أنه لم يكن مطردا فربما أنشد البيت موزونا.
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه، وكذلك أيضا جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والملح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حد الإغراق وكادعاء الشاعر أحوالا لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خلو من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرض الشعر ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لعد غضاضة في شعره وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدو والصديق.
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة
ـــــــ
1 كما أنشد بيت عباس بن مرداس:
أتجعل نهْبي ونهب العُبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وكذلك أنشد مرة مصراع طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فقال: "ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار".
وربما أنشد البيت دون تغيير كما أنشد بيت ابن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وأنشد بيت عنترة:
ولقد أبيتُ على الطِوَى وأظَلُّه ... كيما أنال به شهيَّ المطعم
(22/268)
والإقبال على السكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حجر الكندي ابنه امرأ القيس وقد قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] الآية. فلو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل، والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة" وقال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
فتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطه مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.
قال أبو بكر بن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] من عيب الخط. فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر.
ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإسلام أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسانا وعبد الله بن رواحة بقوله:، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيد المشهور: بانت سعاد.
والقول في ما صدر النبي صلى الله عليه وسلم من كلام موزون مثل قوله يوم أحد:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفا.
وجملة: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} استئناف بياني لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول: فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} جوابا لطلبته.
وضمير {هُوَ} للقرآن المفهوم من {عَلَّمْنَاهُ} ، أي ليس الذي علمه الرسول إلا ذكرا وقرآنا أو للشيء الذي علمناه، أي للشيء المعلم الذي تضمنه {عَلَّمْنَاهُ} ، أو عائد إلى {ذِكْرٌ} في قوله: {إِلَّا ذِكْرٌ} الذي هو {مُبِينٌ}. وهذا من مواضع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة لأن البيان كالبدل. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} في سورة المؤمنين [37].
(22/269)
وجيء بصيغة القصر المفيدة قصر الوحي على الاتصال بالكون ذكرا وقرآنا قصر قلب، أي ليس شعرا كما زعمتم. فحصل بذلك استقصاء الرد عليهم وتأكيد قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} . من كون القرآن شعرا.
والذكر: مصدر وصف به الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وصفا للمبالغة، أي إن هو إلا مذكر للناس بما نسوه أو جهلوه. وقد تقدم الكلام على الذكر عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في سورة الحجر [6].
والقرآن: مصدر قرأ، أطلق على اسم المفعول، أي الكلام المقروء، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} في سورة يونس [61].
والمبين: هو الذي أبان المراد بفصاحة وبلاغة.
ويتعلق قوله: {لِيُنْذِرَ} بقوله: {عَلَّمْنَاهُ} باعتبار ما اتصل به من نفي كونه شعرا ثم إثبات كونه ذكرا وقرآنا، أي لأن جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} بيان لما قبلها في قوة أن لو قيل: وما علمناه إلا ذكرا وقرآنا مبينا لينذر أو لتنذر. وجعله ابن عطية متعلقا بـ {مُبِينٌ} .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {لِيُنْذِرَ} بتاء الخطاب على الالتفات من ضمير الغيبة في قوله: {عَلَّمْنَاهُ} إلى ضمير الخطاب. وقرأه الباقون بياء الغائب، أي النبي الذي علمناه.
والإنذار: الإعلام بأمر يجب التوقي منه.
ولاحي: مستعار لكامل العقل وصائب الإدراك، وهذا تشبيه بليغ، أي من كان مثل الحي في الفهم.
والمقصود منه: التعريض بالمعرضين عن دلائل القرآن بأنهم كالأموات لا انتفاع لهم بعقولهم كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].
وعطف {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} على {لِيُنْذِرَ} عطف المجاز على الحقيقة لأن اللام النائب عنه واو العطف ليس لام تعليل ولكنه لام عاقبة كاللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. ففي الواو استعارة تبعية، وهذا قريب من استعمال المشترك في معنييه. وفي هذه العاقبة احتباك إذ التقدير: لتنذر من كان
(22/270)
حيا فيزداد حياة بامتثال الذكر فيفوز ومن كان ميتا فلا ينتفع بالإنذار فيحق عليه القول، كما قال تعالى: في أول السورة {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]، فجمع له بين الإنذار ابتداء والبشارة آخرا.
و {الْقَوْلُ} : هو الكلام الذي جاء بوعيد من لم ينتفعوا بإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالكافرين: المستمرون على كفرهم وإلا فإن الإنذار ورد للناس أول ما ورد وكلهم من الكافرين.
وفي ذكر الإنذار عود إلى ما ابتدئت به السورة من قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] فهو كرد العجز على الصدر، وبذلك تم مجال الاستدلال عليهم وإبطال شبههم وتخلص إلى الامتنان الآتي فغي قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71] إلى قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 35].
[71- 73] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [71] وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [72] وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [73]}.
بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين أحد الكلام يتطرق غرض تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلة زعما بأنها تنفعهم وتدفع عنهم وأدمج في التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله. فالجملة معطوفة عطف الغرض على الغرض.
والاستفهام: إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإنكار جاريا على مقتضى الظاهر، وإن كانت الرؤية بصرية فالإنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلة عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادة مسد المفعولين للرؤية القلبية، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية.
وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله: {أَنَّا خَلَقْنَا} وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا} وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} ، لأن معناه: أودعنا لهم في
(22/271)
أضراعها ألبانا يشربونها وفي أبدانها أوبارا وأشعارا ينتفعون بها.
وقوله: {لَهُمْ} هو محل الامتنان، أي لأجلهم، فإن جميع النافع التي على الأرض خلقها الله لأجل الإنسان بها تكرمة له، كما تقدم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة [29].
واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشأ من توالد أو نحوه فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب كقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47]، فـ"من" في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ} ابتدائية لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم، فعبر عن ذلك الخلق بأنه بيد الله استعارة تمثيلية لتقريب شأن الخلق الخفي البديع مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75]. وقرينة هذه الاستعارة ما تقر من أن ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه المخلوقات، فذلك من العقائد القطعية في الإسلام. فأما الذين رأوا الإمساك عن تأويل أمثال هذه الاستعارات فسموها المتشابه وإنما أرادوا أننا لم نصل إلى حقيقة ما نعبر عنه بالكنه، وأما الذين تأولوها بطريقة المجاز فهم معترفون بأن تأويلها تقريب وإساغة لغصص العبارة. فأما الذين أثبتوا وصف الله تعالى بظواهرها فباعثهم فرط الخشية، وكان للسلف في ذلك عذر لا يسع أهل العصور التي فشا فيها الإلحاد والكفر فهم عن إقناع السائلين بمعزل، وقلم التطويل في ذلك معزل.
والأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز. وفرع على خلقها للناس أنهم لها مالكون قادرون على استعمالها فيما يشاءون لأن الملك هو أنواع التصرف. قال الربيع بن ضبع الفزاري من شعراء الجاهلية المعمرين:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا إدماج للامتنان في أثناء التذكير.
وتقديم {لَهَا} على {مَالِكُونَ} الذي هو متعلقه لزيادة استحضار الأنعام عند السامعين قبل سماع متعلقه ليقع كلاهما أمكن وقع بالتقديم وبالتشويق، وقضى بذلك أيضا رعي الفاصلة.
وعدل عن أن يقال: فهم مالكوها، إلى {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ليأتى التنكير فيفيد بتعظيم المالكين للأنعام الكناية عن تعظيم الملك، أي بكثرة الانتفاع وهو ما أشار إليه
(22/272)
تفصيلا وإجمالا قوله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} إلى قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} . وأن إضافة الوصف المشبه الفعل وإن كانت لا تكسب المضاف تعريفا لكنها لا تنسلخ منها خصائص التنكير مثل التنوين. وجيء بالجملة الاسمية لإفادة ثبات هذا الملك ودوامه.
والتذليل: جعل الشيء ذليلا، والذليل ضد العزيز وهو الذي لا يدفع عن نفسه ما يكرهه. ومعنى تذليل الأنعام خلق مهانتها للإنسان في جبلتها بحيث لا تقدم على مدافعة ما يريد منها فإنها ذات قوات يدفع بعضها بعضا عن نفسه بها فإذا زجرها الإنسان أو أمرها ذلت له وطاعت مع كراهيتها ما يريده منها، من سير أو حمل أو حلب أو أخذ نسل أو ذبح. وقد أشار إلى ذلك قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}.
والركوب بفتح الراء: المركوب مثل الحلوب وهو فعول بمعنى مفعول، فلذلك يطابق موصوفه يقال: بعير ركوب وناقة حلوبة.
و {مِنْ} تبعيضية، أي وبعضها غير ذلك مثل الحرث والقتال كما قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} والمشارب: جمع مشرب، وهو مصدر ميمي بمعنى: الشرب، أريد به المفعول، أي مشروبات.
وتقديم المجرورين بـ"من" على ما حقهما أن يتأخرا عنهما للوجه الذي ذكر في قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}.
وفرع على التذكير والامتنان قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} استفهاما تعجيبيا لتركهم تكرير الشكر على هذه النعم العدة فلذلك جيء بالمضارع المفيد للتجديد والاستمرار لأن تلك النعم متتالية متعاقبة في كل حين، وإذ قد عجب من عدم تكريرهم الشكر كانت إفادة التعجيب من عدم الشكر من أصله بالفحوى ولذلك أعقبه بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس: 74].
[74، 75] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ [74] لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [75]}.
عطف على جملة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71]، أي ألم يروا دلائل الوحدانية ولم يتأملوا جلائل النعمة، واتخذوا آلهة من دون الله المنعم والمنفرد بالخلق. ولك أن تجعله عطفا على الجملتين المفرعتين، والمقصود من الإخبار
(22/273)
باتخاذهم آلهة من دون الله التعجيب من جريانهم على خلاف حق النعمة ثم مخالفة مقتضى دليل الوحدانية المدمج في ذكر النعم.
والإتيان باسم الجلالة العلم دون ضمير إظهار في الإضمار لما يشعر به اسمه العلم من عظمة الإلهية إيماء إلى أن اتخاذهم آلهة من دونه جراءة عظيمة ليكون ذلك توطئة لقوله بعده {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] أي فإنهم قالوا ما هو أشد نكرا.
وأما الإضمار في قوله في سورة الفرقان [3]: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فلأنه تقدم ذكر انفراده بالإلهية صريحا من قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} وقعت "لعل" فيه موقعا غير مألوف لأن شأن "لعل" أن تفيد إنشاء رجاء المتكلم بها وذلك غير مستقيم هنا. وقد أغفل المفسرون التعرض لتفسيره، وأهمله علماء النحو واللغة من استعمال "لعل"، فيتعين: إما أن تكون "لعل" تمثيلية مكنية بأن شبه شأن الله فيما أخبر عنهم بحال من يرجو من المخبر عنهم أن يحصل لهم خبر {لعل} ، وذكر حرف "لعل" رمز لرديف المشتبه به فتكون جملة {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} معترضة بين {آلِهَةً} وبين صفته وهي جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، وإما أن يكون الكلام جرى على معنى الاستفهام وهو استفهام إنكاري أو تهكمي والجملة معترضة أيضا، وإما أن يجعل الرجاء منصرفا إلى رجاء المخبر عنهم، أي راجين أن تنصرهم تلك الآلهة وعلى تقدير قول محذوف، أي قائلين: لعلنا ننصر، وحكي {يُنْصَرُونَ} بالمعنى على أحد وجهين في حكاية الأقوال تقول: قال أفعل كذا، وقال يفعل كذا، وتكون جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} استئنافا للرد عليهم. وإما أن تجعل "لعل" للتعليل على مذهب الكسائي فتكون جملة {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} استئنافا.
والمقصود: الإشارة إلى أن الكفار يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله في أمور الدنيا ويقولون {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وهم سالكون في هذا الزعم مسلك ما يألفونه من الاعتزاز بالموالاة والحلف بين القبائل والانتماء إلى قادتهم، فبمقدار كثرة الموالي تكون عزة القبيلة فقاسوا شؤونهم الجارية بينهم وقياس أمور الإلهية على أحوال البشر من أعمق مهاوي الضلالة.
أجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ} لأنهم سموهم
(22/274)
بأسماء العقلاء وزعموا لهم إدراكا.
وضمير {وَهُمْ} يجوز أن يعود إلى {آلِهَةً} تبعا لضمير {لا يَسْتَطِيعُونَ} . وضمير {لَهُمْ} للمشركين، أي والأصنام للمشركين جند محضرون، والجند العدد الكثير. والمحضر الذي جيء به ليحضر مشهدا. والمعنى: أنهم لا يستطيعون النصر مع حضورهم في موقف المشركين لمشاهدة تعذيبهم ومع كونهم عددا كثيرا ولا يقدرون على نصر المتمسكين بهم، أي هم عاجزون عن ذلك، وهذا تأييس للمشركين من نفع أصنامهم. ويجوز العكس، أي والمشركين جند لأصنامهم محضرون لخدمتها. ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن حالهم مع أصنامهم في الدنيا وفي الآخرة.
وينبغي أن تكون جملة {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} في موضع الحال، والواو واو الحال من ضمير {يَسْتَطِيعُونَ} ، أي ليس عدم استطاعتهم نصرهم لبعد مكانتهم وتأخر الصريخ لهم ولكنهم لا يستطيعون وهم حاضرون لهم، واللام في {لَهُمْ} للأجل، أي أن الله يحضر الأصنام حين حشر عبدتها إلى النار ليري المشركين خطل رأيهم وخيبة أملهم، فهذا وعيد بعذاب لا يجدون منه ملجأ.
[76] {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [76]}.
{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}.
فرع على قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [يس: 74] صرف أن تحزن أقوالهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي تحذيره من أن يحزن لأقوالهم فيه فإنهم قالوا في شأن الله ما هو أفظع.
و {قَوْلُهُمْ} من إضافة اسم الجنس فيعم، أي فلا تحزنك أقوالهم في الإشراك وإنكار البعث والتكذيب والأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك حذف المقول، أي يحزنك قولهم الذي من شأنه أن يحزنك.
والنهي عن الحزن نهي عن سببه وهو اشتغال بال الرسول بإعراضهم عن قبول الدين الحق، وهو يستلزم الأمر بالأسباب الصارفة للحزن عن نفسه من التسلي بعناية الله تعالى وعقابه من ناوءوه وعادوه.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
تعليل للنهي عن الحزن لقولهم.
(22/275)
والخبر كناية عن مؤاخذتهم بما يقولون، أي انا محصون عليهم أقوالهم وما تسره أنفسهم مما لا يجهرون به فنؤاخذهم بذلك كله بما يكافئه من عقابهم ونصرك عليهم ونحو ذلك. وفي قوله: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعميم لجعل التعليل تذييلا أيضا.
و"إن" مغنية عن فاء التسبب في مقام ورودها لمجرد الاهتمام بالتأكيد المخبر بالجملة ليست مستأنفة ولكنها مترتبة.
وقرأ نافع {يَحْزُنْكَ} بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه إذا أدخل عليه حزنا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزنه بفتح الزاي بمعنى أحزنه وهما بمعنى واحد.
وقدم الإسرار للاهتمام به لأنه أشد دلالة على إحاطة علم الله بأحوالهم، وذكر بعده الإعلان لأنه محل الخبر، وللدلالة على استيعاب علم الله تعالى بجزئيات الأمور وكلياتها.
والوقف عند قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} مع الابتداء بقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ} أحسن من الوصل لأنه أوضح للمعنى، وليس بمتعين إذ لا يخطر ببال سامع أنهم يقولون: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ولو قالوه لما كان مما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف ينهى عن الحزن منه.
[77- 79] {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [77] وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [78] قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [79]}.
لما أبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالا كليا، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخا لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدل للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة، فقيل أريد بـ {الْأِنْسَانُ} أبي بن خلف. وقيل أريد به العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل، وفي ذلك روايات بأسانيد، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كل واحد من هؤلاء بعضها.
قالوا في الروايات: جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده عظم إنسان
(22/276)
رميم ففته وذراه في الريح وقال: يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا بعد ما أرم "أي بلي" فقال له النبيء صلى الله عليه وسلم: نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم.
فالتعريف في {الْأِنْسَانُ} تعريف العهد وهو الإنسان المعين المعروف بهذه المقالة يومئذ. وقد تقدم في سورة مريم [66] أن قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} نزل في أحد هؤلاء، وذكر معهم الوليد بن المغيرة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} في سورة القيامة [3].
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي انه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإنسان ينكرون البعث، كيف وفيهم المؤمنون وأهل الملل، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه. فأما قوله تعالى في سورة النحل [4]: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} فهو تعريف الاستغراق، أي خلق كل إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي.
والمراد بـ {خَصِيمٌ} في تلك الآية: أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة، فالجملة معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} [يس: 71] الآية. والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفة عليها. والرؤية هنا قلبية. وجملة {أَنَّا خَلَقْنَاهُ} سادة مسد المفعولين كما تقدم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71].
و"إذا" للمفاجأة. ووجه المفاجأة أن ذلك الإنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقبا منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإلهية كانت بما بادر به حين عقل.
والخصيم فعيل مبالغة في معنى مفاعل، أي مخاصم شديد الخصام.
والمبين: من أبان بمعنى بان، أي ظاهر في ذلك.
وضرب المثل: إيجاده، كما يقال: ضرب خيمة، وضرب دينارا، ويقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
والمثل: تمثيل الحالة، فالمعنى: وأظهر للناس وأتى لهم بتشبيه حال قدرتنا بحال عجز الناس إذ أحال إحياءنا العظام بعد أن أرمت فهو كقوله تعالى: {َلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، أي لا تشبهوه بخلقه فتجعلوا له شركاء لوقوعه بعد {وَيَعْبُدُونَ مِنْ
(22/277)
دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً} [النحل: 73].
والاستفهام في قوله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} إنكاري. و {مَنْ} عامة في كل من يسند إليه الخبر. فالمعنى: لا أحد يحيي العظام وهي رميم. فشمل عمومه إنكارهم أن يكون الله تعالى محييا للعظام وهي رميم، أي في حال كونها رميما.
وجملة {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} بيان لجملة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 120] الآية فجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بيان لجملة {وَسْوَسَ}.
والنسيان في قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} مستعار لانتفاء العلم من أصله، أي لعدم الاهتداء إلى كيفية الخلق الأول، أي نسي أننا خلقناه من نطفة، أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15].
وذكر النطفة هنا تمهيد للمفاجأة بكونه خصيما مبينا عقب خلقه، أي ذلك الهين المنشأ قد أصبح خصيما عنيدا، وليبني عليه قوله بعد: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز، ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عظم مجاراة لزعمه في مقدار الإمكان، وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظام فيحيي الإنسان من رماده، ومن ترابه، ومن عجب ذنبه، ومن لا شيء باقيا منه.
والرميم: البالي، رم العظم وأرم، إذا بلي فهو فعيل بمعنى المصدر، يقال: رم العظم رميما، فهو خبر بالمصدر، ولذلك لم يطابق المخبر عنه في الجمعية بهي بلى.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول له {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال: {يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} لم يكن قاصدا تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة، فأجيب جواب من هو متطلب علما. فقيل له: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} . فلذلك بني الجواب على فعل الإحياء مسندا للمحيي، على أن الجواب صالح لأن يكون إبطال للنفي المراد من الاستفهام الإنكاري كأنه قيل: بل يحييها الذي أنشأها أول مرة. ولم يبن الجواب على بيان إمكانه الإحياء وإنما جعل بيان الإمكان في جعل المسند إليه موصولا لتدل الصلة على الإمكان فيحصل الغرضان، فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها، أي
(22/278)
يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها أول مرة. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وقال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
وذيل هذا الاستدلال بجملة {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها: كالخلق من نطفة، والخلق من ذرة، والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسوس الفول وسوس الخشب، فتلك أعجب من تكوين الإنسان عظامه.
وفي تعليق الإحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحي تحلها الحياة كلحمه ودمه، وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة، وعن الشافعي أن العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت قال ابن العربي: وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه. والصحيح ما ذكرناه، يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقا وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإحساس. وقال ابن زهر الحكيم الأندلسي في كتاب التيسير: إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساسا والذي ظهر لي أن لها إحساسا بطيئا.
[80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [80]}.
بدل من {الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] بدلا مطابقا، وإنما لم تعطف الصلة على الصلة فيكتفي بالعطف عن إعادة اسم الموصول لأن في إعادة الموصول تأكيدا للأول واهتماما بالثاني حتى تستشرف نفس السامع لتلقي ما يرد بعده فيفطن بما في هذا الخلق من الغرابة إذ هو إيجاد الضد وهو نهاية الحرارة من ضده وهو الرطوبة. وهذا هو وجه وصف الشجر بالأخضر إذ ليس المراد من الأخضر اللون وإنما المراد لازمه وهو الرطوبة لأن الشجر أخضر اللون ما دام حيا فإذا جف وزالت منه الحياة استحال لونه إلى الغبرة فصارت الخضرة كناية عن رطوبة النبت وحياته. قال ذو الرمة:
ولما تمنت تأكل الرم لم تدع ... ذوابل مما يجمعون ولا خضرا
ووصف الشجر وهو اسم جمع شجرة وهو مؤنث المعنى بـ{الْأَخْضَرِ} بدون تأنيث مراعاة للفظ الموصوف بخلوه عن علامة تأنيث وهذه لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز فيقولون: شجر خضراء على اعتبار معنى الجمع، وقد جاء القرآن بهما في قوله: {لَآكِلُونَ
(22/279)
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة: 52- 54].
والمراد بالشجر هنا: شجر المرخ "بفتح الميم وسكون الراء" وشجر العفار "بفتح العين المهملة وفتح الفاء" فهما شجران يقتدح بأغصانهما يؤخذ غصن من هذا وغصن من الآخر بمقدار المسواك وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار، يقل: يجعل العفار أعلى والمرخ أسفل، وقيل العكس لأن الجوهري وابن السيد في "المخصص" قالا: العفار هو الزند وهو الذكر والمرخ الأنثى وهو الزند. وقال الزمخشري في "الكشاف": المرخ الذكر والعفار الأنثى، والنار هي سقط الزند، وهو ما يخرج عند الاقتداح مشتعلا فيوضع تحته شيء قابل للالتهاب من تبن أو ثوب به زيت فتخطف فيه النار.
والمفاجأة المستفادة من {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} دالة على عجيب إلهام الله البشر لاستعمال الاقتداح بالشجر الأخضر واهتدائهم إلى خاصيته.
والإيقاد: إشعال النار يقال: أوقد، ويقال: وقد بمعنى.
وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تكرر ذلك واستمراره.
[81] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [81]}.
عطف هذا التقرير على الاحتجاجات المتقدمة على الإنسان المعني من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77]، وذلك أنه لما تبين الاستدلال بخلق أشياء على إمكان خلق أمثالها ارتقي في هذه الآية إلى الاستدلال بخلق مخلوقات عظيمة على إمكان خلق ما دونها.
وجيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المقر إلا الإقرار به فإن البديهة قاضية بأن من خلق السماوات والأرض هو على خلق ناس بعد الموت أقدر. وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرر بثبوته على المقرر إن أراد إنكارا مع تحقق أته لا يسعه الإنكار فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود، شاهدا على أنه لا يستطيع إلا أن يقر، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة.
(22/280)
وقرأ الجمهور {بِقَادِرٍ} بالباء الموحدة وبألف بعد القاف وجر الاسم بالباء المزيدة في النفي لتأكيده. وقرأه رويس عن يعقوب بتحتية بصيغة المضارع {يِقَدِرٍ}. ولكون ذلك كذلك عقب التقرير بجواب عن المقرر بكلمة {بَلَى} التي هي لنقض النفي، أي بلى هو قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثْلَهُمْ} عائد إلى {الْأِنْسَانُ} في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ} [يس: 77] على تأويله بالناس سواء كان المراد بالإنسان في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77] شخصا معينا أم غير شخص، فالمقصود هو وأمثاله من المشايعين له على اعتقاده وهم المشركون بمكة، أي قادر على أن يخلق أمثالهم، أي أجسادا على صورهم وشبههم لأن الأجسام المخلوقة للبعث هي أمثال الناس الذين كانوا في الدنيا مركبين من أجزائهم فإن إعادة الخلق لا يلزم أن تكون بجمع متفرق الأجسام بل يجوز كونها عن عدمها، ولعل ذلك كيفيات، فالأموات الباقية أجسادها تبث فيها الحياة، والأموات الذين تفرقت أوصالهم وتفسخت يعاد تصويرها، والأجساد التي لم تبق منها باقية تعاد أجساد على صورها لتودع فيها أرواحهم، ألا ترى أن جسد الإنسان يتغير على حالته عند الولادة ويكبر وتتغير ملامحه، ويجدد كل يوم من الدم واللحم بقدر ما اضمحل وتبخر ولا يعتبر ذلك التغير تبديلا لذاته فهو يحس بأنه هو هو والناس يميزونه عن غيره بسبب عدم تغير الروح. وفي آيات القرآن ما يدل على هذه الأحوال للمعاد، ولذلك اختلف علماء السنة في أن البعث عن عدم أو عن تفريق كما أشار إليه سيف الدين الآمدي في "أبكار الأفكار" ومودعة فيها أرواحهم التي كانت تدبر أجسامهم فإن الأرواح باقية بعد فناء الأجساد.
وجملة {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} معترضة في آخر الكلام، والواو اعتراضية، أي هو يخلق خلائق كثيرة وواسع العلم بأحوالها ودقائق ترتيبها.
[82] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [82]}.
هذه فذلكة الاستدلال، وفصل المقال، فلذلك فصلت عما قبلها كما تفصل جملة النتيجة عن جملتي القياس، فقد نتج مما تقدم أنه تعالى إذا أراد شيئا تعلقت قدرته بإجاده بالأمر التكويني المعبر عن تقريبه بـ {كُنْ} وهو أخضر كلمة تعبر عن الأمر بالكون، أي الاتصاف بالوجود.
والأمر في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ} بمعنى الشأن لأنه المناسب لإنكارهم قدرته على إحياء
(22/281)
الرميم، أي لا شأن لله في وقت إرادته تكوين كائن إلا تقديره بأن يوجده، فعبر عن ذلك التقدير الذي ينطاع له المقدور بقول {كُنْ} ليعلم أن لا يباشر صنعه بيد ولا بآلة ولا بعجن مادة ما يخلق منه كما يفعل الصناع والمهندسون، لأن المشركين نشأ لهم توهم استحالة المعاد من انعدام المواد فضلا عن إعدادها وتصويرها، فالقصر إضافي لقلب اعتقادهم أنه يحتاج إلى جمع مادة وتكييفها ومضي مدة لإتمامها.
و {إِذَا} ظرف زمان في موضع نصب على المفعول فيه، أي حين إرادته شيئاً.
وقرأ الجمهور: {فَيَكُونُ} مرفوعا على تقدير: أن يقول له كن فهو يكون. وقرأه ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على {يَقُولَ} المنصوب.
[83] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [83]}.
الفاء فصيحة، أي إذا ظهر كل ما سمعتم من الدلائل على عظيم قدرة الله وتفرده بالإلهية وأنه يعيدكم بعد الموت فينشأ تنزيهه عن أقوالهم في شأنه المفضية إلى نقص عظمته لأن بيده الملك الأتم لكل موجود.
والملكوت: مبالغة في الملك "بكسر الميم" فإن مادة فعلوت وردت بقلة في اللغة العربية. من ذلك قولهم:رهبوت ورحموت، ومن أقوالهم الشبيه بالأمثال "رهبوت خير من رحموت" أي لأن يرهبك الناس خير من أن يرحموك، أي لأن تكون عزيزا يخشى بأسمك خير من أن تكون هينا يرق لك الناس، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام [75].
وجملة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عطف على جملة التسبيح عطف الخبر على الإنشاء فهو مما شملته الفصيحة. والمعنى: قد اتضح أنكم صائرون إليه غير خارجين من قبضة ملكه وذلك بإعادة خلقكم بعد الموت.
وتقديم {إِلَيْهِ} على {تُرْجَعُونَ} للاهتمام ورعاية الفاصلة لأنهم لم يكونوا يزعمون أن ثمة رجعة إلى غيره ولكنهم ينكرون المعاد من أصله.
(22/282)
المجلد الثالث و العشرون
سورة الصافات
...
بسم الله الرحمن الرحيم
37ـ سورة الصافات
اسمها المشهور المتفق عليه "الصافات".وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها،ولم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسميتها،وقال في الإتقان:"رأيت في كلام الجعبري أن سورة "الصافات" تسمى "سورة الذبيح" وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر".
ووجه تسميتها باسم "الصافات" وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة "الملك" لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير،على أن الأشهر أن "سورة الملك" نزلت بعد "سورة الصافات".
وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور،نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان.
وعدت آيها مائة واثنتين وثمانين عبد أكثر أهل العدد.وعدها البصريون مائة وإحدى وثمانين.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى،وسوق دلائل كثيرة على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قبل لغيره بصنعها وهي العوالم السماوية بأجزائها وسكنها ولا قبل لمن على الأرض أن يتطرق في ذلك.إثبات أن البعث يعقبه الحشر والجزاء.ووصف حال المشركين يوم الجزاء ووقوع بعضهم في بعض.ووصف حسن أحوال المؤمنين ونعيمهم.ومذاكرتهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية ومحاولتهم صرفهم عن الإسلام.ثم انتقل إلى تنظير دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه
(23/5)
بدعوة الرسل من قبله،وكيف نصر الله رسله ورفع شأنهم وبارك عليهم.وأدمج في خلال ذلك شيء من مناقبه وفضائلهم وقوتهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفت بهم. وخاصة منقبة الذبيحة،والإشارة إلى أنه إسماعيل.ووصف ما حل بالأمم الذين كذبوهم.ثم الأنحاء على المشركين فساد معتقداتهم في الله ونسبتهم إليه الشركاء.وقولهم:الملائكة بنات الله،وتكذيب الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد.وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب.ثم وعد الله رسوله بالنص كدأب المرسلين ودأب المؤمنين السابقين،وأن عذاب الله نازل بالمشركين، وتخلص العاقبة الحسنى للمؤمنين.
وكانت فاتحتها مناسبة لأغراضها بأن القسم بالملائكة مناسب لإثبات الوحدانية لأن الأصنام لم يدعوا لها ملائكة،والذي تخدمه الملائكة هو الإله الحق ولأن الملائكة من جملة المخلوقات الدال خلقها على عظم الخالق،ويؤذن القسم بأنها أشرف المخلوقات العلوية.
ثم إن الصفات التي لوحظت في القسم بها مناسبة للأغراض المذكورة بعدها،فـ {الصافات} يناسب عظمة ربها،و {الزاجرات} يناسب قذف الشياطين عن السماوات،ويناسب تسيير الكواكب وحفظها من أن يدرك بعضها بعضا،ويناسب زجرها الناس في المحشر.و {التاليات ذكرا}يناسب أحوال الرسول والرسل عليهم الصلاة والسلام وما أرسلوا به إلى أقوامهم.
هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويق إلى معرفة المقسم عليه ليقبل عليه السامع بشراشره.فقد استكملت فاتحة السورة أحسن وجوه البيان وأكملها.
[1ـ4] {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}
القسم لتأكيد الخبر مزيد تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية،وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختلف الأصناف،وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} .
وعطف "الصافات" بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف
(23/6)
الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصل بعضها ببعض كقول أمرئ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فَتُوضِحَ فالمقارة...البيت
وكقول لبيد:
بمشارق الجبليين أو بمحجر ... فتضمنتها فرده فمرخاها
فصدائق إن أيْمَنت فمظنة ... .....................البيت
ويعطفون بها صفات موصوف واحد كقول ابن زيَّابة:
يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالآيب
يريد صفات للحارث، ووصفه بها تهكما به.
فعن جماعة من السلف:"أن هذه الصفات للملائكة.وعن قتادة أن "التاليات ذكرا" الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين.وقَسَمُ الله بمخلوقاته يُومىء إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دال على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرفا عند الله تعالى.
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحاد منهم.
و {وَالصَّافَّاتِ} جمع:صافة،وهي الطائفة المصطف بعضها مع بعض.يقال:صف الأمير الجيش،متعديا إذا جعله صفا واحدا أو صفوفا،فاصطفوا.ويقال:فصفوا،أي صاروا مصطفين،فهو قاصر.وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج:
قد جبر الدين الإله فجَبَر
وتقدم قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} في سورة الحج[36]،وقوله: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} في النور[41].
ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفة صفوفا،وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب.ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم
(23/7)
من أمر الله تعالى قال تعالى،حكاية عنهم في هذه السورة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:166,165].
والزجر:الحث في نهي أو أمر بحيث لا يترك للمأمور تباطؤ في الإتيان بالمطلوب،والمراد به:تسخير الملائكة المخلوقات التي أمرهم الله بتسخيرها خلقا أو فعلا،كتكوين العناصر،وتصريف الرياح، وإزجاء السحاب إلى الآفاق.
و"التاليات ذكرا" المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضا أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].وبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم? قالوا: الذي قال الحق" .والمراد بـ"التاليات" ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقنا من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة.والتلاوة:القراءة،وتقدمت في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة[102]،وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} في الأنفال[2].
والذكر ما يتذكر به من القرآن ونحوه، وتقدم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر[6].
وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيبها في الفصل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة والوسيلة دون المتوسل إليه ،و أن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحى به للرسل ،أو بما تشتمل علية التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها.
و قد جعل الله الملائكة قسما و سطا من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثير.فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه،وأدناها المتأثر الذي لا يؤثر وهو سائر الأجسام،والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجردات من الملائكة والأرواح فهي القابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام.وجهة قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايرة لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها،فقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} إشارة إلى تأثيرها،وقوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً}
(23/8)
إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبد بالعمل به.
وجملة {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب القسم ومناط التأكيد صفة "واحد" لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلاها ولكنهم جعلوا عدة آلهة فأبطل اعتقادهم بإثبات أنه واحد غير متعدد،وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل لأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الرب العظيم ولا كنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الآله فإذا بطل التعدد تعين انحصار الإلهية في رب واحد هو الله تعالى.
[5] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}
أتبع تأكيد الإخبار عن وحدانية الله تعالى بالاستدلال على تحقيق ذلك الإخبار لأن القسم لتأكيده لا يقنع المخاطبين لأنهم مكذبون من بلغ إليهم القسم،فالجملة استئناف بياني لبيان الإله الواحد مع إدماج الاستدلال على تعيينه بذكر ما هو من خصائصه المقتضي تفرده بالإلهية.
فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر لمبتدأ محذوف.والتقدير:هو رب السماوات،أي إلهكم الواحد هو الذي تعرفونه بأنه رب السماوات والأرض إلى آخره.
فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر لمبتدأ محذوف جرى حذفه على طريقة الاستعمال في حذف المسند إليه من الكلام الوارد بعد تقدم حديث عنه كما نبه عليه صاحب "المفتاح".
فأن المشركين مع غلوهم في الشرك لم يتجرأوا على ادعاء الخالقية لأصنامهم ولا التصرف في العوالم العلوية،وكيف يبلغون إليها وهم لقى على وجه الأرض فكان تفرد الله بالخالقية أفحم حجة عليهم في بطلان إلهية الأصنام.وشمل {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} جميع العوالم المشهودة للناس بأجرامها وسكانها والموجودات فيها.
وتخصيص {الْمَشَارِقِ} بالذكر من بين ما بين السماوات والأرض لأنها أحوال مشهودة كل يوم.
وجمع {الْمَشَارِقِ} باعتبار اختلاف مطلع الشمس في أيام نصف سنة دورتها وهي السنة الشمسية وهي مائة وثمانون شرقا باعتبار أطول نهار في السنة الشمسية وأقصره
(23/9)
مكررة مرتين في السنة ابتداء من الجوع الشتوي إلى الرجوع الخريفي،وهي مطالع متقاربة ليست متحدة،فأن المشرق اسم لمكان شروق الشمس وهو ظهورها فإذا راعوا الجهة دون الفصل قالوا: المشرق،بالإفراد،وإذا روعي الفصلان الشتاء والصيف قيل:رب المشرقين،على أن جمع المشارق قد يكون بمراعاة اختلاف المطالع في مبادىء الفصول الأربعة.والآية صالحة للاعتبارين ليعتبر كل فريق من الناس بها على حسب مبالغ عملهم.
[6ـ7] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}
هذه الجملة تنتزل من جملة {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الصافات:5] منزلة الدليل على أنه رب السماوات.واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأولى. وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذة للناظرين قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]،ومنه على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظا من تلقي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العلم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإسلام كما فتنوهم في الجاهلية،وليكون ذلك تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي،كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.
و {الْكَوَاكِبِ} :الكريات السماوية التي تلمع في الليل عدا الشمس والقمر.وتسمى النجوم،وهي أقسام:منها العظيم،ومنها دونه،فمنها الكواكب السيارة،ومنها الثوابت،ومنها قطع تدور حول الشمس.وفي الكواكب حكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء.فإضافة {زينة} إلى {الْكَوَاكِبِ} إن جعلت {زِينَةٍ} مصدرا بوزن فعله مثل نسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله،أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول،أي بزينة الله الكواكب،أي جعلها زينا.وإن جعلت {زِينَةٍ} اسما لما يتزين به مثل قولنا:ليقة لما تلاق به الدواة،فالإضافة حقيقية على معنى"من"الابتدائية،أي زينة حاصلة من الكواكب.وأيا ما كان فإقتحام لفظ {زِينَةٍ} تأكيد،والباء للسببية، أي زينا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل:إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزيينا فكان {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} في قوة:بالكواكب تزيينا،فقوله: {بِزِينَةٍ} مصدر مؤكد لفعل {زَيَّنَّا} في المعنى ولكن حول التعليق فجعل {زِينَةٍ} هو المتعلق بـ {زَيَّنَّا} ليفيد معنى التعليل ومعنى
(23/10)
الإضافة في تركيب واحد على طريقة الإيجاز،لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل {زَيَّنَّا} من غير حاجة إلى إعادة {زِينَةٍ}لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد.
و {الدنيا} :أصله وصف هو مؤنث الأدنى،أي القربى.والمراد:قربها من الأرض،أي السماء الأولى من السماوات السبع.
ووصفها بالدنيا:إما لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات،والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة.ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى.ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا،ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات،والقرآن صالح لها،ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها.والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإسراء بالأولى.وإما لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا.ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلا لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها.
والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب،وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا.فالزينة متعلقة بالناس،والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا:ازدان البحر بأضواء القمر.
وقرأ الجمهور {بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ} بإضافة {زينة} إلى {الْكَوَاكِبِ} .وقرأ حمزة {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بتنوين {زينة} وجر {الْكَوَاكِبِ} على أن {الْكَوَاكِبِ} بدل من {زِينَةٍ} .وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين {زِينَةٍ} ونصب {الْكَوَاكِبَ} على الاختصاص بتقدير:أعني.
وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظا من الشياطين عند قوله
(23/11)
تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} في سورة الحجر[17,16].وتقدم ذكر الكواكب في قوله: {رَأى كَوْكَباً} في سورة الأنعام[76].
وانتصب {حفظا} بالعطف على {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} عطفا على المعنى كما ذهب إليه في الكشاف وبينه ما بيناه آنفا من أن قوله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} في قوة أن يقال:بالكواكب زينة،وعامله {زَيَّنَّا} .
والحفظ من الشياطين حكمة من حكم خلق الكواكب في علم الله تعالى لأن الكواكب خلقت قبل استحقاق الشياطين الرجم فإن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أطرد إبليس من عالم الملائكة فلم يحصل شرط اتحاد المفعول لأجله مع عامله في الوقت،وأبو علي الفارسي لا يرى اشتراط ذلك.ولعل الزمخشري يتابعه على ذلك حيث جعله مفعولا لأجله وهو الحق لأنه قد يكون على اعتباره علة مقدرة كما جوز في الحال أن تكون مقدرة.ولك أن تجعل {حفظا} منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله فيكون في تقدير:وحفظنا،عطفا على {زَيَّنَّا} ،أي حفظنا بالكواكب من كل شيطان مارد. وهذا قول المبرد.والمحفوظ هو السماء،أي وحفظناها بالكواكب من كل شيطان.
وليس الذي به الحفظ هو جميع الذي به التزيين بل العلة موزعة فالذي هو زينة مشاهد الأبصار، والذي هو حفظ هو المبين بقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10].
ومعنى كون الكواكب حفظا من الشياطين أن من جملة الكواكب الشهب التي ترجم بها الشياطين عند محاولتها استراق السمع فتفر الشياطين خشية أن تصيبها لأنها إذا أصابت أشكالها اخترقتها فتفككت فعلها تزول أشكالها بذلك التفكك فتنعدم بذلك قوام ماهيتها أو تتفرق لحظة لم تلتئم من ذلك الخرق والالتئام فإن تلك الشهب التي تلوح للناظر قطعا لامعة مثل النجوم جارية في السماء إنما هي أجسام معدنية تدور حول الشمس وعندما تقرب إلى الأرض تتغلب عليها جاذبية الأرض فتنزعها من جاذبية الشمس فتنقض بسرعة نحو مركز الأرض ولشدة سرعة انقضاضها تولد في الجو الكروي حرارة كافية لإحراق الصغار منها وتحمى الكبار منها إلى درجة من الحرارة توجب لمعانها وتسقط حتى تقع على الأرض في البحر غالبا وربما وقعت على البر،وقد يعثر عليها بعض الناس إذ يجدونها واقعة على الأرض قطعا معدنية متفاوتة وربما أحرقت ما تصيبه من شجر أو منازل.وقد أرخ نزول بعضها سنة 616 قبل ميلاد المسيح ببلاد الصين فكسر عدة
(23/12)
مركبات وقتل رجالا،وقد ذكرها العرب في شعرهم قبل الإسلام قال دوس بن حجر يصف ثورا وحشيا:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخالُه طُنبا
وقال بشر بن خازم أنشده الجاحظ في "الحيوان":
والعَيْر يُرهقها الخَبَارَ وَجَحْشُها ... ينقض خلفهما انقاضا الكواكب1
وفي سنة "944" سجل مرور كريات نارية في الجو أحرقت بيوتا عدة.وسقطت بالقطر التونسي مرتين أو ثلاث مرات،منها قطعة سقطت في أوائل هذا القرن وسط المملكة أحسب أنها بجهات تالة ورأيت شظية منها تسبه الحديد،والعامة يحسبونها صاعقة ويسمون ذلك حجر الصاعقة.وتساقطها يقع في الليل والنهار ولكنا لا نشاهد مرورها في النهار لأن شعاع الشمس يحجبها عن الأنظار.
ومما علمت من تدحرج هذه الشهب من فلك الشمس إلى فلك الأرض تبين لك سبب كونها من السماء الدنيا وسبب اتصالها بالأجرام الشيطانية الصاعدة من الأرض تتطلب الاتصال بالسماوات.وقد سميت شهبا على التشبيه بقبس النار وهو الجمر،وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} في سورة النمل[7].
والمارد:الخارج عن الطاعة الذي لا يلبس الطاعة ساعة قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة:101].وفي وصفه بالمارد إشارة إلى أن ما يصيب إخوانه من الضر بالشهب لا يعظه عن تجديد محاولة الاستراق لما جبل عليه طبعه الشيطاني من المداومة على تلك السجايا الخبيثة كما لا ينزجر الفراش عن التهافت حول المصباح بما يصيب أطراف أجنحته من مس النار.
[8ـ10] {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
اعتراض بين جملة {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات:6]وجملة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.
ـــــــ
1الخَبار بفتح الخاء المعجمة:الأرض الرخوة.
(23/13)
وعلى تقدير قوله: {وَحِفْظاً} [الصافات:7]مصدرا نائبا مناب فعله يجوز جعل جملة {لا يَسَّمَّعُونَ} بيانا لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة {وَحِفْظاً} على حد قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120]الآية،أي انتفى بذلك الحفظ سمع الشياطين للملأ الأعلى.
وحرف {إلى} يشير إلى تضمين فعل {يَسَّمَّعُونَ} معنى ينتهون فيسمعون،أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من علم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة،وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون.وفي الكشاف:"أن سمعت المعدى بنفسه يفيد الإدراك،وسمعت المعدى بـ {الى} يفيد الإصغاء مع الإدراك.
وقرأ الجمهور {لا يَسْمَعُونَ} بسكون السين وتخفيف الميم.وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {لا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله:لا يتسمعون فقلبت التاء سينا توصلا إلى الإدغام،والتسمع:تطلب السمع وتكلفه،فالمراد التسمع المباشر،وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الاعلى،أي أنهم يدحرون من قبل وصولهم المكان المطلوب،والقراءتان في معنى واحد.وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيء من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالما كما دل عليه قوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} ،فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك.
و {الْمَلَأِ} :الجماعة أهل الشأن والقدر.والمراد بهم هنا الملائكة.ووصف {الْمَلَأِ} بـ {الْأَعْلَى} لتشريف الموصوف.
والقذف:الرجم،والجانب:الجهة،والدحور:الطرد.وانتصب على أنه مفعول مطلق لـ {يُقْذَفُونَ} . وإسناد فعل {يُقْذَفُونَ} للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً
(23/14)
شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8].
والعذاب الواصب:الدائم يقال:وصب يصب وصوبا،إذا دام.والمعنى:أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} في سورة مريم[68]،ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب،أي لا ينفعك عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولتهم.
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} وبين الاستثناء.
و {مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} مستثنى من ضمير {لا يَسَّمَّعُونَ} فهو في محل رفع إلى البدلية منه.
والخطف:ابتدار تناول شيء بسرعة،والخطفة المرة منه.فهو مفعول مطلق لـ {خَطِفَ} لبيان عدد مرات المصدر،أي خطفة واحدة،وهو هنا مستعار للإسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} في سورةالبقرة[20].
و "أتبعه" بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية،وهي كهمزة أبان بمعنى بان.
والشهاب:القبس والجمر من النار.والمراد به هنا ما يسمى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة,وتقدم في قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} في سورة الحجر[18].
والثاقب:الخارق،أي الذي يترك ثقبا في الجسم الذي يصيبه،أي ثاقب له.وعن ابن عباس:"الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويخبل"،أي يفسد قوامه فتزول خصائصه،فأن فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة استراق السمع مرة أخرى،أي إلا من تمكن من الدنو إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر،وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية.
وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} في سورة الشعراء[211,210].
(23/15)
[11] {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}
الفاء تفريع على قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإنشاء،أي فسلهم عن إنكارهم البعث وإحالتهم إعادة خلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا،أخلقهم حينئذ أشد علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة?
وضمير الغيبة في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات.وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،أي فسلهم،وهو سؤال محاجة وتغليط.
والاستفتاء:طلب الفتوى بفتح الفاء وبالواو،ويقال:الفتيا بضم الفاء وبالياء.وهي إخبار عن أمر يخفى عن غير الخواص في ما.وهي:
إما إخبار عن علم مختص به المخبر قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف:46]الآية,وقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]،وتقدم في قوله: {الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} في سورة يوسف[41].
وإما إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} في سورة النمل[32].
والمعنى:فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمرا محتاجا إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء.
وهمزة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماويه لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يلجئ المستفهم إلى الإقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام،فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام.وأشد بمعنى: أصعب وأعسر.
و {خَلْقاً} تمييز،أي أخلقهم أشد أم خلق من خلقنا الذي سمعتم وصفه.
والمراد بـ {مَنْ خَلَقْنَا} ما خلقه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفا بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك،وهذا كقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27]ونحوه.
(23/16)
وجيء باسم العاقل وهو {مَنْ} الموصولة تغليبا للعاقلين من المخلوقات.
وجملة {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} من الإقرار بأنهم أضعف خلقا من خلق السماوات وعوالمها احتجاجا عليهم بأن تأني خلقهم بعد بعد الفناء أهون من تأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفا ولم تكن مخلوقة قبل فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16].
والطين:التراب المخلوط بالماء.
واللازب:اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب "لازب" في قول النابغة:
ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وقد قيل:إن باء لازب بدل من ميم لازم،والمعنى: أنه طين عتيق صار حمأة.
وضمير {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ}عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف،أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب،فإذا كان أصلهم قد أنشئ من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب.
[12ـ14] {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}
{بل} للإضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب.
وقرأ الجمهور {بَلْ عَجِبْتَ} بفتح التاء للخطاب.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المخاطب بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [ الصافات:11].وفعل المضي مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو:بعث.والمعنى:اعجب لهم.ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملا في حقيقته.ويجوز أن يكون الكلام لى تقدير همزة الاستفهام,أي بل أعجبت.
والمعنى على الجميع:أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} في سورة الرعد[5].
(23/17)
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {بَلْ عَجِبْتُ} بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد:أن الله أسند العجب إلى نفسه.ويعرف أنه ليس المراد حقيقة العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه،وهو استعظام الأمر المتعجب منه.وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليعجب من رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" رواه النسائي بهذا اللفظ.يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافر فيقاتل فيستشهد في سبيل الله.
وقوله في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلا فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما:"عجب الله من فعالكما".
ونزل فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} 1[الحشر:9].وقوله: "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" 2.وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح،والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله: {عَجِبْتُ} ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث.
ويجوز أن يكون أطلق {عَجِبْتُ} على معنى المجازاة على عجبهم لأن قوله: { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]دل على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عجبهم. وأطلق على ذلك العقاب فعل {عَجِبْتُ} كما أطلق على عقاب مكرهم المكر في قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54}.
والواو في {وَيَسْخَرُونَ} واو الحال،والجملة في موضع الحال من ضمير {عَجِبْتُ} أي كان أمرهم عجبا في حال استسخارهم بك في استفتائهم.وجيء بالمضارع في {يَسْخَرُونَ} لإفادة تجدد السخرية،وأنهم لا يرعوون عنها.
والسخرية:الاستهزاء،وتقدمت في قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في سورة الأنعام[10].
والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم،ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عنادا فأطلق {لا يَذْكُرُونَ} على أثر
ـــــــ
1 رواه البخاري في مناقب الأنصار وفيه قصة.
2 رواه البخاري في الجهاد.
(23/18)
الفعل،أي لا يحصل فيهم أثر تذكر به وإن كانوا قد ذكروا ذلك.ويجوز أن يراد لا يذكرون ما ذكروا به،أي لشدة إعراضهم عن التأمل فيما ذكروا به لاستقرار ما ذكروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه، على حد قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} [الفرقان:44].
و {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} أي خارق عادة أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالا على صدفة لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله:صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني.وقد رأوا انشقاق القمر،فقالوا: هذا سحر،قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2,1].
و {يَسْتَسْخِرُونَ} مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران:195]وقوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43].
فالسخرية المذكورة في قوله: {وَيَسْخَرُونَ} سخرية من محاجة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالأدلة.
فالسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات،أي يزيدون في السخرية بمن ظن منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم،ألا ترى أنهم قالوا: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]
[15ـ19] {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} .
عطف على جملة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات:11]الآية.والإشارة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إلى مضمون قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} وهو إعادة الخلق عند البعث،ويبينه قوله : {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ،أي وقالوا في رد الدليل الذي تضمنه قوله: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} الصافات:11]أي أجابوا بأن ادعاء إعادة الحياة بعد البلى كلام سحر مبين، أي كلام لا يفهم قصد به سحر السامع.هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيرا يلتئم به نظمها خلافا لما درج عليه المفسرون.
وقرأ نافع وحده {إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بهمزة واحدة هي همزة {إن} باعتبار أنه جواب {إذا} الواقعة في حيز الاستفهام فهو من حيز الاستفهام.وقرأ غير نافع {أَإِنَّا} بهمزتين:
(23/19)
إحداهما همزة الاستفهام مؤكدة للهمزة الداخلة على {إذا} .
وقوله: {أَوَآبَاؤُنَا} قرأه قالون عن نافع وابن عامر وأبو جعفر بسكون واو {أو} على أن الهمزة مع الواو حرف واحد هو {أو} العاطفة المفيدة للتقسيم هنا ووجه العطف بـ {أو} هو جعلهم الآباء الأولين قسما آخر فكان عطفه ارتقاء في إظهار استحالة إعادة هذا القسم لأن آباءهم طالت عصور فنائهم فكانت إعادة حياتهم أوغل في الاستحالة.وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الواو واو العطف والهمزة همزة استفهام فهما حرفا.وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف حسب الاستعمال الكثير.والتقدير:وأآباؤنا الأولون مثلنا.
وعلى كلتا القراءتين فرفعه بالعطف على محل اسم {إن} الذي كان مبتدأ قبل دخول {إن} ،والغالب في العطف على اسم {إن} يرفع المعطوف اعتبار بالمحل كما في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]أو يجعل معطوفا على الضمير المستتر في خبر {إن} وهو هنا مرفوع بالنيابة عن الفاعل ولا يضر الفصل بين المعطوف عليه الذي هو ضمير متصل وبين حرف العطف،أو بين المعطوف عليه والمعطوف بالهمزة المفضي إلى إعمال ما قبل الهمزة فيما بعدها وذلك ينافي صدارة الاستفهام لأن صدارة الاستفهام بالنسبة إلى جملته فلا ينافيها عمل عامل من جملة قبله لأن الإعمال اعتبار يعتبره المتكلم ويفهمه السامع فلا ينافي الترتيب اللفظي.
والاستفهام في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا} إنكاري كم تقدم فلذلك كان قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ} جوابا لقولهم : {أَإِذَا مِتْنَا} على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين:أيبعثون?فقيل لهم:نعم،تقريرا للبعث المستفهم عنه،أي نعم تبعثون.وجيء بـ {قُلْ} غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
{وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} جملة في موضع الحال.والداخر:الصاغر الذليل،أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بتقريب العقاب لا بعث كرامة.
وفرع على إثبات البعث الحاصل بقوله: {نَعَمْ} ؛أن بعثهم وشيك الحصول لا يقتضي معالجة ولا زمنا إن هي إلا إعادة تنتظر زجرة واحدة.
والزجرة:الصيحة،وقد تقدم آنفا قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} [الصافات:2].
(23/20)
و {وَاحِدَةٌ} تأكيد لما تفيده صيغة الفعلة من معنى المرة لدفع توهم أن يكون المراد من الصيحة الجنس دون الوجود لأن وزن الفعلة يجيء لمعنى المصدر دون المرة.وضمير {هِيَ} ضمير القصة والشأن وهو لا معاد له إنما تفسره الجملة التي بعده.وفرع عليه {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} ودل فاء التفريع على تعقيب المفاجأة،ودل حرف المفاجأة على سرعة حصول ذلك.وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} في سورة يس~[25].
وكني عن الحياة الكاملة التي لا دهش يخالطها بالنظر في قوله: {يَنْظُرُونَ} لأن النظر لا يكون إلا مع تمام الحياة.وأوثر النظر من بين بقية الحواس لمزيد اختصاصه بالمقام وهو التعريض بما اعتراهم من البهت لمشادة الحشر.
[20] {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ}
يجوز أن تكون الواو للحال،أي قائلين {يَا وَيْلَنَا} أي يقول جميعهم:يا ويلنا يقوله كل أحد عنه وعن أصحابه.ويجوز أن يكون عطفا على جملة {يَنْظُرُونَ} [الصافات:19].والمعنى:ونظروا وقالوا.
والويل:سوء الحال.وحرف النداء للاهتمام.وقد تقدم نظيرة في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} في سورة يس[30].
والإشارة إلى اليوم المشاهد.والدين:الجزاء،وتقدم في سورة الفاتحة.
[21] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
يجوز أن يكون هذا كلاما موجها إليهم من جانب الله تعالى جوابا عن قولهم: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20]،والخبر مستعمل في التعريض بالوعيد،ويجوز أن يكون من تمام قولهم،أي يقول بعضهم لبعض {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .
و {الْفَصْلِ} :تمييز الحق من الباطل،والمراد به الحكم والقضاء،أي هذا يوم يفضي عليكم بما استحققتموه من العقاب.
[22ـ26] {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
(23/21)
مُسْتَسْلِمُونَ}
تخلص من الإنذار بحصول البعث إلى الإخبار عما يحل بهم عقبة إذا ثبتوا على شركهم وإنكارهم البعث والجزاء.
و {احْشُرُوا} أمر،وهو يقتضي آمرا،أي ناطقا به،فهذا مقول لقول محذوف لظهور أنه لا يصلح للتعلق بشيء مما سبقه،وحَذْفُ القول من حديث البحر،وظاهر أنه أمر من قبل الله تعالى للملائكة الموكلين بالناس يوم الحساب.
والحشر:جمع المتفرقين إلى مكان واحد.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} :المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
والأزواج ظاهرة أن المراد به حلائلهم وهو تفسير مجاهد والحسن.وروي عن النعمان بن بشير يرويه عن عمر بن الخطاب وتأويله:أنهن الأزواج الموافقات لهم في الإشراك،أما من آمن فهن ناجيات من تبعات أزواجهن وهذا كذكر أزواج المؤمنين في قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} [يّس:56] فإن المراد أزواجهم المؤمنات فأطلق حملا على المقيد في قوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23]
وذكر الأزواج إبلاغ في الوعيد والإنذار لئلا يحسبوا أن النساء المشركات لا تبعة عليهن.
وذلك مثل تخصيصهن بالذكر في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} في سورة البقرة[178].
وقيل:الأزواج:"الأصناف،أي أشياعهم في الشرك وفروعه".قاله قتادة وهو رواية عن عمر بن الخطاب وابن عباس.
وعن الضحاك:"الأزواج المقارنون لهم من الشياطين".
وضمير {يَعْبُدُونَ} عائد إلى {الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} .وما صدق {ما} غير العقلاء،فأما العقلاء فلا تزر وازرة وزر أخرى.
والضمير المنصوب في {فَاهْدُوهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي الأصنام.وعطف {فَاهْدُوهُمْ} بفاء التعقيب إشارة إلى سرعة الأمر بهم إلى النار عقب ذلك الحشر فالأمر بالأصالة في القرآن.
والهداية والهدي:الدلالة على الطريق لمن لا يعرفه،فهي إرشاد إلى مرغوب وقد
(23/22)
غلبت في ذلك،لأن كون المهدي راغبا في معرفة الطريق من لوازم فعل الهداية ولذلك تقابل بالضلالة وهي الحيرة في الطريق،فذكر {اهْدُوهُمْ} هنا تهكم بالمشركين، كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرادة طحونا
والصراط:الطريق،أي طريق جهنم.
ومعنى {وَقِفُوهُمْ} أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته،أي أحسبوهم عن السير قليلا ليسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ،فيقال لهم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} ،أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه،وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين.
فالاستفهام في {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} مستعمل في التعجيز مع التنبيه على الخطأ الذي كانوا فيه في الحياة الدنيا.
وجملة {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} مبينة لإبهام {مَسْؤُولُونَ} وهو استفهام مستعمل في التعجيب للتذكير بما يسوءهم، فظهر أن السؤال ليس على حقيقته وإنما أريد به لازمه وهو التعجيب،والمعنى:أي شيء اختص بكم، فـ {ما} الاستفهامية مبتدأ و {لكم} خبر عنه.
وجملة {لا تَنَاصَرُونَ} حال من ضمير {لكم} وهي مناط الاستفهام،أي أن هذه الحالة تستجوب التعجب من عدم تناصركم.وقرأ الجمهور {لا تَنَاصَرُونَ} بتخفيف المثناة الفوقية على أنه من حذف إحدى التاءين.وقرأه البَزِّي عن ابن كثير وأبو جعفر بتشديد المثناة على إدغام إحدى التاءين في الأخرى.
والإضراب المستفاد من {بَل} إضراب لإبطال إمكانية التناصر بينهم وليس ذلك مما يتوهمه السمع، فلذلك كان الإضراب تأكيد لما دل عليه الاستفهام من التعجيز.
والاستسلام:الإسلام القوي،أي إسلام النفس وترك المدافعة فهو مبالغة في أسلم.
وذكر {الْيَوْمَ} لإظهار النكاية بهم،أي زال عنهم ما كان لهم من تناصر وتطاول على المسلمين قبل اليوم،أي في الدنيا إذ كانوا يقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44]وقد قالها أبو جهل يوم بدر،أي نحن جماعة لا تغلب فكان لذكر اليوم وقع بديع في هذا المقام.
(23/23)
[27ـ32] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}
عطف على {مُسْتَسْلِمُونَ} [ الصافات:26]أي استسلموا وعاد بعضهم على بعض باللائمة والمتسائلون:المتقاولون وهم زعماء أهل الشرك ودهماؤهم كما تبينه حكاية تحاورهم من قوله: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} وقوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} الخ.
وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي مما سيقع في القيامة،تنبيها على تحقيق وقوعه لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم،وتحذير دهمائهم من الاعتزاز بتغريرهم،مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله: {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات:19]الآية.
والإقبال:المجيء من جهة قبل الشيء،أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختل الخائف.واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر.
فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم،ودلالة التركيب عليه أن يكون الإتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء، كقول النابغة:
آتاك امرؤ مستبطن لي بغضة
وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معا في قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} الآية في سورة الحجر[64,63].أو أن يكون اليمين مرادا به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين.وقد اشتقت من اليمن وهو البركة،وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم. وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمن بالسانح،وهو الوارد من جهة يمين السائر،والتشاؤم،أي ترقب ورود الشر من جهة الشمال.
وكان حق فعل {تأتوننا} أن يعدى إلى جهة اليمين بحرف "من" فلما عدي بحرف {عن} الذي هو للمجازة تعين تضمين {تأتوننا} معنى "تصدوننا" ليلائم معنى المجاوزة،
(23/24)
أي تأتوننا صاديننا عن اليمين،أي عن الخير.فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها.فال ابن عطية ما خلاصته:"اضطرب المتأولون في معنى قولهم: {عَنِ الْيَمِينِ} فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة،وبعضهم أيضا نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصلا من ذلك معان منها: أن يريد باليمين القوة والشدة قلت وهو عن ابن عباس والفراء فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغروننا بقوة منكم،ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا:تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتظهرون فيها أنها جهة الرشد "وهو عن الزجاج والجبائي" ومما تحتمله الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا،أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن،فعبروا عنها باليمين،ومن المعاني أن يريدوا أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإنسان في قلبه وقيل تحلفون لنا".اهـ.
وجواب الزعماء بقولهم: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} إضراب إبطال لزعم الأتباع أنهم الذين صدوهم عن طريق الخير أي بل هم يكونوا ممن يقبل الإيمان لأن تسليط النفي على فعل الكون دون أن يقال: بل لم تؤمنوا،مشعر بأن الإيمان لم يكن من شأنهم،أي بل كنتم أنتم الآبين قبول الإيمان.و {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي من قهر وغلبة حتى نكرهكم على رفض الإيمان،ولذلك أكدوا هذا المعنى بقولهم: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} ،أي كان الطغيان وهو التكبر عن قبول دعوة رجل منكم شأنكم وسجيتكم، فلذلك أقحموا لفظ {قوما} بين "كان" وخبرها لأن استحضارهم بعنوان القومية في الطغيان يؤذن بأن الطغيان من مقومات قوميتهم كما قدمنا عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة[164].
وفرّعوا على كلامهم اعترافهم بأنهم جميعا استحقوا العذاب فقولهم: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} ،تفريع الاعتراض،أي كان أمر ربنا بإذاقتنا عذاب جهنم حقا. وفعل "حق" بمعنى ثبت.
وجملة {إِنَّا لَذَائِقُونَ} بيان لـ {قَوْلُ رَبِّنَا} .وحكي القول بالمعنى على طريقة الالتفات ولولا الالتفات لقال:"إنكم لذائقون" أو إنهم "لذئقون".ونكتة الالتفات زيادة التنصيص على المعني بذوق العذاب.
وحذف مفعول "ذائقون" لدلالة المقام عليه وهو الأمر بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى
(23/25)
صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23].
وفرعوا على مضمون ردهم عليهم من قولهم: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} إلى {قَوْماً طَاغِينَ} قولهم : {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} ،أي ما أكرهناكم على الشرك ولكنا وجدناكم متمسكين به وراغبين فيه فأغويناكم، أي فأيدناكم في غوايتكم أنا كنا غاوين فسولنا لكم ما اخترناه لأنفسنا فموقع جملة {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} موقع العلة.
و"إن" مغنية غناء لام التعليل وفاء التفريع كما ذكرناه غير مرة.
وزيادة {كنا} للدلالة على تمكين الغواية من نفوسهم،وقد استبان لهم أن ما كانوا عليه غواية فأقروا بها،وقد قدمنا عند قوله تعالى في سورة المؤمنين[101] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} أن تساؤلهم المنفي هنالك هو طلب بعضهم من بعض النجدة والنصرة وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين.
[33ـ34] {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}
هذا الكلام من الله تعالى موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين،ويشبه أن يكون اعتراضا بين حكاية حوار الله أهل الشرك في القيامة وبين توبيخ الله إياهم بقوله: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} [الصافات:38].
والفاء للفصيحة لأنها وردت بعد تقرير أحوال وكان ما بعد الفاء نتيجة لتلك الأحوال فكانت الفاء مفصحة عن شرط مقدر،أي إذ كان حالهم كما سمعتم فإنهم يوم القيامة في العذاب مشتركون لاشتراكهم في الشرك وتمالئهم،أي لا عذر للكلام للفريقين لا للزعماء بتسويلهم ولا لدهماء بنصرهم. وقد يكون عذاب الدعاء المغوين أشد من عذاب الآخرين وذك لا ينافي الإشراك في جنس العذاب كما دلت عليه أدلة أخرى،لأن المقصود هنا بيان عدم إجداء معذرة كلا الفريقين وتنصله. وهذه الجملة معترضة بين جملة حكاية موقفهم في الحساب.
وجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} تعليل لما اقتضته جملة {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي فإن جزاء المجرمين يكون مثل ذلك الجزاء في مؤاخذة التابع المتبوع.
(23/26)
والمراد بالمجرمين:المشركون،أي المجرمين مثل جرمهم،وقد بينته جملة {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
[35ـ36] {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}
استئناف بياني أفاد تعليل جزائهم وبيان إجرامهم بذكر ما كانوا عليه من التكبير عن الاعتراف بالوحدانية لله ومن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه وصفا يرمون به إلى تكذيبه فيما جاء به.فحرف "إن" هنا ليس للتأكيد لأن كونهم كذلك مما لا منازع فيه وإنما هو للاهتمام بالخبر فلذلك تفيد التعليل والربط وتغني غناء فاء التفريع.
وذكر فعل الكون ليدل على أن ما تضمنه الخبر وصف متمكن منهم فهو غير منقطع ولا هم حائدون عنه.
ومعنى {قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أنه يقال يهم على سبيل الدعوة والتعليم.
وفاعل القول المبني فعله للنائب هو النبي صلى الله عليه وسلم فحذف للعلم به.
والاستكبار:شدة الكبر،فالسين والتاء للمبالغة،أي يتعاظمون عن أن يقبلوا ذلك من رجل مثلهم، ولك أن تجعل السين والتاء للطلب،أي إظهار التكبر،أي يبدو عليهم التكبر والاشمئزاز من هذا القول.
ويقارن استكبارهم أن يقول بعضهم لبعض:لا نترك آلهتنا لشاعر مجنون،وأتوا بالنفي على وجه الاستفهام الإنكاري إظهارا لكون ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أمر منكر لا يطمع في قبولهم إياه،تحذيرا لمن يسمع مقالتهم من أن يجول في خاطره تأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} .وقووا هذا التحذير بجعل حرف الإنكار مسلطا على الجملة المؤكدة بحرف التوكيد للدلالة على إنهم إذ أتوا ما أنكروه كانوا قد تحقق تركهم آلهتهم تنزيلا لبعض المخاطبين منزلة من يشك في أن الإيمان بتوحيد الإله يفضي إلى ترك آلهتهم ليسدوا على المخاطبين منافد التردد أن يتطرق منها إلى خواطرهم.
واللام في {لِشَاعِرٍ} لام العلة والأجل،أي لأجل شاعر،أي لأجل دعوته.
وقولهم:"شاعر مجنون" قول موزع،أي يقول بعضهم:هو شاعر،وبعضهم:هو مجنون،أو يقولون مرة: شاعر،ومرة:مجنون،كما في الآية الأخرى {كَذَلِكَ مَا أَتَى
(23/27)
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذريات:52].
[37] {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}
اعتراض في آخر الاعتراض قصدت منه المبادرة بتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما قالوه.
و {بل} إضراب إبطال لقولهم: {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]وبإثبات صفته الحق لبيان حقيقة ما جاء به.وفي وصف ما جاء به أنه ما يكفي لنفي أن يكون شاعر ومجنونا،فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون إلا التنفير من اتباعه فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته،أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه،فكان قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} مثبتا لكون الرسول على غير ما وصفوه إثباتا بالبينة.
وأتبع ذلك بتذكيرهم بأنه ما جاء إلا بمثل ما جاءت به الرسل من قبله،فكان الإنصاف أن يلحقوه بالفريق الذي شابههم دون فريق الشعراء أو المجانين.
وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالا وتفصيلا،لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريرا لما جاءت به الشرائع السالفة فهو تصديق له ومصادقة عليه،أو أن يكون نسخا لما جاءت به بعض الشرائع السالفة،والإنباء بنسخه وانتهاء العمل به تصديق للرسل الذين جاءوا به في حين مجيئهم به،فكل هذا مما شمله معنى التصديق،وأول ذلك هو إثبات الوحدانية بالربوبية لله تعالى.فالمعنى:أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله،وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر.
[38ـ39] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
هذا من كلام الله يوم القيامة الموجه إلى المشركين عقب تساؤلهم وتحاورهم فيكون ما بين هذا وبين محاورتهم المنتهية بقولهم: {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات:32]اعتراضا،أي فلما انتهوا من تحاورهم خوطبوا بما يقطع طمعهم في قبول تنصل كلا الفريقين من تبعات الفريق الآخر ليزدادوا تحققا من العذاب الذي علموه من قولهم: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31]،وهذا ما تقتضيه دلالة اسم الفاعل في قوله: {لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال، أي حال التلبس، فإنه لما قيل لهم هذا كانوا مشريفين على الوقوع في العذاب وذلك زمن حال في العرف العربي.
(23/28)
ولما وصف عذابهم بأنه أليم عطف عليه إخبارهم بأن ذلك المقدار لا حيف عليهم فيه لأنه على وفاق أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من آثار الشرك،والحظ الأكبر من ذلك الجزاء هو حظ الشرك ولكن كني عن الشرك بأعماله وأما هو فهو أمر اعتقادي.وفي هذا دليل على أن الكفار مجازون على أعمالهم السيئة من الأقوال والأعمال كتمجيد آلهتهم والدعاء لها،وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وأذاه وأذى المؤمنين،وقولهم في أصنامهم إنهم شفعاء عند الله،وفي الملائكة إنهم بنات الله،ومن قتل الأنفس والغارة على الأموال ووأد البنات والزنى فإن ذلك كله مما يزيدهم عذابا،وهو يؤيد قول الذين ذهبوا إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأن ذلك واقع.
[40ـ49] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}
استثناء منقطع في معنى الاستدراك،والاستدراك تعقيب الكلام بما يضاده،وهذا الاستدراك تعقيب على قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33]فإن حال عباد الله المخلصين تام الضدية لحال الذين ظلموا،وليس يلزم في الاستدراك أن يكون رفع توهم وإنما ذلك غالب،فقول بعض العلماء في تعريفه هو:تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه،تعريف أغلبي،أو أريد أدنى التوهم لأن الاستثناء المنقطع أعم من ذلك،فقد يكون إخراجا من حكم لا من محكوم عليه ضرورة أنهم صرحوا بأن حرف الاستثناء في المنقطع قائم مقام لكن،ولذلك يقتصرون على ذكر حرف الاستثناء والمستثنى بل يردفونه بجملة تبين محل الاستدراك كقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]وقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34]،وكذلك قوله هنا: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} .ولو كان المعنى على الاستثناء لما أتبع المستثنى بأخبار عنه لأنه حينئذ يثبت له نقيض حكم المستثنى منه بمجرد الاستثناء، فإن ذلك مفاد {إلا} ،ونظيره مع {لكن}قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ} الآية في سورة الزمر[20,19].
وذكر المؤمنين بوصف العبودية المضافة لله تعالى تنويه بهم وتقريب،وذلك اصطلاح
(23/29)
غالب في القرآن في إطلاق العبد والعباد مضافا إلى ضميره تعالى كقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ:17] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [صّ:45] {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68]،وربما أطلق العبد غير مضاف مراد به التقريب أيضا كقوله : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} [صّ:30]،أي العبد لله،ألا ترى أنه لما أريد ذكر قوم من عباد الله من المشركين لم يؤت بلفظ العباد مضافا كما في قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الاسراء:5]إلا بقرينة مقام التوبيخ في قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [ الفرقان:17]لأن صفة الإضلال قرينة على أن الإضافة ليست للتقريب،وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]فقرينة التغليب هي مناط استثناء الغاوين من قوله: {عبادي} وينسب إلى الشافعي:
ومما زادني شرفا وفخرا ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك {يا عبادي} ... وأن أرسلت أحمد لي نبيا
والمراد بهم هنا الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم الذين يخطرون بالبال عند ذكر أحوال المشركين الذين كفروا به وقالوا فيه ما هو منه بريء خطور الضد بذكر ضده.
و {الْمُخْلَصِينَ} صفة عباد الله وهو اللام إذا أريد الذين أخلصهم الله لولايته،وبكسرها أي الذين أخلصوا دينهم لله.فقرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بفتح اللام.وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر اللام.
و {أولئك} إشارة إلى {عِبَادَ اللَّهِ} قصد منه التنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة لأجل مما أثبت لهم من صفة الإخلاص كما ذلك من مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]بعد قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية في سورة البقرة[3,2].
والرزق:الطعام قال تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [ آل عمران:37]،وقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف:37].والمعلوم: الذي لا يتخلف عن ميعاده ولا ينتظره أهله.
و {فَوَاكِهُ} عطف بيان من {رِزْقٌ} والمعنى:أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل لأجل الشبع.والفواكه:الثمار والبقول اللذيذة.
{وَهُمْ مُكْرَمُونَ} عطف على {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} ،أي يعاملون بالحفاوة والبهجة
(23/30)
فإنه وسط في أثناء وصف ما أعد لهم من النعيم الجسماني أن لهم نعيم الكرامة وهو أهم لأن به انتعاش النفس مع ما ذلك من خلوص النعمة ممن يكدرها وذلك لأن الإحسان قد يكون غير مقترن بمدح وتعظيم ولا بأذى وهو الغالب،وقد يكون مقترنا بأذى وذلك يكدر من صفوة،قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264]فإذا كان الإحسان مع عبارات الكرامة وحسن التلقي فذلك الثواب.
و {سُرُرٍ} :جمع سرير وهو ككرسي واسع يمكن الاضطجاع عليه،وكان الجلوس على السرير من شعار الملوك وأضرابهم،وذلك جلوس أهل النعيم لأن الجالس على السرير لا يجد مللا لأنه يغير جلسته كيف تتيسر له.
و {مُتَقَابِلِينَ} كل واحد قبالة الآخر.وهذا أتم للأنس لأن فيه أنس الاجتماع وأنس نظر بعضهم إلى بعض فإن رؤية الحبيب والصديق تؤنس النفس.
والظاهر:أن معنى كونهم متقابلين تقابل أفلاراد كل جماعة مع أصحابهم،وأنهم جماعات على حسب تراتيبهم في طبقات الجنة،وأن أهل كل طبقة يقسمون جماعات على حسب قرابتهم في الجنة كما قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} [يّس:56]وكثرة كل جماعة لا تنافي تقابلهم على السرر والأرائك وتحادثهم لأن شؤون ذلك العالم غير جارية على المتعارف في الدنيا.
ومعنى {يُطَافُ} يدار عليهم وهم في مجالسهم.والكأس "بهمزة بعد الكاف":إناء الخمر،مؤنث،وهي إناء بلا عروة ولا أنبوب واسعة الفم،أي محل الصب منها،تكون من فضة ومن ذهب ومن خزف ومن زجاج،وتسمى قدحا وهو مذكر.وجمع كأس:كاسات وكؤوس وأكؤس.وكانت خاصة بسقي الخمر حتى كانت الكأس من أسماء الخمر تسمية باسم المحل،وجعلوا منه قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وقد قيل:لا يسمى ذلك الإناء كأسا إلا إذا كانت فيه الخمر وإلا فهو قدح.
والمعني بها في الآية الخمر لأنه أفراد الكأس مع أن المطوف عليهم كثيرون،ولأنها وصفت بأنها {مِنْ مَعِينٍ} .وروى ابن أبقي شيبة والطبري عن الضحاك أنه قال:"كل كأس في القرآن إنما عني بها الخمر". وروي مثله عن ابن عباس وقال به الأخفش.
و {مَعِينٍ} بفتح الميم،قيل أصله:معيون.فقيل:ميمه أصلية،وهو مشتق من مَعَنَ
(23/31)
يقال:ماء مَعَنٌ،فيكون {مَعِينٍ} بوزن فعيل مثال مبالغة من المعن وهو الإبعاد في الفعل شبه جريه بالإبعاد في المشي، وهذا أظهر في الاشتقاق.وقيل:ميمه زائدة وهو مشتق من عانه،إذا أبصره لأنه يظهر على وجه الأرض في سيلانه فوزنه مفعول،وأصله معيون فهو مشتق من اسم جامد وهو اسم العين،وليس فعل عان مستعملا استغنوا عنه بفعل عاين.
و {بَيْضَاءَ} صفة لـ"كأس".وإذ قد أريد بالكأس الخمر الذي فيها كان وصف {بَيْضَاءَ} للخمر.وإنما جرى تأنيث الوصف تبعا للتعبير عن الخمر بكلمة كأس،على أن اسم الخمر يذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر.روى مالك عن زيد بن أسلم:لونها مشرق حسن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حُمرة أو سواد.
واللذة:اسم معناه إدراك ملائم نفس المدرك،يقال:لذه ولذ به،والمصدر:اللذة واللذاذة.وفعله من باب فرح،تقول:لذذت بالشيء ويقال:شيء لذ،أي لذيذ فهو وصف بالمصدر فإذا جاء بهاء التأنيث كما في الآية فهو الاسم لا محالة لأن المصدر الوصف لا يؤنث بتأنيث موصوفه،يقال:امرأة عدل ولا يقال:امرأة عدلة.ووصف الكأس بها كالوصف بالمصدر يفيد المبالغة في تمكن الوصف،فقوله تعالى : {لَذَّةٍ} هو أقصى مما يؤدي شدة الالتذاذ بكلمة واحدة،لأنه عدل به عن الوصف الأصلي لقصد المبالغة،وعدل عن المصدر إلى الاسم لما في المصدر من معنى الاشتقاق.
وجملة {لا فِيهَا غَوْلٌ} صفة رابعة لكأس باعتبار إطلاقه على الخمر.
والغَوْل،بفتح الغيْن:ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم،اشتق من الغول مصدر غاله،إذا أهلكه.وهذا في معنى قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة:19].
وتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإفادة التخصيص،أي هو منتف عن خمر الجنة فقط دون ما يعرف من خمر الدنيا،فهو قصر قلب.ووقوع {غَوْلٌ} وهو نكرة بعد {لا} النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله،ووجب رفعه لوقوع الفصل بينه وبين حرف النفي بالخبر.
وجملة {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} معطوفة على جملة {لا فِيهَا غَوْلٌ} .
وقدم المسند عليه على المسند،والمسند فعل ليفيد التقديم تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي،أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا.
و {يُنْزَفُونَ} مبني للمجهول في الجمهور يقال:نزف الشارب،بالبناء
(23/32)
للمجهول إذا كان مجردا "ولا يبنى للمعلوم" فهو منزوف ونزيف،شبهوا عقل الشارب بالدم يقال:نزف دم الجريح،أي أفرغ.وأصله من: نَزَفَ الرجُلُ ماء البئر متعدياً،إذا نزحه ولم يبق منه شيئا.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يُنْزِفُونَ} بضم الياء وكسر الزاي من أُنزف الشاربُ،إذا ذهب عقله، أي صار ذا نزف،فالهمزة للصيرورة لا للتعدية.
و {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي حابسات أنظارهن حياء وغَنجا.والطرف:العين،وهو مفرد لا جمع له من لفظه لأن أصل الطرف مصدر:طرف بعينه من باب ضرب،إذا حرك جفنيه،فسميت العين طرفا، فالطرف هنا الأعين،أي قاصرات الأعين،وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} في سورة إبراهيم[43]،وقوله: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} في سورة النمل[40].
وذكر "عند" لإفادة أنهن ملابسات لهم في مجالسهم التي تدار عليهم فيها كأس الجنة،وكان حضور الجواري مجالس الشراب من مكملات الأنس والطرب عند سادة العرب،قال طرفة:
نداماي بيض كالنجوم وقنينة ... تروح علينا بين برد ومجسد
و {عِينٌ} جمع:عيناء,وهي المرأة الواسعة العين النجلاوتها.
والبَيْض المكنون:هو بيض النعام،والنعام يكن بيضه في حفر في الرمل ويفرش لها من دقيق ريشه، وتسمى تلك الحفر:الأداحي،واحدتها أدحية بوزن أثقية.فيكون البيض شديد لمعان اللون وهو أبيض مشوب بياضه بصفرة وذلك اللون أحسن ألوان النساء،وقديما شبهوا الحسان ببيض النعام،قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
[50ـ57] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
الفاء للتفريع لأن شأن المتجالسين في مسرة أن يشرعوا في الحديث فإن في الحديث مع الأصحاب والمنتدمين لذة كما قال محمد بن فياض:
(23/33)
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على الشراب
فإذا استشعروا أن ما صاروا إليه من النعيم كان جزاء على ما سبق من إيمانهم وإخلاصهم تذكر بعضهم من كان يجادله في ثبوت البعث والجزاء فحمد الله على أن هداه لعدم الإصغاء إلى ذلك الصاد فحدث بذلك جلساءه وأراهم إياه في النار،فلذلك حكي إقبال بعضهم على بعض بالمساءلة بفاء التعقيب.وهذا يدل على أن الناس في الآخرة تعود إليهم تذكراتهم التي كانت لهم في الدنيا مصغاة من الخواطر السيئة والأكدار النفسانية مدركة الحقائق على ما هي عليه.وجيء في حكاية هذه الحالة بصيغ الفعل الماضي مع أنها مستقبلة لإفادة تحقيق وقوع ذلك حتى كأنه قد وقع على نحو قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]،والقرينة هي التفريع على الأخبار المتعلقة بأحوال الآخرة.
والتساؤل:أن يسأل بعضهم بعضا،وحذف المتساءل عنه لدلالة ما بعده عليه،وقد بين نحوا منه قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:40ـ42].
وجملة {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} بدل اشتمال من جملة {يَتَسَاءَلُونَ} ،أي قال أحدهم في جواب سؤال بعضهم، فإن معنى التساؤل يشتمل على معنى الجواب فلذلك جعلناه بدل اشتمال لا بدل بعض ولا عطف بيان،والقرين مراد به الجنس،فإن هذا القول من شأنه أن يقوله كثير من خلطاء المشركين قبل أن يُسْلموا.
والقرين:المصاحب الملازم شبهت الملازمة الغالبة بالقرن بين شيءين بحيث لا ينفصلان،أي يقول له صاحبه لما أسلم وبقي صاحبه على الكفر يجادله في الإسلام ويحاول تشكيكه في صحته رجاء أن يرجع به إلى الكفر كما قال سعيد بن زيد:"لقد رأيتني وأن عمر لموثقي على الإسلام" أي جاعلني في وثاق لأجل أني أسلمت،وكان سعيد صهر عمر زوج أخته.
والاستفهام في {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} مستعمل في الإنكار،أي ما كان يحق لك أن تصدق بهذا، وسلط الاستفهام على حرف التوكيد لإفادة أنه بلغه تأكد إسلام قرينه فجاء ينكر عليه ما تحقق عنده،أي أن إنكاره إسلامه بعد تحقق خبره،ولولا أنه تحققه لما ظن به ذلك.والمصدق هو:الموقن بالخبر.
وجملة {أَإِذَا مِتْنَا} بيان لجملة {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بينت الإنكار المجمل بإنكار
(23/34)
مفصل وهو إنكار أن يبعث الناس بعد تفرق أجزائهم وتحولها ترابا بعد الموت ثم يجازوا.
وجملة {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} جواب {إذا} .وقرنت بحرف التوكيد للوجه الذي علمته في قوله: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} .
والمدين:المجازى.يقال:دانه يدينه،إذا جازاه،والأكثر استعماله في الجزاء على السواء،والدين:الجزاء كما في سورة الفاتحة.وقيل هنا: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} وفي أول السورة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات:16] لاختلاف القائلين.
وقرأ الجميع: {أَإِنَّكَ} بهمزتين.وقرأ من عدا ابن عامر {أَإِذَا مِتْنَا} بهمزتين وابن عامر بهمزة واحدة وهي همزة {إذا} اكتفاء بهمزة {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} في قراءته.وقرأ نافع {إِنَّا لَمَدِينُونَ} بهمزة واحدة اكتفاء بالاستفهام الداخل على شرطها.وقرأ الباقون بهمزتين.
وجملة {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} بدل اشتمال من جملة { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} لأن قوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} المحكي بها مما اشتمل عليه قوله الأول إذ هو تكملة للقول الأول.والاستفهام بقوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} مستعمل في العرض،عرض على رفقائه أن يتطلعوا إلى رؤية قرينة وما صار إليه، وذلك:إما لأنه علم أن قرينه مات على الكفر بأن يكون قد سبقه بالموت،وإما لأنه ألقي في روعه أن قرينه صار إلى النار،وهو موقن بأن خازن النار يطلعهم على هذا القرين لعلهم بأن لأهل الجنة ما يتساءلون قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يّس:57].
وحذف متعلق {مُطَّلِعُونَ} لدلالة آخر الكلام عليه بقوله: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} .فالتقدير:هل أنتم مطلعون على أهل النار لننظره فيهم.
وفي قوله: {فَاطَّلَعَ} اكتفاء،أي فاطلع فرآه ورأوه في سواء الجحيم إذ هو إنما عرض عليهم الاطلاع ليعلموا تحقيق ما حدثهم عن قرينه.واقتصر على ذكر اطلاعه هو دون ذكر اطلاع رفقائه لأنه ابتدأ بالاطلاع ليميز قرينه فيريه لرفقائه.
و {سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسطها قال بلعاء بن قيس:
عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
وجملة {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن وصف هذه الحالة
(23/35)
يثير في نفس السامع أن يسأل:فماذا حصل حين اطلع?فيجاب بأنه حين رأى قرينه أخذ يوبخه على ما كان يحاول منه حتى كاد أن يلقيه في النار مثله.وهذا التوبيخ يتضمن تنديمه على محاولة إرجاعه عن الإسلام.
والقسم بالتاء من شأنه أن يقع فيما جواب قسمه غريب، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ} في سورة يوسف[73]،وقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} في سورة الأنبياء[57].ومحل الغرابة هو خلاصه من شبكة قرينه واختلاف حال عاقبتيهما مع ما كانا عليه من شدة الملازمة والصحبة وما حفه من نعمة الهداية وما تورط قرينه في أوحال الغواية.
و {إن} مخففة من الثقيلة واتصل بها الفعل الناسخ على ما هو الغالب في أحوالها إذا أهملت.واللام الداخلة على خبر كاد هي الفارقة بين {إن} المخففة والنافية.و"ترديني" توقعني في الردى وهو الهلاك، واصل الردى:الموت ثم شاعت استعارته لسوء الحال تشبيها بالموت لما شاع من اعتبار الموت أعظم ما يصاب به المرء.
والمعنى:أنك قاربت أن تفضي بي إلى حال الردى بإلحاحك في صرفي عن الإيمان بالبعث لفرط الصحبة.ولولا نعمة هداية الله وتثبيته لكنت من المحضرين معك في العذاب.
وقرأ الجمهور {لَتُرْدِينِ} بنون مكسورة في آخره دون ياء المتكلم على التخفيف،وهو حذف شائع في الاستعمال الفصيح وهو لغة نجد.وكتب في المصاحف بدون ياء.وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء ولا ينافي رسم المصحف لأن كثيرا من الياءات لم تكتب في المصحف،وقرأ القراء بإثباتها فإن كتاب المصحف قد حذفوا مدودا كثيرة من ألفات وياءات.
والمحضرون أريد بهم المحضرون في النار،أي لكنت من المحضرين معك للعذاب.وقد كثر إطلاق المحضر ونحوه على الذي يحضر لأجل العقاب.وقد فسر بعض المفسرين القرين هنا بالشيطان الذي يلازم الإنسان لإضلاله وإغوائه.وطريق حكاية تصدي القائل من أهل الجنة لإخبار أهل مجلسه بحاله يبطل هذا التفسير لأنه لو كان المراد الشيطان لكان إخباره به غير مفيد فما من أحد منهم إلا كان له قرين من الشياطين،وما منهم إلا عالم بأن مصير الشياطين إلى النار.
(23/36)
وقيل:نزلت في شريكين هما المشار إليهما في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} في سورة الكهف[32].
وروي عن عطاء الخراساني:"أنها نزلت في أخوين مؤمن وكافر،كانا غنيين،وكان المؤمن ينفق ماله في الصدقات وكان الكافر ينفق ماله في اللذات.وفي هذه الآية عبرة من الحذر من قرناء السوء ووجوب الاحتراس مما يدعون إليه ويزينونه من المهالك.
[58ـ60] {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
عطف الفاء الاستفهام على جملة {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]،فالاستفهام موجه من هذا القائل إلى بعض المتسائلين.وهو مستعمل في التقرير المراد به التذكير بنعمة الخلود فإنه بعد أن اطلعهم على مصير قرينه السوء أقبل على رفاقه بإكمال حديثه تحدثا بالنعمة واغتباطا وابتهاجا بها،وذكرا لها فإن لذكر الأشياء المحبوبة لذة فما ظنك بذكر نعمة قد انغمسوا فيها وأيقنوا بخلودها.ولعل نظم هذا التذكر في أسلوب الاستفهام التقريري لقصد أن يسمع تكرر ذكر ذلك حين يجيبه الرفاق بأن يقولوا:نعم ما نحن بميتين.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} منقطع لأن الموت المنفي هو الموت في الحال،أو الاستقبال كما هو شأن اسم الفاعل فتعين أن المستثنى غير داخل في المنفي فهو منقطع،أي لكن الموتة الأولى.وذلك الاستدراك تأكيد للنفي.وانتصاب لأجل الانقطاع لا لأجل النفي.
وعطف {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ليتمحض الاستفهام للتحدث بالنعمة لأن المشركين أيضا ما هم بميتين ولكنهم معذبون فحالهم شر من الموت.قيل لبعض الحكماء:ما شر من الموت?فقال:الذي يتمنى فيه الموت.
والظاهر أن جملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} حكاية لبقية كلام القائل لرفاقه،فهي بمنزلة التذييل والفذلكة لحالتهم المشاهد بعضها والمتحدث عن بعضها بقوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} .
و {الفوز} :الظفر بالمطلوب،أي حالنا هو النجاح والظفر العظيم.وقد أبدع في
(23/37)
تصوير حسن حالهم بحصر الفوز فيه حتى كان كل فوز بالنسبة إليه ليس بفوز،فالحصر للمبالغة لعدم الاعتداد بغيره ثم ألحقوا ذلك الحصر بوصفه بـ {العظيم} .
[61] {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
هذا تذييل لحكاية حال عباد الله المخلصين فهو كلام من جانب الله تعالى للتنويه بما فيه عباد الله المخلصون،وللتحريض على العمل بمثل ما عملوه مما أوجب لهم إخلاص الله تعالى إياهم،فالإشارة في قوله: {لِمِثْلِ هَذَا} إلى ما تضمنه قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:41]الآيات،أي لمثل نعيمهم وأنسهم ومسرتهم ولذاتهم وبهجتهم وخلود ذلك كله.
والمراد بمثله:نظيره من نعيم لمخلصين آخرين.والمراد بالعاملين:الذين يعملون الخير ويسيرون على ما خطت لهم شريعة الإسلام،فحذف مفعول "يعمل" اختصار لظهوره من المقام.
واللام في {لِمِثْلِ} لام التعليل.وتقديم المجرور على عامله لإفادة القصر،أي لا لعمل غيره،وهو قلب للرد على المشركين الذين يحسبون أنهم يعملون أعمالا صالحة يتفاخرون بها من الميسر،قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103ـ104].
والمعنى:لنوال مثل هذا،فحذف مضاف لدلالة اللام على معناه.
والفاء للتفريع على مضمون القصة المذكورة قبلها من قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]الآيات.
والأمر في {فليعمل} للإرشاد الصادق بالواجبات والمندوبات.
[62ـ68] {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}
استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن
(23/38)
والكافر جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها.
فالمقصود بالخبر هو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا} أي شجرة الزقوم { فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} إلى آخرها.وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه.
والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر.وهو خطاب لكل سامع.
والاشارة بـ {أذلك} إلى ما تقدم من حال المؤمنين في النعيم والخلود،وجيء باسم الإشارة مفردا بتأويل المذكور،بعلامة بعد الشار إليه لتعظيمه بالبعد،أي بعد المرتبة وسموها لأن الشيء النفيس الشريف يتخيل عاليا والعالي يلازمه البعد عن المكان المعتاد وهو السفل،وأين الثريا من الثرى.
والنُزُل:"بضمتين،ويقال:نزل بضم وسكون هو في أصل اللغة:المكان الذي ينزل فيه النازل"،قاله الزجاج.وجرى عليه صاحب اللسان وصاحب القاموس،وأطلق إطلاقا شائعا كثيرا على الطعام المهيأ للضيف لأنه أعد له لنزوله تسمية باسم مكانه نظير ما أطلقوا اسم السكن بسكون الكاف على الطعام المعد للساكن الدار إذ المسكن يقال فيه:سكن أيضا.واقتصر عليه أكثر المفسرين ولم يذكر الراغب غيره.ويجوز أن يكون المراد من النزل هنا طعام الضيافة في الجنة.ويجوز أن يراد به مكان النزول على تقدير مضاف في قوله: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} بتقدير:أم مكان شجرة الزقوم.
وعلى الوجهين فانتصاب {نُزُلاً} على الحال من اسم الإشارة ومتوجه الإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما يناسب الوجهين مما تقدم من قوله: {رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات:41ـ43].
ويجري على الوجهين معنى معادل الاستفهام فيكون إما أن تقدر:أم منزل شجرة الزقوم على حد قوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم:73]فقد ذكر مكانين،وإما أن نقدر:أم نزل شجرة الزقوم،وعلى هذا الوجه الثاني تكون المعادلة مشاكلة نهكما لأن طعام شجرة الزقوم لا يحق له أن يسمى نزلا.
وشجرة الزقوم ذكرت هنا ذكر ما هو معهود من قبل لورودها معرفة بالإضافة لوقوعها في مقام التفاوت بين حالي خير وشر فيناسب أن تكون الحوالة على مثلين معروفين،فأما أن يكون اسما جعله القرآن لشجرة في جهنم ويكون سبق ذكرها في {ثُمَّ
(23/39)
إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} في سورة الواقعة[51ـ52]،وكان نزولها قبل سورة الصافات.ويبين هذا ما رواه الكلبي:"أنه لما نزلت هذه الآية "أي آية سورة الواقعة "قال ابن الزَّبَعْرِي:"أكثر الله في بيوتكم الزقوم،فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد بالزقوم.فقال أبو جهل لجاريته:"زقمينا" فأتته بزبد وتمر فقال:"تزقموا".
وعن ابن سيده:بلغنا أنه لما نزلت {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:44] "أي في سورة الدخان" لم يعرفها قريش.فقال أبو جهل:"يا جارية هاتي لنا تمرا وزبدا نزدقمه"،فجعلوا يأكلون ويقولون:أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة"اهـ.والمناسب أن يكون قولهم هذا عندما سمعوا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة.وإما أن يكون اسما لشجرة معروف هو مذموم،قيل:"هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإنسان تورم ومات منه في الغالب".قاله قطرب وأبو حنيفة.
وتصدي القرآن لوصفها المفصل هنا يقتضي أنها ليست معروفة عندهم فذكرها مجملة في سورة الواقعة فلما قالوا ما قالوا فصل أوصافها هنا بهذه الآية وفي سورة الدخان بقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تََغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43ـ46].
وقد سمّاها القرآن بهذه الإضافة كأنها مشتقة من الزقمة بضم الزاء وسكون القاف وهم اسم الطاعون،وقال ابن دريد:"لم يكن الزقوم اشتقاقا من التزقم وهو الإفراط في الأكل حتى يكرهه". وهو يريد الرد على من قال:"إنها مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكرهة الشيء".واستأنف وصفها بأن الله جعلها {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} ،أي عذابا مثل ما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]،أي عذبوهم بأخدود النار.
وفسرت الفتنة أيضا بأن خبر شجرة الزقوم كان فتنة للمشركين إذ أغراهم بالتكذيب والتهكم فيكون معنى {جَعَلْنَاهَا} جعلنا ذكرها وخبرها،أي لما نزلت آية سورة الواقعة،أي جعلنا ذكرها مثيرا لفتنتهم بالتكذيب والتهكم دون تفهم،وذلك مثل قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31]،فإنه لما نزل قوله تعالى في وصف جهنم {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30]قال أبو جهل لقريش:"ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل
(23/40)
عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم "أي من خزنة النار" فقال أبو الاشد الجمحمي:"أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين" فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31].
واستأنف لوصفا استئنافا ثانيا مكروا فيه كلمة {إِنَّهَا} للتهويل.ومعنى {تَخْرُجُ} تنبت كما قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58].ومن عجيب قدرة الله تعالى أن جعل من النار شجرة وهي نارية لا محالة.صور الله في النار شجرة من النار،وتقريب ذلك ما يصور في الشماريخ النارية من صور ذات ألوان كالنخيل ونحوه.
وجعل لها طلعا،أي ثمرا،وأطلق عليه اسم الطلع على وجه الاستعارة تشبيها له بطلع النخلة لأن اسم الطلع خاص بالنخيل.قال ابن عطية:"عن السدي ومجاهد قال الكفار:"كيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار،وهي تأكلها وتذهبها،فقولهم هذا ونحوه من الفتنة لأنه يزيدهم كفرا وتكذيبا".
و {رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} يجوز أن يكون مرادا بها رؤوس شياطين الجن جمع شيطان بالمعنى المشهور ورؤوس هذه الشياطين غير معروفة لهم،فالتشبيه بها حوالة على ما تصور لهم المخيلة،وطلع شجرة الزقوم غير معروف فوصف للناس فظيعا بشعا،وشبهت بشاعته ببشاعة رؤوس الشياطين،وهذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإيمان بالحياة في قوله تعالى: {لِتُُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يّس:70]،والمقصود منه هنا تقريب حال المشبه فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف ولا كون المشبه كذلك.
ونظيره قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقيل:أريد برؤوس الشياطين ثمر الأستن،والأستن "بفتح الهمزة وسكون السين وفتح التاء" شجرة في بادية اليمن يشبه شخوص الناس ويسمى ثمرة رؤوس الشياطين،وإنما سموه كذلك لبشاعة مرآه ثم صار معروفا،فشبه به في الآية.وقيل الشياطين:جمع شيطان وهو من الحيات ما لرؤوس أعراف،قال الراجز يشبه امرأته بحية منها:
عَنْجَرِدٌ تَحلف حين أحلف ... كمثل شيطانِ الِحمَاط أعْرَُف
(23/41)
الحماط:جمع حَمَاطة بفتح الحاء:شجر تكثر فيه الحيات،والعنجرد بكسر الراء:المرأة السليطة.
وهذه الصفات التي وصفت بها شجرة الزقوم بالغة حدا عظيما من الذم وذلك الذم هو الذي عبر عنه بالملعونة في قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} في سورة الإسراء[60]،وكذلك في آية {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تََغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} في سورة الدخان[43ـ46].
وقد أنذروا بأنهم آكلون منها إنذارا مؤكدا،أي آكلون من ثمرها وهو ذلك الطلع.وضمير {منها} للشجرة جرى على الشائع من قول الناس أكلت من النخلة،أي من ثمرها.والمعنى:أنهم آكلون منها كرها وذلك من العذاب،وإذا كان المأكول كريها يزيده كراهة سوء منظره،كما أن المشتهى إذا كان حسن المنظر كان الإقبال عليه بشره لظهور الفرق بين تناول تفاحة صفراء وتناول تفاحة موردة اللون، وكذلك محسنات الشراب،ألا ترى إلى كعب بن زهير كيف أطال في محسنات الماء الذي مزجت به الخمر في قوله:
شُجَّت بذي شَبَم من ماء مَجْنِيَة ... صافٍ بأبطحَ أضحَى وهو مشمول
تنفي الرياح القذَى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيضٌ يعاليل
ومَلءُ البطون كناية عن كثرة ما يكلون منها على كراهتها.وإسناد الأكل وملء البطون إليهم إسناد حقيقي وإن كانوا مكرهين على ذلك الأكل والملء.والفاء في قوله: {فَمَالِئُونَ} فاء التفريع،وفيها معنى التعقيب،أي لا يلبثون أن تمتلئ بطونهم من سرعة الالتقام،وذلك تصوير لكراهتها فإن الطعام الكريه كالدواء إذا تناوله آكله أسرع ببلعه وأعظم لقمه لئلا يستقر طعمه على آلة الذوق.
و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} للتراخي الرتبي لأنها عطفت جملة،وليس للتراخي في الإخبار معنى إلا إفادة أن ما بعد حرف التراخي أهم أو أعجب مما قبله بحيث لم يكن السامع يرقبه فهو أعلى رتبة باعتبار أنه زيادة في العذاب على الذي سبقه فوقعه أشد منه،وقد أشعر بذلك قوله عليها،أي بعدها أي بعد أكلهم منها.
والشَّوب:أصله مصدر شاب الشيء بالشيء إذا خلطه به،ويطلق على الشيء المشوب به إطلاقا للمصدر على المفعول كالخلق على المخلوق.وكلا المعنيين محتمل
(23/42)
هنا.وضمير {عليها} عائد إلى {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} بتأويل ثمرها.و"على" بمعنى "مع"،ويصح أن تكون للاستعلاء لأن الحميم يشربونه بعد الأكل فينزل عليه في الأمعاء.
والحميم:القيح السائل من الدمل،وتقدم عند قوله تعالى: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} في سورة الأنعام.
والقول في عطف {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} كالقول في عطف {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} .
والمرجع:مكان الرجوع،أي المكان الذي يعود إليه الخارج منه بعد أن يفارقه.وقد يستعار للانتقال من حالة طارئة إلى حالة أصلية نشبيها بمغادرة المكان ثم العود إليه كقول عمر بن الخطاب في كلامه مع هُنَيْئٍ صاحب الحمى:"فإنها إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع"،يعنى عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف،فإنه إنما عنى أنهما ينتقلان من الانتفاع بالماشية إلى الانتفاع بالنخل والزرع وكذلك ينبغي أن يفسر الرجوع في الآية لان المشركين حين يطعمون من شجرة الزقوم ويشربون الحميم لم يفارقوا الجحيم فأريد التنبيه على أن عذاب الأكل من الزقوم والشراب من الحميم زيادة على عذاب الجحيم،ألا ترى إلى قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} فليس ثمة مغادرة للجحيم حتى يكون الرجوع حقيقة، مثله النبي صلى الله عليه وسلم حين رجوعه من إحدى مغازيه:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" يريد مجاهدة النفس فإنه لم يَعْنِ أنهم حين اشتغالهم بالجهاد قد تركوا مجاهدة أنفسهم وإنما عنى أنهم كانوا في جهاد زائد فصاروا إلى الجهاد السابق.
[69ـ70] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}
تعليل لما جازاهم الله به من العذاب وإبداء للمناسبة بينه وبين جرمهم،فإن جرمهم كان تلقيا لما وجدوا عليه آبائهم من الشرك وشعبه بدون نظر ولا اختيار لما يختاره العاقل،فكان من جزائهم على ذلك أنهم يطعمون طعاما مؤلما ويسقون شرابا قذرا بدون اختيار كما تلقوا دين آبائهم تقليدا واعتباطا.
فموقع "إن" موقع فاء السببية،ومعناها معنى لام التعليل،وهي لذلك مفيدة ربط الجملة بالتي قبلها كما تربطها الفاء ولام التعليل كما تقدم غير مرة.
(23/43)
والمراد:المشركون من أهل مكة الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22].
وفي قوله: {أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} إيماء إلى أن ضلالهم لا يخفى عن الناظر فيه لو تركوا على الفطرة العقلية ولم يغشوها بغشاوة العناد.
والفاء الداخلة على جملة {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} فاء العطف للتفريع والتسبب،أي متفرع على إلفائهم آبائهم ضالين أن اقتفوا آثارهم تقليدا بلا تأمل،وهذا ذم لهم.
والآثار:ما تتركه خطى الماشين من موطئ الأقدام فيعلم السائر بعدهم أن موقعها مسلوكة موصلة إلى معمور، فمعنى {على}الاستعلاء التقريبي،وهو معنى المعية لأنهم يسيرون معها ولا يلزم أن يكونوا معتلين عليها.
و {يُهْرَعُونَ} بفتح الراء مبنيا للمجهول مضارع:أهرعه،إذا جعله هارعا،أي حمله على الهرع وهو الإسراع المفرط في السير،عبر به عن المتابعة دون تأمل،فشبه قبول الاعتقاد بدون تأمل بمتابعة السائر متابعة سريعة لقصد الالتحاق به.
وأسند إلى المجهول للدلالة على أن ذلك ناشئ عن تلقين زعمائهم وتعاليم المضللين،فكأنهم مدفوعون إلى الهرع في آثار آبائهم فيحصل من قوله: {يُهْرَعُونَ} تشبيه حال الكفرة بحال من يزجى ويدفع إلى السير وهو لا يعلم إلى أين يسار به.
[71ـ4] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}
عُقّب وصف حال المشركين في الآخرة وما علل به من أنهم ألفوا آبائهم ضالين فاتبعوا آبائهم بتنظيرهم بمن سلفوا من الضالين وتذكير للرسول صلى الله عليه وسلم بذلك مسلاة له على ما يلاقيه من تكذيبهم،واستقصاء لهم في العبرة والموعظة بما حل بالأمم قبلهم، فهده الجملة معطوفة على مضمونة الجملة التي قبلها إكمالا للتعليل،أي اتبعوا آثار آبائهم واقتدوا بالأمم أشياعهم.
ووصف الذين ضلوا قبلهم بأنهم {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} لئلا يغتر ضعفاء العقول بكثرة المشركين ولا يعتزوا بها، ليعلموا أن كثرة العدد لا تبرر ضلال الضالين ولا خطأ المخطئين،وأن الهدى والضلال ليسا من آثار العدد كثرة وقلة ولكنهما حقيقتان ثابتتان مستقلتان فإذا عرضت لإحداهما كثرة أو قلة فلا تكونان فتنة لقصار الأنظار وضعفاء
(23/44)
التفكير.قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
وأكملت العلة والتسلية والعبرة بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} أي رسلا ينذرونهم،أي يحذرنهم ما سيحل بهم مثل ما أرسلناك إلى هؤلاء.وخص المرسلين بوصف المنذرين لمناسبة حال المتحدث عنهم وأمثالهم.وضمير {فِيهِمْ} راجع إلى {الْأَوَّلِينَ} ,أي أرسلنا في الأول منذرين فاهتدى قليل وضل أكثرهم.
وفرع على هذا التوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ترشيحا لما في الكلام السابق من جانب التسلية والتثبيت مع التعريض بالكلام لتهديد المشركين بذلك،ويجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن فشمل النبي صلى الله عليه وسلم.
والأمر بالنظر مستعمل في التعجيب والتهويل فإن أريد بالعاقبة عاقبتهم في الدنيا فالنظر بصري،وإن أريد عاقبتهم في الآخرة كما يقتضيه السياق فالنظر قلبي،ولا مانع من إرادة الأمرين واستعمال المشترك في المعنيين.
والتعريف في قوله: {الْمُنْذَرِينَ} تعريف العهد،وهم المنذرون الذين أرسل إليهم المنذرون،أي فهم الضالون المعبر عنهم بأنهم {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} ،فالمعنى:فانظر كيف كان عاقبة الضالين الذين أنذرناهم فلم ينذروا كما فعل هؤلاء الذين ألفوا آبائهم ضالين فاتبعوهم، فقد تحقق اشتراك هؤلاء وأولئك في الضلال،فلا جرم أن تكون عاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك.وفعل النظر معلق عن معموله بالاستفهام، والاستفهام تعجيبي للتفظيع.
واستثني {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} من {الْأَوَّلِينَ} استثناء متصلا فإن عباد الله المخلصين كانوا من جملة المنذرين فصدقوا المنذرين ولم يشاركوا المنذرين في عاقبتهم المنظور فيها وهي عاقبة السوء.وتقدم اختلاف القراء في فتح اللام وكسرها من قوله: {الْمُخْلَصِينَ} عند قوله تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:39ـ40].
[75ـ82] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}
(23/45)
اتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حل بالأمم المرسل إليهم،وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرة،بتذكير وتسلية من جانب الإخبار عن الرسل الذين كذبهم قومهم وآذوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسوله صلى الله عليه وسلم تثبيتا ويلقم المشركين تبكيتا.وذكر في هذه السورة قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصية لها شبه بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته،ففي القصص كلها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها،ويجمعها كلها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها.واختير هؤلاء الرسل الستة:لأن نوحا القدوة الأولى،وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإسلام،وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان،فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول.ثم ذكر ثلاثة رسل تفرعوا عنهم وثلاثة على ملة رسل من قبلهم.فأما لوط فهو على ملة إبراهيم،وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى.
وابتدى بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى. وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]،وقوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} الآيات من سورة نوح[21].
والفاء في قوله: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} تفريع على {نَادَانَا} ،أي نادانا فأجبناه،فحذف المفرع لدلالة {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب يقال فيه:نعم المجيب.والمخصوص بالمدح محذوف،أي فلنعم المجيبون نحن.وضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم.وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيرا للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحا دعا فاستجيب له.
والتنجية:الإنجاء وهو جعل الغير ناجيا.والنجاة:الخلاص من ضر واقع.وأطلقت هنا على السلامة من ذلك قبل الوقوع فيه لأنه لما حصلت سلامته في حين إحاطة الضر بقومه نزلت سلامته منه مع قربه منه بمنزلة الخلاص منه بعد الوقوع فيه تنزيلا لمقاربة وقوع الفعل منزلة وقوعه،وهذا إطلاق كثير للفظ النجاة بحيث يصح أن يقال:النجاة خلاص من ضر واقع أو متوقع.
والمراد بأهله:عائلته إلا من حق عليه القول منهم،وكذلك المؤمنون من قومه،قال
(23/46)
تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم،أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68].
وأشعر قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه.
و {الكرب} :الحزن الشديد والغم.ووصفه بـ {العظيم} لإفادة أنه عظيم في نوعه فهو غم على غم. والمعني به الطوفان،وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه،فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر،وخوف في العاقبة والوقوع فيه موقن بالهلاك.ولا يزال الخوف به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفس ورعدة القر والخوف وتحقيق الهلاك حتى يغرق في الماء.
وإنجاء الله إياه نعمة عليه،وإنجاء أهله نعمة أخرى،وهلاك ظالميه نعمة كبرى،وجعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمه الله لأجله،وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة.
وضمير الفصل في قوله: {هُمُ الْبَاقِينَ} للحصر،أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجاه الله مع نوح في السفينة من ذريته،ثم من تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غير ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة.
وظاهر هذا أن من آمن مع نوح غير أبنائه لم يكن لهم نسل.قال ابن عباس:"لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه.وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]،وهذا جار على أن الطوفان قد عم الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا من حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود.
وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة،ومن قالوا إن الطوفان لم يعم الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإسرائيليين،وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عمر الأرض وأحداثها وذلك ليس من القواطع،ويكون القصر إضافيا أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم.وقد يقال:نسلم أن الطوفان لم يعم الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت
(23/47)
أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تُترك ظواهر الأخبار لأجلها.
وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه السلام قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ،فتلك نعمة خامسة.
والترك:حقيقة تخليف شيء والتخلي عنه.وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة،لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعد،طال مكثها أو قصر،فكأن زوالها استرجاع من معطيها كما جاء في الحديث:" لله ما أخذ وله ما أعطى" فشرف الله نوحا بأن أبقى نعمة عليه في أمم بعده.
وظاهر {الْآخِرِينَ} ،أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم،وقرينة المجاز تعليق {عَلَيْهِ} بـ {تَرَكْنَا} لأنه يناسب الإبقاء،يقال:أبقى على كذا،أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر،وعلى هذا يكون لـ {تَرَكْنَا} مفعول،وبعضهم قدر له مفعولا يدل عليه المقام،أي تركنا ثناء عليه،فيجوز أن يراد بهذا الإبقاء تعميره ألف سنة، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحي إليه فوق ما هو متعارف.ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [ا لشعراء:84]فكان نوح مذكورا بمحامد الخصال حتى قيل:لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحا وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم. فجاء في سفر التكوين الإصحاح التاسع كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله وسار نوح مع الله.
وورد ذكره قبل الإسلام في قول النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3].
وذكر ابن خلدون:"أن بعضهم يزعم أن نوحا هو "أفريدون" ملك بلاد الفرس،وبعضهم يزعم أن نوحا هو "أوشهنك" ملك الفرس الذي كان بعد "كيومرث" بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحا كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإسرائيليين.على أن كيومرث يقال:إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة.
ومتعلق {عَلَيْهِ} من قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} لم يحم أحد من المفسرين حوله فيما
(23/48)
اطلعت،والوجه أن يتعلق {عَلَيْهِ} بفعل {تَرَكْنَا} بتمضين هذا الفعل معنى "أنعمنا" فكان مقتضى الظاهر أن يعدى هذا الفعل باللام،فلما ضمن معنى أنعمنا أفاد بمادته معنى الإبقاء له،أي إعطاء شيء من الفضائل المدخرة التي يشبه إعطاؤها ترك أحد متاعا نفسيا لمن يخليه هو له ويخلفه فيه.وأفاد بتعليق حرف "على" به أن هذا الترك من قبيل الإنعام والتفضيل،وكذلك شأن التضمين أن يفيد المضمن مفاد كلمتين فهو من ألطف الإيجاز.ثم إن مفعول {تَرَكْنَا} لما كان محذوفا وكان فعل "أنعمنا" الذي ضمنه فعل {تَرَكْنَا} مما يحتاج إلى متعلق معنى المفعول،كان محذوفا أيضا مع عامله فكان التقدير:وتركنا له ثناء وأنعمنا عليه،فحصل في قوله: {تَرَكْنَا عَلَيْهِ} حذف خمس كلمات وهو إيجاز بديع.ولذلك قدر جمهور المتقدمين من المفسرين {تَرَكْنَا} ثناء حسنا عليه.
وجملة {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} إنشاء ثناء الله على نوح وتحية له ومعناه لازم التحية وهو الرضى والتقريب،وهو نعمة سادسة.وتنوين {سَلامٌ}للتعظيم ولذلك شاع الابتداء بالنكرة لأنها كالموصوف.
والمراد بالعالمين:الأمم والقرون وهو كناية عن دوام السلام عليه كقوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15]في حق عيسى عليه السلام وكقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109].
وفي {الْعَالَمِينَ} حال فهو ظرف مستقر أو خبر ثان عن {سَلامٌ} .
وذهب الكسائي والفراء والمبرد والزمخشري إلى أن قوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} في محل مفعول {تركنا} ،أي تركنا عليه هذه الكلمة وهي {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وهو من الكلام الذي قصدت حكايته كما تقول قرأت {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]،أي جعلنا الناس يسلمون عليه في جميع الأجيال،فما ذكروه إلا قالوا:عليه السلام.ومثل ذلك قالوا في نظائرها في هذه الآيات المتعاقبة.
وزيد في سلام نوح في هذه السورة وصفه بأنه في العالمين دون السلام على غيره في قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس للإشارة إلى أن التنويه بنوح كان سائرا في جميع الأمم لأنهم كلهم ينتمون إليه ويذكرونه ذكر صدق كما قدمناه آنفا.
وجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تذييل لما سبق من كرامة الله نوحا.و"إن"
(23/49)
تفيد تعليلا لمجازاة الله نوحا بما عده من النعم بان ذلك لأنه كان محسنا،أي متخلقا بالإحسان وهو الإيمان الخالص المفسر في قوله النبي صلى الله عليه وسلم:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"،وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته.
والمعنى:إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين.وفي هذا تنويه بنوح عليه السلام بأن جزاءه كان هو المثال والإمام لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقاربها من إحسان نوح عليه السلام وقوته في تبليغ الدعوة.فهو أول من أوذي في الله فسن الجزاء لمن أوذي في الله،وكان على قالب جزائه،فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله،فثبت لنوح بهذا وصف الإحسان،وهو النعمة السابعة.وثبت له أنه مثل للمحسنين في جزائهم،وهي النعمة الثامنة.
وجملة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تعليل لاستحقاقه المجازة الموصوفة بقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها.
وأفاد وصفه بـ {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} أنه ممن استحق هذا الوصف،وقد علمت غير مرة أن وصف "عبد" إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة،اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويها بشأن الإيمان ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويقلع المشركون عن الشرك.وهذه نعمة تاسعة.وأقحم معها من عبادنا لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفا في قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:40ـ41]وهذه نعمة عاشرة،وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإيمان.
وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حل بقوم نوح وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وجعل نوح قدوة له،وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحا على قومه وينجيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين. و {ثم}التي في قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بين،ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذبوه مع نجاته ونجاة أهله،أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه.
ومعنى {الْآخَرِينَ} من عداه وعدا أهله،أي بقية قومه،وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار. ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال:"إن الآخر قد زنى" يعني نفسه على رواية الآخر بمد الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث.
(23/50)
وتقدم ذكر نوح وقصته عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في آل عمران[33]،وفي الأعراف،وفي سورة هود،وذكر سفينته في أول سورة العنكبوت.
[83ـ87] {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
تخلص إلى حكاية موقف إبراهيم عليه السلام من قومه في دعوتهم إلى التوحيد وما لاقاه منهم وكيف أيده الله ونجاه منهم،وقع هذا التخلص إليه بوصفه من شيعة نوح ليفيد بهذا الأسلوب الواحد تأكيد الثناء على نوح وابتداء الثناء على إبراهيم وتخليد منقبة لنوح إن كان إبراهيم الرسول العظيم من شيعته وناهيك به.وكذلك جمع محامد إبراهيم في كلمة كونه من شيعة نوح المقتضي مشاركته له في صفاته كما سيأتي،وهذا كقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3].
والشيعة:اسم لمن يناصر الرجل وأتباعه ويتعصب له فيقع لفظ شيعة على الواحد والجمع.وقد يجمع على شيع وأشياع إذا أريد:جماعات كل جماعة هي شيعة لأحد.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} في سورة الحجر[10]،وعند قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} في سورة القصص[4].
وكان إبراهيم من ذرية نوح وكان دينه موافقا لدين نوح في أصله وهو نبذ الشرك.
وجعل إبراهيم من شيعة نوح لأن نوحا قد جاءت رسل على دينه قبل إبراهيم منهم هود وصالح فقد كانا قبل إبراهيم لأن القرآن ذكرهما غير مرة عقب ذكر نوح وقبل ذكر لوط معاصر إبراهيم. ولقول هود لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف:69]،ولقول صالح لقومه: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74]،وقول شعيب لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود :89].فجعل قوم لوط أقرب زمنا لقومه دون قوم هود وقوم صالح.وكان لوط معاصر إبراهيم فهؤلاء كلهم شيعة لنوح وإبراهيم من تلك الشيعة وهذه نعمة حادية عشرة.
وتوكيد الخبربـ {إن} ولام الابتداء للرد على المشركين لأنهم يزعمون أنهم على ملة
(23/51)
إبراهيم وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].
و {إذ} ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدر للجار والمجرور الواقعين خبرا عن {إنَّ} في قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} ،أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة،أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح،فلذلك وقت كونه من شيعته،أي لأن نوحا جاء ربه بقلب سليم. وفي {إذ}معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض لـ {إذ}كقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة.
والباء في {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} للمصاحبة،أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى:إذ جاء ربه بسلامة قلب،وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف بـ {سَلِيمٍ} لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه،ولذلك أوثر تنكير "قلب" دون تعريف.و {سَلِيمٍ} :صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقر الإدراك والأخلاق.فتعين أن المراد:صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور،ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف.
وأطلق المجيء على معاملته به نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحدا ملقيا إليه ما طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه. وهذا نظير قوله تعالى: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الاحقاف:31].
وقد جمع قوله: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال.وفي الحديث :"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" .
وقد حكي عن إبراهيم قوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88ـ89]،فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرع عن قوله: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وذلك جماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، فكان منزها عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل.
(23/52)
ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظا كاملا لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ،ولذلك أيضا وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإسلام بزيادة ذلك في قوله النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة" .
وتعليق كونه شيعة نوح بهذا الحين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضا يحصل من قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} إثبات مثل صفات نوح لإبراهيم ومن قوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين،إلا أن ذلك أثبت لإبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم.
و {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} بدل من {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} بدل اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه.
و {مَاذَا تَعْبُدُونَ} استفهام إنكاري على أن تعبدوا ما يعبدونه ولذلك اتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .وهذا الذي اقتضى الإتيان باسم الإشارة بعد "ما" الاستفهامية الذي هو مشرب معنى الموصول المشار إليه،فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنى دون الحقيقي وهو معنى الإنكار،بخلاف قوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} في سورة الشعراء[70]فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [71]،وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقل إلى إبطاله،كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك،فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه،وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها.
وجملة {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}بيان لجملة {مَاذَا تَعْبُدُونَ} بين به مصب الإنكار في قوله: {مَاذَا تَعْبُدُونَ} وإيضاحه،أي كيف تريدون آلهة إفكا.
وإرادة الشيء:ابتغاؤه والعزم على حصوله،وحق فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة:
تريدين قتلي قد ظَفِرتِ بذلك
(23/53)
فإذا عدي إلى الذوات كان على معنى يتعلق بتلك الذوات كقول عمرو بن شاس الأسدي:
أرادتْ عِراراً بالهوان ومن يُرِد ... عِراراً لعمري بالهوان فقد ظَلَم
فلذلك كانت تعدية فعل {تُرِيدُونَ} إلى {آلِهَةً} على معنى:تريدونها بالعبادة أو بالتأليه،فكان معنى {آلِهَةً} دليلا على جانب إرادتها.
فانتصب {آلِهَةً} على المفعول به وقدم المفعول على الفعل للاهتمام به ولأن فيه دليلا على جهة تجاوز معنى الفعل للمفعول.
وانتصب {إفْكاً} على الحال من ضمير {تُرِيدُونَ} أي آفكين.والإفك:الكذب.ويجوز أن يكون حالا من آلهة،أي آلهة مكذوبة،أي مكذوب تأليهها.والوصف بالمصدر صالح لاعتبار معنى الفاعل او معنى المفعول.وقدمت الحال على صاحبها للاهتمام بالتعجيل بالتعبير عن كذبهم وضلالهم.
وقوله: {دُونِ اللَّهِ} أي خلاف الله وغيره،وهذا صالح لاعتبار قومه عبدة أوثان غير معترفين بإله غير أصنامهم،ولاعتبارهم مشركين مع الله آلهة أخرى مثل المشركين من العرب لأن العرب بقيت فيهم أثارة من الحنيفية فلم ينسوا وصف الله بالإلهية وكان قوم إبراهيم وهم الكلدان يعبدون الكواكب نظير ما كان عليه اليونان والقبط.
وفرع على استفهام الإنكار استفهام آخر وهو قوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو استفهام أريد به الإنكار والتوقيف على الخطأ،وأريد بالظن الاعتقاد الخطأ.
وسمي ظنا لأنه غير مطابق للواقع ولم يسمه علما لأن العلم لا يطلق إلا على الاعتقاد المطابق للواقع ولذلك عرفوه بأنه:صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض" ولا ينتفي احتمال النقيض إلا متى كان موافقا للواقع.وكثر إطلاق الظن على التصديق المخطئ والجهل المركب كما في قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} في سورة الأنعام[116].وقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:36].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" .
والمعنى:أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكَر.
(23/54)
وفعل الظن إذا عدي بالباء أشعر غالبا بظن غير صادق قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:23].ومنه إطلاق الظنين على المتهم فإن أصله:ظنين به،فحذفت الباء ووصل الوصف،وذلك أنه الظنين على المتهم فإن أصله: ظنين به،فحذف الباء ووصل الوصف،وذلك أنه إذا عدي بالباء فالأكثر حذف مفعوله وكانت الباء للإلصاق المجازي،أي ظن ظنا ملصقا بالله،أي مدعى تعلقه بالله وإنما يناسب ذلك ما ليس لائقا بالله. وتقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} في سورة الأحزاب[10].
والمعنى:فما ظنكم السيئ بالله،ولما كان الظن من أفعال القلب فتعديته إلى اسم الذات دون إتباع الاسم بوصف متعينة لتقدير وصف مناسب.وقد حذف المتعلق هنا لقصد التوسع في تقدير المحذوف بكل احتمال مناسب تكثيرا للمعاني فيجوز أن تعتبر من ذات رب العالمين أوصافه.ويجوز أن يعتبر منها الكنه والحقيقة،فاعتبار الوصف على الوجهين:
أحدهما:المعنى المشتق منه الرب وهو الربوبية وهي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ورفقا فإن المخلوق محتاج إلى البقاء والإمداد وذلك يوجب أن يشكر الممد فلا يصد عن عبادة ربه،فيكون التقدير:فما ظنكم أن له شركاء وهو المنفرد باستحقاق الشكر المتمثل في العبادة لأنه الذي أمدكم بإنعامه.
وثانيهما:أن يعتبر فيه معنى المالكية وهي أحد معنيي الرب وهو مستلزم لمعنى القهر والقدرة على المملوك،فيكون التقدير:فما ظنكم ماذا يفعل بكم من عقاب على كفرانه وهو مالككم ومالك العالمين.
وأما جواز اعتبار حقيقة رب العالمين وكنهه.فالتقدير فيه:فما ظنكم بكنه الربوبية فإنكم جاهلون الصفات التي تقتضيها وفي مقدمتها الوحدانية.
[88ـ96] {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
مفرع على جملة {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} [الصافات:85]تفريع قصص بعطف بعضها على بعض.
والمقصود من هذه الجمل المتعاطفة بالفاءات هو الإفضاء إلى قوله: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} وأما ما قبلها فتمهيد لها وبيان كيفية تمكنه من أصنامهم وكسرها ليظهر لعبدتها
(23/55)
عجزها.
وقال ابن كثير في تفسيره:"قال قتادة:"والعرب تقول لمن تفكر:نظر في النجوم،يعني قتادة:أنه نظر إلى السماء متفكرا فيما يلهيهم به"اهـ.وفي تفسير القرطبي عن الخليل والمبرد يقال:"للرجل إذا فكر في شيء يدبره:نظر في النجوم،أي أنه نظر في النجوم،مما جرى مجرى المثل في التعبير عن التفكير لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم.
وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر أنه نظر فيما نجم له من الرأي،يعني أن النجوم مصدر نجم بمعنى ظهر.
وعن ثعلب:"نظر هنا تفكر فيما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة".
والمعنى:ففكر في حيلة يخلو له بها بد أصنامهم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل.والوجه:أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله: {فَنَظَرَ} تعقيب عرفي،أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاما مطويا يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها: {إِنِّي سَقِيمٌ} والتي تفرع عليها قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذرايات:26]الخ.
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله: {نَظْرَةً} إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء:51].
وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها.وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان.وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببد الأصنام وهو الملائم لقوله: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} .
والسقيم:صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84].يقال:سَقِمَ بوزن مرِض،ومصدره السَّقَم بالتحريك،فيقال:سقام وسقم بوزن قُفْل.
(23/56)
والتولي:الإعراض والمفارقة.
لم ينطق إبراهيم بإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} مقارنا لنظره في النجوم أوهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.
و {مُدْبِرِينَ} حال،أي ولوه أدبارهم،أي ظهورهم.والمعنى:ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه.وقد قيل:إن {مُدْبِرِينَ}حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالبا لدفع توهم أنه تولي مخالفة وكراهة دون انتقال.وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم،وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضل دينا، واختل نظرا وتخمينا.وقد دونوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم.
وقد ظهر من نظم الآية أن قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} لم يكن مرضا ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} ،وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] ،وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال:"هي أختي" الحديث،فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبي.
ودفع الإشكال:أن تسمية هذا الكلام كذبا منظور فيه إلى ما يفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض،أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج،أو في التألم من كفرهم وأن قوله:"هي أختي" أراد أخوة الإيمان،وأنه أراد التهكم في قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]لظهور قرينة أن مراده التغليط.
وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالا يتوجه على تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام بأنه كذبات.وجوابه عندي:أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ،ولا المجازُ،ولا التهكم،فكان ذلك عند قومه كذبا وان الله أذن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثاً من عِصيّ فيضرب به ضربة واحدة ليبر قسمه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه السلام.
وفعل "راغ" معناه:حاد عن الشيء،ومصدره الروغ والروغان،وقد أطلق هنا على الذهاب إلى أصنامهم مخاتلة لهم ولأجل الإشارة إلى تضمينه معنى الذهاب عدي بـ {إلى} .
(23/57)
وإطلاق الآلهة على الأصنام مراعى فيه اعتقاد عبدتها بقرينة إضافتها إلى ضميرهم،أي إلى الآلهة المزعومة لهم.
ومخاطبة إبراهيم تلك الأصنام بقوله {أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} وهو في حال خلوة بها وعلى غير مسمع من عبدتها قصد به أن يثير في نفسه غضبا عليها إذ زعموا لها الإلهية ليزداد قوة عزم على كسرها.
فليس خطاب إبراهيم للأصنام مستعملا في حقيقته ولكنه مستعمل في لازمه وهو تذكر كذب الذين ألهوها والذين سدنوا لها وزعموا أنها تأكل الطعام الذي يضعونه بين يديها ويزعمون أنها تكلمهم وتخبرهم.
ولذلك عقب هذا الخطاب بقوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} .وقد استعمل فعل راغ" هنا مضمنا معنى "أقبل" من جهة مائلة عن الأصنام لأنه كان مستقبلها ثم أخذ يضربها ذات اليمين وذات الشمال نظير قوله تعالى: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} [ النساء:102].
وانتصب {ضَرْباً بِالْيَمِينِ} على الحال من ضمير {فَرَاغَ} أي ضاربا.وتقييد الضرب باليمين لتأكيد {ضَرْباً} أي ضربا قويا، ونظيره قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45]وقول الشماخ:
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد ... تَلقَّاها عَرابَةُ باليمين
فلما علموا بما فعل إبراهيم بأصنامهم أرسلوا إليه من يحضره في ملئهم حول أصنامهم كما هو مفصل في سورة الأنبياء وأجمل هنا.
فالتعقيب في قوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} تعقيب نسبي وجاءه المرسلون إليه مسرعين {يَزِفُّونَ} أي يعدون، والزف:الإسراع في الجري،ومنه زفيف النعامة وزفها وهو عدوها الأول حين تنطلق.
وقرأ الجمهور {يَزِفُّونَ} بفتح الياء وكسر الزاي على أنه مضارع زف.وقرأه حمزة وخلف بضم الياء وكسر الزاي،على أنه مضارع أزف،أي شرعوا في الزفيف،فالهمزة ليست للتعدية بل للدخول في الفعل، مثل قولهم أدنف،أي صار في حال الدنف،وهو راجع إلى كون الهمزة للصيرورة.
وجملة {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} استئناف بياني لأن إقبال القوم إلى إبراهيم بحالة
(23/58)
تنذر بحنقهم وإرادة البطش به يثير في نفس السامع تساؤلا عن حال إبراهيم في تلقيه بأولئك وهو فاقد للنصير معرض للنكال فيكون {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} جوابا وبيانا لما يسأل عنه،وذلك منبئ عن رباطة جأش إبراهيم إذ لم يتلق القوم بالاعتذار ولا بالاختفاء،ولكنه لقيهم بالتهكم بهم إذ قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} كما في سورة الأنبياء.ثم أنحى عليهم باللائمة والتوبيخ وتسفيه أحلامهم إذ بلغوا من السخافة أن يعبدوا صورا نحتوها بأيديهم أو نحتها أسلافهم،فإسناد النحت إلى المخاطبين من قبيل إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها كقولهم:بنو أسد قتلوا حجر بن عمرو أبا امرئ القيس.
والنحت:بري العود ليصير في شكل يراد،فإن كانت الأصنام من الخشب فإطلاق النحت حقيقة، وإن كانت من حجارة كما قيل،فإطلاق النحت على نقشها وتصويرها مجاز.
والاستفهام إنكاري والإتيان بالموصول والصلة لما تشتمل عليه الصلة من تسلط فعلهم على معبوداتهم،أي أن شأن المعبود أن يكون فاعلا لا منفعلا،فمن المنكر أن تعبدوا أصناما أنتم نحتموها وكان الشأن أن تكون أقل منكم.
والواو في {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} واو الحال،أي أتيتم منكرا إذ عبدتم ما تصنعونه بأيديكم والحال أن الله خلقكم وما تعملون وأنتم معرضون عن عبادته،أو وأنتم مشركون معه في العبادة مخلوقات دونكم. والحال مستعملة في التعجيب لأن في الكلام حذفا بعد واو الحال إذ التقدير:ولا تعبدون الله وهو خلقكم وخلق ما نحتموه.
و {ما} موصولة و {تَعْمَلُونَ} صلة الموصول،والرابط محذوف على الطريقة الكثيرة،أي وما تعملونها. ومعنى {تَعْمَلُونَ} تنحتون.وإنما عدل عن إعادة فعل {تَنْحِتُونَ} لكراهية تكرير الكلمة فلما تقدم لفظ {تَنْحِتُونَ} علم أن المراد بـ {مَا تَعْمَلُونَ} ذلك المعمول الخاص وهو المعمول للنحت لأن العمل أعم. يقال:علمت قميصا وعلمت خاتما.وفي حديث صنع المنبر:"أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم عليها الناس".
وخلق الله إياها ظاهر،وخلقه ما يعملونها:هو خلق المادة التي تصنع منها من حجر أو خشب،ولذلك جمع بين إسناد الخلق إلى الله بواو العطف،وإسناد العمل إليهم بإسناد فعل {تَعْمَلُونَ} .
(23/59)
وقد احتج الأشاعرة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بهذه الآية على أن تكون {ما} مصدرية أو تكون موصولة،على أن المراد:ما تعملونه من الأعمال.وهو تمسك ضعيف لما في الآية من الاحتمالين ولأن المقام يرجح المعنى الذي ذكرناه إذ هو في مقام المحاجة بأن الأصنام أنفسها مخلوقة لله فالأولى المصير إلى أدلة أخرى.
[97ـ98] {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}
الجحيم:النار الشديدة الوقود،وكل نار على نار وجمر فوق جمر فهو جحيم.
وتقدمت هذه القصة ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء،وعبر هنا بـ {الْأَسْفَلِينَ} وهنالك بـ {الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70]والأسفل هو المغلوب لأن الغالب يتخيل معتليا على المغلوب فهو استعارة للمغلوب،والأخسر هنالك استعارة لمن لا يحصل من سعيه على بغيته.
[99ـ100] {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}
لما نجا إبراهيم من نارهم صمم على الخروج من بلده "أور الكلدانيين".
وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله.والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصدا بلاد حران في أرض كنعان "وهي بلاد الفينيقيين".
والظاهر:أن هذا القول قاله علنا في قومه ليكفوا عن أذاه،وكان الأمم الماضون يعدون الجلاء من مقاطع الحقوق،قال زهير:
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نِفَار أو جَلاء
ولذلك لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة لم يتعرض له قريش في بادئ الأمر ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه.
ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه فمعنى {ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} مهاجر إلى حيث أعبد ربي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتن في عبادته كما فتنت في بلدهم.
ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإعلان توحيد الله فسلك
(23/60)
به المسالك التي سلكها حتى بلغ به مكة وأودع بها أهلا ونسلا،وأقام بها قبيلة دينها التوحيد،وبنى لله معبدا،وجعل نسله حفظة بيت الله،ولعل الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقا عن علم أو عن توفيق.
وجملة {سَيَهْدِينِ} يجوز أن تكون حالا وهو الأظهر لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم،ويجوز أن تكون استئنافا؛فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة،ولا يمنع من جعل الجملة حالا اقترانها بحرف الاستقبال فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدرة،والتقدير:أني ذاهب إلى ربي مقدرا،كما لم يمتنع مجيء الحال معمولا لعامل مستقبل كما في قوله تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]وقوله تعالى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [ الشعراء:62}وقول سعد ابن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالباً ... علي قضاءُ ما كان جالباً
وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإثبات أو النفي مذهب بصري،وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال،وجوازه مذهب كوفي كما ذكره ابن الأنباري في "الإنصاف"،والحق في جانب نحاة الكوفة.وقد تلقف المذهب البصري معظم علماء العربية وتحير المحققون منهم في تأييده فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالا وبين اقترانها بعلامة الاستقبال.ونبينه بأن الحال ما سميت حالا إلا لأن المراد منها ثبوت وصف الحال وهذا ينافي اقترانها بعلامة الاستقبال تنافيا في الجملة. هذا بيان ما وجه به الرضي مذهب البصريين وتبعه التفتزاني في مبحث الحال من شرحه المطول على "تلخيص المفتاح".وفي مبحث الاستفهام بـ"هل" منه.وقد زيف السيد الجرجاني في "حاشية المطول" ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفا رشيقا.
ويجوز أن تكون جملة {سَيَهْدِينِ} مستأنفة وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلم الاستقبال،فالاستئناف بياني بيانا لسبب هجرته.
وجملة {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} بقية قوله فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلوّ بوجود قرابته وأصدقائه.
(23/61)
ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين "الإصحاح الخامس عشر" وقال أبرام":إنك لم تعطني نسلا وهذا ابن بيتي بمعنى مولاه وارث لي لأنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه".وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحوا من سبعين سنة.
وقال في "الكشاف":"لفظ الهبة غلب في الولد".لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد: ولا أحسبه غلب فيه كلام العرب لأني لم أقف عليه وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [ مريم:53].
فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه.
ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحا فإن صلاح الأبناء قرة عين للآباء،ومن صلاحهم برهم بوالديهم.
[101ـ102] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
الفاء في {فَبَشَّرْنَاهُ} للتعقيب،والبشارة:الإخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد؛فإن كان الله بشر إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه كما هو الظاهر وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولدا بعد زمان،فالتعقيب على ظاهره؛وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة، فالتعقيب نسبي،أي بشرناه حين قدرنا ذلك أول بشارة بغلام فصار التعقيب آئلا إلى المبادرة كما يقال: تزوج فولد له؛وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو إسماعيل لا محالة.
والحليم:الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق.قيل:ما نعت الله الأنبياء بأقل مما نعتهم بالحلم.
وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط في قوله تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذريات:28] فلذلك وصف بأنه {عَلِيمٍ} .وهذا وصف بـ {حَلِيمٍ} .وأيضا ذلك
(23/62)
كانت البشارة به بمحضر سارة أمه وقد جعلت هي المبشرة في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72,71]،فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه،فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه.
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطف هنا بفاء التعقيب،وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفا بالواو عطف القصة على القصة.
والفاء في {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر،تقديره:فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بني الخ،أي بلغ أن يسعى مع أبيه،أي بلغ سن من يمشي مع إبراهيم في شؤونه.
فقوله {معه} متعلق بالسعي والضمير المستتر في {بلغ} للغلام،والضمير المضاف إليه معه عائد إلى إبراهيم.و {السعي} مفعول {بلغ}ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه،على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات.
وكان عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وحينئذ حدث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام،وإنما كانت الرؤيا وحيا له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه،فقد رأى في المنام أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي الله عنه، ورأى بقرا تذبح فكان تأويل رؤيا من استشهد من المسلمين يوم أحد،ولقد يرجح قول القائلين من السلف بأن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة،فإن في حديث الإسراء أن الله فرض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة فافهم.
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمر ابتلاء.
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعا لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت
(23/63)
الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء.
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علو مرتبته في طاعة ربه فإن الولد عزيز على نفس الوالد،والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشد عزة على نفسه لا محالة،وقد علمت أنه سأل ولدا ليرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقر الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء.فقابل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه،وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106].
وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراما لإبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رؤى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفية وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقي هذا التكليف الشاق عليه وهو ذبح ابنه الوحيد.
والفاء في قوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فاء تفريع،أو هي فاء الفصيحة،أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى.
والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدى إلى مفعولين ولكن علقه الاستفهام عن العمل.
والمعنى: تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر،وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختيار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأمور بذبح ابنه جبرا،بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين:أحدهما بتلقي الوحي،والآخر بتبليغ الرسول إليه،فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتبر كافرا.
وقرأ الجمهور {مَاذَا تَرَى} بفتح التاء والراء.وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء، أي ماذا تريني من امتثال أو عدمه.وحكي جوابه فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} دون عطف،جريا على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنن.
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو {مَا تُؤْمَرُ} دون أن يقول:اذبحني،يفيد وحده
(23/64)
إيماء إلى السبب الذي جعل جوابه امتثال لذبحه.وحذف المتعلق بفعل {تُؤْمَرُ} لظهور تقديره:أي ما تؤمر به.وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية،وهذا الحذف يسمى بالحذف والإيصال،كقول عمرو بن معد يكرب:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وصيغة الأمر في قوله: {افْعَلْ} مستعملة في الإذن.وعدل عن أن يقال:اذبحني،إلى {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} للجمع بين الإذن وتعليله،أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك،ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه.
وجملة {سَتَجِدُنِي} هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثه على فعل ما أمر به وعده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابرا،وفي ذلك تخفيف من عبء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره.وهذا وعد قد وفى به حين أمكن أباه من رقبته،وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]،وقد قرن وعده بـ {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} استعانة على تحقيقه.
وفي قوله: {مِنَ الصَّابِرِينَ} من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف:بصابر،لأنه يفيد أنه سيجده في عداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به،ألا ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [ الكهف:69]لأنه حمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر.
[103ـ107] {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
{أَسْلَمَا} استسلما.يقال:سلم واستسلم وأسلم بمعنى:انقاد وخضع،وحذف المتعلق لظهوره من السياق،أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيؤ لذبح ابنه،واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه.
و {تَلَّهُ} :صرعه على الأرض،وهو فعل مشتق من اسم التل وهو الصبرة من التراب كالكدية،وأما قوله في حديث الشرب:"فتله في يده" أي القدح، فلذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده.
(23/65)
واللام في {لِلْجَبِينِ} ؤبمعنى "على" كقوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء:107]،وقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [ يونس:12]،ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه.
والجبين:أحد جانبي الجهة،وللجبهة جبينان،وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خطأوا المتنبي في قوله:
وَخَلِّ زيّاً لمن يحقِّقه ... ما كُل دَامٍ جبينُه عَابِد
وتبع المتنبي إطلاقُ العامة وهو خطأ،وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في "أدب الكتاب" ولم يتعقبه ابن السيد البطليوسي في "الاقتضاب" ولكن الحريري لم يعده في "أوهام الخواص" فلعله أن يكون غفل عنه،وذكر مرتضى في "تاج العروس" عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازا بعلاقة المجاورة،وأنشد قول زهير:
يَقيني بالجبين ومنكبيه ... وأدفعه بمُطَّرد الكعوب
وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك.وهذا لا يصحح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهير أراد من الجبين الجبهة.ولم يذكر هذا في الأساس.
والمعنى:أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال.ومناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملك، أسندت المناداة إلى الله تعالى لأنه الآمر بها.
وتصديق الرؤيا:تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال:رؤيا صادقة،إذا حصل بعدها في الواقع ما يماثل صورة ما رآه الرائي قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} [الفتح:27].وفي حديث عائشة:"أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح".وبضد ذلك يقال:كذبت الرؤيا،إذا حصل خلاف ما رأى.وفي الحديث: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن" ،فمعنى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} قد فعلت مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله.وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك.
والمراد:أنه صدق ما رآه إلى حد إمرار السكين على رقبة ابنه،فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطاب نسخا لما في الرؤيا من إيقاع الذبح،وذلك جاء من قِبَل
(23/66)
الله لا من تقصير إبراهيم،فإبراهيم صدق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مثالها،فأطلق على تصديقه أكثرها أنه صدقها،وجعل ذبح الكبش تأويلا لذبح الولد الواقع في الرؤيا.
وجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليل لجملة {وَنَادَيْنَاهُ} لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه.وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيم،ويجوز أن تكون معترضة بين جمل خطاب إبراهيم،والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى المصدر المأخوذ من فعل {صَدَّقْتَ} من المصدر وهو التصديق مثل عود الضمير على المصدر المأخوذ من {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]،أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق،أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاء عظيما للمحسنين،أي الكاملين في الإحسان،أي وأنت منهم.
ولما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بعدا اعتباريا وهو الرفعة وعظم القدر في الشرف،فالتقدير:إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإحسان الذي أحسنت به بتصديقك الرؤيا،مكافأة على مقدار الإحسان فإنه بذل أعز الأشياء عليه في طاعة ربه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى،فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيلان بما يتسع له التخيل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعد الصادق من جزاء القدر العظيم، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60].
ولما أفاد اسم الإشارة من عظمة الجزاء أكد الخبر بـ {إن} لدفع توهم المبالغة،أي هو فوق ما تعهده في العظمة وما تقدره العقول.
وفهم من ذكر المحسنين أن الجوزاء إحسان بمثل الإحسان فصار المعنى:إنا كذلك الإحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين،فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني،وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإحسان،وقد كان إحسان الابن عظيما ببذل نفسه.
وقد أكد ذلك بمضمون جملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي هذا التكليف الذي كلفناك هو الاختبار البين،أي الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله.
واستعمل لفظ البلاء مجازا في لازمه وهو الشهادة بمرتية من لو اختير بمثل ذلك
(23/67)
التكليف لعلمت مرتبته في الطاعة والصبر وقوة اليقين.
وجملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} في محل العلة لجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على نحو ما تقدم في موقع جملة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:81]في قصة نوح.
وجواب {فَلَمَّا أَسْلَمَا} محذوف دل عليه قوله: {وَنَادَيْنَاهُ} وإنما جيء به في صورة العطف إيثارا لما في ذلك من معنى القصة على أن يكون جوابا لأن الدلالة على الجواب تحصل بعطف بعض القصة دون العكس،وحذف الجواب في مثل هذا كثير في القرآن وهو من أساليبه ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:17,16].
وجملة {وَفَدَيْنَاهُ} يظهر أنها من الكلام الذي خاطب الله به إبراهيم.
والمعنى:وقد فدينا ابنك بذبح عظيم ولولا هذا التقدير تكون حكاية نداء الله إبراهيم غير مشتملة على المقصود من النداء وهو إبطال الأمر بذبح الغلام.
والفِدَى والفداء:إعطاء شيء بدلا عن حق للمعطى،ويطلق على الشيء المفدى به من إطلاق المصدر على المفعول.وأسند الفداء إلى الله لأنه الآذن به،فهو مجاز عقلي، فإن الله أوحى إلى إبراهيم أن يذبح الكبش فداء عن ذبح ابنه وإبراهيم هو الفادي بإذن الله،وابن إبراهيم مفدى.
والذِبح بكسر الذال:المذبوح ووزن فعل بكسر الفاء وسكون عين الكلمة يكثر أن يكون بمعنى المفعول مما اشتق منه مثل:الحِب والطِحن والعِدل.
ووصفه بـ { عَظِيمٍ} بمعنى شرف قدر هذا الذبح،وهو أن الله فدى به ابن رسول وأبقى به من سيكون رسولا فعظمه بعظم أثره،ولأنه سخره الله لإبراهيم في ذلك الوقت وذلك المكان.
وقد أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن لعله لئلا يثير خلافا بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح من ولدي إبراهيم،وكان المقصد تألف أهل الكتاب لإقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديق القرآن،ولم يكن ثمة مقصد مهم يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه،وأمارة ذلك أن
(23/68)
القرآن سمى إسماعيل في مواضع غير قصة الذبح وسمى إسحاق في مواضع،ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط، وذكر اسمي إسماعيل وإسحاق أنهما وهبا له على الكبر ولم يسم أحدا في قصة الذبح قصدا للإبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويه عظيم بشأن إبراهيم وقال الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" . روى الحاكم في "المستدرك" عن معاوية بن أبي سفيان أن أحد الأعراب قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعني أنه من ولد إسماعيل وهو الذبيح وأن أباه عبد الله بن عبد المطلب كان أبوه عبد المطلب نذر:لئن رزقه الله بعشرة بنين أن يذبح العاشر للكعبة، فلما ولد عبد الله وهو العاشر عزم عبد المطلب على الوفاء بنذره،فكلمه كبراء أهل البطاح أن يعدله بعشرة من الإبل وأن يستقسم بالأزلام عليه وعلى الإبل فإن خرج سهم الإبل نحرها،ففعل فخرج سهم عبد الله،فقالوا:أرض الآلهة،أي الآلهة التي في الكعبة يومئذ،فزاد عشرة من الإبل واستقسم فخرج سهم عبد الله،فلم يزالوا يقولون:أرض الآلهة ويزيد عبد المطلب عشرة من الإبل ويعيد الاستقسام ويخرج سهم عبد الله إلى أن بلغ مائة من الإبل واستقسم عليهما فخرج سهم الإبل فقالوا رضيت الآلهة فذبحها فداء عنه.
وكانت منقبة لعبد المطلب ولابنه أبي النبي صلى الله عليه وسلم تشبه منقبة جده إبراهيم وإن كانت جرت على أحوال الجاهلية فإنها يستخلص منها غير ما حف بها من الأعراض الباطلة،وكان الزمان زمان فترة لا شريعة فيه ولم يرد السنة الصحيحة ما يخالف هذا.إلا أنه شاع من أخبار أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق بن إبراهيم بناء على ما جاء في "سفر التكوين" في "الإصحاح" الثاني والعشرين وعلى ما كان يقصه اليهود عليهم،ولم يكن فيما علموه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ولا كانوا يسألونه.
والتأمل في هذه الآية يقوي الظن بأن الذبيح إسماعيل،فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]وأنه هو الذي سأل إبراهيم ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإبراهيم،ثم أعقبت قصته بقوله تعالى : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112]،وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي
(23/69)
مضى الكلام على قصته لأن الظاهر أن قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ} [الصافات:112]بشارة ثانية وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة.فهذا دليل أول.
الدليل الثاني:أن الله لما ابتلى إبراهيم بذبح ولده كان الظاهر أن الابتلاء وقع حين لم يكن لإبراهيم ابن غيره لأن ذلك أكمل في الابتلاء كما تقدم.
الدليل الثالث:أن الله تعالى ذكر {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]عقب ما ذكر من قول إبراهيم {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]،فدل على هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه هو المبشر به استجابة لدعوته،وقد ظهر أن المقصود من الدعوة أن لا يكون عقيما يرثه عبيد بيته كما جاء في "سفر التكوين" وتقدم آنفا.
الدليل الرابع:أن إبراهيم بنى بيتا الله بمكة قبل أن يبني بيتا آخر بنحو أربعين سنة كما في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن شأن بيوت العبادة في ذلك الزمان أن تقرب فيها القرابين فقربان أعز شيء على إبراهيم هو المناسب لكونه قربانا لأشرف هيكل.وقد بقيت في العرب سنة الهدايا في الحج كل عام وما تلك إلا تذكرة لأول عام أمر فيه إبراهيم بذبح ولده وأنه الولد الذي بمكة.
الدليل الخامس:أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الذبيحين" ،فعلم مراده وتبسم، وليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم ذبيح غير عبد الله وإسماعيل.
الدليل السادس:ما وقع في "سفر التكوين" في الإصحاح الثاني والعشرين أن الله امتحن إبراهيم فقال له:"خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعد هنالك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" إلى آخر القصة.ولم يكن إسحاق ابنا وحيدا لإبراهيم فإن إسماعيل ولد قبله بثلاث عشرة سنة.ولم يزل إبراهيم وإسماعيل متواصلين وقد ذكر في الإصحاح الخامس والعشرين من التكوين عند ذكر موت إبراهيم عليه السلام "ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه"،فإقحام اسم إسحاق بعد قوله:ابنك وحيدك،من زيادة كاتب التوراة.
الدليل السابع:قال صاحب "الكشاف":"ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في حصار ابن الزبير"اهـ.وقال القرطبي:"عن ابن عباس:"والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس".قلت: وفي صحبة كون ذلك الرأس رأس كبش الفداء
(23/70)
من زمن إبراهيم نظر.
الدليل الثامن:أنه وردت روايات في حكمة تشريع الرمي في الجمرات من عهد الحنيفية أن الشيطان تعرض لإبراهيم ليصده عن المضي في ذبح ولده وذلك من مناسك الحج لأهل مكة ولم تكن ليهود سنة ذبح معين.
وذكر القرطبي عن ابن عباس:"أن الشيطان عرض لإبراهيم عند الجمرات ثلاث مرات فرجمه في كل مرة بحصيات حتى ذهب من عند الجمرة الأخرى.وعنه:أن موضع معالجة الذبح كان عند الجمار وقيل عند الصخرة التي في أصل جبل ثبير بمنى.
الدليل التاسع:أن القرآن صريح في أن الله لما بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإسحاق يعقوب،قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [بهود:71]وكان ذلك بمحضر إبراهيم فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صوريا لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب لأن الله لا يخلف الميعاد.ولما بشره بإسماعيل لم يعده بأنه سيولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل.فقد جاء في "سفر التكوين" الإصحاح السابع عشر "وقال إبراهيم لله:"ليت إسماعيل يعيش أمامك" فقال الله:"بل سارة تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده".ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه.
الدليل العاشر:أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذا: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [ا لصافات:112]تكريرا لأن فعل:بشرناه بفلان،غالب في معنى التبشير بالوجود.
واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين:"هو إسماعيل" وممن قاله أبو هريرة،وأبو الطفيل عامر بن واثلة،وعبد الله بن عمر،وابن عباس،ومعاوية بن أبي سفيان.وقاله من التابعين سعيد بن المسيب،والشعبي،ومجاهد،وعلقمة،والكلبي،والربيع بن أنس،ومحمد بن كعب القرظي،وأحمد بن حنبل.وقال جماعة:"هو إسحاق" ونقل عن ابن مسعود،والعباس بن عبد المطلب، وجابر بن عبد الله،وعمر،وعلي من الصحابة،وقاله جمع من التابعين منهم:عطاء وعكرمة والزهري والسدي.وفي جامع العتبية أنه قول مالك بن أنس.
(23/71)
فإن قلت: فعلام جنحت إليه واستدلت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق، فكيف تتأول ما وقع في "سفر التكوين"?
قلت:أرى أن ما "سفر التكوين" نقل مشتتا غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم،فلما نقل القلة التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر،سجلت قضية لذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه السلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق.ويدل لذلك قول الإصحاح الثاني والعشرين "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك" الخ؛فهل المراد من قولها: بعد هذه الأمور،بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم.
[108ـ111] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
القول في {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} نظير الكلام المتقدم في ذكر نوح عليه السلام في هذه السورة وإعادته هنا تأكيد لما سبق لزيادة التنويه بإبراهيم عليه السلام.
ويرد أن يقال:لماذا لم تؤكد جملة {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بـ"إن" هنا وأكدت مع ذكر نوح وفيما تقدم من ذكر إبراهيم.وأشار في "الكشاف" أنه لما تقدم في هذه القصة قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:80]وكان إبراهيم هو المجزي اكتفي بتأكيد نظيره عن تأكيده، أي لأنه بالتأكيد الأول حصل الاهتمام فلم يبق داع لإعادته.
واقتصر على تأكيد معنى الجملة تأكيدا لفظيا لأنه تقرير للعناية بجزائه على إحسانه.ولم يذكر هنا {فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات:79]لأن إبراهيم لا يعرفه جميع الأمم من البشر بخلاف نوح عليه السلام كما تقدم في قصته.
[112ـ113] {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}
هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له،وهي غير البشارة بالغلام الحليم،فإسحاق غير الغلام الحليم. وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا
(23/72)
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].وتسمية المبشر به إسحاق تحتمل أن الله عين له اسما يسميه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من "سفر التكوين" "سارة امرأتك تلد ابنا وتدعو اسمه إسحاق".
وتحتمل أن المراد:بشرناه بولد الذي سمي إسحاق،وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سمي إسماعيل.ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأن البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني.
وانتصب {نَبِيئَّاً} على الحال من {إِسْحَاقَ} فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالا مقدرا لأن اتصاف إسحاق بالنبوة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجودا،فالمعنى:وبشرناه بولادة ولد اسمه مقدرا حاله أنه نبي،وعدم وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك،وطول زمان الاستقبال لا يتحدد، ومنه ما تقدم في قوله تعالى: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} في سورة مريم[80].
واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدر حصولها غير حاصلة الآن والمقدر هو الناطق بها،وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان،فلا تحتفل بما أطال به في "الكشاف" ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات.وإن كان وضعا معترضا في أثناء القصة كان تنويها بإسحاق وكان حالا حاصلة.
وقوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} حال ثانية،وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبي لا بد أن يكون صالحا، والنبوة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة.
وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه،وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران[96].وقوله: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} في سورة هود[48].
و {على} للاستعلاء المجازي،أي تمكن البركة من الإحاطة بهما.
(23/73)
ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} ،أي عامل بالعمل الحسن، {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي مشرك غير مستقيم للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون؛ فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم،ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب،ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلى الله عليهما،ونظيره قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} في سورة البقرة[124].
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر،وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء،وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات،وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتساع بفضائل الخلال،فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم،وإنها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام وأنهم الأولى بالمسجد الحرام.قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا رجال حرمه وسدنة بيته" فكان ذلك قبل الإسلام وقال الله تعالى لهم بعد الإسلام: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19].وقال تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34]وقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68].
وقد ضرب الله هذه القصة مثلا لحال النبي صلى الله عليه وسلم في ثباته على إبطال الشرك وفيما لقي من المشركين وإيماء إلى أنه يهاجر من أرض الشرك يهديه في هجرته ويهب له أمة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعا، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120].
وفي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} مثل لحال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة.
[114ـ116] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}
عطف على قوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات: 75]،والمناسبة هي ما ذكر هنالك.
وذكر هنا ما كان منة على موسى وهارون وهو النبوة فإنها أعظم درجة يرفع إليها
(23/74)
الإنسان،ولذلك أكتفي عن تعيين الممنون به لحمل الفعل على أكمل معناه.وجعلت منة من الله عليهما لأن موسى لم يسأل النبوة إذ ليست النبوة بمكتسبة وكانت منة على هارون أيضا لأنه إنما سأل له موسى ذلك ولم يسأله هارون،فهي منة عليه وإرضاء لموسى،والمنة عليهما من قبيل إيصال المنافع فإن الله أرسل موسى لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد القبط لإبراهيم وإسرائيل.
وفي اختلاف مبادئ القصص الثلاث إشارة إلى أن الله يغضب لأوليائه؛إما باستجابة دعوة،وإما لجزاء على سلامة طوية وقلب سليم،وإما لرحمة منه ومنة على عباده المستضعفين.وإنجاء موسى وهارون وقومهما كرامة أخرى لهما ولقومهما بسببهما، وهذه نعمة إزالة الضر،فحصل لموسى وهارون نوعا الإنعام وهما:إعطاء المنافع،ودفع المضار.
و {الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} :هو ما كانوا فيه من المذلة تحت سلطة الفراعنة ومن اتباع فرعون إياهم في خروجهم حين تراءى الجمعان فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر،فضربه فانفلق واجتاز منه بنو إسرائيل،ثم مد البحر أمواجه على فرعون وجنده،على أن الكرب العظيم أطلق على الغرق في قصة نوح السابقة وفي سورة الأنبياء على الأمم التي مروا ببلادها من العمالقة والأموريين فكان بنو إسرائيل منتصرين في كل موقعة قاتلوا فيها عن أمر موسى وما انهزموا إلا حين أقدموا على قتال العمالقة والكنعانيين في سهول وادي "شكول" لأن موسى نهاهم عن قتالهم هنالك كما هو مسطور في تاريخهم.
و {هم} من قوله: {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} ضمير فصل وهو يفيد قصرا،أي هم الغالبين لغيرهم وغيرهم لم يغلبوهم،أي لم يغلبوا ولو مرة واحدة فإن المنتصر قد ينتصر بعد أن يغلب في مواقع.
[117ـ122] {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
{الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} هو التوراة،والمستبين القوي الوضوح،فالسين والتاء للمبالغة يقال:استبان الشيء إذا ظهر ظهورا شديدا.
(23/75)
وتعدية فعل الإيتاء إلى ضمير موسى وهارون مع أن الذي أوتي التوراة هو موسى كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [المؤمنون:49]من حيث إن هارون كان معاضدا لموسى في رسالته فكان له حظ من إيتاء التوراة كما قال الله في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} [الأنبياء: من الآية48]وهذا من استعمال الإيتاء في معنييه الحقيقي والمجازي.
و {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} :الدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة،وقد كانت شريعة التوراة يوم أوتيها موسى عليه السلام هي الصراط المستقيم فلما نسخت بالقرآن صار القرآن هو الصراط المستقيم للأبد وتعطيل صراط التوراة.
ويجوز أن يراد بـ {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أصول الديانة التي لا تختلف فيها الشرائع وهي التوحيد وكليات الشرائع التي أشار إليها قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} إلى قوله: {وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13].
والقول في تفسير {وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ} إلى آخر الآيات الأربع كالقول في نظائره عند ذكر نوح في هذه السورة،إلا أن احتمال أن تكون جملة {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} مفعولا لفعل {تَرَكْنَا عَلَيهِمَا} على إرادة حكاية اللفظ هنا أضعف منه فيما تقدم إذ ليس يطرد أن يكون تسليم الآخرين على موسى وهارون معا لأن الذي ذكر موسى يقول:السلام على موسى والذي يجري على لسانه ذكر هارون يقول:السلام على هارون ولا يجمع اسميهما في السلام إلا الذي يجري على لسانه ذكرهما معا كما يقول المحدث:"عن جابر:رضي الله عنه"،ويقول:"عن عبد الله ابن حرام رضي الله عنه" فإذا قال:"عن جابر بن عبد الله"،قال:"رضي الله عنهما".
وفي ذكر قصة موسى وهارون عبرة مثل كامل للنبي صلى الله عليه وسلم في رسالته وإنزال القرآن عليه وهدايته وانتشار دينه وسلطانه بعد خروجه من ديار المشركين.
[123ـ132] {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
أتبع الكلام على رسل ثلاثة أصحاب الشرائع:نوح،وإبراهيم،وموسى بالخبر عن
(23/76)
ثلاثة أنبياء وما لقوه من قومهم وذلك كله شواهد لتسلية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقوارع من الموعظة لكفار قريش.وابتدئ ذكر هؤلاء الثلاثة بجملة {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} لأنهم سواء في مرتبة الدعوة إلى دين الله،وفي أنهم لا شرائع لهم.وتأكيد إرسالهم بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر لأنه قد يغفل عنه إذ لم تكن لهؤلاء الثلاثة شريعة خاصة.و {إلياس} هو "إيلياء" من أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعة التوراة،وأطلق عليه وصف الرسول لأنه أمر من جانب الله تعالى بتبليغ ملوك إسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام،فإطلاق وصف الرسول عليه مثل إطلاقه على الرسل إلى أهل أنطاكية المذكورين في سورة يس.
و {إذ} ظرف متعلق بـ {الْمُرْسَلِينَ} ،أي أنه من حين ذلك القول كان مبلغا رسالة عن الله تعالى إلى قومه.
وقد تقدم ذكر إلياس في سورة الأنعام،والمراد بقومه:بنو إسرائيل وكانوا قد عبدوا بعلا معبود الكنعانيين بسبب مصاهرة بعض ملوك يهودا للكنعانيين ولذلك قام إلياس داعيا قومه إلى نبذ عبادة بعل الصنم وإفراد الله بالعبادة.
وقوله: {ألاَ} كلمتان:همزة الاستفهام للإنكار،و {لا} النافية،إنكار لعدم تقواهم،وحذف مفعول {تَتَّقُونَ} لدلالة ما بعده عليه.
و"بَعْل" اسم صنم الكنعانيين وهو أعظم أصنامهم لأن كلمة بعل في لغتهم تدل على معنى الذكورة. ثم دلت على معنى السيادة فلفظ البعل يطلق على الذكر،وهو عندهم رمز على الشمس ويقابله كلمة "تانيت" بمثناتين،أي الأنثى وكانت لهم صنعة تسمى عند الفينيقيين بقرطاجنة "تانيت" وهي عندهم رمز القمر وعند فينيقيي أرض فينيقية الوطن الأصلي للكنعانيين تسمى هذه الصنمة "العشتاروث".وقد أطلق على بعل في زمن موسى عليه السلام اسم "مولك" أيضا،وقد مثلوه بصورة إنسان له رأس عجل وله قرنان وعليه إكليل وهو جالس على كرسي مادا يديه كمن يتناول شيئا وكانت صورته من نحاس وداخلها مجوف وقد وضعوها على قاعدة من بناء كالتنور فكانوا يوقدون النار في ذلك التنور حتى يحمى النحاس ويأتون بالقرابين فيضعونها على ذراعيه فتحترق بالحرارة فيحسبون لجهلهم الصنم تقبلها وأكلها من يديه،وكانوا يقربون له أطفالا من أطفال ملوكهم وعظماء ملتهم،وقد عبده بنو إسرائيل غير مرة تبعا للكنعانيين،والعمونيين،والمؤبيين وكان لبعل من السدنة في بلاد السامرة،أو مدينة صرفة أربعمائة وخمسون
(23/77)
سادنا.وتوجد صورة بعل في دار الآثار بقصر اللُّوفر في باريس منقوشة على وجه حجارة صوروه بصورة إنسان على رأسه خوذة بها قرنان وبيده مقرعة.ولعلها صورته عند بعض الأمم التي عبدته ولا توجد له صورة في آثار قرطاجنة الفينيقية بتونس.
وجيء في قوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} بذكر صفة الله دون اسمه العلم تعريضا بتسفيه عقول الذين عبدوا بعلا بأنهم تركوا عبادة الرب المتصف بأحسن الصفات وأكملها وعبدوا صنما ذاته وخش فكأنه قال:أَتَدْعون صنما بشعا جمع عنصري الضعف وهما المخلوقية وقبح الصورة وتتركون من له صفة الخالقية والصفات الحسنى.
وقرأ الجمهور {إِلْيَاسَ} بهمزة قطع في أوله على اعتبار الألف واللام من جملة الاسم العلم فلم يحذفوا الهمزة إذا وصلوا {إن} بها.وقرأه ابن عامر بهمزة وصل فحذفها في الوصل مع {إن} على اعتبار الألف واللام حرفا للمح الأصل.وأن أصل الاسم ياس مراعاة لقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} .
وللعرب في النطق بالأسماء الأعجمية تصرفات كثيرة لأنه ليس من لغتهم فهم يتصرفون في النطق به على ما يناسب أبنية كلامهم.
وجملة {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} قرأ الأكثر برفع اسم الجلالة وما عطف عليه فهو مبتدأ والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا والخبر مستعمل في التنبيه على الخطأ بأن عبدوا {بعلاً} .وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بنصب اسم الجلالة على عطف البيان لـ {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} ،والمقصود من البيان زيادة التصريح لأن المقام مقام إيضاح لأصل الديانة،وعلى كلتا القراءتين فالكلام مسوق لتذكيرهم بأن من أصول دينهم أنهم لا رب لهم إلا الله،وهذا أول أصول الذين فإنه رب آبائهم فإن لم يعبدوا غير الله من عهد إبراهيم عليه السلام وهو الأب الأول من حين تميزت أمتهم عن غيرهم،أو هو يعقوب قال تعالى: {وَأَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]،واحتراز بـ {الْأَوَّلِينَ} عن آبائهم الذين كانوا في زمان ملوكهم بعد سليمان.
وجمع هذا الخبر تحريضا على إبطال عبادة "بعل" لأن في الطبع محبة الاقتداء بالسلف في الخير.وقد جمع إلياس من معه من أتباعه وجعل مكيدة لسدنة "بعل" فقتلهم عن آخرهم انتصار للدين وانتقاما لمن قتلتهم "إيزابل" زوجة "آخاب".
(23/78)
وفي "مفاتيح الغيب":"كان الملقب بالرشيد الكاتب1 يقول:"لو قيل:أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين، أوْهَم أنه أحسن"،أي أوهم كلام الرشيد أنه لو كانت كلمة "تدعون" عوضا عن {تَذَرُونَ} . وأجاب الفخر:"بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ"اهـ.وهو جواب غير مقنع إذ لا سبيل إلى إنكار حسن موقع المحسنات البديعية بعد استكمال مقتضيات البلاغة.قال السكاكي:"وأصل الحسن في جميع ذلك "أي ما ذكر من المحسنات البديعية" أن تكون الألفاظ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع،أعني أن لا تكون متكلفة".فإذا سلمنا أن "تذرون" و"تدعون" مترادفان لم يكن سبيل إلى إبطال أن إيثار "تدعون" أنسب.
فالوجه إما يجاب بما قاله سعد الله محشي البيضاوي بأن الجناس من المحسنات فإنما يناسب كلاما صادرا في مقام الرضى لا في مقام الغضب والتهويل.يعني أن كلام إلياس المحكي هنا محكي عن مقام الغضب والتهويل فلا تناسبه اللطائف اللفظية "يعني بالنظر إلى حال المخاطبين به لأن كلامه محكي في العربية بما يناسب مصدره في لغة قائله وذلك من دقائق الترجمة"،وهو جواب دقيق،وإن كابر فيه الخفاجي بكلام لا يليق،وإن تأملته جزمت باختلاله.وقد أجيب بما يقتضي منع الترادف بين فعلي { تذرون} و"تدعون" بأن فعل "يدع" أخص:إما لأنه يدل عل ترك شيء مع الاعتناء بعدم تركه كما قال سعد الله،وإما فعل يدع ترك شيء قبل العلم،وفعل "يذر" يدل على ترك شيء بعد العلم به كما حكاه سعد الله عن بعض الأئمة عازيا إياه للفخر.
وعندي:أن منع الترادف هو الوجه لكن لا كما قال سعد الله ولا كما نقل عن الفخر بل لأن فعل "يدع" قليل الاستعمال في كلام العرب ولذلك لم يقع في القرآن إلا في قراءة شاذة لا سند لها خلافا لفعل "يذر".ولا شك أن سبب ذلك أن فعل "يذر" يدل على ترك مع إعراض عن المتروك بخلاف "يدع" فإنه يقتضي تركا مؤقتا وأشار إلى الفرق بينهما كلام الراغب فيهما.وهنالك عدة أجوبة أخرى، هي بالإعراض عنها أحرى.
ومعنى {فَكَذَّبُوهُ} أنهم لم يطيعوه تملقا لملوكهم الذين أجابوا رغبة نسائهم
ـــــــ
1 لم أقف على ذكر كاب يلقب بالرشيد وأحسب أنه راشد بن إسحاق بن راشد أبا حليمة الكاتب.كان شاعراً ماجناً.ترجمه ياقوت وذكر أنه اتصل بالوزير عبد الملك بن الزيات وزير المعتصم (173/232).
(23/79)
المشركات لإقامة هياكل للأصنام فإن "إيزابل" ابنة ملك الصيدونيين زوجة "أخاب" ملك إسرائيل لما بلغها ما صنع إلياس بسدنة بَعْل ثأراً لمن قتلته "إيزابل" من صالحي إسرائيل أرسلت إلى إلياس تتوعده بالقتل فخرج إلى موضع اسمه "بئر سبع" ثم ساح في الأرض وسأل الله أن يقبضه إليه فأمره بأن يعهد إلى صاحبه "اليسع" بالنبوة من بعده،ثم قبضه الله إليه فلم يعرف أحد مكانه.
وفي كتاب "إلياء" من كتب اليهود أن الله رفعه إلى السماء في مركبة يجرها فرسان،وأن "اليسع" شاهده صاعدا فيها ولذلك كان بعض السلف يقول:إن إلياس هو إدريس الذي قال الله فيه: {إنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57,56]،وقيل كان عبد الله بن مسعود يقرأ: {وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} عوض {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} ويقرأ "سلام على إدراسين" على أنه لغة في إدريس.ولايقتضي ما في كتب اليهود من رفعه أن يكون هو إدريس لأن الرفع إذا صح قد يتكرر وقد رفع عيسى عليه السلام.
ومعنى {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أن الله يحضرهم للعقاب،وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في هذه السورة[57].
واستثني من ذلك عباد الله المخلصون وهم الذين اتبعوا إلياس وأعانوه على قتل سدنة "بعل".وتقدم القول فيه عند قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فيما سبق من هذه السورة[74].
وكذلك قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} إلى آخر الآية تقدم نظيره.وقوله: {إِلْ يَاسِينَ} قيل أريد به إلياس خاصة وعبر عنه ب {ياسين} لأنه يدعى به.قال في "الكشاف":"ولعل لزيادة الألف والنون في لغتهم معنى ويكون ذكر {آل} إقحاما كقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]على أحد التفسيرين فيه،وفي قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:54].
وقيل:إن ياسين هو أبو إلياس.فالمراد:سلام على إلياس وذويه من آل أبيه.
وقرأ نافع وابن عامر {إِلْ يَاسِينَ} بهمزة بعدها ألف على أنهما كلمتان {إل} و"ياسين".وقرأه الباقون بهمزة مكسورة دون ألف بعدها وبإسكان اللام على أنها كلمة واحدة هي اسم إلياس وهي مرسومة في المصاحف كلها على قطعتين {إِلْ يَاسِينَ} ولا منافاة بينها وبين القراءتين لأن آل قد ترسم مفصولة عن مدخولها.والأظهر أن المراد
(23/80)
بـ {إِلْ يَاسِينَ} أنصاره الذين اتبعوه وأعانوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آل محمد كل تقي" 1.وهؤلاء هم أهل "جبل الكرمل" الذين استنجدهم إلياس على سدنة بعل فأطاعوه وأنجدوه وذبحوا سدنة بعل كما هو موصوف بإسهاب في الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الأول. فيكون المعنى:سلام على ياسين وآله،لأنه إذا حصلت لهم الكرامة لأنهم آله فهو بالكرامة أولى.
وفي قصة إلياس إنباء بأن الرسول عليه أداء الرسالة ولا يلزم من ذلك أن يشاهد عقاب المكذبين ولا هلاكهم للرد على المشركين الذين قالوا {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48]قال تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:93ـ95]،وقال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]وفي الآية الأخرى {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
[133ـ136] {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ}
هذا ثاني الأنبياء الذين جمعهم التنظير في هذه الآية،ولوط كان رسولا للقرى التي كان ساكنا في إحداها فهو رسول لا شريعة له سوى أنه جاء ينهى الأقوام الذين كان نازلا بينهم عن الفاحشة وتلك لم يسبق النهي عنها في شريعة إبراهيم.
و {إذ} ظرف متعلق بـ {الْمُرْسَلِينَ} والمعنى:أنه في حين إنجاء الله إياه وإهلاك الله قومه كان قائما بالرسالة عن الله تعالى ناطقا بما أمره الله،وإنما خص حين إنجائه بجعله ظرفا للكون من المرسلين لأن ذلك الوقت ظرف للأحوال الدالة على رسالته إذ هي مماثلة لأحوال الرسل من قبل ومن بعد. وتقدمت قصة لوط في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف.
والعجوز:امرأة لوط،وتقدم خبرها وتقدم نظيرها في سورة الشعراء.
[137ـ138] {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
ـــــــ
1 رواه الطبراني في "الأوسط"بسند ضعفوه.
(23/81)
الخطاب لقريش الذين سيقت هذه القصص لعظمتهم.والمرور:مجاوزة السائر بسيره شيئا يتركه، والمراد هنا:مرورهم في السفر،وكان أهل مكة إذا سافروا في تجارتهم إلى الشام يمرون ببلاد فلسطين فيمرون بأرض لوط على شاطئ البحر الميت المسمى بحيرة لوط.وتعدية المرور بحرف "على" يعين أن الضمير المجرور بتقدير مضاف إلى:على أرضهم،كما قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259].يقال:مر عليه ومر به،وتعديته بحرف "على" تفيد تمكن المرور أشد من تعديته بالباء،وكانوا يمرون بديار لوط بجانبها لأن قراهم غمرها البحر الميت و آثارها باقية تحت الماء.
والمُصبح:الداخل في وقت الصباح,يمرون على منازلهم في الصباح تارة وفي الليل تارة بحسب تقدير السير في أول النهار وآخره،لأن رحلة قريش إلى الشام تكون في زمن الصيف ويكون السير بكرة وعشيا وسرى؛والباء في {وَبِاللَّيْلِ} للظرفية.
والخبر الذي في قوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} مستعمل في الإيقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإخبار، وتأكيده بحرف التوكيد وباللام تأكيد للمعنى الذي استعمل فيه،وذلك مثل قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} في سورة الحجر[76].وفرع على ذلك بالفاء استفهام إنكاري من عدم فطنتهم لدلالة تلك الآثار على ما حل بهم من سخط الله وعلى سبب ذلك وهو تكذيب رسول الله لوط.
وقد أشرنا إلى وجه تخصيص قصة لوط مع القصص الخمس في أول الكلام على قصة نوح وتزيد على تلك القصص بأن فيها مشاهدة آثار قومه الذين كذبوا وأصروا على الكفر.
[139ـ144] {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
يونس هو ابن متى،واسمه بالعبرانية "يونان بن آمتاي ،وهو من أهل فلسطين،وهو من أنبياء إسرائيل أرسله الله إلى أهل "نينوى" وكانت نينوى مدينة عظيمة من بلاد الآشوريين وكان بها أسرى بني إسرائيل الذين بأيدي الآشوريين وكانوا زهاء مائة ألف بقوا بعد "دانيال".وكان يونس في أول القرن الثامن قبل المسيح،وقد تقدم ذكره وذكر قومه في الأنعام وسورة يونس.
(23/82)
و {إذ} ظرف متعلق بـ {الْمُرْسَلِينَ} وإنما وقتت رسالته بالزمن الذي أبق فيه إلى الفلك لأن فعلته تلك كانت عند ما أمره الله بالذهاب إلى نينوى لإبلاغ بني إسرائيل أن الله غضب عليهم لأنهم انحرفوا عن شريعتهم.
فحينما أوحى الله إليه بذلك عظم عليه هذا الأمر فخرج من بلده وقصد مرسى "يافا" ليذهب إلى مدينة "ترشيش" وهي طرطوسية على شاطئ بلاد الشام فهال البحر حتى اضطر أهل السفينة إلى تخفيف عدد ركابها فاستهموا على من يطرحونه من سفينتهم في البحر فكان يونس ممن خرج سهم غلقائه في البحر فالتقمه حوت عظيم وجرت قصته المذكورة في سورة الأنبياء،فلما كان هروبه من كلفة الرسالة مقارنا لإرساله وقت بكونه من المرسلين.
و {أَبَقَ} مصدره إباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد من مالكه.وفعله كضرب وسمع.
والمراد هنا:أن يونس هرب من البلد الذي أوحي إليه فيه قاصدا بلدا آخر تخلصا من إبلاغ رسالة الله إلى أهل "نينوى" ولعله خاف بأسهم واتهم صبر نفسه على أذاهم المتوقع لأنهم كانوا من بني إسرائيل في حماية الآشوريين.ففعل {أَبَقَ} هنا استعارة تمثيلية،شبهت حالة خروجه من البلد الذي كلفه ربه فيه بالرسالة تباعدا من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي كلفه عملا.
و {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} :المملوء بالراكبين،وتقدم معناه في قصة نوح.
وساهم:قارع.وأصله مشتق من اسم السهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمى الأزلام.
وتفريع {فَسَاهَمَ} يؤذن بجمل محذوفة تقديرها:فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم.وهذا نظير التفريع في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء:63].والمذكور في كتاب "يونان" من كتب اليهود:أن بعضهم قال لبعض:هلم نُلْقِ قرعة لنعرف من هو سبب هذه البلية فألقوا قرعة فوقعت على يونس.وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن القرعة خرجت ثلاث مرات على يونس.
وسنة الاقتراع في أسفار البحر كانت متبعة عند الأقدمين إذا ثقُلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع.وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في "شرح الطغرائية"1:
ـــــــ
1 قصيدة الطغرائي اللامية لامية العجم.انظر شرح البيت:
إن العلا حدثتني وهي صادقة
فما تحدث أن العز في النقل
(23/83)
أن بعض الأصحاب يدعي أن مركبا فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر ليخف المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا:نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه.فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال ليس هذا حكما مرضيا وإنما نعد الجماعة فمن كان تاسعا ألقيناه فارتضوا بذلك فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون وهذه صورة ذلك "وصور دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداء العد وهو إلى جهة الشمال قال:"ولقد ذكرتها لنور الذين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال:"كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب؟فقلت له:"الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو:
الله يقضي بكل يسر ... ويرزق الضيف حيث كانا أهـ
وكانت القرعة طريقا من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء. وقد تقدم في سورة آل عمران [44] عند قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} . وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة،أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييز صاحب الحق عند التنازع. ولعلها من مخترعات الكهنة وسدنة الأصنام.فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال،ولكن الشرائع الحق لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يصار إليها إلا عند التساوي في الحق وفقدان المرجح،الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه،فهي من بقايا الأوهام.وقد اقتصرت الشريعة الإسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه.مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسمين إذ تشاحوا في أحدها،قال ابن رشد في "المقدمات":"والقرعة إنما جعلت تطييبا لأنفس المتقاسمين وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} .
وعندي:أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعا صحيحا كان قبل الإسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجرَوْا الاستهام على يونس،على أن ما أجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام.فلو صح أن ذلك كان شرعا لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا.
قال ابن العربي:"الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا
(23/84)
يجوز فيمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمَى به في النار والبحر.وإنما تجري عليه الحدود والتعزيز على مقدار جنايته.وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا،وهذا فاسد فلا تُخَفَّف بِرَمْي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله.وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم.وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن:
الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
الثاني:أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين ـ وهما معادل الثلث ـ وأرق أربعة.
الثالث:أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست،فقال:اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه.
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين:الصحيح منهما الاقتراع،وبه قال أكثر فقهاء الأمصار،وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة.
وقال القرافي في "الفرق"240:"متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعا للضغائن فهي مشروعة بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية،والأئمة،والمؤذنين،إذا استووا،والتقدم للصف الأول عند الازدحام،وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم،وبين الحاضنات،والزوجات في السفر والقسمة،والخصوم عند الحكام،في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث.وقاله الشافعي وابن حنبل.وقال أبو حنيفة:"لا تجوز القرعة بينهم".ويعتق من كل ثلثه ويستسعى في قيمته ووافق في قيمة الأرض.قال:والحق عند أنها تجري في كل مشكل"اهـ.
قلت:وفي "الصحيح" عن أم العلاء الأنصارية:"أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم عثمان بن مظعون"الحديث.
وقال الجصاص:"احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض.وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت
(23/85)
عليه وفي أخذ ماله فدل على أنه خاص فيه".وقال في سورة آل عمران:"ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم" على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا "أي إلقاء الأقلام" من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحد منهم مريم جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية،وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
والإدحاض:جعل المرء داحضا،أي زالقا غير ثابت الرجلين وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية.
والالتقام:البلع.والحوت الذي التقمه:حوت عظيم يبتلع الأشياء ولا يعض بأسنانه ويقال:إنه الحوت الذي يسمى "بَالَيْن" بالإفرنجية.
والمُليم:اسم فاعل من ألام،إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهم ألامهم على نفسه.
وكان غرقه في البحر المسمى بحر الروم وهو الذي نسميه البحر البيض المتوسط، ولم يكن بنهر دجلة كما غلط فيه بعض المفسرين.
و {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} كما في سورة الأنبياء[87]،فأنجاه الله بسبب تسبيحه وتوبته فقذفه الحوت من بطنه إلى البر بعد أن مكث في جوف الحوت ثلاث ليال،وقيل:يوما وليلة،وقيل:بضع ساعات.
ومعنى قوله: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} التأبيد بأن يميت الله الحوت حين ابتلاعه ويبقيهما في قعر البحر،أو بأن يختطف الحوت في حجر في البحر أو نحوه فلا يطفو على الماء حتى يبعث يونس يوم القيامة من قعر البحر.
[145ـ146] {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}
الفاء فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر دل عليه قوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِه} [الصافات:144].فالتقدير:يسبح ربه في بطن الحوت أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له ونجاه كما في سورة
(23/86)
الأنبياء.والمعنى:فلفظه الحوت وقاءه،وحمله الموج إلى الشاطئ.
والنبذ:الإلقاء وأسند نبذه إلى الله هو الذي سخر الحوت لقذفه من بطنه إلى الشاطئ لا شجر فيه.
والعراء:الأرض التي لا شجر فيها ولا ما يغطيها.
وكان يونس قد خرج من بطن الحوت سقيما لأن أمعاء الحوت أضرت بجلده بحركتها حوله فإنه كان قد نزع ثيابه عندما أريد رميه في البحر ليخف للسباحة،ولعل الله أصاب الحوت بشبه الإغماء فتعطلت حركة هضمه تعطيلا ما فبقي كالخدر لئلا تضر أمعاؤه لحم يونس.وأنبت الله شجرة من يقطين لتظلله وتستره.واليقطين:الدُُّبَّاء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع،فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأظلته.واختير له اليقطين ليمكن له أن يقتات من غلته فيصلح جسده لطفا من ربه به بعد أن أجرى له حادثا لتأديبه،شأن الرب مع عبيده أن يعقب الشدة باليسر.
وهذا حدث لم يعهد مثليه من الرسل ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ،يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه إذ لا يحتمل أن يكون أراد أحدا آخر إذ لا يخطر بالبال أن يقوله أحد غير الأنبياء.والمعنى نفي الأخيرية في وصف النبوة، أي لا يظنن أحد أن فعلة يونس تسلب عنه النبوة.
فلذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوا بين الأنبياء" ،أي في أصل النبوة لا في درجاتها فقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55].
واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في صبره على ذلك وعدم تذمره وإعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون:لا تَغْشنَا في مجالسنا فمن جاءك منا فاسمعه،كما قال عبد الله بن أبي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتَهُ} [المائدة:67]فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه من غضب ربه ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49,48].
(23/87)
وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحدا للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
[147ـ148] {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
ظاهر ترتيب ذكر الإرسال بعد الإنجاء من الحوت أنه إعادة لإرساله.وهذا هو مقتضى ما في كتاب يونس من كتب اليهود إذ وقع في الإصحاح الثالث:ثم صار قول الرب إلى يونس ثانية:قم اذهب إلى نينوى وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها.
والمرسل إليهم :اليهود القانطون في نينوى في أسر الآشوريين كما تقدم.والظاهر أن الرسول إذا بعث إلى قوم مختلطين بغيرهم أن تعم رسالته جميع الخلط لأن في تمييز البعض بالدعوة تقريرا لكفر غيرهم. ولهذا لما بعث الله موسى عليه السلام لتخليص بني إسرائيل دعا فرعون وقومه إلى نبذ عبادة الأصنام،فيحتمل أن المقدرين بمائة ألف هم اليهود وأن المعطوفين بقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} هم بقية سكان "نينَوى".وذكر في كتاب يونس أن دعوة يونس لما بلغت ملك نينوى قام عن كرسيه وخلع رداءه ولبس مسحا وأمر أهل مدينته بالتوبة والإيمان الخ.ولم يذكر أن يونس دعا غير أهل نينوى من بلاد أشور مع سعتها.
وروى الترمذي عن أبي بن كعب قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال:"عشرون ألفا".قال الترمذي:"حديث غريب".
فحرف {أو} في قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} بمعنى "بل" على قول الكوفيين واختيار الفراء وأبي علي الفارسي وابن جني وابن بَرْهان1.واستشهدوا بقول جرير:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
والبصريون لا يجيزون ذلك إلا بشرطين أن يتقدمها نفي أو نهي وأن يعاد العامل،وتأملوا هذه الآية بأن {أو} للتخيير،والمعنى إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول:هم
ـــــــ
1 بفتح الباء الموحدة ممنوعاً من الصرف هو سعيد بن المبارك البغدادي ولد سنة 469 وتوفى سنة 559.
(23/88)
مائة ألف،أو يقول:يزيدون.
ويرجحه أن المعطوف بـ {أو} غير مفرد بل هو كلام مبين ناسب أن يكون الحرف للإضراب.والفاء في {فَآمِنُوا} للتعقيب العرفي لأن يونس لما أرسل إليهم ودعاهم امتنعوا في أول الأمر فأخبرهم بوعيد بهلاكهم بعد أربعين يوما ثم خافوا فآمنوا كما أشار إليه قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
[149] {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}
تفريع على ما تقدم من الإنكار على المشركين وإبطال دعاويهم،وضرب الأمثال لهم بنظرائهم من الأمم ففرع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإبطال ما نسبه المشركون إلى الله من الولد. فضمير الغيبة من قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} عائد على غير مذكور يعلم من المقام.مثل نظيره السابق في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11].والمراد:التهكم عليهم بصورة الاستفتاء إذ يقولون:ولد الله،على أنهم قسموا قسمة ضيزى حيث جعلوا لله البنات وهم يرغبون في الأبناء الذكور ويكرهون الإناث،فجعلوا لله ما يكرهون.
وقد جاءوا في مقالهم هذا بثلاثة أنواع من الكفر:
أحدها:أنهم أثبتوا التجسيم لله لأن الولادة من أحوال الأجسام.
الثاني:إيثار أنفسهم بالأفضل وجعلهم لله الأقل. قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17].
الثالث:أنهم جعلوا للملائكة المقربين وصف الأنوثة وهم يتعيرون بأبي الإناث،ولذلك كرر الله تعالى هذه الأنواع من كفرهم في كتابه غير مرة.
فجملة {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} بيان لجملة {فَاسْتَفْتِهِمْ} .
وضمير {لِرَبِّكَ} مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حكاية للاستفتاء بالمعنى لأنه إذا استفتاهم يقول:ألربكم البنات،وكذلك ضمير {ولهم}محكي بالمعنى لأنه إنما يقول لهم:ولكم البنون.وهذا التصرف يقع في حكاية القول ونحوه مما فيه معنى القول مثل الاستفتاء.
[150] {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ}
{أم} منقطعة بمعنى "بل" وهي لا يفارقها معنى الاستفهام،فالكلام بعدها مقدر
(23/89)
بهمزة الاستفهام،أي بل أخلقنا الملائكة إناثا.وضمير {خَلَقْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم وهو إذا استفتاهم يقول لهم:أم خلق الملائكة،كما تقدم،والاستفهام إنكاري وتعجيبي من جرأتهم وقولهم بلا علم.
وجملة {وَهُمْ شَاهِدُونَ} في موضع الحال وهي قيد للإنكار،أي كانوا حاضرين حين خلقنا الملائكة فشهدوا أنوثة الملائكة لأن هذا لا يثبت لأمثالهم إلا بالمشاهدة إذ لا قبل لهم بعلم ذلك إلا المشاهدة. وبقي أن يكون ذلك بالخبر القاطع فذلك ما سينفيه بقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات:156]، وذلك لأن أنوثة الملائكة ليست من المستحيل ولكنه قول بلا دليل.
وضمير {وَهُمْ شَاهِدُونَ} محكي بالمعنى في الاستفتاء.والأصل:وأنتم شاهدون،كما تقدم آنفا.
[151ـ152] {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
ارتقاء في تجهيلهم بأنهم يقولون المستحيل فضلا على القول بلا دليل فلذلك سماه إفكا.والجملة معترضة بين جمل الاستفتاء.
و {أَلا} حرف تنبيه للاهتمام بالخبر.والإفك:الكذب أي قولهم هذا بعض من أكذوباتهم.ولذلك أعقبه بعطف {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} مؤكدا ب"إن" واللام،أي شأنهم الكذب في هذا وفي غيره من باطلهم، فليست الجملة تأكيدا لقوله: {مِنْ إِفْكِهِمْ} كيف وهي معطوفة.
[153ـ157] {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
عود إلى الاستفتاء،ولذلك لم تعطف لأن بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال،فالمعنى:وقل لهم:اصطفى البنات.
قرأه الجمهور {أَصْطَفَى} بهمزة قطع مفتوحة على أنها همزة الاستفهام وأما همزة الوصل التي في الفعل فمحذوفة لأجل الوصل.وقرأه أبو جعفر بهمزة وصل على أن همزة الاستفهام محذوفة.
والكلام ارتقاء في التجهيل،أي لو سلمنا أن الله اتخذ ولدا فلماذا اصطفى البنات
(23/90)
دون الذكور،أي اختار لذاته البنات دون البنين والبنون أفضل عندكم?
وجملة {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بدل اشتمال من جملة {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} فإن إنكار اصطفاء البنات يقتضي عدم الدليل في حكمهم ذلك،فأبدل {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} من إنكار ادعائهم اصطفاء الله البنات لنفسه.وقوله: {مَا لَكُمْ} : {ما} استفهام عن ذات وهي مبتدأ و {لكم} خبر.
والمعنى:أي شيء حصل لكم?وهذا إبهام فلذلك كانت كلمة "ما لك" ونحوها في الاستفهام يجب أن يتلى بجملة حال تبين الفعل المستفهم عنه نحو {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات:92]ونحو {مَا لَكَ لا تَأْمَنَنَا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:11]وقد بنيت هنا بما تضمنته جملة استفهام {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فإن {كيف} اسم استفهام عن الحال وهي في موضع الحال من ضمير {تَحْكُمُونَ} قدمت لأجل صدارة الاستفهام.وجملة {تَحْكُمُونَ} حال من ضمير {لكم} في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ} فحصل استفهامان:أحدهما عن الشيء الذي حصل لهم فحكموا هذا الحكم.وثانيهما عن الحالة التي اتصفوا بها لما حكي هذا الحكم الباطل.وهذا إيجاز حذف إذ التقدير:ما لكم تحكمون هذا الحكم،كيف تحكمونه.وحذف متعلق {تَحْكُمُونَ} لما دل عليه الاستفهامان من كون ما حكموا به منكرا يحق العجب منه فكلا الاستفهامين إنكار وتعجيب.
وفرع عليه الاستفهام الإنكاري عن تذكرهم،أي استعمال ذكرهم ـ بضم الذال وهو العقل ـأي فمنكر عدم تفهمكم فيما يصدر من حكمكم.
و {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} إضراب انتقالي فـ {أم} منقطعة بمعنى "بل" التي معناها الإضراب الإبطالي والإضراب الانتقالي.والسلطان:الحجة.والمبين:الموضح للحق.والاستفهام الذي تقتضيه {أم} بعدها إنكاري أيضا.فالمعنى:ما لكم سلطان مبين،أي على ما قلتم:إن الملائكة بنات الله.
وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا بالإتيان بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين.والأمر في قوله: {فَأْتُوا} أمر تعجيز مثل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية،أي كتاب مرسل إليكم.ومجادلتهم بهذه
(23/91)
الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة؛فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين:دعوى أن الملائكة بنات الله، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً} [الصافات:150,149].
ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوما من متكرر أقوالهم نزلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث.وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم،فذلك الانتقال ابتداء من قوله: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150]وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى،ثم قوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبرا مقطوعا بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلا من عند الله تعالى،لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك،فدليل المشاهدة منتف بالضرورة،ودليل العقل والنظر منتف أيضا إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور.
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة:أشير إلى دليل الحس بقوله: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} وإلى دليلي العقل والسمع بقوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} ،ثم فرع عليه قوله: {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهو دليل السمع.فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيره.
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي كتاب جاءهم من عند الله.وإنما عين لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحدا من خلقه،فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخبارا من الله في أن ينزل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوزون ذلك لقولهم: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [ الإسراء:93]،ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب.
فذكر لفظ "كتابكم" إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال:فأتوا به،أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتابا من عند الله.وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإيصال،والتقدير:بكتاب إليكم،لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدى إلى المكتوب إليه بنفسه بل
(23/92)
بواسطة حرف الجر وهو "إلى".
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموا فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلا باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:152,151]الواقع معترضا بين الترديد في الدليل.
وأما قوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه،وهذا يسمى المعارضة.وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخر الجدل معهم هو الدليل الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم.
وقرأ الجمهور {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الدال بعد قلبها ذالا لقرب مخرجيهما.وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفا.
[158] {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}
عطف على جملة {لَيَقُولُونَ} [ الصافات:151]أي شفَّعوا قولهم: {وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:152]، فجعلوا بين الله وبين الجن نسبا بتلك الولادة،أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسبا.
و {الْجِنَّةُ} :الجماعة من الجن،فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رجلة،الطائفة من الرجال، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجن،أي من فريق نساء من الجن من أشراف الجن،وتقدم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في سورة الأعراف[184].
والنسب:القرابة العمودية أوالأفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف،أي ذوي لله تعلى وهو نسب النبوة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى،أي جعلوا لله تعالى نسبا للجنة للجنة نسبا لله.وقوله: {بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ}ي جوز أن يكون
(23/93)
حالا من {نَسَباً} أي كائنا بينه وبين الجنة،أي أن نسبه تعالى،أي نسله سبحانه ناشئ من بينه وبين الجن. ويجوز أن يكون متعلقا بـ {جعلوا} ،أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسبا له،أي جعلوا من ذلك نسبا يتولد له،فقوله: {بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} هو كقولك:بين فلان وفلانة بنون،أي له منها ولها منه بنون، وهذا المعنى هو مراد من فسره بان جعلوا الجن أصهارا لله تعالى،فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثيرا،لأن هذا الإطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغترر به.ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوة والنبوة،وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} إعادة لما تقدم من قوله: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:152,151]ومن قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات:150].
ومن ذهب إلى أن المراد من {الْجِنَّةُ} أصل الجنة وهو الشيطان وأن معنى الآية:أنهم جعلوا الله نسيبا للشيطان نسب الأخوة،تعالى الله عن ذلك.على أنه إشارة إلى قول الثنوية من المجوس بوجود إله للخير هو الله،وإله للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إله الخير "يَزْدَانَ" وإله الشر "أَهْرُمَُنْ" وقالوا كان إله الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إله الشر هو "أهرُمُن" وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله:
قال أناسٌ باطلٌ زعمهم ... فراقبوا الله ولا تزعُمُنْ
فكر "يزدانُ" على غِرة ... فصيغ من تفكيره "أهرمُن"
وهذا الدين كان معروفا عند بعض العرب في الجاهلي من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفا بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات،ولأن الجنة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم.
وجملة {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} معترضة بين جملة {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} وبين جملة {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159] {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} الخ..حال والواو حالية،وضمير {أنهم} عائد إلى المشركين أو إلى الجنة،والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان.والمحضرون:المجلوبون للحضور،والمراد:محضرون للعقاب،بقرينه مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد،والغالب في فعل الإحضار أن يراد به إحضار
(23/94)
سوء قال تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]ولذلك حذف متعلق "محضرون"،فأما الإتيان بأحد لإكرامه فيطلق عليه المجيء.والمعنى:أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذبا فاحشا يجازون عليه بالإحضار للعذاب،فجعل "محضرون" كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك.وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى،ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع.ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]أي ستلم الجنة ذلك يوم القيامة.والمقصود:أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم.
[159] {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}
اتبعت حكاية قولهم الباطل والوعيد عليه باعتراض بين المستثنى منه والمستثنى يتضمن إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه،فهو إنشاء من جانب الله تعالى لتنزيهه،وتلقين للمؤمنين بأن يقتدوا بالله في ذلك التنزيه،وتعجيب من فظيع ما نسبوه إليه.
[160] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}
اعتراض بين جملة {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]وجملة {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:161]الآية،والاستثناء منقطع،قيل نشأ عن قوله: {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]. والمعنى لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون وقيل عن قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]أي لكن عباد الله المخلصين لا يصفونه بذلك،وقيل من ضمير {وَجَعَلُوا} [الصافات:158]أي لكن عباد الله المخلصين لا يجعلون ذلك.وهو من معنى القول الثاني،فالمراد بالعباد المخلصين المؤمنون.
والوجه عندي:أن يكون استثناء منقطعا نشأ عن قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:159]فهو مرتبط به لأن "ما يصفون" أفاد أنهم يصفون الله بأن الملائكة بناته كما دل عليه قوله: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} [الصافات:149].
والمعنى:لكن الملائكة عباد الله المخلصين، فالمراد من {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الملائكة فهذه الآية في معنى قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
(23/95)
[161ـ163] {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}
عُقب قولهم في الملائكة والجن بهذا لأن قولهم ذلك دعاهم إلى عبادة الجن وعبادة الأصنام التي سولها لهم الشيطان وحرضهم عليها الكهانُ خَدَمةُ الجن فعقب ذلك بتأييس المشركين من إدخال الفتنة على المؤمنين في إيمانهم بما يحاولون منهم من الرجوع إلى الشرك،أو هي فاء فصيحة،والتقدير:إذا علمتم أن عباد الله المخلصين منزهون عن مثل قولكم،فإنكم لا تفتنون إلا من هو صالي الجحيم.
فيجوز أن يكون هذا الكلام داخلا في حيز الاستفتاء من قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} [الصافات:149]الآية.ويجوز أن يكون تفريعا على قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات:158]الآية.والواو في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} واو العطف أو واو المعية وما بعدها مفعول معه والخبر هو {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} .وضمير {أنتم} خطاب للمشركين مثل ضمير "إنكم".
والمعنى:أنكم مصطحبين بالجن الذين تعبدونهم لا تفتنون أحدا.ووجه ذكر المفعول معه أنهم كانوا يموهون للناس أن الجن تنفع وتضر وأن الأصنام كذلك وكانوا يخوفون الناس من باسها وانتقامها كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم ودعاها إلى الإسلام:"ألا تخشى على الصبية من ذي الشرى?قال:لا" فأسلمت وكانوا يزعمون أن من يسب الأصنام يصيبه البرص أو الجذام.
قال ابن إسحاق:"لما قدم ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر على قومه من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله:"باسَت اللاتُ والعزى".فقالوا:"يا ضمام اتق الجذام اتق الجنون".ولا يستقيم أن تكون الواو عاطفة لأن الأصنام لا يسند إليها الإفتان.
وجوز في "الكشاف" أن يكون قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} مفعولا معه سادا مسد خبر "إن"،والمعنى:فإنكم مع ما تعبدون،أي فإنكم قرناء لآلهتكم لا تبرحون تعبدونها،وهذا كما يقولون كل رجل وضيعته أي مع ضيعته،أي مقارن لها.
و {مَا تَعْبُدُونَ} صادق على الجن لقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام:100]لأن الجن تصدر منهم فتنة الناس بالإشراك دون الأصنام إذ لا يتصور ذلك منها قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ}
(23/96)
[الفرقان:17]الآية.
وضمير {عَلَيْهِ} يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الجلالة في قوله: {لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:152] أو في قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} [الصافات:160]،ويجوز أن يعود إلى {مَا تَعْبُدُونَ} بمراعاة إفراد اسم الموصول وهو {ما} .
وحذف مفعول "فاتنين" لقصد العموم.والتقدير:بفاتنين أحدا،ومعياره صحة الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} فالاستثناء مفرغ والمستثنى مفعول {بِفَاتِنِينَ}. وحرف "على" يتعلق بـ"فاتنين" إما لتضمين "فاتنين" معنى مفسدين إن كان الضمير المجرور بها عائدا إلى اسم الجلالة كما يقال:فسد العبد على سيده وخلق فلان المرأة على زوجها،وتكون "على" للاستعلاء المجازي لأن تضمين مفسدين فيه معنى الغلبة.وإما لتضمينه معنى حاملين ومسؤولين ويكون "على" بمعنى لام التعليل كقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]ويكون تقدير مضاف بين "على" ومجرورها تقديره:على عبادة ما تعبدون،والمعنى:أنكم والشياطين لا يتبعكم أحد في دينكم إلا من عرض نفسه ليكون صالي الجحيم،وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:43,42].
ورسم في المصحف {صَالِ الْجَحِيمِ} بدون ياء بعد اللام اعتبارا بحالة الوصل فإن الياء لا ينطق بها فرسمه كاتب المصحف بمثل حالة النطق،ولذلك ينبغي أن لا يتوقف على {صَالِ} .
[164ـ166] {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}
فيجوز أن يكون عطفا على قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]على أول الوجهين في المعنى بعباد الله المخلصين فيكون عطفا على معنى الاستثناء المنقطع لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى،وعطف عليه أنهم يتبرأون من ذلك فالواو عاطفة قولا محذوفا يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل.والتقدير:ويقولون ما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون،وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله: {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} وقوله: {الصَّافُّونَ} {الْمُسَبِّحُونَ} :الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن كما تقدم في أول السورة وصفهم بالصافات،
(23/97)
ووصفهم بالتسبيح كثير كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]،وذكر مقاماتهم في قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21,20]وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14,13].
وفي أحاديث كثيرة مثلا حديث الإسراء أن جبريل وجد في كل سماء ملكا يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ويسأله الملك:من أنت?ومن معك?وهل أرسل إليه?فإذا قال:نعم، فتح له.وعن مقاتل أن قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} إلى {الْمُسَبِّحُونَ} نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال له النبي: "أهنا تفارقني" فقال:"لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني"وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الآيتين.
ويجوز أن يكون هذا مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين عطفا على التفريع الذي في قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات:161]إلى آخره ويتصل الكلام بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} [الصافات:149]إلى هنا.والمعنى:ما أنتم بفاتنيننا فتنة جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم: الملائكة بنات الله والجن أصهار الله فما إلا له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقية لله والعبودية له.
والمنفي بـ {ما} محذوف دل عليه وصفه بقوله: {مِنَّا} .والتقدير:وما أحد منا كما في قول سحيم بن وثيل:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
التقدير:ابن رجل جلا.
والخبر هو قوله: {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} .والتقدير:ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم.
والمقام:أصله مكان القيام.ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حكي في قول نوح: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس:71]أي عملي.
والمعلوم:المعين المضبوط،وأطلق عليه وصف {مَعْلُومٌ} لأن الشيء المعين المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمله علمه.والمعنى:ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة
(23/98)
عقب قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162,161]،أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام النبوة لله تعالى ولا نشبه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لجلاله كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [الأنعام:100].
فقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي وإنا معشر المسلمين،الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفا بالصلاة.ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبها بنظام الملائكة.قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" ،والمراد بالمسبحين المنزهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدا أو يكون خلق صهرا له أو صاحبة خلافا لشرككم إذ عبادتكم مكاء وتصدية وخلافا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارا.وحذف متعلق {الصَّافُّونَ... الْمُسَبِّحُونَ} لدلالة قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [بالصافات:162]عليه،أي الصافون لعبادته المسبحون له،فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشؤون الله تعالى.وتعريف جزأي الجملة، وضمير الفصل من قوله: {لَنَحْنُ} يفيدان قصرا مؤكدا فهو قصر قلب،أي دون ما وصفتموه به من النبوة لله.
[167ـ170] {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
انتقال من ذكر كفر المشركين بتعدد الإله وبإنكار البعث وما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من السحر والجنون ثم بما نسبوا لله مما لا يليق بإلهيته وما تخلل ذلك من المواعظ والوعيد لهم والوعد للمؤمنين والعبرة بمصارع المكذبين السابقين وما لقيه رسل الله من أقوامهم.
فانتقل الكلام إلى ذكر ما كفر به المشركون من تكذيب القرآن الذي أنزله الله هدى لهم،فالمقصود من هذا هو قوله: {فَكَفَرُوا بِهِ} أي الذكر،وإنما قدم له في نظم الكلام ما فيه تسجيل عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين يودون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين ويرجون لو كان ذلك أن يكونوا عبادا لله مخلصين له فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به وذلك أفظع الكفر لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره إذ كانوا يتمنونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثله فلم يكن كفرهم عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر.
(23/99)
وتأكيد الخبر بـ {إن} المخففة من الثقلية وبلام الابتداء الفارقة بين المخففة والنافية للتسجيل عليهم بتحقيق وقوع ذلك منهم ليسد عليهم باب الإنكار.وإقحام فعل {كَانُوا} للدلالة على أن خبر "كان" ثابت لهم في الماضي.والتعبير بالمضارع في "يقولون" لإفادة أن ذلك تكرر منهم.
و {لو} شرطية وسدت {أن} وصلتها مسد فعل الشرط وهو كثير في الكلام.
والذكر:الكتاب المقروء،سمي ذكرا لأنه الناس بما يجب عليهم مسمى بالمصدر.وتقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في سورة الحجر[6].
و {مِنَ الْأَوَّلِينَ} صفة لـ {ذكرا} ،والمراد بـ {الْأَوَّلِينَ} الرسل السابقون،و {من} ابتدائية،أي ذكرا جائيا من الرسل الأولين،أي مثل موسى وعيسى.ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين،فذكر في جواب {لو}ما هو أخص من الإيمان ليفيد معنى الإيمان بدلالة الفحوى.
وفي جملة {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} صيغة قصر من أجل كون المسند إليه معرفة بالإضمار والمسند بالإضافة،أي لكنا عباد الله دون غيرنا،ولما وصف المسند بـ {الْمُخْلَصِينَ} وهو معرف بلام الجنس حصل قصر عباد الله الذين لهم صفة الإخلاص في المسند شبيهين بالمنفردين بالإخلاص لعدم الاعتداد بإخلاص لعدم الاعتداد بإخلاص غيرهم في جانب إخلاصهم.وهو يؤول إلى معنى تفضيل أنفسهم في الإخلاص لله حينئذ،كما صرح به في قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام:157].
والفاء في قوله: {فَكَفَرُوا بِهِ} للتعقيب على فعل {لَيَقُولُونَ} ،أي استمر قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به،أو للفضيحة،والتقدير:فكان عندهم ذكر فكفروا به،فالضمير عائد إلى الذكر وهو القرآن قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41].وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} [فاطر:42].
وبهذا كان للوعيد بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} موقعه المصادف المجز من الكلام،
(23/100)
وهوله بما ضمنه من الإبهام.و"سوف" أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال.
[171ـ173] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}
تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تضمنه قوله: {فَكَفَرُوا بِهِ} [الصافات:170]وبيان لبعض الوعيد الذي في قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات:170]بمنزلة بدل البعض من الكل ولكنه غلب عليه جانب التسلية فعطف بالواو عطف القصة على القصة.
والكلمة مراد بها الكلام،عبر عن الكلام بكلمة إشارة إلى أنه منتظم في معنى واحد اللفظ كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وبينت الكلمة بجملة {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} أي الكلام المتضمن وعدهم بأن بنصرهم الله على الذين كذبوهم وعادوهم وهذه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم عقب تسليته لأنه داخل في عموم المرسلين.
وعطف {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} بشارة للمؤمنين فإن المؤمنين جند الله،أي أنصاره لأنهم نصروا دينه وتلقوا كلاه،كما سموا حزب الله في قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]إلى قوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]إلى قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[المجادلة:22].وقوله: {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} يشمل علوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا،وعلوهم عليهم في الآخرة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]فهو من استعمال {الْغَالِبُونَ} في حقيقته ومجازه.
ومعنى {الْمَنْصُورُونَ} و {الْغَالِبُونَ} في أكثر الأحوال وباعتبار العاقبة،فلا ينافي أنهم يغلبون نادرا ثم تكون لهم العاقبة،أو المراد النصر والغلبة الموعود بهما قريبا وهما ما كان يوم بدر.
[174ـ175] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
(23/101)
هذا مفرع على التسلية التي تضمنها قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [الصافات:171].التولي حقيقته: المفارقة كما تقدم في قصة إبراهيم { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90]،واستعمل هنا مجازا في عدم الاهتمام بما يقولونه وترك النكد من إعراضهم.
والحين:الوقت.وأجمل هنا إيماء إلى تقليله،أي تقريبه، فالتنكير للتحقير المعنوي وهو التقليل.ومعنى {أَبْصِرْهُمْ} أنظر إليهم،أي من الآن،وعدي "أبصر" إلى ضميرهم الدال على ذواتهم،وليس المراد النظر إلى ذواتهم لكن إلى أحوالهم،أي تأمل أحوالهم تر كيف نصرك عليهم،وهذا وعيد بما حل بهم يوم بدر.
وحذف ما يتعلق به الإبصار من حال أو مفعول معه بتقدير:وأبصرهم مأسورين مقتولين،أو وأبصرهم وما يقصى به عليهم من أسر وقتل لدلالة ما تقدم من قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173,172]عليه،إذ ليس المأمور به أيضا ذواتهم،وهذا من دلالة الاقتضاء.وصيغة الأمر في {وَأَبْصِرْهُمْ} مستعملة في الإرشاد على حد قول:
إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ ... فدعه وواكل أمره واللياليا
أي إذا شئت أن تتحقق قرارة حاله فانتظره.
وعبر عن ترتيب نزول الوعيد بهم بفعل الإبصار للدلالة على أن ما توعدوا به واقع لا محالة وأنه قريب حتى أن الموعود بالنصر يتشوف إلى حلوله فكان ذلك كناية عن تحققه وقربه لأن تحديق البصر لا يكون إلا إلى شيء أشرف على الحلول.
وتفريع {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} على {وَأَبْصِرْهُمْ} تفريع لإنذارهم بوعيد قريب على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقربه فإن ذلك البصر يسر النبي صلى الله عليه وسلم ويحزن أعداءه،ففي الكلام اكتفاء، كنه قيل:أبصرهم وما ينز بهم فسوف تبصر ما وعدناك وليبصروا ما ينزل بهم فسوف يبصرونه. وحذف مفعول {يُبْصِرُونَ} لدلالة ما دلت عليه الاقتضاء.
واعلم أن تفريع {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} على {وَأَبْصِرْهُمْ} يمنع من إرادة أن يكون المعنى:وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب بعد ذلك الحين كما لا يخفى.
[176ـ17] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}
هذا تفريع على التأجيل المذكور في قوله: {حَتَّى حِينٍ} [الصافات:174]فإن ذلك ما
(23/102)
أنذرهم بعذاب يحل بهم توقع أنهم سيقولون على سبيل الاستهزاء أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجله لنا.
وبعض المفسرين ذكر أنهم قالوه فلوحظ ذلك وفرع عليه استفهام تعجيبي من استعجالهم ما في تأخيره والنظرة به رأفة بهم واستبقاء لهم حينا.
والفاء في قوله: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} فاء الفصيحة،أي كانوا يستعجلون بالعذاب فإذا نزل بهم فبئس وقت نزوله.وإسناد النزول إلى العذاب وجعله في ساحتهم استعارة تمثيلية مكنية،شبهت هيئة حصول العذاب لهم بعد ما أنذروا به فلم يعبأوا بهيئة نزول جيش عدو في ساحتهم بعد أن أنذرهم به النذير العريان فلم يأخذوا أهبتهم حتى أناخ بهم.
وذكر الصباح لأنه من علائق الهيئة المشبهه بها فإن شأن الغارة أن تكون في الصباح ولذلك كان نذير المجيء بغارة عدو ينادي:يا صباحاه نداء ندبة وتفجيع.ولذلك جعل جواب "إذا" قوله: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أي بئس الصباح صباحهم.
وفي وصفهم بـ {الْمُنْذَرِينَ} ترشيح للتمثيل وتورية في اللفظ لأن المشبهين منذرون من الله بالعذاب. والذين يسوء صباحهم عند الغارة هم المهزومون فكأنه قيل: فإذا نزل بساحتهم كانوا مغلوبين.وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه في التشبيه بأن يشبه العذاب بالجيش،وحلوله بهم بنزول الجيش بساحة قوم وما يلحقهم من ضر العذاب بضر الهزيمة،ووقت نزول العذاب بهم بتصبيح العدو محلة قوم.قال في "الكشاف":"وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل".
واعلم أن في اختبار هذا التمثيل البديع معنى من الإيماء إلى أن العذاب الذي وُعِدوه هو ما أصابهم يوم بدر من قتل وأسر على طريقة التورية.
[178ـ179] {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
عطف على جملة {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات:177]الآية لأن معنى المعطوف عليها الوعد بأن الله سينتقم منهم فعطف عليه أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهتم بعنادهم.
وهذه نظير التي سبقتها المفرعة بالفاء فلذلك يحصل منها تأكيدا نظيرتها،على أنه قد
(23/103)
يكون هذا التولي غير الأول وإلى حين آخر وإبصار آخر،فالظاهر أنه تول عمن يبقى من المشركين بعد حلول العذاب الذي استعجلوه، فيحتمل أن يكون حينا من أوقات الدنيا فهو إنذار بفتح مكة. ويحتمل أن يكون إلى حين من أحيان الآخرة،وإنما جعل ذلك غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه العذاب عنهم غاية لتولي النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لأن توليه عنهم مستمر إلى يوم القيامة فإن مدة لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لما كانت متصلة بتوليه عنهم جعلت تلك المدة كأنها ظرف للتولي ينتهي بحين إحضارهم للعقاب،فيكون قوله: {حَتَّى حِينٍ} مرادا به الأبد.
وحذف مفعول {وَأَبْصِرْ} في هذه الآية لدلالة ما في نظيرها عليه.
[180ـ182] {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم تذييلا لخطابه المبتدأ بقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} [الصافات:149]الآية.فإنه خلاصة جامعة لما حوته من تنزيه الله وتأييده رسله.وهذه الآية فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمة على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم.
وهذه المقاصد الثلاثة هي أصول كمال النفوس في العاجل والآجل،لأن معرفة الله تعالى بما يليق به تنقذ النفس من الوقوع في مهاوي الجهالة المفضية إلى الضلالة فسوء الحالة.وإنما يتم ذلك بتنزيهه عما لا يليق به.فأشار قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الخ إلى تنزيهه،وأشار وصف {رَبِّ الْعِزَّةِ} إلى التوصيف بصفات الكمال،فإن العزة تجمع الصفات النفسية وصفات المعاني والمعنوية لأن الربوبية هي كمال الاستغناء عن الغير،ولما كانت النفوس وإن تفاوتت في مراتب الكمال لا تسلم من نقص أو حيرة كانت في حاجة إلى مرشدين يبلغونها مراتب الكمال بإرشاد الله تعالى وذلك بواسطة الرسل إلى الناس وبواسطة المبلغين من الملائكة إلى الرسل.وكانت غاية ذلك هي بلوغ الكمال في الدنيا والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة.وتلك نعمة تستوجب على الناس حمد الله تعالى على ذلك لأن الحمد يقتضي اتصاف المحمود بالفضائل وإنعامه بالفواضل وأعظمها نعمة الهداية بواسطة الرسل فهم المبلغون إرشاد الله إلى الخلق.
و {رَبِّ} هنا بمعنى:مالك.ومعنى كونه تعالى مالك العزة:أنه منفرد بالعزة
(23/104)
الحقيقية وهي العزة التي لا يشوبها افتقار، فإضافة {رَبِّ} إلى {الْعِزَّةِ} على معنى لام الاختصاص كما يقال:صاحب صدق،لمن اختص بالصدق وكان عريقا فيه.وفي الانتقال من الآيات السابقة إلى التسليح والتسليم إيذان بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم.
والتعريف في {الْعِزَّةِ} كالتعريف في {الْحَمْدُ}هو تعريف الجنس فيقتضي انفراده تعالى به لأن ما يثبت لغيره من ذلك الجنس كالعدم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وتنكير {سَلامٌ} للتعظيم.ووصف {الْمُرْسَلِينَ} يشمل الأنبياء والملائكة فإن الملائكة مرسلون فيما يقومون به من تنفيذ أمر الله.
روى القرطبي في تفسيره بسنده إلى يحيى بين يحيى التميمي النيسابوري إلى أبي سعيد الخدري قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول آخر صلاته أو حين ينصرف {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} .
ومن المروي عن علي بن أبي طالب:"من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} إلى آخر السورة،وفي بعض أسانيده أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح".
(23/105)
بسم الله الرحمن الرحيم
38ـ سورة ص
سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف "سورة صاد" كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد "بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقوف" شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة،أي ساكنة الأعجاز.وأما قول المعري يذكر سليمان عليه السلام:
وهو من سخرت له الإنس والج ... ن بما صح من شهادة صاد
فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة "لأن الكسر أصل في التخلص من السكون" كقول امرئ القيس:
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وفي "الإتقان" عن كتاب "جمال القراء" للسخاوي:"أن سورة ص تسمى أيضا سورة داود" ولم يذكر سنده في ذلك.وكتب اسمها في المصاحف بصورة حرف صاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور اتباعا لما كتب في الصحف.وهي مكية في قول الجميع،وذكر في "الإتقان" أن الجعبري حكى قولا بأنها مدنية,قال السيوطي:"وهو خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية".وعن الداني في كتاب "العدد" بأنها مدنية وقال:"إنه ليس بصحيح".
وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السورة نزلت بعد سورة { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وقبل سورة الأعراف.وعدت آيها ستا وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدها أيوب بن المتوكل البصري خمسا وثمانين.وعدت عند أهل الكوفة ثمانا وثمانين.
روى الترمذي عن ابن عباس قال:"مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم
(23/106)
وعند أبي طالب مجلس رجل،فقام أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجلس وشكوه إلى أبي طالب،فقال:"يا بن أخي ما تريد من قومك?"قال:"إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية".قال:" كلمة واحدة". قال:"يا عم يقولوا لا إله إلا الله" فقالوا:"أإلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق،قال فنزل فيهم القرآن {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7]"
قال:"حديث حسن".فهذا نص في أن نزولها في آخر حياة أبي طالب وهذا المرض مرض موته كما في أبن عطية فتكون هذه الصورة قد نزلت في سنة ثلاث قبل الهجرة.
أغراضها
أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها.وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكبرهم عن قبول ما أرسل به،وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونه وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم وما جوزوا عن صبرهم،واستطراد الثناء على داود وسليمان وأيوب،وأتبع ذكر أنبياء آخرين لمناسبة سنذكرها.وإثبات البعث لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر.وجزاء المؤمنين المتقين وضده من جزاء الطاغين والذين أضلوهم وقبحوا لهم الإسلام والمسلمين.ووصف أحوالهم يوم القيامة.
وذكر أول غواية حصلت وأصل كل ضلالة وهي غواية الشيطان في قصة السجود لآدم.وقد جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون،وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم،ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء.
[1] {ص~ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}
{ص~}
القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل
(23/107)
بعض السور بدون فرق إنها مقصودة للتهجي تحديا لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتوركا عليهم إذ عجزوا عنه واتفق أهل العد على أن {ص~} ليس بآية مستقلة بل هي في مبدأ آية إلى قوله: {ذِي الذِّكْرِ} وإنما لم تعد {ص~} {ق~} [ق:1]آية لأنها حرف واحد كما لم يعد {ق~} [ق:1] و {ن~} [القلم:1]آية.
{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}
الواو للقسم أقسم بالقرآن قسم تنويه به.ووصف بـ {ذِي الذِّكْرِ} لأن {ذي} تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به.
و {الذكر} :التذكير،أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون.ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى:الذي يذكر،بالبناء للنائب،أي والقرآن المذكور،أي الممدوح المستحق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]أي شرفكم.
وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين:أولهما أن يكون محذوفا دل عليه حرف {ص~} فإن المقصود منه التحدي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضتهم بأنه كلام بلغتهم ومؤلف من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته. فالتقدير:والقرآن ذي الذكر أنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإتيان بمثله.
وثانيها:الذي أرى أن الجواب محذوف أيضا دل عليه الإضراب الذي في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [صّ:2]بعد أن وصف القرآن بـ {ذِي الذِّكْرِ} ،لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذِكر ومُوقظ للعقول فكأنه قيل:إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقائق يجحدون أنه ذكر ويقولون: سحر مفترى وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]،فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق،وليس حرف ص هو المقسم عليه مقدما على القسم،أي ليس دليل الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق.
والغرض من حذف جواب القسم هنا الإعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عنادا أو شقاقا منهم.
(23/108)
[2] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}
و {بَلِ} للإضراب الإبطالي وهذا نوع من الإضراب الإبطالي نبه عليه الرغب في "مفردات القرآن" وأشار إليه في "الكشاف"،وتحريره أنه ليس إبطالا محضا للكلام السابق بحيث يكون حرف {بَلِ} فيه بمنزلة حرف النفي كما هو غلاب الإضراب الإبطالي،ولا هو إضراب انتقالي،ولكن هذا إبطال لتوهم ينشأ عن الكلام الذي قبله إذ دل وصف القرآن بـ {ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]أن القرآن مذكر سامعيه تذكيرا ناجعا،فعقب بإزالة توهم من يتوهم أن عدم تذكر الكفار ليس لضعف في تذكير القرآن ولكن لأنهم متعززون مشاقون،فحرف {بَلِ} في مثل هذا بمنزلة حرف الاستدراك،والمقصود منه تحقيق أنه ذو ذكر،وإزالة الشبهة التي قد تعرض في ذلك.
ومثله قوله تعالى: {ق~ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [قّ:2,1]،أي ليس امتناعهم من الإيمان بالقرآن لنقص في علوه ومجده ولكن لأنهم عجبوا أن جاءهم به رجل منهم.
ولك أن تجعل {بَلِ} إضراب انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه،لأن في بيان ذلك السبب تحقيقا للتنويه بالقرآن كما يقال:دع ذا وخذ في حديث..،كقول امرئ القيس:
فدَع ذا وَسَلِّ الهم عنك بجَسرة ... ذمول إذا صام النهارُ وهَجرا
وقال زهير:
دَع ذا وعَدِّ القولَ في هَرم ... خير البُداة وسيد الحَضر
وقول الأعشى:
فَدع ذا ولكن ما ترى رأي كاشح ... يرى بيننا من جهله دَقَّ مَنشم
وقول العجاج:
دع ذا وبَهِّجْ حَسباً مبَهَّجاً
ومعنى ذلك أن الكلام أخذ في الثناء على القرآن ثم انقطع عن ذلك إلى ما هو أهم وهو بيان سبب أعراض المعرضين عنه لاعتزازهم بأنفسهم وشقاقهم،فوقع العدول عن جواب القسم استغناء بما يفيد مفاد ذلك الجواب.
(23/109)
وإنما قيل {الَّذِينَ كَفَرُوا} دون "الكافرون" لما في صلة الموصول من الإيماء إلى الإخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق.والعزة تحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جاريا على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزورة قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة:206]،أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان، وهي هنا عزة باطلة أيضا لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس.وضد العزة الذلة قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]وقال السموال أو غيره:
وما ضَرنا أنَّا قليل وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذَليل
و {في} للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة.والمعنى:متلبسون بعزة على الحق.
والشقاق:العناد والخصام.والمراد:وشقاق لله بالشرك ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب. والمعنى:أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق.
[3] {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [صّ:3]
استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بيانا له،وهذه الجملة معترضة بين جملة {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [صّ:2]،وبين جملة {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [صّ:4].
وكان هذا بيان إخبارا مرفقا بحجة من قبيل قياس تمثيل، لأن قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمنا تحذيرا من التريث عن إجابة دعوة الحق،أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم.فالتقدير:سيجازون على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جوزيت أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب.
و {كم} اسم دال على عدد كثير.و {مِنْ قَرْنٍ} تمييز لإبهام العدد،أي عددا كثيرا من القرون،وهي في موضع نصب بالمفعولية لـ {أَهْلَكْنَا} .
(23/110)
والقرن:الأمة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين} [المؤمنون:42].و {مِنْ قَبْلِهِمْ} يجوز أن يكون ظرفا مستقرا جعل صفة لـ {قَرْنٍ} مقدمة عليه فوقعت حالا،وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمام إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العزة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم.ويجوز أن يكون متعلقا بـ {أَهْلَكْنَا} على أنه ظرف لغو،وقدم على مفعول فعله مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماما به إيماء إلى الإهلاك كما في الوجه الأول.
وفرع على الإهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم،تحذيرا من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم.والمراد بالنداء في {فَنَادَوْا} نداؤهم الله تعالى تضرعا،وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12].وقوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64].
وجملة {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} في موضع الحال،والواو واو الحال،أي نادوا في الحال لا حين مناص لهم.
و {لاتَ} حرف نفي بمعنى "لا" المشبهة بـ"ليس" و {لاتَ} حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها.وهي مركبة من "لا" النافية وصلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثا لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم:"رُبَّت وثُمَّت".
والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... والآن أقحم حتى لات مقتحم
وأغفل شارحو ديوانه كلهم وقد أدخل {وَلاتَ} على غير اسم زمان.وأيا ما كان فقد صارت "لا" بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفا مستقلا خاصا بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو:رُبَّت وثَمَّتَضض.
وزعم أبو عبيد القاسم بن سلام أن التاء في {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} متصلة بـ {حِينَ} وأنه رآها في مصاحف عثمان متصلة بـ {حِينَ} وزعم أن هذه التاء تدخل على:حين وأوان وآن1 يريد أن التاء لاحقة لأول الاسم الذي بعد "لا" ولكنه لم يفسر لدخولها معنى.وقد
ـــــــ
1 يشير إلى قول أبي زبيد:
(23/111)
اعتذر الأئمة عن وقوع التاء متصلة بـ {حِينَ} في بعض نسخ المصحف الإمام بأن رسم المصحف قد يخالف القياس، على أن ذلك لا يوجد في غير المصحف الذي رآه أبو عبيد من المصاحف المعاصرة لذلك المصحف والمرسومة بعده.والمناص:النجاء والفوت،وهو مصدر ميمي،يقال:ناصة،إذا فاته.
والمعنى:فنادوا مبتهلين في حال ليس وقت نجاء وفوت، أي قد حق عليهم الهلاك كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85].
[4ـ5] {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
عطف على جملة {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [صّ:2]فهو من الكلام الواقع الإضراب للانتقال إليه كما وقع في قوله تعالى: {قْ~ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [قّ:2,1].
والمعنى:أنه استقر في نفوسهم استحالة بعثة رسول منهم فذلك سبب آخر لانصرافهم عن التذكير بالقرآن.
والعجب حقيقته:انفعال في النفس ينشأ عن علم بأمر غير مترقب وقوعه عن النفس،ويطلق عن إنكار شيء نادر على سبيل المجاز بعلاقة اللزوم كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} في سورة هود[73]فإن محل العتاب هو كون امرأة إبراهيم أحالت أن تلد،وهي عجوز وكذلك إطلاقه هنا.والمعنى:وأنكروا وأحالوا أن جاءهم منذر منهم.
والمنذر:الرسول،أي منذرهم لهم بعذاب على أفعال متلبسون بها.
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وإلى قول جميل:
نولي قبل ناي داري جمانا ... وحلينا كما زعمت قلانا
(23/112)
وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف المنذر:ووُصف بأنه منهم للإشارة إلى سوء نظرهم من عجبهم لأن شأن النذير أن يكون من القوم ممن ينصح لهم فكونه منهم أولى من أن يكون من غيرهم.
ثم إن كان التبعيض المستفاد من حرف "من" مرادا به أنه بعض العرب أو بعض قريش فأمر تجهيلهم في عجبهم من هذا النذير بيّن؛وإن كان مرادا به أنه بعض البشر وهو الظاهر فتجهيلهم لأن من كان من جنسهم أجدر بأن ينصح لهم من رسول من جنس آخر كالملائكة،وهذه جدارة عرفية.وهذا العجب تكرر تصريحهم به غير مرة فهو مستقر في قرارة نفوسهم،وهو الأصل الداعي لهم إلى الإعراض عن تصديقه فلذلك ابتدئت به حكاية أقوالهم التي قالوها في مجلس شيخ الأباطح كما تقدم في ذكر سبب النزول.
{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
بعد أن كُشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك،إشارة بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك.
وفي قوله: {الْكَافِرُونَ} وضع الظاهر موقع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال "وقالوا هذا ساحر" الخ،وهذا لقصد وصفهم بأنهم كافرون بربهم مقابلة لما وصموا به النبي صلى الله عليه وسلم فوصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروبا من الشتم تأصيلا وتفريعا وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال.
ولفظ {هذا} أشاروا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، استعملوا اسم الإشارة لتحقير مثله في قوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكور في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإشارة إليه.وجعلوا حاله سحرا وكذبا لأنهم لما لم تقبل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه مثل كون الإله واحدا أو كونه يعيد الموتى أحياء سحرا إذ كانوا يألفون من السحر أقوالا غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة[102]. وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذبا.وبينوا ذلك بجملتين:إحداهما: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}،والثانية جملة {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ:8].
(23/113)
فجملة {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} بيان لجملة {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ،أي حيث عدوه مباهتا لهم بقلب الحقائق والأخبار بخلاف الواقع.
الهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي ولذلك أتبعوه بما هو كالعلة لقولهم {سَاحِرٌ} وهو {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي يتعجب منه كما يتعجب من شعوذة الساحر.
و {عُجَابٌ} :وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيرا لأن وزن فعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل:طوال،المفرط في الطول،وكرام بمعنى الكثير الكرام،فهو أبلغ من كريم،وقد ابتدأوا الإنكار بأول أصل من أصول كفرهم فإن أصول كفرهم ثلاثة:الإشراك،وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار البعث،والجزاء في الآخرة.
[6ـ7] {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}
الانطلاق حقيقته:الانصراف والمشي،ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه، ونظيره في ذلك:ذهب بفعل كذا،كما في قول النبهاني:
فإن كنتَ سيِّدنا سدْتَنا ... وإن كنت للخال فاذْهب فَخلْ
وكما في قوله تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} في سورة الكهف[14].
وقيل:إن الانطلاق هنا على حقيقته،أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب.و {الْمَلَأُ} :سادة القوم.قال ابن عطية:"قائل ذلك عقبة بن أبي معيط".وقال غير ابن عطية:"إن من القائلين أبا جهل"، والعاصي بن وائل،والأسود بن عبد يغوث.
و {أن} تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسير بكلام مقول،وإن كان الانطلاق على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل {هَذَا سَاحِرٌ} [صّ:4]إلى قوله: {عُجَابٌ} [صّ:5] يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ماذا يصنعون.ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ماذا يصنعون فكان ذلك مقتضيا تحاورا وتقاولا احتيج إلى تفسير بجملة {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} الخ.والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة،أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة،واشتغلوا بالثبات على آلهتكم.ويجوز أن يكون مجازا في
(23/114)
الاستمرار على دينهم كما يقال:كما سار الكرام،أي اعمل كما عملوا،ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة.
والصبر:الثبات والملازمة،يقال:صبر الدابة إذا ربطها،ومنه سمي الثبات عند حلول الضر صبرا لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع،ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42].
وحرف {على} يدل على تضمين {اصبروا} معنى:اعكفوا وأثبتوا،فحرف {على} هنا للاستعلاء المجازي وهو المتمكن مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].وليس هو حرف {على} المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10]فإن ذلك بمعنى "مع"،ولذلكم يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم:48]،ولا بد هنا من تقدير مضاف،أي على عبادة آلهتكم،فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به في الكلام فكان.
وجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أراده لغرض أي ليس صادقا ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال:هذا أمر دبر بليل،فالإشارة بـ {هَذَا} إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أن يقولوا:لا إله إلا الله.
وقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} من كلام الملأ.والإشارة إلى ما أشير إليه بقولهم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ،أي هذا القول وهو {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5].
والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} لأن عدم سماح مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع.وإعادة اسم الإشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه.وفي وقوله: {بِهَذَا} تقدير مضاف،أي بمثل هذا الذي يقوله.ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتهام بالكذب.
و {الْمِلَّةِ} :الدين،قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} في سورة البقرة[120]،وقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} في سورة يوسف[38,37].
(23/115)
و {الْآخِرَةِ} :تأنيث الآخر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [ العنكبوت:20].
والمجرور من قوله: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من اسم الإشارة بيانا للمقصود من الإشارة متعلقا بفعل {سَمِعْنَا} .والمعنى:ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتد به.ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد بـ {الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} دين النصارى،وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإله بأن دين النصارى الذي قبل الإسلام أثبت تعدد الآلهة،ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة.ويجوز أن يريدوا {الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} الملة التي هم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احتضاره حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" .فقالوا له جميعا:" أترغب عن ملة عبد المطلب".فقولهم: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى.
وجملة {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} مبينة لجملة {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء بـ {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} فهده الجملة كالفذلكة لكلامهم.
والاختلاق:الكذب المخترع الذي لا شبهة لقائله.
[8] {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}
يجوز أن يكون {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} من كلام عموم الكافرين المحكي بقوله: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ صّ:4]فيكون متصلا بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5]ويكون قوله {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} بيانا لجملة {كَذَّابٌ} [صّ:4]،لأن تقديره:هذا كذاب إذ هو خبر ثان لـ"كان"، ولكونه بيانا للذي قبله لم يعطف عليه ويكون ما بينهما من قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [صّ:6]إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7]اعتراضا بين جملتي البيان.
ويجوز أن يكون تمام كلام الملأ واستغني به عن بيان جملة {كَذَّابٌ} لأن نطق الملأ به كاف في قول الآخرين بموجبه فاستغنوا عن بيان جملة {كَذَّابٌ} .
والاستفهام إنكاري،ومناط الإنكار هو الظرف {مِنْ بَيْنِنَا} وهو في موضع حال من
(23/116)
ضمير {عَلَيْهِ} ،فأنكروا أن يخص محمد صلى الله عليه وسلم بالإرسال وإنزال القرآن دون غيره منهم،وهذا هو المحكي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]أي من مكة أو الطائف ولم يريدوا بهذا الإنكار تجويز أصل الرسالة عن الله وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد فإنهم أنكروا أصل الرسالة كما اقتضاه قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [صّ:4]وغيره من الآيات،وهذا الأصل الثاني من أصول كفرهم التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5]وهو أصل إنكار بعثة رسول منهم.
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي}
يجوز أن يكون هذا جوابا عن قولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي ليس قصدهم الطعن في اختصاصك بالرسالة ولكنهم شاكون في أصل إنزاله،فتكون {بل} إضرابا إبطاليا تكذيبا لما يظهر من إنكارهم إنزال الذكر عليه من بينهم على ما تقدم،أي إنما قصدهم الشك في أن الله يوحي إلى أحد بالرسالة، فيكون معنى {فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} شكا من وقوعه.والشك يطلق على اليقين مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق والتقيد فيكون كمعنى قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].ويجوز أن يكون انتقالا من خبر عنهم إلى خبر آخر فيكون استئنافا وتكون {بل} للإضراب الانتقالي،والمعنى:وهم في شك من ذكري،أي في شك من كنه القرآن،فمرة يقولون: افتراه،ومرة يقولون:شعر،ومرة:سحر،ومرة:أساطير الأولين،ومرة:قول كاهن.فالمراد بالشك حقيقته أي التردد في العلم.وإضافة الذكر إلى ضمير المتكلم وهو الله تعالى إضافة تشريف ولتحقيق كونه من عند الله.والذكر على هذا الوجه هو عين المراد من قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وإنما وقع التعبير عنه بالظاهر دون الضمير توصلا إلى التنويه به بأنه من عند الله.
و {في} للظرفية المجازية،جعلت ملابسة الشك إياهم بمنزلة الظرف المحيط بمحويه في أنه لا يخلو منه جانب من جوانبه.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ ذِكْرِي} ابتدائية لكون الشك صفة لهم،أي نشأ لهم الشك من شأن ذكري،أي من جانب نفي وقوعه،آو في جانب ما يصفونه به.
{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}
أتبع ذلك الإضراب بإضراب آخر يبين أن الذي جرأهم على هذا الشقاق أنهم لما
(23/117)
تأخر حلول العذاب بهم ظنوا وعيده كاذبا فأخذوا في البذاءة والاستهزاء ولو ذاقوا العذاب لألقمت أفواههم بالحجر.
و {لَمَّا} حرف نفي بمعنى "لم" إلا أن في {لَمَّا} خصوصية،وهي إنها تدل على المنفي بها متصل الانتفاء إلى وقت التكلم بخلاف "لم" فلذلك كان النفي بـ {لَمَّا} قد يفهم منه ترقب حصول المنفي بعد ذلك قال صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} في سورة الحجرات[14]:"ما في {لَمَّا} من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد،أي دال بطريقة المفهوم الحاصل من معنى غاية النفي إلى زمن المتكلم،أي لا أضمن ما بعد ذلك،وقد ذاقوا عذاب السيف يوم بدر بعد نزول هذه الآية بأربع سنين".
وإضافة {عَذَابِ} إلى ياء المتكلم لاختصاصه بالله لأنه مقدره وقاض بهم عليهم ولوقعه على حالة غير جارية على المعتاد إذ الشأن أن يستأصل الجيش القوي الجيش القليل.وحذفت ياء المتكلم تخفيفا للفاصلة،وأبقيت الكسرة دليلا عليها وهو حذف كثير في الفواصل والشعر على نحو حذفها من المنادى.
[9] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}
{أَمْ} منقطعة وهي للإضراب أيضا وهو إضراب انتقالي فإن {أَمْ} مشعرة باستفهام بعدها هو للإنكار والتوبيخ إنكارا لقولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ:8]أي ليست خزائن فضل الله تعالى عندهم فيتصدوا لحرمان من يشاءون حرمانه من مواهب الخير فإن المواهب من الله يصيب بها من يشاء فهو يختار للنبوءة من يصطفيه وليس الاختيار لهم فيجعلوا من لم يقدموه عليهم في دينهم غير أهل لأن يختاره الله.
وتقديم الظرف للاهتمام لأنه مناط الإنكار وهو كقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32].
والخزائن:جمع خزانة بكسر الخاء.وهي البيت الذي يخزن فيه المال أو الطعام،ويطلق أيضا على صندوق من خشب أو حديد يخزن فيه المال.
والخزن:الحِفْظ والحِرْز.والرحمة:ما به رفق بالغير وإحسان إليه،شبهت رحمة الله بالشيء النفيس المخزون الذي تطمح إله النفوس في أنه لا يعطي إلا بمشيئة خازنه على طريقة الاستعارة المكنية. وإثبات الخزائن:تخييل مثلى إثبات الأظفار للمنية،
(23/118)
والإضافة على معنى لام الاختصاص.والعدول عن اسم الجلالة إلى وصف لأن له مزيد مناسبة للغرض الذي الكلام فيه إيماء إلى أن تشريفه إياه بالنبوءة من آثار صفة ربوبيته له لأن وصف الرب مؤذن بالعناية والإبلاغ إلى الكمال.وأجري على الرب صفة {الْعَزِيزِ} لإبطال تدخلهم في تصرفاته، وصفة {الْوَهَّابِ} لإبطال جعلهم الحرمان من الخير تابعا لرغباتهم دون موادة الله تعالى.
و {الْعَزِيزِ} :الذي لا يغلبه شيء، {الْوَهَّابِ} :الكثير المواهب فإن النبوءة رحمة عظيمة فلا يخول إعطائها إلا لشديد العزة وافر الموهبة.
[10] {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}
إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مزاعمهم ويشمل بإجماله جميع النقوض التفصيلية لمزاعمهم بكلمة جامعة كالحوصلة فيشبه التذييل لما يتضمنه من عموم الملك وعموم الأماكن المقتضي عموم العلم وعموم التصرف ينعى عليهم قولهم في المغيبات بلا علم وتحكمهم في مراتب الموجودات بدون قدرة ولا غنى.
والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} المنقطعة تهكمي وليس إنكاري لأن تفريغ أمر التعجيز عليه يعين أنه تهكمي.فالمعنى:إن كان لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فكان لهم شيء من ذلك فليصدعوا إن استطاعوا في أسباب السماوات ليخبروا حقائق الأشياء فيتكلموا عن علم في كنه الإله وصفاته وفي إمكان البعث وعدمه وفي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضده وليفتحوا خزائن الرحمة فيفيضوا منها على من يعجبهم ويحرموا من لا يرمقونه بعين استحسان.
والأمر في {فليرتقوا} للتعجيز مثل قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15]
والتعريف في {الْأَسْبَابِ}لعهد الجنس لأن المعروف أن لكل محل مرتفع أسبابا يصعد بها إليه كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنايَا ينلْنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلّم
وقول الأعشى:
فلو كنتَ في حِبّ ثمانين قامة ... ورُقيتَ أسباب السماء بسلّم
والسبب:الحبل الذي يتعلق به الصاعد إلى النخلة للجذاذ،فإن جعل من حبلين
(23/119)
ووصل بين الحبلين بحبال معترضة مشدودة أو بأعواد بين الحبلين مضفور عليها جنبتا الحبلين فهو السلم.وحرف الظرفية استعارة تبعية للتمكن من الأسباب حتى كأنها ظروف محيطة بالمرتقين.
[11] {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}
يجوز أن يكون استئنافا يتصل بقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [صّ:3]الآية أريد به وصل الكلام السابق فإنه تقدم قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [صّ:2]وتلاه قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} الآية.فلما تقضى الكلام على تفصيل ما للذين كفروا من عزة وشقاق وما لذلك من الآثار ثني العنان إلى تفصيل ما أهلك من القرون أمثالهم من قبلهم في الكفر ليفضي به إلى قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [صّ:12]إلى قوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} [ صّ:14]
فتكون جملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} بدلا من جملة {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} بدل بعض من كل.ويجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا مستقلا خارجا مخرج البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بان هؤلاء جند من الأحزاب مهزوم،أي مقدر انهزامه في القريب،وهذه البشارة معجزة من الإخبار بالغيب ختم بها وصف أحوالهم.قال قتادة:"وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر". وقال الفخر:"إشارة إلى فتح مكة".وقال بعض المفسرين:"إشارة إلى نصر يوم الخندق".
وعادة الأخبار الجارية مجرى البشارة أو النذارة بأمر مغيب أن تكون مرموزة والرمز في هذه البشارة هو اسم الإشارة من قوله: {هُنَالِكَ} فإنه ليس في الكلام ما يصلح لأن يشار إليه بدون تأول فلنجعله إشارة إلى مكان أطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مكان بدر.ويجوز أن يكون لفظ {الْأَحْزَابِ} في هذه الآية إشارة خفية إلى انهزام الأحزاب أيام الخندق فإنها عرفت بغزوة الأحزاب.وسمّاهم الله {الْأَحْزَابِ} في السورة التي نزلت فيهم، فتكون تلك التسمية إلهامها كما ألهم الله المسلمين فسموا حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهو يومئذ بينهم سليم المزاج، وهذا في عداد المعجزات الخفية التي جمعنا طائفة منها في كتاب خاص.ولعل اختيار اسم الإشارة البعيد رمز إلى أن هذا الانهزام سيكون في مكان بعيد غير مكة فلا تكون الآية مشيرة إلى فتح مكة لأن ذلك الفتح لم يقع فيه عذاب للمكذبين بل عفا الله عنهم وكانوا الطلقاء.
(23/120)
وهذه الإشارة قد علمها النبي صلى الله عليه وسلم وهي الأسرار التي بينه وبين ربه حتى كان المستقبل تأويلها كما علم يعقوب سر رؤيا ابنه يوسف،فقال له: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5].ولم يعلم يوسف تأويلها إلا يوم قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100]يشير إلى سجود أبويه له.
وأما ظاهر الآية الذي تلقاه الناس يوم نزولها فهو أن الجند هم كفار أهل مكة وأن التنوين فيه للنوعية،أي ما هم إلا جند من الجنود الذين كذبوا فأهلكوا،وأن الإشارة بـ {هُنَالِكَ} إلى مكان اعتباري وهو ما هم فيه من الرفعة الدنيوية العرفية وأن الانهزام مستعار لإضعاف شوكهم،وعلى التفسير الظاهر والموؤل لا تعدو الآية أن تكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له وبشارة بأن دينه سيظهر عليهم.
والجند:الجماعة الكثيرة قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:18,17].
و {ما} حرف زائد يؤكد معنى ما قبله فهي توكيد لما دل عليه {جُنْدٌ} بمعناه وتنكيره للتعظيم، أي جند عظيم،لأن التنوين وإن دل على التعظيم فليس نصا فصار بالتوكيد نصا.وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في سورة البقرة[26]،فإن كانت الآية مشيرة إلى يوم بدر فتعظيم {جُنْدٌ} لأن رجاله عظماء قريش مثل أبي جهل وأمية بن خلف، وإن كانت مشيرة إلى يوم الأحزاب فتعظيم {جُنْدٌ} لكثرة رجاله من قبائل العرب.
ووصف {جُنْدٌ} بـ {مَهْزُومٌ} على معنى الاستقبال،أي سيهزم،واسم المفعول كاسم الفاعل مجاز في الاستقبال،والقرينة حالية وهو من باب استعمال ما هو للحال في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه فكأنه من القرب بحيث هو كالواقع في الحال.
و {الْأَحْزَابِ} :والذين على رأي واحد يتحزب بعضهم لبعض،وتقدم في سورة الأحزاب.
و {مِن} للتبعيض.والمعنى:أن هؤلاء الجند من جملة الأمم وهو تعريض لهم بالوعيد بأن يحل بهم ما حل بالأمم،قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [ غافر:31,30]
(23/121)
[12ـ14] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}
لما كان قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [صّ:11]تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدا له بالنصر وتعريضا بوعيد مكذبيه بأنهم صائرون إلى ما صارت إليه الأحزاب الذين هؤلاء منهم كما تقدم آنفا جيء بما هو كالبيان لهذا التعريض.والدليل على المصير المقصود على طريقة قياس المساواة وقد تقدم آنفا أن هذه الجملة:إما بدل من جملة {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} الخ،وإما استئناف ولذلك فصلت عن التي قبلها.
وحذف مفعول {كَذَّبَتْ} لأنه سيرد ما يبينه في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} كما سيأتي.وخص فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل فكذب موسى فأمر الله موسى بمجادلة فرعون لإبطال كفره فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون،ثم كان فرعون،ثم كان فرعون عقب ذلك مضمرا أذى موسى ومعلنا بتكذيبه.
ووصف فرعون بأنه بـ {ذُو الْأَوْتَادِ} لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله.وأصل {الْأَوْتَادِ} أنه:جمع وتد بكسر التاء:عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به الطنب،وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقة البيت والخيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت قال الأفوه الأوديّ:
والبيت لا يبتنى إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
و {الْأَوْتَادِ} في الآية مستعار لثبات الملك والعز،كما قال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقيل: {الْأَوْتَادِ} :البناءات الشاهقة.وهو عن ابن عباس والضحاك،سميت الأبنية أوتاد لرسوخ أسسها في الأرض.وهذا القول هو الذي يتأيد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعني في هذه الآية هو "منفتاح الثاني" الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في زمنه وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأسر التي تداولت ملك مصر،وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر وكانت مدة حكمهم مائة وأربعا وسبعين سنة من سنة "1462" قبل المسيح إلى سنة "1288" ق.م.
وقال الأستاذ محمد عبده في "تفسيره" للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر:
(23/122)
"وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض"اهـ.وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون موسى منفتاح الثاني فكان منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها وليس يفيد قوله: {ذُو الْأَوْتَادِ} أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام.وذلك كما يقال:ذو النيل وقال تعالى حكاية عنه: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
وأما {ثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ} فتقدم الكلام عليهم غير مرة. {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} و:هم أهل مدين،وقد تقدم خبرهم وتحقيق أنهم من قوم شعيب وأنهم مختلطون مع مدين في سورة الشعراء.
وتقدير ذكر فرعون على ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة مع أن قصته حدثت بعد قصصهم لأن حاله مع موسى أشبه بحال زعماء أهل الشرك بمكة من أحوال الأمم الأخرى فإنه قاوم موسى بجيش كما قاوم المشركون المسلمين بجيوش.
وجملة {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} معترضة بين جملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} وجملة {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} .واسم الإشارة مستعمل غفي التعظيم،أي تعظيم القوة.
والتعريف في {الْأَحْزَابُ} استغراق ادعائي وهو المسمى بالدلالة على معنى الكمال مثل: هم القوم وأنت الرجل.والحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند إليه حصر ادعائي،قصرت صفة الأحزاب على المشار إليهم بـ {أُولَئِكَ} بادعاء الأمم وأن غيرهم لما يبلغون مبلغ أن يعدوا من الأحزاب فظاهر القصر ولام الكمال لتأكيد معنى الكمال كقول الأشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلُّ القومُ يا أم خالد
والمعنى:أولئك المذكورون هم الأمم لا تضاهيهم أمم في القوة والشدة.وهذا تعريض بتخويف مشركي العرب من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك على حد قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} في سورة غافر[22,21].
وجملة {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} مؤكد لجملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى قوله:
(23/123)
{وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ} ،أخبر أولا عنهم بأنهم كذبوا وأكد ذلك بالإخبار عنهم بأنهم ليسوا إلا مكذبين على وجه الحصر كأنهم لا صفة لهم إلا تكذيب الرسل لتوغلهم فيها وكونها هجيراهم.و {إِنْ} نافية وتنوين {كُلٌّ} تنوين عوض،والتقدير:أن كلهم.
وجيء بالمسند فعلا في قوله: {كَذَّبَ الرُّسُلَ} ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي فحصل بهذا النظم أكيد الحصر.
وتعدية الكذب {كَذَّبَ} إلى {الرُّسُلَ} بصيغة الجمع مع أن كل أمة إنما كذبت رسولها،مقصود منه تفظيع التكذيب لأن الأمة إنما كذبت رسولها مستندة لحجة سفسطائية هي استحالة أن يكون واحد من البشر رسولا من الله فهذه السفسطة تقتضي أنهم يكذبون جميع الرسل.وقد حصل تسجيل التكذيب عليهم بفنون من تقوية ذلك التسجيل وهي إبهام مفعول {كُذِّبَتْ} في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ثم تفصيله بقوله: {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} وما في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} من الحصر،وما في تأكيده بالمسند الفعلي في قوله: {إِلَّا كَذَّبَ} ،وما في جعل المكذب به جميع الرسل،فأنتج ذلك التسجيل استحقاقهم عذاب الله في قوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} ،أي عقابي،فحدفت ياء المتكلم للرعاية على الفاصلة وأبقيت الكسرة في حالة الوصل.
وحق:تحقق،أي كان حقا،لأنه اقتضاه عظيم جرمهم.والعقاب:هو ما حل بكل أمة منهم من العذاب وهو الغرق والتمزيق بالريح،والغرق أيضا،والصيحة،والخسف،وعذاب يوم الظلة.
وفي هذا تعريض بالتهديد لمشركي قريش بعذاب مثل عذاب أولئك لا تحادهم في موجِبِه.
[15] {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}
لما أشعر قوله: {فَحَقَّ عِقَابِ} [صّ:14]بتهديد مشركي قريش بعذاب ينتظرهم جريا على سنة الله في جزاء المكذبين رسله،عطف على جملة الإخبار عن حلول العذاب بالأحزاب السابقين جملة توعد بعذاب الذين ما تلوهم في التكذيب.
و {هَؤُلاءِ} إشارة إلى كفار قريش لأن تجدد دعوتهم ووعيدهم وتكذيبهم يوما فيوما جعلهم كالحاضرين فكانت الإشارة مفهوما منها إليهم،وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته إذا استعمل {هَؤُلاءِ} ولم يكن معه مشار إليه مذكور:أنه يريد به المشركين من
(23/124)
أهل مكة كما نبهت عليه فيما مضى غير مرة.
و {يَنْظُرُ} مشتق من النظر بمعنى الانتظار قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنعام:158]،أي ما ينتظر المشركون إلا صيحة واحدة،وهذا كقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:102].
والمتبادر من الآية أنها تهديد بصيحة صاعقة ونحوها كصيحة ثمود أو صيحة النفخ في الصور التي يقع عندها البعث للجزاء،ولكن ما سبق ذكره آنفا من أن قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [صّ:11]إيماء إلى بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن معانديه سيهزمون ويعمل فيهم السيف يوم بدر، يقتضي أن الصيحة صيحة القتال وهي أن يصيح النذير:يا صباحاه كما صاح الصاروخ بمكة حين تعرض المسلمون لعير قريش ببدر.ووصفها بـ {وَاحِدَةً} إشارة إلى أن الصاعقة عظيمة مهلكة،أو أن النفخة واحدة وهي نفخة الصعق،وفي خفي المعنى إيماء إلى أن القوم يبتدرون إلى السلاح ويخرجون مسرعين لإنقاذ غيرهم فكانت الوقعة العظيمة وقعة يوم بدر أو صيحة المبارزين للقتال يومئذ.
وأسند الانتظار إليهم في حين أنهم غافلون عن ذلك ومكذبون بظاهره إسناد مجازي على طريقة المجاز العقلي فإنهم ينتظر بهم ذلك المسلمون الموعودون بالنصر،أو ينتظر بهم الملائكة الموكلون بحشرهم عند النفخة،فلما كانوا متعلق الانتظار أسند إلى فعل {يَنْظُرُ} إليهم لملابسة المفعولية على نحو {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21].
والفواق،بفتح الفاء وضمها:اسم لما بين حلبتي حالب الناقة ورضعتي فصيلها،فإن الحالب يحلب الناقة ثم يتركها ساعة ليرضعها فصيلها ليدر اللبن في الضرع ثم يعودون فيحلبونها،فالمدة التي بين الحلبتين تسمى فَواقا.وهي ساعة قليلة وهم قبل ابتداء الحلب يتركون الفصيل يرضعها لتدرّ بالبن.وجمهور أهل اللغة على أن الفتح والضم فيه سواء،وذهب أبو عبيدة والفراء إلى أن بين المفتوح والمضموم فرقا فقالا:المفتوح بمعنى الراحة مثل الجواب من الإجابة،والمضموم اسم للمدة.واللبن المجتمع في تلك الحصة يسمى:الفيقة بكسر الفاء،وجمعُها أفاويق.
ومعنى {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} ليس بعدها إمهال بقدر الفواق،وهذا كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يّس:50,49].
(23/125)
وقرأ الجمهور {فَوَاقٍ} بفتح الفاء.وقرأه حمزة والكسائي بضم الفاء.
[16] {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}
حكاية حالة استخفافهم بالبعث والجزاء وتكذيبهم ذلك،وتكذيبهم بوعيد القرآن إياهم فلما هددهم القرآن بعذاب الله قالوا:ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب في الدنيا قبل يوم الحساب إظهار لعدم اكتراثهم بالوعيد وتكذيبه،لئلا يظن المسلمون أن استخفافهم بالوعيد لأنهم لا يؤمنون بالبعث فأبانوا لهم أنهم لا يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في كل وعيد حتى الوعيد بعذاب الدنيا الذي يعتقدون أنه في تصرف الله.فالقول هذا قالوه على وجه الاستهزاء وحكي عنهم هنا إظهار لرقاعتهم وتصلبهم في الكفر.
وهذا الأصل الثالث من أصول كفرهم المتقدم ذكرها وهو إنكار البعث والجزاء فهو عطف على {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [صّ: 4]فذكر قولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5]،ثم ذكر قولهم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ صّ:8]وما عقبه من عواقب مثل ذلك القول، أفضى القول إلى أصلهم الثالث.قيل:قائل ذلك النضر ابن الحارث،وقيل:أبو جهل والقوم حاضرون راضون فأسند القول إلى الجميع.
والقط:هو القسط من الشيء،ويطلق على قطعة من الورق أو الرق أو الثوب التي يكتب فيها العطاء لأحد ولذلك يفسر بالصك،وقد قال المتلمس في صحيفة عمرو بن هند التي أعطاه إياها إلى عامله بالبحرين يوهمه أنه أمر بالعطاء وإنما هي أمر بقتله وعرف المتلمس ما يحتوي عليه فألقاها في النهر وقال في صحيفة المضروب بها المثل:
وألقيتُها بالثني من جنب كافر ... كذلك يلقى كل قِطٍّ مضلِّل
فالقط يطلق على ما يكتب فيه عطاء أو عقاب،والأكثر أنه ورقة العطاء،قال الأعمشى:
ولا الملك النعمان يوماً لقيتُه ... بأمته يعطي القُطوط ويَأْفق
ولهذا قال الحسن:"إنما عنوا عجل لنا النعيم الذي وعدتنا به الإيمان حتى نراه الآن فنوقن".
وعلى تسليم اختصاص القط بصك العطاء لا يكون ذلك مانعا من قصدهم تعجيل العقاب بأن يكونوا سموا الحظ من العقاب قطا على طريق التهكم،كما قال تعالى عمرو بن
(23/126)
كلثوم إذ جعل القتال قرى:
قريناكم فعجلنا قِراكم ... قبيل الصبح مِرْدَاة طحونا
فيكونون قد أدمجوا تهكما في تهكم إغراقا في التهكم.
وتسميتهم {يَوْمِ الْحِسَابِ} أيضا من التهكم لأنهم لا يؤمنون بالحساب.
[17ـ20] {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
أعقبت حكاية أقوالهم من التكذيب ابتداء من قوله: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [صّ:4]إلى هنا،بأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على قولهم إذ كان جميعها أذى:إما صريحا كما قالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [صّ:6]،وإما ضمنا وذلك ما في سائر أقوالهم من إنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بقولهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [صّ:16]من إثبات أن الإله واحد،ويشمل ما يقولونه مما لم يحك في أول هذه السورة.
وقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} إلى آخره يجوز أن يكون عطفا على قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} بأن أتبع أمره بالصبر وبالائتساء ببعض الأنبياء السابقين فيما لقوه من الناس ثم كانت لهم عاقبة النصر وكشف الكرب.ويجوز أن يكون عطفا على مجموع ما تقدم عطف القصة والغرض هو هو.وابتدئ بذكر داود لأن الله أعطاه ملكا وسلطانا لم يكن لآبائه ففي ذكره إيماء إلى أن شأن محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى العزة والسلطان،ولم يكن له سلف ولا جند فقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بحال داود عليه السلام.
وأدمج في خلال ذلك الإيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى واتقاء مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة إبعاده لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلل وتأديبا له في أول أمره وآخره مما أن يتلقى بالعذل.وكان داود أيضا قد صبر على ما لقيه من حسد شاول "طالوت" ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين.
فالمصدر المتصرف {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} هو الذكر بضم الذال وهو التذكر
(23/127)
وليس هو ذِكر اللسان لأنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لتسليته وحفظ كماله لا ليعلمه المشركين ولا لِيُعْلِمه المسلمين على أن كلا الأمرين حاصل تبعا حين إبلاغ المنزل في شأن داود إليهم وقراءته عليهم.ومعنى الأمر بتذكر ذلك تذكر ما سبق إعلام النبي صلى الله عليه وسلم به من فضائله وتذكير ما عسى أن يكون لم يعلمه مما يعلم به في هذه الآية.
ووصف داود بـ {عَبْدَنَا} وصف تشريف بالإضافة بقرينه المقام كما تقدم عند قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} في سورة الصافات[40].
والأيد:القوة والشدة،مصدر:آد يئيد،إذا اشتد وقوي،ومنه التأييد التقوية،قال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} في سورة الأنفال[26].
وكان داود قد أعطى قوة نادرة وشجاعة وإقداما عجيبين وكان يرمي الحجر بالمقلاع فلا يخطئ الرمية،وكان يلوي الحديد ليصنعه سردا للدروع بأصابعه،وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد.
وجملة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل للأمر بذكره إيماء إلى أن الأمر لقصد الاقتداء به،كما قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]،فالجملة معترضة بين جملة {وَاذْكُرْ} وجملة بيانها وهي {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} .
والأواب:الكثير الأوب،أي الرجوع.والمراد:الرجوع إلى ما أمر الله به والوقوف عنده حدوده وتدارك ما فرط فيه.والتائب يطلق عليه الأواب،وهو غالب استعمال القرآن وهو مجاز ولا تسمى التوبة أوباً،و"زبور" داود المسمى عند اليهود "بالمزامير" مشتمل على كثير من الاستغفار وما في معناه من التوبة.
وجملة {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} بيان لجملة {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} أي اذكر فضائله وما أنعمنا عليه من تسخير الجبال وكيت وكيت،و {مَعَهُ} ظرف لـ {يُسَبِّحْنَ} ،وقدم على متعلقه للاهتمام بمعيته المذكور،وليس ظرفا لـ {سَخَّرْنَا} لاقتضائه،وتقدم تسخير الجبال والطير لداود في سورة الأنبياء.
وجملة {يُسَبِّحْنَ} حال.واختير الفعل المضارع دون الوصف الذي هو الشأن في الحال لأنه أريد الدلالة على تجدد تسبيح الجبال معه كلما حضر فيها، ولما في المضارع من استحضاره تلك الحالة الخارقة للعادة. والتسبيح أصله قول:سبحان الله،ثم أطلق على الذكر وعلى الصلاة،ومنه حديث عائشة:"لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الصبح وإني
(23/128)
لأسبحها"،وليس هذا المعنى مرادا هنا لأن الجبال لا تصلي والطير كذلك ولأن داود لا يصلي في الجبال إذ الصلاة في شريعتهم لا يقع إلا في المسجد وأما الصلاة في الأرض فهي من خصائص الإسلام.
والعشي:ما بعد العصر.يقال:عشي وعشية.و {الْأِشْرَاقِ} :وقت ظهور ضوء الشمس واضحا على الأرض وهو وقت الضحى،يقال:أشرقت الأرض ولا يقال:أشرقت الشمس،وإنما يقال:شرقت الشمس وهو من باب قد،ولذلك كان قياس المكان منه المشرق بفتح الراء ولكنه لم يجيء إلا بكسر الراء.ووقت طلوع الشمس هو المشرق ووقت الإشراق الضحى،يقال:شرقت الشمس ولما تشرق، ويقال:كلما ذر شارق،أي كلما طلعت الشمس.والباء في بـ {بِالْعَشِيِّ} للظرفية فتعين أن المراد بالإشراق وقت الإشراق.
والمحشورة:المجتمعة حوله عند قراءته الزبور.وانتصب {مَحْشُورَةً} على كل الحال من {الطير} .ولم يؤت في صفة الطير بالحشر بالمضارع كما جيء به في {يُسَبِّحْنَ} إذ الحشر يكون دفعة فلا يقتضي المقام دلالة على تجدد ولا على استحضاره الصورة.
وتنوين {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} عوض عن المضاف إليه.والتقدير:كل المحشورة له أواب،أي كثير الرجوع إليه،أي يأتيه من مكان بعيد.وهذه معجزة له لأن شأن الطير النفور من الإنس.وكلمة {كل} على أصل معناها من الشمول.و {أَوَّابٌ} هذا غير {أَوَّابٌ} في قوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} فلم تكرر الفاصلة.واللام في {لَهُ أَوَّابٌ} لام التقوية،وتقديم المجرور على متعلقه للاهتمام بالضمير المجرور.
والشد:الإمساك وتمكن اليد مما تمسكه،فيكون لقصد النفع كما هنا،ويكون لقصد الضر كقوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة يونس[88].
فشد الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبه أعدائه عليه في حروبه.وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت.
و {الْحِكْمَةَ} :النبوة.والحكمة في الأعم:العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي،وقد اشتمل كتاب "الزبور" على حكم جمة.
و {فَصْلَ الْخِطَابِ} :بلاغه الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان، ووصف القول بـ"الفصل" وصف المصدر،أي فاصل.والفاصل:الفارق بين شيئين،وهو ضد الواصل، ويطلق مجازا على ما يميز شيئا عن الاشتباه بضده.
وعطفه
(23/129)
هنا على الحكمة قرينة على استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17].
والمعنى:أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلم جاء بكلام فاصل بين الحق والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء،وحسبك بكتابة "الزبور" المسمى عند اليهود بـ"المزامير" فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم.
وعن أبي الأسود الدؤلي:" {فَصْلَ الْخِطَابِ} هو قوله في خطبه "أما بعد" قال:"وداود أول من قال ذلك،ولا أحسب هذا صحيحا لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية،وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود.فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر،والإضافة حقيقة.وأول من قال "أما بعد" هو سحبان وائل خطيب العرب،وقيل: {فَصْلَ الْخِطَابِ} القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإضافة إلى الخطاب.
واعلم أن محمد صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أواباً،وهو القائل: "إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" ،وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل،وعرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهبا فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحمام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة.وشد الله ملك الإسلام له،وكفاه عدوه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل،وآتاه الحكمة،وآتاه فصل الخطاب قال: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا" بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته،قال تعالى في وصف القرآن {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14,13].
[21ـ25] {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً
(23/130)
وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}
جملة {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} إلى آخرها معطوفة على جملة {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} [صّ:18]. والإنشاء هنا في معنى الخبر،فإن هذه الجملة قصت شأنا من شأن داود مع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها.
والاستفهام مستعمل في التعجيب أو في البحث على العلم فإن كانت القصة معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم كان الاستفهام مستعملا في التعجيب وإن كان هذا أول عهده بعلمها كان الاستفهام للحث مثل {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية :1].والخطاب يجوز أن يكون لكل سامع والوجهان الأولان قائمان.والنبأ:الخبر.
والتعريف في {الْخَصْمِ} للعهد الذهني،أي عهد فرد غير معين من جنسه أي نبأ خصم معين هذا خبره، وهذا مثل التعريف في:ادخل السوق.والخصام والاختصام:المجادلة والتداعي،وتقدم في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} في سورة الحج[19].
و {الْخَصْمِ} :اسم يطلق على الواحد واكثر،وأريد به هنا خصمان لقوله بعده: {خَصْمَانِ} .وتسميتها بالخصم مجاز بعلاقة الصورة وهي من علاقة المشابهة في الذات لا في صفة من صفات الذات،وعادة علماء البيان أن يمثلونها بقول القائل إذا رأى صورة أسد:هذا أسد.
وضمير الجميع مراد به المثنى،والمعنى:إذ تسورا المحراب،والعرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة لأن في صيغة التثنية ثقلا لندرة استعمالها،قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]أي قلباكما.
و {إِذْ تَسَوَّرُوا} إذا جعلت {إذ} ظرفا للزمن الماضي فهو متعلق بمحذوف دل عليه {الْخَصْمِ} ، والتقدير:تحاكم الخصم حين تسوروا المحراب لداود.
ولا يستقيم تعلقه بفعل {أَتَاكَ} ولا بـ {نَبَأُ} لأن النبأ الموقت بزمن تسور الخصم محراب داود لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم.
(23/131)
ولك أن تجعل {إذ} اسما للزمن الماضي مجردا عن الظرفية وتجعله اشتمال من الخصم لما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم:16]،فالخصم مشتمل على زمن تسورهم المحراب،وخروج {إذ} عن الظرفية لا يختص بوقوعها مفعولا به بل المراد أنه يتصرف فيكون ظرفا وغير ظرف.
والتسور:تفعل مشتق من السور،وهو الجدار المحيط بمكان أو بلد.يقال:تسور،إذا اعتلى على السور،ونظير قولهم:تسنم جمله،إذا علا سنامه،وتذرأه إذا علا ذروته،وقريب منه في الاشتقاق قولهم: صاهى،إذا ركب صهوة فرسه.
والمعنى:أن البيت عبادة داود عليه السلام كان محوطا بسور لئلا يدخله أحد إلا بأذن من حارس السور.
و {الْمِحْرَابَ} :البيت المتخذ للعبادة،وتقدم عند قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} في سورة سبأ[13].
و {إِذْ دَخَلُوا} بدل من {إِذْ تَسَوَّرُوا} لأنهم تسورا المحراب للدخول على داود.
والفزع:الذُّعر،وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة،وتقدم في قوله : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} في سورة الأنبياء[103].قال ابن العربي في كتاب "أحكام القرآن":"إن قيل:لم فزع داود وقد قويت نفسه بالنبوة?وأجاب بأن الله لم يضمن له العصمة ولا الأمن من القتل وكان يخاف منهما وقد قال الله موسى {لا تَخَفْ} وقبله قيل للوط.فهم مؤمنون من خوف ما لم يكن قيل لهم أنكم منه معصومون"اهـ.
وحاصل جوابه:أن ذلك قد عرض للأنبياء إذ لم يكونوا معصومين من إصابة الضر حتى يؤمن الله أحدهم فيطمئن والله لم يؤمن داود فلذلك فزع.وهو جواب غير تام الإقناع لأن السؤال تضمن قول السائل وقد قويت نفسه بالنبوة فجعل السائل انتفاء تطرق الخوف إلى نفوس الأنبياء أصلا بنى عليه سؤاله،وهو أجاب بانتفاء التأمين فلم يطابق سؤال السائل.وكان الوجه ينفي في الجواب سلامة الأنبياء من تطرق الخوف إليهم.
والأحسن أن نجيب:
أولا:بأن الخوف انفعال جبلي وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادئ ذي بدء ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه،فأما إذا أمن الله نبيا فذلك مقام آخر كقوله لموسى: {لا تَخَفْ} وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137].
(23/132)
وثانيا:بأن الذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف.والفزع أعم من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإحساس بشيء شأنه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعاً،أي مسرعا مبادرا للصلاة توقعا أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب"،ولذلك قال القرآن {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} ولم يقل:خاف.وقال في إبراهيم عليه السلام: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذريات:28]أي توجسا ما لم يبلغ حد الخوف.وأما قول الخصم لداود: {لا تَخَفْ} فهو قول يقوله القادم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.
وثالثا:أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سببا في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته.وقد جاء في حديث عائشة:"أن النبي صلى الله عليه والسلم أرق ذات ليلة فقال:ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح فقال:من هذا? قال:سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك.قالت:"فنام النبي صلى الله عليه والسلم حتى سمعنا غطيطه".وروى الترمذي:"أن العباس كان يحرس النبي صلى الله عليه والسلم حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فتركت الحراسة.
ومعنى {بَغَى بَعْضُنَا} اعتدى وظلم.والبغي:الظلم،والجملة صفة لـ {خَصْمَانِ} والرابط ضمير {بَعْضُنَا} ، وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعيا لمعنى {خَصْمَانِ} .
ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإيجاز بالإجمال ثم يعقبه التفصيل، ولإظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعين الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} .
والفاء في {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} تفريغ على قوله: {خَصْمَانِ} لأن داود عليه السلام لما كان ملكا وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرع على ذلك.
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة،وهي متعلقة بـ {احْكُمْ} .وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبي صلى الله عليه والسلم الذي افتدى ابنه ممن زنى بامرأته:"فاحكم بيننا بكتاب الله".
(23/133)
والنهي في {لا تُشْطِطْ} مستعمل في التذكير والإرشاد.
و {تُشْطِطْ} :مضارع أشط،يقال:أشط عليه،إذا جار عليه،وهو مشتق من الشطط وهو مجاوزة الحد والقدر المتعارف.
ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعد مثلها جفاء للحاكم والقاضي،وهو من قبيل:اتق الله في أمري.وصدوره قبل الحكم أقرب إلى معنى التذكير وأبعد عن الجفاء،فإن وقع بعد الحكم كان أقرب إلى الجفاء كالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة قسمها:"اعدل،فقال له الرسول: "ويلك فمن يعدل إن لم أعدل" .
وقد قال علماؤنا في قول الخصم للقاضي:"اتق الله في أمري" إنه لا يعد جفاء للقاضي ولا يجوز للقاضي أن يعاقبه عليه كما يعاقب من أساء إليه.وأفتى مالك بسجن فتى،فقال أبوه لمالك:"اتق الله يا مالك،فوالله ما خلقت النار باطلا"،فقال مالك:"من الباطل ما فعله ابنك".فهذا فيه زيادة بالتعريض بقوله:"فوالله ما خلقت النار باطلا".وقولهما: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} يصرف عن إرادة الجفاء من قولهما: {وَلا تُشْطِطْ} لأنهما عرفا أنه لا يقول إلا حقا وأنهما تطلبا منه الهدى.
والهدى: هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب.
و {سَوَاءِ الصِّرَاطِ} :مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل لأن الصراط الطريق الواسع،والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالا إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب.
ومجموع {اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق المواصلة فهو من التمثيل القابل تجزئة التشبيه في أجزائه،ويؤخذ من هنا أن حكم القاضي العدل يحمل على الجري على الحق وأن الحكم يجب أن يكون بالحق شرعا لأنه هدي فهو والفتيا سواء في أنهما هدى إلا أن الحكم فيه إلزام.
ومعنى {أَكْفِلْنِيهَا} اجعلها في كفالتي،أي حفظي وهو كناية عن الإعطاء والهبة،أي هبها لي.
وجملة {إِنَّ هَذَا أَخِي} إلى آخرها بيان لجملة {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوة النسب.وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في
(23/134)
معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات،ثم يجوز أن يكون {أَخِي} بدل من اسم الإشارة.ويجوز أن يكون خبر {إِنَّ} وهو أولى لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه.
و {عَزَّنِي} غلبني في مخاطبته،أي أظهر في الكلام عزة علي وتطاولا.فجعل الخطاب ظرفا للعزة مجازا لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال.
والمعنى:أنه سأله أن يعطيه نعجته،ولما رأى منه تمنعا اشتد عليه بالكلام وهدده،فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك نفس.وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإنصاف في معاملة القرابة لئلا أن يفضي الخلاف بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم.
وقد علم داود من تساوقها للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما،أو كان المدعى عليه قد اعترف.فحكم داود بأن سؤال الأخ أخاه نعجته ظلم لأن السائل في غنى عنها والمسؤول ليس له غيرها فرغبة السائل فيما بيد أخيه من فرط الحرص على المال واجتلاب النفع للنفس بدون اكتراث بنفع الآخر.وهذا ليس من شأن التحاب بين الأخوين والإنصاف منهما فهو ظلم وما كان من الحق أن يسأله ذلك أعطاه أو منعه،ولأنه تطاول عليه في الخطاب ولامه على عدم سماح نفسه بالنعجة،وهذا ظلم أيضا.
والإضافة في قوله: {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} للتعريف،أي هذا السؤال الخاص المتعلق بنعجة معروفة،أي هذا السؤال بحذافره مشتمل على ظلم،وإضافة سؤال من إضافة المصدر إلى مفعوله.وتعليق {إِلَى نِعَاجِهِ} بـ"سؤال" تعليق على وجه تضمين "سؤال" معنى الضم،كأنه قيل:بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه.
فهذا جواب قولهما: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} ثم أعقبه بجواب قولهما: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} إذ قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المفيد أن بَغْي أحد المعاشرين على عشيره متفش بين الناس غير الصالحين من المؤمنين، وهو كناية عن أمرهما بأن يكونا من المؤمنين الصالحين وأن ما فعله أحدهما ليس من شأن الصالحين وأن ما فعله أحدهما ليس من شأن الصالحين.
(23/135)
وذكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكره إليهما الظلم والاعتداء.ويستفاد من المقام أنه يأسف لحالهما،وأنه أراد تسلية المظلوم عما جرى عليه من خليطه،وأن له أسوة في اكثر الخلطاء.
وفي تذييل كلامه بقوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} حث لهما أن يكونا من الصالحين لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل،قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع،فالإنسان محفوف بجواذب السيئات،وأما دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة،وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات،وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني وأعرض عن الداعي الشهواني،فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة.
وزيادة {ما} بعد {قليل} لقصد الإبهام كما تقدم آنفا في قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} [صّ:11]،وفي هذا الإبهام إيذان بالتعجب من ذلك بمعونة السياق والمقام كما أفادت زيادتها في قول امرئ القيس:
وحديث الركب يوم هُنا ... وحديث ما على قِصره
معنى التلهف والتشوق.
وقد اختلف المفسرون في ماهية هذين الخصمين،فقال السدي والحسن ووهب بن منبّه:"كانا ملكين أرسلهما الله في صورة رجلين لداود عليه السلام لإبلاغ هذا المثل إليه عتابا له".ورواه الطبري عن أنس مرفوعا.وقيل كانا أخوين شقيقين من بني إسرائيل،أي ألهمهما الله إيقاع هذا الوعظ.
واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميما للتنويه به لدفع ما قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب "صمويل الثاني" من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [صّ:40].وبهذا
(23/136)
تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه الأنبياء.
وهذا النبأ الذي تضمنته الآية يشير به إلى قصة تزوج داود عليه السلام زوجة "أوريا الحثّي" من رجال جيشه وكان داود رآها فمال إليها ورام تزوجها فسأله أن يتنازل له عنها وكان في شريعتهم مباحا أن الرجل يتنازل عن زوجه إلى غيره لصداقة بينهما فيطلقها ويتزوجها الآخر بعد مضي عدتها وتحقق براءة رحمها كما كان ذلك في صدر الإسلام.وخرج أوريا في غزو مدينة "ربة" للعمونيين وقيل في غزو عمان قصبة البلقاء من فلسطين فقتل في الحرب وكان اسم المرأة "بشبع بنت اليعام" وهي أم سليمان.وحكى القرآن اكتفاء بأن نبأ الخصمين يشعر بها لأن العبرة بما أعقبه نبأ الخصمين في نفس داود فعتب الله على داود استعمل لنفسه هذا المباح فعاتبه بهذا المثل المشخص،أرسل إليه ملكين نزلا من أعلى سور المحراب في صورة خصمين وقصا عليه القصة وطلبا حكمه وهديه فحكم بينهما وهداهما بما تقدم تفسيره لتكون تلك الصورة عظة له ويشعر أنه كان الأليق بمقامه أن لا يتناول هذا الزواج وإن كان مباحا لما فيه من إيثار نفسه بما هو لغيره ولو بوجه مباح لأن الشعور بحسن الفعل أو قبحه قد لا يحصل عليه حين يفلعه فإذا رأى أو سمع أن واحدا عمله شعر بوصفه.
ووقع في سفر "صمويل الثاني" من كتب اليهود سوق هذه القصة على الخلاف هذا.
وليس في قول الخصمين {هَذَا أَخِي} ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكاب الكذب لأن هذا الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبر بها أن يظن المخبر "بالفتح" وقوعها إلا ريثما يحل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع.وما يجري من خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقع فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير وعلى نية المشابهة.
وفي هذا دليل شرعي على جواز وضع القصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة ولا يحتمل واضعها جرحة الكذب خلافا للذين نبزوا الحريري بالكذب في وضع المقامات كما أشار هو إليه في ديباجتها.وفيها دليل شرعي لجواز تمثيل تلك القصص بالأجسام إذا لم تخالف الشريعة،ومنه تمثيل الروايات والقصص في ديار التمثيل،فإن ما يجري في شرع من قبلنا يصلح دليلا لنا في شرعنا إذا حكاه القرآن أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد في شرعنا ما ينسخه.
(23/137)
وأخذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد،قالوا:وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى هذه الآية بناء على أن من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة.وقد حكيت هذه القصة في سفر "صمويل الثاني" في الإصحاح الحادي عشر على خلاف ما في القرآن وعلى خلاف ما تقتضيه العصمة لنبوة داود عليه السلام فاحذروه.
والذي في القرآن هو الحق،والمنتظم مع المعتاد وهو المهين عليه،ولو حكي ذلك بخير آحاد في المسلمين لوجب رده والجزم بوضعه لمعارضته المقطوع به من عصمة الأنبياء من الكبائر عند جميع أهل السنة ومن الصغائر عند المحقين منهم وهو المختار.
[24ـ25] {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}
أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع "أوريا" وقد أشعره بذلك ما دله عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة،فعلم أنهما ملكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عَتْباً له على متابعة نفسه زوجة "أوريا" وطلبه التنازل عنها.وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة وكثيرا ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر.
و {أَنَّمَا} مفتوحة الهمزة أخت "إنما" تفيد الحصر،أي ظن أن الخصومة ليست إلا فتنة له،أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة.ومعنى {فَتَنَّاهُ} قدرنا له فتنة،فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل "أوريا" فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفة للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره،وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم فيكون المعنى: وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس.وإنما علم ذلك بعد أن أحس من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان.
ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار،كقوله تعالى لموسى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه:40]أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين،يصور أن له صورة شبيهة بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به.
وتفريغ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} على ذلك الظن ظاهر
(23/138)
على كلا الاحتمالين،أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لما صنع.
وخر خرورا:سقط،وقد تقدم في قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} في سورة النحل[26].
والركوع:الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض قال تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح:29]،فذكر شيئين.قالوا:لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع،وعليه فتقييد فعل {خَرَّ} بحال {رَاكِعاً} تمجز في فعل {خَرَّ} بعلاقة المشابهة تنبيها على شدة الانحناء حتى قارب الخرور.ومن قال:كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازا بعلاقة الإطلاق.وقال ابن العربي:"لا خلاف في أن الركوع ها هنا السجود"،قلت:الخلاف موجود.
والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض،ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]،وتقدم قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} في سورة يوسف[100].وكان ركوع داود عليه السلام تضرعا لله تعالى ليقبل استغفاره.
والإنابة:التوبة:يقال:أناب،ويقال:ناب.وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود[75].وعند قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في سورة الروم[31].
وهنا موضع سجدة من سجود القرآن من العزائم عند مالك لثبوت سجود النبي صلى الله عليه والسلم عندها.ففي "صحيح البخاري"عن مجاهد:"سألت ابن عباس عن السجدة في ص~ فقال:"أوما تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [ الأنعام:84]إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله".وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس:"ليس ص من عزائم السجود،وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها".وفيه عن أبي سعيد الخدري قال:"قرأ رسول الله وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قراها فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس للسجود "أي تهيأوا وتحركوا لأجله" فقال رسول الله: "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزَّنْتم فنزل فسجد وسجدوا" ،وقول أبي حنيفة فيها مثل قول مالك ولم يرَ الشافعي سجودا في هذه الآية إما لأجل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هي توبة
(23/139)
نبي" فرجع أمرها إلى أنها شرْعُ من قبلها،والشافعي لا يرى شرع من قبلنا دليلا.
ووجه السجود فيها عند من رآه أن ركوع داود هو سجود شريعتهم فلما اقتدى به النبي صلى الله عليه وسلم أتى في اقتدائه بما يساوي الركوع في شريعة الإسلام وهو السجود.وقال أبو حنيفة: "الركوع يقوم مقام سجود التلاوة أخذا من هذه الآية".
واسم الإشارة في قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين،وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإشارة،وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة وهو أنه من المقربين عند الله المرضي عنهم وأنه لم يوقف به عند الغفران لا غير.والزلفى:القربي،وهو مصدر أو اسم مصدر.
وتأكيد الخبر لإزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلا لمقام الاستغراب منزلة مقام الإنكار.
والمآب:مصدر ميمي بمعنى الأوب.وهو الرجوع.والمراد به:الرجوع إلى الآخرة.وسمي رجوعا لأنه رجوع إلى الله،أي إلى حكمة البحت ظاهرا وباطنا قال تعالى: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36]
وحسن المآب:حسن المرجع،وهو أن يرجع رجوعا حسنا عند نفسه وفي مرأى الناس،أي له حسن رجوع عندنا وهو كرامة عند الله يوم الجزاء،آي الجنة يئوب إليها.
[26] {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}
مقول قول محذوف معطوف على {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص~:25]أي صفحنا عنه وذكرناه بنعمة الملك ووعظناه،فجمع له بهذا تنويها بشأنه وإرشادا للواجب.وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعيه واهتمامه بما سيقال له.
والخلفية:الذي يخلف غيره في عمل،أي يقوم مقامه فيه،فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل:هو خليفة فلان،وإن كان بعدما مضى المخلوف قيل:هو خليفة من فلان.والمراد هنا:المعنى الأول بقرينة قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} .
فالمعنى:أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه
(23/140)
ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها.وخليفة عن موسى عليه السلام وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقضاة،أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول.
و {الْأَرْضِ} :أرض مملكته المعهودة،أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل.ويجوز أن يجعل الأرض مرادا به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ويخاف بأسه ملوك الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته،وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس:14]وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62].
وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الرضية.قال ابن عطية:"ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله،ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر رضي الله عنه:"يا خليفة رسول الله،وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته،فلما ولي عمر قالوا:يا خليفة رسول الله فطال ورأوا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عمر أمير المؤمنين،وقصر هذا على الخلفاء،وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوز كما قال ابن قيس الرقيات:
خليفة الله في بريته ... جفت بذاك الأقلام والكتب
وفرع على جعله خليفة أمره بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل،ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي ترفع إليه مظالم الظلمة من الولاة فإذا كان عادلا خشيه الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم فلا يقر ما يجري منه رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقص من الظالم،وأما إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يغضبه إذا رفعت إليه مظلمته شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم.
وفي "الكشاف":"أن بعض خلفاء بني أمية قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري:"هل سمعت ما بلغنا? قال:"وما هو"?قال:بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب له معصية،فقال:يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء،ثم تلا هذه الآية".
والمراد بـ {النَّاسِ} ناس مملكته فالتعريف للعهد أو هو للاستغراق العرفي.
(23/141)
والحق:هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا وتصرفاتهم في خاصتهم وعامتهم ويتعين الحق بتعين الشريعة.والباء في {بِالْحَقِّ} باء المجازية،جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك:قطعه بالسكين،وضربه بالعصا.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} معطوف على التفريع،ولعله المقصود من التفريع.وإنما تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سدا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل.والتعريف في {الْهَوَى} تعريف الجنس المفيد للاستغراق،فالنهي يعم كل ما هو هوى،سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده، وصديقه،أو هوى الجمهور {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].
ومعنى الهوى:المحبة،وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة،أي ولو كان هوى شديدا تعلق النفس به.
والهوى:كناية عن الباطل والجور والظلم لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس،فإن العدل والأنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالبا،ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيد بالحفظ أو العصمة.
والنهي عن أتباع الهوى تحذير له وإيفاظ ليحذر من جراء الهوى ويتهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه إلا بعد التأمل والتثبت،وقد قال سهل بن حنيف رضي الله عنه:"اتهموا الرأي"،ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكية،ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصقها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب،ولهذا جعل هنا الضلال عن سبيل الله مسببا على اتباع الهوى،وهو تسبب أغلبي عرفي،فشبه الهوى بسائر في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله،فإن الذي يتبع سائرا غير عارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مقطعة طريق.
واتباع الهوى قد يكون اختيارا،وقد يكون كرها.والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه؛ فأما الاتباع الاختياري فالحذر منه ظاهر،وأما الاتباع الاضطراري
(23/142)
فالتخلص منه بالانسحاب عما جره إلى الإكراه،ولذلك اشترط العلماء في الخليفة شروطا كلها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل،وهي:التكليف،والحرية، والعدالة،والذكورة،وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة.
وانتصب {فَيُضِلَّكَ} بعد فاء السببية في جواب النهي.ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سبب في الضلال.وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} :الأعمال التي تحصل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها، شبهت بالطريق الموصل إلى الله،أي إلى مرضاته.وجملة {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود،وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} إلى {يَوْمَ الْحِسَابِ} ،فهي في موقع العلة للنهي،فكانت "إن" مغنية عن فاء التسبب والترتب،فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن ينهي عنه،وإن كانت الجملة كلاما منفصلا عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافا بيانيا لبيان خطر الضلال عن سبيل الله.
والعموم الذي في قوله: {الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يكسب الجملة وصف تذييل أيضا وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها.وجيء بالوصول للإيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب.واللام في {لَهُمْ عَذَابٌ} للاختصاص،والباء في {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} سببية.
و"ما" مصدرية،أي بسبب نسيانهم يوم الحساب،وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} .
والنسيان:مستعار للإعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]،وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء،قال تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [ السجدة:14].ودونه مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعا لذلك.
والمراد بـ {يَوْمَ الْحِسَابِ} ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر،فهو في المعنى على تقدير مضاف، أي جزاء يوم الحساب على حد قوله تعالى: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}
(23/143)
[الكهف:57]،أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال.وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإعراض عن مراقبة الجزاء.وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} في الأنعام[84]وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في النساء[163].
[27] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}
لما جرى في خطاب داود ذكر نسيان يوم الحساب وكان أقصى آيات ذلك النسيان جحود وقعه لأنه يفضي إلى عدم مراعاته ومراقبته أبدا أعترض بين القصتين بثلاث آيات لبيان حكمة الله تعالى في جعل الجزاء ويومه احتجاجا على منكريه من المشركين.
والباطل:ضد الحق،فكل ما كان غير حق فهو الباطل، ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [ الدخان:39].
والمراد بالحق المأخوذ من نفي الباطل هنا، هو أن تلك المخلوقات خلقة على حالة لا تخرج عن الحق؛ إما حالا كخلق الملائكة والرسل والصالحين،وإما في المآل كخلق الشياطين والمفسدين لأن إقامة الجزاء عليهم من بعد استدراك لمقتضى الحق.
وقد بنية هذه الحجة على الاستدلال بأحوال المشاهدات وهي أحوال السماوات والأرض وما بينهما،والمشركون يعلمون أن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما،فأقيم الدليل على أساس مقدمة لا نزاع فيها،وهي أن الله خلق ذلك وأنهم إلى تأملوا أدنى تأمل وجدوا من نظام هذه العوالم دلالة تحصل بأدنى نظر على أنه نظام على غاية الإحكام أحكام مطردا،وهو ما نبههم الله إليه بقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} .
ومصب النفي الحال وهو قوله: {بَاطِلاً} فهو عام لوقوعه في سياق النفي،وبعد النظر يعلم الناظر أن خالقها حكيم عادل وأن تصرفات الفاعل يستدل بالظاهر منها على الخفي،فكان حق على الذين اعتادوا بتحكيم المشاهدات وعدم تجاوزها أن ينظروا بقياس ما خفي عنهم على ما هو مشاهد لهم، فلما استقر أن نظام السماء والأرض وما بينهما كان جاريا على مقتضى الحكمة وكامل النظام، فعليهم أن يتدبروا فيما خفي عنهم من
(23/144)
وقوع البعث والجزاء فإن جميع ما في الأرض جار على نظام بديع إلا أعمال الإنسان،فمن المعلوم بالمشاهدة أن من الناس صالحين نافعين،ومنهم دون ذلك إلى وصنف المجرمين المفسدين،وإن من الصالحين كثيرا لم ينالوا من حظوظ الخيرات الدنيوية شيئا أو إلا شيئا قليل هو أقل مما يستحقه صلاحه وما جاهده من الارتقاء بنفسه إلى معارج الكمال.ومن المفسدين من هم بعكس ذلك.
والفساد:اختلال اجتلبه الإنسان إلى نفسه باتباعه شهواته باختياره الذي أودعه الله فيه،وبقواه الباطنية قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6,4]وفي هذه المراتب يدنو الناس دنوا متدرجا إلى مراتب الملائكة أو دنوا متدليا إلى أحضية الشياطين فكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يلتحق كل فريق بأشباهه في النعيم الأبدي أو الجحيم السرمدي.
ولولا أن حكمة نظام خلق العوالم اقتضت أن يحال بين العوالم الزائلة والعوالم السرمدية في المدة المقدرة لبقاء هذه الأخيرة لأطار الله الصالحين إلى أوج النعيم الخالد،ولدس المجرمين في دركات السعير المؤبد،لعلل كثيرة اقتضت ذلك جماعها رعي الإبقاء على خصائص المخلوقات حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها،وهي الخصائص قد تتعارض فلو أوثر بعضها على غيره بالإبقاء لأفضى إلى زوال الآخر،فمكن الله كل نوع وكل صنف من الكدح لنوال ملائمة وأرشد الجميع إلى الخير وأمر ونهى وبين وحدد.وجعل لهم من بعد هذا العالم الزائل عالما خالدا يكون فيه وجود الإنصاف محوطا بما تستحقه كمالاتها وأضدادها من حسن أو سوء،ولو لم يجعل الله العالم الأبدي لذهب صلاح الصالحين باطلا أجهدوا فيه أنفسهم وأضاعوا في تحصيله جما غفيرا من لذائذهم الزائلة دون مقابل،ولعاد فساد المفسدين غنما أرضوا به أهواءهم ونالوا به مشتهاهم فذهب ما جروه على الناس من أرزاء باطلا، فلا جرم لو لم يكن الجزاء الأبدي لعاد خلق الأرض باطلا ولفاز الغوي بغوايته.
فإذا استقرت هذه المقدمة تعين أن إنكار البعث والجزاء يلزمه أن يكون منكره قائلا بأن خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل،وقد دلت الدلائل الأخرى أن لا يكون في خلق ذلك شيء من الباطل بقياس الخفي على الظاهر،فبطل ما يفضي إلى القول بأن في خلق بعض ما ذكر شيء من الباطل.
والمشركون وإن لم يصدر منهم ذلك ولا اعتقدوه لكنهم آيلون إلى لزومه لهم بطريق
(23/145)
دلالة الالتزام لأن من أنكر البعث والجزاء فقد تقلد أن ما هو جار في أحوال الناس الباطل، والناس من خلق الله فباطلهم إذا لم يؤاخذهم خالقهم عليه الكون مما أقره خالقهم، فيكون في خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل،فتنتقض كلية قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ،وهو ما ألزمهم إياه قوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} .والإشارة إلى القضية المنفية لا إلى نفيها،أي خلق المذكورات باطلا هو ظن الذين كفروا،أي اعتقادهم.وأطلق الظن على العلم لأن ظنهم علم مخالف للواقع فهو باسم الظن أجدر لأن إطلاق الظن يقع عليه أنواع من العلم المشبه والباطل.وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولا،وأن لازم المذهب مذهب وهو الذي نحاه فقهاء المالكية في موجبات الردة من أقوال وأفعال.
وفرع على هذا الاستدلال وعدم جري المشركين على مقتضاه قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي نار جهنم.وعبر عنهم بالوصول لما تشير إليه الصلة من أنهم استحقوا العقاب على سوء اعتقادهم وسوء أعمالهم،وأن ذلك أيضا من آثار انتفاء الباطل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما،لأنهم كانوا على باطل في إعراضهم عن الاستدلال بنظام السماوات والأرض،وفي ارتكابهم مفاسد عوائد الشرك وملته،وقد تمتعوا بالحياة الدنيا أكثر مما تمتع بها الصالحون فلا جرم استحقوا جزاء أعمالهم.
ولفظ:"ويل" يدل على أشد السوء.وكلمة:ويل له،تقال للتعجيب من شدة سوء حالة المتحدث عنه،وهي هنا كناية عن سدة عذابهم في النار.و {من}ابتدائية كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]،وقول النبي صلى الله عليه والسلم لابن الزبير حين شرب دم حجامته: "ويل لك من الناس وويل للناس منك" .
[28] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} {أم} منقطعة أفادت إضرابا انتقاليا وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق،بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجملي،وقد كان هذا الانتفاء بناء على ما اقتضاه قوله: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [صّ:27]فلأجل ذلك بني على استفهام مقدر بعد {أم} وهو من لوازم استعمالها،وهو استفهام إنكاري.والمعنى:لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال
(23/146)
الصالحين وأحوال المفسدين.
والتشبيه في قوله: {كَالْمُفْسِدِينَ} للتسوية.والمعنى:إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله،أي إذا لم يجاز كل كل فريق بما يستحقه على عمله، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاف ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث.وقد اخذ في الاستدلال جانب المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض،لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوين في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة،فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة،وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولى النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس،وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر.
و {أم} الثانية منقطعة أيضا ومفادها إضراب انتقال ثان للارتقاء في الاستدلال على أن الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعث لأجله.
ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه {أم} الثانية:الإنكار كالذي اقتضته {أم} الأولى.وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مساوين للفجار في أحوال وجود الفريقين،وتقريره مثل ما قرر به الاستدلال الأول.
والمتقون:هم الذين كانت التقوى شعارهم.والتقوى: ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن،وقد تقدم في أول سورة البقرة.
والفجار:الذين شعارهم الفجور،وهو أشد المعصية.والمراد به:الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42]وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} إلى قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس:5,4].
والمقصود من هذا الإطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنا يفضي إلى
(23/147)
أن الله خلق شيئا من السماء والأرض وما بينهما باطلا فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإنكار شأنا عظيما من فضح أمر الضالين.
[29] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم،أعرض الله خطابهم ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه والسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه،وكان هذا القرآن قد بين لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجا هو لشبهاتهم مقلع، وأنه إن حرم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون.وفي ذلك إدماج الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين.وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في أول سورة يونس[5].
والجملة استئناف معترض وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ} [صّ:49]. فقوله: {كِتَابٌ} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف،والتقدير:هذا كتاب،وجملة {أَنْزَلْنَاهُ} صفة {كِتَابٌ} .ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة {أَنْزَلْنَاهُ} صفة {كِتَابٌ} و {مُبَارَكٌ} خبرا عن {كِتَابٌ} . وتنكير {كِتَابٌ} للتعظيم،لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفة بجملة {أَنْزَلْنَاهُ} و {مُبَارَكٌ} هو الخبر.ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغا للابتداء وتجعل جملة {أَنْزَلْنَاهُ} خبرا أول و {مُبَارَكٌ} خبرا ثانيا و {لِيَدَّبَّرُوا} متعلق بـ {أَنْزَلْنَاهُ} ولكن لا يجعل {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف وتقدره:هذا الكتاب،إذ ليس هذا بمحَزّ كبير من البلاغة.
والمبارك:المنبثة فيه البركة وهي الخير الكثير،وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها:إما مرشدة إلى خير، وإما صارفة عن شر وفساد،وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك.
والتدبر:التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني،وإنما يكون
(23/148)
ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبرا انكشف له معان لم تكن بادية له بادئ النظر.وأقرب مثل للتدبر هنا هو ما مر أنفا من معاني قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} إلى قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28,27]،وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} في سورة النساء[82].
وقرأ الجمهور { لِيَدَّبَّرُوا} بياء الغيبة وتشديد الدال.وأصل "يدبروا" يتدبروا،فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما ليتأتى الإدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل:دَبَرَ بوزن ضرب،إذا تبع فتدبَّره بمنزلة تتبعه،ومعناه:أنه يتعقب ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة،وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} في سورة المؤمنين[68].
وقرأ أبو جعفر {لِتَدَبَّرُوا} بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها:لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصارا،والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
والتذكر:استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يغفل عنه وهو ما يهم العلم به،فجعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها،وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم.
وضمير {يَدَّبَّرُوا} على قرأة الجمهور عائد إلى {أُولُو الْأَلْبَابِ} على طريقة الإضمار للفعل المهمل عن العمل في التنازع،والتقدير:ليدبر أولو الألباب آياته ويتذكروا,وأما على قراءة أبي جعفر فإسناد "يتذكر"إلى {أُولُو الْأَلْبَابِ} اكتفاء عن وصف المتدبرين بأنهم أولو الألباب لأن التدبر مفض إلى التذكير.والتذكر من آثار التدبر فوصف فاعل أحد الفعلين يغني عن وصف فاعل الفعل الآخر.
{أُولُو الْأَلْبَابِ} :أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول،وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقا كان عليه أن يرعاه،والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر.
(23/149)
[30] {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
جُعل التخلصُ إلى مناقب سليمان عليه السلام من جهة أنه من منن الله على داود عليه السلام، فكانت قصة سليمان كالتكملة لقصة داود.ولم يكن لحال سليمان عليه السلام شبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم،فلذلك جزمنا بأن لم يكن ذكر قصته هنا مثالا لحال محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها إتمام لما أنعم الله به على داود إذ أعطاه سليمان ابنا بهجة له في حياته وورث ملكه بعد مماته،كما أنبأ عنه قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} الآية.
ولهذه النكتة لم تفتتح قصة سليمان بعبارة:واذكر،كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب،والقصص بعدها مفصلها ومجملها غير أنها لم تخل من مواضع أسوة وعبرة وتحذير على عادة القرآن من افتراض الإرشاد.
ومن حسن المناسبة لذكر موهبة سليمان أنه ولد لداود من المرأة التي عوتب داود لأجل استنزال زوجها أوريا عنها كما تقدم،فكانت موهبة سليمان لداود منها مكرمة عظيمة هي أثر مغفرة الله لداود تلك المخالفة التي يقتضي قدره تجنبها وإن كانت مباحة وتحققه لتعقيب الأخبار عن المغفرة له بقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [صّ:40]فقد رضي الله عنه فوهب له من تلك الزوجة نبيا وملكا عظيما.
فجملة {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} عطف على جملة {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} [صّ:18]وما بعدها من الجمل.وجملة {نِعْمَ الْعَبْدُ} في موضع الحال من {سُلَيْمَانَ} وهي ثناء عليه ومدح له من جملة من استحقوا عنوان العبد لله،وهو العنوان المقصود منه التقريب بالقرينة كما تقدم في قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} في سورة الصافات[41,40].
والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله: {سُلَيْمَانَ} والتقدير:نعم العبد سليمان.
وجملة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل للثناء عليه بـ {نِعْمَ الْعَبْدُ} والأواب:مبالغة في الآيب أي كثير الأوب،أي الرجوع إلى الله بقرينه أنه مادحه.والمراد من الأوب إلى الله:الأوب إلى أمره ونهيه،أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب،أي فتاب،وتقدم ذلك آنفا في ذكر داود.
(23/150)
[31ـ33] {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}
يتعلق {إِذْ عُرِضَ} بـ {أَوَّابٌ} .وتعليق هذا الظرف بـ {أَوَّابٌ} تعليق تعليل لأن الظروف يراد منها التعليل كثيرا لظهور أن ليس المراد أنه أواب في هذه القصة فقط لأن صيغة أواب تقتضي المبالغة. والأصل منها الكثرة فتعين أن ذكر قصة من حوادث أوبته كان لأنها ينجلي فيها عظم أوبته.
والعرض:الإمرار والإحضار أمام الرائي، أي عرض سواس خليه إياها عليه.
والعشي:من العصر إلى الغروب.وتقدم في قوله: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في سورة الأنعام[52].وذلك وقت افتقاد الخيل والماشية بعد روحها من مراعيها ومراتعها.وذكر العشي هنا ليس لمجرد التوقيت بل ليبنى عليه قوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ،فليس ذكر العشي في وقع هذه الآية كوقعه في قوله عمرو بن كلثوم:
ملوك من بني جشم بن بكر ... يساقون العشية يقتلونا
و {الصَّافِنَاتُ} :وصف لموصوف محذوف استغنى عن ذكره لدلالة الصفة عليه لأن الصافن لا يكون إلا من الخيل والأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم وطرف حافر القائمة الرابعة لا يمكن القائمة الرابعة من الأرض،وتلك من علامات خفته الدالة على كرم أصل الفرس وحسن خلاله، يقال:صفن الفرس صفونا،وأنشده ابن الأعرابي والزجاج في صفة الفرس:
ألفَ الصُّفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاثِ كَسِيرا1
{الْجِيَادُ} :جمع جواد بفتح الواو وهو الفرس ذو الجودة،أي النفاسة،وكان سليمان مولعا بالإكثار من الخيل والفرسان،فكانت خليه تعد بالآلاف.
وأصل تركيب {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أحببت الخير حبا،فحول التركيب إلى {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} فصار {حُبَّ الْخَيْرِ} تمييزا لإسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض
ـــــــ
1 في هذا البيت إشكال من جهة العربية إذ نصب كسيراً وهو في المعنى خبلا كأن. وخرج على أنه جعله خبر "يزال"على وجه التشبيه البليغ.وأقحم "كأنه"لتقرر التشبيه. وقد احتفل ببيان هذا البيت ابن الحاجب في "أماليه"وصاحب الكشف على "الكشاف".
(23/151)
الإجمال ثم التفصيل كما قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:12]وقول كعب بن زهير:
أكرم بها خلة ... وقولهم:لله دره فارسا
وضمن {أَحْبَبْتُ} معنى عوضت،فعدي ب {عن} في قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} فصار المعنى:أحببت الخير حبا فجاوزت ذكر ربي.والمراد بذكر الرب الصلاة،فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب.
و {الْخَيْرِ} :المال النفيس كما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180].والخيل من المال النفيس. وقال الفراء:"الخير بالراء من أسماء الخيل.والعرب تعاقبت بين اللام والراء كما يقولون:انهملت العين وانهمرت.وختل وختر إذا خدع".
وقلت:إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس فلعلهم سموها الخير تفاؤلا لتتمحض للسعد والبخت.وضمير {تَوَارَتْ} للشمس بقرينة ذكر العشي وحرف الغاية ولفظ الحجاب، على أن الإضمار للشمس في ذكر الأوقات كثير في كلامهم.كما قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أي ألقت الشمس يدها في الظلمة،أي ألقت نفسها فهو من التعبير عن الذات ببعض أعضائها.
والتواري:الاختفاء،والحجاب:الستر في البيت الذي تحتجب وراءه المرأة وغيرها ومنه قول أنس بن مالك:"فأنزل الله آية الحجاب".
والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار؛فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية،ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري،ولأفق غروب الشمس استعير الحجاب.
والمعنى:عرضت عليه خيله الصافنات الجياد فاشتغل بأحوالها حبا فيها حتى غربت الشمس ففاتته صلاة كان يصليها في المساء قبل الغروب،فقال عقب عرض الخيل وقد
(23/152)
انصرفت:إني أحببت الخيل فغفلت عن صلاتي لله.
وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر كقول أم مريم: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36].
والخطاب في قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} لسوّاس خيله.والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة،أي أرجعوا الخيل إلي،وقيل:هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة،وهذا في غاية البعد ولولا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم العرض له.وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملا في التعجيز،أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبه،كقول مهلهل:
يا لبكر انشروا لي كليبا
وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل:
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
يريد:عثمان بن عفان رضي الله عنه،فلا استبعاد في هذا المحمل.والفاء في قوله: {فَطَفِقَ}تعقيبية، وطفق من أفعال الشروع،أي فشرع.
و {مَسْحاً} مصدر أقيم مقام الفعل،أي طفق يمسح مسحا.وحرف التعريف في {بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} عوض عن المضاف إليه،أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41]
والمسح حقيقته:إمرار اليد على الشيء لإزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد وبخرقة أو ثوب،وقد يطلق المسح مجازا على معان منها:الضرب بالسيف يقال:مسحه بالسيف.ويقال:مسحَ السيفَ به.ولعل أصله كناية عن القتل بالسيف لأن السيف يسمح عنه الدم بعد الضرب به.
والسُّوق:جمع ساق.وقرأه الجمهور بواو ساكنة وبوزن فُعْل مثل:دار ودُور،ووزن فُعل في جمع مثلِه قليل.وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو جعفر "السؤق" بهمزة ساكنة بعد السين جمع:سأق بهمزة بعد السين وهي لغة في ساق.
و {الْأَعْنَاقِ} :جمع عنق وهو الرقبة.والباء في {بِالسُّوقِ} مزيدة للتأكيد،أي تأكيد اتصال الفعل بمفعوله كالتي في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]وفي قول
النابغة:
(23/153)
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يضلع عاثرا
وقد تردد المفسرون في المعنى الذي عني بقوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} ،فعن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب:"طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حبا لها".وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبي والأوفق بحقيقة والمسح ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} متصلا بقوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} إكراما لها ولحبها.ويجعل قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} معترضا بينهما،وإنما قدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره،أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده،إذ لا يناسب أن يكون قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ} الخ من آثار ندمه وتحسره على هذا التفسير،وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أمر به بقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بقي ما يكفي من الوقت للذكر فلما حملته بجهته بها على أن أمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسوقها خرج وقت ذكره فتندم وتحسر.
وعن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابن وهب والفراء وثعلب:"أن سليمان لما ندم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أمر أن ترد عليه الخيل التي شغلته فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه". واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال فأجابوا:"بأنه أراد ذبحها ليأكل الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فسادا في الأرض".
وتجنب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعارا للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد،فشبهت تلك الإزالة بإزالة المسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به،وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول وهو معزو لبعض المفسرين في "أحكام القرآن" لابن العربي.وقال ابن العربي:"إنه وهم".وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سببا في الهفوة.
(23/154)
وعلى هذين التأويلين يكون قوله: {فَطَفِقَ} تعقيبا على {رُدُّوهَا عَلَيَّ} وعلى محذوف بعده. والتقدير: فردوها عليه فطفق، كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء:63].ويكون قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} من مقول {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} .
[34ـ35] {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
قد قلت آنفا عند قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [صّ:30]إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإرشاد بالترغيب والترهيب، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع إسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته،وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة.والفتن والفتون والفتنة:اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحل به،وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة[102].
وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حل بسليمان،واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصا هي بالخرافات أشبه،ومقام سليمان عن أمثالها أنزه.
ومن أغربها قولهم:إنه ولد له ابن فخاف عليه الناس أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه در ماء المزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مرد لمحتوم الموت. وهذا ما نظمه المعري تبعا لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان:
خَاف غدْر الأنام فاستودع الريحَ ... سليلاً تغذوه دَرّ العِهَاد
وتوخى النجاةَ وقد أيْقَنَ ... أن الحِمَام بالمرصاد
فرمتْه به على جَانب الكُرسِيِّ ... أم اللّهَيْم أُخْتُ النّاد1
والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله: {ثُمَّ أَنَابَ} بذلك.
ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته.وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما
ـــــــ
1 اللُّهيم كزبير: الداهية: والناد كسحاب: الداهية أيضاً.
(23/155)
في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله.فقال له صاحبه:"قل إن شاء الله".فلم يقل:إن شاء الله.فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل،وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال:إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" .وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديث في التفسير من كتابيهما.قال جماعة:"فذلك النصف من الإنسان هو الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه،فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبه".
وإطلاق الجسد على ذلك المولود؛إما لأنه ولد ميتا،كما ه ظاهر قوله شق رجل،وإما لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد.وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيا ولا أنه جلس على كرسي سليمان.وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلف.
وقال وهب بن منبه وشهر بن حوشب:"تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها،وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر،وقيل:كانت تعبد صنما لها من ياقوت خفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم.وهذا القول مختزل مما وقع في "سفر الملوك" الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإصحاح الحادي عشر:"وأحب سيلمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات،وأدوميات،وصيدونيات،وحثيات،من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتكم.فبنى هيكلا للصنم "كموش" صنم المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم فقال الله له:"من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقا وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سبطا واحدا"الخ.
ويؤخذ من ذلك كله:أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدن فيها فلم يرض الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبي أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة
(23/156)
لا يتجاوز إليه.
وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جسدا في قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه:88].
ويكون معنى إلقائه على كرسيه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه.
وعطف {ثُمَّ أَنَابَ} بحرف {ثم} المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإنابة أعظم ذكر في قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ صّ:32].والإنابة:التوبة.
وجملة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} بدل اشتمال من جملة {أَنَابَ} لأن الإنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضى الله تعالى صدوره من أمثاله.
وإردافه طلب المغفرة باستيهاب ملك لا ينبغي لأحد من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين: العقاب في الآخرة،وسلب النعمة في الدنيا إذ قصر في شكرها،وكان سليمان يومئذ في ملك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136].وتنكير {مُلْكاً} للتعظيم.
وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكا أنه لا ينبغي لأحد من بعده،أي لا يتأتى لأحد من بعده،أي لا يعطيه الله أحدا يبتغيه من بعده.فكنى بـ {لا يَنْبَغِي} عن معنى لا يعطى لأحد، أي لا تعطيه من بعدي.
ففعل {يَنْبَغِي} مطاوع بغاه،يقال:بغاه فانبغى له وليس للملك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطى والميسر فإسناد إلى الملك مجاز عقلي،وحقيقته:انبغاء سببه.وهذا من التأدي في دعائه إذ لم يقل:لا تعطه أحدا من بعدي.
وسأل الله أن لا يقيم له منازعا في ملكه وأن يبقى له ذلك الملك إلى موته،فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده "يربعام بن نباط" من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى "شيشق" فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان.فهذا أيضا مما حمل سليمان أن يسال الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحدا غيره.
وكان لسليمان عدوان آخران هما "هدد" الأدومي و "رزون" من أهل صرفة
(23/157)
فقيمن في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإزالة ملكه.
واستعمل {مِنْ بَعْدِي} في معنى:من دوني،كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]،فيكون معنى {لا يَنْبَغِي} أنه لا ينبغي لأحد غيري،أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يسلط أحد على ملكه مدة حياته.
وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعد من الحسد.
ويجوز أن يبقى {مِنْ بَعْدِي} على ظاهره،أي بعد حياتي.فمعنى {لا يَنْبَغِي} :لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي.وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإشفاق من أن يلي مثل ذلك الملك من ليس له من النبوة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث ان يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للملك على ملكه،فينتفي أيضا على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطى أحد غيره مثل ملكه مما تشم منه رائحة الحسد.
وقد تضمنت دعوته شيئين:هما أن يعطى ملكا عظيما،وأن لا يعطى غيره مثله في عظمته.وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سر بينه وبين ربه إشعار بأنه ألهمه إياه،وأنه استجاب له دعوته تعريفا برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته.ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عم التصرف في الجن وتسخير الريح والطير،ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.
وفي "الصحيح" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأوردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان:"رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا" .
وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} علة للسؤال كله وتمهيد الإجابة،فقامت "إن"مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في {الْوَهَّابُ} على انه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء،فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة.و {أَنْتَ} ضمير فصل،وأفاد الفصل به قصرا فصار المعنى:أنت القوي الموهبة
(23/158)
لا غيرك،لأن الله يهب ما لا يملك غيره أن يهبه.
[36ـ38] {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}
اقتضت الفاء وترتيب الجمل أن تسخير الريح وتسخير الشياطين كانا بعد أن سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من يعده أن أعطاه هاتين الموهبتين زيادة في قوة ملكه وتحقيقا لاستجابة دعوته نه إنما سأل ملكا لا ينبغي لأحد غيره ولم يسأل الزيادة فيما أعطيه من الملك.ولعل الله أراد أن يعطيه هاتين الموهبتين وأن لا يعطيهما أحدا بعده حتى إذا أعطى أحدا بعده ملكا مثل ملكه فيما عدا هاتين الموهبتين لم يكن قد أخلف إجابته.
والتسخير الإلجاء إلى عمل بدون اختيار،وهو مستعار هنا لتكوين أسباب نصرف الريح إلى الجهات التي يريد سليمان توجيه سفنه إليها لتكون معينة سفنه على سرعة سيرها،ولئلا تعاكس وجهة سفنه، وتقدم في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} في سورة سبأ[12].
وقرأ أبو جعفر {الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع.
وتقدم في قوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} في سورة الأنبياء[81].
والام في {له} للعلة،أي لأجله،أي ذلك التسخير كرامة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدرا على نحو رغبته.
والأمر في قوله: {بِأَمْرِهِ} مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه،أو يرغب ذلك في نفسه،فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيات.
والرُّخاء:اللينة التي لا زعزعة في هبوبها.وانتصب {رُخَاءً} على الحال من ضمير {تَجْرِي} أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفيات هبوبها،وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة،وقد قال تعالى في سورة الأنبياء[81] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} ومعناه:سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف،فمعنى {فَسَخَّرْنَا لَهُ} جعلناها له رخاء. فانتصب {عَاصِفَةً} في آية سورة الأنبياء على الحال من {الرِّيحَ} وهي حال منتقلة.ولما أعقبه بقوله {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} علم
(23/159)
أن عصفها يصير إلى لين بأمر سليمان،أي دعائه،أو بعزمه،أو برغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال،فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين.
و {أَصَابَ} معناه قصد،وهو مشتق من الصوب،أي الجهة،أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير غليها.حكى الأصمعي عن العرب:"أصاب الصواب فأخطأ الجواب"أي أراد الصواب فلم يصب.
وقيل:هذا استعمال لها في لغة حمير،وقيل في لغة هجر.
و {الشَّيَاطِينَ} جمع شيطان،وحقيقته الجني،ويستعمل مجازا للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله.ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيرا خارقا للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء،وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب المم فكانوا يأتون طوعا للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبا.فيجوز أن يكون {الشَّيَاطِينَ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من {الشَّيَاطِينَ} بدل بعض من كل، أي كل بناء وغواص منهم، أي من الشياطين.
و {كُلَّ} هنا مستعملة في معنى الكثير،وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح،قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يو نس:97]وقال: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:69].وقال النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي
وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام[25].
والبنَّاء:الذي يبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نجار وقصار وحداد.
والغواص:الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ،وهو أيضا مما صيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة،قال النابغة:
أو درّة صدفية غوَّاصها ... بَهَج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ
قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82].
وقد بلغت الصناعة في ملك سليمان مبلغا من الإتقان والجودة والجلال،وناهيك
(23/160)
ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سمي في الإسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من المواد إقامته من الممالك المجاورة له،وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبأ.
و {آخَرِينَ} عطف على {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} فهو من جملة بدل البعض.وجمع آخر بمعنى مغاير،فيجوز أن تكون المغايرة في النوع من غير نوع الجن،ويجوز أن تكون المغايرة في الصفة،أي غير ينائين وغواصين. وقد كان يجلب من الممالك المجاورة له والداخلة تحت ظل سلطانه ما يحتاج غليه في بناء القصور والحصون والمدن وكانت مملكته عظيمة وكل الملوك يخشون بأسه ويصانعونه.
والمقرَّن:اسم مفعول من قرنه مبالغة في قرنه أي جعله قرينا لغيره لا ينفك أحدهما عن الآخر.
و {الْأَصْفَادِ} :جمع صفد بفتحتين وهو القيد.يقال:صفده،إذا قيده.
وهذا صنف ممن عبر عنهم بالشياطين شديد الشكيمة يخشى تفلته ويرام أن يستمر يعمل أعمالا لا يجيدها غيره فيصفد في القيود ليعمل تحت حراسة الحراس.وقد كان أهل الرأي من الملوك يجعلون أصحاب الخصائص في الصناعات محبوسين حيث لا يتصلون بأحد لكيلا يستهويهم جواسيس ملوك آخرين يستصنعونهم ليتخصص أهل تلك المملكة بخصائص تلك الصناعات فلا تشاركها فيها مملكة أخرى وبخاصة في صنع آلات الحرب من سيوف ونبال وقسي ودرق ومجان وخوذ وبيضات ودروع، فيجوز أن يكون معنى {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} حقيقته،ويجوز أن يكون تمثيلا لمنع الشياطين من التفلت.
وقد كان ملك سليمان مشتهرا بصنع الدروع السابغات المتقنة.يقال:دروع سليمانية.قال النابغة:
وكل صَموت نثلة تُبَّعِيّة ... ونَسْج سُلَيم كلَّ قمصاء ذائل
أراد نسج سليمان،أي نسج صنّاعه.
[39] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
والإشارة إلى التسخير المستفاد من {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} [صّ:36}إلى قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ} [صّ:37]أي هذا التسخير عطاؤنا.والإضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل:هذا عطاء عظيم أعطيناكه. والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل
(23/161)
الخلق بمعنى المخلوق.
و"امنن"أمر مستعمل في الإذن والإباحة،وهو مشتق من المن المكنى به عن الإنعام،أي فأنعم على من شئت بالإطلاق،أو أمسك في الخدمة من شئت.
فالمن:كناية عن الإطلاق بلازم اللازم،كقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [بمحمد:4].
وجملتا {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} معترضتان بين قوله: {عَطَاؤُنَا} وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ،وهو تفريع مقدم من تأخير.
والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة،ونظيره قوله تعالى من بعد: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [صّ:57]وقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
وقول بشارة:
كقائلة إن الحمار فنحِّه ... عن القَتِّ أهلُ السمسم المتهذب
مجازا وكناية في التحديد والتقدير،أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتر فيه،أي عطاؤنا واسعا وافيا لا تضييق فيه عليك.
ويجوز أن يكون {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حالا من ضمير "امنن أو أمسك".ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنى بها عن المؤاخذة.والمعنى:امنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن مننت عليه بالإطلاق إن كان مفسدا،ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحا.
[40] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}
تقدم نظيره آنفا في قصة داود وبيان نكتة التأكيد بحرف {إن} .
[41ـ42] {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}
هذا مثل ثان ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر،وهو معطوف على {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صّ:17]ولكونه مقصودا
(23/162)
بالمثل أعيد معه فعل {اذْكُرْ} كما نبهنا عليه في قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [صّ:17]،وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء.
وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام.
وإذ كانت تعدية فعل {اذْكُرْ} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكر الحالة الخاصة به كان قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربه مما تشتمل عليه أحوال أيوب. وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه.
والنداء:نداء دعاء لأن الدعاء يفتتح بـ:يا رب ،ونحوه.
و {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} متعلق بـ {نَادَى} بحذف الباء المحذوفة مع "أن"،أي نادى:بأني مسني الشيطان، وهو في الأصل جملة مبينة لجملة {نَادَى رَبَّهُ} ولولا وجود "أن"المفتوحة التي تصير الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة {نَادَى} ،ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدى إليها فعل {نَادَى} وخاصة حيث خلت الجملة من حرف نداء.فقولهم:إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإعراب تفرقة بين موقع "أن" المفتوحة وموقع "إن" المكسورة ولهذا الفرق بين الفتح والكسر اطرد وجها فتح الهمزة وكسرها في نحو "خير القول أني أحمد".
وقد ذكرنا في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} في سورة الأنفال[9]رأينا في كون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من"أن"التفسيرية "وأن"الناسخة.
والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية،كقوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} [آل عمران:36]،وقد قال في آية سورة الأنبياء[83] {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
والنُصْب،بضم النون وسكون الصاد:المشقة والتعب،وهي لغة في نصب بفتحتين،وتقدم النصب في سورة الكهف.وقرأ أبو جعفر {بِنُصُبٍ} بضم الصاد وهو ضم إتباع لضم النون.
والعذاب:الألم.والمراد به المرض يعني:أصابني الشيطان بتعب وألم.وذلك من ضر حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83].
وظاهر إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مس أيوب بهما،أي
(23/163)
أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب،ففي سورة الأنبياء[83] {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فأسند المس إلى الضر،والضر هو النصب والعذاب.وترددت أفهام المفسرين في معنى إسناد المس بالنصب والعذاب إلى الشيطان،فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مكرر آيات القرآن وليس النصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها.وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصْبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِيَ} ،أو باء الآلة مثل:ضربه بالعصا،أو يؤول النصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي:أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النصب والعذاب مسببين لمس الشيطان إياه، أي مسني بوسواس سببه نصب وعذاب،فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النصب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.أو نحمل الباء على المصاحبة،أي مسني بوسوسة مصاحبة لضر وعذاب،ففي قول أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
وتنوين "نصب وعذاب" للتعظيم أو للنوعية،وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.
وجملة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الخ مقولة لقول محذوف،أي قلنا له اركض برجلك،وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه.
والركض:الضرب في الأرض بالرجل،فقوله: {بِرِجْلِكَ }زيادة في بيان معنى الفعل مثل {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38]وقد سمى الله ذلك استجابة في سورة الأنبياء إذ قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} .
وجملة {هَذَا مُغْتَسَلٌ} مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول،وفي الكلام حذف دلت عليه الإشارة.فالتقدير:فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له:هذا مغتسل بارد وشراب.فالإشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب.
(23/164)
ووصْف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو.
و {مُغْتَسَلٌ} اسم مفعول من فعل اغتسل،أي مغتسل به فهو على حذف حرف الجر وإيصال المغتسل القاصر إلى المفعول مثل قوله:
تمَرُّون الديارَ ولم تعُوجوا
ووصفه بـ {بَارِدٌ} إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح.قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء" ،أي نافع شاف،وبالتنوين استغني عن وصف {شَرَابٌ} إذ من المعلوم أن الماء شراب فلولا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإخبار عن الماء بأنه شراب إخبارا بأمر معلوم،ومرجع تعظيم {شَرَابٌ} إلى كونه عظيما لأيوب وهو شفاء ما به من مرض.
[43] {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
اقتصار أيوب في دعائه على التعريض بإزالة النصب والعذاب يشعر بأنه لم يصب بغير الضر في بدنه. ويحتمل أن يكون قد أصابه تلف المال وهلاك العيال كما جاء في كتاب أيوب من كتب اليهود فيكون اقتصاره على النصب والعذاب في دعائه لأن في هلاك الأهل والمال نصبا وعذابا للنفس.ولم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رزئ أهله فيجوز أن يكون معنى {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة.
ويكون فعل {وَهَبْنَا} مستعملا في حقيقته ومجازه. ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة {مَعَهُمْ} عقب كلمة {وَمِثْلَهُمْ} فإن "مع" تشعر بان الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم فليس في الآية تقدير مضاف في قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} .
وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالا عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة.ويحتمل ن يكون مما أصابه أنه هلك وأولاده في مده في مدة ضره كما جاء في كتاب "أيوب" من كتب اليهود وأقوال بعض السلف من المفسرين فيتعين تقدير مضاف،أي وهبنا له عوض أهله.وألفاظ الآية تنبو عن هذا الوجه الثاني.
ومعنى {وَمِثْلَهُمْ} مماثلهم.والمراد:مماثل عددهم،أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة.
(23/165)
وتقدم نظير هذه الآية في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} في سورة الأنبياء[84].وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنن في التعبير لا يقتضي تفاوتا في البلاغة.وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله في سورة الأنبياء {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} ,فأما قوله هنا: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} فإن الذكرى التذكير بما خفي أو بما يخفى وأولوا الألباب هم أهل العقول،أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال.فإن في قصة أيوب مجملها ومفصلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج ن ينتظر الفرج،فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} كما تقدم حق أن يشار إليهم "بأولي الألباب".
وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهدا على أن النبوة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعتريهم من الأحداث ما يعتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله، ابتداء من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً يُُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]وأنهم معرضون لأذى الناس مما لا يخل بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت.من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
وإذ كان المشركون يقولون: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]،وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله،ثم من قوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49,48]،وذكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبر، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه.فكانت في ذلك آيات للعابدين،أي الممتثلين أمر الله المجتنبين نهيه،فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضر لا يستطيع دفعه لكون دفعه خارجا عن طاقته فختم بخاتمة إن في ذلك لآيات للعابدين.
[44] {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
(23/166)
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}
مقول لقول محذوف دلت عليه صيغة الكلام،والتقدير:وقلنا خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غير القول المحذوف في قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [صّ:42]لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة،وذلك له قصته،وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالا ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملا ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنها عددا من الضرب ثم ندم وكان محبا لها،وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سري عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحزمة فيها عدد من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقا بزوجه لأجله وحفظا ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوة.وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.
ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب،وأنه لم يكن مثله معلوما في الدين الذي يدين به أيوب إبقاء على تقواه،وإكراما له لحبه زوجه،ورفقا بزوجه لبرها به،فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين.
فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي:أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة،ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية.فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجهور الشافعية وجميع الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر،وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع من قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثله في فقه الإسلام في الإفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس في كل ضرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص؟،وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس أيضا لإثبات أصل مماثل وهو التحيل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليف شرعي؟،واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة.
(23/167)
فأما في الإيمان فقد كفانا الله التكلف بأن شرع لنا كفارات الأيمان.وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير" ،فصار ما في شرعنا ناسخا لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها،ومذهب الحنفية العمل بذلك استنادا لكونه شرعا لمن قبلنا وهو قول الشافعي.
وقال مالك:"هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيا".وحكى القرطبي عن الشافعي:"أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد".وأما القياس على فتوى أيوب في كل ضرب معين بعدد في غير اليمين،أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع،ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات.ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثا.وما وقع في "سن أبي داود" من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار:"أن رجلا منهم كان مريضا مضني فدخلت عليه جارية فهش لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة".ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة.وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات.
أولها:أن ذلك الرجل كان مريضا مضني ولا يقام الحد على مثله.
الثاني:لعل المرض قد أخل بعقله إخلالا أقدمه على الزنى فكان المرض شبهة تدرأ الحد عنه.
الثالث:أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابت في إقامة الحدود.
الرابع:حمله على الخصوصية.ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضافرة على أن المريض والحمل ينتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ،ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ،فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مجرما،ولا يدفع مأثما،وفي "أحكام الجصاص" عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي.وحكى الخطابي:"أن أبا حنيفة ومالكا اتفقا على أنه لا حد إلا الحد المعروف".فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة.
(23/168)
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
علة لجملة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}[صّ:42]وجملة {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} [صّ:43]،أي أنعمنا عليه بجبر حاله، لأنا وجدناه صابرا على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] صلى الله عليه وسلم،فكانت "إَنْ" مغنية عن فاء التفريغ.
ومعنى {وَجَدْنَاهُ} أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه.
وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مثل قوله في سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صّ:30]،فكان سليمان أوابا لله من فتنة الغني والنعيم،وأيوب أوابا لله من فتنة الضر والاحتياج،وكان الثناء عليهما متماثلا لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي.قال سفيان:"أثنى الله على عبدين ابتليا:أحدهما صابر، والآخر شاكر،ثناء واحدا.فقال لأيوب ولسليمان {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ".
[45ـ47] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}
القول فيه كالقول في نظائره لغة ومعنى.وذكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم،فأما إبراهيم عليه السلام فيما عرف من صبره على أذى قومه،وإلقائه في النار،وابتلائه بتكليف ذبح ابنه،وأما ذكر إسحاق ويعقوب فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ليقتدي النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الذين والبصيرة في حقائق الأمور.
وابتدئ بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة،وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابنه ابنه يعقوب.وقرأ الجمهور {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} بصيغة الجمع على أن {إِبْرَاهِيمَ} ومن عطف عليه كله عطف بيان.وقرأ ابن كثير {عَبْدَنَا} بصيغة الإفراد على أن يكون {إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان من {عَبْدَنَا} ويكون {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} عطف نسق على {عَبْدَنَا}. ومآل القراءتين متحد.
والأيدي:جمع يد بمعنى القوة في الدين.كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} في سورة الذاريات[47].
والأبصار:جمع بصر بالمعنى المجازي،وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة،
(23/169)
أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخي مرضاته.
وجملة {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير.و {أَخْلَصْنَاهُمْ} :جعلناهم خالصين،فالهمزة للتعدية،أي طهرناهم من درن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر،وهذا الإخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوة.
والعصمة:قوة يجعلها الله في نفس النبي تصرفه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمدا أو سهوا،وعما هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره.
وأركان العصمة أربعة:
الأول:خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان.
والثاني:حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.
الثالث:تأكيد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى.
الرابع:العتاب من الله على ترك الأولى وعلى النسيان.
وإسناد الإخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لدنية بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تقلع النفس عنها سريعا بمجرد خطورها،قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة".
والباء في {بِخَالِصَةٍ} للسببية تنبيها على سبب عصمتهم.وعبر عن هذا السبب تعبيرا مجملا تنبيها على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه،ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل {أَخْلَصْنَاهُمْ} على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن اقتناعه من أكل لحم الضب:"أني تحضرني من الله حاضرة أي حاضرة" لا توصف،ثم بينت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها {ذِكْرَى الدَّارِ} .
والذكرى:اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرجعي والبقيا لأن زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى. والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة،أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا، فالدار التي هي محل عنايتهم هي الدار الآخرة،قال
(23/170)
النبي صلى الله عليه وسلم:"فأقول ما لي وللدنيا".
وأشار قوله تعالى: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحذر من المعصية وحب الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبي يكره بها المعاصي،فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف،وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا:"العصمة عدم خلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية"،وقول المعتزلة:"إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي"،فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية،وبه يظهر أيضا أن العصمة لا تنافي التكليف وترتب المدح على الطاعات.
وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر "خالصة" بدون تنوين لإضافته إلى {ذِكْرَى الدَّارِ} ، والإضافة بيانية لأن {ذِكْرَى الدَّارِ} هي نفس الخالصة،فكأنه قيل:بذكرى الدار،وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله،وإنما ذكر لفظ "خالصة" ليقع إجمال ثم يفصل بالإضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا ليه.والتعريف بالإضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام.
وقرأ الجمهور بتنوين "خالصة" فيكون {ذِكْرَى الدَّارِ} عطف بيان أو بدلا مطابقا.وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر.وإضافة "خالصة" إلى {ذِكْرَى الدَّارِ} في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف.
ويجوز أن يكون {ذِكْرَى} مرادف الذكر بكسر الذال،أي الذكر الحسن،كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم:50]وتكون {الدَّارِ} هي الدار الدنيا.
ويجوز أن يكون مرادفا للذكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين.و {الدَّارِ} : الدار الآخرة.
وعطف عليه {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخيارا.
و {الْأَخْيَارِ} :جمع خير بتشديد الياء،أو جمع خير بتخفيفها مثل الأموات جمعا لميت وميت،وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف.
[48] {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ}
(23/171)
فُصل ذكر إسماعيل عن عده مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية،أي معظمها فإنه أبو العدنانيين.وجد للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا.
وأما قرنه ذكره بذكر أليسع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله: {وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} ،لأن التماثل في الخيرية ثابت لجمع الأنبياء والمرسلين،فلا يكون ذكرهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء،فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في "المفتاح"،قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله:
لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم1
حيث جمع بين مرارة النوى وكريم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعالى علم الله بهما وذلك مساو لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية.
فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل.فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس "إيليا" وكان إلياس يدافع ملوك يهودا وملوك إسرائيل عن عبادة الأصنام،وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم،وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبين في سفر "الملوك الثاني" الإصحاح "1-2".
وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء[85] {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
وقرأ الجمهور {الْيَسَعَ} بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف،فدع عنك ما أطالوا به.وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجمي معرب،والهمزة واللام،أو واللامان أصلية.
ـــــــ
1 هو أبو الحسين محمد بن الهيثم بن شبابة أحد قواد المتوكل أو الواثق ولأبي تمام مدائح فيه كثيرة.
(23/172)
وتنوين {كُلٌّ} في قوله: {وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} عوض عن المضاف إليه،أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار. وتقدم ذكر اليسع في سورة الأنعام،وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء.
[49ـ52] {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}
{هَذَا ذِكْرٌ} جملة فصلت الكلام السابق عن الكلام الآتي بعدها قصدا لانتقال الكلام من غرض إلى غرض مثل جملة:أما بعد فكذا ومثل اسم الإشارة المجرد نحو {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]،وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]في سورة الحج[32].قال في "الكشاف":"وهو كما يقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر:هذا وقد كان كيت وكيت"اهـ.وهذا الأسلوب من الانتقال هو المسمى في عرف علماء الأدب بالاقتضاب وهو طريقة العرب ومن يليهم من المخضرمين،ولهم في مثله طريقتان:أن يذكروا الخبر كما في هذه الآية وقول المؤلفين:هذا باب كذا،وأن يحذفوا الخبر لدلالة الإشارة على المقصود،كقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]،أي ذلك شأن الذين عملوا بما دعاهم إليه إبراهيم وذكروا اسم الله على ذبائحهم ولم يذكروا أسماء الأصنام،وقوله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} ،أي ذلك مثل الذين أشركوا بالله،وقوله بعد آيات {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]أي هذا مئات المتقين،ومنه قول الكاتب:هذا وقد كان كيت وكيت،وإنما صرح بالخبر في قوله: {هَذَا ذِكْرٌ}للاهتمام بتعيين الخبر،وأن المقصود من المشار إليه التذكر والاقتداء فلا يأخذ السامع اسم الإشارة مأخذ الفصل المجرد والانتقال الاقتضابي،مع إرادة التوجيه بلفظ {ذِكْرٌ} بتحميله معنى حسن السمعة،أي ذكر لأولئك المسمين في الآخرين مع أنه تذكرة للمقتدين على نحو المعنيين في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} في سورة الزخرف[44].
ومن هنا احتمل أن تكون الإشارة بـ {هَذَا}إلى القرآن،أي القرآن ذكر،فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا للتنويه بشأن القرآن راجعا إلى غرض قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
والواو في {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الخ،يجوز أن تكون للعطف الذكرى،أي انتهى الكلام
(23/173)
السابق بقولنا {هَذَا} ونعطف عليه {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الخ.ويجوز أن تكون واو الحال.وتقدم معنى {وَحُسْنَ مَآبٍ} .واللام في {لِلْمُتَّقِينَ} لام الاختصاص،أي لهم حسن مآب يوم الجزاء.وانتصب {جَنَّاتِ عَدْنٍ} على البيان من {وَحُسْنَ مَآبٍ}. والعدن:الخلود.
و {مُفَتَّحَةً} حال من {جَنَّاتِ عَدْنٍ} ،والعامل في الحال ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل وهو الاستقرار فيكون "ال" في {الْأَبْوَابُ} عوضا عن الضمير.والتقدير:أبوابها،على رأي نحاة الكوفة،وأما عند البصريين فـ {الْأَبْوَابُ} بدل من الضمير في {مُفَتَّحَةً} على أنه بدل اشتمال أو بعض والرابط بينه وبين المبدل منه محذوف تقديره:الأبواب منها.وتفتيح الأبواب كناية عن التمكين من الانتفاع بنعيمها لأن تفتيح الأبواب يستلزم الإذن بالدخول وهو يستلزم التخلية بين الداخل وبين الانتفاع بما وراء الأبواب.
وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} تقدم قريب منه في سورة يس.
و {يَدْعُونَ} :يأمرون بأن يجلب لهم،يقال:دعا بكذا،أي سأل ان يحضر له.
والباء في قولهم:دعا بكذا،للمصاحبة،والتقدير:دعا مدعوا يصاحبه كذا،قال عدي بن زيد:
ودعَوا بالصَّبوح يوماً فجاءت ... قَينَة في يمينها إبريق
قال تعالى في سورة يس[57] {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} .
وانتصب {مُتَّكِئِينَ} على الحال من "المتقين" وهي حال مقدرة.وجملة {يَدْعُونَ} حال ثانية مقدرة أيضا.
والشراب:اسم للمشروب،وغلب إطلاقه على الخمر إذا لم يكن في الكلام ذكر للماء كقوله آنفا: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [صّ:42].وتنوين {شراب} هنا للتعظيم،أي شراب نفيس في جنسه، كقول أبي خراش الهذلي:
لقد وقعت على لحم
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : {عِنْدَ} ظرف مكان قريب و {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} صفة لموصوف محذوف، أي نساء قاصرا النظر.وتعريف {الطَّرْفِ} تعريف الجنس الصادق بالكثير،أي قاصرات الأطراف. و {الطَّرْفِ} :النظر بالعين،وقصر الطرف توجيهه إلى منظور غير متعدد،فيجوز أن يكون المعنى:أنهن قاصرات أطرافهن على أزواجهن.فالأطراف المقصورة أطرافهن.وإسناد {قَاصِرَاتُ} إلى ضميرهن إسناد
(23/174)
حقيقي،أي لا يوجهن أنظارهن إلى غيرهم وذلك كناية عن محبتهن على أزواجهن.
ويجوز أن يكون المعنى:أنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن فلا تتوجه أنظار أزواجهن إلى غيرهن اكتفاء منهم بحسنهن وذلك كناية عن تمام حسنهن في أنظار أزواجهن بحيث لا يتعلق استحسانهم بغيرهن، فالأطراف المقصورة أطراف أزواجهن،وإسناد {قَاصِرَاتُ} إليهن مجاز عقلي إذ كان حسنهن سبب قصر أطراف الأزواج فإنهن ملابسات سبب سبب القصر.
و {أَتْرَابٌ} :جمع تِرْب بكسر التاء وسكون الراء،وهو اسم لمن كان عمره مساويا عمر من يضاف إليه،تقول:هو ترب فلان،وهي ترب فلانة،ولا تلحق لفظ ترب علامة تأنيث.والمراد:أنهن أتراب بعضهن لبعض،وأنهن أتراب لأزواجهن لأن التحاب بين الأقران أمكن.
والظاهر أن {أَتْرَابٌ} وصف قائم بجميع نساء الجنة من مخلوقات الجنة ومن النساء اللاتي كن أزواجا في الدنيا لأصحاب الجنة،فلا يكون بعضهن أحسن شبابا من بعض فلا يلحق بعض أهل الجنة غض إذا كانت نساء غيره أجد شبابا،ولئلا تتفاوت نساء الواحد من المتقين في شرخ الشباب،فيكون النعيم بالأقل شبابا دون النعيم بالأجد منهن.وتقدم الكلام على {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} في سورة الصافات[48].
[53] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}
استئناف ابتدائي فيجوز أن يكون كلاما قيل للمتقين وقت نزول الآية فهو مؤكد لمضمون جملة {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}[ صّ:49].والإشارة إذن إلى ما سبق ذكره من وقوله: {لَحُسْنَ مَآبٍ} فاسم الإشارة هنا مغاير لاستعماله المتقدم في قوله: {هَذَا ذِكْرٌ} [صّ:49[.وجيء باسم الإشارة القريب تنزيلا للمشار غليه منزلة المشار إليه الحاضر إيماء إلى أنه محقق وقوعه تبشيرا للمتقين.والتعبير بالمضارع في قوله: {تُوعَدُونَ} على ظاهره.
ويجوز أن يكون كلاما يقال للمتقين في الجنة فتكون الجملة مقول قول محذوف هو في محل حال ثانية من "المتقين".والتقدير:مقولا لهم:هذا ما توعدون ليوم الحساب.والقول:إما من الملائكة مثل قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]،وإما من جانب الله تعالى نظير قوله لضدهم : {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].
(23/175)
والإشارة إذن إلى ما هو مشاهد عندهم من النعيم.
وقرأ الجمهور: {تُوعَدُونَ} بتاء الخطاب فهو على الاحتمال الأول التفات من الغيبة إلى الخطاب لتشريف المتقين بعز الحضور لخطاب الله تعالى،وعلى الاحتمال الثاني الخطاب لهم على ظاهره.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحده {يُوعَدُونَ} بياء الغيبة فهو على الاحتمال الأول التفات عن توجيه الخطاب إليهم إلى توجيهه للطاغين لزيادة التنكيل عليهم.والإشارة إلى المذكور من "حسن المآب"، وعلى الاحتمال الثاني كذلك وجه الكلام إلى أهل المحشر لتنديم الطاغين وإدخال الحسرة والغم عليهم. والإشارة إلى النعيم المشاهد.
واللام في {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} لام العلة،أي وعدتموه لأجل يوم الحساب.والمعنى لأجل الجزاء يوم الحساب،فلما كان الحساب مؤذنا بالجزاء جعل اليوم هو العلة.وهذه اللام تفيد معنى التوقيت تبعا كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]تنزيلا للوقت منزلة العلة.ولذلك قال الفقهاء:أوقات الصلوات أسباب.
[54] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}
يجري محمل اسم الإشارة هذا على الاحتمالين المذكورين في الكلام السابق.
والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه وتوجيه ذهن السامع إليه.وأطلق الرزق على النعمة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أن أحدهم قال حين يضاجع أهله:اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ثم ولد لهما ولد لم يمسه شيطان أبدا"فسمى الولد رزقا.
والتوكيد بـ {إن} للاهتمام.والنفاد:الانقطاع والزوال.
[55ـ56] {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}
اسم الإشارة {هَذَا} مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله.والقول فيه كالقول في {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} .والتقدير:هذا شأن المتقين،أو هذا الشأن،أو هذا كما ذكر.
وجملة {يَصْلَوْنَهَا} حال من {جَهَنَّمَ} وهي حال مؤكد لمعنى اللام الذي هو عامل في "الطاغين" فإن معنى اللام أنهم تختص بهم جهنم واختصاصها بهم هو ذوق عذابها لأن
(23/176)
العذاب ذاتي لجهنم.
والطاغي:الموصوف بالطغيان وهو:مجاوز الحد في الكبر والتعاظم.والمراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبروا بعظمتهم على قبول الإسلام،وأعرضوا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بكبر واستهزاء،وحكموا على عامة قومهم بالابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين وعن سماع القرآن،وهم:أبو جهل وأمية بن خلف،وعتبة ابن ربيعة،والوليد بن عتبة،والعاصي بن وائل وأضرابهم.
والفاء في {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} لترتيب الإخبار وتسببه على قبله، نظير عطف الجمل بـ"ثم" وهي كالفاء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال:17]بعد قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} في سورة الأنفال[15].وهذا استعمال بديع كثير في القرآن وهو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة ولم يكشف عنه في مغنى اللبيب.
والمعنى:جهنم يصلونها،فيتسبب على ذلك أن نذكر ذم هذا المقر لهم،وعبر عن جهنم بـ {الْمِهَادُ} على وجه الاستعارة،شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد وهو فراش النائم كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41].
[57ـ58] {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}
اسم الإشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [صّ:53]والقول فيه مثله.
وإشارة القريب لتقريب الإنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [صّ:56]من الصلي ومن معنى العذاب،أو الإشارة إلى شر من قوله: {لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55].
و {حَمِيمٌ} خبر عن اسم الإشارة.ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيره من شكله،والمعنى:أن ذلك لهم لقوله: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [صّ:55]،فما فصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام.
والغساق:قرأه الجمهور بتخفيف السين.وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها.قيل هما لغتان وقيل:غساق بالتشديد مبالغة في غساق بمعنى سائل،فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسما لأن الأسماء التي على زنة فعال قليلة في كلامهم.
(23/177)
والغساق:سائل يسيل في جهنم،يقال:غسق الجرح،إذا سال منه ماء أصفر.واحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يسقونه كقوله: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29].وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب،وبذلك يومئ كلام الراغب.وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه.والأظهر:أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسما لشيء يشبه ما يغسق به الجرح،ولذلك سمي بالمهل والصديد في آيات أخرى.
وجملة {فَلْيَذُوقُوهُ} معترضة بين اسم الإشارة والخبر عنه،وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو، والفاء فيه كالفاء في قوله: {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [صّ:56]وقد تقدمت آنفا.
وموقع الجملة كموقع قوله: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [صّ:39]كما تقدم آنفا.
وقوله: {وَآخَرُ} صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإشارة بقوله: {هَذَا} وضمير {فَلْيَذُوقُوهُ} ووصف آخر يدل على مغاير.وقوله: {مِنْ شَكْلِهِ} يدل على أنه مغاير له بالذات وموافق في النوع،فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر.
والشَّكل بفتح الشين:المثل،أي المماثل في النوع،أي وعذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم والغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب والألم.
وأفرد ضمير {شَكْلِهِ} مع أن معاده {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} نظرا إلى إفراد اسم الإشارة،أو إلى إفراد "مذوق" المأخوذ من يذوقوه"،فقوله: {مِنْ شَكْلِهِ} صفة لـ {آخَرُ} .
والأزواج:جمع زوج بمعنى النوع والجنس،وقد تقدم عند قوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في سورة الرعد[3].
والمعنى:وعذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة.ولما كان اسما شائعا في كل مغاير صح وصفه بـ {أَزْوَاجٌ} بصيغة الجمع.
وقرأ الجمهور {وَآخَرُ} بصيغة الإفراد.وقرأه أبو عمرو ويعقوب {وأُخَرَ} بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف،أي وأزواج أخر من شكل ذلك العذاب.
(23/178)
[59] {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ}
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ،وبه فسر قتادة وابن زيد،وجريانه بينهم ليزدادوا مقتا بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة.
وأسلوب الكلام يقتضي متكلما صادرا منه،وأسلوب المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية فالتقدير:يقولون،أي الطاغون بعضهم لبعض:هذا فوج مقتحم معكم،أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أقحم فيهم ليسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا،وذلك ما دل عليه قولهْ: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [صّ:60]أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا.وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في سورة الأعراف[39]،وقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} في سورة البقرة:[166]وقوله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الآيات من سورة الصافات[27].وأوضح من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64].
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطاغين.وجملة {هَذَا فَوْجٌ} إلى آخرها مقول القول المحذوف.
والفوج:الجماعة العظيمة من الناس،وتقدم في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} في سورة النمل[83].
والاقتحام:الدخول في الناس،و"مع" مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون،وأن الفوج المقتحم أتباع لهم، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك.
وجملة {لا مَرْحَباً بِهِمْ} معترضة مستأنفة لإنشاء ذم الفوج.و {لا مَرْحَباً بِهِمْ} نفي لكلمة يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد.و {مَرْحَباً} مصدر بوزن المفعل،وهو الرحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب،أي أتيت رحبا،أي مكانا ذا رحب،فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا:لا مرحبا به،كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة:
(23/179)
لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح:حبذا،فإذا أرادوا ذما قالوا:لا حبذا.وقد جمعهما قول كنزة أم شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة:
ألا حبّذا أهل الملأ غير أنه ... إذا ذكرت ميَّ فلا حبذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله:السعة المجازية،وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائر،وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جريا على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء.
وجملة {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} خبر ثان عن اسم الإشارة،والخبر مستعمل في التضجر منهم،أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم: {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ} .
[60] {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}
فسَمِعَهم الأتباع،فيقولون {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} إضرابا عن كلامهم.وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرد من حرف العطف،أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال:لا مرحبا بكم، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر.و {بل}للإضراب الإبطالي لرد الشتم عليهم وانهم أولى به منهم.
وذكر ضمير المخاطبين في قوله: {أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} للتنصل من شتمهم،أي أنتم المشتومون،أي أولى بالشتم منا،وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصرا ولا تقويا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية،أي أنتم يقال لكم:لا مرحبا بكم.
وإذا قد كان قول:مرحبا،إنشاء دعاء بالخبر،وكان نفيه إنشاء دعاء بضده،كان قوله:"بهم" بيانا لمن وجه الدعاء لهم،أي إيضاحا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين.قال في "الكشاف":و"بهم" بيان لمدعو عليهم.وقال الهمذاني في شرحه "للكشاف":"يعني:البيان المصطلح،كأن قائلا يقول:بمن يحصل هذا الرحب?فيقول:بهم.وهذا كما في "هيت لك".يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين.وهذا المعنى أغلفه ابن هشام في معاني الباء."وأشار الهمذاني إلى
(23/180)
أنه متولد من معنى السببية.والأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.
وجملة {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} علة لقلب سبب الشتم إليهم،أي لأنكم قدمتم العذاب لنا،فضمير النصب في {قَدَّمْتُمُوهُ} عائد إلى العذاب المشاهد،وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ،مثل {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32].ووقوع {أَنْتُمْ} قبل {قَدَّمْتُمُوهُ} المسند الفعلي يفيد الحصر،أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقاء بالعذاب.
والتقديم:جعل الشيء قدام غيره،قال تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182,181].فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم،أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم.وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم وكان العذاب جزاء عن الغواية.وجعل العذاب مقدما وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب،وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله: {قَدَّمْتُمُوهُ} مجازان عقليان.
وقوله: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} موقعه كموقع قوله آنفا: {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [صّ:56].وهو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه.والمعنى:فبئس القرار ما قدمتموه لنا،أي العذاب.والقرار: المكث.
[61] {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ}
{قَالُوا} أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع،فهذا من كلام الذين قالوا: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} [صّ:60]لأن قولهم: {مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} يعين هذا المحمل.ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل {قَالُوا} وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول.
فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين.
والمقصود من حكاية قولهم: {هَذَا} تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم.وأما تجريد فعل {قَالُوا} عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي على مثال المؤكد.
(23/181)
ولا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأنه الدعاء بعنوان {مَنْ قَدَّمَ لَنَا} ويعين أن قائليه هم القائلون: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [صّ:60]،وأن الذين قدموا لهم هم الطاغون.وفي معنى هذه الآية آية سورة الأعراف[38] {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} .
و {مَنْ} في قوله: {مَنْ قَدَّمَ لَنَا} موصولة،وجملة {فَزِدْهُ} خبرعن {مَنْ} ،واقتران الخبر بالفاء جرى على معاملة الموصول معاملة الشرط في قرن خبره بالفاء وهو كثير،وتقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة براءة[34].
والضعف،بكسر الضاد:تستعمل اسم مصدر ضعف وضاعف،فهم اسم التضعيف والمضاعفة،أي تكرير المقدار وتكرير القوة،وهو من الألفاظ المتضايفة المعاني كالنصف والزوج.
ويستعمل اسما بمعنى الشيء المضاعف،وهذا هو قياس زنة فعل بكسر الفاء وسكون العين،فهو بمعنى: الشيء الذي ضوعف لأن زنة فعل تدل على ما سلط عليه فهو نحو ذبح،أي مذبوح.
[62ـ63] {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}
عطف على {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}[صّ:59]على ما قدر فيه من فعل قول محذوف كما تقدم، فهذا من قول الطاغين فإنهم كانوا يحقرون المسلمين.
والاستفهام في {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} استفهام يلقيه بعضهم لبعض تلهفا على عدم رؤيتهم من عرفوهم من المسلمين مكنى به عن ملام بعضهم لبعض على تحقيرهم المسلمين واعترافهم بالخطأ في حسبانهم.فليس الاستفهام عن عدم رؤيتهم المسلمين في جهنم استفهاما حقيقيا ناشئا عن ضن أنهم يجدون رجال المسلمين معهم إذ لا يخطر ببال الطاغين أن يكون رجال المسلمين معهم،كيف وهم يعلمون أنهم بضد حالهم فلا يتوهمونهم معهم في العذاب،ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا استفهموا عن مصير المسلمين لأنهم لا يرونهم يومئذ،إذ قد علموا أن الناس صاروا إلى عالم آخر وهو الذي كانوا ينذرون به،ويكون قولهم: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} الخ تمهيدا لقولهم: {أَتَّخَذْنَاهُمْ
(23/182)
سِخْرِيّاً} على كلتا القراءتين الآتي ذكرهما.
و {الْأَشْرَارِ} :جمع شر الذي هو بمعنى الأشر،مثل الأخيار جمع خير بمعنى الأخير،أو هو:جمع شرير ضد الخير،أي الموصوفين بشر الحالة،أي كنا نحسبهم أشقياء قد خسروا لذة الحياة بإتباعهم الإسلام ورضاهم بشظف العيش،وهم يعنون أمثال بلال،وعمار بن ياسر،وصهيب،وخباب،وسلمان.وليس المراد أنهم يعدونهم أشرار في الآخرة مستحقين العذاب فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بهمزة قطع هي همزة الاستفهام،وحذفت همزة الوصل من فعل "اتخذنا" لأنها لا تثبت مع همزة الاستفهام لعدم صحة الوقف على همزة الاستفهام، فجملة {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بدل من جملة {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} .و {أم} حرف إضراب،والتقدير:بل زاغت عنهم أبصارنا.
والزيغ:الميل عن الجهة،أي مالت أبصارنا عن جهتهم فلم تنظرهم.
و"أل" في {الْأَبْصَارُ} عوض عن المضاف إليه،أي أبصارنا،فيكون المعنى:أكانا تحقيرنا إياهم في الدنيا خطأ.وكنى عنه باتخاذهم سخريا لأن في فعل {أَتَّخَذْنَاهُمْ} إيماء إلى أنهم ليسوا بأهل للسخرية،وهذا تندم منهم على الاستسخار بهم.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بهمزة وصل على أن الجملة صفة {رِجَالاً} ثانية وعليه تكون {أم} منقطعة للإضراب عن قولهم: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} أي بل زاغت عنهم الأبصار.
والسخريَّ:اسم مصدر سخر منه،إذا استهزأ به،فالسخري الاستهزاء،وهو دال على شدة الاستهزاء لأن ياءه في الأصل ياء نسب وياء النسب تأتي للمبالغة في الوصف.وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم السين.وقراه الباقون بكسر السين كما تقدم في سورة المؤمنين.
[64] {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}
تذييل وتنهية لوصف حال الطاغين وأتباعهم،وعذابهم،وجدالهم.وتأكيد الخبر بحرف التوكيد منظور فيه لما يلزم الخبر من التعويض بوعيد المشركين وإثبات حشرهم وجزائهم بأنه حق،أي ثابت كقوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذريات:6].
(23/183)
والإشارة إلى ما حكي عنهم من المقاولة.وسميت المقاولة تخاصما،أي تجادلا وإن لم تقع بينهم مجادلة، فإن الطاغين لم يجيبوا الفوج على قوله: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ} [صّ:60]،ولكن لما اشتملت المقاولة على ما هو أشد من الجدال وهو قول كل فريق للآخر {لا مَرْحَباً بِكُمْ} كان الذم أشد من المخاصمة فأطلق عليه اسم التخاصم حقيقة.وتقدم ذكر الخصام عند قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} في سورة الحج[19].
وأضيف هذا التخاصم إلى أهل النار كلهم اعتبارا لغالب أهلها لآن غالب أهل النار أهل الضلالات الإعتقادية وهم لا يعدون أن يكونوا دعاة للضلال أو أتباعا للدعاة إليه فكلهم يجري بينهم هذا التخاصم،أما من كان في النار من العصاة فكثير منهم ليس عصيانهم إلا تبعا لهواه مع كونه على علم بان ما يأتيه ضلالة لم يسوله له أحد.
و {أَهْلِ النَّارِ} هم الخالدون فيها،كقولهم:أهل قرية كذا،فإنه لا يشمل المقترب بينهم،على أن وقت نزول هذه الآية لم يكن في مكة غير المسلمين الصالحين وغير المشركين،فوصف أهل النار يوم إذ لا يتحقق إلا في المشركين دون عصاة المسلمين.
وقوله: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} إما خبر مبتدأ محذوف،تقديره:وهو تخاصم أهل النار،والجملة استئناف لزيادة بيان مدلول اسم الإشارة،أو هو مرفوع على أنه خبر ثان عن {إِنَّ} ،أو على بدل من {لَحَقٌّ} .
[65ـ66] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
هذا راجع إلى قوله: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [صّ:4]إلى قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ:8]،فلما ابتدرهم الجواب.على ذلك التكذيب بأن نظر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الأنبياء الذين صبروا،واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه فأمره الله أن يقول: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} مقابل قولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ،وأن يقول: {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ:5]فالجملة استئناف ابتدائي.وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} إماء إلى رد إنكارهم.وذكر صفة القهار تعريض بتهديد المشركين بأن الله فادر على قهرهم،أي غلبهم.وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ؤفي سورة الأنعام[18].
(23/184)
وإتباع ذلك بصفة {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها.ووصف {الْعَزِيزُ} تمهيد للوصف بـ {الْغَفَّارُ} ،أي الغفار عن عزة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو.والمقصود من وصف {الْغَفَّارُ} هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف {الْقَهَّارُ} لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جريا على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس.
[67ـ69] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
إعادة الأمر بالقول هنا مستأنفا.والعدول عن الإتيان بحرف يعطف المقول أعني {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} على المقول السابق أعني {أَنَا مُنْذِرٌ} [صّ:65]،عدول يشعر بالاهتمام بمقول هنا كي لا يؤتي به تابعا لمقول آخر فيضعف تصعدي السامعين لوعيه.
وجملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان،فيكون ضمير {هُوَ} ضمير شأن يفسره ما بعده وما يبين به ما بعده من قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [صّ:71]جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقا لتلقيها فيكون المراد بالنبأ نبأ خلق آدم وما جرى بعده، ويكون ضمير {يَخْتَصِمُونَ} عائدا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة.ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلغ إليه من الملائكة أمر الله بالسجود لآدم،فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعد منهم قبل أن يطرد من السماء.
ويجوز أن تكون جملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} الخ تذييلا للذي سبق من قوله: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [صّ:49]إلى هنا،تذييلا يشعر بالتنويه به وبطلب الإقبال على التدبر فيه والاعتبار به.وعليه يكون ضمير {هُوَ} ضميرا عائدا إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أتي لتعريفه بضمير المفرد.
والمراد بالنبأ:خبر الحشر وما أعد فيه للمتقين من حسن مآب،وللطاغين من شر مئاب،ومن سوء صحبة بعضهم لبعض،وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب،وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يعدونهم من
(23/185)
الأشرار.
ووصف النبأ بـ {عَظِيمٌ} تهويل على نحو قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1ـ3].وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله: {فَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]فتم الكلام عند قوله تعالى: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} .
فتكون جملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى} إلى قوله: {نَذِيرٌ مُبِينٌ} استئنافا للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول صلى الله عليه وسلم قبل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]،ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن.
وتكون جملة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} [صّ:71]إلى آخره استئنافا ابتدائيا.
وعلى هذا فضمير {يَخْتَصِمُونَ} عائد إلى أهل النار من قوله: {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64]إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى.والمعنى:ما كان لي من علم بعالم الغيب وما يجري فيه من الإخبار بما سيكون إذ يختصم أهل النار في النار يوم القيامة.
وعلى كلا التفسيرين فمعنى {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أنهم غافلون عن العلم به فقد أعلموا بالنبأ بمعناه الأول وسيعلمون قريبا بالنبأ بمعناه الثاني.
وجيء بالجملة الاسمية في قوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لإفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم،فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارعووا عن كفرهم.وأما أعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني،فتأويل تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاه من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصدا للشر بهم.
ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود،فإن هذه السورة في ترتيب نزول سورة نزلت قبلها.
فذلك وجه التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه.وأيا ما كان فقوله: {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} توبيخ لهم وتحميق.
وجملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} اعتراض إبلاغ في
(23/186)
التوبيخ على الإعراض عن النبأ العظيم،وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحى به من الله وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلى عمله لولا وحي الله إليه به.وذكر فعل {كان} دال على ان المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44].
والباء في قوله: {بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى} على كل المعنيين للنبأ،لتعديه {عِلم} لتضمينه معنى الإحاطة،وهو استعمال شائع في تعدية العلم.ومنه ما في حديث سؤال الملكين في "الصحيح" فيقال له:"ما علمك بهذا الرجل".ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية،أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى،أي ما كنت حاضرا في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص:44].
والملأ:الجماعة ذات الشأن،ووصفه بـ {الْأَعْلَى} لأن المراد ملأ السماوات وهم الملائكة ولهم علو حقيقي وعلو مجازي بمعنى الشرف.
و {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ظرف متعلق بفعل {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ} أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين،أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء.والتعبير بالمضارع في موضع المضي لقصد استحضار الحالة،أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى،أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر،والمضارع على أصله من الاستقبال.
والاختصام:افتعال من خصمه،إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خصم.
وجملة {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} مبينة لجملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ،أي ما علمت بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحى الله إلي ذلك لأكون نذيرا مبينا.
وقد ركبت هذه الجملة من طريقين للقصر:إحداهما طريق النفي والاستثناء،والأخر طريق {أَنَّمَا} المفتوحة الهمزة وهي أخت "إنما" المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر،ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة و"ما" الكافة وليست "أَن" المفتوحة الهمزة إلا "إِن" المكسورة تُغَيَّر كسرة همزتها
(23/187)
إلى فتحة لتفيد معنى مصدريا مشربا بـ"أن" المصدرية إشرابا بديعا جعل شعاره فتح همزتها لتشابه "أن" المصدرية في فتح الهمزة وتشابه "أن" في تشديد النون،وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية.
وتكون {أَنَّمَا} مفتوحة الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام.والذي يقتضيه مقام الكلام هنا ان فتح همزة {أَنَّمَا} لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها {أَنَّمَا} . والتقدير:إلا لأنما أنا نذير،أي إلا لعلة الإنذار،أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به،أي ليس لمجرد القصص.
فالاستثناء من علل،وقد نزل فعل {يُوحَى} منزلة اللازم،أي ما يوحى إلي وحي فلا يقدر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي.
وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} المبينة بها جملة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} ،إذ لا مناسبة لو جعل {أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} مستثنى من نائب فاعل الوحي بان يقدر:إن يوحى إلي شيء إلا أنما أنا نذير مبين،أي ما يوحى إلي شيء إلا كوني نذيرا،وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتضح رجحان تقدير العلة عليه.
فأفادت جملة {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإنذار وحصر صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة النذارة،ويستلزم هذان الحصران حصرا ثالثا، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا.فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور:اثنان منها بصريح اللفظ،والثالث بكناية الكلام،وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46].وهذه الحصور:اثنان منها إضافيان،وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى الله عليه وسلم على صفة النذارة،وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعبا واعتقادهم أن رسول صلى الله عليه وسلم ساحر أو مجنون.وعلم من هذا نبأ خلق آدم قصد به الإنذار من كيد الشيطان.وقرأ أبو جعفر {إِلَّا إِنَّمَا} بكسر همزة {إنما} على تقدير القول،أي ما يوحى إلا هذا الكلام.
[71ـ74] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
(23/188)
الْكَافِرِينَ}
موقع {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} صالح لأن يكون استئنافا فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون {إِذْ قَالَ} متعلقا بفعل محذوف تقديره:اذكر،على أسلوب قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7,6]،ونظائره.
فإما على جعل النبأ بمعنى نبأ خلق آدم فإن جملة {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69] بدل بعض من كل لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس،فقد روى الترمذي بسنده عن مالك ابن يخامر عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه رأى ربه تعالى فقال له:"يا محمد فِيَم يختصم الملأ الأعلى?قلت:"لا أدري".قالها ثلاثا.ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه،قلت:"في الكفارات."قال:ما هن? قلت:"مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المسجد". وذكر أشياء من الأعمال الصالحة "ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق آدم" .وقال الترمذي:"هو حديث حسن صحيح" وقال عن البخاري:"إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في "صحيحه" وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية، وإنما جعله الترمذي في كتاب التفسير لأن ما ذكر فيه بعض مما يختصم في أهل الملأ الأعلى مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصتهم خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} يقتضي أنهم قالوا كلاما دل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به،بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبين ما أجمل هنا وإن كان متأخرا إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتعاظ بكبر إبليس دون ما نشأ عن ذلك.ويجوز أن يكون {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} منصوبا بفعل مقدر،أي اذكر إذ قال ربك للملائكة،وهو بناء على أن ضمير {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [صّ:67]ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69]مراد به خصومة أهل النار.وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر ، وأبينها ما في سورة البقرة.
ووقع في سورة الحجر[31] {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} وفي هذه السورة {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإباية.ووقعت هنا زيادة {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ،وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر[31] من قوله: {أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الإباية من الكون من الساجدين لله،أي المنزهي الله عن الظلم والجهل.
(23/189)
ووقع في هذه السورة {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ،ومعناه أنه كان كافرا ساعتئذ،أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبل كافر،ففعل {كان} الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت.قال الزجاج:" "كان" جار على باب سائر الأفعال الماضية إلا أن فيه إخبارا عن الحالة فيما مضى،إذا قلت:كان زيد عالما،فقد أنبأت عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا،وإذا قلت:سيكون عالما فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل،فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال"اهـ.
وقد بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان،ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان.فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك موريا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره.
وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره،وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضلية،فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظتها تصرفاتها عند حلول الحوادث بها.وقد مدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير،فقال عمر:هل أريتموه الأبيض والأصفر?يعني الدراهم والدنانير.وقال الشاعر:
لا تمدحَنَّ امرءاً حتى تُجرّبه ... ولا تذمَّنَّه من قبل تجريب
إن الرجال صناديقُ مقفَّلة ... وما مفاتيحها غَير التجاريب
ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعمله،وذلك كفر لا محالة،وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حق خلافا للخوارج وكذلك المعتزلة.
[75ـ76] {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}
أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذ كان بواسطة ملك من الملائكة لأن إبليس لما أستكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد يعد أهلا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:
(23/190)
51]،وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير {يَخْتَصِمُونَ} [صّ:69]عائدا إلى الملأ الأعلى كما تقدم.
وجيء بفعل {قال} غير معطوف حسب طريقة المقاولات.وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ،أي ما منعك من السجود،ووقع في سورة الأعراف[12] {أَلَّا تَسْجُدَ} على أن {لا} زائدة.وحكي هنا أن الله قال له: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ،آي خلقا خاصا دفعة ومباشرة لأمر التكوين،فكان تعلق هذا التكوين أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها.ولا شك في آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب.فاليدان تمثيل لتكون آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخَّاري للإناء من طين إذ يسويه بيديه.وكان السلف يقرون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله.أو أن تحمل العقول القاصرة صفات الله على ما تعارفته {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]وقال مرة: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].وقد تقدم القول في الآيات المشاهبة في أول سورة آل عمران.
وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته.والمعنى:أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو،والمراد بالعلو الشرف،أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني.فتبين أنه يعد نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، يعني والنار أفضل من الطين، أي في رأيه.وعبر عن آدم باسم "ما" الموصولة وهو حينئذ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة.ويؤيد قول أهل التحقيق أن "ما" لا تختص بغير العاقل وشواهد كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب.
وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} قول من الشيطان حكي على طريقة المحاورات.وجملة {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} بيان لجملة {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} .وقد جعل إبليس عذره مبنيا على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعي باطلا وعصي ربه استكبارا:وطَرْدُه أجمع لإبطال علمه ودحض دليله،غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملْتهبة
(23/191)
التي تسمى نارا،وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تعد أن يكون كيانها مخلوطا بما يلهبها.ومعنى كون الشيطان مخلوقا من النار أن ابتداء تكون الذرة الأصلية لقوام ما هيته من عنصر النار،ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به.
ومعنى كون آدم مخلوقا من الطين أن ابتداء تكون ذرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ما هية الإنسان.
وتكون {من} في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية.
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ـ ويعبر عن بالأرض ـ لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون.
وقال الشيرازي في "شرح كليات القانون":"إن النار وإن ترجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات،وغير مفسدة ببردها، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرها لكونه في الغاية إلى غير ذلك.
والحق:أن أفضلية العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر،والأجسام الإنسانية مركبة من العناصر كلها.والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوق بها الإنسان على جميع المراكبات بأن كان فيه جزء ملكي شارك به الملائكة،ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملا في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا:إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تحمض النورانية وتميز فريق الأنبياء بأنهم لحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة، فليس لإبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأ الأعلى.
وإنما بسطنا القول هنا لرد شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعنا في الدين لا إيمانا بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مقتضيا أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجراء متفاوتة والتركيب قد يدخل على المادة الأولى شرفا وقد يدخل عليها
(23/192)
حَقارة،والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار.
[77ـ78] {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}
عاقبة الله على ما برز من نفسانيته فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة، وضمير {قَالَ} عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولاتوفرع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى.وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر.
واللعنة:الإبعاد من رحمة الله،وأضيفت إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون.
وجعل {يَوْمِ الدِّينِ} غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدة هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها، وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير بـ {يَوْمِ الدِّينِ} دون: {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [صّ:79]، أو {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [صّ:81].
[79ـ81] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي قال إبليس.وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفي.
[82ـ83] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}
الفاء لتفريغ كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريغ من تركيب كلام متكلم آخر.وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة[124].
أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقا لقيامه بالإغواء دون تخلف،وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القسم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإغواء والوسوسة وقد قال في سورة الحجر [39] {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
(23/193)
والعزة:القهر والسلطان،وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها،وقسم إبليس بها ناشئ عن علمه بأنه لا يستطيع الإغواء إلا لأن الله أقدره ولولا ذلك لم يستطيع نقض قدرة الله تعالى.
وتقدم تفسير نظير {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} في سورة الحجر[40,39].
[84ـ85[ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}
أي قال الله تعالى تفريغا،وهذا التفريع نظير التفريع في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:82].
وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قوله: {فَبِعِزَّتِكَ} [صّ:82]بتأكيد مثله،وهو لفظ {الْحَقَّ} الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يخلف،ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ {الْحَقَّ} تذكيرا بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قسم عليه ترفعا من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقسم مثله.ولذلك زاد هذا المعنى تقريرا بالجملة المعترضة وهي {وَالْحَقَّ أَقُولُ} الذي هو بمعنى:لا إقول إلا الحق،ولا حاجة إلى القسم.
وقرأ الجمهور {فَالْحَقُّ} بالنصب وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلا عن فعل من لفظه محذوف تقديره:أحق،أي أوجب وأحقق.وأصله التنكير،فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في:أرسلها العراك،فهو في حكم النكرة وإنما تعريفه حلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدمه بيانه في أول الفاتحة.
وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لما تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائبا عن الفعل. وهذا الرفع إما على الابتداء،أي فالحق قولي،أو فالحق لأملأن جهنم إلى الخ،على أن تكون جملة القسم قائمة مقام الخبر،وإما على الخبرية،أي فقولي الحق وتكون الجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} مفسر القول المحذوف،ولا خلاف في نصب الحق من قوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ}. وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة.
وجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} الخ مبينة لجملة {فَالْحَقُّ} وهي مؤكد بلام القسم والنون.
(23/194)
وتقديم المفعول في {وَالْحَقَّ أَقُولُ} للاختصاص،أي ولا أقول إلا الحق.
و"مِن" في قوله: {مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقديمه معناها.وتدخل على تمييز "كم" في نحو {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [صّ:3]،وهي هنا بيان لما دل عليه {لَأَمْلَأَنَّ} من مقدار مبهم فبين بآية {مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} . ولما كان شأن مدخول "من" البيانة أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس،أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس ملئا لجهنم،وإذ قد عطف عليه {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من تبعك من الذين أغوتهم من بني آدم،فلا جائر أن يبقى من عدا هذين من الشياطين والجنة غير ملء لجهنم.
و {أَجْمَعِينَ} توكيد لضمير {مِنْكَ} ول"من" في قوله: {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} .واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه، وما جرى في إدارة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكور فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعد مجازاة الله تعالى الشيطان عليه تنازلا من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى.
وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوال التي ألقاها الله عليه.
[86ـ88] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}
لما أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلا عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالبا من ذلك جزاء،أي لو سألهم عليه أجرا لراج اتهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه،فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبة عن أن يكذب لغير نفع يرجوه لنفسه.
والمعنى عموم نفي سؤاله الأجر منهم من يوم يبعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو
(23/195)
قياس استقراء لأنهم إذا استقروا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما مضى وجدوا انتفاء سؤاله أجرا أمرا عاما بالاستقراء التام الحاصل من جميع أفراد المشركين في جميع مخالطاتهم إياه،فهو أمر متواتر بينهم فهذا إبطال لقوهم: {كَذَّابٌ} [صّ:4]المحكي عنهم في أول السورة وإقامة الحجة على صدق رسالته كما سيجيء.
وضمير {عَلَيْهِ} عائد إلى القرآن المعلوم من المقام فإن مبدأ السورة قوله: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1]فهذا من رد العجز على المصدر.
وعطف {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أفاد انتفاء جميع التكلف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والتكلف:معالجة الكلفة،وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه،ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل،فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه.
فالمعنى هنا:ما أنا بمدع النبوة باطلا من غير أن يوحي إلي وهو رد لقولهم: {كَذَّابٌ} [صّ:4]وبذلك كان كالنتيجة لقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} لأن المتكلف شيئا إنما يطلب من تكلفه نفعا،فالمعنى: وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم.ومنه حديث الدارقطني عن ابن عمر قال:"خرج رسول الله في بعض أسفاره فمر على رجل جالس عند مقراة له "أي حوض ماء"،فقال عمر:"يا صاحب المَقَراة أَوَلَغَتْ السباع الليلة في مقراتك?فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره،هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" .وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود أنه قال: "يأيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل:الله علم،قال لرسوله : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وأخذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه،أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام،وهذا استرواح مبني على أن من حكمه الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسبا ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به.
وتركيب {مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أشد في نفي التكلف من أن يقول:ما أنا بمتكلف،كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة[67].
(23/196)
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بدل اشتمال من جملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} اشتمال نفي الشيء على ثبوت ضده،فلما نفى بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أن يكون تقول القرآن على الله،ثبت من ذلك أن القرآن ذكر للناس ذكرهم الله به،أي ليس هو بالأساطير أو الترهات.ولك أن تجعلها تذييلا إذ لا منافاة بينهما هنا.وهذا الإخبار عن موقع القرآن لدى جميع أمة الدعوة لا خصوص المشركين الذين كان في مجادلتهم لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجو من معانديه أجرا.وثبت بذلك أنه ليس بمتقول ما لم يوح إليه انتقل إلى إثبات أن القرآن ذكر للناس قاطبة فيدخل في ذلك مشركو أهل مكة وغيرهم من الناس،فكأنه قيل يستغني الله عنكم بأقوام آخرين كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7].
وعموم العالمين يكسب الجملة معنى التذييل للجملتين قبلها.
والقصر الذي اشتملت عليه جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} قصر قلب إضافي،أي هو ذكر لا أساطير ولا سحر ولا شعر ولا غير ذلك للرد على المشركين ما وسموا به القرآن من غير صفاته الحقيقية.
وجملة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} عطف على جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} باعتبار ما يشتمل عليه القصر من جانب الإثبات،أي وستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علما جزما فيزول شككم فيه، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد.
والنبأ:الخبر،وأصل الخبر:الصدق،أي الموافقة للواقع،فإذا قيل:أتاني نبأ كذا،فمعناه الخبر عن حاله في الواقع،فإضافة النبأ إلى ما يضاف إليه على معنى اللام إذ معنى اللام هو أصل معاني الإضافة،قال تعالى : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ:21]،أي ستعلمون صدق وصف هذا القرآن أنه الحق،وهذا كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].وفُسر النبأ بمعنى المفعول،أي ما أنبأ به القرآن من إنذاركم بالعذاب،فهو تهديد.وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجل له عذاب السيف يوم بدر،وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم من علموا دخول الناس في الإسلام فماتوا بغيضهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا،أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجا فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيمانا.
(23/197)
وحين كل فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق.والحين:الزمن من ساعة إلى أربعين سنة.فختم الكلام بتسجيل التبليغ وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبي صلى الله عليه وسلم. وختم بالمواعده لوقت يقيهم بنبيه،وهذا مؤذن بانتهاء الكلام مراعاة حسن الختام.
(23/198)
المجلد الرابع و العشرون
سورة الزمر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
سميت "سورة الزمر" من عهد النبي صلى الله عليه وسلم،فقد روى الترمذي عن عائشة قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سورة القرآن.
وفي "تفسير القرطبي" عن وهب بن منبه أنه سماها "سورة الغرف" "وتناقله المفسرون".ووجه أنها ذكر فيها لفظ الغرف،أي بهذه الصيغة دون الغرفات،في قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:20]الآية.وهي مكية كلها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]الآيات الثلاث.وقيل:إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة،وحشي قاتل حمزة،وسنده ضعيف،وقصته عليها مخائل القصص.
وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها.وفي رواية:أن معه عياش ابن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففُتنا فافتتنا.
والأصح أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها،وما نشأ القول بأنها مدنية إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة.وقيل:نزل أيضا في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10]الآية بالمدينة.
وعن ابن عباس:"أن قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23]الآية نزل بالمدينة.فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.
والمتجه:أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فأشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.
(24/5)
وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر:10]أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي في سنة خمس قبل الهجرة.وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار،نزلت بعد سورة سبا وقبل سورة غافر.وعدت آيتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين،وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين،وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.
أغراضها
ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود،وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة1 مواضع من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها.وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله بالإلهية وإبطال الشرك فيها.وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم.ونفي ضرب من ضروب الإشراك إلى زعمهم أن لله ولدا.والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية،وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به.والخلق العجيب في أطوار تكوين الإنسان والحيوان.والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عندما يصيبهم الضر.والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول.وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة.والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله.وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل.والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حل بأهل الشرك من الأمم الماضية.
وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فالله غني عن عبادتهم،ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا.وإثبات البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت.وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها.وضرب لهم مثله والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين.وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم،ودعاء
ـــــــ
1 هي قوله تنزيل {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} الآيتين وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية,وقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الآيتين,وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية,وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية,وقوله: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} الآية.
(24/6)
المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر.وختمت بوصف حال يوم الحساب.
وتخلل ذلك كله وعيد ووعد،وأمثال،وترهيب وترغيب،ووعظ وإيماء بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة،وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.
[1ـ2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}
فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين.
فـ {تَنْزِيلُ} مصدر مراد به معناه المصدري لا معنى المفعول،كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإضافة أن لا تكون بيانية.
وتنزيل:مصدر نزل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجما.واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعللوا به قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32]. وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى.
والتعريف في {الْكِتَابِ} للعهد،وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة.وأجرى على اسم الجلالة الوصف بـ {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} للإيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين، فيكون عزيزا قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]،أي القرآن،عزيز غالب بالحجة لمن كذب به، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق،وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه،ويكون حكيما مثل صفة منزله.
والحكيم:إما بمعنى الحاكم،فالقرآن أيضا حاكم على معارضيه بالحجة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48].
وأما بمعنى:المحكم المتقن،فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ،وإما بمعنى الموصوف بالحكمة،فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزله بها.وهذه
(24/7)
معان مرادة من الآية فيما نرى،على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وإعجازه العلمي،إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيناه في المقدمة العاشرة.
وفي وصف {الْحَكِيمِ} إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269].وفي هذا إرشاد إلى وجوب التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله،قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ومعنى {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة[269].
وافتتاح جملة {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} بحرف "إن" مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان.فيحمل حرف "إن" على الاهتمام بالخبر.وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزلا من الله فيحمل حرف "إن" على التأكيد استعمالا للمشترك في معنييه.ولما في هذه الآية من زيادة الإعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات،فكان مقتضى التأكيد موجودا بخلاف مقتضى الحال في قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} .
فجملة {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} تتنزل منزلة البيان لجملة {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} . وإعادة لفظ {الْكِتَابَ} للتنويه بشأنه جريا على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار.وتعدية {أَنْزَلْنَا} بحرف الانتهاء تقدم في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في أول البقرة[4].
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة،وهي ظرف مستقر حالا من {الْكِتَابَ} ،أي أنزلنا إليك القرآن ملابسا للحق في جميع معانيه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
وفرع على المعنى الصريح من قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أن أمر بأن يعبد الله مخلصا له العبادة.وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرع عليه وهو أن المعرض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبروا في المعنى المعرض به.
(24/8)
وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسول صلى الله عليه وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة،وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعمه التي أنعم بها،فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله،وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإخلاص من قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ، فالمأمور به عبادة خاصة،ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملا في معنى الأمر بالدوام عليها.ولذلك أيضا لم يؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر:66]لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يعبد غير الله.وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلة عالم.
والإخلاص:الإمْحَاض وعدم الشوب بمغاير،وهو يشمل الإفراد.وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإخلاص،أي إفراد الله بالإلهية.وأوثر الإخلاص هنا لإفادة التوحيد وأخص منه وهو أن تكون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57].
والدين:المعاملة.والمراد به هنا معاملة المخلوق ربه وهي عبادته.فالمعنى:مخلصا له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره.وانتصب {مُخْلِصاً} على الحال من الضمير المستتر في {أَعْبُدَ}.
ولما أفاد قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتض لتقديم مفعول {أَعْبُدَ اللَّهَ} على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله: {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ،وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيص، وتضعيفه لاستدلال أئمة المعاني بقوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} آخر السورة[66]بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود {فَاعْبُدِ اللَّهَ} ،قال في "إيضاح المفصل" في شرح قول صاحب "المفصل" في الديباجة "الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية"،الله أحمد على طريقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]تقديما للأهم، وما قيل:إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحو {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} ضعيف لورود
(24/9)
{فَاعْبُدِ اللَّهَ} "اهـ.ونقل عنه أنه كتب في "حاشيته على الإيضاح" هنالك قوله::"لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به،فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم"اهـ.
وهو ضغث على إبَّالة فإنه لم يقتصر على منع دليل شهد به الذوق السليم عند أئمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام،كأن الكلام قد جعل قوالب يؤتى بها في كل مقام،وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية،حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفادا من القرينة لا من التقديم،كأن القرية لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دلالة النطق.
[3] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
استئناف للتخلص إلى استحقاقه تعالى الإفراد بالعبادة وهو غرض السورة وأفاد التعليل للأمر بالعبادة الخالصة مستحقا لله وخاصا به كان الأمر بالإخلاص له مصيبا محزه فصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له مسببا عن نعمة إنزال الكتاب إليه ومقتضى لكونه مستحق الإخلاص في العبادة اقتضاء الكلية لجزيئاتها.وبهذا العموم أفادت الجملة معنى التذييل فتحملت ثلاثة مواقع كلها تقتضي الفصل.
وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويها بمضمونها لتتلقاه النفس بشراشرها وذلك هو ما رجح اعتبار الاستئناف فيها،وجعل معنى التعليل حاصلا تبعا من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد.
واللام في {لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق،أي لا يحق الدين الخالص،أي الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].وتقديم المسند لإفادة الاختصاص فأفاد قوله: {لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أنه مستحقه وأنه مختص به.
والدين:الطاعة كما تقدم. والخالص:السالم من أن يشوبه تشريك غيره في عبادته،فهذا هو المقصود من الآية.
(24/10)
ومما يتفرع على معنى الآية إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه،أي أن يعبد الله لأجله،أي طلبا لرضاه وامتثالا لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
وعرف الغزالي الإخلاص:"بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب".والإخلاص في العبادة أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله تعالى،وهو معنى قولهم:لوجه الله،أي لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله ليمدحه الناس بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة.ولذا قيل:الرياء الشرك الأصغر،أي إذا كان هو الباعث على العمل،ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة فلو أيس منها ترك القتال،فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلا تبعا للعبادة وليس هو المقصود فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس، أو كان مما يعين على الاستزادة من العبادة.
وفي "جامع العتبية" في ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطلها الخَطرة التي لا تُملك.حدث العتبي عن عيسى بن دينار عن ابن وهب عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس من بني سَلمَة إلا مقاتل،فمنهم من القتال طبيعته،ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا،فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة?فقال :"يا معاذ بن جبل من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة" .
قال ابن رشد في "شرحه" :"هذا الحديث فيه نص جلي على أن من كان أصل عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضره الخطرات التي تقع في القلب ولا تُملك،على ما قاله مالك خلاف ما ذهب إليه ربيعة،وذلك أنهما سئلا عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوق فأنكر ذلك ربيعة ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير.وقال مالك:"إذا كان أول ذلك وأصله لله فلا بأس به إن شاء الله قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84].قال مالك:"وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يملك وذلك وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يكسله عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع "أي إذا أراد تثبيطه
(24/11)
عن العمل"،ويجدد النية فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله" اهـ.
وذكر قبل ذلك عن مالك أنه رأى رجلا من أهل مصر يسأل عن ذلك ربيعة.وذكر أن ربيعة أنكر ذلك.قال مالك:"فقلت له ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر?قال:مازال الصالحون يهجرون.
وفي "جامع المعيار" :سئل مالك عن الرجل يذهب إلى الغزو ومعه فضل مال ليصيب به من فضل الغنيمة "أي ليشتري الناس ما صح لهم من الغنيمة" فأجاب:"لا بأس به ونزع بآية التجارة في الحج قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]وأن ذلك غير مانع ولا قادح في صحة العبادة إذا كان قصده بالعبادة وجه الله ولا يعد هذا تشريكا في العبادة لأن الله هو الذي أباح ذلك ورفع الحرج عن فاعله مع أنه قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]فدل أن هذا التشريك ليس بداخل بلفظه ولا بمعناه تحت آية الكهف" اهـ.
وأقول:إن القصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله فيسأله ما فيه صلاحا في الدنيا أيضا لا ضير فيه،لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه وكل ذلك تقرب إلى الله تعالى وقد شرعت صلوات لكشف الضر وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضر والحاجة،ومن المغتفر أيضا أن يقصد العامل من عمله أن يدعو له المسلمون ويذكروه بخير.وفي هذا المعنى قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا له المسلمون حين ودعوه ولمن معه بأن يردهم الله سالمين:
لكنني أسألُ الرحمن مغفرة ... وضربةً ذات فرعٍ يَقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حرّان مجهزةً ... بحربة تنفذ الأحشاءَ والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جَدثي ... أرشدك الله من غَاز وقد رشدا
وقد علمت من تقييدنا الحظ بأنه حظ دنيوي أن رجاء الثوب واتقاء العقاب هو داخل في معنى الإخلاص لأنه راجع إلى التقرب لرضى الله تعالى.وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإخلاص في العبادة هي قضية أخص من قضية صحة العبادة وأجزائها في ذاتها إذ قد تعرو العبادة عن فضيلة الإخلاص وهي مع ذلك صحيحة مجزئة،فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل وزيادته ولا علاقة له بصحة العمل. وفي "مفاتيح الغيب" :"وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي إلى الإتيان بالفعل أو الترك مجرد الانقياد فإن حصل معه داع أخر،فإما أن يكون جانب الداعي إلى الانقياد راجحا على جانب الداعي المغاير، أو معادلا له،أو مرجوحا.وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط،وأما إذا كان الداعي إلى الطاعة
(24/12)
راجحا على جانب الداعي الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أو لا" اهـ.
وذكر أبو إسحاق الشاطبي:"أن الغزالي أي في كتاب النية من الربع الرابع من الإحياء يذهب إلى أن ما كان فيه داعي غير الطاعة مرجوحا أنه ينافي الإخلاص.وعلامته أن تصير الطاعة أخف على العبد بسبب ما فيها من غرض،وأن أبا بكر بن العربي ـ أي في كتاب "سراج المريدين" كما نقله في "المعيار" ـ يذهب إلى أن ذلك لا يقدح في الإخلاص.
ـ قال الشاطبي ـ:"وكان مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما، فالغزالي يلتفت إلى مجرد وجود اجتماع القصدين سواء كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا، وابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك".
فهذه مسألة دقيقة ألحقناها بتفسير الآية لتعلقها بالإخلاص المراد في الآية،وللتنبيه على التشابه العارض بين المقاصد التي تقارن قصد العبادة وبين إشراك المعبود في العبادة بغيره.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
عطف على جملة {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لزيادة تحقيق معنى الإخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإشراك ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياء وعبدهم حرصا على القرب من الله يزعمونه عذرا لهم فقولهم من فساد الوضع وقلب حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبعدها،والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضربا من البعث.
واسم الموصول مراد به المشركون وهو في محل رفع على الابتداء وخبره جملة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } . وجملة {مَا نَعْبُدُهُمْ} مقول لقول محذوف لأن نظمها يقتضي ذلك إذ ليس في الكلام ما يصلح لأن يعود عليه نون المتكلم ومعه غيره،فتعين أنه ضمير عائد إلى المبتدأ،أي هم المتكلمون به وبما يليه، وفعل القول محذوف وهو كثير،وهذا القول المحذوف يجوز أن يقدر بصيغة اسم الفاعل فيكون حالا من {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} أي قائلين:ما نعبدهم،ويجوز أن يقدر بصيغة الفعل.والتقدير:قالوا ما نعبدهم، وتكون الجملة حينئذ بدل اشتمال من جملة {اتَّخَذُوا} فإن اتخاذهم الأولياء اشتمل على هذه المقالة.
(24/13)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وعيد لهم على قولهم ذلك فعلهم منه إبطال تعللهم في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم الله.فضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى الذين اتخذوا أولياء.والمراد بـ {مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجن على اختلاف المشركين في بلاد العرب.
ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالهم جميعا يوم القيامة إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضيا الحكم لفريق منهم على فريق آخر بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم.
ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على {بَيْنَهُمْ} مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ،لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق فالتقدير يحكم بينهم وبين المخلصين على حد قول النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حُجر إلا ليالٍ قلائلُ
تقديره:بين الخير وبيني بدلالة سياق الرثاء والتلهف.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} استثناء من علل محذوفة،أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقربونا إلى الله فيفيد قصرا على هذه العلة قصر قلب إضافي،أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره.وقد قدمنا آنفا من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب،واستقسموا بأزلامهم للنجاح،كما هو ثابت في الواقع.
والزلفى:منزلة القرب،أي ليقربونا إلى الله في منزلة القرب،والمراد به منزلة الكرامة والعناية في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة،ويكون منصوبا بدلا من ضمير {لِيُقَرِّبُونَا} بدل اشتمال،أي ليقربوا منزلتنا إلى الله.ويجوز أن يكون {زُلْفَى} اسم مصدر فيكون مفعولا مطلقا،أي قربا شديدا.
وأفاد نظم {هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أمرين أن الاختلاف ثابت لهم،وأنه متكرر متجدد،فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي،والثاني من كون المسند فعلا مضارعا.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
(24/14)
يجوز أن يكون خبرا ثانيا عن قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وهو كناية عن كونهم كاذبين في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} وعن كونهم كفارين بسبب ذلك،وكناية عن كونهم ضالين.
ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لأن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يثير في نفوس السامعين سؤالا عن مصير حالهم في الدنيا من جراء اتخاذهم أولياء من دونه،فيجاب بأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار،أي يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن يبين لهم الدين فخالفوه.
والمراد بـ {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الذين اتخذوا من دونه أولياء،أي المشركين،فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم،وعدل عنه إلى الإضمار لما في الصلة من وصفهم بالكذب وقوة الكفر.
وهداية الله المنفية عنهم هي:أن يتداركهم الله بلطفه بخلق الهداية في نفوسهم،فالهداية المنفية هي الهداية التكوينية لا الهداية بمعنى الإرشاد والتبليغ وهو ظاهر،فالمراد نفي عناية الله بهم،أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا،أي لا يوفقهم الله بل يتركهم على رأيهم غضبا عليهم.والتعبير عنهم بطريق الموصولية لما في الموصول من الصلاحية لإفادة الإيماء إلى علة الفعل ليفيد أن سبب حرمانهم التوفيق هو كذبهم وشدة كفرهم.
فإن الله إذا أرسل رسوله إلى الناس فبلغهم كانوا عندما يبلغهم الرسول رسالة ربه بمستوى متحد عند الله بما هم عبيد مربوبون ثم يكونون أصنافا في تلقيهم الدعوة،فمنهم طالب هداية بقبول ما فهمه ويسأل عما جهله،ويتدبر وينظر ويسأل،فهذا بمحل الرضى من ربه فهو يعينه ويشرح صدره للخير حتى يشوق صدره للخير حتى يشرق باطنه بنور الإيمان كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8 , 7].
ولا جرم أنه كلما توغل العبد في الكذب على الله وفي الكفر به ازداد غضب الله عليه فازداد بعد الهداية الإلهية عنه،كما قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:86].
(24/15)
والتوفيق:خلق القدرة على الطاعة فنفي هداية الله عنهم كناية عن نفي توفيقه ولطفه لأن الهداية مسببة عن التوفيق فعبر بنفي المسبب عن نفي السبب.وكذبهم هو ما اختلقوه من الكفر بتألية الأصنام،وما ينسأ عن ذلك من اختلاق صفات وهمية للأصنام وشرائع يدينون بها لهم.
والكَفَّار:شديد الكفر البليغه،وذلك كفرهم بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بإعراضهم عن تلقيه،والتجرد عن الموانع للتدبر فيه.
وعلم من مقارنة وصفهم بالكذب بوصفهم بالأبلغية في الكفر أنهم متبالغون في الكذب أيضا لأن كذبهم المذموم إنما هو كذبهم في كفرياتهم فلزم من مبالغة الكفر مبالغة الكذب فيه.
[4] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفارون في اتخاذهم أولياء من دون الله، وفي قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]،فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدهم في جملة شركائهم شركاء زعموا لهم بنوة الله تعالى،حيث قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116]فإن المشركين يزعمون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم:19ـ21].
قال في "الكشاف" :"هنالك كانوا يقولون:إن الملائكة وهذه الأصنام "يعني هذه الثلاثة" بنات الله". وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون:"الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة،والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزى ومناة،لأن أسماءها مؤنثة،وإلا فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكر نحو ذي الخلصة،وذكر في "الكشاف" عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم:باسم اللات،باسم العزى.
فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي.واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله.
ومعنى الآية:لو كان الله متخذا ولدا لأختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره،أي
(24/16)
لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شان الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى،وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى،فتكون {لو} هنا هي الملقبة {لو} الصهبية،أي التي شرطها مفروض فرضا على أقصى احتمال وهي التي يمثلون لها بالمثل المشهور:"نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"،فكان هذا إبطالا لما تضمنه قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} إلى قوله: {كَفَّارٌ} [الزمر:3].وليس هو إبطالا لمقالة بعض العرب:إن الملائكة بنات الله،لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم،ولا إبطالا لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به،وليس المقصود محاجة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجة النصارى.
واعلم أنه بنى الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولد،فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبني لأن إبطال التبني بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى.
وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه،أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبني لا غير إذ لا تتعقل بنوة الله غير التبني ولو كان الله متبنيا لاختار ما هو الأليق بالتبني من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله.وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزى ومناة بطريق الأولى واتفاق الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين:طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى،وذكر دليل إبطال التبني لما لا يليق أن يتبناه الحكيم.
وهذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها،ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط {لو} وجوابها،وسكت بعضهم عن تفسيرها.فوقع في "الكشاف" ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب {لو} محذوفا وجعل المذكور في موضع الجواب إرشادا إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال:"يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع،ولم يصح لكونه "أي ذلك الاتخاذ" محالا
(24/17)
ولم يتأتَّ إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأغراض".فجعل ما هو في الظاهر جواب {لو} مفيدا معنى الاستدراك الذي يعقب المقدم والتالي غالبا،فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير "الكشاف" لدليل شرط {لو} وجوابه،واستظهر أن {لو} صهيبية تبعا لتقرير ذكره صاحب "الكشاف". وبعد فإن كلام صاحب الكشاف يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها،فيجعلُها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإفادة،فكان محمل "الكشاف" فيها بعيدا.ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفا كما أشار إليه الشَقَّار في كتابه "التقريب مختصر الكشاف" .
وقال ابن عطية:"معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبني وعلى هذا يستقيم قوله: {لاصْطَفَى} وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد يعني اتخاذ النسل فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله {لاصْطَفَى}. ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: {مِمَّا يَخْلُقُ} أي من محادثاته" اهـ وتبعه عليه الفخر.
وبنى عليه صاحب "التقريب" فقال عقب تعقب كلام "الكشاف" :"والأولى ما قيل:لو أراد أن يتخذ ولدا كما زعمتم لاختار الأفضل "أي الذكور" لا الأنقص و هن الإناث".وقال التفتزاني في "شرح الكشاف":"هذا معنى الآية بحسب الظاهر،وذكر أن صاحب "الكشاف" لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتزاني هناك.والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك "الكشاف" في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وينبغي أن لا تقطع بينها الأواصر،وكم ترك الأول للآخر.
وجملة {سُبْحَانَهُ} تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عودا إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
وجملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دليل للتنزيه المستفاد من {سُبْحَانَهُ} .فجملة {هُوَ اللَّهُ} تمهيد للوصفين، وذكر اسمه العلم لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل:هو الواحد القهار كما قال بعد: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر:5].وإثبات
(24/18)
الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه،وإثبات {الْقَهَّارُ} يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم.
والقهر:الغلبة،أي هو شديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته.
[5] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}
هذه الجملة بيان لجملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهارية،فتكون جملة {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ذات إتصالين:اتصال بجملة {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [الزمر:4]كاتصال التذييل،واتصال بجملة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} اتصال التمهيد.
وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإلهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم.
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة،أي خلقها خلقا ملابسا للحق وهو هنا ضد العبث،أي خلقهما خلقا ملابسا للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38ـ39].
وجملة {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ} بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان.وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره،أو لاستحضار حالة التكوير تبعا لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير.
والتكوير حقيقته:اللف والليُّ،يقال:كور العمامة على رأسه إذا لواها ولفها،ومثلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكس ذلك على
(24/19)
التعاقب بهيئة كور العمامة إذ تغشى اللية اللية التي قبلها.وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس،ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة،ومما يزيده إبداعا إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة فإن مادة التكوير جائية من اسم الكرة،وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي،والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذ فأومأ القرآن إليه بوصف العرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة،أو الليل والنهار،إذ جعل تعاورهما تكويرا لأن عرض الكرة يكون كرويا تبعا لذاتها،فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإلهية الحق بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يتبع ذلك الإنشاء من خلق العرضين العظيمين للأرض مادة التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف[54]،لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته،ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عرض وهو النور بتسليط الظلمة عليه،لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم.
وعطف جملة {وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} هو من عطف الجزء المقصود من الخبر كقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5].
وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل الله لهما من نظام السير سير المتبوع والتابع،وقد تقدم في سورة الأعراف وغيرها.وعطفت جملة {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على جملة {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} لأن ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه فإن ذلك التكوير من آثار ذلك التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها.
وجملة {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في موقع بدل اشتمال من جملة {سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} وذلك أوضح أحوال التسخير.وتنوين {كُلٌّ} للعوض،أي كل واحد.والجري:السير السريع.واللام للعلة.
والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما جعل جريهما كأنه
(24/20)
لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء،وذلك كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يّس:38]،فالتنكير في "أجل" للإفراد.
ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة.وليس العمر إلا أوقاتا محدودة وأنفاسا معدودة.وجري الشمس والقمر تحسب به تلك الأوقات والأنفاس،فصار جريهما كأنه لأجل.
قال أسقف نجران:
منع البقاءَ تقلُّبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تُمسي
وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة.
فالتنكير في {أَجَلٍ} للنوعية الذي هو في معنى لآجال مسماة.ولعل تعقيبه بوصف {الْغَفَّارُ} يرجح هذا المحمل كما سيأتي.
والمسمى:المجعول له وسم،أي ما به يعين وهو ما عينه الله لأن يبلغ إليه.وقد جاء في آيات أخرى {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ} [لقمان:29]بحرف انتهاء الغاية،ولام العلة وحرف الغاية متقاربان في المعنى الأصلي وأحسب أن اختلاف التعبير بهما مجرد تفنن في الكلام.
{أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}
استئناف ابتدائي في معنى الوعيد والوعد،فإن وصف {الْعَزِيزُ} كناية عن أنه يفعل ما يشاء لا غالب له فلا تجدي المشركين عبادة أوليائهم،ووصف {الْغَفَّارُ} مؤذن باستدعائهم إلى التوبة باتباع الإسلام.وفي وصف {الْغَفَّارُ} مناسبة لذكر الأجل لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضا على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك.وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي.
[6] {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .
(24/21)
انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب.وأدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوم ناموس التناسل.والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة،ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا تكريرا للاستدلال.
والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ،وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب،ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبل على خطابهم ليجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح.وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف،إلا أن في هذه الجملة عطف قوله: {جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه،فكان خلق آدم دليلا على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلا أخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته.فعطف بحرف {ثم} الدال على عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها،فكان خلق زوج آدم منه أدل على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجر به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس.فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد،فذكر الأصلان للناس معطوفا أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلا لخلق الناس.
وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضا.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}
استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافة بالبشر في قوام حياتهم.
وهذا اعتراض بين جملة {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وبين {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة.
وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله:
(24/22)
{لَكُمْ} لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإنسان وهي التي في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} إلى قوله: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:5ـ7]وقوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} الخ في سورة النحل[80].
والإنزال:نقل الجسم من علو إلى سفل،ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال:نزلوا على حكم فلان،لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال،قال خصاب بن المعلى من شعراء الحماسة:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شاهق عال إلى خفض
فإطلاق الإنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25]أي سخرناه للناس فألهمناهم إلى معرفة قينة يتخذونه سيوفا ودروعا ورماحا وعتادا مع شدته وصلابته. ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي،أي إنزال أصولها من سفينة نوح كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]،أي خلقنا أصلكم وهو آدم قال تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]فيكون الإنزال هو الإهباط قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48]،فهذان وجهان حسنان لإطلاق الإنزال،وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق،أي لأن خلقها بأمر التكوين ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة.
والأزواج:الأنواع،كما في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] والمراد أنواع الإبل والغنم والبقر والمعز.
وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنى لغيره لأن كل نوع يتقوم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفا.
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}
بدل من جملة {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير وهو استدلال بتطور خلق الإنسان على عظيم قدرة الله وحكمته ودقائق صنعته.
والتعبير بصيغة المضارع لإفادة تجدد الخلق وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضارا بالوجه والإجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب
(24/23)
إدراكها،ويعلم تفصيله علماء الطب والعلوم الطبيعية وقد بينه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" .
وقوله: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي طورا من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة:
الأول :طور النطفة،وهي جسم مخاطي مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة،طوله نحو خمسة مليمتر.
الثاني :طور العلقة،وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوما من وقت استقرار النطفة في الرحم،وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمترا يلوح فيها الرأس وتخطيطات من صور الأعضاء. الثالث :طور المضغة وهي قطعة حمراء في حجم النحلة.
الرابع :عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة سنتيمتر وحجم رأسه بمقدار نصف بقيته ولا يتميز عنقه ولا وجهه ويستمر احمراره.
الخامس :في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر سنتيمترا ووزنه مائة غرام ويبدو رسم جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره ويستمر احمرار جلده.
السادس :في الشهر الرابع يصير طوله عشرين سنتيمترا ووزنه 240 غرامات،ويظهر في الرأس زغب وتزيد أعضاؤه البطنية على أعضائه الصدرية وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر.
السابع :في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين سنتيمترا ووزنه خمسمائة غرام ويظهر فيه مطبقا وتتصلب أظافره.
الثامن:في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين سنتيمترا ويقل احمرارا جلده ويتكاثف جلده وتظهر على الجلد مادة دهنية دسمة ملتصقة،ويطول شعر رأسه ويميل إلى الشقرة وتتقبب جمجمته من الوسط.
التاسع :في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله ويكون طوله نحو أربعين
(24/24)
صنتيمترا،ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد،وتقوى حركته.
العاشر :في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين سنتيمترا ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال. ويتم عظمه،ويتضخم رأسه،ويكثف شعره،وتبتدئ فيه وظائف الحياة في الجهاز والرئة والقلب، ويصير نماؤه بالغذاء،وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجَنِينِية.
و"الظلمات الثلاث":ظلمة بطن الأم،وظلمة الرحم،وظلمة المشيمة،وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطا به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية من دورته الدموية الخاصة به دون أمه.وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشد ما تكون فيه من الخفاء.
وانتصب {خَلْقاً} على المفعولية المطلقة المبينة للنوعية باعتبار وصفه بأنه {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} ،ويتعلق قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} بـ {يَخْلُقُكُمْ} .
وقرأ الجمهور {أُمَّهَاتُكُمْ} بضم الهمزة وفتح الميم في حالي الوصل والوقف. وقرأه حمزة في حال الوصل بكسر الهمزة إتباعا لكسرة نون {بُطُونِ} وبكسر الميم إتباعا لكسر الهمزة.وقرأه الكسائي بكسر الميم في حال الوصل مع فتح الهمزة.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
بعد أن أجري على اسم الله تعالى من الأخبار والصفات القاضية بأنه المتصرف في الأكوان كلها: جواهرها وأعراضها،ظاهرها وخفيها،ابتداء من قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الزمر:5]، ما يرشد العاقل إلى أنه المنفرد بالتصرف المستحق العبادة المنفردة بالإلهية أعقب ذلك باسم الإشارة للتنبيه على أنه حقيق بما يرد بعده من أجل تلك التصرفات والصفات.والجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت.
واسم الإشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزا يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإشارة على نحو ما قرر في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
والمعنى:ذلكم الذي خلق وسخر وأنشأ الناس والأنعام وخلق الإنسان أطوارا هو الله،فلا تشركوا معه غيره إذ لم تبق شبهة تعذر أهل الشرك بشركهم،أي ليس شأنه بمشابه
(24/25)
حال غيره من آلهتكم قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرعد:16].
والإتيان باسم العلَم لإحضار المسمى في الأذهان باسم مختص زيادة في البيان لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى.
واسم الجلالة خبر عن اسم الإشارة. وقوله: {رَبُّكُمْ} صفة لاسم الجلالة.
ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإيجاد والإمداد وهو معنى الربوبية، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
وجملة {لَهُ الْمُلْكُ} خبر ثان عن اسم الإشارة.
والملك:أصله مصدر ملك،وهو مثلث الميم إلا أن مضمون الميم خصه الاستعمال بملك البلاد ورعاية الناس،وفيه جاء قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، وصاحبه:ملك،بفتح الميم وكسر اللام،وجمعه:ملوك.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الادعائي،أي الملك لله لا لغيره،وأما ملك الملوك فهو لنقصه وتعرضه للزوال بمنزلة العدم،كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]،وفي حديث القيامة:"ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض"،فالإلهية هي الملك الحق،ولذلك كان ادعاؤهم شركاء للإله الحق خطأ، فكان الحصر الادعائي لإبطال ادعاء المشركين.
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بيان لجملة الحصر في قوله: {لَهُ الْمُلْكُ} .وفرع عليه استفهام إنكاري عن انصرافهم عن توحيد الله تعالى،ولما كان الانصراف حالة استفهم عنها بكلمة {أَنَّى} التي هي بمعنى "كيف" كقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101].
والصرف:الإبعاد عن شيء،والمصروف عنه هنا محذوف، تقديره: عن توحيده، بقرينة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
(24/26)
وجعلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفا،فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم: فأنى تنصرفون،نعيا عليهم بأنهم كالمقودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون، يعني أئمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم.وذلك إلهاب لأنفسهم ليكفوا عن امتثال أيمتهم الذين يقولون لهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26]،عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم.
والمعنى:فكيف يصرفكم صارف عن توحيده بعدما علمتم من الدلائل الآنفة.والمضارع هنا مراد منه زمن الاستقبال بقرينة تفريعه على ما قبله من الدلائل.
[7] {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة،بأن أعلموا بأن كفرهم إن أصروا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم.وهذا شروع في الإنذار والتهديد للكافرين ومقابلته بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإلهية.
فجملة {إِنْ تَكْفُرُوا} مبينة لإنكار انصرافهم عن التوحيد،أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غني عنكم.ومعناه:غني عن إقراركم له بالوحدانية،أي غير مفتقر له.وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله،وتذكيرهم بهذا ليقبلوا على النظر من أدلة التوحيد.والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله.
وقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكر سواء عنده،ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ.وبهذا تعين أن يكون المراد من قوله: {لِعِبَادِهِ} العباد الذين وجه الخطاب إليهم في قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} ،وذلك جري على أصل استعمال اللغة لفظ العباد، كقوله: {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ
(24/27)
وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} 1 [الفرقان:17]الآية،وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى السم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقربين،وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهورا دون ظهورها في قوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17].
والرضى حقيقته:حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به،وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض،ولهذا يقابل الرضى بالسخط،وتقابل الإرادة بالإكراه،والرضى آئل إلى معنى المحبة.
والرضى يترتب عليه نفاسة المرضي عند الراضي وتفضيله واختياره،فإذا أسند الرضى إلى الله تعالى تعين أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزه عن الانفعالات،كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل:الرحمن والرؤوف،وإسناد الغضب والفرح والمحبة، فيؤول الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإثابة إن عدي إلى الناس،ومن النفاسة والفضل إن عدي إلى أسماء المعاني.وقد فسره صاحب "الكشاف" بالاختيار في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} في سورة العقود[3].
وفعل الرضى يعدي في الغالب بحرف "عن"،فتدخل على اسم عين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى.وقد يعدى بالباء فيدخل غالبا على اسم معنى نحو:رضيت بحكم فلان،ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو:رضيت بالله ربا،أو نحوه مثل {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة:38]،أو قرينة مقام كقول قريش في وضع الحجر الأسود:هذا محمد قد رضينا به،أي رضينا به حكما إذ هم قد اتفقوا على تحكيم أول داخل.
ويعدى بنفسه،ولعله يراعي فيه التضمين،أو الحذف والإيصال،فيدخل غالبا على اسم معنى نحو: رضيت بحكم فلان بمعنى:أحببت حكمه.وفي هذه الحالة قد يعدى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3]،أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم،أي لأجلكم،أي لمنفعتكم وفائدتكم.وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {ويوم نحشرهم جميعاً فيقول} وهذا خطأ.
(24/28)
فإذا كان قوله: {لِعِبَادِهِ} عاما غير مخصوص وهو من صيغ العموم ثار في الآية إشكال بين المتكلمين في تعلق إرادة الله تعالى بأفعال العباد إذ من الضروري أن من عباد الله كثيرا كافرين،وقد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر،وثبت بالدليل أن كل واقع هو مراد الله تعالى إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد فأنتج ذلك بطريقة الشكل الثالث أن يقال:كفر الكافر مراد الله تعالى لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]ولا شيء من الكفر بمرضي الله تعالى لقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ،ينتج القياس بعض ما أراد الله ليس بمرضي له فتعين أن تكون الإرادة والرضى حقيقتين مختلفتين وأن يكون مختلفتين وأن يكون لفظاهما غير مترادفين،ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الأشعري:"إن الإرادة غير الرضى،والرضى غير الإرادة والمشيئة،فالإرادة والمشيئة بمعنى واحد والرضى والمحبة والاختيار بمعنى واحد"،وهذا حمل لهذه الألفاظ القرآنية على معان يمكن معها الجمع بين الآيات قال التفتزاني: "وهذا مذهب أهل التحقيق".
وينبني عليها القول في تعلق الصفات الإلهية بأفعال العباد فيكون قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} راجعا إلى خطاب التكاليف الشرعية،وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]راجعا إلى تعلق الإرادة بالإيجاد والخلق.ويتركب من مجموعهما ومجموع نظائر كل منهما الاعتقاد بأن للعباد كسبا في أفعالهم الاختيارية وأن الله تتعلق أرادته بخلق تلك الأفعال الاختيارية عند توجه كسب العبد نحوها، فالله خالق لأفعال العبد غير مكتسب لها.والعبد مكتسب غير خالق،فإن الكسب عند الأشعري هو الاستطاعة المفسرة عنده بسلامة أسباب الفعل وآلاته،وهي واسطة بين القدرة والجبر، أي هي دون تعلق القدرة وفوق تسخير الجبر جمعا بين الأدلة الدينية الناطقة بمعنى:أن الله على كل شيء قدير،وأنه خالق كل شيء،وبين دلالة الضرورة على الفرق بين حركة المرتعش وحركة الماشي، وجمعا بين أدلة عموم القدرة وبين توجيه الشريعة خطابها للعباد بالأمر بالإيمان والأعمال الصالحة، والنهي عن الكفر والسيئات وترتيب الثواب والعقاب.
وأما الذين رأوا الاتحاد بين معاني الإرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعري وجميع الماتريدية فسلكوا في تأويل الآية محمل لفظ {لِعِبَادِهِ} على العام المخصوص،أي لعباده المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجاري على غالب استعمال القرآن في لفظة العباد لاسم الله،أو ضميره كقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]،قالوا:فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه،والتزم
(24/29)
كلا الفريقين الأشاعرة والماتريدية أصله في تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمى بالكسب ولم يختلفا إلا في نسبة الأفعال للعباد:أهي حقيقية أم مجازية،وقد عد الخلاف في تشبيه الأفعال بين الفريقين لفظيا.
ومن العجيب تهويل الزمخشري بهذا القول إذ يقول:"ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت الله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال:هذا من العام الذي أريد به الخاص الخ"،فكان آخر كلامه ردا لأوله وهل يعد التأويل تضليلا أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل.
وأما المعتزلة فهم بمعزل عن ذلك كله لأنهم يثبتون القدرة للعباد على أفعالهم وأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى ويحملون ما ورد في الكتاب من نسبة أفعال من أفعال العباد إلى الله أو إلى قدرته أنه على معنى أنه خالق أصولها وأسبابها،ويحملون ما ورد من نفي ذلك كما في قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} على حقيقته ولذلك أوردوا هذه الآية للاحتجاج بها.وقد أوردها إمام الحرمين في "الإرشاد" في فصل حشر فيه ما استدل به المعتزلة من ظواهر الكتاب.
وقوله: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} عطف على جملة {إِنْ تَكْفُرُوا} والمعنى:وإن تشكروا بعد هذه الموعظة فتعلقوا عن الكفر وتشكروا الله بالاعتراف له بالوحدانية والتنزيه يرض لكم الشكر،أي يجازيكم بلوازم الرضى.والشكر يتقوم من اعتقاد وقول وعمل جزاء على نعمة حاصلة للشاكر من المشكور.والضمير المنصوب في قوله: {يَرْضَهُ} عائد إلى المتصيد من أفعال إن تشكروا.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
كأن موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافرا وشاكرا وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء،فربما تحرج المؤمنين من أن يمسهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم،أو أنهم خشوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم أنفسهم.
وأصل الوزر،بجر الواو:الثقل،وأطلق على الإثم لأنه يلحق صاحبه تعب كتعب حامل الثقل.ويقال: وزر بمعنى حمل الوزر،بمعنى كسب الإثم.وتأنيث {وَازِرَةٌ} و {أُخْرَى} باعتبار إرادة معنى النفس في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48].
(24/30)
والمعنى:لا تحمل نفس وزر نفس أخرى،أي لا تغني نفس عن نفس شيئا من إثمها فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها،وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها.وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضلال لا أن يلجئوهم إلى الإيمان،كما تقدم في آخر سورة الأنعام.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{ثم} للترتيبين الرتبي والتراخي،أي وأعظم من كون الله غنيا عنكم أنه أعد لكم الجزاء على كفركم وسترجعون إليه،وتقدم نظيرها في آخر سورة الأنعام.
وإنما جاء في آية[الأنعام:164] {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} لأنها وقعت إثر آيات كثيرة تضمنت الاختلاف بين أحوال المؤمنين وأحوال المشركين ولم يجيء مثل ذلك هنا،فلذلك قيل هنا: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ،أي من كفر من كفر وشكر من شكر.
والإنباء:مستعمل مجازا في الإظهار الحاصل به العلم،ويجوز أن يكون مستعملا في حقيقة الإخبار بأن يعلن لهم بواسطة الملائكة أعمالهم،والمعنى:أنه يظهر لكم الحق لا مرية فيه أو يخبركم به مباشرة،وتقدم بيانه في آخر الأنعام،وفيه تعريض بالوعد والوعيد.
وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لجملة {يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن العليم بذات الصدور لا يغادر شيئا إلا علمه فإذا أنبأ بأعمالهم كان إنباؤه كاملا.
وذات:صاحبة،مؤنث "ذو" صاحب صفة لمحذوف تقديره الأعمال،أي بالأعمال صاحبة الصدور، أي المستقرة في النوايا فعبر بـ {الصُّدُورِ} عما يحل بها،والصدور مراد بها القلوب المعبر بها عما به الإدراك والعزم،وتقدم في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43].
[8] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}
(24/31)
هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة،وبين إظهار احتياجهم إليه،فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه.والجملة معطوفة على جملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [الزمر:6]الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر،وعلى أن الكفر به قبيح،وتتضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده،وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء.
فالتعريف في {الْأِنْسَانَ} تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} لا يتفق مع حال المؤمنين.
والقول بأن المراد:انسان معين وأنه عتبة بن ربيعة،أو أبو جهل،خروج عن مهيع الكلام،وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس.وذكر الإنسان إظهار في مقام الإضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7 , 6]،فكان مقتضى الظاهر أن يقال:وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ،فعدل إلى الإظهار لما في معنى الإنسان من مراعاة ما في الإنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمة الله بالتوفيق كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66]،وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]وغير ذلك ولأن في اسم الإنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} . وتقدم نظير لهذه الآية في قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في سورة الروم[33].
والتخويل:الإعطاء والتمليك دون قصد عوض.وعينه واو لا محالة.وهو مشتق من الخول بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم،ولا التفات إلى فعل خال بمعنى:افتخر،فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خول.
والنسيان:ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقا.
وما صدق {مَا} في قوله: {مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} هو الضر،أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه،أي إلى كشفه عنه،ومفعول {يَدْعُو} محذوف دل عليه قوله: {دَعَا رَبَّهُ} ،وضمير {إِلَيْهِ} عائد إلى {مَا} ،أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه.ويجوز أن يكون {مَا} صادقا على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور بـ"إلى" عائدا إلى {رَبُّهُ} ،أي نسي الدعاء،وضُمِّن الدعاء معنى الابتهال
(24/32)
والتضرع فعدي بحرف "إلى".وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفاديا من تكرر الضمائر.والمعنى:نسي عبادة الله والابتهال إليه.
والأنداد:جمع نِدّ بكر النون،وهو الكفء،أي وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء.
واللام في قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} لام العاقبة،أي لام التعليل المجازي لأن الإضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل.والمعنى:وجعل لله أندادا فضل عن سبيل الله.
وقرأ الجمهور {لِيُضِلَّ} بضم الياء،أي ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء،أي ليضل هو،أي الجاعل وهو إذا ضل أضل الناس.
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
استئناف بياني لأن ذكر حالة الإنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر،أي قل يا محمد للإنسان الذي جعل لله أندادا،أي قل لكل واحد من ذلك الجنس، أو روعي في الإفراد لفظ الإنسان.والتقدير:قل تمتعوا بكفركم قليلا إنكم من أصحاب النار.وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإنسان في قوله تعالى: {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} في سورة القيامة[10ـ12].
والتمتع:الانتفاع الموقت،وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة[الأعراف:24].
والباء في {بِكُفْرِكَ} ظرفية أو للملابسة وليست لتعدية فعل التمتع.ومتعلق التمتع محذوف دل عليه سياق التهديد.والتقدير:تمتع بالسلامة من العذاب في زمن كفرك أو متكسبا بكفرك تمتعا قليلا فأنت آئل إلى العذاب لأنك من أصحاب النار.
ووصف التمتع بالقليل لأن مدة الحياة الدنيا قليل بالنسبة إلى العذاب في الآخرة،وهذا كقوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].وصيغة الأمر في قوله: {تَمَتَّعْ} مستعملة في الإمهال المراد منه الإنذار والوعيد.
وجملة {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} بيان للمقصود من جملة {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} وهو الإنذار بالمصير إلى النار بعد مدة الحياة.و {من} للتبعيض لأن المشركين بعض الأمم
(24/33)
والطوائف المحكوم عليها بالخلود في النار.
وأصحاب النار:هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة،فأصحاب النار:المخلدون فيها.
[9] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
قرأ نافع وابن كثير وحمزة وحدهم {أَمَّنْ} بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على "من" الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و"من" مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} إلى قوله: {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإنكار تعقيبه بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لظهور أن {هل} فيه للاستفهام الإنكاري وبقرينة صلة الموصول.تقديره:أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر? والاستفهام حينئذ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وجعل الفراء الهمزة للنداء و {مَنْ هُوَ قَانِتٌ} :النبي صلى الله عليه وسلم،ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف، يعني المؤمنين أن يقولوا: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون،وعليه فإفراد "قل" مراعاة للفظ "من" المنادى.
وقرأ الجمهور {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} بتشديد ميم "مَنْ" على أنه لفظ مركب من كلمتين "أم" و"من" فأدغمت ميم "أم" في ميم "من".وفي معناه وجهان:
أحدهما:أن تكون "أم" معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها "أم" لاقتضائها معادلا.ودل عليها تعقيبه بـ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين.فالتقدير:أهذا الجاعل لله أندادا الكافر خير أمن هو قانت،والاستفهام حقيقي والمقصود لازمه،وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل.
والوجه الثاني:أن تكون "أم" منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.و"أم" تقتضي استفهاما مقدرا بعدها. ومعنى الكلام:دع تهديدهم بعذاب النار وانتقل بهم إلى هذا
(24/34)
السؤال:الذي هو قانت،وقائم،ويحذر الله ويرجو رحمته.والمعنى:أذلك الإنسان الذي جعل لله أندادا هو قانت الخ،والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقى تلك الصفات الأربع مع صفة جعله لله أندادا.
والقانت:العابد.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة [البقرة:283]
والآناء:جمع أَنىً مثل أمعاء ومعى،وأقفاء وقفى،والأنى:الساعة،ويقال أيضا:إنى بكسر الهمزة،كما تقدم في قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} في سورة الأحزاب.وانتصب {آنَاءَ} على الظرف لـ {قَانِتٌ} ،وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله،وأبعد على مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم،فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقريب إلى الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]،فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالا على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناء النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} [المزمل:7]،وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {سَاجِداً وَقَائِماً} حالان مبينان لـ {قَانِتٌ} ومؤكدان لمعناه.وجملة {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} حالان،فالحال الأول والثاني لوصف عمله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته.وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات،وهي أوقات الاضطرار،ثم يشركون به بعد ذلك،فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها.
والرجاء الخوف من مقامات السالكين،أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول.والرجاء:انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس.والخوف:انتظار ما هو مكروه للنفس.والمراد هنا:الملاءمة الأخروية لقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} ،أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضا المأمول في الآخرة.وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله،وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين.
وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأنه المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلا ولا يظن
(24/35)
المرء إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه،لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه،فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19]فإن ترقب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غرورا.
وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنا مع تردد في المظنون،أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]،وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وقد بسط ذلك حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب الإحياء.ولله در أبي الحسن التهامي إذ يقول:
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شَفير هار
وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال:"هذا تمن وإنما الرجاء،قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} .
وقال بعض المفسرين:"أريد بـ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} أبو بكر"،وقيل:"عمار بن ياسر"،وقيل:"أبو ذر"، وقيل:"ابن مسعود"،وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحق من تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
استئناف بياني موقعه كموقع {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} [الزمر:8]أثاره وصف المؤمن الطائع،والمعنى: أعلمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه.وإعادة فعل {قُلْ} هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسترعاء الأسماع إليه.
والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار.والمقصود:إثبات عدم المساواة بين الفريقين،وعدم المساواة يكنى به عن التفضيل.والمراد:تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمونه،كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} [النساء:95]الآية,فيعرف المفضل بالتصريح كما في آية {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء:95]أو بالقرينة كما في قوله هنا: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} الخ لظهور أن العلم كمال و لتعقيبه بقوله: {نَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
(24/36)
الْأَلْبَابِ} . ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما
وفعل {يَعْلَمُونَ} في الموضعين منزل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول.والمعنى:الذين اتصفوا بصفة العلم،وليس المقصود الذين علموا شيئا معينا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه،وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي أهل العقول،والعقل والعلم مترادفان،أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم،مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام،كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر.فتعين أن المعنى:لا يستوي من هو قانت آناء الليل يحذر ربه ويرجوه، ومن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله. وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أندادا هم الكفار بحكم قوله {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون،أي هم أفضل منهم،وإذ تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة.
وعدل عن أن يقول:هل يستوي هذا وذاك،إلى التعبير بالموصول إدماجا للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين، فالذين يعلمون هم أهل الإيمان،قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفة حق،وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة.
هذا ووقوع فعل {يَسْتَوِي} في حيز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء.وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم،فإنك ما تأملت مقاما اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدت للعالم فيه من السعادة ما لا تجده ولنضرب لذلك مثلا بمقامات ستة هي جل وظائف الحياة الاجتماعية.
المقام الأول:الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل،
(24/37)
فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيسر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإقبال عنه،وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه،فإما أن يخيب في سعيه وإما أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتتنابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده،ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة.
والمقام الثاني :ناشئ عن الأول وهو مقام السلامة من نوائب الخطأ ومزلات المذلات،فالعالم يعصمه علمه من ذلك والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة،فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثله قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16]إذ مثلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سعي الجاهل بخبط العشواء،ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم.
المقام الثالث :مقام أنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوسا بها واثقا بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيسا بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع،فإن اجتهد لنفسه خشي الزلل وإن قلد خشي زلل مقلده،وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20].
المقام الرابع :مقام الغنى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد علم العالم قوي غناه عن الناس في دينه ودنياه.
المقام الخامس: الالتذاذ بالمعرفة،وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة.وقد ضرب الله مثلا بالظل إذ قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19ـ20]فإن الجلوس في الظل يلتذ به أخل البلاد الحارة.
المقام السادس :صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل.فإن العالم مصدر الإرشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].والعلم على مزاولته
(24/38)
ثواب جزيل،قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" .وعلى بثه مثل ذلك،قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:صدقة جارية، وعلم بثه في الصدور،وولد صالح يدعو له بخير" .
فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وتتشعب من هذه المقامات فروع جمة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصود منه تفضيل العالم والعلم، فإن كلمة "إنما" مركبة من حرفين "إن" و "ما" الكافة أو النافية فكانت "إن" فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غناء فاء التعليل إذ لا فرق بين "إن" المفردة "وإن" المركبة مع "ما"،بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته "إن" عن غير من أثبتته له.وقد أخذ في تعليل ذلك جانب إثبات التذكير للعالمين،ونفيه من غير العالمين،بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .
والألباب:العقول،وأولو الألباب:هم أهل العقول الصحيحة،وهم أهل العلم.فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون.فليس قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} كلاما مستقلا.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشد الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر،بخلاف حال المشركين في ذلك كله،أتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم،والتقدير: قل للمؤمنين،بقرينة قوله: {يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ.
وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفا،وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى،كل ذلك يؤذن بالاهتمام سيقال وبأنه
(24/39)
سيقال لهم عن ربهم،وهذا وضع لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة.وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها {عباد} وهو استعمال كثير في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.
وقرأه العشرة {يَا عِبَادِ} بدون ياء في الوصل والوقف كما في إبراز المعاني لأبي شامة وكما في الدرة المضيئة في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري،بخلاف قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53]الآتي في هذه السورة،فالمخالفة بينهما مجرد تفنن.وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون،فانتسابهم إلى الله مقرر فاستغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه،بخلاف الآية الآتية،فليس في كلمة {يَا عِبَادِ} من هذه الآية إلا وجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتاب المصحف بدون ياء بعد الدال.
وما وقع في تفسير ابن عطية من قوله:"وقرأ جمهور القراء {قُلْ يَا عِبَادِيَ} بفتح الياء.وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعشى وابن كثير {يَا عِبَادِ} بغير ياء في الوصل" اهـ.سهو،وإنما أختلف القراء في الآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في هذه السورة[53] فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره.
والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متقون من قبل،وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يقصروا في تقواهم.وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم، وهو ما عرض به في قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} .
وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة. وجملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} ، ولكن جعل قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} تمهيدا له لقصد تعجيل التكافل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم.ويجوز أن تكون جملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها.
والمراد بالذين أحسنوا:الذين اتقوا الله وهو المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9]الآية،لأن تلك الخصال تدل على الإحسان المفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ،فعدل عن التعبير بضمير
(24/40)
الخطاب بأن يقال:لكم في الدنيا حسنة،إلى الإتيان باسم الموصول الظاهر وهو {الِذِينَ أَحْسَنُوا} ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة.وذلك في معنى:اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم.وتقديم المسند في {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} للاهتمام بالمحسن إليهم وأنهم أحرياء بالإحسان.
والمراد بالحسنة الحالة الحسنة،واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة:201].وقوله في عكسه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].وتوسيط قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بين {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } وبين {حَسَنَةٌ} نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإكثار المعاني التي يسمح بها النظم، وهذا من طرق إعجاز القرآن.فيجوز أن يكون قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} حالا من {حَسَنَةٌ} قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا،لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} .وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة النحل[30]قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} ،أي خير من أمور الدنيا،ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين،فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومى إليه بقوله بعده: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يوفون أجرهم في الآخرة.قال السدي:"الحسنة في الدنيا الصحة والعافية".ويجوز أن يكون في قوله "في الدنيا" متعلقا بفعل {أَحْسَنُوا} على أنه ظرف لغوي،أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك.
وتنوين {حَسَنَةٌ} للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي،وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي،أي حسنة أعظم من المتعارف،وأياما كان فاسم الإشارة في قوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان.وعليه فالمراد بـ {حَسَنَةٌ} يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا،كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} في سورة البقرة[201].وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النحل قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} ،فألحق بها ما قرر هنا.
(24/41)
وعطف عليه {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} عطف المقصود على التوطئة.وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فرارا بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعة أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه،كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزنِّي بقعة من بقاعها
والوجه أن تكون جملة {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل.
والمعنى:إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك.وليس حسن العيش ولا ضده مقصورا على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].
والمراد:الإيماء إلى الهجرة إلى الحبشة.قال ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} :"يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة".ونكتة الكناية هنا إلقاء الإشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغم على النفس،وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا.
وموقع جملة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} موقع التذييل لجملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر،فذيل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاما للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب.
والصبر:سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك،وتقدم عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} في سورة البقرة[155].وصيغة العموم في قوله: {الصَّابِرِينَ} تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات،ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر.
والتوفية:إعطاء الشيء وافيا،أي تاما.والأجر:الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن.
وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يتصدى لعده،والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك
(24/42)
شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر.
وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25].
والحصر المستفاد من {إنما} منصب على القيد وهو {بِغَيْرِ حِسَابٍ} والمعنى:ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب،وهو قصر قلب مبني على قلب ظن الصابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم،أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم.
والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" ،فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا. وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصدا بلاد الحبشة فلقيه ابن الدغِنَة فَصدَّه وجعله في جواره.
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعذر بعض المؤمنين فيما لقوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين لبث دعوة الإسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسوله صلى الله عليه وسلم،وأصبح انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيأ له بلطفه دخول أهلها في الإسلام وكل ذلك جرى بقدر وحكمة ولطف برسوله صلى الله عليه وسلم.
[12,11] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}
بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا} [الزمر:10]أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يقول قولا يتعين أنه مقول لغير المسلمين.
نقل الفخر عن مقاتل:أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على هذا الدين
(24/43)
الذي أتيتنا به،ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى،فأنزل الله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} .
وحقا فإن إخبار النبي بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذين يبتغون صرفه عن ذلك.ويجوز أن يكون موجها إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن،فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصا له الدين،أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:94ـ95]،أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخص ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومماته لله،أي فلا يفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام[163,162] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
فكان قوله: {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} علة لـ {أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ،فالتقدير:وأمرت بذلك لأن أكون أول المسلمين،فمتعلق {أُمِرْتُ} محذوف لدلالة قوله: {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} عليه.
فـ {أَوَّلَ} هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإخبار به،وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلاما بحيث أن ما يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الإسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال :"إني لأتقاكم لله وأعلمكم به" .
وعطف {وَأُمِرْتُ} الثاني على {أُمِرْتُ} الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور،وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين:أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصا له الدين،والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أول المسلمين،أي أمره الله بأن يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصا له الدين،فجعل وجوده متمحضا للإخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
(24/44)
[الأنعام:163,162].
واعلم أنه لما كان الإسلام هو دين الأنبياء في خاصتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة[132]ونظائرها كثيرة،كانت في هذه الآية دلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لشمول لفظ المسلمين للرسل السابقين.
[13] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
هذا القول متعين لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بأن يواجه به المشركين الذين كانوا يحاولون النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الدعوة وأن يتابع دينهم.وهما أحد الشقين اللذين وجه الخطاب السابق إليهما،وتعيين كل لما وجه إليه منطو بقرينة السياق وقرينة ما بعده من قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15].
وإعادة الأمر بالقول على هذا للتأكيد اهتماما بهذا المقول،وأما على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين في المراد من توجيه المطلب في قوله: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]الآية فتكون إعادة فعل {قل} لأجل اختلاف المقصودين بتوجيه القول إليهم ن وقد تقدم قول مقاتل:"قال كفار قريش للنبي:"ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى".
[14ـ15] {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}
أمر بأن يعيد التصريح بأنه يعبد الله وحده تأكيدا لقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]،لأهميه،وإن كان مفاد الجملتين واحدا لأنهما معا تفيدان أنه لا يعبد إلا الله تعالى باعتبار تقييد {أَعْبُدَ اللَّهَ} الأول بقيد {مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وباعتبار تقديم المفعول على {أَعْبُدَ} الثاني فتأكد معنى التوحيد مرتين ليتقرر ثلاث مرات،وتمهيدا لقوله: { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} وهو المقصود.
والفاء في قوله: {فَاعْبُدُوا} الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري.
والأمر في قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} مستعمل في معنى التخلية،ويعبر عنه بالتسوية.والمقصود التسوية في ذلك عند التكلم فتكون التسوية كناية عن قلة
(24/45)
الاكتراث بفعل المخاطب،أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة الكهف[29] {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ،أي اعبدوا أي شيء شئتم عبادته من دون الله.وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل.
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصا على إصلاحهم على عادة القرآن،ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعا بين الإرشاد وبين التوبيخ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون.
وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيها على أنه واقع وتعريف {الْخَاسِرِينَ} تعريف الجنس،أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر،فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم،وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسرا غيرهم كلا خسران،ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف.
ولما كان الكلام مسوقا بطريق التعريض بالذين دار الجدال معهم من قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} إلى قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 7ـ15]،علم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم،فأفاد معنى:أن الخاسرين أنتم،إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} لإدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
ومعنى خسرانهم أنفسهم:أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح،وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يلقونها في النعيم،بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف،فأطلق على هذه الهيئة تركيب {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ،وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} في أول سورة الأعراف[9].
(24/46)
وأما خسرانهم أهليهم فهو مثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]،وهذا قريب من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]،فكان خسرانهم خسرانا عظيما.
فقوله: {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف {الَّذِينَ خَسِرُوا} بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان،ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دال على قوة المصدر والمبالغة فيه.
وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم،بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلا على اسم الإشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز،وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} .
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون}
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}
بدل اشتمال من جملة {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15]،وخص بالإبدال لأنه أشد خسرانهم عليه لتسلطه على إهلاك أجسامهم.والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة.فضمير {لَهُمْ} عائد إلى مجموع {أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر:15].
والظلل:اسم جمع ظلة،وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصفة يستظل به الجالس تحته، مشتقة من الظل لأنها يكون لها ظل في الشمس، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة[210]،وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} في سورة لقمان[32].وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله: {مِنَ النَّارِ} ،شبهت بالظلة في العلو والغشيان مع التهكم لأنهم
(24/47)
يتمنون ما يحجب عنهم حر النار فعبر عن طبقات النار بالظلل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده،وقوله: {لَهُمْ} ترشيح للاستعارة.
وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللا لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة.
{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}
تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الزمر:15]الآية، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل:ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم? فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم.ولما كان وعيد الله خبرا منه ولا يكون إلا صدقا حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإخبار به وبوصفه،أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد.
ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى،إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة أهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتماما لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية.والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكنا لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل لظهور التكليف،وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث:"اشتكت النار إلى ربها فقالت:"أكل بعضي بعضا فأذن لها بنَفَسَيْن نفس في الشتاء ونفس في الصيف".ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ} إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور.والتخويف مصدر خوفه،إذا جعله خائفا إذا أراه ووصف له شيئا يثير في نفسه الخوف،وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس.
والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعم كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان،والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك،وليس العباد هنا مرادا به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن
(24/48)
قرينة قوله: {عِبَادَهُ} تدل على أن المنادين جميع العباد، ففرق بينه وبين نحو {يَا عِبَادِي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف:68].
{يَا عِبَادِ فَاتَّقُون}
تفريع وتعقيب لجملة {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب.
وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في سورة البقرة[197] لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب،فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفا بالواو.
وحذفت ياء المتكلم من قوله: {يَا عِبَادِ} على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.
[17ـ18] { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}
لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين.والجلة معطوفة على جملة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [الزمر:15]الآية.
والتعبير عن المؤمنين بـ {الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو {لَهُمُ الْبُشْرَى} ،وهذا مقابل قوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16].
والطاغوت:مصدر أو اسم مصدر طَغا على وزن فَعَلُوت بتحريك العين بوزن رحموت وملكوت. وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم:طغا طُغُوّاً مثل علو،وقولهم:طغوان وطغيان.وظاهر "القاموس" أنه واوي،وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واو زِنةِ فَعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتى قلبها ألفا حيث تحركت وانفتح ما
(24/49)
قبلها فصار طاغوت بوزن فلعوت بتحريك اللام وتاؤه زائدة للمبالغة في المصدر.
ومن العلماء من جعل الطاغوت اسما أعجميا على وزن فاعول مثل جالوت وطالوت وهارون، وذكره في "الإتقان" فيما وقع في القرآن من المعرب وقال:"إنه الكاهن بالحبشية.واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الأفاظ المعربة الواقعة في القرآن،وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء[51].
وأطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أو الظلم،فأطلق على الصنم،وعلى جماعة الأصنام،وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف.وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علما بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل،وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجري عليه ضمير المؤنث في قوله: {أَنْ يَعْبُدُوهَا} باعتبار أنه جمع لغير العاقل،وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} في سورة البقرة[257]باعتبار أنه وقع خبرا عن الأولياء وهو جمع مذكر،وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها.و {أَنْ يَعْبُدُوهَا} بدل من {الطَّاغُوتُ} بدل اشتمال.
والإنابة:التوبة وتقدمت في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود[75].والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية.
والبشرى:البشارة،وهي الإخبار بحصول نفع، وتقدمت في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في سورة يونس[64].والمراد بها هنا:البشرى بالجنة.
وفي تقديم المسند من قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} إفادة القصر وهو مثل القصر في {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
وفرع على قوله {لَهُمُ الْبُشْرَى} قوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وهم الذين اجتنبوا الطاغوت،فعدل عن الإتيان بضميرهم بأن يقال:فبشرهم،إلى الإظهار باسم العباد مضاف إلى ضمير الله تعالى،وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما:صفة العبودية لله،أي عبودية التقرب، وصفة استماع القول واتباع أحسنه.
وقرأ العشرة ما عدا السوسي راوي أبي عمرو كلمة {عِبَادِ} الدال دون ياء
(24/50)