الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
وقد بسطنا القول في معنى {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} في سورة الأنبياء.
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.
والزبر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب. استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أديانا وعقائد لو سجلت لكانت زبرا.
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه {زبرا} بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زبرة بمعنى قطعة.
وجملة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه، ففي الكلام صفة محذوفة ل {حِزْبٍ} أي كل حزب منهم، بدلالة المقام.
والفرح: شدة المسرة، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين. والمعنى: أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد، وذلك يومئ إليه {لَدَيْهِمْ} المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . وقديما كان التحزب مسببا لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.
والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه.
[54] {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم. وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا، أو هم عينهم: فمنهم اتخذ إلهه العزى. ومنهم من اتخذ مناة، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك.
والكلام ظاهره المتاركة، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء
(18/60)

العاقبة في وقت ما. ولذلك نكر لفظ {حِينٍ} المجعول غاية لاستدراجهم، أي زمن مبهم، كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} .
والغمرة حقيقتها: الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} في سورة الأنعام. وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم، وذلك تمثيل الحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يسبحون.
[56,55] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} باعتبار أن جملة {فَذَرْهُمْ} تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألهتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة والترف، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجا لهم. وهذا كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} .
والاستفهام في {أَيَحْسَبُونَ} إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلا لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها.
و {أنَّمَا} هنا كلمتان أن المؤكدة وما الموصوله وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب إنما المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطا كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة.
والإمداد: إعطاه المدد وهو العطاء. و {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} بيان لما الموصولة.
والمسارعة: التعجيل، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله. وفي حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أي يعطيك ما
(18/61)

تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعا في إعطائه مرغوبه، ويقال: فلان يجري في حظوظك. ومتعلق {نُسَارِعُ} محذوف تقديره: نسارع لهم به، أي بما نمدهم به من مال وبنين. وحذف لدلالة {نُمِدُّهُمْ بِهِ} عليه.
وظرفية في مجازية. جعلت {الخَيْرَاتِ} بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون في قرينة مكنية. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} كلاهما في سورة العقود، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} في سورة الأنبياء.
والخيرات: جمع خير بالألف والتاء، وهو من الجموع النادرة مثل سرادقات. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} في سورة براءة، وتقدم في سورة الأنبياء.
وبل إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم.
[61,57] {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ.وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته، ومن إشراكهم آلهة مع الله، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات، ومن تكذيبهم بالبعث. كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم، ألا ترى إلى قوله بعد هذا {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} .
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين. واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم، فحصل بهذا إيجاز بديع، وطباق من ألطف البديع، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع.
(18/62)

وافتتاح الجملة ب {إِنَّ} للاهتمام بالخبر، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعا بالعطف. والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات. ومن في قوله {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} للتعليل.
والإشفاق: توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} في سورة الأنبياء. وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه.
والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن. والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق {مُشْفِقُونَ} لدلالة السياق عليه.
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها.
ومعنى {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله. قال تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} الآية وقال {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . واستعمل الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا.
إنما عبر ب {مَا آتَوْا} دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعا وليعم القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب.
وجملة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجلا وخوفا من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيا عنهم، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين. وفي الحديث أن أهل الصفة قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكلم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
(18/63)

بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة" .
وقال أبو مسعود الأنصاري: لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به. ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى :{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
وخبر {إِنَّ} جملة {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} .
وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا.
وتقدم الكلام على معنى {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} آنفا.
ومعنى {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق.
وعلى التقديرين فاللام بمعنى إلى. وقد قيل إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى بإلى. وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
[62] {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون، لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين، وذكر بعده ما دل على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات. ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفا لا يشق عليهم، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذرا يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذ بذلوا غاية وسعهم. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} .
فقوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم. وقطع معذرتهم، وتيسير الاعتذار على الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} مع ما في ذلك من جبر
(18/64)

الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة.
ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم. فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته. وفي قوله: {لَدَيْنَا} دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان. والنطق مستعار للدلالة، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصواب وقدرة الله لا تحد.
وأما قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فالمناسب أن يكون مسوقا لمؤاخذة المفرطين والمعرضين فيكون الضمير عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} وأشباهه من الضمائر والاعتماد على قرينة السياق، وقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} وما بعده من الضمائر. والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى عموم الأنفس في قوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فيكون قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} من بقية التذييل، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} فيكون وعيدا لفريق ووعدا لفريق. وهذا أليق الوجهين بالإعجاز.
[63] {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
إضراب انتقال إلى ما هو أغرب مما سبق وهو وصف غمرة أخرى انغمس فيها المشركون فهم في غمرة غمرت قلوبهم وأبعدتها عن أن تتخلق بخلق الذين هم من خشية ربهم مشفقون كيف وأعمالهم إلى الضد من أعمال المؤمنين تناسب كفرهم، فكل يعمل على شاكلته.
فحرف من في قوله: {مِنْ هَذَا} يوهم البدلية، أي في غمرة تباعدهم عن هذا.
والإشارة ب {هَذَا} إلى ما ذكر آنفا من صفات المؤمنين في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
و {دُونِ} تدل على المخالفة لأحوال المؤمنين، أي ليسوا أهلا للتحلي بمثل تلك المكارم.
(18/65)

وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} يبين هذا، أي وأعمالهم التي يعملونها غير ذلك. ويذكرني هذا قول محمد بن بشير الخارجي في مدح عروة بن زيد الخيل:
يا أيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد أخلى لك السبلا
أعدد فضائل أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخلا
إن تنفق المال أو تكلف مساعيه ... يشفق عليك وتفعل دون ما فعلا
ولام {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} للاختصاص. وتقديم المجرور بها على المبدأ لقصر المسند إليه على المسند، أي لهم أعمال لا يعملون غيرها من أعمال الإيمان والخيرات.
ووصف {أَعْمَالٌ} بجملة {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} للدلالة على أنهم مستمرون عليها لا يقلعون عنها لأنهم ضروا بها لكثرة انغماسهم فيها.
وجيء بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على تلك الأعمال وثباتهم عليها.
ويجوز أن يكون تقديم {لَهَا} على {عَامِلُونَ} لإفادة الاختصاص لقصر القلب، أي لا يعملون غيرها من الأعمال الصالحة التي دعوا إليها. ويجوز أن يكون للرعاية على الفاصلة لأن القصر قد أفيد بتقديم المسند إليه.
[67,64] {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} .
{حَتَّى} ابتدائية. وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} .
وحتى الابتدائية يكون ما بعدها ابتداء كلام، فليس الدال على الغاية لفظا مفردا كما هو الشأن مع حتى الجارة وحتى العاطفة، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع.
وبهذه الغاية صار الكلام تهديدا لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه. والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
(18/66)

لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
وإذا الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل. وإذا الثانية فجائية داخلة على جواب شرط إذا.
والمترفون: المعطون ترفا وهو الرفاهية، أي المنعمون كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.
وإنما جعل الأخذ واقعا على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم. وكذلك حق على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر، وأن يسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} ، وقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
وتخصيص المترفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيويا أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة، ولأن المترفين هم أشد إحساسا بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام. وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} فإن الضميرين في {إِذَا هُمْ} و {يَجْأَرُونَ} عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {مُتْرَفِيهِمْ} بقرينة قوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} فإن ذلك كان من عمل جميعهم.
ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانيه ويكون ذكر المترفين تهويلا في التهديد تذكيرا لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تجبى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرمين لدى جميع القبائل، قال الأخطل:
فأما الناس ما حاشا قريشا ... فإنا نحن أفضلهم فعالا
وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى: { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
(18/67)

مِنْ خَوْفٍ} ، فيكون المعنى: حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم، كقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .
ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب. قال شداد بن الأسود:
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام
يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.
وضمير {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورثوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.
ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} الآية.
ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هددوا به. وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته. ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيرا وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العلهز1 والجيف سبع سنين، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.
وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين انه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة المؤمنين، وذلك المذكور في سورة الدخان {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} .
ـــــــ
1 بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء آخره زاي: هو الدم المجمد يخلط بالوبر ويشوى على النار.
(18/68)

وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ...} الآيات إلى قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كما ستعلمه.
وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.
ومعنى {يجَْأَرُونَ} يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجؤار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.
وجملة {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وهي مقول قول محذوف، أي تقول لهم: لا تجأروا اليوم.
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذا لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} .
وجملة {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} تعليل للنهي المستعمل في التسوية، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لجؤاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا، فموقع إن إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.
وضمن {تُنْصَرُونَ} معنى النجاة فعدي الفعل بمن، أي لا تنجون من عذابنا. فثم مضاف محذوف بعد من وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.
وقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على ملة {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.
(18/69)

والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة تتلى إذ التلاوة القراءة.
والنكوص: الرجوع من حيث أتى، وهو الفرار. والأعقاب: مؤخر الأرجل. والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل. وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} في سورة الأنفال.
وذكر فعل {كُنْتُمْ} للدلالة على أن ذلك شأنهم. وذكر المضارع للدلالة على التكرر فذلك خلق منهم معاد مكرور.
وضمير به يجوز أن يكون عائدا على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون {مُسْتَكْبِرِينَ} بمعنى معرضين استكبارا ويكون الباء بمعنى عن، أو ضمن {مُسْتَكْبِرِينَ} معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.
ويجوز أيضا أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكر تلاوة الآيات عليهم. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم. فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم، وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهرا للتواضع ومكارم الأخلاق، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتا لله حنيفا أشنع استكبار.
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله به للنبي صلى الله عليه وسلم والباء حينئذ للتعدية، وتضمين مستكبرين معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب. و {سَامِرَاً} حال ثانية من ضمير المخاطبين، أي حال كونكم سامرين. والسامر: اسم لجمع السامرين، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته، أو ضوء قمره. وأطلق السمر على الكلام في الليل، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال. وعندي أنه يجوز أن يكون {سَامِرَاً} مرادا منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلا ويكون نصبه على نزع الخافض، أي في سامركم، كما قال تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} .
و {تَهْجُرُونَ} بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر: إذ
(18/70)

قال الهجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء. وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا. والجملة في موضع الصفة لسامرا، أي في حال كونكم متحدثين هجرا وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
[70,68] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} . وهذا التفريع معترض بين جملة {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} وجملة {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه.
وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريق المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء.
ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم لذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه.
فالاستفهام الأول عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . والتدبر: إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصت له. وأصله أنه من النظر في دبر الأمر، أي فيما منه للمتأمل بادئ ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} في سورة النساء.
والمعنى: أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة
(18/71)

أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر.
والاستفهام الثاني هو المقدر بعد أم وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} . فأم حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي أم المنقطعة بمعنى بل ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة، فقوله: {جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ} تقديره: بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ وكذلك الإتيان.
وما الموصولة صادقة على دين. والمعنى: أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} .
ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي {مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا دينا جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم. ووجه التهكم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أنفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.
وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى: لم يأت آباءهم، كان الكلام مجرد تغليط، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفا للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} .
وأما الاستفهام الثالث المقدر بعد أم الثانية في قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على ان عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام وهو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء ولذلك تفرع على عدم
(18/72)

معرفتهم إنكارهم إياه، أي إنكارهم صفاته الكاملة.
فتعليق ضمر ذات الرسول ب {مُنْكِرُونَ} هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم} . وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء.
ولله در أبي طالب في قوله:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
وقال تعالى فيما أمر به رسوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} أي القرآن {أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} ، وهو الاستفهام الرابع، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذبا.
والجنة: الجنون، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن.
والجنة يطلق على الجن وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . ويطلق الجنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة. وتقدم عند قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في سورة الأعراف. وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتانا. وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام. ثم قد نقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهوبل.
والحق: الثابت في الواقع ونفس الأمر، يكون في الذوات وأوصافها. وفي الأجناس. وفي المعاني. وفي الأخبار. فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه السلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط.
فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع
(18/73)

ذلك من الشرائع النازلة بمكة كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم، والاعتراف للفاضل بفضله، وزجر الخبيث عن خبثه، وأخوة المسلمين بعضهم لبعض، والمساواة بينهم في الحق، ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين. ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان. والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم. فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسل حق نقضا لإنكارهم صدقه. ولقولهم هو مجنون كان ما بعد بل نقضا لقولهم.
وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير {أَكْثَرهُمْ} يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} فيكون المعنى: أكثر المشركين من قريش كارهون للحق. وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلفوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع. ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} .
وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافا لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة. فكان المعنى: بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم فأما أكثرهم فكراهية للحق وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم.
وتقديم المعمول في قوله: {لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية.
(18/74)

[71] {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة.
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء. وعلم من قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفا أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى. والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه، وهو مصدر بمعنى المفعول. وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة.
والاتباع: مجاز شائع في الموافقة، أي لو وافق الحق ما يشتهونه. ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس. فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له: فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحدا، وكونه لا يلد وكونه البعث واقعا للجزاء، فكونها حقا هو عين تقررها في الخارج.
ومنها الحقائق المعنوية الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات. وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما، وكون القتل عدوانا، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن، أي من في السماوات والأرض من الناس.
(18/75)

ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جاريا على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى؛ فمنها المتفق، وأكثرهم مختلف، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقا لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم.
فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء. وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السماوات والأرض كما تقدم. وقد قال الله تعالى في هذه السورة: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} الآية، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد.
ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السماوات والأرض ومن فيهن. فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل؛ فلم يعمل أحد خيرا إذ لا رجاء في ثواب. ولم يترك أحد شرا إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السماوات والأرض قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .
وكذا لو كان الحق حسن الاعتداء والباطل قبح العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة. ويزيد أمرها فسادا بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفا للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون.
وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
والظاهر أن من في قوله: {وَمَنْ فِيهِنَّ} صادقة على العقلاء من البشر والملائكة. ففساد البشر على فرض أن يكون جاريا على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه.
وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم آلهة لأن المتولد من جنس يجب
(18/76)

أن يكون مماثلا لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة. وأيضا لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح.
ويجوز أن يكون من صادقا على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال من. ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلاف مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه، فيفسد العالم. وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثا في إمكان فناء العالم وفرض أسبابا إن وجد واحدا منها في هذا العالم، وعد من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما. وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالا لزعمهم أن ما جاه به الرسول تصرفات مجنون.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها. كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحا عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئا طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري فإن الحق قديم قال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وعدي فعل {أَتَيْنَاهُمْ} بالباء لأنه استعمل مجازا في الإرسال والتوجيه.
والذكر يجوز أن يكون مصدرا بمعنى التذكير. ويجوز أن يكون اسما للكلام الذي يذكر سامعيه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية. وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر.
والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم، أي فتفرع على الإرسال إليهم
(18/77)

بالذكر إعراضهم عنه. والمعنى: أرسلنا إليهم القرآن ليذكرهم.
وقيل: إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فيكون الذكر على هذا مصدرا بمعنى الفاعل، أي ما يتذكرون به. والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة، أي فها قد أعطيناهم كتابا فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ} ، وقول عباس ابن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسان
وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} .
والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم. وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب.
[72] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
أم عاطفة على {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} وهلى للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة.
والاستفهام المقدر هنا إنكاري، أي ما تسألهم خرجا فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحا بأموالهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} على سبيل الفرض، والتقدير: إن كنت سألتكم أجرا فقد رددته عليكم فماذا يمنعكم من اتباعي. وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} كل ذلك على معنى التهكم. وأصرح منهما قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائيا من قبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم، فالاستفهام الذي في قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض
(18/78)

فيهم.
والخرج: العطاء المعين على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين. وعن ابن الأعرجي: التفرقة بينهما بأن الخرج بالإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين.
وقيل الخرج: ما تبرع به المعطي والخراج: ما لزمه أوداؤه. وفي الكشاف: والوجه أن الخرج أخص من الخراج يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب الفرائد في نقل الطيبي كقولك خراج القرية وخرج الكردة1 زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءةمن قرأ {خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير اه.
وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف.
هذا وقد قرأ الجمهور {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . وقرأ ابن عامر {خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ} . وقرأ حمزة والكسائي وخلف {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} .فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنبا لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ.
وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة.
وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع حسن المزاوجة بتماثل اللفظين. ولا توجهان على طريقة الزمخشري.
قال صاحب الكشاف: ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات أي قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} إلى هنا وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبي مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم
ـــــــ
1 الكرده - بضم الكاف وسكون الراء - الأرض ذات الزرع.
قال الهمذاني في "حاشيته" لا تعرفها العرب وإنما هي من كلام الكرد.
(18/79)

يعرض1 له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه.
وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} معترضة تكميلا للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله. ويفيد تأكيدا لمعنى {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} .
[74,73] {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}
أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما سموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك. وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير، فكما أن السائر إلى ما طلبته لا يبلغها إلا بطريق، ولا يكون بلوغه مضمونا ميسورا إلا إذا كان الطريق مستقيما فالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء.
والتأكيد بإن واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك التوكيد في قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} . والتعبير فيه بالموصول وصلته إظهار في مقام الإضمار حيث عدل عن أن يقول: وإنهم عن الصراط لناكبون. والغرض منه ما تنبئ به الصلة من سبب تنكبهم عن الصراط المستقيم أن سببه عدم إيمانهم بالآخرة.
وتقدم قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} في سورة الحجر.
والتعريف في {الصِّرَاطِ} أي هم ناكبون عن الصراط من حيث هو حيث لم يتطلبوا طريق نجاة فهم ناكبون عن الطريق بله الطريق المستقيم ولذلك لم يكن التعريف
ـــــــ
1 فعل ملتزم بناؤه للنائب. ومعناه لم يكن مجنونا.
(18/80)

في قوله: {عَنِ الصِّرَاطِ} للعهد بالصراط المذكور لأن تعريف الجنس أتم في نسبتهم إلى الضلال بقرينة أنهم لا يؤمنون بالآخرة التي هي غاية العامل من عمله فهم إذن ناكبون عن كل صراط موصل إذ لا همة لهم في الوصول.
والناكب: العادل عن شيء، المعرض عنه، وفعله كنصر وفرح. وكأنه مشتق من المنكب وهو جانب الكتف لأن العادل عن شيء يولي وجهه عنه بجانبه.
[75] {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
عطف على جملة {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} وما بينهما اعتراضات باستدلال عليهم وتنديم وقطع لمعاذيرهم، أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} .
ولو هنا داخلة على الفعل الماضي المراد منه الاستقبال بقرينة المقام إذ المقام للإنذار والتأييس من الإغاثة عند نزول العذاب الموعود به، وليس مقام اعتذار من الله عن عدم استجابته لهم أو عن إمساك رحمته عنهم لظهور أن ذلك لا يناسب مقام الوعيد والتهديد. وأما مجيء هذا الفعل بصيغة المضي فذلك مراعاة لما شاع في الكلام من مقارنة لو لصيغة الحاضر لأن أصلها أن تدل على الامتناع في الماضي ولذلك كان الأصل عدم جزم الفعل بعدها.
واللجاج بفتح اللام: الاستمرار على الخصام وعدم الإقلاع عن ذلك، يقال: لج يلج ويلج بكسر اللام وفتحها في المضارع على اختلاف حركة العين في الماضي.
والطغيان: أشد الكبر. والعمه: التردد في الضلالة. وفي طغيانهم متعلق بيعمهون قدم عليه للاهتمام بذكره، وللرعي على الفاصلة. وفي للظرفية المجازية المراد منها معنى السببية. وتقدم قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة.
[77,76] {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
استدلال على مضمون قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
(18/81)

طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم.
والجملة المتقدمة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه. ولكنه لما كان متعلقا بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه، كان المقام محفوفا بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى؛ ولذلك وقع قبله {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} ، ووقع بعده {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . والتعريف في قوله: {بِِالْعَذَابِ} للعهد، أي بالعذاب المذكور آنفا في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} الخ. ومصب الحال هو ما عطف على جملتها من قوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} ، فلا تتوهمن أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفا مستندا إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها. وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} إلى قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجوار دون التوبة والاستغفار.
وقيل: هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفا فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر.
والاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته. وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة.
وقيل الألف للإشباع، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة. وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذا كقول طرفة:
ينباع من ذفري غضوب جسرة
أي ينبع. وأشار في الكشاف إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
أراد: بمنتزح، فأشبع الفتحة.
(18/82)

ويبعد أن يكون {اسْتَكَانُوا} استفعالا من الكون من جهتين: جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه، وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح.
والتعبير بالمضارع في {يَتَضَرَّعُونَ} لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم. والتضرع: الدعاء بتذلل، وتقدم في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} في سورة الأنعام. والقول في جملة {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} كالقول في: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} .
وإذا من قوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} مثل إذا التي تقدمت في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِْْْْْ} الخ.
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزا عنه حسب قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} .
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه، أو تقول: شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم. وهذا كما مثل بقوله وفار التنور وقولهم: طفحت الكأس بأعمال فلان، وقوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} وقول علقمة:
فحق لشاس من نداك ذنوب
ومنه قول الكتاب: فتح باب كذا على مصراعيه، تمثيلا لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلا من الإحسان، وقول أبي تمام:
من شاعر وقف الكلام ببابه ... واكتن في كنفي ذراه المنطق
ووصف {بَابَاً} بكونه {ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال: باب عذاب كما قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} لأن {ذَا عَذَابٍ} يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب، وليتأتى بذلك وصف {عَذَابٍ} بشديد بخلاف قوله: {سَوْطَ عَذَابٍ} فقد استغني عن وصفه بشديد بأنه معمول لفعل صب الدال على الوفرة.
(18/83)

والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل. والأرجح: أن المراد به عذاب السيف يوم بدر. وعن مجاهد: أنه عذاب الجوع.
وقيل: عذاب الآخرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
والإبلاس: شدة اليأس من النجاة. قال: أبلس، إذا ذل ويئس من التخلص، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلا مجردا. فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المسح، وأن أصل أبلس صار ذا بلاس. وكان شعار من زهدوا في النعيم. يقال: لبس المسوح، إذا ترهب.
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} وما تفرع عليها من قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} إلى قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
[78] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}
هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة، وذلك قد انتقل عنه من قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فانتقل إلى الاعتبار بآية فلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فالجملة إما معطوفة على جملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} والغرض واحد وما بينهما انتقالات.
وإما مستأنفة رجوعا إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} .
وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم. وسماه السكاكي: قرى الأرواح، وجعله من آثار كرم العرب.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} تذكير بواحدانية الله تعالى.
والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسندا واسم الموصول مسندا إليه لأنهم علموا أن
(18/84)

منشئا أنشأ لهم السمع والأبصار، فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسندا إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد، أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم. والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات، أو لجميع الناس، أو للمسلمين، والمقصود منه التعريض بالمشركين.
والإنشاء: الإحداث، أي الإيجاد.
وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها. وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر. وقيل: الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناسا وأنواعا جمعا بهذا الاعتبار. وأفراد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات.
وانتصب {قَلِيلَاً} عل الحال من ضمير {لَكُمْ} . وما مصدرية. والتقدير: في حال كونكم قليلا شكركم. فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد، أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة؛ وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين، لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} . وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك.
[79] {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
هو على شاكلة قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} .
والذرء: البث. وتقدم في سورة الأنعام. وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله. وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه الإلهية أصنافا هم يعلمون أنها لا تخلق شيئا، وهو أيضا استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم.
وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع، فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر، وفيه محسن الطباق.
(18/85)

والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث، فتقديم المجرور في {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم.
[80] {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} هو من أسلوب {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} . وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن إحياء إدماجا للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم.
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر. ولما كان من الإحياء خلق الإيقاض ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .
واللام في: {لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} للملك، أي بقدرته تصريف الليل والنهار، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثا، والليل يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} .
وتقديم المجرور للقصر، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره، أي فغيره لا تحق له الإلهية.
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علما بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله أفلا تعقلون.
وهذا تذييل راجع إلى قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وما بعده.
[83,81] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ,قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
(18/86)

هذا إدماج لذكر أصل آخر من أصول الشرك وهو إحالة البعث بعد الموت. وبل للإضراب الإبطالي إبطالا لكونهم يعقلون، وإثبات لإنكارهم البعث مع بيان ما بعثهم على إنكاره وهو تقليد. والمعنى: أنهم لا يعقلون الأدلة لكنهم يتبعون أقوال آبائهم.
والكلام جرى على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة لأن الكلام انتقل من التقريع والتهديد إلى حكاية ضلالهم فناسب هذا الانتقال مقام الغيبة لما في الغيبة من الإبعاد فالضمير عائد إلى المخاطبين.
والقول هنا مراد به ما طابق الاعتقاد لأن الأصل في الكلام مطابقة اعتقاد قائله، فالمعنى: بل ظنوا مثل ما ظن الأولون.
والأولون: أسلافهم في النسب أو أسلافهم في الدين من الأمم المشركين.
وجملة: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا} إلخ. بدل مطابق من جملة: {قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} تفصيل لإجمال المماثلة، فالضمير الذي مع {قَالُوا} الثاني عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قَالُوا} الأول وليس عائدا على {الْأَوَّلُونَ} . ويجوز جعل قالوا الثاني استئنافا بيانيا لبيان {مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} ويكون الضمير عائدا إلى {الْأَوَّلُونَ} . والمعنى واحد على التقديرين. وعلى كلا الوجهين فإعادة فعل {قَالُوا} من قبيل إعادة الذي عمل به في المبدل منه. ونكتته هنا التعجيب من هذا القول.
وقرأ الجمهور: {أَإِذَا مِتْنَا} بهمزتين على أنه استفهام عن الشرط. وقرأه ابن عامر بهمزة واحدة على صورة الخبر والاستفهام مقدر في جملة: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .
وقرأ الجمهور: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بهمزتين على تأكيد همزة الاستفهام الأولى بإدخال مثلها على جواب الشرط. وقرأه نافع وأبو جعفر بدون همزة استفهام ووجود همزة الاستفهام داخلة على الشرط كاف في إفادة الاستفهام عن جوابه.
والاستفهام إنكاري، وإذا ظرف لقوله: {لَمَبْعُوثُونَ} .
والجمع بين ذكر الموت والكون ترابا وعظاما لقصد تقوية الإنكار بتفظيع إخبار القرآن بوقوع البعث، أي الإحياء بعد ذلك التلاشي القوي.
وأما ذكر حرف إن في قولهم: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} فالمقصود منه حكاية دعوى البعث
(18/87)

بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيق وتوكيد مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادة في تفظيع الدعوى في وهمهم.
وجملة: {لَقَدْ وُعِدْنَا} إلخ تعليل للإنكار وتقوية له. وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم.
ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائل: إنكم تبعثون قبل أن تصيروا ترابا وعظاما، فأعدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصرا عليهم فيقعوا في شك باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعد قديم وعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم.
وجملة: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} من القول الأول وهي مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يثيره قولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} وهو أن يقول سائل: فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصور مختلفة مع تحققهم عدم وقوعه، فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه.
والإشارة في قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} إلى ما تقدم في قولهم: {أَإِذَا مِتْنَا} إلى آخره، أي هذا المذكور من الكلام. وكذلك اسم الإشارة الثاني {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وصيغة القصر بمعنى: هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين. وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعا كما زعم المدعون.
والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيرا بخطئه في زعمهم.
والأساطير: جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها. وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل: الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريبا.
[85,84] {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
استئناف استدلال عليهم في إثبات الوحدانية لله تعالى عاد به الكلام متصلا بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
(18/88)

والاستفهام تقريري، أي أجيبوا عن هذا، ولا يسعهم إلا الجواب بأنها لله. والمقصود: إثبات لازم جوابهم وهو انفراده تعالى بالوحدانية.
و {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرط حذف جوابه لدلالة الاستفهام عليه، تقديره: فأجيبوني عن السؤال. وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنبهوا بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } إلى التأمل، أي إن كنتم تعلمون علم اليقين، ولذلك عقب بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، أي يجيبون عقب التأمل جوابا غير بطيء. وانظر ما تقدم في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} في سورة الأنعام.
ووقعت جملة: {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} جوابا لإقرارهم واعترافهم بأنها لله. والاستفهام إنكاري إنكار لعدم تذكيرهم بذلك، أي تفطن عقولهم لدلالة ذلك على انفراده تعالى بالإلهية. وخص بالتذكر لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر.
[87,86] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفا دون أن تعطف جملة {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} لأنها وقعت في سياق التعداد فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف. والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعا أهم بالحجة، ولذلك لم تعد في السؤالين الثاني والثالث جملة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} اكتفاء بالافتتاح بها.
وقرأ الجمهور {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه، لأنهم لما سئلوا بمن التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه، فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولا إلى جانب المعنى دون اللفظ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبية والربوبية تقتضي الملك. ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب المطلع1
ـــــــ
1 المطلع تفسير للقرآن اسمه "مطلع المعاني ومنبع المباني" لحسام الذين محمد بن عثمان العليا بادي السمرقندي كان حيا سنة / 628/ه.
(18/89)

إذا قيل: من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد ? قلت: لخالد
ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من تفسير الزجاج ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية.
وأقول: إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع الله، لأنهم أثبتوا مع الله أربابا في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب سيقولون لله بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعا على أنه خبر من في قوله: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} والمعنى واحد.
ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.
وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكير ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام. وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وان يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحذف مفعول {تَتَّقُونَ} لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
[89,88] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
(18/90)

قد عرفت آنفا نكتة تكرير القول.
والملكوت: مبالغة في الملك بضم الميم. فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده {كُلَّ شَيءٍ} .
واليد: القدرة. ومعنى {يُجِيرُ} يغيث ويمنع من يشاء من الأذى. ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجار بأذى، فمعنى {لَا يُجَارُ عَلِيهِ} لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من عقابه، فيفيد معنى العزة التامة.
وبني فعل {يُجَارُ عَلَيهِ} للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.
ولما كان تصرف الله هذا خفيا يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عقب الاستفهام بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثا لهم على علمه والاهتداء إليه.
ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} .
وقرأ الجمهور: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق.
وأنى يجوز أن تكون بمعنى من أين كما تقدم في سورة آل عمران {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} والاستفهام تعجيبي. والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعا. والمعنى: فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل. فالمراد بالسحر ترويج أئمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين.
[90] {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين، أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم، فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن. والباء للتعدية كما يقال: ذهب به. أي أذهبه. وهذا كقوله آنفا: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} .
والعدول عن الخطاب من قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة. والحق هنا: الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وفي
(18/91)

مقابلة الحق بكاذبون محسن الطباق.
وتأكيد نسبتهم إلى الكذب بإن واللام لتحقيق الخبر.
وقد سلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي؛ فابتدئ بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين ثم ارتقى إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش، ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي كل.
[92,91] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية. وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار، فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة، وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو المقياس تسمى مطلوبا كما في علم المنطق. ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} هو المطلوب وقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} إلى آخر الآية هو الدليل. وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل. وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا: هم بنات الله.
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظرا إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام، ولأن الذي زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله، فقد أشرنا إلى ذلك آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} الآية.
وإذن حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر. والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} فالجواب ضد ذلك النفي. وإذ قد كان هذا الضد أمرا مستحيل وقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير، والحرف المعد
(18/92)

لمثل هذا الشرط هولو الامتناعية، فالتقدير: ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق.
وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد إذن دليل على أن المقدر شرط لو لأن اللام تلزم جواب لو ولأن غالب مواقع إذن أن تكون جواب لو فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره.
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} في سورة النساء.
فقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة.
وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولدا لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولدا لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي له.
والذهاب في قوله: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ} مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه. وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله آلهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقا لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة، فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك: إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي إلهية، وإما تحصيل للحاصل وهو محال، فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات. ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقدارا معينا من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبية على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص. ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد. ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته، فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك، لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين:
(18/93)

أولهما أن يكون كل إله مختصا بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره، فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره. وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقية الإلهية. وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها. فهذا معنى قوله تعالى: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} .
وثاني اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الإلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية. وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين، وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديدا مثلا: إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات.
ويجوز اتفاق الآلهة أيضا على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة. فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانيا، وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم، والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة.
أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفى أئمة علم الكلام بسطها بما لا رواج بعده لعقيدة الشرك. وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني1 في هذا الموضع من حاشيته على الكشاف ولكنه انفرد بادعاء مأخوذ من الآية وليس كما ادعى. وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله.
ـــــــ
1 هو عمر بن عبد الرحمن القزويني الفارسي المتوفى / 745/ ه. له حاشية على الكشاف تدعى بين أهل العلم باسم الكشف. ولم يسميها مؤلفها بهذا الاسم. أخذ عن شرف الدين الطيبي.
(18/94)

ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وهو بمنزلة نتيجة الدليل. وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام.
وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من الاستغراق الحقيقي، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر، لدفع توهم أن يقال: إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته. ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القدر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت، فظهر أن قوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من تمام الاستدلال على انتفاء الشركاء، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {عَالِمُ الْغَيْبِ} برفع {عَالِمُ} على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات.
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر عالم على الوصف لاسم الجلالة في قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
وما مصدرية. والمعنى: فتعالى عن إشراكهم، أي هو أعظم من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم، أي هو منزه من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم، أي هو منزه عن ذلك.
[95,93] {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} .
آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله وبغضب الله عليهم لذلك، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في
(18/95)

الدنيا وادخر لها عذابا آخر في الآخرة، فكان ذلك نذارة لهم بمثله وتهديدا بما سيقولونه وكان مثارا لخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوله فلقن الله نبيه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب. وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته، وإيماء إلى أن الله يري نبيه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية.
فهذه الجملة استئناف بياني جوابا عما يختلج في نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين، فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله: {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وذكر في هذا الدعاء لفظ رب مكررا تمهيدا للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب.
وأدخل بعد حرف الشرط ما الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط.
ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
أي فاعلمي حقا أنا نحفى تارة وننتعل اخرى لأجل ذلك، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة.
وقد تقدم في قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} في آخر الأعراف.
والمعنى: إذا كان ما يوعدون حاصلا في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ.
واستعمال حرف الظرفية من قوله: {فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشير إلى أنه أمر ان يسأل الكون في موضع غير موضع المشركين، وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية، أي بينهم.
والخبر الذي هو قوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك.
وفي قوله: {أَنْ نُرِيَكَ} إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه
(18/96)

سيراه مرأى عين دون كون فيه. وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماويا فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحدا واحدا وقال لهم: "لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا". وبهذا القصد يظهر موقعي حرفي التأكيد إن واللام من إصابة محز الإعجاز.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} لما أنبأ الله رسوله عليه الصلاة والسلام بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسول والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فلذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام. وسيأتي بيانه في سورة فصلت عند قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحذف مفعول {يَصِفُونَ} وتقديره: بما يصفونك، أي مما يضيق به صدرك، وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم فرب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه، ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .
و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} مراد بها الحسنة الكاملة، فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} .
والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق.
وهكذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه. وذكر في
(18/97)

المدارك في ترجمة عبد الله بن غانم: أن رجلا يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة، وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه، فلقي ابن غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم، فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعاما فلما أراد مفارقته قال لابن غانم: يا أبا عبد الرحمان اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي فقال له ابن غانم: أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى، وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا.
[98,97] {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
الظاهر أن يكون المعطوف مواليا للمعطوف هو عليه، فيكون قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} متصلا بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} فلما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض جزاءهم إلى ربه أمره بالتعوذ من حيلولة الشياطين داعية الغضب والانتقام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون {الشَّيَاطِينِ} مستعملا في حقيقته. والمراد من همزات الشياطين: تصرفاتهم بتحريك القوى التي في نفس الإنسان أي في غير أمور التبليغ مثل تحريك القوة الغضبية كما تأول الغزالي في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ولكن الله أعانني عليه فأسلم" . ويكون أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالتعوذ من همزات الشياطين مقتضيا تكفل الله تعالى بالاستجابة كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، أو أن يكون أمره بالتعوذ من همزات الشياطين مرادا به الاستمرار على السلامة منهم. قال في الشفاء: الأمة مجتمعة أي مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس.
ويجوز أن تكون جملة {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} عطفا على جملة {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم، فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} ويكون هذا في معنى قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فيكون المراد: أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من
(18/98)

همزات الشياطين منهم.
والهمز حقيقته: الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه، ويستعمل مجازا بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة، ومنه قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} .
ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين. وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له.
ومعنى التعوذ من همزهم: التعوذ من آثار ذلك فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه، كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة. وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله: {حتى إذا جاء أحدهم الموت} كما سيأتي.
وأما قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم.
[100,99] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
حتى ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة، وتقدمت في سورة الأنبياء؛ ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مغيا بها فلا حاجة إلى تعليق حتى بيصفون. والوجه أن حتى متصلة بقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} . فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} وصفا أنفا لعذابهم في الآخرة. وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذابا في الدنيا لا في الآخرة. فإن حملت العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالا وكان قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} إلى آخره تفصيلا له.
وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قوله: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} إلى ما هنا وليست عائدة إلى الشياطين.
(18/99)

ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعد لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم.
وضمير الجمع في {ارْجِعُونِ} تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها: أنتم. ولا يقال: أنتن. قال العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
فقال: سواكم. وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقف عليه.
وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون {ارْجِعُونِ} .
والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة. وما صدق ماتركت عالم الدنيا. ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى: لعلي أسلم وأعمل صالحا في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف. وركب بهذا النظم الموجز قضاء لحق البلاغة.
وكلا ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر.
وقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن. وحاصل معناه: أن قول المشرك {رَبِّ ارْجِعُونِ} الخ لا يتجاوز أن يكون كاملا صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به.
فجملة {هُوَ قَائِلُهَا} وصف لكلمة، أي هي كلمة هذا وصفها. وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف كلمة به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملا في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها.
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف إن لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف.
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة
(18/100)

لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكما في قولهم: كلمة الشهادة وكلمة الإسلام. وتقدم قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} في سورة براءة.
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه. شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه، وهذا كقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} قوله: من ورائهم جهنم وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} . وتقدم قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} .
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
والبرزخ: الحاجز بين مكانين. قيل: المراد به في هذه الآية القبر، وقيل: هو بقاء مدة الدنيا. وقيل: هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل. وإلى هذا مال الصوفية. وقال السيد في التعريفات: البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه، أي عند الفلاسفة القدماء.
ومعنى {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث.
فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون ان يوم البعث الذي وعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} هو الذي أعلمهم بما هو البعث.
[104,101] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}
تفريع على قوله: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث. فالتقدير: فإذا جاء يوم يبعثون، ولكن عدل عن ذلك إلى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} تصوير لحالة يوم البعث.
(18/101)

والصور: البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند إليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من صحيح البخاري. وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة الأنعام.
وأسند نفخ إلى الجمهور لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ. وإنما ينفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل.
والمقصود التفريغ الثاني في قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} المردود إجمالا بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم.
والأظهر أن جواب إذا هو قوله الآتي: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض.
وضمير بينهم عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين.
ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة. فقوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} كناية عن عدم النصير.
والتساؤل: سؤال بعضهم بعضا. والمعنى به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول، وهو أن يسأل بعضهم المعونة والنجدة، كقوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} .
وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فلذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع. وفي البخاري: أن رجلا هو نافع بن الأزرق الخارجي قال لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
(18/102)

بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فقال ابن عباس: أما قوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون اه. يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه.
وذكر من {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئا، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . وتقدم الكلام على نظير قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} في أول سورة الأعراف.
والخسارة: نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في سورة الأنعام، وقوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في أول الأعراف. وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تلفت منهم، ولذلك نصب أنفسهم على المفعول بخسروا. واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم.
وجملة {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} في موضع الحال من {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. ومعنى {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تحرق. واللفح: شدة إصابة النار.
والكالح: الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم.
[107,105] {ألم أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}
جملة {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} مقول قول محذوف، أي يقال لهم يومئذ. وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ. والآيات: آيات القرآن بقرينة قوله: {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} وقوله: {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} حملا على ظاهر اللفظ.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة، وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في سورة
(18/103)

الأنفال. والاستفهام إنكار.
والغلب حقيقته: الاستيلاء والقهر. وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة. ومفعول {غَلَبَتْ} محذوف يدل عليه {شِقْوَتُنَا} لأن الشقوة تقابلها السعادة، أي غلبت شقوتنا السعادة. والمجرور بعلى بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث قال النساء: غلبنا عليك الرجال؛ مثلت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم. وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لا اختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم.
والشقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور. وهي زنة الهيئة من الشقاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف شقاوتنا بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة. وزيادة قوله: {قَومَاً} ليدل على إن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة وعند قوله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في آخر سورة يونس.
وهم ظنوا أنهم إن أخرجوا من النار رجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح فالتزموا لله بانهم لا يعودون إلى الكفر والتكذيب.
وحذف متعلق {عُدْنَا} لظهوره من المقام إذ كان إلقاؤهم في النار لأجل الإشراك والتكذيب كما دل عليه قولهم: {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} .
والظلم في {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} هو تجاوز العدل، والمراد ظلم آخر بعد ظلمهم الأول وهو الذي ينقطع عنده سؤال العفو.
[111,108] {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} {اخْسَأُوا} زجر شتم بأنهم خاسئون، ومعناه عدم استجابة طلبهم. وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل. ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم، وتحسيرهم على ما كانوا يعاملون به
(18/104)

المسلمين.
والإخبار في قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} إلى قوله: {سِخْرِيّاً} مستعمل في كون المتكلم عالما بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه. وتأكيد الخبر ب {إِنَّ} وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم.
وجملة {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} خبر إن الأولى لزيادة التأكيد. وتقدم نظيره في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف.
والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلفن وبكسر السين في قراءة الباقين، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحقيقن من أئمة اللغة لا فرق بينهما، خلافا لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذا من سخر بمعنى هزأ، والمضموم مأخوذا من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر. فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال لك الخصوصية لمصدر الخصوص.
وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر. والمعنى: اتخذتموهم مسخورا بهم، فنصب {سِخْرِيّاً} على أنه مفعول ثان ل {اتَّخَذْتُمُوهُمْ} .
و {حَتَّى} ابتدائية ومعنى {حَتَّى} الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية. شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه {حَتَّى} . والمعنى: أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله. وتقدم الكلام على فعل سخر عند قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في سورة الأنعام، وقوله: {يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} في سورة براءة.
فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببهن أو هو مجاز بالحذف بتقدير: حتى أنساكم السخري بهم ذكري، والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية.
وقوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأه الجمهور بفتح همزة {أَنَّ} على معنى المصدرية والتأكيد أي جزيتهم بأنهم. وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة {أَنَّ} على التأكيد فقط فتكون استئنافا بيانيا للجزاء.
وضمير الفصل للاختصاص، أي هم الفائزون لا أنتم.
(18/105)

وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} إدماج للتنويه بالصبر، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء. وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدونهم أعداءهم.
[114,112] {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قرأ الجمهور: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض، فالأظهر أن يكون هو جواب {إِذَا} في قوله فيما سبق {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} . والتقدير: قال الله لهم إذا نفخ في الصور: كم لبثتم في الأرض عدد سنين، وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي. وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلا بعد دخول الكافرين النار، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني.
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائيقل بصيغة الأمر. والخطاب للملك الموكل بإحياء الأموات.
وجملة {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} تفريع على جملة {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض. وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسأة، قال الكناني:
ونحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
والمفسرون جعلوا المراد من العادين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث. ولكن القرطبي قال: أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه.
وقوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله.
(18/106)

والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها.
وانتصب {عَدَدَ سِنِينَ} على التمييز ل {كَمْ} الاستفهامية والتمييز إنما هو {سِنِينَ} . وإضافة لفظ {عَدَدَ} إليه تأكيد لمضمون {كَمْ } لأن {كَمْ} اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ {عَدَدَ} معها تأكيد لبعض مدلولها.
وجوابهم يقتضي أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها. والظاهر أن المراد بقولهم: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} .
ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر. والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياء وهو ما كانوا ينكرونه، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات. وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم مما قدروه من الحياة بعد أن بقوا قرونا كثيرة، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانهم فيما هو أكثر علة استحالة عود الحياة إليهم.
وقد دل على هذا قوله في آخر الآية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قصر المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطأهم فإنهم لما أحسوا أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمال أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمنا يسيرا لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر.
وأما قولهم: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب.
وأما رد الله عليهم بقوله: {إِنَّ لَبِثْتٌمْ إِلا قَلِيلاً} فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة
(18/107)

دلالة الاقتضاء، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلا، فتعين أن يقول {إِنَّ لَبِثْتٌمْ إِلا قَلِيلاً} لا يستقيم أن يكون جوابا لكلامهم إلا بتقدير: قال بل لبثتم قرونا، كما في قوله في الذي مر على قرية {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} . ولذلك تعين أن يكون التقدير: قال بل لبثتم قرونا، وأن لبثتم إلا قليلا فيما عند الله {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
وقرينة ذلك ما تفيده لو من الامتناع في قوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلا، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلا مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثا قليلا، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم.
[115] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
هذا من تمام القول المحكي فيه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} مفرع على ما قبله. فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث. والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملا على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم. وأدخلت أداة الحصر بعد حسب فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولا واحدا وهو المصدر المستخلص من {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} . وتقدير: أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالبا لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجردا عن خبره، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات، فقولك: ظننت زيدا قائما، إنما هو في الحقيقة: ظننت قيام زيد، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبرا مضافا إلى ضمير
(18/108)

مبتدئه كما قال الرضي: يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولا به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدرا صريحا، فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} .
وحيث كانت أنما مركبة من أن المفتوحة الهمزة ومن ما الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر، ولولا أن لكان الكلام: أحسبتمونا خالقينكم عبثا.
وانتصب {عَبَثَاً} على الحال من ضمير الجلالة مؤولا باسم الفاعل. والعبث: العمل الذي لا فائدة فيه. وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتبا عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث.
وبيان كونه عبثا أنه خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطا للعبث. وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها.
وأما قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار.
وقرأ الجمهور: {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم، أي أن الله يرجعهم قهرا.وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم، أي يرجعون طوعا أو كرها.
[116] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى الملك، فملكه الملك الكامل في حقيقته، الشامل في نفاذه.
(18/109)

والتعريف في {المَلِكُ} للجنس.
والحق: ما قابل الباطل، ومفهوم الصفة يقتضي أن ملك غيره باطل، أي فيه شائبة الباطل لا من وجهة الجور والظلم لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء، بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك ملك باطل لأنه ادعاء ملك غير تام.
وجملة تعالى يجوز ان تكون خبرا قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو.
والتعالي: مبالغة في العلو. وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي، وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة.
و {الكَرِيمِ} بالجر صفة العرش. وكرم الجنس أن يكون مستوفيا فصائل جنسه كما في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل.
[117] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلالة المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل، لأنهم لم يثبتوا لله الملك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة. فقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} حال من {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان. ونظير هذا الحال قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} .
والقصر في قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قصر حقيقي. وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده في تخطئتهم وتهديدهم.
ويجوز أن يكون القصر إضافيا تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على
(18/110)

الكفر كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وهذا أسعد بقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} .
ويدل على ذلك تذييله بجملة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وختمت ب {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين.
[118] {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
عطف على جملة:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}الخ باعتبار قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} . فإن المقصود من الجملة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة. وفي حذف متعلق {اغْفِرْ وَارْحَمْ} تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين، والمراد من كانوا من المؤمنين. ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني، بقرينة المقام.
وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعدا بالإجابة.
وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع.
(18/111)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
سميت هذه السورة سورة النور من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. روي عن مجاهد قال رسول الله: "علموا نساءكم سورة النور" ولم أقف على إسناده. وعن حارثة بن مضر: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة، ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أن فيها آية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك. وقد وقع في نسخ تفسير القرطبي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. في المسألة الرابعة كلمة وهي مكية يعني الآية. فنسب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي وتبعه الآلوسي، إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة: مدنية بالإجماع. ولعل تحريفا طرأ على النسخ من تفسير القرطبي وأن صواب الكلمة وهي محكمة أي غير منسوخ حكمها فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية، قال وهي محكمة قال ابن عباس: تركها الناس. وسيأتي أن سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية. قضية مرثد ابن أبي مرثد مع عناق. ومرثد بن أبي مرثد استشهد في صفر سنة ثلاث للهجرة في غزوة الرجيع، فيكون أوائل هذه السورة نزل قبل سنة ثلاث، والأقرب، أن يكون في أواخر السنة الأولى أو أوائل السنة الثانية أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى.
ومن آياتها آيات قصة الإفك وهي نازلة عقب غزوة بني المصطلق من خزاعة. والأصح أن غزوة بني المصطلق كانت سنة أربع فإنها قبل غزوة الخندق.
(18/112)

ومن آياتها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية. نزلت في شعبان سنة تسع بعد غزوة تبوك فتكون تلك الآيات مما نزل بعد نزول أوائل هذه السورة وهذا يقتضي أن هذه السورة نزلت منجمة متفرقة في مدة طويلة وألحق بعض آياتها ببعض.
وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر ابن زيد عن ابن عباس. قال: نزلت بعد سورة {إذا جاء نصر الله} وقبل سورة الحج، أي: عند القائلين بان سورة الحج مدنية.
وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة، وأربع وستون في عد البقية.
أغراض هذه السورة
شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء. ومن آداب الخلطة والزيادة.
- وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.
- وعقاب الذين يقذفون المحصنات.
- وحكم اللعان.
- والتعرض إلى براءة عائشة رضي الله عنها مما أرجفه عليها أهل النفاق، وعقابهم، والذين شاركوهم في التحدث به.
- والزجر عن حب إشاعة الفواحش بين المؤمنين والمؤمنات.
- والأمر بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مسطح بن أثاثة.
- وأحكام الإستئذان في الدخول إلى بيوت الناس المسكونة، ودخول البيوت غير المسكونة.
- وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة.
- وإفشاء السلام.
- والتحريض على تزويج العبيد والإماء.
(18/113)

- والتحريض على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم.
- وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية.
- والأمر بالعفاف.
- وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
- والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
- وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر.
- والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها.
- وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس.
- وقد أردف ذلك بوصف ما أعده الله للمؤمنين، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده.
[1] {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
يجوز أن يكون { سُورَةٌ} خبرا عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة، فيقدر: هذه سورة. واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر.
وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيرا.
ويجوز أن تكون سورة مبتدأ ويكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} إلى آخر السورة خبرا عن سورة ويكون الابتداء بكلمة {سُورَةٌ} ثم أجري عليه من الصفات تشويقا إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" .
وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقا إليه ذهن السامع دون كلفة، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا.
ومعنى سورة جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات. وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
(18/114)

وجملة: {أَنْزَلْنَاهَا} وما عطف عليها في موضع الصفة لسورة. والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة لتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.
ففي قوله: {أَنْزَلْنَاهَا} تنويه بالسورة بما يدل عليه أنزلنا من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر بأنزلنا عن ابتداء إنزال آياتها بعد ان قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل: أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصا عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
والقرينة قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} . ومعنى {وَفَرَضْنَاهَا} عند المفسرين: أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيات. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} .
فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} فقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} . وتعدية فعل فرضنا إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، أي أكلها. فالمعنى: وفرضنا آياتها. وسنذكر قريبا ما يزيد هذا بيانا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.
وقرأ الجمهور {وَفَرَضْنَاهَا} بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {وَفَرَضْنَاهَا} بتشديد الراء للمبالغة مثل نزل المشدد. ونقل في حواشي الكشاف عن الزمخشري قوله:
كأنه عامل في دين سؤدده ... بسورة أنزلت فيه وفرضت
وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.
وأما قوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية
(18/115)

اشتملت عليها السورة: من الهدي إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها اطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانيا.
فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل. وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها. والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف بينات عليها.
وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضا منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاو لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف في الموضوع للظرفية مستعملا في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.
فتعين أن كلمة فيها تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرض على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها. ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف في تخييلا مجردا وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وهذه الظرفية شبيه بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وقوله: {كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ} فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون.
فقوله: {وأَنْزَلْنَا فِيها} هو: بمعنى وأنزلناها آيات بينات. ووصف آيات ببينات أي واضحات، مجاز عقلي لأن البين هو معانيها. وأعيد فعل الإنزال مع إغناء
(18/116)

حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.
والوجه أن جملة: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مرتبطة بجملة: {أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم. فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة. والتذكر: خطور ما كان منسيا في الذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوما، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.
وقرأ الجمهور: {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف {تَذَكَّرُونَ} بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصارا.
[2] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .
ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط. فالتقدير: الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت. ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة: إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد كتاب سيبويه التي لم يعرف قائلها:
وقائلة: خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا
التقدير: هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت. ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر. وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} في سورة العقود.
وصيغتا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل: التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما الخ. ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه.
(18/117)

ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الخ. هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} تمهيدا ومقدمة لقوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قوله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.
وقدم ذكر {الزَّانِيَةُ} على {وَالزَّانِي} للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينا، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله: {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.
وتعريف الزانية والزاني تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ومقام التشريع يقتضيه، وشأن أل الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه. وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد، ف {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.
والزنى: اسم مصدر زنى، وهو الجماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر، يقال: زنى الرجل وزنت المرأة، ويقال: زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمد أيضا بوزن الفعال ويخفف همزه فيصير اسما مقصورا. وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء. يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك. وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي. وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} في سورة الإسراء.
والجلد: الضرب بسير من جلد. مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد. أي البشرة، كما اشتق الجبه، والبطن، والرأس في قولهم جبهه إذا ضرب جبهته، وبطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه. قال في الكشاف: وفي لفظ الجلد إشارة إلى
(18/118)

أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اه. أي لا يكون الضرب يطير الجلد حتى يظهر اللحم، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج.
واتفق فقهاء الأمصار على: أن ضرب الجلد بالسوط. أي بسير من جلد. والسوط: هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور، وأن يكون السوط متوسط اللين، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطا. ومحل الجلد هو الظهر عند مالك. وقال الشافعي: تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج. وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل، منها الرأس في الحد. روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد: أجلد رجليها وأسفلها، فقال له أبنه عبد الله: فأين قول الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فقال فاقتها. وقوله: {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال: فاجلدوهما، كما قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} .
والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء وقال مالك والشافعي وأحمد: يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى، وقال أبو حنيفة: لا يقيمه إلا الإمام. وقال مالك: لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر.
وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... علي حراصا لو يسرون مقتلي
وقول عبد بني الحسحاس:
وهن بنات القوم إن يشعروا بنا ... يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
الدهارس: الدواهي. ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضان عليه. وفي الموطأ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال:
(18/119)

"تكلم" . فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت به بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك" . وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. قال مالك: والعسيف الأجير اه.
فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها. وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبين بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة.
ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعم المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء. فأما من أحصن منهما، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت. وكان ذلك سنة متواترة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم ماعز ابن مالك. وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجمال أثرا من آثار تواترها.
وقد روى عن عمر أن الرجم كان في القرآن الثيب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة وفي رواية الشيخ والشيخة وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته. وفي أحكام ابن الفرس في سورة النساء: وقد أنكر هذا قوم. ولم أر من عين الذين أنكروا. وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون: ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم.
ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور. وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم: أكان قبل سورة النور أو بعدها? يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس، أي أن الرجم منسوخ بالجلد فقال ابن أبي أوفى: لا أدري. وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم. وهذا يقتضي أنه كان معمولا به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزنى المحصن الرجم.
(18/120)

وقد ثبت بالسنة أيضا تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة، ولا تغريب على المرأة. وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته. وصفة الرجم والجلد وآلهتما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها.
{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
عطف على جملة {فَاجْلِدُوا} ؛ فلما كان الجلد موجعا وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه.
والأخذ: حقيقته الاستيلاء. وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف.
و {بِهِمَا} يجوز أن يتعلق ب {رَأْفَةً} فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما. ويجوز تعليقه ب {تَأْخُذْكُمْ} فتكون الباء للسببية، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيها على الاعتناء بإقامة الحد. والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه. وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة.
والرأفة: رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضر بالمرؤوف. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} في سورة البقرة. ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير.
وعلق بالرأفة قوله: {فِي دِينِ اللهِ} لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه، وإنما شرع الله الحد استصلاحا فكانت الرأفة في إقامته فسادا. وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض. وفي مسند أبي يعلى عن حذيفة مرفوعا: "يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول الله له: عبدي لم ضربت فوق الحد ? فيقول: غضبت لك. فيقول الله: أكان غضبك أشد من غضبي ? ويؤتى بالذي قصر فيقول: عبدي لم قصرت? فيقول رحمته. فيقول: أكانت رحمتك أشد من رحمتي" .
(18/121)

ويؤمر بهما إلى النار" .
وجملة: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما. والمقصود: شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون. وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع: كيف لا أومن بالله واليوم الآخر.
وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقا لإقامة الحد وحذرا من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء، فإذا لم يشهده المؤمنين فقد يتساءلوا عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود.
وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب.
والطائفة: الجماعة من الناس. وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء، وعند قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} في آخر الأنعام. وقد اختلف في ضبط عددها هنا. والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة. والمشهور عن مالك الاثنان فصاعدا، وقال ابن أبي زيد: أربعة اعتبارا بشهادة الزنا. وقيل عشرة.
وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد. وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي. ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزئ من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك. وأيا ما كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه.
(18/122)

[3] {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
هذه الآية. نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريبا في ذكر سبب نزوله أن سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات. فهذه الجملة ابتدائية، ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة.
وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه: "أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي من المسلمين كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى1 فيأتي بهم إلى المدينة. وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة ليحمله. قال: فجئت حتى انتهيت إلى حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. فقال: فجاءت عناق فقالت: مرثد? قلت: مرثد. قالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال فقلت: حرم الله الزنى. فقالت عناق: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية من المشركين... إلى أن قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أنكح عناق ? فأمسك رسول الله فلم يرد علي شيئا حتى نزلت : {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال رسول الله: "يا مرثد لا تنكحها" .
فتبين أن هذه الآية نزلت جوابا عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق. ومثار ما يشكل ويعضل من معناها: أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما. وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بتها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.
ـــــــ
1 أي الذين أوثقهم المشركون بمكة لأجل إيمانهم يتركوهم يهاجرون إلى المدينة فكان مرتد يحملهم إلى المدينة سرا.
(18/123)

وفيه بحث طويل، ليس هذا محله.
وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في السلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة، وحسبك أن الأعشى عد تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إلى أن قال.........
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا1
وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الأسراء.
وانه يلوح في بادئ النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله: {أَوْ مُشْرِكٌ} إخبار عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين، ولا نكاح بين المشركين. فإذا كان إخبارا لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} معنى، وأيضا الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبرا.
والوجه في تأويلها: أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . ولأنها نزلت جوابا عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي. غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شرع في آخرها، وفيه ما يفسر مرجع اسم لإشارة الواقع في قوله: {وَحُرَّمَ ذَلِكَ} ، وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ: {الْمُؤْمِنِينَ} .
وينبني على هذا التأصيل أن قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} تمهيد
ـــــــ
1 أي تعزب.
(18/124)

للحكم المقصود الذي في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ: {الزَّانِي} عنى الاسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث؛ إذ يجب أن لا يغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان: شائبة كونه مشتقا من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل، وشائبة دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات. وحمله في هذه الآية على المعنى الاسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى الزنى. وهذا على عكس محمل قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إنه بالمعنى الوصفي، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفا بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها.
فتمخض أن يكون المراد من قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} إلخ. من كان الزنى دأبا له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى، أي غير المؤمنين لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأبا، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك.
فقوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني بمعنى من الزنى له عادة لا يكون مؤمنا فلا تشرع له أحكام الإسلام. وهذا من قبيل قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} هذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة، أي المشركين.
وعطف قوله: {أَوْ مُشْرِكَةً} على {زَانِيَةً} لزيادة التفظيع فأن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما. وكذلك عطف {أَو مُشْرِك} على {إِلَّا زَانٍ} لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة.
فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية. ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا
(18/125)

من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقا أوشكوا أن ينسوها.
فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله. فلذلك فالمراد بالزاني: من وصف الزنى عادته.
وفي تفسير القرطبي عن عمرو بن العاص ومجاهد: أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة إذ لم يرو غيرها. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
وابتدئ في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضيا الاهتمام بما يترب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة.
وجملةَ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ميل للمقصود من الجملتين قبلها، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين، فلذلك عطفت جملة: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لأنها أفادت تكميلا لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف. ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا: هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} دخلت الزانية في الأيامي، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية.
وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وبه
(18/126)

أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، ولم يؤثر أن أحدا تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية. ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ. وقال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. ومنهم من رأى حكمها مستمرا. ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد.
[5,4] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
كان فاشيا في الجاهلية رمي بعضهم بعضا بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفا أو محادثة.
وكان فاشيا فيهم الطعن في الأنساب بهتانا إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنا إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف. وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية.
والرمي حقيقته: قذف شيء من اليد. وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص. وتقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} في سورة النساء. وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات.
والمحصنات: هن المتزوجات من الحرائر. والإحصان: الدخول بزوج بعقد النكاح. والمحصن: اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه، فالزوج يحصن امرأته، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال. وهذا كتسمية الأبكار مخدرات ومقصورات، وتقدم في سورة النساء. ولا يطلق وصف {المُحْصَنَاتِ} إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام.
وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعا، ومن البين أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى: {يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء. والجلد
(18/127)

تقدم آنفا. وشرع هذا الجلد عقابا للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك.
وأسند فعل {يَرْمُونَ} إلى اسم الموصول المذكر وضمائر {تَابُوا}{وَأَصْلَحُوا} وكذلك وصف {الفَاسِقُونَ} بصيغ التذكير. وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سبب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس. ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل.
وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس.
أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقا بأن لا يؤخذ بشهادته.
والأبد: الزمن المستقبل كله.
واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة.
والحصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ماعداه من الفسوق لا يعد فسقا.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد، بقرينة قوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها. وقال أبو حنيفة وجماعة: الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جريا على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة.
والتوبة: الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك. وقد تقدم ذكر التوبة في ذكر النساء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآيات. وليس من
(18/128)

شرط التوبة ان يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك، لأنه قد يكون صادقا ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويثبت في أمره. وقال قوم: لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه. وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة ابن شعبة. وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف.
ومعنى {أَصْلَحُوا} فعلوا الصلاح، أي صاروا صالحين. فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق، أي اصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} في سورة البقرة.
وفرع {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على ما يقتضيه الاستثناء من معنى: فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فأن الله غفور رحيم، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم، كما قال في آية البقرة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعد ما كتموه وكتمه سلفهم.
وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي: حق المقذوف. وترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف.
وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كانوا أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى. فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس.
[9,6] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
(18/129)

هذا تخصيص للعمومين اللذين في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخص هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الخ. إذ عذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.
ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.
وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتا حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قبل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجبا حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.
وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعا يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذبا وهو وازع التعيير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالبا، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهرة الاستثناء في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} . وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقا فيما يدعيه على امرأته. وقد قال سعد بن عبادة: لو وجدت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم. ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.
ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم. ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال: بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار. روى مالك في الموطأ عن سهل بن سعد أن: عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل? سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله? فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(18/130)

وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها" . قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال بن أميه الواقفي. وزيد في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "البينة وإلا حد في ظهرك" . والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني" يعني أنها غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لما يأذنا بذلك، فأن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة وذلك قال عويمر العجلاني: من وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل?.
وحذف متعلق {شُهَدَاءُ} لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
وشمل قوله: {إَلَّا أَنْفُسُهُمْ} ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.
وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن على تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ: {يَرْمُونَ} ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة من الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها. فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة: لا يلاعن بين الزوجين إلى إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفى حملها نفيا مستندا إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى، أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى، أو بقوله لها: يا زانية، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان. ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور: إذا قال تحمل لها: يا زانية، وجب اللعان، ذهابا منه إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضا تمسكا بمطلق لفظ {يُرْمُونَ} .
(18/131)

ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقا بينا عند الفقيه. وتسمية القرآن أيمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.
وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم أن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الخ.
وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثير وهنا جعلت بدلا من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود على تلك الأيمان الأربع.
ومعنى كون الأيمان بدلا من الشهادة أنه قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفا، فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقا لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول ماللك والشافعي، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة.
ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة: أشهد بالله عند الأئمة الأربعة. وأما ما بعد صيغة أشهد فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.
وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} قرأه الجمهور بنصب {أَربَعُ} على أنه مفعول مطلق لشهادة فيكون {شَهَادَةُ أَحَدِهُمْ} محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره، والتقدير: فشهادة أحدهم لازمة له. ويجوز ان يكون الخبر قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} على حكاية اللفظ مثل قولهم هجيرا أبي بكر لا إله إلا الله. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع {أَرْبعُ} على انه خبر المبتدأ وجملة {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} إلى آخرها بدل من {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} . ولا خلاف بين القراء
(18/132)

في نصب {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} الثاني.
وفي قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة، أي يقول: أني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها.
وأما قوله: {وَالخَامِسَةُ} أي فالشهادة الخامسة، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها. وأنث اسم العدد لأنه صفه لمحذوف دل عليه قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} . والتقدير: والشهادة الخامسة. وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى. فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه أن كانت غموسا من الحرمان مرحمة الله تعالى. وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها. وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلا عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها.
وقرأ الجمهور: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بالرفع كقوله: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهو من عطف الجمل. وقراه حفص عن عاصم بالنصب عطفا على {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} الثاني وهو من عطف المفردات.
وقرأ الجمهور: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} و {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بتشديد نون أن وبلفظ المصدر فيه {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} وجر اسم الجلالة بإضافة غضب إليه. ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على أن في الموضعين متعلقة بالخامسة لأنها صفة لموصوف تقديره: والشهادة الخامسة، ليتجه فتح همزة أن فيهما. والمعنى: أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بإن لعنة الله أو بأن غضب الله أي بما يطابق هذه الجملة.
وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب الله بصيغة فعل المضي، ورفع اسم الجلالة الذي بعد غضب. وخرجت قراءته على جعل أن مخففة من الثقلية مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلا لشأن الشهادة الخامسة. ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر أن المخففة من أحد أربعة أشياء: قد، وحرف النفي، وحرف التنفيس، ولولا. والذي أرى أن تجعل أن على قرأه نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير.
وقرأ يعقوب أن لعنة الله بتخفيف أن ورفع لعنة وجر اسم الجلالة مثل قرآءة نافع. وقرأ وحده أن غضب الله عليها بتخفيف أن وفتح ضاد غضب ورفع الباء
(18/133)

على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة.
وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ أن فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة.
والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع. وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذبا فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة.
واللعنة واللعن: الإبعاد بتحقير. وقد تقدم في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} في سورة الحجر.
واعلم أن الزوج إن سمى رجلا معينا زنى بامرأته صار قاذفا له زيادة على قذفه المرأة، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى. وقد اختلف الأئمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي: يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حدا واحدا ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال أبن أميه بعد اللعان. وقال مالك و أبو حنيفة: يسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف.
ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضيا أن يقام عليها حد الزنى، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حاذفها كاذبا فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية. وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيمان الرجل، وكانت أيمان الرجل بدلا من الشهادة وسميت شهادة، كانت أيمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة، ولأنها كالشهادة المعارضة، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها.
والدرء: الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال. وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} في سورة الرعد.
(18/134)

والتعريف في العذاب ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيمان اللعان أقيم عليها الحد. وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة. وقال أبو حنيفة: إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار. فعنده يرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض.
والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزواج سواء. وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها.
وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع.
[10] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنه بأنه تواب على من تاب من عباده، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلا.
وجواب لولا محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سببا في امتناع حصوله. والتقدير: لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالب بعضكم على بعض، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضا مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة، فإذا باح بذلك أخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضا أو سكت على ما لا على مثله يغضى، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة.
وفي ذكر وصف الحكيم هنا مع وصف تواب إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس.
وحذف جواب لولا للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة، وقد تكرر في
(18/135)

هذه السورة وهو مثل حذف جواب لو، وتقدم حذف جواب لو عند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} في سورة البقرة. وجواب لولا لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة: إن لولا مركبة من لو ولا.
[11] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه.
والإفك: اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلبا له عن حقيقته فسمي إفكا. وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} في سورة الأعراف.
و {جَاءُوا بِالْأِفْكِ} معناه: قصدوا واهتموا. وأصله: أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له: جاء بخبر كذا، ولأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحا وعدي بباء المصاحبة تكميلا للترشح.
والإفك: حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين. وحاصل هذا الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة، آذن بالرحيل آخر الليل. فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقدا من جزع ظفار كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل. فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطل بكسر الطاء السلمي
(18/136)

بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطنا المدينة من مهاجرة العرب قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله ابن أبي بن سلول رأس المنافقين في الجيش فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فراج قوله على حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي.
فالإفك: علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق.
والعصبة: الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة. وقيل العصبة: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس. وقيل في مصحف حفصة عصبة أربعة منكم. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقال: عصابة. وقد تقدم في أول سورة يوسف.
و {عُصْبَةٌ} بدل من ضمير {جَاءُوا} .
وجملة {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} خبر إن والمعنى: لا تحسبوا إفكهم شرا لكم، لأن الضمير المنصوب من {تَحْسَبُوهُ} لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقا بفعل {جَاءُوا} صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد. فالتقدير: لا تحسبوا الإفك المذكور شرا لكم. ويجوز أن يكون خبر إن قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} وتكون جملة {لا تَحْسَبُوهُ} معترضة.
ويجوز جعل {عُصْبَةٌ} خبر إن ويكون الكلام مستعملا في التعجيب من فعلهم مع انهم عصبة من القوم أشد نكرا، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وذكر عصبة تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم منكم يدل على أنهم من المسلمين، وفي
(18/137)

ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين.
وقوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير تحسبوه عائد إلى الإفك.
والشر المحسوب: أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائض فإنهم أهل المدينة الفاضلة. فلما حدث فيهم الاضطراب حسبوه شرا نزل بهم.
ومعنى نفي أن يكون ذلك شرا لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمخض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين.
وقال أبو بكر ابن العربي: حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه، وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة وشرا لا خير فيه هو جهنم. فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله هم من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه. وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} في سورة النحل.
وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شرا للمؤمنين أثبتت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شرا، وإثبات انه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، وتتبين منه براءة فضلائهم، ويزداد المنافقون غيظا ويصبحون محقرين مذمومين، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب. قال في الكشاف:... وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه.
وعدل أن يعطف خيرا على شرا بحرف بل فيقال: بل خيرا لكم، إيثارا للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام.
والإثم: الذنب وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في سورة البقرة
(18/138)

وعند قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} في سورة الأنعام.
وتولي الأمر: مباشرة عمله والتهمم به.
والكبر بكسر الكاف في قراءة الجمهور، ويجوز ضم الكاف.وقرأ به يعقوب وحده، ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، فهما لغتان عند جمهور أئمة اللغة. وقال ابن جني والزجاج: المكسور بمعنى الإثم، والمضموم: معظم الشيء. والذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي سلول وهو منافق وليس من المسلمين.
وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} . وقيل: الذي تولى كبره حسان بن ثابت لما وقع في صحيح البخاري: عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتا منها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكن أنت لست كذلك. قال مسروق فقلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقالت: أي عذاب أشد من العمى.
والوعيد بأن له عذابا عظيما يقتضي أنه عبد الله بن أبي سلول. وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم. وفيه إيماء بأذن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكا.
ولولا هنا حرف بمعنى هلا للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} . وأما {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر.
وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود
(18/139)

دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيرا رجلان، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .
وقوله: {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} وقع في مقابلة: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} فيقتضي التوزيع، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيرا إذ لا يظن المرء بنفسه.
وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي يلمز بعشكم بعضا، وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه: ألا ترين ما يقال? فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا? قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك. قال: نعم.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ} للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيها على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرؤا من الخوض فيه بفور سماعه.
والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفاوت، فمقتضى الظاهرة أن يقال: ظننتم بأنفسكم خيرا، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الالتفات ضرب من الاهتمام بالخبر، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوء إلى عرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعا له.
وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره.
وعطف {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.
(18/140)

والباء في {بِأَنْفُسِهِمْ} لتعدية فعل الظن إلى المفعول الثاني لأنه متعد هنا إلى واحد إذ هو في معنى الاتهام.
والمبين: البالغ الغاية في البيان، أي الوضوح كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره.
[13] {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
استئناف ثان لتوبيخ العصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم. ولولا هذه مثل لولا السابقة بمعنى هلا.
والمعنى: أن الذي يخبر خبرا عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عددا يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به، فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكا. وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد.
وصيغة الحصر في قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذبا فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم.
والتقييد بقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقا لنفس الأمر. وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى {عِنْدَ اللَّهِ} في شرعه لأن ذلك يصيره قيدا للاحتراز، فيصير المعنى: هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة. وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من
(18/141)

هذه الآية.
[14] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{وَلَوْلا} هذه حرف امتناع لوجود. والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة. والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين. وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد القذف أحدا من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتا وسرارا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها: أو قد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبوي?. وقيل: حد حسان ومسطحا وحمنة، قال ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبي فقال فريق: إنه لم يحد حد القذف تأليفا لقلبه للإيمان. وعن ابن عباس أن أبيا جلد حد القذف أيضا.
والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم.
[15] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
إذ ظرف متعلق بأفضتم والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها.
وأصل {تَلَقَّوْنَهُ} تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما. وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وفي الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه" .. الحديث، وذلك بتشبيه التهيؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو
(18/142)

إطلاقه في قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} .ففي قوله: {بِأَلْسِنَتِكُمْ} تسبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آله للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء. وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازا بعلاقة الأيلولة. وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث. وهذا تعريض بالتوبيخ أيضا.
وأما قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} فوجه ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين: أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر قيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذابا. وفي الحديث: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع، أو رجل مموه مراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقال {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} .
هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به. وفي الحديث آية المنافق ثلاث: "إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" .
وزاد في توبيخهم بقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، أي تحسبون الحديث بالقذف أمرا هينا.وإنما حسبوه هينا لأنهم استحفوا الغيبة والطعن في الناس استصحابا لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يزعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك. فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئا هينا وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق.
والهين: مشتق من الهوان، وهو ان الشيء عدم توقيره والمبالاة بشأنه، يقال: هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمرا مهما، والمعنى: شيئا هينا. وإنما حسبوه هينا مع أن
(18/143)

الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هينا لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثا. وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسر والعلانية.
ومعنى {عِنْدِ اللَّهِ} في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
[16] {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
عطف على جملة {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ. وأعيدت لولا وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف {قُلْتُمْ} الذي في هذه الجملة على {قُلْتُمْ} الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحا في عطف الجمل.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} كتقديم نظيره في قوله: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف.
وضمير {سَمِعْتُمُوهُ} عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة.
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك.
ومعنى {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} أن يقولوا اللذين أخبروهم بهذا الخبر الإفك، أي قلتم لهم زجرا وموعظة.
وضمير {لَنَا} مراد به القائلون والمخاطبون. فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك. والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا. وأما المتكلمون فلتنزههم أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا،
(18/144)

للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء. وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} .
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه. فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} .
و {سُبْحَانَكَ} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} وجملة: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . و {سُبْحَانَكَ} مصدر وقع بدلا من فعله، أي نسبح سبحانا لك. وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في سورة يوسف. والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تبرئا من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سُبْحَانَكَ} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تعليل لجملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عَظِيمٌ} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغا قويا.
وإنما كان عظيما لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب بطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحنا عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله
(18/145)

عنها.
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران. والبهتان: الخبر الكذب الذي يبهت السامع لأنه لا شبهة فيه. وقد مضى عند قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} في سورة النساء.
[18,17] {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
بعد أن بين الله تعالى ما في خبر الإفك من تبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديد التوبيخ والتهديد، وافتضاح للذين روجوه وخيبة مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاع للمؤمنين بذلك، وبين بادئ ذي بدء أنه لا يحسب شرا لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثما، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيرا فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سببا للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمرا هينا وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطئ الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام.
والوعظ: الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمرا قبيحا. وتقدم في آخر سورة النحل.
وفعل {يَعِظُكُمُ} لا يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه، فالمصدر المأخوذ من {أَنْ تَعُودُوا} لا يكون معمولا لفعل {يَعِظُكُمُ} إلا بتقدير شيء محذوف، أو بتضمين فعل الوعظ معنى فعل متعد، أو بتقدير حرف جر محذوف، فلك أن تضمن فعل {يَعِظُكُمُ} معنى التحذير. فالتقدير: يحذركم من العود لمثله، أو يقدر: يعظكم الله في العود لمثله، أو يقدر حرف نفي، أي أن لا تعودوا لمثله، وحذف حرف النفي كثير إذا دل عليه السياق، وعلى كل الوجوه يكون في الكلام إيجاز.
والأبد: الزمان المستقبل كله، والغالب أن يكون ظرفا للنفي.
(18/146)

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تهييج وإلهاب لم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق، إذ ليس المعنى: إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنبا كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقدا وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافرا وبذلك قال مالك. قال ابن العربي: قال هشام بن عمار1: سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب ومن سب عائشة قتل لأن الله يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل اه. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصا وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة. وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر. وأما السبب بغير ذلك فهو مساو لسب غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي: يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود. والآيات: آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات.
ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة.
[19] {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين.
وجعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيها على أن محبة ذلك
ـــــــ
1 هشام بن عمار السلمي الدمشقي الحافظ المقرئ الخطيب. سمع مالكا وخالقا. وثقة ابن معين توفى سنة / 245/ هـ. وعاش اثنتين وتسعين لم يترجمه عياض في "المستدرك"ولا ابن فرحون في "الديباج" فالظاهر أنه لم يكون من أتباع مالك. وقد ذكره الذهبي في "الكاشف" والمزي في "تهذيب الكمال" .
(18/147)

تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين. ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيرا حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يسر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه. وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة. وتلك المحبة شيء غير الهم بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب. وهذا نظير الكناية في قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين. فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله: {أَنْ تَشِيعَ} لأن أن تخلص المضارع للمستقبل. وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومعنى {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو: اشتهار التحدث بها. فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حدا عظيما في الشناعة.
وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} في سورة النساء. وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} في سورة الأعراف. وتقدم الفحشاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر
(18/148)

وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب.
ولهذا دل هذا الأدب الجليل بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
[20] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
هذه ثالث مرة كرر فيها {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . وحذف في الأول والثالث جواب لولا لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام.
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظا لأواصرها.
وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب.
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته.
[21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبسا بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان. ففي قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة مفعولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها.
(18/149)

وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي.
و {خُطُوَاتِ} جمع خطوة بضم الخاء. قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كم هي في المفرد فهو جمع سلامة. وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير.
والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها. وتقدم عند قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في سورة البقرة.
ومن شرطية ولذلك وقع فعل يتبع مجزوما باتفاق القراء.
وجملة {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} جواب الشرط، والرابط هو مفعول {يَأْمُرُ} المحذوف لقصد العموم فأنه عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب. وضميرا {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} عائدان إلى الشيطان. والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
والفحشاء: كل فعل أو قول قبيح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
والمنكر: ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخبر. وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَر} في سورة آل عمران.
وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكيا لأن فتنة الشيطان عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
و {زَكَى} بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات. وقد كتب {زَكَى} في المصحف بألف في صورة الياء. وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصاله باء فإنه واوي اللام, ورسم المصحف قد لا يجري على القياس. ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعفة للقراءة هي المخالفة
(18/150)

المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلا على عمله.
وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلا بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل.
[22] {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
عطف على جملة {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة.
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المطلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه. ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجدا في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية. فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر. قال ابن عباس: إن جماعة المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم.
ولما قرأ رسول الله على الله عليه وسلم الآية إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي. ورجع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم. قال ابن عطية: وكفر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة.
وقرأ الجمهور {وَلا يَأْتَلِ} . والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع، يقال: إلى وائتلي. وقد تقدم عند قوله تعالى:
(18/151)

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} في سورة البقرة. وقرأه أبو جعفر ولا يتأل من تألي تفعل من الألية.
والفضل: أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا. ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مرادا هنا لأن عطف {وَالسَعَةِ} عليه يبعد ذلك. والمعني من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق.
والسعة: الغنى. والأوصاف في قوله: {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مقتضية المواساة بانفرادها، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه.
والاستفهام في قوله: {أَلا تُحِبُّونَ} إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} . وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجا وهو الكفارة.
وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة: أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال. وهو في صحيح البخاري في كتاب الأدب باب الهجران.
وعطف {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على جملة {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطمينا لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى.
[25,23] {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} .
(18/152)

جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} استئناف بعد استئناف قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} والكل تفصيل للموعظة التي في قوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فابتدئ بوعيد العود إلى محبته ذلك وثني بوعيد العودة إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله: {يَرْمُونَ} للاستقبال. وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} .
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي سلول ومن معه.
و {الغَافِلاتِ} هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به. وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلا عنه. فالمعنى: إن الذين يرمون المحصنات كذبا عليهن، فلا تحسب المراد الغافلات عن قول الناس فيهن. وذكر وصف {الْمُؤْمِنَاتِ} لتشنيع قذف الذين يقذفوهن كذبا لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى.
وقوله: {لُعِنُوا} إخبار عن لعن الله إياهم بما قدر لهم من الإثم وما شرع لهم.
واللعن: في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف. واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله.
والعذاب العظيم: عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعين هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة.
والظرف في قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبرا للمبتدأ في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون.
وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار.
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} لأن لهذه الأعضاء عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف يشهد عليهم بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ} استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالا
(18/153)

عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم. فدينهم جزاؤهم كما في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
و {الحَقَّ} نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ينكشف للناس أن الله الحق. ووصف الله بأنه {الْحَقَّ} وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه {الْحَقَّ} بمعنيين: أولهما: بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى الحق اقتصر الغزالي في شرح الأسماء الحسنى.
وثانيهما: معنى أنه ذو الحق، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله: {دِينَهُمُ الْحَقَّ} . وبه فسر صاحب الكشاف فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسير الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برجان الإشبيلي1 في كتابه شرح الأسماء الحسنى والقرطبي في التفسير.
والحق من أسماء الله الحسنى. ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب {الْمُبِينُ} . والمبين: اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعديا بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهزة زائدة، فلك أن تجعله وصفا ل {الْحَقَّ} بمعنى العدل كما صرح به الكشاف، أي الحق الواضح. ولك أن تجعله وصفا لله تعالى بمعنى أن الله مبين وهاد. وإلى هذا نحا القرطبي وابن برجان فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم المبين.
ـــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد بن برجان - بموحدة مفتوحة فراء مشددة مفتوحة فجيم مفتوحة فألف فنون - الأشبيلي المتوفى سنة /536/ هـ. ألف "شرح الأسماء الحسنى" وجمع مائة وثلاثين اسما. وهو شرح على طريقة حكماء الصوفية. توجد منه نسخة وحيدة بتونس.
(18/154)

فإن كان وصف الله ب {الْحَقَّ} بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الإعداد ب {الْحَقَّ} الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أوليس بمبين. وإن كان الخبر عن الله بأنه {الْحَقَّ} بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى، فالمعنى: أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصفه تعالى ب {المُبِينُ} .
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم.
ويجوز أن يكون المراد ب {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} عبد الله بن أبي سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة، ويعلمون أن الله الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتا لأصنامهم، فالقصر حينئذ إضافي، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم.
ويجوز أن يكون المراد بالذين يرمون المحصنات الغافلات عبد الله بن أبي مسلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضا به، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" .
[26] {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاءوا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم
(18/155)

ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات. فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن. وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله، وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} تعريض بالمنافقين المختلقين الإفك.
والابتداء بذكر {الْخَبِيثَاتُ} لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين. واللام في قوله: {لِلْخَبِيثِينَ} لام الاستحقاق. والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق. والتقدير في الجميع: الأزواج.
وعطف {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلا من أي جانب ابتدأه السامع.
وذكر {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إطناب أيضا للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضا.
وعطف {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} كعطف {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} .
وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} في سورة الأنفال وقوله: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في سورة آل عمران وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} في سورة الأعراف.
وغلب ضمير التذكير في قوله: {مُبَرَّأُونَ} وهذه قضية كلية ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل.
والمراد بالخبث: خبث الصفات الإنسان ية كالفواحش. وكذلك المراد بالطيب: زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته. وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضا لعموم قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} فإن المراد بقوله تعالى: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} أنهما خانتا زوجيهما بإبطال الكفر. ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} إلى قوله:
(18/156)

{وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
والدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى {مَا يَقُولُونَ} إلى أنه لا يعدو كونه قولا، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة.
والرزق الكريم: نعيم الجنة. وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله: {دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في سورة الأنفال.
وبهذه الآيات انتهت زواجر الإفك.
[28,27] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد.
وقد كان الاستئذان معروفا في الجاهلية وصدر الإسلام وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل. وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجا للمزور أو مثقلا عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها.
وشرع الاستئذان لمن يزور أحدا في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حر وقر ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يجب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب.
(18/157)

ومعنى {تَسْتَأْنِسُوا} تطلبوا الأنس بكم، أي: تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية. وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذنا من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان. يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل. ووقع لابن القاسم في جامع العتبية أن الاستئناس التسليم. قال ابن العربي: وهو بعيد. وقلت: أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف {وَتُسَلِّمُوا} عطف تفسير. وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان.
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلا على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية.
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيها على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما. وعن ابن سيرين: أن رجلا استأذن على النبي فقال: أأدخل? فأمر النبي رجلا عنده أو أمة اسمها روضة فقال: "إنه لا يحسن أن يستأذن فليقل: السلام عليكم أأدخل". فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل. فقال:"ادخل" . وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال: أألج. فأذن له ابن عمر، فلما دخل قال له ابن عمر: ما لك واستئذان العرب? يريد أهل الجاهلية إذا استأذنت فقل: السلام عليكم. فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل، فإن أذن لك فادخل.
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان. وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصا بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارق فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافيا عن السلام. قال المازري في كتاب المعلم على صحيح مسلم: الاستئذان مشروع. وقال ابن
(18/158)

العربي في أحكام القرآن. قال جماعة: الاستئذان فرض والسلام مستحب. وروي عن عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم. ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية. قال الشيخ أبو محمد في الرسالة: الاستئذان واجب فلا تدخل بيتا فيه أحد حتى تستأذن ثلاثا فإن أذن لك وإلا رجعت. وقال ابن رشد في المقدمات: الاستئذان واجب. وحكى أبو الحسن المالكي في شرح الرسالة الإجماع على وجوب الاستئذان. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: الاستئذان مشروع. وهي كلمة المازري في شرح مسلم. وأقول ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتهما في الحكم إذ كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاط في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان.
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب. فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: ذلكم الاستئذان خير لكم، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم.
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية.
وليس للاستئذان صيغة معينة. وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد. وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف.
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في صحيح البخاري وهو ما روي: عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت. وفسروه في رواية أخرى: بأن عمر كان مشتغلا ببعض أمره ثم تذكر فقال: ألم
(18/159)

أسمع صوت عبد الله ابن قيس? قالوا:استأذن ثلاثا ثم رجع فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر: ما منعك? قال قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت. وقال رسول الله: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" . فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة. قال أبو موسى: أمنكم أحد سمعه من النبي? فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق.
وقد علم أن الاستئذان إذنا ومنعا وسكوتا فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} . والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من ارجعوا كقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
ومعنى {أَزْكَى لَكُمْ} أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية. وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى. وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدرى أهو حق أم مواربة، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم.
وأما السكون فهو ما بين حكمه حديث أبي موسى. وفعل تسلموا معناه تقولوا: السلام عليكم، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل: رحب وأهل، إذا قال: مرحبا أهلا، وحيا، إذا قال: حياك الله، وجزأ، إذا قال له: جزاك الله خيرا. وسهل، إذا قال: سهلا، أي حللت سهلا. قال البعيث بن حريث:
فقلت لها أهلا وسهلا ومرحبا ... فردت بتأهيل وسهل ومرحب
وفي الحديث "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين" . وهي قريبة من النحت مثل: بسمل، إذا قال: بسم الله، وحسبل، إذا قال: حسبنا الله.
و {عَلَى أَهْلِهَا} يتعلق بتسلموا لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها: السلام عليكم، كما يعدى رحب به، إذا قال: مرحبا بك، وكذلك أهل به وسهل به. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وصيغة التسليم هي: السلام عليكم. وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ونهى أبا جزي الهجيمي عن أن يقول: عليك السلام. وقال له: "إن عليك السلام تحية الميت ثلاثا" ، أي
(18/160)

الابتداء بذلك. وأما الرد فيقول: وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله. أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان. وتقدم السلام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام.
وأما قوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} الخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهما بأن علة شرع الاستئذان ما يكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم. فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة.
والغاية في قوله: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} لتأكيد النهي بقوله: {فَلا تَدْخُلُوهَا} أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها. وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصيانا لما أمر الله به. فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون.
وخطاب لا تدخلوا يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كما سيأتي. ولذا فأن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي.
وقرأ الجمهور {بِيُوتَاً} حيثما وقع بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء. وقد تقدم في سورة آل عمران.
[29] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
هذا تخصيص لعموم قوله: {بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} بالبيوت المعدة للسكنى، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة
(18/161)

على طرق المسافرين لنزولهم، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متعاهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية. ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعا وأقتابا وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم.
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق. وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع، والحمامات، وحوانيت التجار، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه. فمعنى قوله: {غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة.
وأما الخوانيق جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاه وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور، فلا استئذان بين قاطنها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم.
وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} صفة ثانية ل {بُيُوتاً} .
والمتاع: الجهاز من العروض والسلع والرحال. وظاهر قوله: {فِيهَا مَتَاعٌ} أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول. ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه لدلالة لحن الخطاب، وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس.
وقد فسر المتاع بالمصدر، أي التمتع والانتفاع. قال جابر بن زيد: كل منافع الدنيا متاع. وقال أبو جعفر النحاس: هذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين وهو موافق للغة وتبعه على ذلك في الكشاف. ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها.
(18/162)

وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاج إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم.
[30] {قل قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقا بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه.
ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف من الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو مالا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب: منه واجب ومنه دون ذلك، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى الله عليه وسلم فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهبة معلقة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية" .
وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبرا شديدا عليها.
والغض: صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر. ويكون من الحياء كما قال عنترة:
وأغض طرفي حين تبدو جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
ويكون من مذلة كما قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص.
والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى. فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيها على المبالغة في غض الأبصار في محاسن
(18/163)

النساء. فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين.
واسم الإشارة إلى المذكور، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج.
واسم التفضيل بقوله: {أَزْكَى} مسلوب المفاضلة. والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة.
وذيل بجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال.
[31] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة، وتصريحا بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضا. ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكابا لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضا.
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعودن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في اللفظ الزينة بقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .
والزينة: ما يحصل به الزين. والزين: الحسن، مصدر زانه. قال عمر ابن أبي ربيعة:
جلل الله ذلك الوجه زينا.
(18/164)

يقال: زين بمعنى حسن، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} في سورة آل عمران وقال: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} في سورة الحجر.
والزينة قسمان خلقية ومكتسبة. فالخلقية: الوجه والكفان أو نصف الذراعين، والمكتسبة: سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء. وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} في سورة الأعراف، وعلى اللباس الحسن في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} . والتزين يزيد المرأة حسنا ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال، فلذلك نهي النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر.
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم.
وقال ابن العربي: إن الزينة نوعان خلقية ومصطنعة. فأما الخلقية فمعظم جسد المرأة وخاصة: الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر. وأما المصطنعة فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفا مثل: الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك. والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين. والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدو أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج. واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} كما سيأتي. قال ابن العربي: روى أبن القاسم عن مالك: ليس الخضاب من الزينة اه. ولم يقيده بخضاب اليدين. وقال ابن العربي: والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
فمعنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان.
(18/165)

وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلا الانتفاع بها أو مدخلا حرجا على صاحبتها وذلك الوجه والكفان، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية، فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء، ففي مذهب مالك قولان: أشهرهما أنها يجب ستر قدميها، وقيل: لا يجب، وقال أبو حنيفة: لا يجب ستر قدميها، أما ما كان محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها. وروى مالك في الموطإ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة" . قال ابن عبد البر: أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر، أي هن كاسيات بالاسم عاريات بالحقيقةاه. وفي نسخة ابن بشكوال من الموطإ عن القنازعي قال فسر مالك: إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه. وفي سماع ابن القاسم من جامع العتبية قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي. قال ابن رشد في شرحه: هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها، وتبدي ما يستحسن منها، امتثالا لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اه. وفي روايات ابن وهب من جامع العتبية قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية: ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجا لعجزتها.
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه. وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه.
ونهين عن التساهل في الخمرة. والخمار: ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أمرن في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة.
والمعنى: ليشددن وضع الخمر على الجيوب، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.
(18/166)

والباء في قوله: {بِخُمُرِهِنَّ} لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل يضربن.
والجيوب: جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة. والمعنى: وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجيب ما يظهر منه الجيد.
وقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أعيد لفظ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} تأكيدا لقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} لبعد ما بين الأول والثاني، أي لا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجا عليها.
وذكرت الآية اثنى عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم. وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى. وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية.
والبعولة: جمع بعل، وهو الزوج، وسيد الأمة. وأصل البعل الرب والمالك وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعلا وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن. ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير.
وكل من عد من الرجال الذين استثنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها. وفي سماع ابن القاسم من كتاب الجامع من العتبية: سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال: لا بأس بذلك. قال ابن رشد في شرحه: لأن الله تعالى قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر اه. أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حرمة الصهر.
والإضافة في قوله: {نِسَائِهِنَّ} إلى ضمير {المُؤمِنَات} : إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء
(18/167)

أمتهن، أي المؤمنات، مثل الإضافة في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، أي من رجال دينكم. ويجوز أن يكون المراد أو النساء. وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعا لبقية المعدود.
قال ابن العربي: إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميرا فجاء هذا للإتباع اه. أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي ألهمها الفجور والتقوى، فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وكذلك قوله فيها: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة1.
ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها. وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط. والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في التوضيح عند قول ابن الحاجب: وعورة الحرة ماعدا الوجه والكفين. ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله ابن الحاج2: أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقا ا هـ.
وفي مذهب الشافعي قولان: أحدهما أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين، ورجحه البغوي وصاحب المنهاج البيضاوي واختاره الفخر في التفسير. ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن
ـــــــ
1 وقد تقع الإضافة إلى مثل هذا الضمير بدون مزاوجة, فيكون ذكر الضمير مستغنى عنه ولا داعي إليه فيكون بمنزلة اعتماد في الكلام كما في قول عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت دقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
أي ودقت ودقا وأبقلت إبقالا. ومنه بعض قول بني نمير:
رمى قلبه البرق الملألئ ... رميه فهيج أسقاما فبات يهيم
أنشد الشيخ الجد سيدي محمد الطاهر ابن عاشور في "شرحه" على "البردة" نقلا عن ابن مرزوق في البيت الثاني من أبيات البردة
2 هو محمد بن محمد بن الحاج العبدري المالكي الفاسي المتوفى / 737/ هـ .له كتاب "المدخل إلى تتمة الأعمال".
(18/168)

الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة.
القول الثاني: أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي.
ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان: أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقيل هي كالمرأة المسلمة.
وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها، لكثرة ترددهم عليها، ولأن كونه مملوكا لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال.
وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة.
فأما التبعية فهي كونهم من إتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة.
والإربة: الحاجة. والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء. وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين.
واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف. وقد روي القولان عن مالك. وذكر ابن الفرس: أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبيعية وعدم الإربة. وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان.
وأما قضية هيت المخنث أو المخصي1 ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه. وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله، ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع.
ـــــــ
1 أخرج حديثه في "الموطأ" وكتب السنة, وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت أم سلمة فدخل عليها ِهيت - بكسر الهاء - المخنث فقال لعبد الله بن أمية المخزومي أخي أم سلمة لأبيها: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على بادية بنت غيلان فأنها تقبل بأربع وتدبر بثمان وزاد في الوصف وأنشد شعيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أرى هذا يعرف ما هاهنا: لايدخل عليكن" . وكانت هيت هذا مولى لعبد الله بن أمية المخزومي.
(18/169)

وقرأ الجمهور {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} بخفض غير. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب غير على الحال.
والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وذلك مثل قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالا.
ومعنى {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لم يطلعوا عليها. وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء
وذلك ما قبل سن المراهقة.
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك: فقال الحسن والجمهور: هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع. وقال الشعبي: بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم، وهذا تعليل واه لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة.
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة، فالتعداد جرى على الغالب. ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" . وجزم بذلك الحسن، ولم أر فيه قولا للمالكية. وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر.
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله: يضرب في الأرض، روى الطبري عن حضرمي: أن امرأة اتخذت برتين تثنية برة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخلخال من فضة واتخذت جزعا في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجا وتباهيا بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة.
قال الزجاج: سماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من النظر للزينة. فأما صوت الخلخال المعتاد فلا ضير فيه.
وفي أحاديث أن وهب من جامع العتبية: سئل مالك عن الذي يكون في أرجل
(18/170)

النساء من الخلاخل قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركه أحب إلى من غير تحريم. قال ابن رشد في شرحه: أراد أن الذي يحرم إنما هو أن يقصدن في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهارا بهن من زينتهن.
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يذكر الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغزل. ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه. وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} . ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن.
قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي: آية الضمائر.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعا لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم.
والجملة معطوفة على جملة {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} . ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع.
ونبه بقوله: {جَمِيعَاً} على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا.
وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} .
وكتب في المصحف أيه بهاء في آخره اعتبارا بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة {الْمُؤْمِنُونَ} . فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل. وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعا لحركة أي. ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها. ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به.
(18/171)

[32] {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه، ويعف نفوس المؤمنين والمؤمنات، ويغض من أبصارهم، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أيا ما هم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن. وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم. وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية.
والآيامى: جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فيعل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيبا أم بكرا. والشائع إطلاق الأيم على التي كانت زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على انه مجاز كثر استعماله. والأيم في الأصل من أوصاف النساء قال أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال: امرأة أئمة. وإطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه، وبعض أئمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركا للمرأة والرجل وعليه درج في الكشاف والقاموس.
ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل، وفيعل لا يجمع على فعالى. فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وعند ابن مالك وجماعة: وزنه فعالى عل غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه.
و {الْأَيَامَى} صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا. أمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخا لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فقد قال جمهور الفقهاء: إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. ونقل القول بأن التي قبلها محكمة من غير معين. وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها.
ومعنى التبعيض في قوله: {مِنْكُمْ} أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلون عند المسلمين من أن يكن أزواجا لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن؛ أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} على الاحتمالات الآتية في معنى الصالحين. وأما غيرهن فولايتهن لآهل ملتهن.
(18/172)

والمقصود: الأيامى الحرائر، خصصه قوله بعده: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} . وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني، أي الأتقياء. والمعنى: لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقا بهم ودفعا لمشقة العنت عنهم.
فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمرا. وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غير الصالحين غير الإعفاء والعفائف من المماليك المسلمين، ويشمل المماليك غير المسلمين. وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف. وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج، أي: إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية.
وفي صيغة الأمر في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم: فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجبا، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب. وقال الشافعي: لا يندب، وحمل الأمر عل الإباحة، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم.
وجملة {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} إلخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيرا فهل يرده الوالي، وأن يكون سيد العبيد فقيرا لا يجد ما ينفقه على زوجه، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال. ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرا أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرا وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدا فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال.
وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقرنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحا وتجارتهم رباحا. والمعنى: أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم.
وصفة الله الواسع مشتقة من فعل وسع باعتبار أنه مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه. قال حجة الإسلام: والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم، وكيفما قدر وعلى أي شيء
(18/173)

نزل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته اه.
والذي يؤخذ من استقراء القرآن أن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} . أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تميز به كقوله تعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .
وذكر عليم بعد واسع إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء.
[33] { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
أمر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بأذن أوليائهم ومواليهم. والسين والتاء للمبالغة في الفعل، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحا. ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة. وجعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع.
ومعنى {لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف. وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف. فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة.
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج. والفضل: زيادة العطاء.
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} .
لما ذكر وعد الله من يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقا في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج.
(18/174)

أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقا لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها.
والذين مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فَكَاتِبُوهُمْ} . وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل.
ودخول الفاء في {فَكَاتِبُوهُمْ} لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل: إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم، تأكيدا لترتب الخبر على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط.
والكتاب: مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يدفع لسيد العبد منجما، أي موزعا على مواقيت معينة، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجما وسموا توزيعها تنجيما، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه: تنجيم. وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيما وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء، قال زهير:
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت ... ينجمها من ليس فيها بمجرم
وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين، وإن كان الكاتب واحدا والكتب واحدا. وفي حديث عبد الرحمان بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة.
ومعنى {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إن ظننتم أنهم لايبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكنا من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبدا كما كان.
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} . فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن
(18/175)

دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيرا في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته. وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرة لما سأله سيرين عبده أن يكاتبه فأبى أنس. وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب.
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله. وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية: أن غلاما لحويطب بن عبد العزي أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صبح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه. وفي الكشاف أن عمر بن الخطاب كاتب عبدا له يكنى أبا أمية أول عبد كوتب في الإسلام.
والظاهر أن الخطاب في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه. وكذلك قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد. وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر.
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ الإيتاء وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطا لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلق قبل البناء لمطلقته جميع الصداق عفوا في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} في قول جماعة في محمل {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} منهم الشافعي.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وَآتُوهُمْ} للمسلمين، أمرهم الله بإعانة المكاتبين.
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب. وقال إسماعيل بن حماد القاضي: وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا وهذا لا نظير له اه وفيه نظر.
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله. وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.
(18/176)

والموصول في قوله: {الَّذِي آتَاكُمْ} يجوز أن يكون وصفا ل {مَالِ اللَّهِ} ويكون العائد محذوفا تقديره: آتاكموه. ويجوز أن يكون وصفا لاسم الجلالة فيكون امتنانا وحثا على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعولا {آتَاكُمْ} محذوفا للعموم، أي آتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة، ويكون مفعول {آتَاكُمْ} محذوفا للعموم، أي آتاكم نعما كثيرة كقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .
وأحكام الكتابة وعجز المكاتب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكا وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مسبوطة في كتب الفروع.
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء.
والبغاء مصدر: باغت الجارية. إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها، فالبغاء الزنى بأجرة. واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا: باغت الأمة. ولا يقال: بغت. وهو مشتق من البغي بمعنى الطلب كما قال عياض في المشارق لأن سيد الأمة بغى بها كسبا. وتسمى المرأة المحترفة له بغيا بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث. فأصل بغي بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
وقد كان هذا البغاء مشروعا في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح38: فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل عينائم التي على الطريق ثم قال: فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك. فقالت: ماذا تعطيني? فقال: أرسل لك جدي معزى من الغنم.. ثم قال ودخل عليها فحبلت منه.
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أبي بن سلول وهن: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، وكان يكرههن على البغاء بعد الإسلام. قال ابن العربي: روى مالك عن الزهري: أن رجلا من أسرى قريش في يوم بدر قد جعل عند
(18/177)

عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله ابن أبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه أي من الأسير القرشي فيطلب فداء ولده، أي فداء رقه من ابن أبي. ولعل هذا الأسير كان موسرا له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقالوا: إن عبد الله بن أبي كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامه له. فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا. فأنزل الله هذه الآية، أي: وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أبي بالإسلام. وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي: أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن السباق، وجلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية ربيعة بن أسود، وقرينة أم قريبة جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير.
قلت: وتقدم أن من البغايا عناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} . ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كن بمكة أسلمت وأما اللاتي كن بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.
والبغاء في الجاهلية كان معدودا من أصناف النكاح. ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
(18/178)

ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلي فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها.
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه، فلما بعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كل إلا نكاح الناس اليوم اه.
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق، وكانت عناق صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} . وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهرا كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد: غلام.
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفوها حق البيان وما أتوا إلا إطنابا في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها.
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} موجه إلى المسلمين، فإذا كانت قصة أمة ابن أبي حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذ وإنما كان تذمر أمته من داعيا لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء. وأياما كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
(18/179)

وقد كان إظهار عبد الله بن أبي الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمنا في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق. ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبي حين نزلت: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنا بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزاني بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزانى سرا لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علنا، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذي تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغي بأن الحمل ممن تعينه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيها بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنى كان محرما تحريما شديدا على المسلم من مبدأ ظهور الإسلام. وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرما قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} توطئة لتحريم الخمر البتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.
(18/180)

والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن. ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به.
وذكر {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن. هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية.
وأنا أقول: إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول.
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن. فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما باتا، فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريما مطلقا كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء.
وقد يكون هذا الاحتمال معضودا بقوله تعالى بعده: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كما يأتي.
وفي تفسير الأصفهاني1: وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا. وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا.
وقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق ب {تُكْرِهُوا} أي لا تكرهوهن لهذه العلة. ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} .
و {عَرَضَ الْحَيَاةِ} هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضا.
وأما قوله: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو صريح في أنه
ـــــــ
1 شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الشافعي المتوفى سنة / 749/ هـ.
(18/181)

حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيز الشرط، وهو صريح في أنه عفو عن إكراه.
والذي يشتمل عليه هذا الخبر جانبان: جانب المكرهين وجانب المكرهات بفتح الراء، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن.
وأما الإماء المكرهات فإن الله غفور رحيم لهن. وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول غفور رحيم لهن والله. وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذر المكرهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يكرهون الإماء على البغاء.
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير من الشرطية، أي غفور رحيم له، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازا واستغنى عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره. والتقدير: فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة.
والفاء رابطة الجواب.
وحرف إن في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعلل.
[34] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
ذيلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره.
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات. والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الامتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى
(18/182)

الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريبا بقوله تعالى: {ولَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} . وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها. وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ثم قوله: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم قوله هنا: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} فكان كل واحد من هذه التذييلات زائدا على الذي قبله؛ فالأول زائد بقوله: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله: {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ، فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفا على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات، ووصف ما كان من هذه السورة مشتملا على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} يطابق قوله في أول السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وقوله: {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} يقابل قوله في أول السورة: {وَفَرَضْنَاهَا} على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديرا وتصويرا للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} يقابل قوله في أولها: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزل من عند الله.
وابتدئ الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب مبينات بفتح التحتية على صيغة المفعول. فالمعنى: أن الله بينها ووضحها. وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها. ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} في أول السورة لأن البينات هي الواضحة، أي الواضحة الدلالة والإفادة.
والمثل: النظير والمشابه. ويجوز أن يراد به الحال العجيبة.
ومن في قوله: {مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} ابتدائية، أي مثلا ينشأ ويتقوم من الذين خلوا. والمراد نشأة المشابهة. وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره: من أمثال
(18/183)

الذين خلوا من قبلكم. وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة، قال النابغة:
وقد خفت حتى ماتزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أراد على مخافة وعل.
و {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} هم الأمم الذين سبقوا المسلمين، وأراد: من أمثال صالحي الذي خلوا من قبلكم.
وهذا المثل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البراء.
والموعظة: كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء وقوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف.
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} الآيات، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} .
والمتقون: الذين يتقون، أي يتجنبون ما نهوا عنه.
[35] {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
أتبع منة الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحق للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته.
والذي يظهر لي أن جملة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معترضة بين الجملة التي
(18/184)

قبلها وبين جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأن جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} بيان لجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تمهيدا لجملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} .
ومناسبة موقع جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} بعد جملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أن آيات القرآن نور قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} في سورة النساء، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} في سورة المائدة، فكان قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كلمة جامعة لمعاني جمة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام.
وموقع الجملة عجيب من عدة جهات، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان.
والنور: حقيقته الإشراق والضياء. وهو اسم جامد لمعنى، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلا لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو: استنوق الجمل، فأن فعل أنار مثل فعل أفلس، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين. وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف. فمعنى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أن منه ظهورهما. والنور هنا صالح لعدة معان تشبه بالنور، وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة.
فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهرا أو عرضا. وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفي عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة بمشكاة الأنوار1: النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور. وجعل اسمه تعالى النور دالا على التنزه عن العدم وعلى إخراج
ـــــــ
1 التي جعلها فيما يستخلص من آية {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
(18/185)

الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برجان الإشبيلي1 في شرح الأسماء الحسنى فقال: إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه.
أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائما لما قبل الآية من قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وما بعدها من قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله عقب ذلك {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وقد أشرنا آنفا إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مرادا من وصفه تعالى بالنور، وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الإطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" . فإن عطف ومن فيهن يؤذن بأن المراد ب {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} . والمعنى: أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما.
والتزام حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور. وأشهرها ثلاث: البرهان العلمي، والكمال النفساني، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم. وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه هياكل النور بقوله: يا قيوم أيدنا بالنور، وثبتنا على النور، واحشرنا إلى النور. كما بينه جلال الدين الدواني في شرحه.
ونلحق بهذه المعاني إطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي.
وقد ورد في آيات إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما. وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفا لله تعالى لا حقيقة ولا مجازا فتعين أن لفظ {نُورُ} في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} غير المراد بلفظ نور في قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالنور لفظ
ـــــــ
1 برجان - بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة بعدها جيم -.
(18/186)

مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر.
فأحسن ما تفسر به قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالمين العلوي والسفلي، وهو من استعمال المشترك في معانيه.
ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة. فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير. وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدي لهم وبهم.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}
يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} إذ كان ينطوي في معنى {آيَاتٍ} ووصفها ب {مُبَيِّنَاتٍ} ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها، فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ووقعت جملة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيدا لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة.
وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة الله نور السماوات والأرض فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فصلت فلم تعطف.
والضمير في قوله: {نُورِهِ} عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله. والمراد ب {نُورِهِ} كتابه أو الدين الذي أختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين.
فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة. وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من
(18/187)

الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها. ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف. وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى القمر.
والمثل: تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة. فمعنى {مَثَلُ نُورِهِ} شبيه هديه حال مشكاة.. إلى آخره، فلا حاجة إلى تقدير: كنور مشكاة، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها.
وقوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} المقصود كمصباح في مشكاة. وإنما قدم المشكاة في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدئ بقوله: {كَمِشْكَاةٍ} والمنتهي بقوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة مشكاة دون لفظ {مِصْبَاحٌ} لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ {مِصْبَاحٌ} بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة لمتخيله حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاة ثم يبدو له مصباح في زجاجة.
والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة. ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب وصاحب القاموس والكشاف واتفقوا: على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب. ووقع ذلك في صحيح البخاري فيما فسره من مفردات سورة النور.
ووقع في تفسير الطبري وابن عطية عن مجاهد: أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه، وفي الطبري عن مجاهد أيضا: المشكاة الصفر أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة الذي في جوف القنديل. وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس: المشكاة موقع الفتيلة، وفي معناه أيضا ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري: المشكاة الحديد والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقول الأزهري: أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة.
(18/188)

وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة.
والمصباح: اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهي من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة. وإذا كان المشكاة اسما للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مرادا به الفتيلة التي توضع في تلك القصيبة.
وإعادة لفظ {الْمِصْبَاحُ} دون أن يقال: فيها مصباح في زجاجة، كما قال: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل. وكذلك إعادة لفظ {الزُّجَاجَةُ} في قوله: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} لأنه من أعظم أركان التمثيل. ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف:
إذا أنزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون صراها
ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين.
والزجاجة: اسم إناء يصنع من الزجاج، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تمر، ونمل، ونخل، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب.
والزجاج: صنف من الطين المطين من عجين رمل مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط. وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء سليكا يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء صودا ويسمى عند الرب: الغاسول. وهو الذي يتخذون منه الصابون. ويضاف إليهما جزء من الكلس الجير ومن البوتاس أو من أكسيد الرصاص فيصير ذلك الطين رقيقا ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعا بقدر ما يريد الصانع أن
(18/189)

يصنع منه، وهو حينئذ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذ قابلا للامتداد وللانتفاخ إذا نفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقنينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعا.
وقد كان الزجاج معروفا عند القدماء الفينيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير.
قال بشار:
أرفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطا في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} . وقد عرفه اليونان قديما ومن أقوال الحكيم ديوجينوس اليوناني: تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب. وسمى العرب الزجاج بلورا بوزن سنور وبوزن تنور. واشتهر بصناعته أهل الشام. قال الزمخشري في الكشاف: {فِي زُجَاجَةٍ} أراد قنديلا من زجاج شامي أزهر. واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق. وكذلك بلاد بوهيميا من أرض المجر لجودة التراب الذي يصنع مكنه في بلادهم. ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء. وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقى زمانا طويلا خاصا بمنازل الملوك والأثرياء.
والكوكب: النجم، والدري بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزهرة والمشتري منسوبة إلى الدر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته:
جمالية وجناء...البيت
(18/190)

أي: كالجمل في عظم الجثة وفي القوة. وقولهم في المثل: بات بليلة نابغية، أي: كليلة النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة...الأبيات
قال الحريري: فبت بليلة نابغية. وأحزان يعقوبية المقامة السابعة والعشرون.
ومنه قولهم: وردي اللون، أي كلون الورد. والدر يضرب مثلا للإشراق والصفاء. قال لبيد:
وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحري سل نظامها
وقيل: الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة.
وقرأ أبو عمرو والكسائي دري بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع، لأنه يدفع الظلام بضوءه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضا فيما يخاله الرائي.
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضا على أن وزنه فعيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه علية وسرية وذرية بضم الأول في ثلاثتها.
وإنما سلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظا وأبين وصفا. وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولاحظ له في التمثيل.
وجملة {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ} الخ. في موضع الصفة لمصباح
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم يوقد بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنيا للنائب، أي يوقده الموقد، فالجملة حال من مصباح.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف توقد بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من مشكاة أو من {زُجَاجَةٍ} أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة، أي تنير. وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح.
(18/191)

والإيقاد: وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها، وأريد به هنا ما يمد به المصباح من الزيت، وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده، أي لا يذوى ولا يطفأ. وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق، وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه {زَيْتُونَةٍ} وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماما بتقرر ذلك في الذهن. ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلا وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة، وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وينتفع بجودة هواء غاباتها.
وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يريد أرض الشام، ووصف الزيتونة ب {مُبَارَكَةٍ} على هذا وصف كاشف، ويجوز أن يكون وصفا مخصصا ل {زَيْتُونَةٍ} أي: شجرة ذات بركة، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
فإن قوله، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاء ولكنه حالة تحسنه عند السامع.
وقوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} وصف ل {زَيْتُونَةٍ} . دخل حرف لا النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ال المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله:
حاجيتكم لتبخروا ما اسمان ... وأول إعرابه في الثاني
وهو مبني بكل حال ... ها هو للناظر كالعيان
لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم: الرمان حلو حامض. والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى: {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}
(18/192)

وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع:زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر1 أي وسطا بين الحر والقر. وقوله العجاج يصف حمار وحش:
حشرج في الجوف قليلا وشهق ... حتى يقال ناهق وما نهق
والمعنى: إنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب، فنفي عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية. وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه. وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع: زوجي لحم جمل على رأس جبل، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" .
واعلم أيضا أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب لا ولا بقوله في المقامة السادسة والأربعين: بورك فيك من طلا. كما بورك في لا ولا أي في الشجرة التي قال الله في شأنها: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} .
ثم يحتمل أن يكون معنى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية، وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام. ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب. أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها، فبذلك يكون زيتها أجود وإذا كان أجود كان أشد وقودا ولذلك أتبع بجملة {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} وهي في موضع الحال.
وجملة: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} في موضع الحال من {زِيْتُهَا} .
والزيت: عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية، مثل زيت السمسم
ـــــــ
1 تمام القرينة: "ولا مخافة ولا سآمة"
(18/193)

والجلجلان. وهو غذاء. ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصابا خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم.
ولو وصلية. والتقدير: يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار.
وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضا مفرق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة.
ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال: نوره كمصباح في مشكاة.. إلى آخره.
فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن. شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشارا وإشراقا.
وجملة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصرا فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعا في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقيا صافيا كان أشد إسراجا، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به.
فقوله: {نُورٌ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى آخره، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون. والمعنى: أنه نور مكرر مضاعف. وقد أشرت آنفا إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابها لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل.
(18/194)

فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام، وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيين الحقائق من ذلك الإرشاد.
وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} .
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.
وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرط.
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.
وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بين قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.
وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومئ إلى استمرار هذا الإرشاد.
كما أن قوله: {مِنْ شَجَرَةٍ} يومئ إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة بتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط.
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل. والمعنى: دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هدي أحد خلقه وجبله على العناد والكفر.
وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوا منهم التذكر بها: فمنهم من يعتبر بها فيهتدي، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طبع على قلبه.
(18/195)

وجملة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لمضمون الجملتين قبلها، أي لا يعزب عن عمله شيء. ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصر على غيه. وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين.
[38,36] {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله: {فِي بُيُوتٍ} الخ. فقيل قوله: {فِي بُيُوتٍ} من تمام التمثيل، أي فيكون {فِي بُيُوتٍ} متعلقا بشيء مما قبله. فقيل يتعلق بقوله: {يُوقَدُ} ، أي يوقد المصباح في بيوت. وقيل هو صفة لمشكاة، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن مشكاة ومصباح مفردان لأن المراد بها الجنس فتساوى الإفراد والجمع.
ثم قيل: أريد بالبيوت المساجد. ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي: نور الله مضجعك يابن الخطاب كما نورت مسجدنا. وروي أنما أسلم تميم سنة تسع، أي بعد نزول هذه الآية. وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذ بيعا للنصارى. ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها. وقد ذكر صاحب القاموس عددا من الأديرة. ويرجح هذا قوله: {أَنْ تُرْفَعَ} فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال. أنشد الفراء:
لو أبصرت رهبان دير بالجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} إلى قوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا
(18/196)

يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى. وهذا كقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل. والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: "فإذا لهم كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان" ?. وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسنا في نفوس المؤمنين.
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالا.
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا، فيكون معنى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله، فهو من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره. والثناء عليهم يومئذ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذ دعوى الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يذع في العامة. وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشي كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل
وقال أيضا:
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المقتل
والسليط: الزيت، أي صب الزيت على الذبال. فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة. وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلا. وقال امرؤ القيس:
سموت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال
(18/197)

القفال: جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم.
وقيل: أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائض، فالإذن حينئذ بمعنى الأمر.
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
والأظهر عندي: أن قوله: {فِي بِيُوتٍ} ظرف مستقر هو حال من {نُورِهِ} في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الخ مشير إلى أن نور في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} مراد منه القرآن، فيكون هذا الحال تجريدا للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده1، فكان هذا التجريد رجوعا إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادف ... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
مع في الآية من بيان ما أجمل في لفظ: {مَثَلُ نُورِهِ} وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط.
ويجوز أن يكون {فِي بُيُوتٍ} غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه. والتقدير: يسبح لله رجال في بيوت، ويكون قوله: {فِيهَا} تأكيدا لقوله: {فِي بُيُوتٍ} لزيادة الاهتمام بها. وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث: صلاة أحدكم في المسجد أي الجماعة تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة.
والمراد بالغدو: وقت الغدو وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم.
والآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار، وتقدم في آخر الأعراف وفي سورة الرعد.
ـــــــ
1 رواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه.
(18/198)

والمراد بالرجال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد.
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث...ورجل قلبه معلق بالمساجد....
ويجوز عندي أن يكون {فِي بُيُوتٍ} خبرا مقدما و {رِجَالٌ} مبتدأ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل: رجال في بيوت. والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين.
ومعنى {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد. فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة.
والتجارة: جلب السلع للربح في بيعها، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه.
وقرأ الجمهور {يُسَبِّحُ} بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و {رِجَالٌ} فاعله. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي: {لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ} ويكون {رِجَالٌ} فاعلا بفعل محذوف من جملة هي استئناف. ودل على المحذوف قوله: {يُسَبِّحُ} كأنه قيل: من يسبحه? فقيل: يسبح له رجال. على نحو قول نهشل بن حري يرثي أخاه يزيد:
لبيك يزيد ضارع لخصوصة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
وجملة {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} وجملة {يَخَافُونَ} صفتان ل {رِجَالٌ} ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله وإقام الصلاة الخ وهذا تعريض بالمنافقين.
و {إِقَامِ} مصدر على وزن الإفعال. وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفا إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة.وجاء مصدر {إِقَامِ} غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا. وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة.
وانتصب {يَوْماً} من قوله: {يَخَافُونَ يَوْماً} على المفعول به لا على الظرف بتقدير
(18/199)

مضاف، أي يخافون أهواله.
وتقلب القلوب والأبصار: اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في سورة الأنعام. والمقصود من خوفه: العمل لما فيه الفلاح يومئذ كما يدل عليه قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
ويتعلق قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} ب {يَخَافُونَ} ، أي كان خوفهم سببا للجزاء على أعمالهم الناشئة عن ذلك الخوف.
والزيادة: من فضله هي زيادة أجر الرهبان إن آمنوا بمحمد على الله عليه وسلم حينما تبلغهم دعوته لما في الحديث الصحيح: أن لهم أجرين، أو هي زيادة فضل الصلاة في المساجد إن كان المراد بالبيوت مساجد الإسلام.
وجملة {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تذييل لجملة {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} . وقد حصل التذييل لما في قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من العموم، أي وهم ممن يشاء الله لهم الزيادة.
والحساب هنا بمعنى التحديد كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} في سورة آل عمران. وأما قوله: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} فهو بمعنى التعيين والإعداد للاهتمام بهم.
[39] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
لما جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئا على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وعكس ذلك كقوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} الخ فعطف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة. ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون: ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين
(18/200)

ونسقي الحاج ونقري الضيف، كما أشار إليه قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يعدون أعمالا من أفعال الخيرات فكانت هذه الآيات إبطالا لحسابهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ وخبره جملة {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الخ. وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بني عليه مسند إليه آخر وهو {أَعْمَالُهُمْ} . ولم يجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظا في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة.
وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخير. وهو أنه من جزاء كفرهم بالله. على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا. فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي: شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبين أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز؛ شبه ذلك بحالة ظمآن يري السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريما يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة.
واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.
والسراب: رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء. وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصة للرمل وتحر الطبقة الهوائية التي فوقها حرا أقل من حرارة الطبقة الملاصقة، وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها، وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض. وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها
(18/201)

حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا.. فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها. فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيفت تلك الأشعة بلون الماء. ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار.
ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر. وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سراب. وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر. وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له: أم العرائس من جهات توزر، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت أول النظر أنا أشرفنا على بحر.
وقوله: {بِقِيعَةٍ} الباء بمعنى في وقيعة أرض، والجار والمجرور وصف لسراب وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة. وهذا كقولهم في المثل للذليل هو فقع في قرقر فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر. والقيعة: الأرض المنبسطة ليس فيها ربى ويرادفها القاعة. وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد.
وقوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل.
وحتى ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع. ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله، كأن يحدده بشجرة أو صخرة. فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب. فهذا معنى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيل أنه إن وصل إليه يجد ماء. وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له بعد كلما تقدم السائر في سيره. فضرب ذلك مثلا لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر.
وقوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئا.
والشيء: هو الموجود وجودا معلوما للناس، والسراب موجود ومرئي، فقوله: {شَيْئاً} أي شيئا من ماء بقرينة المقام. وهذا التمثيل كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا
(18/202)

مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
وإذا هنا ظرف مجرد عن الشرطية. والمعنى: زمن مجيئه إلى السراب، أي وصوله إلى الموضع.
وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} هو من تمام التمثيل، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد من إن أخذ بناصيته لم يفلته، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب، وهو معنى قوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي أعطاه جزاء كفره وافيا. فمعنى {فَوَفَّاهُ} أنه لا تخفيف فيه، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده ترة فأخذه.
وجملة {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل. والسريع: ضد البطيء. والمعنى: أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلا.
واعلم أن هذا التمثيل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات. فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء. والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله، ففي قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} استعارة مصرحة، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحة، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره. فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكته بالعدو، ورمز إلى العدو بقوله: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . وتعدية فعل وجد إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي.
[40] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}
شأن أو إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وربما بعدها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة البقرة، أي مع اتحاد وجه الشبه. ومنه قول امرىء القيس:
(18/203)

يضيء سناه أو مصابيح راهب ... ..........................
وقول لبيد:
أفتلك أم وحشية مسيوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها
فإذا كان الكلام هنا جاريا على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخرا في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضا لشدة تعاقبه، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحه في رؤيته فكيف يرجو النجاة.
وإن كان الكلام جاريا على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه التشبيه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهي غير مؤمنين وحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقا، فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم.
ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وعلى الوجهين فقوله: {كَظُلُمَاتٍ} عطف على {كَسَرَابٍ} والتقدير: والذين كفروا أعمالهم كظلمات.
وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال: شاهدت سواد الكفر في وجه فلان.
والظلمات: الظلمة الشديدة. والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات. ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها.
وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام. ومعنى كونها {فِي بَحْرٍ} أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ} . وقد تقدم في سورة البقرة إذ جعل الظلمات في الصيب.
(18/204)

واللجي منسوب إلى اللجة، واللج: هو معظم البحر، أي في بحر عميق، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم: والدهر بالإنسان دواري أي دوار، وكقولهم: رجل مشركي ورجل غلابي، أي قوي الشرك وكثير الغلب.
والموج: اسم جمع موجة. والموجة: مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطئ. وأصله مصدر: ماج البحر، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه.
ومعنى {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أن الموج لا يتسكر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته.
والسحاب تقدم في سورة الرعد. والسحاب يزيد الظلمة إظلاما لأنه يحجب ضوء النجم والهلال.
وقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} استئناف. والتقدير: هي ظلمات. والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد.
وقرأ الجمهور {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} بالتنوين فيهما.
وقرأ البزي عن ابن كثير {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} بترك بالتنوين في {سَحَابٌ} وبإضافته إلى {ظُلُمَاتٌ} . وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع سحاب منونا وبجر ظلمات على البدل من قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} .
وقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هو من قبيل قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} . وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة.
وجملة: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} تذييل للتمثيل، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى.
وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما
(18/205)

سبق من نظام تدبيره.
وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول. وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلبه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله.
[41] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
أعقب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيرا من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك، فأصواتها تسبيح بلسان الحال.
والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما عملت.
وجملة {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} استئناف ثان وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه.
فتسبيح العقلاء حقيقة. وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه. وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين: فريق العقلاء، وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة كل، فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي. فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء
(18/206)

عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازا على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع؛ ولولا إرادة ذلك لقيل: كل قد علم تسبيحه، أو كل قد علم صلاته.
والخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ} للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد من يبلغ إليه، أو الخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله.
والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم. وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق. وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
والصافات: من صفات الطير: يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران. وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيدت ب {صَافَّاتٍ} .
وفعل {عَلِمَ} مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل.
وضمائر {عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} راجعة إلى {كُلُّ} لا محالة.
ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد {عَلِمَ} فلكان راجعا إلى الله تعالى.
والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح.
وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع.
وإن شئت قلت: إن جملة {أَلَمْ تَرَ} جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية.
وقيل: الرؤية هنا قلبية. وأغنى المصدر عن المفعولين.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال.
(18/207)

والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام.
[42] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
تحقيق لما دل عليه الكلام السابق من إعطائه الهدى للعجماوات في شؤونه وحرمانه إياه فريقا من العقلاء فلو كان ذلك جاريا على حسب الاستحقاق لكان هؤلاء أهدى من الطير في شأنهم.
وتقديم المعمولين للاختصاص، أي أن التصرف في العوالم لله لا لغيره.
وفي هذا انتقال إلى دلالة أحوال الموجودات على تفرد الله تعالى بالخلق ولذلك أعقب بقوله:
[43] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} .
أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجاوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيرا لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف. وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} .
وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي.
و {يُزْجِي} يسوق. يقال: أزجى الإبل إزجاء.
وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيه بالسوق حتى يصير سحابا كثيفا، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه
(18/208)

بقوله تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} إلخ.
وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة في قوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} وفي أول سورة الرعد.
ودخلت بين على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرىء القيس:
بين الدخول فحومل
أي يؤلف بين السحابات منه.
والركام: مشتق من الركم. والركم: الجمع والضم. ووزن فعال وفعالة يدل على معنى المفعول. فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} في سورة الطور.
فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق. فقال بعض المفسرين: هو الودق. وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب.
والخلال: الفتوق، جمع خلل كجبل وجبال. وتقدم {خِلالَ الدِّيَارِ} في سورة الإسراء.
ومعنى {يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} يسقط من علو إلى سفل، أي ينزل من جو السماء إلى الأرض. والسماء: الجو الذي فوق جهة الأرض.
وقوله: {مِنْ جِبَالٍ} بدل من {السَّمَاءِ} بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال.
وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف، يقال: فلان جبل علم، وطود علم. وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين" . أي: ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لما سرني، أو لما كان سرني الخ.
وحرف من الأول للابتداء ومن الثاني كذلك ومن في قوله: {مِنْ بَرَدٍ} مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة من في الإثبات. أو تكون من اسما
(18/209)

بمعنى بعض.
ومفعول {يُنَزِّلُ} محذوف يدل عليه قوله: {فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} . والتقدير: ينزل بردا.
ووقوع من زائدة لقصد مشاكلة قوله: {مِنْ جِبَالٍ} .
وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على إنها حلول مكروه. ومن ذلك سميت المصيبة الحادثة المكروهة. وأما قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} فلأن قوله: {حَسَنَةٌ} قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازا مرسلا وإما مشتركا لفظيا أو مشتركا معنويا فإن أصاب مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر، فجعل نزول البرد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة، فضمير به للبرد.
وجملة {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وصف ل {سَحَابَاً} . وضمير {بَرْقِهِ} عائد إلى {سَحَابَاً} . وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكون السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرد، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة. ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر.
والسنا مقصورا: ضوء البرق وضوء النار. وأما السناء الممدود فهو الرفعة. قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود:
زال السنا عن ناظريه ... وزال عن شرف السناء
ولام التعرف في {الأَبْصَارِ} لام الحقيقة، وقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وهو كقوله في سورة البقرة {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} سوى ان هذه الآية زيد فيها لفظ سنا لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضيا للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين: بتكوين البرق في السحاب، وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار، وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه
(18/210)

قوارع ومصائب.
ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب{يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} وهنالك بقوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في {يَذْهَبُ} إذ هو مجرد الاستلاب.
وأما التعبير هنا بالأبصار معرفا باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وقولهم: ادخل السوق، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي. بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافا إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معادا وإن كان المعنى متحدا ولا تجد حق الإيجاز فائتا فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحرف والنطق. وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه.
وقرأ الجمهور {يَذْهَبُ} بفتح التحتية وفتح الهاء، فالباء للتعدية، أي يذهب الأبصار. وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
[44] {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} .
التقليب تغيير هيئة إلى ضدها. ومنه {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام، فالمقلب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تسمى ليلا وحالة نوره تسمى نهارا عبر عن الجو في حالتيه بهما، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار.
ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر. ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد.
والكلام استئناف. وجيء به مستأنفا غير معطوف على آيات الاعتبار المذكور قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر. وهذا تدرج في
(18/211)

موقع هذه الجملة عقب جملة {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} كما أشرنا إليه آنفا. ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال: إن في تقليب الليل والنهار لعبرة.
والإشارة الواقعة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى ما تضمنه فعل {يُقَلِّبُ} من المصدر. أي إن في التقليب. ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر.
والتأكيد بإن إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة.
وقيل: الإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى جميع ما ذكر آنفا ابتداء من قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} فيكون الإفراد في قوله: {لَعِبْرَةً} ناظرا إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون.
ولم ترد العبرة في القرآن معرفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع.
[45] {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققا كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيدا لأمرين: التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي، والتجدد يكون الخبر فعليا.
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .
وقرأ الجمهور {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} بصيغة فعل المضي ونصب كل. وقرأه الكسائي والله خالق كل دابة بصيغة اسم الفاعل وجر كل بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.
(18/212)

والدابة: ما دب على وجه الأرض، أي مشى. وغلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مرادا به الإنسان وغيره مرتين.
وتنكير ماء لإرادة النوعية تنبيها على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار.
وهذا بخلاف قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} إذ قصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالا ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله. وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} .
ومن ابتدائية متعلقة بخلق.
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشي متمكنة أعجب من الماشي على رجلين، وهذا المشي زحفا. أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع. وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.
وجملة {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} زيادة في العبرة، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا، فهي جملة مستأنفة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل وتذييل. ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كاملا مستقلا بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل.
[46] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء. والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل {أَنْزَلْنَا} ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} .
ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى
(18/213)

المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} كما تقدم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب مبينات بفتح الياء على صيغة اسم المفعول، أي بينها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها. وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان.
والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته.
[50,47] {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
عطف جملة {وَيَقُولُونَ} على جملة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لما تتضمنه جملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى {مَنْ يَشَاءُ} . وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق. فبعد أن ذكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفار الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها.
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن، على انهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} .
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق، ولكن أهما استمر على النفاق والمواربة وفريقا لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علنا.
(18/214)

ففي قوله: {وَيَقُولُونَ} إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} .
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتها في سورة البقرة. ومفعول {أَطَعنَا} محذوف دل عليه ما قبله، أي أطعنا الله والرسول.
والإشارة في قوله: {وَمَا أُولَئِكَ} إلى ضمير يقولون، أي يقولون آمنا وهم كاذبون في قولهم. وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يصح جعله إشارة إلى فريق من قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان.
فالضمير في قوله: {وَإِذَا دُعُوا} عائد إلى معاد ضمير يقولون. وإسناد فعل دُعُوا إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقا منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عندما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات.
وقد شملت الآية نفرا من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعدما حكم عليهم فلم يرضهم حكمه، فروى المفسرون أن بشرا أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصا عليه القضية فلما علم عمر أن بشرا لم يرض بحكم النبي قال لهما: مكانكما حتى آتيكما. ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشرا بالسيف فقتله. فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر يومئذ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، أي فرق بينهما بالمشاهدة. وقيل إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه لأنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي، فنزلت هذه الآية. وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية في سورة النساء [60].
(18/215)

ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى "مجمع البيان" عن البلخي: أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه، فنزلت الآيات. وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة والحكم بن أبي العاص أسلم يوم الفتح وسكن المدينة وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلمين.
وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حكم الرسول حكم الله لأنه لا يحكم إلا عن وحي. ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله: {لِيَحْكُمَ} العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل: ليحكما.
وقوله: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ} أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ} أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق. ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة، فعلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون. وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق.
وهذا وجه موقع جملة {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى آخرها.
ووقع حرف إذا المفاجأة في جواب إذا الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض.
والإذعان: الانقياد والطاعة.
ولما كان هذا شأنا عجيبا استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها.
وأتبع بعض الاستفهامات بعضا بحرف أم المنقطعة التي هي هنا للإضراب
(18/216)

الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات لأن المتعاطفات بها حينئذ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض، وأما معنى الاستفهام فملازم لها لأنه يقدر بعد أم.
والانتقال هنا تدرج في عد أخلاقهم. فالمعنى انه سأل سائل عن اتصافهم بخلق من هذه المذكورات علم المسؤول أنهم متصفون به، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملا في التنبيه مجازا مرسلا، ومنه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} في سورة الأعراف.
والقلوب: العقول. والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أو للنفاق.
وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم.
والارتياب: الشك. والمراد: ارتابوا في حقية الإسلام، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيمانا غير راسخ.
وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقادا مزلزلا. وهذا يشير إلى أنهم فريقان: فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم، وفريق آمنوا إيمانا ضعيفا ثم ظهر كفرهم بالإعراض.
والحيف: الظلم والجور في الحكومة. وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما يقتضيه دخول أن، وهي حرف الاستقبال، على فعل {يَحِيفَ} . فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفا لا يظهر الحقوق. وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية وأن يكون الآتي بها صادقا فيما أتى به.
(18/217)

واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل.
وفيما فسرنا به قوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر.
وبل للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر. ولم يؤت في هذا الإضراب بأم لأن أم لا بد معها من معنى الاستفهام، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه. وليست بل هنا للإبطال لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة، ولا على إبطال القسمين الآخرين.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع بعد أن ظنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ماذا سيرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بيانا لما يترقبه السامع.
والمعنى: أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم. وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون. فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حسر مؤكد، أي هم الظالمون لا شرع الله ولا حكم رسوله.
وزار اسم الإشارة تأكيدا للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات: اثنان من صيغة الحصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد، والثالث ضمير الفصل، والرابع اسم الإشارة.
واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازا لتحقيق اتصافهم بالظلم، فهم يقيسون الناس على حسب مايقيسون أنفسهم، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم.
(18/218)

[51] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
استئناف بياني لأن الإخبار عن الذين يعرضون عندما يدعون إلى الحكومة بأنهم ليسوا بالمؤمنين في حين أنهم يظهرون الإيمان يثير سؤال سائل عن الفاصل الذي يميز بين المؤمن الحق وبين الذي يرائي بإيمانه في حين يدعى إلى الحكومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتضي أن يبين للسائل الفرق بين الحالين لئلا يلتبس عنده الإيمان المزور بالإيمان الصادق، فقد كان المنافقون يموهون بأن إعراض من أعرض منهم عن التحاكم عند رسول الله ليس لتزلزل في إيمانه بصدق الرسول ولكنه إعراض لمراعاة أعراض من العلائق الدنيوية كقول بشر: إن الرسول يبغضني. فبين الله بطلان ذلك بأن المؤمن لا يرتاب في عدل الرسول وعدم مصانعته.
وقد أفاد هذا الاستئناف أيضا الثناء على المؤمنين الأحقاء بضد ما كان ذما للمنافقين. وذلك من مناسبات هذا الاستئناف على عادة القرآن في إرداف التوبيخ بالترغيب والوعيد بالوعد والنذارة بالبشارة والذم بالثناء.
وجيء بصيغة الحصر بإنما لدفع أن يكون مخالف هذه الحالة في شيء من الإيمان وإن قال بلسانه إنه مؤمن، فهذا القصر إضافي، أي هذا قول المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا كقول الذي أعرضوا عن حكم الرسول حين قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} فلما دعوا إلى حكم الرسول عصوا أمره فإن إعراضهم نقيض الطاعة، وسيأتي بيانه قريبا. وليس قصرا حقيقيا لأن أقوال المؤمنين حين يدعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم غير منحصرة في قول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ولا في مرادفه، فلعل منهم من يزيد على ذلك.
وفي الموطإ من حديث زيد بن خالد الجهني: أن رجلين اختصما إلى رسول الله. فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله يعني وهو يريد أن رسول الله يقضي له كما وقع التصريح في رواية الليث بن سعد في البخاري: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله فقال: أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم يريد لا تقض له علي فأذن لي أن أبين فقال رسول الله: "تكلم.. " إلخ.
(18/219)

وليس المراد بقول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} خصوص هذين اللفظين بل المراد لفظهما أو مرادفهما للتسامح في مفعول فعل القول أن لا يحكى بلفظه كما هو مشهور. وإنما خص هذان اللفظان بالذكر هنا من أجل أنهما كلمة مشهورة تقال في مثل هذه الحالة وهي مما جرى المثل كما يقال أيضا سمع وطاعة بالرفع وسمعا وطاعة بالنصب. وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في سورة النساء. وفي حديث أبي هريرة قال النبي للأنصار: "تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة" . فقال الأنصار: سمعنا وأطعنا.
و {قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} خبر {كَانَ} و {أَنْ يَقُولُوا} هو اسم كان وقدم خبر كان على اسمها متابعة للاستعمال العربي لأنهم إذا جاءوا بعد كان بأن والفعل لم يجيئوا بالخبر إلا مقدما على الاسم نظرا إلى كون المصدر المنسبك من أن والفعل أعرف من المصدر الصريح، ولم يجيئوا بالخبر إلا مقدما كراهية توالي أداتين وهما: كان وأن. ونظائر هذا الاستعمال كثيرة في القرآن. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} في سورة آل عمران.
وجيء في وصف المؤمنين بالفلاح بمثل التركيب الذي وصف به المنافقون بالظلم بصيغة القصر المؤكد ليكون الثناء على المؤمنين ضدا لمذمة المنافقين تاما.
واعلم أن القصر المستفاد من إنما هنا قصر إفراد لأحد نوعي القول. فالمقصود منه الثناء على المؤمنين برسوخ إيمانهم وثبات طاعتهم في المنشط والمكروه. وفيه تعريض بالمنافقين إذ يقولون كلمة الطاعة ثم ينقضونها بضدها من كلمات الإعراض والارتياب. ونظير هذه الآية في طريق قصر بإلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} في سورة آل عمران.
[52] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
الواو اعتراضية أو عاطفة على جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . والتقدير: وهم الفائزون. فجاء نظم الكلام على هذا الإطناب ليحصل تعميم الحكم والمحكوم عليه. وموقع هذه الجملة موقع تذييل لأنها تعم ما ذكر قبلها من قول المؤمنين {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وتشمل غيره من الطاعات بالقول أو بالفعل.
ومن شرطية عامة، وجملة {فَأُولَئِكَ} جواب الشرط. والفوز: الظفر بالمطلوب
(18/220)

الصالح. والطاعة: امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والخشية: الخوف. وهي تتعلق بالخصوص بما عسى أن يكون قد فرط فيه من التكاليف على إنها تعم التقصير كله.
والتقوى: الحذر من مخالفة التكاليف في المستقبل.
فجمعت الآية أسباب الفوز في الآخرة وأيضا في الدنيا.
وصيغة الحسر للتعريض بالذين أعرضوا إذا دعوا إلى الله ورسوله وهي على وزان صيغة القصر التي تقدمتها.
[53] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} عطف على جملة {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} . أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله صلى عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه. قال ابن عطية: وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله. وقال القرطبي: لما بين كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا. فنزلت هذه الآية.
وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجين. وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد. واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجن من أموالهم وديارهم. واقتصر الطبري عل أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول.
والإقسام: النطق بالقسم، أي اليمين.
وضمير {وَأَقْسَمُوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {وَيَقُولُونَ} . بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى.
(18/221)

والجهد بفتح الجيم وسكون الهاء: منتهى الطاقة. ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي: فغطني حتى بلغ مني الجهد لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة. وهو مصدر جهد كمنع متعديا إذا أتعب غيره.
ونصب {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يجوز أن يكون على الحال من ضمير {أَقْسَمُوا} على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} ، أي جاهدين. والتقدير: جاهدين أنفسهم، أي بالغين بها أقصى الطاقة. وهذا على طريقة التجريد. ومعنى ذلك: أنهم كرروا الأيمان وعددوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم. وإضافة {جَهْدَ} إلى {أَيْمَانِهِمْ} على هذا الوجه إضافة على معنى من، أي جهدا ناشئا من أيمانهم.
ويجوز أن يكون {جَهْدَ} منصوبا على المفعول المطلق الواقع بدلا من فعله. والتقدير: جهدوا أيمانهم جهدا، والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير أقسموا. والتقدير: أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. وإضافة {جَهْدَ} إلى {أَيْمَانِهِمْ} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جهد، ففيه استعارة مكنية، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحدا يجهده، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له، فهذا أيضا استعارة.
وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } في سورة الأنعام.
وجملة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} الخ بيان لجملة {أَقْسَمُوا} . وحذف مفعول {أَمَرْتَهُمْ} لدلالة قوله: {لَيَخْرُجُنَّ} . والتقدير: لئن أمرتهم بالخروج ليخرجن.
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المعاني الكثيرة وهي {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} . وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهيا عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته، بمعنى: لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذبا.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في معنى عدم المطالبة بالقسم، أي ما كان لكم أن
(18/222)

تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم.
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في التسوية مثل {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في حقيقته والمقسم عليه محذوف، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك. ومقام مواجهة نفاقهم أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة.
وقوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} كلام أرسل مثلا وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله: {لا تُقْسِمُوا} .
وتنكير {طَاعَةٌ} لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب: تمرة خير من جرادة، و {مَعْرُوفَةٌ} خبره.
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملا في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة، أي معروف وهنها وانتفاؤها.
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى: لماذا تقسمون أفأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي، أي أعرف عدم وقوعها، والكلام تهكم أيضا.
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى: قسمكم ونفيه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة.
أو يكون {طَاعَةٌ} مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أولى من الأيمان، ويكون وصف {مَعْرُوفَةٌ} مشتقا من المعرفة بمعنى العلم، أي طاعة تعلم وتتحقق أولى من الأيمان على طاعة غير واقعة، وهو كالعرفان في قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وإن كان النهي مستعملا في حقيقته فالمعنى: لا تقسموا هذا القسم، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف، فيكون وصف {مَعْرُوفَةٌ} مشتقا من العرفان، أي عدم النكران كقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} .
(18/223)

وجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة، وهي تعليل لما قبلها.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يرد بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذبا، ويختلف معنى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم.
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاما مستقلا غير معطوف.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يجوز أن يكون تفريعا على فعل {أَطِيعُوا} فيكون فعل {تَوَلَّوْا} من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلا مضارعا بتاء الخطاب. وأصله: تتولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال. والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم، فيكون ضميرا {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون تفريعا على فعل قل، أي فإذا قلت ذلك فتولوا ولم يطيعوا الخ، فيكون فعل {تَوَلُّوْا} ماضيا بتاء واحدة مواجها به النبي صلى الله عليه وسلم، أي فأن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حملت من التبليغ وعليهم ما حملوا من تبعة التكليف. كمعنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في سورة النحل فيكون في ضمائر {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} التفات. وأصل الكلام: فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا. والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة.
وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين: معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وموادعة بهم. وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لايضرون لتوليهم إلا أنفسهم. ونظيره قوله في سور آل عمران: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} هم اليهود {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
(18/224)

واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وقوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} في سورة الأنفال، وأما قوله تعالى في سورة القتال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سور آل عمران.
والبلاغ: اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية. ومعنى كونه مبينا أنه فصيح واضح.
وجملة {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد.
وجملة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} بيان لإبهام قوله: {مَا حُمِّلَ} .
[55] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
والأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق ترددهم في عاقبة أمر المسلمين، وخشيتهم أن لا يستقر بمسلمين المقام بالمدينة حتى يغزوهم المشركون، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدلوا دينهم، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . فيكون المعنى: وإن تطيعوه تهتدوا وتنصروا وتأمنوا. ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين من غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سببا لنزول هذه الآية.
(18/225)

قال أبو العالية: مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح فقال رجل: يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح? فقال رسول الله: "لا تغبرون أي لا تمكثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة" .ونزلت هذه الآية.
فكان اجتماع هذه المناسبات سببا لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصرا على إبدال خوفهم أمنا كما اقتضاه أثر أبي العالية، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عداد الأسباب.
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وعدهم بالأمن أن وعدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيها لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والمكين وتبديل الخوف أمنا إيماء إلى التهيؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأن ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وإذا حل الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات.
والموصول عام لا يختص بمعين، وعمومه عرفي، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة.
والخطاب في {مِنْكُمْ} لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد.
والتعريف في {الصَّالِحَاتِ} للاستغراق، أي عملوا جميع الصالحات، وهي الأعمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح.
فالصالحات جمع صالحة: وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة. وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق {الصَّالِحَاتِ} استغراق عرفي، أي عمل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين
(18/226)

الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها.
والاستقامة في الخويصة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.
وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله في سياق الذم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة، وبين أصول المعاملات بين الناس.
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل.
وهذه التكاليف التي جعلها الله لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسبابا لها، وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع، وجعل الإيمان عمودها وشرطا للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقا لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته. فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح، وبهي يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصير لهم في القيام بها. وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجل لهم الشر وتلوم لهم في إنزال العقوبة. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} يريد بذلك كله المسلمين. وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة الحج.
(18/227)

فلو أن قوم غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنبوا من سيرتهم صورا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسبابا وسننا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سننا وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأوربيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامة أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الآشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} وقد تقدم في سورة الإسراء.
والاستخلاف: جعلهم خلفاء، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وقد تقدم في سورة البقرة. والسين والتاء للتأكيد. وأصله: ليخلفنهم في الأرض.
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطا بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعا بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع، كما حكى تعالى قول موسى لبني إسرائيل: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} كما تقدم في سورة العقود [20].
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعها، وان الظرفية المدلولة بحرف في ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود].
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} دون تقييد بقوله: {فِي الْأَرْضِ} ل {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم
(18/228)

الأرض. وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام. ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم. وهذا استخلاف كامل ولذلك نظر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الآشوريين والمصريين والفينيقيين واليهود زمن سليمان، والفرس، واليونان، والرومان.
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملا في معنى المثنى. وعن الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. ولعل هذا مراد مالك. وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل: يوسف، وداود، وسليمان، وأنو شروان، وأصحمة النجاشي، وملكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي، وذي القرنين، وإسكندر المقدوني، وبعض من ولي جمهورية اليونان.
وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافا كاملا كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة.
وجملة {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} بيان لجملة {وَعَدَ} لأنها عين الموعود به. ولما كانت جملة قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بيانا للأخرى.
وقرأ الجمهور {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بالبناء للفاعل، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون {الَّذِينَ} نائب فاعل.
وتمكين الدين: انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه. استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبت المرسخ، وإذا كان متبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل. وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله: "وإن هم أبوا" أي إلا القتال "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي" أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد ولينفذن الله أمره.
(18/229)

وقوله: {لَهُمْ} مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله: {دِينَهُمْ} لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقا من مفعول الفعل، فقدم {لَهُمْ} عليه للإيماء إلى العناية بهم، أي بكون التمكين لأجلهم، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} .
وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه: {الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، أي الذي اختاره ليكون دينهم، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضا ليكونوا أتباع هذا الدين. وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم.
وإنما قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ولم يقل: وليؤمننهم، كما قال في سابقيه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذ إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفا، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة. وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر.
وتنكير {أَمْناً} للتعظيم بقرينة كونه مبدلا من بعد خوفهم المعروف بالشدة. والمقصود: الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين. وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة. وليس هذا الوعد بمقتضى أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضال مالك الأشتر النخعي، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرة وغير ذلك من الحوادث، وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
وقرأ الجمهور {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بفتح الموحدة وتشديد الدال. وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد.
وجملة {يَعْبُدُونَنِي} حال من ضمائر الغيبة المتقدمة، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي. وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم، أي وعدتهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك.
وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضا بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون.
(18/230)

وجملة {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} حال من ضمير الرفع في {يَعْبُدُونَنِي} تقييدا للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره. وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفا من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد.
وجملة {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعا للاتكال.
والإشارة في قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} والمعبر عنه في أول الآيات بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق.
وصيغة الحسر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل.
ووصف الفاسقين له رشيق الموقع، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق.
[56] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
عطف على جملة {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} لما فيها من معنى الأمر بترك الشرك، فكأنه قيل: اعبدوني ولا تشركوا وأقيموا الصلاة، لأن الخبر إذا كان يتضمن معنى الأمر كان في قوة فعل الأمر حتى أنه قد يجزم جوابه كما في قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} بجزم يغفر لأن قوله: {تُؤْمِنُونَ} في قوة أن يقول: آمنوا بالله.
والخطاب موجه للذين آمنوا خاصة بعد أن كان موجها لأمة الدعوة على حد قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} ، فالطاعة المأمور بها هنا غير الطاعة التي في قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} الخ لأن تلك دعوة للمعرضين وهذه ازدياد للمؤمنين.
وقد جمعت هذه الآية جميع الأعمال الصالحات فأهمها بالتصريح وسائرها بعموم حذف المتعلق بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، أي في كل ما يأمركم وينهاكم.
ورتب على ذلك رجاء حصول الرحمة لهم، أي في الدنيا بتحقيق الوعد الذي من
(18/231)

رحمته الأمن وفي الآخرة بالدرجات العلى. والكلام على لعل تقدم في غير موضع في سورة البقرة.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ، فقد كان المشركون يومئذ لم يزالوا في قوة وكثرة، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقى بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} تطمينا وتسلية.
والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين.
والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر.
وقراءة الجمهور {تَحْسَبَنَّ} بتاء الخطاب. وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعل يحسبن فيبقى ليحسبن مفعول واحد هو {مُعْجِزِينَ} . فقال أبو حاتم والنحاس والفراء: هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين. وهذا القول جرأة على قراءة متواترة. وقال الزجاج: المفعول الأول محذوف تقديره: أنفسهم، وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام. وفي الكشاف أن {فِي الْأَرْضِ} هو المفعول الثاني، أي لا يحسبوا ناسا معجزين في الأرض يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها قال: وهذا معنى قوي جيد.
والمعجز: الذي يعجز غيره، أي يجعله عاجزا عن غلبه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام. وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} في سورة الحج.
والأرض: هي أرض الدنيا، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر. و {فِي الأَرْضِ} متعلق بمعجزين على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما
(18/232)

علمت.
وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين.
[59,58] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة. وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقطع عند قوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} كما تقدم.
وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلى قوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} تشريعا لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة، فصار المفهوم مخصصا لعموم النهي في قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . وأيضا هذا الأمر مخصص بعموم {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وعموم {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} من قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخ المتقدم آنفا.
وقد روى أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها. فنزلت الآية، يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم. ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخا لعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وعموم {أَوِ الطِّفْلِ} لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية. والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار
(18/233)

نسخا.
والأمر في قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} للوجوب عند الجمهور. وقال أبو قلابة: هو ندب.
فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خول وتبع. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس. وتقدم آنفا عند قوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
كانت هذه الأوقات أوقاتا يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب ان ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا.
ووجه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى: لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم.
وقوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث.
وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى قوله: {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية.
وتعيين الاستيذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب، وهي أوقات نوم وكانوا غالبا ينامون مجردين من الثياب اجتراء بالغطاء، وقد سماها الله تعالى {عَورَاتِ} .
وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر. وانتصب {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} على أنه مفعول مطلق {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لأن مرات في قوة استئذانات.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} ظرف مستقر في محل نصب على البدل من {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} بدل مفصل من مجمل. وحرف من مزيد للتأكيد.
(18/234)

وعطف عليه {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} والظهيرة: وقت الظهر وهو انتصاف النهار.
وقوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ} قرأ الجمهور مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثلاث عورات، أي أوقات ثلاث عورات. وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه.
و {لَكُمْ} متعلق ب {عَوْرَاتٍ} . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من {ثَلاثَ مَرَّات} .
والعورة في الأصل: الخلل والنقص. وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر، قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
وقال تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} . ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة. وفي قوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} نص على علة إيجاب الاستئذان فيها.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} تصريح بمفهوم الظروف في قوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} وما عطف عليه، أي بعد تلك الأوقات المحددة. فصلاة الفجر حد معلوم، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرف الناس في التهيؤ إلى النوم.
ولك أن تجعل بعد بمعنى دون، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} ، وضمير {بَعْدَهُنَّ} عائد إلى ثلاث عورات، أي بعد تلك الأوقات.
ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامع إليه قوله: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} . وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة
(18/235)

على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء. وقد أشار إلى العلة قوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم طوافون، يعود على {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} .
والكلام استئناف بياني، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهن طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجا عليهم وعليكم.
وفي الكلام اكتفاء. تقديره: وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} وقوله عقبه: {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
و {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} جملة مستأنفة أيضا. ويجعل {بَعْضُكُمْ} مبتدأ، ويتعلق قوله: {عَلَى بَعْضٍ} بخبر محذوف تقديره: طواف على بعض. وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة {طَوَّافُونَ} عليه. والتقدير: بعضكم طواف على بعض. ولا يحسن من جعل {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بدلا من الواو في {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} لأنه عائد إلى {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبه إلا بنفسه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة.
والتعريف في {الْآياتِ} تعريف الجنس. والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى، فالآيات التي أولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} .
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة. والمعنى: يبين الله لكم الآيات بيانا كاملا وهو عليم حكيم، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة.
ووقع قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} في موقع التصريح بمفهوم الصفة في
(18/236)

قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} ليعلم أن الأطفال إذ بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآيات، فالمراد بقوله: {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالا قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان. وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تقننا ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله: {كَذَلِكَ} . وتأكيد معنى الوصفين العليم الحكيم، أي هي آيات من لدن من هذه صفاته ومن تلك صفات بيانه.
[60] {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} إلى قوله: {عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} .
ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستئذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساء المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن. فعن ابن مسعود وابن عباس: الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار. وقال السدي: يجوز لهن وضع الخمار أيضا.
والقواعد: جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل: حامل وحائض لأنه وصف نقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض. استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيض من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصا بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله:
(18/237)

{اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} ، وذلك من الكبر.
وقوله: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} وصف كاشف لالقواعدوليس قيدا.
واقتران الخبر بالفاء في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . ولا حاجة إلى ادعاء أن ال فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين. ووان يضعن متعلق بجناح بتقدير في.
والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص.
والوضع: إناطة شيء على شيء، وأصله أن يعدى بحرف على وقد يعدي بحرف عن إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل ترغبون في قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} في سورة النساء، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب. وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن. فلما كان في الأمر بضرب الخمر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة النساء المؤمورات اقتضاها سد الذريعة، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة.
ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} .
والاستعفاف: التعفف، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي وضعا لا يقارنه تبرج بزينة.
والتبرج: التكشف. والباء في {بِزِينَةٍ} للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهارا لزينة كانت مستورة. والمراد: إظهار ما عادة المؤمنات ستره. قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن
(18/238)

عيوبها بالنظر في محاسن زينتها.
فالتبرج بالزينة: التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة، قال بشار:
وإذا خرجت تقنعي ... بالحمر إن الحسن أحمر
وسئلت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمايم أي حقاق من فضة توضع فيها تمايم ومعاذات تعلقها المرأة والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرما. فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص غير عربية. وفي الموطأ:دخلت حفصة بنت عبد الرحمان بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصه خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خمارا كيفا، أي: شقته لئلا تخمر به فيما بعد.
وقيل: إن المعني بقوله: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} غير متكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها، فيؤول المعنى إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، ويكون تأكيدا لما تقدم في قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعا مجردا عن قصد ترغيب فيهن.
وجملة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعا، فوصف السميع تذكير بأنه يسمع ما تحدثن به أنفسهن من المقاصد، ووصف العليم تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها.
[61] {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً
(18/239)

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} .
اختلف في أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الخ منفصل عن قوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستئذان، أو متصل بما بعده في غرض واحد.
فقال بالأول: الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان. وقال ابن عطية: إنه ظاهر الآية. وهو الذي نختاره تفاديا من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة، ولأن في قوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض، فتكون هذه الآية نفيا للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم. فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو. ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجبة. ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجا وإتماما لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.
وقال بالثاني: جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عد هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية.
والجملة على كلا الوجهين مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
{وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} .
مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان
(18/240)

لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم.
هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم. وقد ذكر المفسرون وجوها أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن إلى ثمانية ليست منها واحد ينثلج له الصدر، ولا نطيل بها.
وأعيد حرف لا مع المعطوف على المنفي قبله تأكيدا لمعنى النفي وهو استعمال كثير.
والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضرا دون المختزن.
والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل: ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره، فالمخاطب للأمة.
والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلا لا يشاركه فيع بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجته غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها.
وعطف على بيوت أنفسهم بيوت آبائهم، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم. قيل: لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم، ولا يصح فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتا كما في خبر عبد الله بن عمر. فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القربة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالبا.
وما في قوله: {مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} موصولة صادقة على المكان أو الطعام، عطف على {بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} لا على {أَخْوَالِكُمْ} ولهذا جيء بما الغالب استعمالها في غير
(18/241)

العاقل.
وملك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط. والمفاتح: جمع مفتح وهو اسم آلة الفتح. ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح.
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل مل منهم ما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه ذلك للعرف بأن ذلك كالإجازة فلذلك قال الفقهاء: إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده.
وصديق هنا المراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفا أو خبرا في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ومثله الخليط والقطين.
والصديق: فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة. وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء. وسئل بعض الحكماء: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك? فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.
وأعيدت جملة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} تأكيدا للأولى في قوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إذ الجناح والحرج كالمترادفين. وحسن هذا التأكيد بعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} ، ولأجل كونها تأكيدا فصلت بلا عطف.
والجميع: المجتمعون على أمر.
والأشتات: الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه، قال تعالى تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
والأشتات: جمع شت، وهو مصدر شت إذا تفرق. وأما شتى فجمع شتيت.
والمعنى: لاجناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله: أو أن يأكل وحده متفرقا عن مشارك، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت. أو أن يأكل وحده.
(18/242)

وتقدم قراءة بيوت بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} في هذه السورة.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنه قول الناس: إذا استوى الحب سقط الأدب.
ومعنى {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فليسلم بعضكم على بعض، كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحدا وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب. وأما ما ورد في التشهد من قوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضا عما كانوا يقولون: السلام على الله، السلام على النبي، السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان وفلان. فقال لهم رسول الله: "إن الله هو السلام" ، إبطالا لقولهم: السلام على الله. ثم قال لهم: "قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد الله صالح في السماء وفي الأرض" .
وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه.
والتحية: أصلها مصدر حياة تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفا وهي قول: حياك الله. وقد وتقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} في سورة النساء.
فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل حيا مثل قولهم: جزاه، إذا قال له: جزاك الله خيرا، كما تقدم في فعل: {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} آنفا. وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
(18/243)

وكانت تحية الملوك عم صباحا فجعل الإسلام التحية كلمة السلام عليكم، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه، وباللطف له إن كان معروفا.
ولفظ السلام يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسلم له فكان الخبر كناية عن التأمين، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئا من الشر في ذات السالم، والأمان لا يجامع شيئا من الشر يأتي من قبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهدا بالأمن يجب الوفاء به. وفي كلمة {عَلَيكُمْ} معنى التمكن، أي السلامة مستقرة عليكم.
ولكون كلمة السلام جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علمها رسوله بالوحي.
وانتصب {تَحِيَّةً} على الحال من التسليم الذي يتضمنه {فَسَلِّمُوا} نظير عود الضمير على المصدر في قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
والمباركة: المجعولة فيها البركة. والبركة: وفرة الخير. وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية.
والطيبة: ذات الطيب، وهو طيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس. ووجه طيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة. ووزن {طَيِّبَةً} فيعلة مبالغة في الوصف مثل: الفيصل. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في آل عمران وفي قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} في سورة يونس.
والمعنى أن كلمة السلام عليكم تحية خير من تحية أهل الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي تحيتهم هذا اللفظ.
وجملة {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بيانا لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم.
(18/244)

[62] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
لما جرى الكلام السابق في شأن الاستئذان للدخول عقب ذلك بحكم الاستئذان للخروج ومفارقة المجامع فاعتني من ذلك بالواجب منه وهو استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في مفارقة مجلسه أو مفارقة جمع جمع عن إذنه لأمر مهم كالشورى والقتال والاجتماع للوعظ ونحو ذلك.
وكان من أعمال المنافقين أن يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفاديا من عمل يشق أو سآمة من سماع كلام لا يهتبلون به، فنعى الله عليهم فعلهم هذا وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق، بأن أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} .
فالقصر المستفاد من إنما قصر موصوف على صفة. والتعريف في المؤمنون تعريف الجنس أو العهد، أي أن جنس المؤمنين أو أن الذين عرفوا بوصف الإيمان هم الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينصرفوا حتى يستأذنوه. فالخبر هو مجموع الأمور الثلاثة وهو قصر إضافي قصر إفراد، أي لا غير أصحاب هذه الصفة من الذين أظهروا الإيمان ولا يستأذنون الرسول عند إرادة الانصراف، فجعل هذا الوصف علامة مميزة المؤمنين الأحقاء عن المنافقين يومئذ إذ لم يكن في المؤمنين الأحقاء يومئذ من ينصرف عن مجلس النبي بدون إذنه، فالمقصود: إظهار علامة المؤمنين وتمييزهم عن علامة المنافقين. فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة الذهاب من أركانها، فعلمت أن ليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المؤمنين الأحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المؤمنين عن أن يكون تقصيرا في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق كما ورد التحذير من خصال النفاق في أحاديث كثيرة.
(18/245)

وعلمت أيضا أن ليس المقصود من التعريف في {الْمُؤْمِنُونَ} معنى الكمال لأنه لو كان كذلك لم يحصل قصد التشهير بنفاق المنافقين.
والأمر: الشأن والحال المهم. وتقدم في قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في سورة النساء.
والجامع: الذي من شأنه أن يجتمع الناس لأجله للتشاور أو التعلم. والمراد: ما يجتمع المسلمون لأجله حول الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه أو في صلاة الجماعة. وهذا ما يقتضيه مع وعلى من قوله: {مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} لإفادة مع معنى المشاركة وإفادة على معنى التمكن منه.
ووصف الأمر ب {جَامِعٍ} على سبيل المجاز العقلي لأنه سبب الجمع. وتقدم في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} في سورة يونس.
وعن مالك: أن هذه الآية نزلت في المنافقين يوم الخندق وذلك سنة خمس كان المنافقون يتسللون من جيش الخندق ويعتذرون بأعذار كاذبة.
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إلى آخرها تأكيد لجملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} لأن مضمون معنى هذه الجملة هو مضمون معنى جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. وقد تفنن في نظم الجملة الثانية بتغيير أسلوب الجملة الأولى فجعل مضمون المسند في الأولى مسندا إليه في الثانية والمسند إليه الأولى مسندا في الثانية ومآل الأسلوبين واحد لأن المآل الإخبار بأن هذا هو ذاك على حد: وشعر شعري، تنويها بشأن الاستئذان، وليبني عليها تفريع {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ليعلم المؤمنين الأعذار الموجبة للاستئذان، أي ليس لهم أن يستأذنوا في الذهاب إلا لشأن مهم من شؤونهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {يَسْتَأْذِنُونَكَ} تشريفا للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب.
وقد خير الله رسوله في الإذن لمن استأذنه من المؤمنين لأنه أعلم بالشأن الذي قضاؤه أرجح الأمر الجامع لأن مشيئة النبي لاتكون عن هوى ولكن لعذر ومصلحة.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي لأنه لترجيح
(18/246)

حاجته على الإعانة على حاجة الأمة.
وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع. وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام. ومن السنة أن لا يجتمع جماعة إلا أمروا عليهم أميرا فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضا في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية والقضائية والدينية أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان.
[63] {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعد دعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم. وقد تقدم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} في سورة الأنفال. والمعنى: لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضا، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة. والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر.
وإضافة {دُعَاءَ} إلى {الرَّسُولِ} من إضافة المصدر إلى فاعله. ويجوز أن تكون إضافة {دُعَاءَ} من إضافة المصدر إلى مفعوله الفاعل المقدر ضمير المخاطبين. والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسول، فالمعنى نهيهم.
ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثا على تلقي الجملة بنشاط فهم، فالخطاب للمؤمنين الذي تحدث عنهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} الخ. نهوا عن أن يدعوا الرسول عند
(18/247)

مناداته كما يدعو بعضهم بعضا في اللفظ أو في الهيئة. فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يامحمد، أو يا بن عبد الله، أو يابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبي الله، أو بكنية يا أبا القاسم. وأما في الهيئة فبأن لا يدعوه من وراء الحجرات، وأن لا يلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات، لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أدب للمسلمين وسد لأبواب الأذى عن المنافقين. وإذا كانت الآية تحتمل ألفاظها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له.
و {بَيْنَكُمْ} ظرف إما لغو متعلق ب {تَجْعَلُوا} ، أو مستقر صفة ل {دُعَاءَ} ، أي دعاءه في كلامكم. وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلا كما أشار إليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} . فالمعنى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك، وهذه الجملة معترضة بين جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وما تبعها وبين جملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} .
وجملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين. وقد علمهم الله وأطلع على تسللهم.
و {قَدْ} لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متسترين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه علمهم، أي أنه أعلم رسوله بذلك.
ودخول {قَدْ} على المضارع يأتي للتكثير كثيرا لأن {قَدْ} فيه بمنزلة رب تستعمل في التكثير، ومنه قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} وقول زهير:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
و {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ} هم المنافقون. والتسلل: الانسلال من صبرة، أي الخروج منه بخفية خروجا كأنه سل شيء من شيء. يقال: تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال: تدخل إذا تكلف إدخال نفسه. واللواذ: مصدر لاوذه، إذا لاذ به الآخر. شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق
(18/248)

وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضا فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ.
وانتصب {لِوَاذَاً} على الحال لأنه في تأويل اسم الفاعل.
و{مِنْكُمْ} متعلق ب {يَتَسَلَّلُونَ} . وضمير {مِنْكُمْ} خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللين ملاوذين.
وفرع على ما تضمنته جملة {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم.
والمخالفة: المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعد. وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالف بحرف عن لأنه ضمن معنى الصدود كما عدي بإلى في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لما ضمن معنى الذهاب. يقال: خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تركت تعديته بحرف جر لإفادة أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام.
وضمير {عَنْ أَمْرِهِ} عائد إلى الله تعالى. والأمر هو ما تضمنه قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده فكأنه قال: اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر. وهذا كقول ابن أبي ربيعة:
فقلن لها سرا فديناك لا يرح ... صحيحا وإن لم تقتليه فألمم
فجعل قولهن: لا يرح صحيحا وهو نهي في معنى: اقتليه، فبنى عليه قوله: وإن لم تقتليه فألمم.
والحذر: تجنب الشيء المخيف. والفتنة: اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في البقرة. والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل.
[64] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
(18/249)

تذييل لما تقدم في هذه السورة كلها. وافتتاحه بحرف التنبيه إيذان بانتهاء الكلام وتنبيه للناس ليعوا ما يرد بعد حرف التنبيه، وهو أن الله مالك ما في السماوات والأرض، فهو يجازي عباده بما يستحقون وهو عالم بما يفعلون.
ومعنى {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الأحوال الملابسين لها من خير وشر، فحرف الاستعلاء مستعار للتمكن.
وذكرهم بالمعاد إذ كان المشركون والمنافقون منكرينه.
وقوله: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} كناية عن الجزاء لأن إعلامهم بأعمالهم لو لم يكن كناية عن الجزاء لما كانت له جدوى.
وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لجملة {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} لأنه أعم منه.
وفي هذه الآية لطيفة الاطلاع على أحوالهم لأنهم كانوا يسترون نفاقهم.
(18/250)

المجلد التاسع عشر
سورة الفرقان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.." الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها "تبارك الفرقان" كما يسمون "سورة الملك" تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها "سورة الفرقان" لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68 - 70]. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان: عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة? فقرأت عليه: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68]. فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي? فقال: هذه مكية نسختها" آية مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93]. وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله: {وَلا نُشُوراً} [الفرقان: 3]. وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.
(19/5)

وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد.
أغراض هذه السورة
واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم:
الأولى: إثبات أن القرآن منزل من عند الله، والتنويه بالرسول المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا، وأنه على طريقة غيره من الرسل، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.
الدعامة الثانية: إثبات البعث والجزاء، والإنذار بالجزاء في الآخرة، والتبشير بالثواب فيها للصالحين، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة: الاستدلال على وحدانية الله، وتفرده بالخلق، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك، وإبطال إلهية الأصنام، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.
وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة "تبارك الذي" الخ.
قال الطيبي: مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .
وذكر بدائع من صنعه تعالى جمعا بين الاستدلال والتذكير.
وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين.
وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.
(19/6)

والتوكل على الله، والثناء على المؤمنين به، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين.
[1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} .
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس:
قفا نبك البيت
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل "إن" و "قد" والهمزة و "هل". ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وقوله النابغة:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا
...
وهمين هما مستكنا وظاهرا
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزة من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال.
وتبارك: تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته. وتقدم في قوله تعالى {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في سورة الأعراف [54].
والبركة: الخير، وتقدم عند قوله تعالى {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} في سورة هود [48] وعند قوله {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} في سورة النور [61].
وظاهر قوله {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرائب صدرت، كقول امرئ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
...
فيا عجبا من كورها المتحمل
(19/7)

وإنما يتعجب من إقدامه على أن جعل كور المطية يحمله هو بعد عقرها. ومنه قول الفند الزماني:
أيا طعنة ما شيخ
...
كبير بفن بالي
يريد طعنة طعنها قرنه.
والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل: تباركت.
والموصول يومئ إلى علة ما قبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضا كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكنه الذي ينكرونه.
والفرقان: القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قوله {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41] وقوله {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]. وجعل علما بالغلبة على القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل لما بين من دلائل الحق ودحض الباطل. وقد تقدم في قوله تعالى {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} في [سورة آل عمران: 4].
وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانية وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرق بين الحق والباطل.
ووصف النبي بـ {عَبْدِهِ} تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] الآية.
والمراد ب {الْعَالَمِينَ} جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قصدوا بالتكليف. وقد مضى الكلام على لفظ {الْعَالَمِينَ} في [سورة الفاتحة: 2].
والنذير: المخبر بسوء يقع، وهو فعيل بمعنى مفعل بصيغة اسم الفاعل مثل الحكيم. والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشر كما في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
(19/8)

كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. فكان مقتضيا لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة. وسيجيء {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} في هذه السورة [56].
وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته.
[2] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} .
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربع بطريق تعريف الموصولية لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصاف الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة؛ وإذا قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على من عرف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هو خالق كل شيء كما في قوله {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآيات من سورة المؤمنين، ولكنهم يثبتون لله ولدا وشريكا في الملك.
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما معهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلمين كالدليل أولا والنتيجة آخرا، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولدا ولا أن يتخذ شريكا لأن ملكه العظيم يقتضي غناه المطلق فيقتضي أن يكون اتخاذه ولدا وشريكا عبثا إذ لا غاية له، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس.
فقوله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بدل من {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} .
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانية.
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها.
(19/9)

والخلق: الإيجاد، أي أوجد كل موجود من عظيم الأشياء وحقيرها. وفرع على {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} لأنه دليل على إتقان الخلق إتقانا يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال.
ومعنى {قَدَّرَهُ} جعله على مقدار وحد معين لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدرا، أي محكما مضبوطا صالحا لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل. وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعينها كقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وقد تقدم في قوله {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في [سورة الرعد: 17]. وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله {تَقْدِيراً} للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير.
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة.
[3] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} .
استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملة {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 2] وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقوله {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان: 2] الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئا للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال.
فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهة أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر.
وبين قوله {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الفرقان: 2] وقوله {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} محسن الطباق.
وضمير {اتَّخَذُوا} عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم
(19/10)

معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} .
وجملة {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} مقابلة جملة {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وجملة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} مقابلة جملة {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولدا منه فلا يكون مخلوقا.
وجملة {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} مقابلة جملة {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف.
وضمير {لِأَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يعود إلى {آلِهَةً} أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم. ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {وَاتَّخَذُوا} أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم.
واعلم أن {ضَرّاً وَلا نَفْعاً} هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل: لا يملكون التصرف بحال من الأحوال. وهذا نظير أن يقال: شرقا وغربا، وليلا ونهارا. وبذلك يندفع ما يشكل في بادىء الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنن.
والمجرور في {لِأَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {يَمْلِكُونَ} .
والضر - بفتح الضاد - مصدر ضره، إذا أصابه بمكروه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في [سورة يونس: 49].
وجملة {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} مقابلة جملة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات. وأما قوله {وَلا نُشُوراً} فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشورا يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقيق ماهيته. وأما نحو قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي بمناره
(19/11)

يريد لا منار فيه. وقول ابن أحمر:
لا تفزع الأرنب أهوالها
...
ولا ترى الضب بها ينجحر
أراد: إنها لا أرنب فيها ولا ضب. فهو من قبيل التمليح.
ذُكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماما بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته.
واعلم أن معنى {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهم يصنعون، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوته فقد قومتها الصنعة، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم؛ إما اعتبارا بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... الناس يخلق ثم لا يفري
فأطلق الخلق على النحت؛ إما على سبيل المجاز المرسل، وإما مشاكلة لقوله {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} .
والملك في قوله {لا يَمْلِكُونَ} مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} في [سورة العقود: 17]، وقوله فيها {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة: 76]، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم. فقوله هنا {لِأَنْفُسِهِمْ} متعلق بـ {يَمْلِكُونَ} ، واللام فيه لام التعليل، أي لا يملكون لأجل أنفسهم، أي لفائدتها.
ثم إن المراد ب {أَنْفُسَهُمْ} يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير {يَمْلِكُونَ} أي لا يملك كل واحد لنفسه ضرا ولا نفعا، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرع بأنه عاجز عن ضر نفسه.
وتنكير {موتا - وحياة} في سياق النفي للعموم، أي موت أحد من الناس ولا حياته.
والنشور: الإحياء بعد الموت. وأصله نشر الشيء المطوي.
[4] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُ
(19/12)

ظُلْماً وَزُوراً} .
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة.
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، ليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفا من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم.
وهذه الجملة مقابلة جملة {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة. وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الفراقن: 3] اهتماما بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفا.
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من "إن" النافية و"لا" قصر قلب؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله.
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد. فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه. وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال: بنو أسد قتلوا حجرا.
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن.
والضمير المرفوع في {افْتَرَاهُ} عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله {عَلَى عَبْدِهِ} .
والإفك: الكذب. وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} في سورة النور. والافتراء: اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قوله {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في [سورة العقود: 103].
{وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله. وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود. روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس: أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم: عداس مولى حويطب ابن عبد العزى، ويسار أبو
(19/13)

فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي سيرة ابن هشام أنه مولى صفوان بن أمية بن محرث، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئا من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سرا ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل.
والقصر المستفاد من قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه.
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلما وزورا لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.
و {جَاءُو} مستعمل في معنى "عملوا" وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية.
والظلم: الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وتقدم في قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} في سورة البقرة. والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.
والزور: الكذب، وأحسن ما قيل في الزور: إنه الكذب المحسن المموه بحيث يشتبه بالصدق.
وكون قولهم ذلك كذبا ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء.
[5] {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
الضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن
(19/14)

هذا القول من آثار كفرهم.
الأساطير: جمع أسطورة بضم الهمزة كالأحدوثة والأحاديث، والأغلوطة والأغاليط، وهي القصة المسطورة. وقد تقدم معناها مفصلا عند قوله {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في [سورة الأنعام: 25]. وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال: إن القرآن قصص من قصص الماضين. وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار فكان يقول لقريش: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم؛ وكان يقول في القرآن: هو أساطير الأولين. قال ابن عباس: كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث. وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف.
وجملة {اكْتَتَبَهَا} نعت أو حال لـ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
والاكتتاب: افتعال من الكتابة، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل، أي حصوله من فاعل الفعل، فيفيد قوله {اكْتَتَبَهَا} أنه تكلف أن يكتبها. ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميا كان إستاد الكتابة إليه إسنادا مجازيا فيؤول المعنى: أنه سأل من يكتبها له، أي ينقلها، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسنادا مجازيا لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أمي لا يكتب، ومن قوله {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه. فالمعنى: استنسخها. وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو معناه. ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أمي فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيأ لقبول ذلك أنه كتبت له، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن.
والإملاء: هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها. وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها.
والبُكْرة: أول النهار. والأصيل: آخر المساء، وتقد م في قوله {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في آخر [سورة الأعراف: 205]، أي تملى عليه طرفي النهار. وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير.
(19/15)

[6] {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} .
لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك، وإنه أساطير الأولين، بأنه أنزله الله على رسوله.
وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان.
فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم، أي الرسول، عالما بذلك. وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه. وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكا أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر، فيوقنوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله، وليعلموا براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه.
والتعريف في {السِّرَّ} تعريف الجنس يستغرق كل سر، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلما وزورا منهم، وبهذا يعلم موقع جملة {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} ترغيبا لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حق عليهم الغضب والنقمة.
[7 - 9] {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} .
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام.
(19/16)

والضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصفة مراعى كما تقدم.
وقد أوردوا طعنهم في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثار الاستفهام.
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها.وتركيب {مَا لِهَذَا} ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له، فاسم الاستفهام مبتدأ و {لِهَذَا} خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله.
فجملة: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} جملة حال. وقولهم: {لِهَذَا الرَّسُولُ} أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأنى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال.
والإشارة إلى حاضر في الذهن، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرف بلام العهد وهو الرسول.
وكنوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعا منهم إلى إبطال كونه رسولا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس، وخصوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة. ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه.
و"لولا" حرف تحضيض مستعمل في التعجيز، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه.
وانتصب "فيكون" على جواب التحضيض.
و"أو" للتخيير في دلائل الرسالة في وهمهم.
ومعنى {يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي ينزل إليه كنز من السماء، غذ كان الغنى فتنة لقلوبهم. والإلقاء: الرمي، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون اللع تعالى في السماء.
(19/17)

والكنز تقدم في قوله تعالى {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} في سورة هود. وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة.
وقرأ الجمهور {يَأْكُلُ مِنْهَا} بياء الغائب، والضمير المستتر عائد إلى {هَذَا الرَّسُولِ} .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {نَأْكُلَ مِنْهَا} بنون الجماعة. والمعنى: ليتيقنوا أن ثمرها حقيقة لا سحر.
ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وأمية بن خلف ،وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج، والنضر بن الحارث، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها.
قال ابن عطية: وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك. وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء.
وكتبت لام {مَالِ هَذَا} منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه، كما كتب {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} في [سورة الكهف: 49]، وكما كتب {مال الذين كفروا قبلك مهطعين} في [سورة سال سائل: 36]، كما كتب {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ} في [سورة النساء: 78]. ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلا بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتاب المصحف آثاره من ذلك، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم. وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينا للرسم وتسهيلا لتبادر المعنى، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح. وأكثر ما وصلوا منه الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل "ال".
{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا
(19/18)

فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}
الظالمون: هم المشركون، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيها على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم وصلى الله عليه وسلم.
ذكر الماوردي: أن قائل {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} هو عبد الله ابن الزبعرى، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به.
والمسحور: الذي أصابه السحر، وهو يورث اختلال العقل عندهم، أي ما تتبعون إلا رجلا أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء.
وذكر {رَجُلاً} هنا لتمهيد استحالة كونه رسولا لأنه رجل من الناس. وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} : أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور.
وقوله {انْظُرْ} مستعار لمعنى العلم تشبيها للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه.
و {كَيْفَ} اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام.
وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم، ففعل {ضَلُّوا} مستعمل في معنييه المجازيين هما: معنى عدم التوفق في الحجة، ومعنى عدو الوصول للدين الحق، وهو هنا تعجيب من خطلهم وإعراض عن مجاوبتهم.
[10] {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}
ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها.
(19/19)

فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} .
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} الخ، أي إن شاء جعل لك خيرا من الذي اقترحوه، أي أفضل منه، أي إن شاء عجله لك في الدنيا، فالإشارة إلى المذكور من قولهم، فيجوز أن يكن المراد بالجنات والقصور جنات في الدنيا وقصورا فيها، أي خيرا من الذي اقترحوه دليلا على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور. وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون "إن" الشرطية واقعة موقع "لو"، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعد من الله لرسوله.
واقترن هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك. فموقع {إِنْ شَاءَ} اعتراض.
وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} برفع {يَجْعَلْ} على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفا على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة، وهذا المحمل أشد تبكيتا للمشركين وقطعا لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11]، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين.
والقصور: المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً} في سورة الأعراف، وقوله {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} في [سورة الحج: 45].
[11] {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} .
{بَلْ} للإضراب، فيجوز أن يكون إضراب انتقال من ذكر ضلالهم في صفة
(19/20)

الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} كما تقدم.
ويجوز أن يكون إضراب إبطال لما تضمنه قوله: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تقنعهم الحجج.
والساعة: اسم غلب على عالم الخلود، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث. وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيبا.
وجملة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} معترضة بالوعيد لهم، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم، فهو تذييل. ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين.
والسعير: الالتهاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعور، أي زيد فيها الوقود، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب، وتقدم في قوله تعالى {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في [سورة الإسراء: 97]. وقد يطلق علما بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف، أي ذات سعير.
[12 - 14] {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} .
تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير {رَأَتْهُمْ} بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.
وإسناد الرؤية إلى النار استعارة. والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظا وزفيرا من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى {رأتهم} رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازا عقليا.
(19/21)

والتغيظ: شدة الغيظ. والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} في [سورة آل عمران: 119]. فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازا في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.
والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل {سَمِعُوا} فهو تشبيه بليغ.
والزفير: امتداد النفس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتا كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضا. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكا للمرئيات بحيث تشدد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.
وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء" رواه في الموطأ. زاد في رواية مسلم "فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سمومها" .
وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في النكاية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.
ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله : {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله {مَكَاناً ضَيِّقاً} وقوله {مُقَرَّنِينَ} تفننا في أسلوب الكلام.
والإلقاء: الرمي، وهو هنا كناية عن الإهانة.
وانتصب {مَكَاناً} على نزع الخافض، أي في مكان ضيق.
وقرأ الجمهور {ضَيِّقاً} بتشديد الياء. وقرأه ابن كثير {ضَيِّقاً} بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل: ميت وميت، لأن الضيق بالتشديد صيغة تمكن الوصف من الموصوف، والضيق بالسكون وصف بالمصدر.
(19/22)

و {مُقَرَّنِينَ} حال من ضمير {أُلْقُوا} أي مقرنا بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يقرن عدد منهم في وثاق واحد، كما قال تعالى {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} . والمقرن: المقرون، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن.
والدعاء: النداء بأعلى الصوت، والثبور: الهلاك، أي نادوا: يا ثبورنا، أو واثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادي من يطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فضيع العذاب.
وجملة {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} إلى آخرها مقولة لقول محذوف، أي يقال لهم، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادى، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر.
[15 - 16] {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} .
الأمر بالقول يقتضي مخاطبا مقولا لهم ذلك، فيجوز ان يقصد: قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق: "ألك خير أم الجنة" ? فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيرا. ويجوز أن يقصد: قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين. والاستفهام حينئذ مستعمل في التلميح والتلطف. وهذا كقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} في [سورة الصافات: 62].
والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم.
و {خَيْرٌ} اسم تفضيل، وأصله أخير بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين، وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم.
ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، على المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يوتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده {الْمُتَّقُونَ} من العموم للمخاطبين ومن
(19/23)

يجيء بعدهم.
وجملة {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً} تذييل لجملة {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير {جَزَاءً وَمَصِيراً} مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} وقوله {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} في [سورة الكهف: 31 - 29].
وجملة {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} ، حال من {جَنَّةُ الْخُلْدِ} ، أو صفة ثانية. وجملة {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير: وعدا لهم.
والضمير المستتر في {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً} عائدا إما إلى الوعد المفهوم من قوله {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ، أي كان الوعد وعدا مسؤولا. وأخبر عن الوعد بـ {وَعْداً} وهو عينه ليبنى عليه {مَسْؤُولاً} .
ويجوز أن يعود الضمير إلى {مَا يَشَاءُونَ} والإخبار عنه بـ {وَعْداً} من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
ويتعلق {عَلَى رَبِّكَ} بـ {وَعْداً} لتضمين {وَعْداً} معنى "حقا" لإفادة أنه {وَعْداً} لا يخلف كقوله تعالى {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
والمسؤول: الذي يسأله مستحقه ويطالب به، أي حقا للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل. وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول: ما أتيت إلا واجبا، إذ لايتبادر هنا غير هذا المعنى، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد.
[17 - 18] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} .
عطف {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} إما على جملة {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} إن كان المراد: قل للمشركين، أو عطف على جملة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} على جواز أن المراد: قل للمؤمنين.
(19/24)

وعلى كلا الوجهين فانتصاب {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله، تقديره: اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بين لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم. وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عبادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات.
وعموم الموصول من قوله {وَمَا يَعْبُدُونَ} شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت "ما" الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم. على ان التغليب هنا لغير العقلاء. والخطاب في {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ} للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب.
فجملة {قَالُوا سُبْحَانَكَ} جواب عن سؤال الله إياهم: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} ، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} .
وقرأ الجمهور {نَحْشُرُهُمْ} بالنون و {يَقُولُ} بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب {يَحْشُرُهُمْ - يَقُولُ} كليهما بالياء. وقرأ ابن عامر {يَحْشُرُهُمْ - يَقُولُ} كليهما بالنون.
والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد. والمعنى: أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. ففي الكلام حذف دل عليه المذكور.
وأخبر بفعل {أَضْلَلْتُمْ} عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل {ضَلُّوا} عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما عل الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة. فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} .
والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام.
وقولهم {سُبْحَانَكَ} كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع، كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره
...
سبحان من علقمة الفاخر.
وتقدم في [سورة النور: 16] {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . واعلم أن ظاهر ضمير
(19/25)

{نَحْشُرُهُمْ} أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} إلى قوله {مَسْحُوراً} "الفرقان: 7 - 8"؛ لكن ما يقتضيه وصفهم بـ {الظَّالِمُونَ} والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير {نحشرهم} عائدا إلى {مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين.
ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها.
والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد.
وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي.
وإسناد القول إلى ما يعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقا يسمعه عبدتها، أما غير الأصنام من عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر.
وإعادة فعل {ضَلُّوا} في قوله {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوي في نسبة الضلال إليهم. والمعنى: أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم. وحق الفعل أن يعدى بـ"عن" ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى "أخطؤوا"، أو على نزع الخافض.
و {سُبْحَانَكَ} تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله هن أن يدعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية.
ومعنى {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن "انبغى" مطاوع "بغاه" إذا طلبه. فالمعنى: لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء، أي عبادا، قال تعالى {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. وقد تقدم في قوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} في [سورة مريم: 92]. وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديدا، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي"كان" وجعل المطلوب نفيه خبرا عن "كان" أقوى في النفي ولذلك يسمى جحودا. والخبر مستعمل في لازم فائدته، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله.
و"من" في قوله {مِنْ دُونِكَ} للابتداء لأن أصل "دون" أنه اسم للمكان، ويقدر
(19/26)

مضاف محذوف يضاف إليه "دون" نحو: جلست دون، أي دون مكانه، فموقع "من" هنا موقع الحال من {أَوْلِيَاءَ} . وأصلها صفة لـ {أَوْلِيَاءَ} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا. والمعنى: لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية.
وعن ابن جني: أن "من" هنا زائدة. وأجاز زيادة "من" في المفعول.
و"من" في قوله {أَوْلِيَاءَ} مزيدة لتأكيد عموم النفي، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي.
والأولياء: جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور. والمراد هنا: الولي التابع كما في قوله {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} في [سورةمريم: 45] ، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا.
وقرأ الجمهور {نَتَّخِذَ} بالبناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر {نَتَّخِذَ} بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك. فموقع {مِنْ دُونِكَ} موقع الحال من ضمير {نَتَّخِذَ} . والمعنى عليه: أنهم يتبرؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم. والمعنى: لا نتخذ من يوالينا دونك، أي من يعبدنا دونك.
والاستدراك الذي أفاده "لكن" ناشئ عن التبرؤ من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين. والمقصود بالاستدراك ما بعد "حتى" وهو {نَسُوا الذِّكْرَ} ، وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قابلوا رحمة الله ونعمته عليهم وعلى آبائهم بالكفران، فالخبر عن الله بأنه متع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضبا عليهم.
وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتع للإيماء إلى أن ذلك التمتع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجود في أرض سبخة قال تعالى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
(19/27)

والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر، أي القرآن، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجر لهم من آبائهم الذين سنوا لهم عبادة الأصنام. ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يظهر أن ضمير {نَسُوا} وضمير {كَانُوا} عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر.
والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض بشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة. وتقدم في قوله تعالى {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} في [سورة الأنعام: 41].
والذكر: القرآن لأنه يتذكر به الحق، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في [سورة الحجر: 6].
والبور: جمع بائر كالعوذ جمع عائذ، والبائر: هو الذي أصابه البوار، أي الهلاك. وتقدم في قوله تعالى {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم: 28] أي الموت. وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} [سورة التوبة: 42]، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون. وقيل: البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر.
واجتلاب فعل "كان" وبناء {بُوراً} على {قَوْماً} دون أن يقال: حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه "كان" من تمكن معنى الخبر، وما يقتضيه "قوما" من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164].
[19] {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} .
الفاء فصيحة، أي إفصاح عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها، وهو إفصاح رائع وزاده
(19/28)

الالتفات في قوله {كَذَّبُوكُمْ} .
وفي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام. والتقدير: إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف.
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا.
أي إن قلتم ذلك فقد جئنا خراسان. وفي حذف فعل القول في هذه الآية استحضار لصورة المقام كأنه مشاهد غير محكي وكأن السامع آخر الآية قد سمع لهذه المحاورة مباشرة دون حكاية فقرع سمعه شهادة الأصنام عليهم ثم قرع سمعه توجه خطاب التكذيب إلى المشهود عليهم، وهو تفنن بديع في الحكاية يعتمد على تخييل المحكي واقعا، ومنه قوله تعالى {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [سورة القمر: 48]. فجملة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} الخ مستأنفة ابتدائية هو إقبال على خطاب الحاضرين وهو ضرب من الالتفات مثل قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} بعد قوله {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة يوسف: 29].
والباء في قوله {بِمَا تَقُولُونَ} يجوز أن تكون بمعنى "في" للظرفية المجازية، أي كذبوكم تكذيبا واقعا فيما تقولون، ويجوز أن تكون للسببية، أي كذبوكم بسبب ما تقولون.
و"ما" موصولة. والذي قالوه هو ما يستفاد من السؤال والجواب وهو أنهم قالوا إنهم دعوهم إلى أن يعبدوهم.
وفرع على الإعلان بتكذيبهم إياهم تأييسهم من الانتفاع بهم في ذلك الموقف إذ بين لهم أنهم لا يستطيعون صرفا، أي صرف ضر عنهم، ولا نصرا، أي إلحاق ضر بمن يغلبهم. ووجه التفريع ما دل عليه قولهم {سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] الذي يقتضي أنهم في موقف العبودية والخضوع.
وقرأ الجمهور {يَسْتَطِيعُونَ} بياء الغائب، وقرأه حفص بتاء الخطاب على أنه خطاب للمشركين الذين عبدوا الأصنام من دون الله.
{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} .
تذييل للكلام يشمل عمومه جميع الناس، ويكون خطاب {مِنْكُمْ} لجميع المكلفين. ويفيد ذلك أن المشركين المتحدث عنهم معذبون عذابا كبيرا: والعذاب الكبير هو عذاب جهنم.
(19/29)

[20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}
وهذا رد على قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 7] بعد أن رد عليهم قولهم {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [سورة الفرقان: 8] بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [سورة الفرقان: 10]، ولكن لما كان قولهم {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} حالة لم تعط للرسل في الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيرا من ذلك في الآخرة.
وأما قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [سورة الأنبياء: 5]، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس. وقد قال موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [سورة طه: 59]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا قريشا في مجامعهم ونواديهم ويدعوا سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم.
وجملة {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال. والتقدير: وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال إلا في حال {إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} . والتوكيد بـ"إن" واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلا للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى إلى أربعة حروف وهي: إلا، وإن، واللام، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [سورة الحجر: 4]. وقوله {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208].
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها
(19/30)

إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية.
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثا فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك.
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} .
تذييل، فضمير الخطاب في قوله {بَعْضَكُمْ} يعم جميع الناس بقرينة السياق، وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان.
والإخبار عنه بـ {فِتْنَةً} مجازي لأنه سبب الفتنة، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، والبعض الآخر المشركين؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وإضرابهم يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعو علينا إدلالا بالسابقة. وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذي آمنوا بك فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29 - 30].
وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52 - 53].
والكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام، ولذلك عقب بقوله {أَتَصْبِرُونَ} ، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
وموقع {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} موقع الحث على الصبر المأمور به، أي هو عليهم بالصابرين، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم.
وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافا إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن
(19/31)

الرب لا يضيع أولياءه كقوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي النصر المحقق.
[21] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد عنون عليها في هذه المقالة بـ {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وعنون عليهم في المقالات السابقة بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} وبـ {الظَّالِمُونَ} لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض، فهم كذبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكة، وطلبوا رؤية الله في الدنيا، ونزول الملائكة عليهم في الدنيا، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم.
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل، فمن أجل ذلك أيضا جعل قولهم ذلك طريقا لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} في [سورة يونس: 15].
و {لَوْلا} حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به، يعنون أنه إن كان صادقا فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم.
ومعنى {لا يَرْجُونَ} لا يظنون ظنا قريبا، أي يعدون لقاء الله محالا. ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ولذلك عقب بقوله {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل.
والجملة استئناف يتنزل منزلة جواب عن قولهم. والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كلاب أو بني نمير أنشده ثعلب في "مجالسه" والقالي في "أماليه":
ألا يا سنا برق على قلل الحمى
...
لهنك من برق علي كريم
(19/32)

فإن قوله: من برق، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب.
والاستكبار: مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب.
و {فِي} للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
ويجوز أن تكون {فِي} للتعليل كما في الحديث: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها" الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم. وليست الظرفية حقيقية لقلة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.
والعتو: تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} في الأعراف. وإنما كان هذا ظلما لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية.
وفي هذا إيماء إلى أن النبوة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
[22] {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} .
استئناف ثان جواب عن مقالتهم، فبعد إبداء التعجيب منها عقب بوعيد لهم فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوءهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار، ففي هذا الاستئناف تمليح وتهكم بهم لأن ابتداءه مطمع بالاستجابة وآخره مؤيس بالوعيد، فالكلام جرى على طريقة الغيبة لأنه حكاية عن توركهم، والمقصود إبلاغه لهم حين يسمعونه. وانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} على الظرفية لـ {لا بُشْرَى} . وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه وإعادة {يَوْمَئِذٍ} تأكيد.
وذكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله. وانتفاء البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن.
و"حجر" - بسكر الحاء وسكون الجيم، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة - فهي
(19/33)

كلمة يقولونها عند رؤية ما يخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة. قال الخليل وأبو عبيدة: كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له: {حِجْراً مَحْجُوراً} ، أي حرام قتلي، وهي عوذة.
و"حجر" مصدر: حجره، إذا منعه قال تعالى {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138]، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل: معاذ الله، وأما رفعه في قول الراجز:
قال فيها حيدة وذعر
عوذ بربي منكم وحجر
فهو تصرف فيه، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز. وأما رفع "حجر" في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل وقد جاء في القرآن منصوبا لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان: 53]، فإنه معطوف على مفعول {وَجَعَلَ} وسننبه عليه قريبا.
و {مَحْجُوراً} وصف لـ {حِجْراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل. وذيل ذائل، وشعر شاعر.
[23] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
كانوا في الجاهلية يعدون الأعمال الصالحة مجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذا كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقد قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم حين تحير في أمر ما بدأه من الوحي وقال لها: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت "والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق". فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم: لئن كان البعث حقا لنجدن أعمالا عملناها من البر تكون سببا لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذ.
والقدوم مستعمل في معنى العمد والإرادة، وأفعال المشي والمجىء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعزم والشروع مثل: قام يفعل، وذهب يقول، وأقبل، ونحوها. وأصل ذلك ناشئ عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يمشي إليه، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول: وعمدناه، أو أردنا إلى ما عملوا.
(19/34)

و {مِنْ} في قوله {مِنْ عَمَلٍ} بيانية لإبهام {مَا} وتنكير {عَمَلٍ} للنوعية والمراد به عمل الخير، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير.
والهباء: كائنات جسمية دقيقة لا ترى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوة ونحوها، تلوح كأنها سابحة في الهواء وهي أدق من الغبار، أي فجعلناه كهباء منثور، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهباء في عدم إمساكه مع كونه موجودا، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق. ونظيره قوله تعالى {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة: 5 - 6].
والمنثور: غير المنتظم، وهو وصف كاشف لأن الهباء لا يكون إلا منثورا، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق.
[24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .
استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة علم أن لا حظ لهم في الجنة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان مشركون مؤمنون. فمعنى الكلام: المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .
والخير هنا: تفضيل، وهو تهكم بالمشركين، وكذلك {أَحْسَنُ} .
والمستقر: مكان الاستقرار.
والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين.
[25 - 26] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} .
عطف على جملة {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22]. والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وعيدهم. وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس.
(19/35)

وأعيد لفظ {يَوْمَ} على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوما واحدا لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير.
والتشقق: التفتح بين أجزاء ملتئمة، ومنه {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. ولعله انخراق يحصل في كور تلك العوالم، والذين قالوا: السماوات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيلهم إياها كقباب من معادن صلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن.
وتشقق السماء حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال: يوم تفتح أبواب السماء. قال {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ: 19]؛ على أن التشقق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة:
فانشق عنهاعمود الصبح جافلة
...
عدو النحوص تخاف القانص اللحما
وحاصل المعنى: أن هنالك انبثاقا وانتفاقا يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذن للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب.
والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السماوات التي تنشق عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة.
وقرأ الجمهور {تَشَقَّقُ} بتشديد الشين. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين.
والغمام: السحاب الرقيق. وهو ما يغشى مكان الحساب قال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} تقدم في سورة البقرة.
والباء في قوله {بِالْغَمَامِ} قيل بمعنى "عن"، أي تشقق عن غمام يحف بالملائكة. وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشق بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب. وقيل الباء للملابسة، أي تشقق ملابسة لغمام يظهر حينئذ. وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدع الفهم يذهب في ترتيب ذلك كل مذهب ممكن.
(19/36)

وأكدَ {نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال.
وقرأ الجمهور {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع {الْمَلائِكَةُ} مبنيا للنائب. وقراه ابن كثير {وَ نُنَزِّلُ} بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب {الْمَلائِكَةُ} .
وقوله {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ} [الفرقان: 22] وكذلك القول في تكرير {يَوْمَئِذٍ} .
و {الْحَقُّ} : الخالص، كقولك: هذا ذهب حقا. وهو الملك الظاهر أنه لا يماثله ملك لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والملك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدعي شيئا من التصرف، وفي الحديث ثم يقول الله: أنا الملك أين ملوك الأرض .
ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين.
وتقديم {عَلَى الْكَافِرِينَ} للحصر. وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.
[27 - 29] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} .
هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية.
والتعريف في {الظَّالِمُ} يجوز أن يكون للاستغراق. والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} ، ويكون قوله {لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} إعلاما بما لا تخلو عنه صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضا على مناواة الإسلام.
ويجوز أن يكون للعهد المخصوص. والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من
(19/37)

قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبي معيط وما أغراه به أبي بن خلف. قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف، وكان عقبة لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من بعض أسفاره فصنع طعاما ودعا رسول الله فلما قربوا الطعام قال رسول الله: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا اله إلا الله، فقال عقبة: أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه. وكان أبي بن خلف غائبا فلما قدم أخبر بقضيته، فقال: صبأت يا عقبة. قال: والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبي أن يأكل من طعامي حتى أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم، فقال أبي: ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبصق في وجهه، فكفر عقبة وأخذ في امتثال ما امره به أمية بن خلف، فيكون المراد بـ"فلان" الكناية عن أبي بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلتهم في الشرك ولم يتبعوا سبيل الرسول، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصده عن متابعة الإسلام إذا هم بها ويثبته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه.
والعض: الشد بالأسنان على الشيء ليؤلمه أو ليمسكه، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته بـ {عَلَى} لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضا شديدا كما في هذه الآية.
والعض على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التشذر، وهو رفع اليد عن كلام الغضب قال لبيد:
غلب تشذر بالدخول كأنهم
...
جن البدي رواسيا أقدامها
ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب قال تعالى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]. ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعض السبابة، وعض اليد. ويقال: حرق أسنانه وحرق الأرم "بوزن ركع" الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيض عض الأنامل قال تعالى {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119] في سورة آل عمران، وكانت كنايات بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف.
والرسول: هو المعهود وهي محمد صلى الله عليه وسلم.
(19/38)

واتخاذ السبيل: أخذه، وأصل الأخذ: التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى {سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} .
و {مَعَ الرَّسُولِ} أي متابعا للرسول كما يتابع المسافر دليلا يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود. وإنما عدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال: يا ليتني اتبعت الرسول، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مسايرة الدليل تمثيلا محتويا على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل، ومتضمنا تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود فكان حصول هذه المعاني صائرا بالإطناب إلى إيجاز، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل. وعلم أن هذا السبيل سبيل نجاح من تمناه لأن التمني طلب الأمر المحجوب العزيز المنال.
و {يَا لَيْتَنِي} نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة، كأنه يقول: هذا مقامك فاحضري، على نحو قوله {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} في [سورة الأنعام: 31]. وهذا النداء يزيد المتمني استبعادا للحصول.
وكذلك قوله {يَا وَيْلَتَا} هو تحسر بطريق نداء الويل. والويل: سوء الحال، والألف عوض عن ياء المتكلم، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} في سورة البقرة. وعلى {يَا وَيْلَتَنَا} في قوله {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} في سورة الكهف.
وأتبع التحسر بتمني أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا.
وجملة {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} بدل من جملة {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خلة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني.
وجملة {يَا وَيْلَتَا} معترضة بين جملة {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} وجملة {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} .
و"فلان": اسم يكنى عمن لا يذكر اسمه العلم، كما يكنى بـ"فلانة" عمن لا يراد
(19/39)

ذكر اسمها العلم سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها. قاله ابن السكيت وابن مالك خلافا لابن السراج وابن الحاجب في اشتراط وقوعه في حكاية بالقول، يعامل "فلان" معاملة العلم المقرون بالنون الزائدة و "فلانة" معاملة العلم المقترن بهاء التأنيث، وقد جمعهما قول الشاعر:
ألا قاتل الله الوشاة وقولهم
...
فلانة أضحت خلة لفلان
أراد نفسه وحبيبته.
وقال المرار العبسي:
وإذا فلان مات عن أكرومة
...
دفعوا معاوز فقده بفلان
أرادا: إذا مات من له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد، وكذلك قول معن بن أوس:
وحتى سألت القرض من كل ذي
...
الغنى ورد فلان حاجتي وفلان
قال أبو زيد في "نوادره": أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة، أي في أواسط القرن الأول للهجرة:
إن لسعد عندنا ديوانا
...
يخزي فلانا وابنه فلانا
والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به، أو لعدم الفائدة لذكره، أو لقصد نوع من له اسم علم. وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حملت على إرادة خصوص عقبة وأبي أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صده عن اتباع الإسلام.
وإنما تمنى أن لا يكون اتخذه خليلا دون تمني أن يكون عصاه فيما سول له قصدا للاشمئزاز من خلته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها.
وفيه إيماء إلى أن شان الخلة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرء خلته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خويصته فإنه سيحمل من يخاله عل ما يسير به لنفسه، وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي:
(19/40)

فأول راض سنة من يسيرها
وهذا عندي هو محمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا" فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة: كان خلقه القرآن. وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارم أخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي جعله المخير لخلته لو كان متخذا خليلا غير الله.
وجملة {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} تعليلة لتمنيه أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا بأنه قد صدر عن خلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.
وقوله {أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} معناه سول لي الانصراف عن الحق. والضلال: إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقا غير المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده وإنما وقع في أرض العدو أو في مسبعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهدى "الذي هو إصابة الطريق" لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال، ولذلك سموا الدليل الذي يسلك بالركب الطريق المقصود هاديا.
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعاره السبيل لهدى الرسول وليس مستعملا هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف {عَنْ} في قوله {عَنِ الذِّكْرِ} فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله {أَضَلَّنِي} مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصول إلى المنجى، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية فهذه نكت من بلاغة نظم الآية.
{الذِّكْرِ} : هو القرآن، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه.
والمجيء في قوله {إِذْ جَاءَنِي} مستعمل في إسماعه القرآن فكأن القرآن جاء حل عنده. ومنه قولهم: أتاني نبأ كذا، قال النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
فإذا حمل الظالم في قوله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} على معين وهو عقبة بن
(19/41)

أبي معيط فمعنى مجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أبي بن خلف وحمله على عداوته وأذاته، وإذا حمل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم، وإمكان استماعهم إياه. وإضلال خلانهم إياهم صرف كل واحد خليله عن ذلك، وتعاون بعضهم على بعض في ذلك.
وقيل {الذِّكْرِ} : كلمة الشهادة، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة؛ فإن كلمة الشهادة لما كانت سبب النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي، ومثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل.
و {إِذْ} ظرف للزمن الماضي، أي بعد وقت جاءني فيه الذكر، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال: بعد ما جاءني، أو بعد أن جاءني، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق، ومنه قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي تمكن هديه منهم.
وجملة {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسول لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان، أي مجبول على شدة خذله.
والخذل: ترك نصر المستنجد مع القدرة على نصره، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ} في [سورة آل عمران: 160].
فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول.
[30] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} .
عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربه قومه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وهو خبر مستعمل في الشكاية.
والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بان الرسول توجه إلى ربه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره، وتأكيده بـ {إِنَّ} للاهتمام به ليكون التشكي
(19/42)

أقوى. والتعبير عن قريش بـ {قَوْمِي} لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه.
وفعل الاتخاذ إذا قيد بحالة يفيد شدة اعتناء المتخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصدا. فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال: إن قومي هجروا القرآن.
واسم الإشارة في {هَذَا الْقُرْآنُ} لتعظيمه وأن مثله لا يتخذ مهجورا بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به.
والمهجور: المتروك والمفارق. والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعه.
[31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} .
هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم. وفيه تنبيه للمشركين ليعرضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال من كذبوا من قوم نوح وعاد وثمود.
والقول في قوله {وَكَذَلِكَ} تقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]. والعدو: اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع.
ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين، أي من جملة المجرمين، فإن الإجرام أعم من عداوة الأنبياء وهو أعظمها. وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال: عدوا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67].
وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممن هم يومئذ معرضون عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" وبأنه ينصره على الذين يصرون على عداوته لأن قوله {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر.
والباء في قوله {بِرَبِّكَ} تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل. وأصله: كفى ربك في هذه الحالة.
(19/43)

[32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} .
عود إلى معاذيرهم وتعلالاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نزل منجما وقالوا: لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة. وضمير {قَالَ} ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملة واحدة وإنما كانت وحيا مفرقا؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشرة كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالا ينطق بها عيسى عليه السلام في الملأ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة، فالمشركون نسبوا ذلك أو جهلوا فقالوا: هلا نزل القرآن على محمد جملة واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل: إن قائل هذا اليهود أو النصارى فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط.
و {نُزِّلَ} هنا مرادف انزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم {جُمْلَةً وَاحِدَةً} .
وقد جاء قوله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ردا على طعنهم فهو كلام مستأنف فيه رد لما أرادوه من قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} . وعدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاما له بحكمة تنزيله مفرقا، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسير عليه.
وقوله {كَذَلِكَ} جواب عن قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} إشارة إلى الإنزال المفهوم من {لولا نزل عليهم القرآن} وهو حالة إنزال القرآن منجما، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محل نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلا عن الفعل. فالتقدير: أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال المنجم. فموقع جملة {كَذَلِكَ} موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في {لِنُثَبِّتَ} متعلقة بالفعل المقدر الذي دل عليه {كَذَلِكَ} . والتثبيت: جعل الشيء ثابتا. والثبات: استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} .
(19/44)

ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس. والفؤاد: هنا العقل. وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.
وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجما بكلمة جامعة وهي {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوي قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذ ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء، وما قاله أيضا "أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين" اهـ، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره.
وما قاله بعد ذلك "إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلما نزل شيء منها، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة" اهـ.
ومنه ما قال الجد الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها. وقلت: إن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره.
وقوله {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} عطف على قوله {كَذَلِكَ} ، أنزلناه منجما ورتلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بين الدلالة. واتفقت أقوال أئمة اللغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثغر مرتل ورتل، وإذا كانت أسنانه مفلجة تشبه نور الأقحوان. ولم يوردوا شاهدا عليه من كلام العرب.
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزلنا مفرقا منسقا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرق في الزمان فإذا كمل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أنزلت جملة واحدة، ومفرق في التأليف بأنه مفصل واضح. وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فرق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.
ويجوز أن يراد بـ {رَتَّلْنَاهُ} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتلا، أي بتمهل بأن لا يعجل في قراءته بأن تبين جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزمل
(19/45)

في قوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
و {تَرْتِيلاً} مصدر منصوب على المعفول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبنيا لنوع الترتيل.
[33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
لما استقصى أكثر معاذيرهم وتعللاتهم وألقمهم أحجار الرد إلى لهواتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعم ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لترهاتهم.
والمثل: المشابه. وفعل الإتيان مجاز في أقوالهم والمحاجة به، وتنكير "مثل" في سياق النفي للتعميم، أي بكل مثل. والمقصود: مثل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] بقرينة سوق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]. ودل على إرادة هذا المعنى من قوله {بِمِثْلِ} قوله آنفا {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الفرقان: 9] عقب قوله {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8]. وتعدية فعل {يَأْتُونَكَ} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم الأمثال يقصدون به أن يفحموه.
والإتيان مستعمل مجازا في الإظهار. والمعنى: لا يأتونك بشبه يشبهون به حالا من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيها صريحا بأحوال غير الرسل كقولهم {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] وقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وقولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان: 8] أم كان نفي مشابهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وكذلك قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إذا كانوا قالوه على معنى أنه
(19/46)

مخالف لحال نزول التوراة والإنجيل. فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الرسل الأسبقين في زعمهم، ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله، فيجاب إليه كقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8].
وصيغة المضارع في قوله {وَلا يَأْتُونَكَ} تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92].
والاستثناء في قوله {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.
وجملة {جِئْنَاكَ} حالية كما تقدم في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الفرقان: 20].
وقوله {جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} مقابل قوله {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} وهو مجيء مجازي ومقابلة {جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} لقوله {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} إشارة إلى أن ما يأتون به باطل. مثال ذلك أن قولهم {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] ، أبطله قوله {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20].
والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحجة بـ {جِئْنَاكَ} دون: أتيناك، كما عبر عما يجيئون به بـ {يَأْتُونَكَ} ، إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازا كثر فيما يسوء وما يكره، كالوعيد والهجاء قال شقيق بن شريك الأسدي:
أتاني من أبي أنس وعيد
...
فسل لغيظة الضحاك جسمي
وقول النابغة:
أتاني - أبيت اللعن - أنك لمتني
وقوله:
فليأتينك قصائد وليدفعن
...
جيشا إليك قوادم الأكوار
يريد قصائد الهجاء. وقول الملائكة للوط {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر: 64] أي عذاب قومه ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} . وتقدم في
(19/47)

سورة الحجر، وقال الله تعالى {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24] {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1 ]{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]. بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم، قال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1]، وفي حديث الإسراء: ..مرحبا به ونعم المجيء جاء ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييدا نافعا لنوح.
والتفسير: البيان والكشف عن المعنى، وقد تقدم ما يتعلق به مفصلا في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب، والمراد هنا كشف الحجة والدليل.
ومعنى كونه {أَحْسَنُ} ، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعا في نفوس السامعين من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل.
[34] {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولوعيد المشركين وذمهم.
والموصول واقع موقع الضمير كأنه قيل: هم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائدا إلى الذين كفروا من قوله {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} إظهار في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبت لهم مضمون الصلة، وليبني على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا هم شر مكانا وأضل سبيلا ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة [الإسراء: 97] {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} عقب قوله {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 94] ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيبا للنبي صلى الله عليه وسلم. وإذ كان قصدهم مما يأتون به من
(19/48)

الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلال السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم. فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه.
وقد تقدم معنى {يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} في سورة [الإسراء: 97]عند قوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} . وتقدم ذكر الحديث في السؤال عن كيف يمشون على وجوههم.
وشر: اسم تفضيل. وأصله أشر وصيغتا التفضيل في قوله {شَرٌّ، وَأَضَلُّ} مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} [يوسف: 77] في جواب قوله اخوة يوسف {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77].
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم. وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين: هم شر الخلق فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكانا وأضل سبيلا لا المسلمون، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين.
والمكان: المقر. والسبيل: الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصول إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم.
والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالمكان الأشر والسبيل الأضل، لأجل ما سبق من أحوالهم التي منها قولهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32].
و {سبيلا} تمييز محول عن الفاعل، فأصله: وضل سبيلهم. وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجاز عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم.
[35 - 36] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} .
لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له.
وابتدئ بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمنا من الذين ذكروا بعده ولأن بقايا شرعه
(19/49)

وأمته لم تزل معروفة عند العرب فإن صح ما روي أن الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] اليهود فوجه الابتداء بذكر ما أوتى موسى أظهر.
وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم. وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدئ بوحيه إليه، وليس المراد بالكتاب الألواح لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ} ، فقوله {فَقُلْنَا اذْهَبَا} مفرع عن إيتاء الكتاب فالإيتاء متقدم عليه.
وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، فإن الكتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وحيا نزل منجما فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم.
والتعريض هنا إلى تأييد موسى بهارون وتعريض بالرد على المشركين إذ قالوا {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ َيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 32] فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيد برسول مثله.
والوزير: المؤازر وهو المعاون المظاهر، مشتق من الأزر وهو القوة. وأصل الأزر: شد الظهر بإزار عند الإقبال على عمل ذي تعب، وقد تقدم في سورة طه. وكان هارون رسولا ثانيا وموسى هو الأصل. والقوم هم قبط مصر قوم فرعون.
و {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لما يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قراء القرآن أن موسى وهارون بلغا الرسالة وأظهر الله منها الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضا بالمشركين في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وتمهيدا للتفريع بـ {دمرناهم تدميرا} الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية.
والموصول في قوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير.
وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها: أولها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم.
والتدمير: الإهلاك، والهلاك: دمور.
وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق
(19/50)

في اليم.
[37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} .
عطف على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان: 35] باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار بالتدمير.
وانتصب {قَوْمَ نُوحٍ} بفعل محذوف يفسره {أَغْرَقْنَاهُمْ} على طريقة الاشتغال. ولا يضر الفصل بكلمة {لَمَّا} لأنها كالظرف، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف. وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أكد بضميرهم.
ويجوز أن يكون {قَوْمَ نُوحٍ} عطفا على ضمير النصب في قوله {فَدَمَّرْنَاهُمْ} أي ودمرنا قوم نوح، وتكون جملة {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} مبينة لجملة {دَمَّرْنَاهُمْ} .
والآية: الدليل، أي جعلناهم دليلا على مصير الذين يكذبون رسلهم. وجعلهم آية: هو تواتر خبرهم بالغرق آية.
وجعل قوم نوح مكذبين الرسل مع أنهم كذبوا رسولا واحدا لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشرا لأنهم قالوا {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} فكان تكذيبهم مستلزما تكذيب عموم الرسل ولأنهم أول من كذب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود.
وجملة {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} عطف على {أَغْرَقْنَاهُمْ} . والمعنى: عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذابا أليما في الآخرة. ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل {لِلظَّالِمِينَ} عوضا عن: أعتدنا لهم، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول.
[38 - 39] {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} .
(19/51)

انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه {تَبَّرْنَا} . وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها. ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} [الفرقان: 36].
وتنوين {وَعَاداً وَثَمُودَا} مع أن المراد الامتنان. فأما تنوين {عَاداً} فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغير زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف. وأما صرف {ثَمُودَا} في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع {عَاداً} كما قال تعالى {سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان: 4].
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي. وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف.
وأما أصحاب الرس فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرس بئر عظيمة أو حفير كبير. ولما كان اسما لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب.
قال زهير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
...
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وسموا بالرس ما عرفوه من بلاد فارس، وإضافة {أَصْحَابُ} إلى {الرَّسِّ} إما لأنهم أصابهم الخسف في رس، وإما لأنهم نازلون على رس، وإما لأنهم احتفروا رسا، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدوه وأضرموه. والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى "فلجاً"1.
واختلف في المعنى من {أَصْحَابُ الرَّسِّ} في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود. وقال السهيلي: هم قوم كانوا في عدن أرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولا. وكانت العنقاء هي طائر أعظم ما يكون من الطير "سميت العنقاء لطول عنقها" وكانت تسكن في جبل يقال له "فتح"2، وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد
ـــــــ
1 فَلج بفتحتين. وقال ياقوت: بفتح فسكون اسم بلد، ويقال: بطن فَلج من همى ضريَّة.
2 وهو أول الدهناء بفاء أخت القاف ومثناة فوقية بعدها معجمة، وقيل حاء معملة: جبل أو قرية لأهل الرسّ لم يذكره ياقوت، وذكر فِتاح وقال: جمع فتح وقال: أرض بالدهناء ذات رمال.
(19/52)

فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق. وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيهم فأهلكهم الله. قال وهب بن منبه: خسف بهم وبديارهم. وقيل: هم قوم شعيب. وقيل: قوم كانوا مع قوم شعيب، وقال مقاتل والسدي: الرس بئر بإنطاكية، وأصحاب الرس أهل إنطاكية بعث إليهم حبيب النجار فقتلوه ورسوه في بئر وهو المذكور في سورة [يس: 20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} الآيات. وقيل: الرس واد في "أذربيجان" في "أران" يخرج من "قاليقلا" ويصب في بحيرة "جرجان" ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية. ولعله من تشابه الأسماء يقال: كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف وقيل غير ذلك مما هو أبعد.
والقرون : الأمم فإن القرن يطلق على الأمة، وقد تقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في أول [الأنعام: 6]. وفي الحديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" الحديث.
والإشارة في قوله {بَيْنَ ذَلِكَ} إلى المذكور من الأمم. ومعنى {بَيْنَ ذَلِكَ} أن أمما تخللت تلك الأقوام ابتداء من قوم نوح.
وفي هذه الآية إيذان بطول مدد هذه القرون وكثرتها.
والتنوين في {كُلّاً} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: وكلهم ضربنا له الأمثال. وانتصب {كُلّاً} الأول بإضمار فعل يدل عليه {ضَرَبْنَا لَهُ} تقديره: خاطبنا أو حذرنا كلا وضربنا له الأمثال، وانتصب {كُلّاً} الثاني بإضمار فعل يدل عليه {تَبَّرْنَا} وكلاهما من قبيل الاشتغال.
والتتبير: التفتيت للأجسام الصلبة كالزجاج والحديد. وأطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعية في {تَبَّرْنَا} وأصلية في {تَتْبِيراً} ، وتقدم في قوله تعالى {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} في سورة [الأعراف: 139]، وقوله {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} في سورة [الإسراء: 7]. وانتصب {تَتْبِيراً} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك.
ومعنى ضرب الأمثال: قولها وتبيينها. وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة [البقرة: 26].
والمثل: النظير والمشابه، أي بينا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا
(19/53)

حال أنفسهم عليها. قال تعالى {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45].
[40] {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} .
لما كان سوق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بينهما من القرون مقصودا لاعتبار قريش بمصائرهم نقل نظم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نزل بقرية قوم لوط.
واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21]. وكانت قريش يمرون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمر بها طريقهم قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]. وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة "سدوم" ومعظمها غمرها الماء. وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} في سورة [الحجر: 79].
والإتيان: المجيء. وتعديته بـ {عَلَى} لتضمينه معنى: مروا، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأن مجيئهم إياها مرور بأهلها، فضمن المجيء بمعنى المرور لأنه يشبه المرور فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيء يتعلق بالمكان فيقال: جئنا خراسان، ولا يقال: مررنا بخراسان. وقال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138].
ووصف القرية بـ {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} لأنها اشتهرت بمضمون الصلة بين العرب أهل الكتاب. وهذه القرية هي المسماة "سدوم" بفتح السين وتخفيف الدال وكانت لقوم لوط قرى خمس أعظمها "سدوم". وتقدم ذكرها عند قوله تعالى {ولوطا إذ قال لقومه} في سورة [الأعراف: 80].
و {مَطَرَ السَّوْءِ} هو عذاب نزل عليهم من السماء وهو حجارة من كبريت ورماد، وتسميته مطرا على طريقة التشبيه لأن حقيقة المطر ماء السماء.
(19/54)

والسوء بفتح السين: الضر والعذاب، وأما بضم السين فهو ما يسوء. والفتح هو الأصل في مصدر ساءه؛ وأما السوء بالضم فهو اسم مصدر، فغلب استعمال المصدر في الذي يسوء بضر، واستعمال اسم المصدر في ضد الإحسان.
وتفرع على تحقيق إتيانهم على القرية مع عدم انتفاعهم به استفهام صوري عن انتفاء رؤيتهم إياها حينما يأتون عليها، لأنهم لما لم يتعظوا بها كانوا بحال من يسأل عنهم: هل رأوها، فكان الاستفهام لإيقاظ العقول للبحث عن حالهم. وهو استفهام إما مستعمل في الإنكار والتهديد، وإما مستعمل في الإيقاظ سبب عدم اتعاظهم.
وقوله {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} يجوز أن يكون {بَلْ} للإضراب الانتقالي انتقالا من وصف تكذيبهم بالنبي صلى الله عله وسلم وعدم اتعاظهم بما حل بالمكذبين من الأمم إلى ذكر تكذيبهم بالبعث، فيكون انتهاء الكلام عند قوله {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} وهو الذي يجري على الوجه الأول في الاستفهام. وعبر عن إنكارهم البعث بعدم رجائه لأن منكر البعث لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضرا، فعبر عن إنكار البعث بأحد شقي الإنكار تعريضا بأنهم ليسوا مثل المؤمنين يرجون رحمة الله .
والنشور: مصدر نشر الميت أحياه، فنشر، أي حيي. وهو من الألفاظ التي جرت في كلام العرب على معنى التخيل لأنهم لا يعتقدونه، ويروي للمهلهل في قتاله لبني بكر بن وائل الذي قتلوا أخاه كليبا قوله:
يا لبكر انشروا لي كليبا
...
يا لبكر أين أين الفرار
فإذا صحت نسبة البيت إليه كان مراده من ذلك تعجيزهم ليتوسل إلى قتالهم.
والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فلم يكن لهم استعداد للاعتبار، لأن الاعتبار ينشأ عن المراقبة ومحاسبة النفس لطلب النجاة، وهؤلاء المشركون لما نشأوا على إهمال الاستعداد لما بعد الموت قصرت أفهامهم على هذا العالم العاجل فلم يعنوا إلا بأسباب وسائل العاجلة، فهم مع زكانتهم في تفرس الذوات والشيات ومراقبة سير النجوم وأنواء المطر والريح ورائحة أتربة منازل الأحياء، هم مع ذلك كله معرضون بأنظارهم عن توسم الالهيات وحياة الأنفس ونحو ذلك. وأصل ذلك الضلال كله انجر لهم من إنكار البعث فلذلك جعل هنا علة لانتفاء اعتبارهم بمصير أمة كذبت رسولها وعصت ربها. وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي دون من لا
(19/55)

يتوسمون.
[41 - 42] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهم الرسول عليه الصلاة والسلام أقوالا في مغيبه، فعطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه. وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زي الكبراء والمترفين لا يجر المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحا ولا ينظر خيلاء ويجالس الصالحين ويعرض عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء، وأولئك يستخفون بالخلق الحسن، لما غلب على آرائهم من أفن، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونهم، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم. وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه.
و {إِذَا} ظرف زمان مضمن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلقه جوابا له. بجملة {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} جواب {إِذَا} . والهزؤ بضمتين: مصدر هزأ به. وتقدم في قوله {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} في سورة [البقرة: 67]. والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهزؤ لأنهم محضوه لذلك، وإسناد {يَتَّخِذُونَكَ} إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم. وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدأبون عليه ولا يخلطون معه شيئا من تذكر أقواله ودعوته، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء.
وجملة {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} بيان لجملة {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذبتهم الأحاديث بينهم.
والاستفهام إنكار لأن يكون بعثه الله رسولا.
واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية.
والمعنى: إنكار أن يكون المشار إليه رسولا لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع
(19/56)

بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} في سورة [الأنبياء: 36]، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فأنظره.
أما قولهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تأثر أسماعهم بأقواله يوشك بهم ان يرفضوا عبادة الأصنام لو لا أنهم تريثوا، فكان في الريث أن أفاقوا من غشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثا من عند الله، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يستفز غير الراسخين في الكفر. وهذا الكلام مشوب بفساد الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين. ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعا على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالهم تستلزم اقترابهم من الضلال.
و {إِنْ} مخففة من {إنّ} المشددة، والأكثر في الكلام إهمالهم، أي ترك عملها نصب الاسم ورفع الخبر، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو أخوات ظن وهذا من غرائب الاستعمال. ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في {أن} المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيدا. وفي كلام صاحب "الكشاف" ما يشهد له في تفسير قوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة [آل عمران: 164]والجملة بعدها مستأنفة، واللام في قوله {ليضلنا} هي الفارقة بين {إن} المخففة وبين {إن} النافية.
والصبر: الاستمرار على ما يشق عمله على النفس. ويعدي فعله بحرف "على" لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه.
و {لَوْلا} حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جوابا لشرطها، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل {لَوْلا} عليه، وهو {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} . وفائدة نسبح الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتي بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يوتى بالشرط بعده تقييدا لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدم دليل الجواب، والجواب محذوفا لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب؛ فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه، ولذا
(19/57)

قال في الكشاف: " {لَوْلا} في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة" فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي} فإن قوله {كُنْتُمْ} قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداء الله. وتأخير الشرط ليظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب. قال في الكشاف " {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} يعني: لا تتولوا إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه" اهـ. وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جوابا للشرط تقديما لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} .
هذا جواب قولهم {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} المتضمن أنهم على هدى في دينهم، وكان الجواب بقطع مجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم، فتضمن ذلك وعيدا بعذاب. والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر، وممن رآه أبو جهل سيد أهل الوادي، وزعيم القالة في ذلك النادي.
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلال من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطئ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود: أنت أبو جهل? فقال "وهل أعمد من رجل قتله قومه".
و {مَنْ} الاستفهامية أوجبت تعليق فعل {يَعْلَمُونَ} عن العمل.
[43] {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} .
استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصا على هداهم والإلحاح في دعوتهم، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وفعل {اتَّخَذَ} يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في
(19/58)

العمل، وهو إلى باب كسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظن، فإن {اتَّخَذَ} معناه صير شيئا إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى. والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساويا للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مرادا للمتكلم.
فقوله تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته، أي ما يحب أن يكون إلها له، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية، فالمعنى: من اتخذ ربا له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة. فإطلاق {إِلَهَهُ} على هذا الوجه إطلاق حقيقي. وهذا يناسب قوله قبله {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42]، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير. واختاره ابن عرفة في تفسيره وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى: من اتخذ هواه قدوة له في أعماله لا يأتي عملا إلا إذا كان وفاقا لشهوته فكأن هواه إلهه. وعلى هذا يكون معنى {إِلَهَهُ} شبيها بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم. ونحا إليه ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف وابن عطية. وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملا للآية.
واعلم أنه كان مجموع جملتي {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} كلاما واحدا متصلا ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله، تعين فعل "أرأيت" لأن يكون فعلا قلبيا بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله {أَرَأَيْتَ} إنكاريا كالثاني في قوله {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} وكان مجموع الجملتين كلاما على طريقة الإجمال ثم التفصيل. والمعنى: أرأيتك تكون وكيلا على من اتخذ إلهه هواه، وتكون الفاء في قوله {أَفَأَنْتَ} فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} على قراءة إعادة همز الاستفهام، وتكون جملة {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}
(19/59)

عوضا عن المفعول الثاني لفعل {أَرَأَيْتَ} ، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام عن نحو قوله تعالى {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] وعليه لا يوقف على قوله {هَوَاهُ} بل يوصل الكلام. وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام "الكشاف".
وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلة عن الأخرى في نظم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملا في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيبا مشوبا بالإنكار، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكاريا بمعنى: إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 42].
و {من} صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان: 42]، وروعي في ضمائر الصلة لفظ {من} فأفردت الضمائر. والمعنى: من اتخذوا هواهم إلها لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم.
و"إله" جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {أَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} للتقوي إشارة إلى إنكار ما حمل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. والمعنى: تكون وكيلا عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه.
[44] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
انتقال عن التأييس من اهتادئهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 42]، فـ {أَمْ} منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار على إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها. والتقدير: أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.
والمراد من نفي {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه. وهذا كقوله تعالى {وَلا
(19/60)

تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
وعطف {أَوْ يَعْقِلُونَ} على {يَسْمَعُونَ} لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
وإنما نفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حب الرئاسة وأنفوا من ان يعودوا أتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مثل عمار، وبلال.
وجملة {إِنْ هُمْ إِلَّا 74كَالْأَنْعَامِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما تقدم إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوى آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
...
فإن المسك بعض دم الغزال
وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير {يَسْمَعُونَ} .
وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام بأنهم أضل سبيلا من الأنعام. وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كقوله تعالى {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74] الآية.
[45 - 46] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} .
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات ان القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار
(19/61)

متصل بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] الآية.
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} [الفرقان: 3] الآية.
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 20]. وما عطف عليه {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً} [الفرقان: 31] فكلها مخاطبات للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد جعل مد الظل وقبضه تمثيلا لحكمه التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطفرة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرى القياس للتدليل على أن تنزيل القرآن منجما جار على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]. فكان في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ..} [الفرقان: 45] الآية زيادة في التعليل على ما في قوله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] .
ويستتبع هذا إيماء إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظللة إذ قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظللا ضاحيا بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجا حتى ينعدم الفيء.
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجما بهيئة مد الظل مدرجا ولو شاء لجعله ساكنا.
وكان نظمها بجمله على حقيقة تركيبه مفيدا العبرة بمد الظل وقبضة في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس. وبهذا النكتة عطف قوله {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} إلى قوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47].
والاستفهام تقرير فهو صالح لطبقات السامعين: من غافل يسأل عن غفلته ليقر بها
(19/62)

تحريضا على النظر، ومن جاحد ينكر عليه إهماله النظر، ومن موفق يحث على زيادة النظر.
والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدي إلى المرئي بحرف "إلى". والمد: بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال: مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل.
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالة من أحوال الذات تصح رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} [نوح: 15]، وصح تعديته إلى اسم الذات مقيدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف صلة نحو {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} [البقرة: 246].
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها؛ فالمقصود من آية سورة الفيل: الامتنان على أهل مكة بما حل بالذين انتهكوا حرمتها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخيرتان، وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحق لله تعالى، أوثر تعلق الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئا كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدل منه.
وأما قوله في سورة [نوح 15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ} دون أن يقال: ألم تروا ربكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غير مرة فعلم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق.
وعلى كل فإن {كَيْفَ} هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محل بدل الاشتمال من {رَبِّكَ} ، والتقدير: ألم تر إلى ربك إلى هيئة مده الظل. وقد تقدم ذكر خروج "كيف" عن الاستفهام عند قوله تعالى {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل.
وفي وجود الظل دقائق من أحوال النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة
(19/63)

يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاع فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتا على حسب تفاوت بعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفا باستواء المكان وتحدبه، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمد في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل. فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة.
وقد أفاد هذا المعنى كاملا فعل {مَدَّ} .
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهة كان الظل أوسع، وإذا اتجهت إليه مرتفعة عنه تقلص ظله رويدا رويدا إلى أن تصير الأشعة مسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظلمه تماما أو يكاد يزول، وهذا المعنى قوله تعالى {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي غير متزايد لأنه لما كان مد الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتداد اسم السكون بأن يلازم مقدارا واحدا لا ينقص ولا يزيد، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سمت واحد تجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة.
ودلت مقابلة قوله {مَدَّ الظِّلَّ} بقوله {لَجَعَلَهُ سَاكِناً} على حالة مطوية من الكلام، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس الى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة "وكانت الأرض خالية، وعلى وجه القمر ظلمة" ثم قال "وقال الله ليكن نور فكان نور...". وفصل الله بين النور والظلمة "إصحاح واحد من سفر الخروج"، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة.
وجملة {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} معترضة للتذكير بأن في الظل منة.
وقوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطف على جملة {مَدَّ الظِّلَّ} وأفادت {ثُمَّ} أن مدلول المعطوب بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن {ثُمَّ} إذا عطفت الجملة. ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتبارا، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبب، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلا على مقادير امتداده. ولم
(19/64)

يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحا شافيا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله {ثُمَّ جَعَلْنَا} لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ارتقاء في المنة.
والدليل: المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثل صوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سببا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل، بطريقة التشبيه البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
وتعدية {دَلِيلاً} بحرف "على" تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر:
إلا عليّ دليل1.
وشمل هذا حالتي المد والقبض.
وجملة {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} الخ عطف على جملة {مَدَّ الظِّلَّ} ، أو على جملة {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلا على الظل.
و {ثُمَّ} الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي، لأن مضمون جملة {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون {جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ، إذ في قبض دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عمل ضد للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.
والقبض: ضد المد فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله {إِلَيْنَا} تخييل، شبه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف "إلى" ومجروره تخييل.
ـــــــ
1 أوله:
إلى الله أشكو أنني لست ماشيًا
...
ولا جائيًا إلى علىّ دليل
أي: رقيب يدل عليَّ.
(19/65)

وموقع وصف القبض بيسير هنا أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلا لقبضه لأن العمل المجزأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبا، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفا، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.
وتعدية القبض بـ {إِلَيْنَا} لأنه ضد المد الذي أسند إلى الله في قوله {مَدَّ الظِّلَّ} . وقد علم من معنى {قَبَضْنَاهُ} أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.
وفي مد الظل وقبضه نعمة معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظل، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.
هذا محل العبرة والمنة اللتين تتناولهما عقول الناس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركة الأرض حول الشمس وظهور الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فأن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدما، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظل في هذه الآية مع المنة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربهم يوم البعث مصيرا لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلا لمصير الناس إلى الله بالبعث وصف القبض بيسير تلميحا إلى قوله {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44].
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.
فهذان المحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية.
[47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} .
(19/66)

مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظل والضحاء إلى الاعتبار بأحوال الليل والنهار ظاهرة فالليل يشبه الظل في أنه ظلمة تعقب نور الشمس.
ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جزأي الجملة وهو قصر إفراد، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار. أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يقرون به؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة.
و {لَكُمُ} متعلق بـ {جَعَلَ} أي من جملة ما خلق له الليل أنه يكون لباسا لكم. وهذا لا يقتضي أن الليل عود الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ...} الخ.
وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات.
و {لِبَاساً} مشبه به على طريقة التشبيه البليغ، أي ساترا لكم يستر بعضكم عن بعض، وفي هذا الستر منن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها.
وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم، بخلاف قوله {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} في سورة [النبأ: 8 - 10]، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد.
وقد جمعت الآية استدلالا وامتنانا فهي دليل على عظم قدرة الخالق، وهي أيضا تذكير بنعمه، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمة لما يدل عليه حصول الظلمة من دقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس، ولما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون.
والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع.
(19/67)

وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى. وفسر الزمخشري السبات بالنوم على طريقة التشبيه البليغ ناظرا في ذلك إلى مقابلته بقوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} .
وإعادة فعل {جَعَلَ} في قوله {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} دون أن يعاد في قوله {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعل مخالف لجعل الليل لباسا. وذلك أنه أخبر عنه بقوله {نُشُوراً} ، والنشور: بعث الأموات، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه، بتقريبه بالهبوب في النهار. وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح "الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور".
والنشور: الحياة بعد الموت، وتقدم قريبا عند قوله تعالى {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان: 40]. وهو هنا يحتمل عنيين أن يكون مرادا به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} فيكون الإخبار به عن النهار حقيقيا، والمنة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم. ويحتمل أن يكون مرادا به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ.
[48 - 50] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} .
استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحبة والمطر. ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرياح من النشور بذكر وصفها بأنها نشر على قرأه الجمهور، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم. ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالا لا دعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} الخ...
وأطلق على تكوين الرياح فعل {أَرْسَلَ} الذي هو حقيقته في بعث شيء وتوجيهه، لأن حركة الرياح تشبه السير. وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق.
وهذا استدلال بدقيق خلق الله في تكوين الرياح، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت
(19/68)

مشاهدتهم من ذلك، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها، وذلك ناشىء عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر. ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكون الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها: نشر بين يدي المطر.
قرأ الجمهور {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} بصيغة الجمع. وقرأ ابن كثير {الرِّيحُ} بصيغة الإفراد على معنى الجنس. والقرأتان متحدتان في المعنى، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير وإفراد الريح في ريح العذاب قاله ابن عطية. وتقدم في قوله تعالى {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {بُشْراً} بنون في أوله وبضمتين جمع نشور كرسول ورسل. وقرأ ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي لأن الرياح تنشر السحاب. وقرأ عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بشور من التبشير لأنها تبشر بالمطر. وتقدم قوله {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في سورة [الأعراف: 57].
والالتفات من الغيبة إلى المتكلم في قوله {وَأَنْزَلْنَا - لِنُحْيِيَ - وَنُسْقِيَهُ - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} للداعي الذي قدمناه في قوله آنفا {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45 - 46].
والمراد بـ {رَحْمَتِهِ} المطر لأنه رحمة للناس والحيوان بما ينبته من الشجر والمرعى.
وجملة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} عطف على جملة {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} الخ، فهي داخلة في حيز القصر، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهور. وضمير {وَأَنْزَلْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلم لأن التكلم أليق بمقام الامتنان. وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة [البقرة: 19].
والطهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال: رجل صبور. وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقا. والمعنى: أن الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مطهر لغيره إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فعول لزيادة معنى في الوصف، فاقتضاؤه في
(19/69)

هذه الآية أنه مطهر لغيره اقتضاء التزامي ليكون مستكملا وصف الطهارة القاصرة والمتعدية، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجا لمنة في أثناء المنن المقصودة، كقوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وصف الطهارة الذاتية وتطهيره، فيكون هذا الوصف إدماجا ولولا ذلك لكان الأحق بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك.
والبلدة: الأرض. ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي وجفاف الأرض يجف به النبات فيشبه الميت.
ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض لأنه لخلوه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحا بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت.
والبلدة: البلد. والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا: دار ودارة. ووصفت البلدة بميت، وهو وصف مذكر لتأويل {بَلْدَةً} بمعنى مكان لقصد التخفيف. وقال في "الكشاف" ما معناه: إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جاريا على أمثلة المبالغة نزل منزلة الاسم الجاد "أي فلم يغير". وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ.
وفي قوله {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} إيماء إلى تقريب إمكان البعث.
{وَنُسْقِيَهُ} بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال: أسقى وسقى. قال تعالى {قَالَتَا لا نَسْقِي} [القصص: 23] بفتح النون. وقيل: سقى: أعطى الشراب، وأسقى: هيأ الماء للشرب. وهذا القول أسد لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب.
و {أَنْعَاماً} مفعول ثان لـ {وَنُسْقِيَهُ} . وقوله {مِمَّا خَلَقْنَا} حال من {أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ} . و"من" تبعيضية. و"ما" موصولة، أي بعض ماخلقناه، والموصول للإيماء إلى علة الخبر، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات. ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه. وفيه إشارة إلى أن أنواعا أخرى من الخلائق تسقى بماء السماء، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة؛ فالأنعام بها صلاح حال البادين
(19/70)

بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران.
والأناسي: جمع إنسي، وهو مرادف إنسان. فالياء فيه ليست للنسب. وجمع على فعالي مثل كرسي وكراسي. ولو كانت ياؤه نسب لجمع على أناسية كما قالوا: صيرفي وصيارفة. ووصف الأناسي بـ {كَثِيراً} لأن بعض الأناسي لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات، والآبار والصهاريج، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء. فالمنة أخص بهم، قال زيادة الحارثي1:
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى
...
لأنفسنا من دون مملكة قصرا2
وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه السلام قال أبو هريرة "فتلك أمكم يا بني ماء السماء" يعني العرب. وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار.
ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلا قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: 86].
وتقديم ذكر الأنعام على الأناسي اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} ، ولو قدم ذكر {أناسيَّ} لتفكك النظم. ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} في سورة [النازعات: 33] لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب.
وضمير {صَرَّفْنَاهُ} عائد إلى {مَاءً طَهُوراً} . والتصريف: التغيير. والمراد هنا تغيير أحوال الماء، أي مقاديره ومواقعه.
وتوكيد الجملة بلام القسم و"قد" لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو ان من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم، لأن كثير من الناس لا يقدر قدر النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الرب الواحد المختار في خلق
ـــــــ
1 هو من قضاعة، إسلامي مات قتيلاً في خلافة معاوية، قتله هُدية بن خثرم.
2 المملكة: التملك، أي العزة، وهي بفتح الميم واللام، والقصر: الغاية.
(19/71)

الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية.
ولما كن التذكر شاملا لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون، جيء في التعليل بفعل {لِيَذَّكَّرُوا} ليكون علة لحالتي التصريف بينهم.
وقوله {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} تركيب جرى بمادته وهيئته مجرى المثل في الإخبار عن تصميمي المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأن الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمور وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكفور وإن لم يكن هنالك عرض ولا إباء، ومنه قوله تعالى في سورة براءة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ؛ ألا ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد في سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام. وشدة الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يستعمل في قوله تعالى في سورة [الصف: 8] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} .
والكفور: مصدر بمعنى الكفر. وتقديم نظير في سورة الإسراء، أي أبوا إلا الإشراك بالله وعدم التذكر.
وقرأ الجمهور {لِيَذَّكَّرُوا} بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاء وأصله ليتذكروا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة، أي ليذكروا ما هم عنه غافلون.
ويؤخذ من الآية أن الماء المنزل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القطر، فعن ابن عباس: ما عام أقل مطرا من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء. وتلا هذه الآية. وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال: "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" اهـ. فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه. وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير.
(19/72)

وجوز فريق أن يكون ضمير {صَرَّفْنَاهُ} عائدا إلى غير مذكور معلوم في المقام مراد به القرآن؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره، وتكرر في قوله {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} . وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء. ولقوله بعده {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} .
وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذكروا.
[51 - 52] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} .
جملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخلق وذكر منته على الخلق. ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعها بموقع الآية التي قبلها خفية. وقال ابن عطية في قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} : اقتضاب يدل عليه ما ذكر. تقديره: ولكنا أفردناك بالنذارة وحملناك {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} اهـ.
فإن كان عنى بقوله: اقتضاب، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقل منه والكلام المنتقل إليه، كان عدولا عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها، وليس الخلو عن المناسبة ببدع فقد قال صاحب "تلخيص المفتاح" "وقد ينقل منه "أي مما شبب به الكلام" إلى ما لا يلائمه "أي لا يناسب المنتقل منه" ويسمى الاقتضاب وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين" الخ. وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع "أي الحذف من الكلام" أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله "يدل عليه ما ذكر تقديره الخ"، كان لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها.
وفي الكشاف: "ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جمع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيا ينذرها، وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك على سائر الرسل "أي بعموم الدعوة" فقابل ذلك بالتصبر" اهـ. وقد قال الطيبي: "ومدار السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يثبت عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1].
وليس في كلام "الكشاف" والطيبي إلا بيان مناسبة الآية لمهم أغراض السورة دون
(19/73)

بيان مناسبتها للتي قبلها.
والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الآية، فيعد أن بين إبطال طعنهم فقال {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه السلام وكيف استأصل الله من كذبوه، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى تحرج النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} .
وتسلسل الكلام بضرب المثل بمد الظل وقبضه، وبحال الليل والنهار، وبإرسال الرياح. أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموت حتى انتهى إلى قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} .
ومما يزيد هذه الآية اتصالا بقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أن بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشد من تنزيل القرآن مجزأ؛ فلو بعث الله في كل قرية نذيرا لقال الذين كفروا: لو لا أرسل رسول واحد إلى الناس جميعا فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} في سورة [حم فصلت: 44].
وتفريع {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} على جملة {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} لأنها تتضمن أنه مرسل إلى المشركين من أهل مكة وهم يطلبون منه الكف عن دعوتهم وعن تنقص أصنامهم.
والنهي مستعمل في التحذير والتذكير، وفعل {تُطِعِ} في سياق النهي يفيد عموم التحذير من أدنى طاعة.
والطاعة: عمل المرء بما يطلب منه، أي فلا تهن في الدعوة رعيا لرغبتهم أن تلين لهم.
وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها. وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة. وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير، أي الجامع لكل مجاهدة.
(19/74)

وضمير {بِهِ} عائد إلى غير مذكور: فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النذارة، وإما أن يعود إلى المفهوم من {َلا تُطِعِ} وهو الثبات على دعوته بأن يعصيهم، فإن النهي عن الشيء أمر بضده كما دل قول أبي حية النميري:
فقلن لها سرا فديناك لا يرح
...
صحيحا وإن لم تقتليه فألمم
فقابل قوله "لا يرح صحيحا" بقوله "وإن لم تقتليه فألمم" كأنه قال: فديناك فاقتليه.
والمعنى: قاومهم بصبرك. وكبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدة ما يلقاه في ذلك من المشقة. وهذا كقول النبي صلى الله عليه سلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا "وما الجهاد الأكبر"? - قال مجاهدة العبد هواه". رواه البيهقي بسند ضعيف.
[53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} .
عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا وتثبيتا ووعدا، فصريحها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين: أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج. وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات والشرك بالملح الأجاج، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج، وكذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران: 111]. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك.
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان: 52] أكمل حسن. وهي معطوفة على جملة {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة. ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين .
(19/75)

والمزج: الخلط. واستعير هنا لشدة المجاورة، والقرينة قوله {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} . والبحر: الماء المستبحر، أي الكثير العظيم. والعذاب: الحلو. والفرات: شديد الحلاوة. والملح بكسر الميم وصف به بمعنى الملح، ولا يقال في الفصيح إلا ملح وأما مالح فقليل. وأريد هنا ملتقى ماء نهري الفرات والدجلة مع ماء بحر خليج العجم.
والبرزخ: الحائل بين شيئين. والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذب فيه بحيث لا يخلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظا لطعمه عند المصب.
و {حِجْراً} مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول {جَعَلَ} . وليس هنا مستعملا في التعوذ كالذي تقدم آنفا في قوله تعالى {حِجْراً مَحْجُوراً} . و {مَحْجُوراً} وصف لـ {حِجْراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل. وقد تقدم في هذه السورة. ووقع في الكشاف تكلف بجعل {حِجْراً مَحْجُوراً} هنا بمعنى التعوذ كالذي في قوله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال {حِجْراً مَحْجُوراً} في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك.
[54] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} .
مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع. ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلق منه البشر العظيم، فالتنوين في قوله {بَشَراً} للتعظيم.
والقصر المستفاد من تعريف الجزئين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية.
والبشر: الإنسان. وقد تقدم في قوله تعالى {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} في [سورة مريم: 17]. والضمير المنصوب في {فَجَعَلَهُ} عائد إلى البشر، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسبا وصهرا، أي قسم الله البشر قسمين نسب، وصهر. فالواو للتقسيم بمعنى "أو" والواو أجود من "أو" في التقسيم.
(19/76)

و {نَسَباً وَصِهْراً} مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير: ذا نسب وصهر وشاع وذلك في الكلام.
والنسب لا يخلو من أبوة وبنوة وأخوة لأولئك وبنوة لتلك الأخوة.
وأما الصهر فهو: اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضا مصاهرة لأنه يكون من وجتهين، وهو آصره اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال: صاهر فلان فلانا إذا تزوج من قرابته ولو قرابة بعيدة كقرابة القبيلة. وهذا لا يخلوا عنه البشر المتزوج وغير المتزوج.
ويطلق الصهر على من له مع الآخرة علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو ختن لها أو حم. ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدا. وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله {وكان ربك قديرا} ، أي عظيم القدرة إذ أوجد من هذا الماء خلقا عظيما صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
وفي تركيب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له متصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل كَانَ}، وما في صيغة {قَدِير} من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم.
[55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} .
الواو للحال، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك، وأعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عودا إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة.
(19/77)

ونفي الضر بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عبدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهدة.
والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم.
وجملة {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} تذييل لما قبله، فاللام في تعريف {الْكَافِرُ} للاستغراق، أي على كل كافر على ربه ظهير.
وجعل الخبر عن الكافر خبرا لـ {كَانَ} للدلالة على إن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر.
والظهير: المظاهر، أي المعين، وتقدم في قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} في [سورة الإسراء: 88] وهو فعيل بمعنى مفاعل، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى محكم، وعوين بمعنى معاون. وقول عمر بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع.
أي المسمع. قال في الكشاف "ومجيء فعيل بمعنى مفاعل غير عزيز". وهو مشتق من: ظاهر عليه، إذا أعان من يغالبه على غلبه، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المعاون أحدا على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يحمل على ظهر الحامل، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق. وفي ذكر الرب تعريض بأن الكافر عاق لمولاه. وعن أبي عبيدة: ظهير بمعنى مظهور، أي كفر الكافر هين على الله، يعني أي فعيلا فيه بمعنى مفعول، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون {عَلَى} متعلقا بفعل {كَانَ} أي كان على الله هينا.
[56 - 57] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
لما أفضى الكلام بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى
(19/78)

الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة. وهذا الكلام الوارد في الرد عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضل ولكنه مبشرا ونذير. وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك.
والأجر: العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء.
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجرا لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعل في صورة الاستثناء، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وبعبارة أتقن تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان: منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعا عن المستثنى منه أصلا كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
...
بهن فلول من قراع الكتائب
فإن فلول سيفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجرا على الإطلاق في قوله {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. فقوله تعالى {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجرا إذ التقدير: إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا، وذلك هو اتباع دين الإسلام. ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. وقد يسمون هذا الاستثناء الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك.
والسبيل: الطريق. واتخاذ السبيل تقدم آنفا في قوله {لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27]. وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا
(19/79)

كقوله تعلى {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} .
وذكر وصف الرب دون الاسم العلم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلا كان آبقا.
[58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} .
عطف على جملة {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم.
والتوكل: الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل، أي المتولي مهمات غيره، وقد تقدم في قوله {فإذا عزمت فتوكل على الله} في [آل عمران: 159].
و {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} هو الله تعالى. وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في {الْحَيِّ} للكامل، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام. وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.
وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحيانا لكنه لا يدوم.
وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية أي إذا أهمك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله.
والباء في {بِحَمْدِهِ} للمصاحبة، أي سبحه تسبيحا مصاحبا للثناء عليه بما هو أهله. فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدما التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم دليل على الخصوصية.
وجملة {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} اعتراض في آخر الكلام، فيفيد معنى التذييل
(19/80)

لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام. ففي "ذنوب عباده" عمومان عموم ذنوبهم كلها لإفادة الجمع المضاف عموم إفراد المضاف، وعموم الناس لإضافة "عباد" إلى ضمير الجلالة، أي جميع عباده، مع ما في صيغة "خبير" من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث. والكفاية: الإجزاء، وفي فعل {وَكَفَى} لإفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه.
والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل. وقد كثر دخول باء التأكيد بعد فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله، وتقدم في قوله تعالى {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} في [سورة الإسراء: 14]. و {خَبِيراً} حال من ضمير {بِهِ} أي كفى به من حيث الخبرة.
والعلم بالذنوب كناية عن لازمه وهو أن يجازيهم عن ذنوبهم، والشرك جامع الذنوب. وفي الكلام أيضا تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم.
[59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
أجريت هذه الصلة وصفا ثانيا لـ {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد، فصاحبها حقيق بأن يتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه. وهذا تخلص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق.
وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سورة البقرة، وعلى الاستواء في سورة الأعراف.
و {الرَّحْمانِ} خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمان. وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها، ثم يراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه، فإن وصف الرحمان أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف.
وفرع على وصفه بـ {الرَّحْمانِ} قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على
(19/81)

عليم بتصاريف رحمته مجرب لها متلق أحاديثها ممن علمها وجربها.
وتنكير {خَبِيراً} للدلالة على العموم، فلا يظن خبيرا معينا، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل اقتضت عموما بدليل أي خبير سألته أعلمك.
وهذا يجري مجرى المثل، ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب "على الخبير سقطت" يقولها العارف بالشيء إذا سئل عنه. والمثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثل القرآني أفصح لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في "سقطت". وهو أيضا أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم: على الخبير سقطت، لأنها إنما يقولها الواحد المعين. وقريب من معنى {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} قول النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي
...
إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
إلى قوله:
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم
...
وليس جاهل شيء مثل من علما
والباء في {بِهِ} بمعنى "عن" أي فأسأل عنه كقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
...
خبير بأدواء النساء طبيب
ويجوز أن تكون الباء متعلقة بـ {خَبِيراً} وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام، فله سببان.
[60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} .
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمن مع صفات أخر استطرد ذكر كفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم "الرحمان" هو من وضع القرآن ولم يكن معهودا للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مسيلمة:
سموت بالمجد يابن الأكرمين أبا
...
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصدا بالتورك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جاريا على
(19/82)

مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمان. وفي ذلك نزل قوله تعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقد تقدم في آخر [سورة الإسراء: 110]. وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء.
والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم.
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مرادا هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يسلموا. ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قال: "فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" الخ. ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها.
وواو العطف في قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمن، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} . و {مَا} من قوله {وَمَا الرَّحْمَنُ} استفهامية.
والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون "من" باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم.
والاستفهام في {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن {مَا} نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت {مَا} موصولة. وحذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما أتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنية انفراد الله دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43]، أي فيأبون، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]. ويدل على ذلك قوله {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فالنفور من السجود سابق قبل سماع
(19/83)

اسم الرحمن.
وقرأ الجمهور {تَأْمُرُنَا} بتاء الخطاب. وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافهون به النبي صلى الله عليه وسلم.
والضمير المستتر في {زَادَهُمْ} عائد إلى القول المأخوذ من {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} . والنفور: الفرار من الشيء. وأطلق هنا على لازمه وهو البعد. وإسناد زيادة النفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بعدا من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} .
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق. ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمن، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي صلى الله عليه وسلم هنا مخالفا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} الآيات الثلاث. وسن الرسول عليه السلام السجود في هذا الموضع.
[61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} .
استئناف ابتدائي جعل تمهيدا لقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة، وافتتحت كل دعامة منها بـ {تَبَارَكَ الَّذِي...} الخ كما تقدم في صدر السورة. وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع. وتقدم {تَبَارَكَ} أول السورة وفي قوله {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في [الأعراف: 54].
والبروج: منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في أول [سورة الحجر: 16].
والامتنان بها لأن الناس يوقتون بها أزمانهم.
وقرأ الجمهور {سِرَاجاً} بصيغة المفرد. والسراج: الشمس كقوله {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} في [سورة نوح: 16]. ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
(19/84)

اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً....} [الفرقان: 62]
وقرأ حمزة والكسائي {سِرَاجاً} بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم، فيكون امتنانا بحسن منظرها للناس كقوله { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج: المصباح الزاهر الضياء. والمقصود: أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر.
ودلالة خلق البروج والشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها.
[62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} .
الاستدلال هذا بما في الليل والنهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور، وبرد وحر، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47]، فهذه دلالة أخرى والحكم في المخلوقات كثيرة.
والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافيا فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} إلى قوله {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 45 - 47].
والخلفة بكسر الخاء وسكون اللام: اسم لما يخلف غيره في بعض ما يصلح له. صيغ هذا الاسم على زنة فعلة لأنه في الأصل ذو خلفة، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسما، قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة
...
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا. فالمعنى: جعل الليل خلفة
(19/85)

والنهار خلفة: أي كل واحد منهما خلفة عن الآخر، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر.
واللام في {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} لام التعليل وهي متعلقة بـ {جَعَلَ} ، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
والتذكر: تفعل من الذكر، أي تكلف الذكر. والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين، وجاء بمعنى: تذكر فائت أو منسي، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر.
والشكور: بضم الشين مصدر مرادف الشكر، والشكر: عرفان إحسان المحسن. والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى.
فتفيد الآية معنى: لينظر في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لابد لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى: ليتدارك الناسي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوما فقيل له: صنعت شيئا لم تكن تصنعه ? فقال: إنه بقى علي من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} الآية. ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكرا له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.
وجيء في جانب المتذكرين بقوله {أَنْ يَذَّكَّرَ} لدلالة المضارع على التجدد. واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} لأن الشكر يحصل دفعة. ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل {أَرَادَ} إذ لا يلتئم عطف {شُكُوراً} على {أَنْ يَذَّكَّرَ} .
وقرأ الجمهور {أَنْ يَذَّكَّرَ} بتشديد الذال مفتوحة، وأصله: يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما. وقرأ حمزة وخلف {أَنْ يَذَّكَّرَ} بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى
(19/86)

المشدد إلا أن المشدد أشد عملا، وكلا العملين يستدركان في الليل والنهار.
[63] {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} .
عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} الخ، فهو مبتدأ وخبره {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} الخ. وقيل: الخبر {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]. والجملة المعطوف عليها جملة {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] الخ. فبمناسبة ذكر من أراد أن يذكر تخلص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها. وهذا من أبدع التخلص إذ كان مفاجئا للسامع مطمعا أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يفاجئه ما يؤذن بالختام وهو {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان: 77] الآية.
والمراد بـ {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.
وإذ قد أجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة، علم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاء وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عباده، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسم الرحمان لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ. قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]. فإذا جعل المراد من {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبر في قوله {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] استئنافا لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.
وإذا كان المراد من {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتا لـ {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وكان الخبر اسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} الخ.
وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمن وزادهم نفورا هم على الضد من تلك المحامد، تعريضا تشعر به إضافة {عِبَادُ} إلى {الرَّحْمَنِ} .
(19/87)

واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جاءت على أربعة أقسام: قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى قوله {سَلاماً} [الفرقان: 75].
وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان: 68].
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64]، وقوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] الآية، وقوله {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} إلى قوله {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 68 - 72] الخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} إلى قوله {لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74].
وظاهر قوله {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} أنه مدح لمشية بالأرجل وهو الذي حمل عليه جمهور المفسرين.
وجوز الزجاج أن يكون قوله {يَمْشُونَ} عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعبر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد بن أسلم كما سيأتي. فعلى الوجه الأول يكون تقييد المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهون ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختيارا وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.
والهون: اللين والرفق. ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره "مشياً" فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهون: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفق النعال فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوتهم. وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له "إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله". وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فاقصد من مشيتك، وحكى الله تعالى عن لقمان لابنه {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء: 37].
(19/88)

والتخلق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة فالهون يناسب ماهيتها وفيه سلامة من صدم المارين.
وعن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: {هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض} . فهذا رأي لزيد بن أسلم ألهمه يجعل معنى {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} وأن الهون مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.
وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هونا بوصف آخر يناسب التواضع وكراهية التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، ولذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.
وانتصب {سَلاماً} على المفعولية المطلقة. وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمة مثل الكافرين لأن هذا الوصف يشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.
و"السلام" يجوز أن يكون مصدرا بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شر فنحن مسلمون منكم. ويجوز أن يكون مرادا به لفظ التحية فيكون مستعملا في لازمه وهو المتاركة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحية أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم الإهاجة، والتأمين: أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامه، فتكون الآية في معنى قوله {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
قال ابن عطية: وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوم بحضرة المأمون1 وعنده جماعة: كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له: من أنت? فكان يقول: علي بن أبي
ـــــــ
1 لأن المأمون كان متشيعًا للعلويين.
(19/89)

طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها أقول: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه، قال المأمون: وبماذا جاوبك? قال: فكان يقول لي: سلاما. قال الراوي: فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمون على الآية من حضره وقال: هو والله يا عم علي بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخزي إبراهيم واستحيا. ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى. ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها.
[64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} .
عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حد قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام
...
وليث الكتيبة في المزدحم
وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يعرفون بهذه الصلة، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمن. روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} قال: هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} قال: هذا وصف ليلهم.
والقيام: جمع قائم كالصحاب، والسجود والقيام ركنا الصلاة، فالمعنى: يبتون يصلون، فوق إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويها بكليهما. وتقديم {سُجَّداً} على {قِيَاماً} للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} .
[65 - 66] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب: إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات.
وجملة {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين. ويجوز أن
(19/90)

تكون من كلام الله تعالى معرضة بين اسمي الموصول، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم.
والغرام: الهلاك الملح الدائم، وغلب إطلاقه على الشر المستمر.
وجملة {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلا ثانيا مؤكدا لتعليلهم الأول، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأيدا لتعليل القائلين. وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريرا للاعتراض.
والمستقر: مكان الاستقرار. والاستقرار: قوة القرار. والمقام: اسم مكان الإقامة، أي ساءت موضعا لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم.
[67] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
أفاد قوله {إِذَا أَنْفَقُوا} أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال: والذين ينفقون وإذا أنفقوا الخ. وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذم الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يحمد مطلقا بله أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله {إِذَا أَنْفَقُوا} إشعارا بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجبا عليهم.
والإسراف: تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفق عليه. وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} في [سورة النساء: 6]، وقوله {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في [سورة الأنعام: 141].
والإقتار عكسه. وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويغلون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر. وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر مادحا:
مفيد ومتلاف إذا ما أتيته
...
تهلل واهتز اهتزاز المهند
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {وَلَمْ يَقْتُرُوا} بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقتار وهو مرادف التقتير. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر
(19/91)

من باب ضرب وهو لغة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصر.
والإقتار والقتر: الإحجاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفق عليه. وكان أهل الجاهلية يقترون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك. وقد تقدم ذلك عند قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180].
والإشارة في قوله {بَيْنَ ذَلِكَ} إلى ما تقدم بتأويل المذكور، أي الإسراف والإقتار.
والقوام بفتح القاف: العدل والقصد بين الطرفين.
والمعنى أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساك المال فيحرم من يستأهله.
وقوله {بَيْنَ ذَلِكَ} خبر {كَانَ} ، و {قَوَاماً} حال مؤكدة لمعنى {بَيْنَ ذَلِكَ} . وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عوج فيه. ويجوز أن يكون {قَوَاماً} خبر {كَانَ} و {بَيْنَ ذَلِكَ} ظرفا متعلقا به. وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس. قال القرطبي: والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك.
[68 - 69] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}
هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمن وهو قسم التخلي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين.
ووصف النفس بـ {الَّتِي حَرَّمَ اللَّه} بيانا لحرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما
(19/92)

حكى الله من محاورة ولد آدم بقوله {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} . وكان قتل النفس متفشيا في العرب بالعداوات والغارات وبالوأد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغيرة، كما قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
...
علي حراصا لو يسرون مقتلي
وقال عنترة:
علقتها عرضا وأقتل قومها
...
زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
وقوله {إِلَّا بِالْحَقِّ} المراد به يومئذ: قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة. ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود. ومضى الكلام على الزنى في سورة سبحان.
وقد جُمع التخلي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في ذكر خصال تحليهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يدعوا مع الله إلها آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقا بالشرك وذلك قتل النفس والزنى. فجل ذلك شبيه خصلة واحدة، وجعل في صلة موصول واحد.
وقد يكون تكرير {لا} مجزئا عن إعادة اسم الموصول وكافيا في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب، ويؤيده ما في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله ابن مسعود قال: قتل يا رسول الله أي الذنب أكبر?: قال أن تدعو لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي? قال: أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك. قلت ثم أي? قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تعالى تصديقا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وإلى {أَثَاماً} ، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 68 - 70] قيل نزلت بالمدينة.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور كما تقدم في نظيره آنفا، والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث ويعلم أن جزاء ما يفعل بعضها ويترك بعضا عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأن البعض أيضا مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلق أثاما لأن لقي الآثام بين هنا
(19/93)

بمضاعفة العذاب والخلود فيه. وقد نهضت أدلة متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود، مما يقتضي تأويل ظواهر الآية.
ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته، أي يعذب عذابا شديدا وليست لتكرير عذاب مقدر.
والأثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوبال والنكال، وهو أشد من الإثم، أي يجازى على ذلك سوءا لأنها آثام.
وجملة {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} بدل اشتمال من {يَلْقَ أَثَاماً} ، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابل للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عماد الجملة. وجعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود.
فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذب على كل جرم مما ذكر عذابا مناسبا ولا يكتفي بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك، تنبيها على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد، وذلك أن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها. وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يعنون خطاب المؤاخذة على ما نهوا عن ارتكابه، وليس المراد أنهم يطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصاحبات بدون الإيمان، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الإتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله.
وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك.
وقوله {مُهَاناً} حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة، أي يعذب ويهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر.
وقرأ الجمهور {يُضَاعِفُ} بألف بعد الضاد وبجزم الفعل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {يُضَّعِفْ} بتشديد العين وبالجزم. وقرأه ابن عامر وأبو بكر بن عاصم {يُضَاعِفُ} بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني.
[70] {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
الاستثناء من العموم الذي أفادته {مَنْ} الشرطية في قوله {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} .
(19/94)

والتقدير: إلا من تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلها آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناء زائد.
وفي صحيح مسلم: عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية، والمعنى: أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذابا غير مضاعف وغير مخلد فيه، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده، إلا بقرينة.
والتوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فرط، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب، وإذ كان فيما سبق ذكر الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخذة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث الإسلام يجب ما قبله ، ولذلك فعطف {وَآمَنَ} على {مَنْ تَابَ} للتنويه بالإيمان، وليبنى عليه قوله {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} وهو شرائع الإسلام تحريضا على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في [سورة البلد: 17] {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، وقال في عكسه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39].
وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان، والإسلام يجب ما قبله بلا خلاف، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمنا متعمدا. ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمن فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حق وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة. وقد تقدم ذلك مفصلا في [سورة النساء: 93] عند قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} الآية.
وفرع عن الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عملا صالحا إنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن {مَنْ تَابَ} مستثنى من {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} فتعين أن السيئات المضافة إليهم هي
(19/95)

السيئات المعروفة، أي التي تقدم ذكرها الواقعة منهم في زمن شركهم.
والتبديل: جعل شيء بدلا عن شيء آخر، وتقدم عند قوله تعالى {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} في [سورة الأعراف: 95]، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضا عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملا وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثواب حسنات أضداد تلك السيئات، وهذا الفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين.
وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله {فَأُولَئِكَ} المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي فأولئك التائبون المؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب. ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله، ولذلك عقب هذا بقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} المقتضي أنه عظيم المغفرة.
[71] {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} إذا وقع الإخبار 'ن شيء أو توصيف له أو حالة منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعين أن يكون الخبر الثاني مستعملا في شيء من لوازم معنى الإخبار يبينه المقام، كقول أبي الطمحان لقيني1:
وإني من القوم الذين هم هم
وقول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري
وقول النبي صلى الله عليه وسلم" من رآني في المنام فقد رآني". فقوله تعالى هنا {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعين أن يصرف إلى معنى مفيد، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله {إِلَى اللَّهِ} فيكون كناية عن عظيم ثوابه.
ويجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد، أي فإنه يستمر
ـــــــ
1 الطحان بطاء مهملة فميم مفتوحة فحاء مهملة, واسمه حنظلة, شاعر إسلامي
(19/96)

على توبته ولا يرتد على عقبيه فيكون وعدا من الله تعالى أن يثبته على القول الثابت إذا كان قد تاب وأيد توبته بالعمل الصالح.
ويجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد، أي من تاب وعمل صالحا فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة لله على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه فيكون قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8]. وذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة.
والتوكيد بـ"إن" على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر.
[72] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، والتخلق بفضائله، ومجانبة أحوال أهل الشرك. وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا {والذين لا يشهدون الزور} الآية.
وفعل "شهد" يستعمل بمعنى "حضر" وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26].
والزور: الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب. وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولا به لـ {يَشْهَدُونَ} . وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان: 68]. وفي معنى هذه الآية قوله في [سورة الأنعام: 68] {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ويجوز أن يكون فعل {يَشْهَدُونَ} بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوبا على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولا مطلقا لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حق.
(19/97)

وقوله {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} مناسب لكلا الجملتين.
واللغو: الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه. وتقدم في قوله تعالى {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} في [سورة مريم: 62]. ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.
ومعنى {مَرُّوا كِرَاماً} أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة.
والكرامة: النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة. وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]. وقال بعض شعراء حمير في "الحماسة":
ولا يخيم اللقاء فارسهم
...
حتى يشق الصفوف من كرمه
أي شجاعته، وقال تعالى {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب: 44].
وإذا مر أهل المروءة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، وهذا ثناء على المؤمنين بترفعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} [الأنعام: 70]، وقوله {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
وإعادة فعل {مروا} لبناء الحال عليه، وذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط
...
تخشى بوادره على الأقران
ومنه قوله تعالى {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] كما ذكره ابن جني في "شرح مشكل أبيات الحماسة"، وقد تقدم عند قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة 7].
[73] {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} .
(19/98)

أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذكروا بآيات الله خروا صما وعميانا كحال من لا يحب أن يرى شيئا فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث أن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخر إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول.
ومنه استعارة القعود للتخلف عن القتال، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به.
ويجوز أن يكون الخرور واقعا منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوسا في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجوا قوما من طيء، أنشده المبرد:
إذا ما قيل أيهم لأي
...
تشابهت المناكب والرؤوس
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى في [سورة نوح: 7] {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} . وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} في [سورة الإسراء: 107]، وقوله {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، وقوله {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} في [سورة الأعراف: 143].
و {صُمّاً وَعُمْيَاناً} حالان من ضمير {يَخِرُّوا} ، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخرون كالصم والعميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصر منها مما يذكرون به. فالنفي على هذا منصب إلى الفعل وإلا قيده، وهو استعمال كثير في الكلام. وهذا الوجه أوجه.
ويجوز أن يكون توجه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالب وهو مختار صاحب الكشاف، فالمعنى: لم يخرو عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرون عليها سامعين مبصرين فيكون الخرور مستعارا للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال: أكب على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون
(19/99)

عن الآيات ومع ذلك يخرون على تلقيها تظاهرا منهم بالحرص على ذلك. وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرض بهم منافقين وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يعرضون عن تلقي الدعوة علنا، قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقال {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
[74] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} .
هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يعنون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدعون الله أن يرزقهم أزواجا وذريات تقر بهم أعينهم، فالأزواج يطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين، والذريات إذا نشأوا نشأوا مؤمنين، وقد جمع ذلك لهم في صفة {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} . فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقر عيون المؤمنين إلا بأزواج وأبناء مؤمنين وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وقال {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] الآية. فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيها حظ لنفوسهم بقرة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم، كما في قول عبد الله بن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة فدعا له المسلمون ولمن معه أن يردهم الله سالمين فقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
...
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
...
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
...
أرشدك الله من غاز وقد رشدا
فإن في قوله: حتى يقولوا، حظا لنفسه من حسن الذكر وان كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظ ديني أيضا، وقوله: وقد رشد، حسن ذكر محض. في كتاب الجامع من "جامع العتبية" من أحاديث ابن وهب قال: رأيت رجلا يسأل ربيعة يقول: أني لأحب أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه كره في قوله ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. وقال ابن رشد في شرحه: وهذا خلاف قول مالك في رسم
(19/100)

العقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة: إنه لا بأس بذلك إذا كان أوله لله "أي القصد الأول من العمل لله". وقال ابن رشد في موضع آخر من شرحه قال الله تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، وقال {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]. وقال الشاطبي في الموافقات: عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سره مرأى الناس له على الخير فيقول: إنك لمراء. وليس كذلك إنما هو أمر يقع في قبله لا يملك اهـ.
وفي المعيار عن كتاب سراج المريدين لأبي بكر بن العربي قال: سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] ما بينوا? قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات.
قال الشاطبي: وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة. وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط يصير العمل أخف عليه بسبب هذه الأغراض. وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأن مجال النظر يلفت إلى انفكاك القصدين، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه لما جاء في الأدلة على ذلك، إلى آخره.
و {مِنْ} في قوله {مِنْ أَزْوَاجِنَا} للابتداء، أي اجعل لنا قرة أعين تنشأ من أزواجنا وذرياتنا.
وقرأ الجمهور {وَذُرِّيَّاتِنَا} جمع ذرية، والجمع على الطوائف من الذين يدعون بذلك، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و {ذُرِّيَّاتِنَا} بدون ألف بعد التحتية، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير {الَّذِينَ يَقُولُونَ} ، أي ذرية كل واحد.
والأعين: هي أعين الداعين، أي قرة أعين لنا. وإذ قد كان الدعاء صادرا منهم جميعا اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم.
وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قدوة يقتدي بها المتقون. وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغا أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمون به الكمال فيه. وهذا يقتضي أيضا أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول
(19/101)

في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواستطهم.
والإمام أصله: المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله قال النابغة:
أبوه قبله وأبو أبيه
...
بنوا مجد الحياة إلى إمام
وأطلق الإمام على القدوة تشبيها بالمثال والقالب، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة. وقد تقدم في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} في [سورة البقرة: 124]. ووقع الإخبار بـ {إِمَاماً} وهو مفرد على ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماما يقتدى به، فالكلام على التوزيع، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ، وقيل إمام جمع، مثل هجان وصيام ومفرده: إم.
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}
التصدير باسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعده كانوا أحرياء به لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة. وتلك مجموع إحدى عشرة خصلة وهي: التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف، وترك الإقتار، والتنزه عن الشرك، وترك الزنا، وترك قتل النفس، والتوبة، وترك الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول دعوة الحق، وإظهار الاحتياج إلى الله بالدعاء،. واسم الإشارة هو الخبر عن قوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} كما تقدم على أرجح الوجهين.
و {الْغُرْفَةَ} : البيت المعتلي يصعد إليه بدرج وهو أعز منزلا من البيت الأرضي، والتعريف في الغرفة تعريف الجنس فيستوي فيه المفرد والجمع مثل قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} فالمعنى: يجزون الغرف، أي من الجنة، قال تعالى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}
والباء للسببية، و"ما" مصدرية في قوله {بِمَا صَبَرُوا} ، أي بصبرهم وهو صبرهم على ما لقوا من المشركين من أذى، وصبرهم على كبح شهواتهم لأجل إقامة شرائع الإسلام، وصبرهم على مشقة الطاعات.
وقرأ الجمهور {وَيُلَقَّوْنَ} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف المفتوحة مضارع
(19/102)

لقاه إذا جعله لاقيا. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {وَيُلَقَّوْنَ} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف المفتوحة مضارع لقي. واللقي واللقاء: استقبال شيء ومصادفته، وتقدم في قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في [سورة البقرة: 223]، وفي قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} في [سورة الأنفال: 15]، وتقدم قريبا قوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68].
وقد استعير اللقي لسماع التحية والسلام، أي أنهم يسمعون ذلك في الجنة من غير أن يدخلوا على بأس أو يدخل عليهم بأس بل هم مصادفون تحية إكرام وثناء مثل تحيات العظماء والملوك التي يرتلها الشعراء المنشدون.
ويجوز أن يكون إطلاق اللقي إسماع ألفاظ التحية والسلام لأجل الإيماء إلى أنهم يسمعون التحية من الملائكة يلقونهم بها، فهو مجاز بالحذف قال تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} في [سورة الأنبياء: 103].
وقوله {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} هو ضد مقيل في المشركين {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66]. والتحية تقدمت في قوله {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} في [سورة النساء: 86]، وفي قوله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} في [سورة يونس: 10]، وقوله {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} في آخر [النور: 61].
[77] {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} .
لما استوعبت السورة أغراض التنويه بالرسالة والقرآن، وما تضمنته من توحيد الله، ومن صفة كبرياء المعاندين وتعللاتهم، وأحوال المؤمنين، وأقيمت الحجج الدامغة للمعرضين، ختمت بأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يخاطب المشركين بكلمة جامعة يزال بها غرورهم وإعجابهم بأنفسهم وحسبانهم أنهم قد شفوا غليلهم من الرسول بالإعراض عن دعوته وتوركهم في مجادلته؛ فبين لهم حقارتهم عند الله تعالى وأنه ما بعث إليهم رسوله وخاطبهم بكتابه إلا رحمة منه بهم لإصلاح خالهم وقطعا لعذرهم فإذ كذبوا فسوف يحل بهم العذاب.
و {مَا} من قوله {مَا يَعْبَأُ} نافية. وتركيب: ما يعبأ به، يدل على التحقير وضده عبأ به يفيد الحفاوة.
(19/103)

ومعنى {مَا يَعْبَأُ} : ما يبالي وما يهتم، وهو مضارع عبأ مثل: ملأ يملأ مشتق من العبء بكسر العين وهو الحمل بكسر الحاء وسكون الميم، أي الشيء الثقيل الذي يحمل على البعير ولذلك يطلق العبء على العدل بكسر فسكون، ثم تشعبت عن هذا إطلاقات كثيرة. فأصل {مَا يَعْبَأُ} : ما يحمل عبئا، تمثيلا بحالة المتعب من الشيء، فصار المقصود: ما يهتم وما يكترث، وهو كناية عن قلة العناية.
والباء فيه للسببية، أي بسببكم وهو على حذف مضاف يدل عليه مقام الكلام. فالتقدير هنا: ما يعبأ بخطابكم.
والدعاء: الدعوة إلى شيء، وهو هنا مضاف إلى مفعوله، والفاعل يدل عليه {رَبِّي} أي لولا دعاؤه إياكم، أي لولا أنه يدعوكم. وحذف متعلق الدعاء لظهوره من قوله {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} ، أي الداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتعين أن الدعاء الدعوة إلى الإسلام. والمعنى: أن الله لا يلحقه من ذلك انتفاع ولا اعتزاز بكم. وهذا كقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
وضمير الخطاب في قوله {دُعَاؤُكُمْ} موجه إلى المشركين بدليل تفريغ {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} عليه وهو تهديد لهم، أي فقد كذبتم الداعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير هو الذي يقتضيه المعنى، ويؤيده قول مجاهد والكلبي والفراء. وقد فسر بعض المفسرين الدعاء بالعبادة فجعلوا الخطاب موجها إلى المسلمين فترتب على ذلك التفسير تكلفات وقد أغنى عن التعرض إليها اعتماد المعنى الصحيح فمن شاء فلينظرها بتأمل ليعلم أنها لا داعي إليها.
وتفريع {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} على قوله {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} ، والتقدير: فقد دعاكم إلى الإسلام فكذبتم الذي دعاكم على لسانه.
والضمير في {يَكُونُ} عائدا إلى التكذيب المأخوذ من {كَذَّبْتُمْ} ، أي سوف يكون تكذيبهم لزاما لكم، أي لازما لا انفكاك لكم منه. وهذا تهديد بعواقب التكذيب تهديدا مهولا بما فيه من الإبهام كما تقول للجاني: قد جعلت كذا فسوف تتحمل ما فعلت. ودخل في هذا الوعيد ما يحل بهم في الدنيا من قتل وأسر وهزيمة وما يحل بهم في الآخرة من العذاب.
واللزام: مصدر لازم، وقد صيغ على زنة المفاعلة لإفادة اللزوم، أي عدم المفارقة،
(19/104)

قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً} في [سورة طه: 129]. والضمير المستتر في {كَانَ} عائدا إلى عذاب الآخرة في قوله {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] فالإخبار باللزام من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة. وقد اجتمع فيه مبالغتان: مبالغة في صيغته تفيد قوة لزومه، ومبالغة في الإخبار به تفيد تحقيق ثبوت الوصف.
وعن ابن مسعود وأبي بن كعب: اللزام: عذاب يوم بدر. ومرادهما بذلك أنه جزئي من جزيئات اللزام الموعود لهم. ولعل ذلك شاع حتى صار اللزام كالعلم بالغلبة على يوم بدر. وفي الصحيح عن ابن مسعود: خمس قد مضين: الخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام، يعني أن اللزام غير عذاب الآخرة.
(19/105)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
اشتهرت عند السلف بسورة الشعراء لأنها تفردت من بين سور القرآن بذكر كلمة الشعراء. وكذلك جاءت تسميتها في كتب السنة. وتسمى أيضا سورة طسم.
وفي "أحكام ابن العربي" أنها تسمى أيضا الجامعة، ونسبه أبن كثير والسيوطي في الإتقان إلى تفسير مالك المروي عنه1. ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف. ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية.
وهي مكية، فقيل جميعها مكي، وهو المروي عن ابن الزبير. ورواية عن ابن عباس ونسبه ابن عطية إلى الجمهور. وروي عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] إلى آخر السورة نزل بالمدينة لذكر شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وابن رواحة وكعب بن مالك وهم المعني بقوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] الآية. ولعل هذه الآية هي التي أقدمت هؤلاء على القول بأن تلك الآيات مدنية. وعن الداني قال: نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] في شاعرين تهاجيا في الجاهلية.
وأقول: كان شعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم منهم النضر بن الحارث، والعوراء بنت حرب زوج أبي لهب ونحوهما، وهم المراد بآيات {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} . وكان شعراء المدينة قد أسلموا قبل الهجرة وكان في مكة شعراء مسلمون من الذين هاجروا إلى الحبشة كما سيأتي.
وعن مقاتل: أن قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}
ـــــــ
1 تفسير مالك بن أنس, ذكره عياض في "المدارك" والداودي في "طبقات المفسرين".
(19/106)

[الشعراء: 197] نزل بالمدينة. وكان الذي دعاه إلى ذلك أن مخالطة علماء بني إسرائيل كانت بعد الهجرة. ولا يخفى أن الحجة لا تتوقف على وقوع مخالطة علماء بني إسرائيل؛ فقد ذكر القرآن مثل هذه الحجة في آيات نزلت بمكة، من ذلك قوله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} في [سورة الرعد: 43] وهي مكية، وقوله {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} في [سورة القصص: 52] وهي مكية، وقوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} في [سورة العنكبوت: 47] وهي مكية. وشأن علماء بني إسرائيل مشهور بمكة وكان لأهل مكة صلات مع اليهود بالمدينة ومراجعة بينهم في شأن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} في[سورة الإسراء: 85]، ولذا فالذي نوقن به أن السورة كلها مكية.
وهي السورة السابعة والأربعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الواقعة وقبل سورة النمل. وسيأتي في تفسير قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} ما يقتضي أن تلك الآية نزلت قبل نزول سورة أبي لهب وتعرضنا لإمكان الجمع بين الأقوال.
وقد جعل أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة عدد آيها مائتين وستا وعشرين، وجعله أهل الشام وأهل الكوفة مائتين وسبعا وعشرين.
الأغراض التي اشتملت عليها
أولها التنويه بالقرآن، والتعريض بعجزهم عن معارضته، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من إعراض قومه عن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن.
وفي ضمنه تهديدهم على تعرضهم لغضب الله تعالى، وضرب المثل لهم بما حل بالأمم المكذبة رسلها والمعرضة عن آيات الله.
وأحسب أنها نزلت إثر طلب المشركين أن يأتيهم الرسول بخوارق، فافتتحت بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له ورباطة لجأشه بأن ما يلاقيه من قومه هو سنة الرسل من قبله مع أقوامهم مثل موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب؛ ولذلك ختم كل استدلال جيء به على المشركين المكذبين بتذييل واحد هو قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 190 - 191] تسجيلا عليهم بأن آيات الوحدانية وصدق الرسل عديدة كافية لمن يتطلب الحق ولكن أكثر المشركين لا يؤمنون وأن الله عزيز قادر على أن ينزل بهم العذاب وأنه رحيم برسله فناصرهم على أعدائهم.
(19/107)

قال في "الكشاف": كل قصة من القصص المذكورة في هذه السورة كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار ما في غيرها فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تختم بما اختتمت به صاحبتها، ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأبعد من النسيان، ولأن هذه القصص طرقت بها إذان وقرت عن الإنصات للحق فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا أو يفتق ذهنا اهـ.
ثم التنويه بالقرآن، وشهادة أهل الكتاب له، والرد على مطاعنهم في القرآن وجعله عضين، وأنه منزه عن أن يكون شعرا ومن أقوال الشياطين، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته، وأن الرسول ما عليه إلا البلاغ، وما تخلل ذلك من دلائل .
[1] {طسم} .
يأتي في تفسيره من التأويلات ما سبق ذكره في جميع الحروف المقطعة في أوائل السور في معان متماثلة. وأظهر تلك المعاني أن المقصود التعريض بإلهاب نفوس المنكرين لمعارضة بعض سور القرآن بالإتيان بمثله في بلاغته وفصاحته وتحديهم بذلك والتورك عليهم بعجزهم عن ذلك.
وعن ابن عباس: أن {طسم} قسم، وهو اسم من أسماء الله تعالى، والمقسم عليه قوله {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} [الشعراء: 4]. فقال القرظي: أقسم الله بطوله وسنائه وملكه. وقيل الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى ذي الطول، القدوس، الملك. وقد علمت في أول سورة البقرة أنها حروف للتهجي واستقصاء في التحدي يعجزهم عن معرضة القرآن، وعليه تظهر مناسبة تعقيبه بآياته {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 2].
والجمهور قرأوا {طسم} كلمة واحدة، وأدغموا النون من سين في الميم وقرأ حمزة بإظهار النون. وقرأ أبو جعفر حروفا مفككة، وقالوا وكذلك هي مرسومة في مصحف ابن مسعود حروفا مفككة "طَ سَ مَ".
والقول في عدم مد اسم "طا" مع إن أصله مهموز الآخرة لأنه لما كان قد عرض له سكون السكت حذفته همزته كما تحذف للوقوف، كما في عدم مد "رَا" في "آلر" في [سورة يونس: 1].
(19/108)

[2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} .
الإشارة إلى الحاضر في الأذهان من آيات القرآن المنزل من قبل، وبينه الإخبار عن اسم الإشارة بأنها آيات الكتاب.
ومعنى الإشارة إلى آيات القرآن قصد التحدي بأجزائه تفصيلا كما قصد التحدي بجميعه إجمالا. والمعنى: هذه آيات القرآن تقرأ عليكم وهي بلغتكم وحروف هجائها فأتوا بسورة من مثلها ودونكموها. والكاف المتصلة باسم الإشارة للخطاب وهو خطاب لغير معين من كل متأهل لهذا التحدي من بلغائهم.
و {الْمُبِينِ} الظاهر، وهو من أبان مرادف بان، أي تلك آيات الكتاب الواضح كونه من عند الله لما فيه من المعاني العظيمة والنظم المعجز، وإذا كان الكتاب مبينا كانت آياته المشتمل عليها آيان مبينة على صدق الرسل بها.
ويجوز أن يكون {الْمُبِينِ} من أبان المتعدي، أي الذي يبين ما فيه من معاني الهدى والحق وهذا من استعمال اللفظ في معنييه كالمشترك.
والمعنى: أن ما بلغكم وتلي عليكم هو آيات القرآن المبين، أي البين صدقه ودلالته على صدق ما جاء به ما لا يجحده إلا مكابر.
[3] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
حول الخطاب من توجيهه إلى المعاندين إلى توجيهه للرسول عليه الصلاة والسلام. والكلام استئناف بياني جوابا عما يثيره مضمون قوله {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} من تساؤل النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه عن استمرار إعراض المشركين عن الإيمان وتصديق القرآن كما قال تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، وقوله {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].
و {لَعَلَّ} إذا جاءت في ترجي الشيء المخوف سميت إشفاقا وتوقعا. وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر وأنه ليس بإنشاء مثل التمني.
والترجي مستعمل في الطلب. والأظهر أنه حث على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاث على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم.
(19/109)

والباخع: القاتل. وحقيقة البخع إعماق الذبح. يقال: بخع الشاة، قال الزمخشري: إذا بلغ السكن البخاع بالموحدة المكسورة وهو عرق مستبطن الفقار، كذا قال في الكشاف هنا وذكره أيضا في "الفائق". وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} في [سورة الكهف: 6]. وهو هنا مستعار للموت السريع، والإخبار عنه بـ {بَاخِعٌ} تشبيه بليغ. وفي {بَاخِعٌ} ضمير المخاطب هو الفاعل.
و {أَنْ لا يَكُونُوا} في موضع نصب على نزع الخافض بعد {أَنْ} والخافض لام التعليل، والتقدير: لأن لا يكونوا مؤمنين، أي لانتفاء إيمانهم في المستقبل، لأن {أَنْ} تخلص المضارع للاستقبال. والمعنى: أن غمك من عدم إيمانهم فيما مضى يوشك أن يوقعك في الهلاك في المستقبل بتكرر الغم والحزن، كقول إخوة يوسف لأبيهم لما قال {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] فقالوا {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]؛ فوزان هذا المعنى وزان معنى قوله في [سورة الكهف: 6] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، فإن "إن" الشرطية تتعلق بالمستقبل. ويجوز أن يجعل {أن لا يكونوا} في موضع الفاعل لـ {باخع} والجملة خبر {لعل} . وإسناد {باخع} إلى {أن لا يكونوا مؤمنين} مجاز عقلي لأن عدم إيمانهم جعل سبيل للبخع.
وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له.
وحذف متعلق {مُؤْمِنِينَ} ، إما لأن المراد مؤمنين بما جئت به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللقبي، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام. وضمير {أَنْ لا يَكُونُوا} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذي دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وعدل عن: أن لا يؤمنوا، إلى {أَنْ لا يَكُونُوا} لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع، فتأكد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له. وقد جاء في سورة الكهف {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} بحرف نفي الماضي وهو "لم" لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حد المأيوس منه.
وضمير {يَكُونُوا} عائد إلى معلوم من مقام التحدي الحاصل بقوله {طسم تِلْكَ
(19/110)

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} للعلم بأن المتحدين هم الكافرون المكذبون.
[4] {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} .
استئناف بياني ناشئ عن قوله {أَنَّ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالا عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا، كما قال موسى {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، فأجيب بأن الله قادر على ذلك فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى.
ومفعول {نَشَأْ} محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول المشيئة. والتقدير: إن نشأ تنزيل آية ملجئة ننزلها.
وجيء بحرف {إِنْ} الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضيت أن لا يشاءه.
ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدأ ظهوره، فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديدا محسوسا بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب. وهذا من معنى قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35]، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن.
وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشد تخويفا لقلة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه. فإن قلت: لماذا لم يرهم آية كما أرى بنو إسرائيل نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة ? قلت: كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260].
وفرع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} بفاء التعقيب.
(19/111)

وعطف {فَظَلَّتْ} وهو ماض على المضارع قوله {نُنَزِّلْ} لأن المعطوف عليه جواب شرط، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال؛ ألا ترى أنه لو قيل: إن شئنا نزلنا أو إن نشأ نزلنا لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارعية والماضوية، على إن المعطوفات يتسع فيها ما لا يتسع في المعطوف عليها لقاعدة: أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من مغني اللبيب، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز، وهي هنا أمران: التفنن بين الصيغتين، وتقريب زمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتم ذلك سريعا حتى يخيل لهم من سرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال {فَظَلَّتْ} ولم يقل: فتظل. وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]. وكلاهما للتهديد، ونظيره لقصد التشويق: قد قامت الصلاة.
والخضوع: التطامن والتواضع. ويستعمل في الانقياد مجازا لأن الانقياد من أسباب الخضوع. وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلة بحال الخاضعين الذين يتقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم.
والأعناق: جمع عنق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة، وهو مؤنث. وقيل: المضموم النون مؤنث والساكن النون مذكر.
ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى:
"كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا"
...
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
فأسند الفرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخفية. ومنه قوله تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] وإنما سحروا الناس سحرا ناشئا عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم، مع ما يزيد به قوله "فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ" من الإشارة إلى تمثيل حالهم، ومقتضى الظاهر: فظلوا لها خاضعين بأعناقهم.
(19/112)

وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله {خَاضِعِينَ} على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد {خَاضِعِينَ} إلى {أَعْنَاقُهُمْ} لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها: خاضعة، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل. وعن مجاهد: أن الأعناق هنا جمع عنق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم، أي فظلت سادتهم، يعني الذين أغروهم بالكفر خاضعين، فيكون الكلام تهديدا لزعمائهم الذين زينوا لهم الاستمرار على الكفر، وهو تفسير ضعيف. وعن ابن زيد والأخفش: الأعناق الجماعات واحدها عنق بضمتين جماعة الناس، أي فظلوا خاضعين جماعات جماعات، وهذا أضعف من سابقه.
ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه التأويل. وهذا من موضوعات دعاة المسودة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق، والقرآن أجل من أن يتعرض لهذه السفاسف.
وقر أ الجمهور {نُنَزِّلْ} بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الأولى وتخفيف الزاي.
[5] {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} .
عطف على جملة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] أي هذه شنشنتهم فلا تأسف لعدم إيمانهم بآيات الكتاب المبين، وما يجيئهم منها من بعد فسيعرضون عنه لأنهم عرفوا بالإعراض.
والمضارع هنا لإفادة التجدد والاستمرار. فالذكر هو القرآن لأنه تذكير للناس بالأدلة. وقد تقدم وجه تسميته ذكرا عند قوله تعالى {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} في [سورة الحجر: 6].
والمحدث: الجديد، أي من ذكر بعد ذكر يذكرهم بما أنزل من القرآن من قبله فالمعنى المستفاد من وصفه بالمحدث غير المعنى المستفاد من إسناد صيغة المضارع في قوله {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} . فأفاد الأمران أنه ذكر متجدد مستمر وأن بعضه يعقب بعضا ويؤيده. وقد تقدم في [سورة الأنبياء: 2 - 3] قوله {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
(19/113)

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} .
وذكر اسم الرحمان هنا دون وصف الرب كما في سورة الأنبياء لأن السياق هنا لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على إعراض قومه فكان في وصف مؤتي الذكر بالرحمان تشنيع لحال المعرضين وتعريض لغباوتهم أن يعرضوا عما هو رحمة لهم، فإذا كانوا لا يدركون صلاحهم فلا تذهب نفسك حسرات على قوم أضاعوا نفعهم وأنت قد أرشدتهم إليه وذكرتهم كما قال المثل: "لا يحزنك دم هراقه أهله" وقال النابغة:
فإن تغلب شقاوتكم عليكم
...
فإني في صلاحكم سعيت
وفي الإتيان بفعل {كَانُوا} وخبره دون أن يقال: إلا أعرضوا، إفادة أن إعراضهم راسخ فيهم وأنه قديم مستمر إذ أخبر عنهم قبل ذلك بقوله {أَنَّ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، فانتفاء كون إيمانهم واقعا هو إعراض منهم عن دعوة الرسول التي طريقها الذكر بالقرآن فإذا أتاهم ذكر بعد الذكر الذي لم يؤمنوا بسببه وجدهم على إعراضهم القديم.
و {مِنْ} في قوله {مِنْ ذِكْرِ} مؤكدة لعموم نفي الأحوال.
و {مِنْ} التي في قوله {مِنَ الرَّحْمَنِ} ابتدائية.
والاستثناء من أحوال عامة فجملة {كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} في موضع الحال من ضمير {يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} . وتقدم المجرور لرعاية الفاصلة.
[6] {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
فاء {فَقَدْ كَذَّبُوا} فصيحة، أي فقد تبين أن إعراضهم إعراض تكذيب بعد الإخبار بأن سنتهم الإعراض عن الذكر الآتي بعضه عقب بعض فإن الإعراض كان لأنهم قد كذبوا بالقرآن. وأما الفاء في قوله {فَسَيَأْتِيهِمْ} فلتعقيب الإخبار بالوعيد بعد الإخبار بالتكذيب.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر عن الحدث العظيم، وتقدم عند قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في [سورة الأنعام: 34].
والأنباء: ظهور صدقها، وليس المراد الإتيان هنا البلوغ كالذي في قوله {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21] لأن بلوغ الأنباء قد وقع فلا يحكى بعلامة الاستقبال في قوله:
(19/114)

{فَسَيَأْتِيهِمْ} .
و {مَا} في قوله {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يجوز أن تكون موصولة فيجوز أن يكون ما صدقها القرآن وذلك كقوله تعالى {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} . وجيء في صلته بفعل {يَسْتَهْزِئُونَ} دون {يَكْذِبُونَ} لتحصل فائدة الإخبار عنهم بأنهم كذبوا به وأستهزأوا به، وتكون الباء في {بِهِ} لتعدية فعل {يَسْتَهْزِئُونَ} ، والضمير المجرور عائدا إلى {مَا} الموصولة، وأنباؤه أخباره بالوعيد. ويجوز ان يكون ما صدق {مَا} جنس ما عرفوا باستهزائهم به وهو التوعد، كانوا يقولون: متى هذا الوعد ? ونحو ذلك.
وإضافة {أَنْبَاءُ} إلى {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} على هذا إضافة بيانية، أي ما كانوا به يستهزئون الذي هو أنباء ما سيحل بهم.
وجمع الأنباء على هذا باعتبار أنهم استهزأوا بأشياء كثيرة منها البعث، ومنها العذاب في الدنيا، ومنها نصر المسلمين عليهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ومنها فتح مكة، ومنها عذاب جهنم، وشجرة الزقوم، وكان أبو جهل يقول: زقمونا، استهزاء.
ويجوز كون {مَا} مصدرية، أي أنباء كون استهزائهم، أي حصوله، وضمير {بِهِ} عائدا إلى معلوم من المقام، وهو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمراد بأنباء استهزائهم أنباء جزائه وعاقبته وهو ما توعدهم به القرآن في غير ما آية.
والقول في إقحام فعل {كَانُوا} هنا كالقول في إقحامه في قوله آنفا {كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ولكن أوثر الإتيان بالفعل المضارع وهو {يَسْتَهْزِئُونَ} دون اسم الفاعل كالذي في قوله {كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} لأن الاستهزاء يتجدد عند تجدد وعيدهم بالعذاب، وأما الإعراض فمتمكن منهم.
ومعنى {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} على الوجه الأول أن يكون الإتيان بمعنى التحقق كما في قوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي تحقق، أي سوف تتحقق أخبار الوعيد الذي توعدهم به القرآن الذي كانوا يستهزئون به.
وعلى الوجه اثاني سوف تبلغهم أخبار استهزائهم بالقرآن، أي أخبار العقاب على ذلك. وأوثر إفراد فعل "يأتيهم" مع أن فاعله جمع تكسير لغير مذكر حقيقي يجوز تأنيثه
(19/115)

لأن الإفراد أخف في الكلام لكثرة دورانه.
[7 - 9] {َوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
الواو عاطفة على جملة: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]؛ فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظًا لأن للاستفهام الصدارة، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات، والآيات على صحة ما يدعوهم إلى القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السموات والأرض وهم قد عَموا عنها فأشركوا بالله، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وكون القرآن منزلاً من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذُكِّروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، وقال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] أي عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان.
فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله أن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلاَّ عن واحد لا شريك له. وهذا دليل من طريق العقل، ودليل أيضًا على إمكان البعث لأن الإنبات بعد الجفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم كما قال تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33]. وهذا دليل تقريبي للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما: أصل الإشراك بالله، وأصل إنكار البعث.
والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلة بينة لكل من يراه فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك. والمقصود: إنكار عدم الاستدلال به.
وجملة: {كَمْ أَنبَتْنَا} بدل اشتمال من جملة {يَرَوْا} فهي مصب الإنكال. وقوله: {إِلَى الْأَرْضِ} متعلق بفعل {يَرَوْا} ، أي ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم.
و {كَمْ} اسم دال على الكثرة، وهي هنا خبرية منصوبة بـ {أَنبَتْنَا} . والتقدير: أنبتنا فيها كثيرًا من كل زوج كريم.
(19/116)

و {مِن} تبعيضية. ومورد التكثير الذي أفادته {كَمْ} هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة، ومورد الشمول المفاد من {كُلِّ} هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع. واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز {كَمْ} لأنه قد عُلم من التبعيض.
والزوج: النوع، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد: [3]، وتقدم قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} في طه [53].
والكريم: النفيس من نوعه قال تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الأنفال [4]، وتقدم عند قوله تعالى: {مَرُّوا كِرَاماً} في سورة الفرقان [72]. وهذا من إدماج الامتنان في ضمن الاستدلال لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيره. ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاءٌ بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال. وأيضًا فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذ وأشهر لأنه يبتدئ بطلب المنفعة منها والإعجاب بها فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغيبون فيه.
والمشار إليه بـ {ذَلِكَ} هو المذكور من الأرض، وإنبات الله الأزواج فيها، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة.
والتأكيد بحرف {إِنَّ} لتنزيل المتحدث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها، وإفراد "آية" لإرادة الجنس، أو لأن في المذكور عدة أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع.
وجملة {وما كان أكثرهم مؤمنين} عطف على جملة {إن في ذلك لآية} إخبار عنهم بأنهم مصرون على الكفر بعد هذا الدليل الواضح، وضمير {أكثرهم} عائد إلى معلوم من المقام كما عاد الضمير الذي في قوله {أن يكونوا مؤمنين} ، وهم مشركو أهل مكة وهذا تحد لهم كقوله {ولن تفعلوا} .
وأسند نفي الإيمان إلى أكثرهم لأن قليلا منهم يؤمنون حينئذ أو بعد ذلك.
و {كان} هنا مقحمة للتأكيد على رأي سيبويه والمحققين.
(19/117)

وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تذييل لهذا الخبر: بوصف الله بالعزة، أي تمام القدرة فتعلمون أنه لو شاء لعجل لهم العقاب، وبوصف الرحمة إيماء إلى أن في إمهالهم رحمة بهم لعلهم يشكرون، ورحيم بك. قال تعالى {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ} [الكهف: 58]. وفي وصف الرحمة إيماء إلى إنه يرحم رسله بتأييده ونصره.
واعلم أن هذا الاستدلال لما كان عقليا اقتصر عليه ولم يكرر بغيره من نوع الأدلة العقلية كما كررت الدلائل الحاصلة من العبرة بأحوال الأمم من قوله {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} إلى آخر قصة أصحاب ليكة.
[10، 11] {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} .
شروع في عد آيات على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر عواقب المكذبين برسلهم ليحذر المخاطبون بالدعوة إلى الإسلام من أن يصيبهم ما أصاب المكذبين. وفي ضمن ذلك تبيين لبعض ما نادى به الرسل من البراهين.
وإذ قد كانت هذه الأدلة من المثلات قصد ذكر كثير أشتهر منها ولم يقتصر على حادثة واحدة لأن الأدلة غير العقلية يتطرقها احتمال عدم الملازمة بأن يكون ما أصاب قوما من أولئك على وجه الصدفة والاتفاق فإذا تبين تكرر أمثالها ضعف احتمال الاتفاقية، لأن قياس التمثيل لا يفيد القطع إلا بانضمام مقومات له من تواتر وتكرر.
وإنما ابتدئ بذكر قصة موسى ثم قصة إبراهيم على خلاف ترتيب حكاية القصص الغالب في القرآن من جعلها على ترتيب سبقها في الزمان، لعله لأن السورة نزلت للرد على المشركين في إلحاحهم على إظهار آيات من خوارق العادات في الكائنات زاعمين أنهم لا يؤمنون إلا إذا جاءتهم آية؛ فضرب لهم المثل بمكابرة فرعون وقومه في آيات موسى إذ قالوا {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وعطف {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} عطف جملة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ} بتمامها.
ويكون {إِذْ} اسم زمان منصوبا بفعل محذوف تقديره: واذكر إذ نادى ربك موسى على طريقة قوله في القصة التي بعدها {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} . وفي هذا المقدر تذكير للرسول عليه الصلاة والسلام بما يسليه عما يلقاه من قومه.
(19/118)

ونداء الله موسى الوحي إليه بكلام سمعه من غير واسطة ملك.
وجملة {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تفسير لجملة {نَادَى} ، و {أَنْ} تفسيرية. والمقصود من سوق هذه القصة هو الموعظة بعاقبة المكذبين وذلك عند قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} إلى قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [63 - 68]. وأما ما تقدم ذلك من قوله {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} الخ فهو تفصيل لأسباب الموعظة بذكر دعوة موسى إلى ما أمر بإبلاغه وإعراض فرعون وقومه وما عقب ذلك إلى الخاتمة.
واستحضار قوم فرعون بوصفهم بالقوم الظالمين إيماء إلى علة الإرسال. وفي هذا الإجمال توجيه نفس موسى لترقب تعيين هؤلاء القوم بما يبينه، وإثارة لغضب موسى عليهم حتى ينضم داعي غضبه عليهم إلى داعي امتثال أمر الله الباعثه إليهم، وذلك أوقع لكلامه في نفوسهم. وفيه إيماء إلى أنهم اشتهروا بالظلم.
ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البيان من القوم الظالمين وهو قوله {قوم فرعون} ، وفي تكرير كلمة {قوم} موقع من التأكيد فلم يقل: ائت قوم فرعون الظالمين، كقول جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
...
لا يلفينكم في سوأة عمر
والظلم يعم أنواعه، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة، ومنها ظلمهم الناس حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم، وتقدم استعماله في المعنيين مرارا في ضد العدل {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} في البقرة، وبمعنى الشرك في قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} في الأنعام.
واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدئ به نداء موسى مما هو في سورة طه بقوله {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} إلى قوله {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتعاظ بعاقبتهم. وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربه ورسالته معا فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير.
والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم. وهذا إيجاز يبينه قوله {فَأْتِيَا
(19/119)

فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] إلى آخره.
وجملة {أَلا يَتَّقُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصفهم بالظالمين كان الكلام مثيرا لسؤال في نفس موسى عن مدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقيه تكذيبهم بدون مفاجئة، فيكون {أَلا} من قوله {أَلا يَتَّقُونَ} مركبا من حرفين همزة الاستفهام و"لا" النافية. والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم، وتعجيب موسى من ذلك، فإن موسى كان مطلعا على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد علم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتل أنبياء بني إسرائيل
ويجوز أن يكون {أَلا} كلمة واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة {أَلا يَتَّقُونَ} بيانا لجملة {ائْتِ} والمعنى: قل لهم: ألا تتقون. فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها. وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فإن جملة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} مفسرة لجملة {أَمَرْتَنِي}. وإنما أمره الله أن يعبدوا الله رب موسى وربهم فحكى ما أمره الله به بالمعنى. وهذا العرض نظير قوله في [سورة النازعات: 18] {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} .
والاتقاء: الخوف والحذر، وحذف متعلق فعل {يَتَّقُونَ} لظهور أن المراد: ألا يتقون عواقب ظلمهم. وتقدم في قوله تعالى {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} في [سورة الأنفال: 56].
ويعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى.
وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} في [البقرة: 51]. وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في [الأعراف: 103].
[12 - 14] {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
افتتاح مراجعته بنداء الله بوصف الرب مضافا إليه تحنين واستسلام. وإنما خاف أن
(19/120)

يكذبوه لعلمه بأن مثل هذه الرسالة لا يتلقاها المرسل إليهم إلا بالتكذيب، وجعل نفسه خائفا من التكذيب لأنه لما خلعت عليه الرسالة عن الله وقر في صدره الحرص على نجاح رسالته فكان تكذيبه فيها مخوفا منه.
{وَيَضِيقُ صَدْرِي} قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على {فَأَخَافُ} أو تكون الواو للحال فتكون حالا مقدرة، أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم.
والضيق: ضد السعة، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر. وقد تقدم عند قوله تعالى {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] وقوله {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في [سورة هود: 12]. والمعنى: أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين، وفي ذلك الإعداد تكلف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحا للصدر، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25].
والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب. واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلال، وعطفه على {يَضِيقُ صَدْرِي} ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحس كأن صدره قد امتلأ والشأن أن ذلك ينقص شيئا بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين فإذا كانت في لسانه حبسة وعي بقيت الخواطر متلجلجة في صدره. والمعنى: ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني.
وقرأ الجمهور {يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ} مرفوعين عطفا على {أَخَافُ} ولذلك حققه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة، وإذ قد كان انحباس لسانه يقينا عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا {يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ} معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب، ولم يكونا معطوفين على {يَكْذِبُونَ} المخوف منه المتوقع على ان كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع.
(19/121)

وقرأ يعقوب {يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ} بنصب الفعلين عطفا على {يَكْذِبُونَ} ، أي يتوقع أن يضيق صدره ولا ينطلق لسانه، قيل كانت بموسى حبسة في لسانه إذا تكلم. وقد تقدم في سورة طه وسيجيء في سورة الزخرف. وليس القصد من هذا الكلام التنصل من الاضطلاع بهذا التكليف العظيم ولكن القصد تمهيد ما فرعه عليه من طلب تشريك أخيه هارون معه لأنه أقدر منه على الاستدلال والخطابة كما قال في الآية الأخرى {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} [القصص: 34]. فقوله هنا {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} مجمل يبينه ما في الاية الأخرى فيعلم أن في الكلام هنا إيجازا. وأنه ليس المراد: فأرسل إلى هارون عوضا عني.
وإنما سأل الله الإرسال إلى هارون ولم يسأله أن يكلم هارون كما كلمه هو لأن هارون كان بعيدا عن مكان المناجاة. والمعنى: فأرسل ملكا بالوحي إلى هارون أن يكون معي.
وقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} تعريض بسؤال النصر والتأييد وأن يكفيه شر عدوه حتى يؤدي ما عهد الله إليه على أكمل وجه. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر "اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض" .
والذنب: الجرم ومخالفة الواجب في قوانينهم. وأطلق الذنب على المؤاخذة فإن الذي لهم عليه هو حق المطالبة بدم القتيل الذي وكزه موسى فقضى عليه، وتوعده القبط إن ظفروا به ليقتلوه فخرج من مصر خائفا وكان ذلك سبب توجهه إلى بلاد مدين. وسماه ذنبا بحسب ما في شرع القبط فإنه لم يكن يومئذ شرع إلهي في أحكام قتل النفس. ويصح أن يكون سماه ذنبا لأن قتل أحد في غير قصاص ولا دفاع عن نفس المدافع يعتبر جرما في قوانين جماعات البشر من عهد قتل أحد ابني آدم أخاه، وقد قال في [سورة القصص: 15 - 16] {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . وأياما كان فهو جعله ذنبا لهم عليه.
وقوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ليس هلعا وفرقا من الموت فإنه لما أصبح في مقام الرسالة ما كان بالذي يبالي أن يموت في سبيل الله؛ ولكنه خشي العائق من إتمام ما عهد إليه مما فيه له ثواب جزيل ودرجة عليا.
وحذفت ياء المتكلم من {يَقْتُلُونِ} للرعاية على الفاصلة كما تقدم في قوله تعالى {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في سورة البقرة: [40].
(19/122)

وذكر هارون تقدم عند قوله تعالى {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} في سورة البقرة: [248].
[15 - 17] {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} .
{كَلَّا} حرف إبطال. وتقدم في قوله تعالى {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} في [سورة مريم: 79]. والإبطال لقوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، أي لا يقتلونك. وفي هذا الإبطال استجابة لما تضمنه التعريض بالدعاء حين قال {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
وقوله {فَاذْهَبَا بِآياتِنَا} تفريع على مفاد كلمة {كَلَّا} . والأمر لموسى أن يذهب هو وهارون يقتضي أن موسى مأمور بإبلاغ هارون ذلك فكان موسى رسولا إلى هارون بالنبوءة. ولذلك جاء في التوراة أن موسى أبلغ أخاه هارون ذلك عندما تلقاه في حوريب إذ أوحى الله إلى هارون أن يتلقاه، والباء للمصاحبة، أي مصاحبين لآياتنا، وهو وعد بالتأييد بمعجزات تظهر عند الحاجة. ومن الآيات: العصا التي انقلبت حية عند المناجاة، وكذلك بياض يده كما في آية سورة طه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الآيات.
وجملة {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن أمرهما بالذهاب إلى فرعون يثير في النفس أن يتعامى فرعون عن الآيات ولا يرعوي عند رؤيتها عن إلحاق أذى بهما فأجيب بأن الله معهما ومستمع لكلامهما وما يجيب فرعون به. وهذا كناية عن عدم إهمال تأييدهما وكف فرعون عن اذاهما. فضمير {مَعَكُمْ} عائد إلى موسى وهارون وقوم فرعون. والمعية معية علم كالتي في قوله تعالى {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} .
و {مُسْتَمِعُونَ} أشد مبالغة من "سامعون" لأن أصل الاستماع أنه تكلف السماع والتكلف كناية عن الاعتناء، فأريد هنا علم خاص بما يجري بينهما وبين فرعون وملئه وهو العلم الذي توافقه العناية واللطف.
والجمع بين قوله {بِآيَاتِنَا} وقوله {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} تأكيد للطمأنة ورباطة لجأشهما.
(19/123)

والرسول: فعول بمعنى مفعل، أي مرسل. والأصل فيه مطابقة موصوفه، بخلاف فعول بمعنى فاعل فحقه عدم المطابقة سماعا، وفعول بمعنى اسم المفعول قليل في كلامهم ومنه: بقرة ذلول، وقولهم: صبوح، لما يشرب في الصباح، وغبوق، لما يشرب في العشي، والنشوق، لما ينشق من دواء ونحوه. ولكن رسول يجوز فيه أن يجرى مجرى المصدر فلا يطابق ما يجري عليه في تأنيث وما عدا الإفراد، وورد في كلامهم بالوجهين تارة ملازما الإفراد والتذكير كما في هذه الآية، وورد مطابقا كما في قوله تعالى {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} في [سورة طه: 47]، فذهب الجوهري إلى أنه مشترك بين كونه اسما بمعنى مفعول وبين كونه اسم مصدر ولم يجعله مصدرا إذ لا يعرف فعول مصدرا لغير الثلاثي، واحتج بقول الأشعر الجعفي:
ألا أبلغ بني عمرو رسولا
...
بأني عن فتاحتكم غني
"الفتاحة: الحكم". وتبعه الزمخشري في هذه الآية إذ قال: الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعل ثم "أي في قوله {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} في [سورة طه: 47]} بمعنى المرسل، وجعل هنا بمعنى الرسالة. وقد قال أبو ذؤيب الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو
...
ل أعلمهم بنواحي الخبر
فهل مكن ريبة في أن ضمير الرسول في البيت مراد به المرسلون. وتصريح النحاة بأن فعولا الذي بمعنى المفعول يجوز إجراؤه على حالة المتصف به من التذكير والتأنيث فيجوز أن يقول: ناقة ركوبة وركوب، يقتضي أن التثنية والجمع فيه مثل التأنيث. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في سورة طه وأحلنا تحقيقه على ما هنا.
ومبادأة خطابهما فرعون بأن وصفا الله بصفة رب العالمين مجابهة لفرعون بأنه مربوب وليس برب، وإثبات ربوبية الله تعالى للعالمين. والنفي يقتضي وحدانية الله تعالى لأن العالمين شامل جميع الكائنات فيشمل معبودات القبط كالشمس وغيرها فهذه كلمة جامعة لما يجب اعتقاده يومئذ.
وجملة {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} تفسيرية لما تضمنه {رَسُول} من الرسالة التي هي في معنى القول، أي هذا قول رب العالمين لك. و {أَرْسِلْ مَعَنَا} أطلق ولا تحبسهم، فالإرسال هنا ليس بمعنى التوجيه. وهذا الكلام يتضمن أن موسى أمر بإخراج بني إسرائيل من بلاد الفراعنة لقصد تحريرهم من استعباد المصريين كما سيأتي عند قوله تعالى {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} ، وقد تقدم في سورة البقرة بيان أسباب سكنى بني إسرائيل بأرض مصر ومواطنهم بها وعملهم لفرعون.
(19/124)

[18، 19] {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
طوي من الكلام ذهاب موسى وهارون إلى فرعون واستئذانهما عليه وإبلاغهما ما أمرهما الله أن يقولا لفرعون إيجازا للكلام. ووجه فرعون خطابه إلى موسى وحده لأنه علم من تفصيل كلام موسى وهارون أن موسى هو الرسول بالأصالة وأن هارون كان عونا له على التبليغ فلم يشتغل بالكلام مع هارون. وأعرض فرعون عن الاعتناء بإبطال دعوة موسى فعدل إلى تذكيره بنعمة الفراعنة أسلافه على موسى وتخويفه من جنايته حسبانا بأن ذلك يقتلع الدعوة من جذمها ويكف موسى عنها، وقصده من هذا الخطاب إفحام موسى كي يتلعثم من خشية فرعون حيث أوجد له سببا يتذرع به إلى قتله ويكون معذورا فيه حيث كفر نعمة الولاية بالتربية، واقترف جرم الجناية على الأنفس.
والاستفهام تقريري وجعل التقرير على نفي التربية مع أن المقصود الإقرار بوقوع التربية مجاراة لحال موسى في نظر فرعون إذ رأى في هذا الكلام جرأة عليه لا تناسب حال من هو ممنون لأسرته بالتربية لأنها تقتضي المحبة والبر، فكأنه يرخي له العنان بتلقين أن يجحد أنه مربى فيهم حتى إذا أقر ولم ينكر كان الإقرار سالما من التعلل بخوف او ضغط، فهذا وجه تسليط الاستفهام التقريري على النفي في حين أن المقرر به ثابت. وهذا كما تقول للرجل الذي طال عهدك برؤيته: ألست فلانا، ومثله كثير. ومنه قول الحجاج في خطبته يوم دير الجماجم يهدد الخوارج "ألستم أصحابي بالأهواز".
والتقرير مستعمل في لازمه وهو أن يقابل المقرر عليه بالبر والطاعة لا بالجفاء، ويجوز أن يجعل الاستفهام إنكاريا عليه لأن لسان حال موسى في نظر فرعون حال من يجحد أنه مربى فيهم ومن يظن نسيانهم لفعلته فأنكر فرعون عليه ذلك، وكلا الوجهين لا يخلو من تنزيل موسى منزلة من يجحد ذلك.
والتربية: كفالة الصبي وتدبير شؤونه. ومعنى {فِينَا} في عائلتنا، أي عائلة ملك مصر. والوليد: الطفل من وقت ولادته وما يقاربها فإذا نمى لم يسم وليدا وسمي طفلا، ويعني بذلك التقاطه من نهر النيل. وذلك أن موسى ربي عند "رعمسيس الثاني" من ملوك العائلة التاسعة عشرة من عائلات فراعنة مصر حسب ترتيب المحققين من المؤرخين. وخرج موسى من مصر بعد أن قتل القبطي وعمره أربعون سنة لقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ
(19/125)

أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً} إلى قوله {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} [القصص: 14 - 15] الآية وبعث وعمره ثمانون سنة حسبما في التوراة1. وكان فرعون الذي بعث إليه موسى هو "منفتاح الثاني ابن رعمسيس الثاني" وهو الذي خلفه في الملك بعد وفاته أواسط القرن الخامس عشر قبل المسيح، فلا جرم كان موسى مربى والده، فلذلك قال له: ألم نربك فينا وليدا، ولعله ربي مع فرعون هذا كالأخ.
والسنين التي لبثها موسى فيهم هي نحو أربعين سنة.
والفعلة: المرة الواحدة من الفعل وأراد بها الحاصل بالمصدر كما اقتضته إضافتها إلى ضمير المخاطب. وأراد بالفعلة قتله القبطي، قيل هو خباز فرعون. وعبر عنها بالموصول لعلم موسى بها، وفي ذلك تهويل للفعلة يكنى به عن تذكيره بما يوجب توبيخه.
وفي العدول عن ذكر فعلة معينة إلى ذكرها مبهمة مضافة إلى ضميره ثم وصفها بما لا يزيد على معنى الموصوف تهويل مراد به التفظيع وأنها مشتهرة معلومة مع تحقيق إلصاق تبعتها به حتى لا يجد تنصلا منها.
وجملة {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حال من ضمير {وَفَعَلْتَ} . والمراد به كفر نعمة فرعون من حيث اعتدى على أحد خاصته وموالي آله، وكان ذلك انتصارا لرجل من بني إسرائيل الذين يعدونهم عبيد فرعون وعبيد قومه، فجعل فرعون انتصار موسى لرجل من عشيرته كفرانا لنعمة فرعون لأنه يرى واجب موسى أن يعد نفسه من قوم فرعون فلا ينتصر لإسرائيل، وفي هذا إعمال أحكام التبني وإهمال أحكام النسب وهو قلب حقائق وفساد وضع. قال تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . وليس المراد الكفر بديانة فرعون لأن موسى لم يكن يوم قتل القبطي متظاهرا بأنه على خلاف دينهم وإن كان في باطنه كذلك لأن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوءة وبعدها.
ويجوز أن تكون جملة {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} عطفا على الجمل التي قبلها التي هي توبيخ ولوم، فوبخه على ما تقدم رعيه تربيتهم إياه فيما مضى، ثم وبخه على كونه كافرا بدينهم في الحال، ولأن قوله {مِنَ الْكَافِرِينَ} حقيقة في الحال إذ هو اسم فاعل واسم الفاعل حقيقة في الحال.
ـــــــ
1 انظر الإصحاح السابع من سفر الخروج.
(19/126)

ويجوز أن يكون المعنى: وأنت حينئذ من الكافرين بديننا، استنادا منه إلى ما بدا من قرائن دلته على استخفاف موسى بدينهم فيما مضى لأن دينهم يقتضي الإخلاص لفرعون وإهانة من يهينهم فرعون. ولعل هذا هو السبب في عزم فرعون على أن يقتص من موسى للقبطي لأن الاعتداء عليه كان مصحوبا باستخفاف بفرعون وقومه.
ويفيد الكلام بحذافره تعجبا من انتصاب موسى منصب المرشد مع ما اقترفه من النقائص في نظر فرعون المنافية لدعوى كونه رسولا من الرب.
[20 - 22] {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} .
كانت رباطة جأش موسى وتوكله على ربه باعثة له على الاعتراف بالفعلة وذكر ما نشأ عنها من خير له، ليدل على أنه حمد أثرها وإن كان قد اقترفها غير مقدر ما جرته إليه من خير؛ فابتدأ بالإقرار بفعلته ليعلم فرعون أنه لم يجد لكلامه مدخل تأثير في نفس موسى. وأخر موسى الجواب عن قول فرعون {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} لأنه علم أن القصد منه الإقصار من مواجهته بأن ربا أعلى من فرعون أرسل موسى إليه. وابتدأ بالجواب عن الأهم من كلام فرعون وهو {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} لأنه علم أنه أدخل في قصد الإفحام، وليظهر لفرعون أنه لا يوجل من أن يطالبوه بذحل ذلك القتيل ثقة بأن الله ينجيه من عدوانهم.
وكلمة {إِذاً} هنا حرف جواب وجزاء فنونه الساكنة ليست تنويا بل حرفا أصليا للكلمة، وقدم {فَعَلْتُهَا} على "إذن" مبادرة بالإقرار ليكون كناية عن عدم خشيته من هذا الإقرار. ومعنى المجازاة هنا ما بينه في "الكشاف": أن قول فرعون {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} [الشعراء: 19] يتضمن معنى جازيت نعمتنا بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازي بمثل ذلك الجزاء. وهذا أظهر ما قيل في تفسير هذه الآية. وقال القزويني في "حاشية الكشاف": قال بعض المحققين: {إِذاً} ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا في الفتح على الكسر لخفته وكثرة الدوران، ولعله يعني ببعض المحققين رضي الدين الاسترابادي في "شرح الكافية الحاجبية" فإنه قال في باب الظروف: والحق أن "إذ" إذا حذف المضاف إليه منه وأبدل منه التنوين في غير نحو يومئذ، جاز فتحه أيضا، ومنه قوله تعالى {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي فعلتها إذ
(19/127)

ربيتني، إذ لا معنى للجزاء ههنا اه. فيكون متعلقا بـ {فَعَلْتُهَا} مقطوعا عن الإضافة لفظا لدلالة العامل على المضاف إليه. والمعنى: فعلتها زمنا فعلتها، فتذكيري بها بعد زمن طويل لا جدوى له. وهذا الوجه في {إِذاً} في الآية هو مختار ابن عطية1 والرضي في "شرح الحاجبية" والدماميني في "المزج على المغني"، وظاهر كلام القزويني في الكشف على "الكشاف" أنه يختاره.
ومعنى الجزاء في قوله {فَعَلْتُهَا إِذاً} أن قول فرعون {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} قصد بها إفحام موسى وتهديده، فجعل موسى الاعتراف بالفعلة جزاء لذلك التهديد على طريقة القول بالموجب، أي لا أتهيب ما أردت.
وجعل موسى نفسه من الضالين إن كان مراد كلامه الذي حكت الآية معناه إلى العربية المعنى المشهور للضلال في العربية وهو ضلال الفساد فيكون مراده: أن سورة الغضب أغفلته عن مراعاة حرمة النفس وإن لم يكن يومئذ شريعة فإن حفظ النفوس مما اتفق عليه شرائع البشر وتوارثوه في الفتر ويؤيد هذا قوله في الآية الأخرى {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16]؛ وإن كان معنى ضلال الطريق، أي كنت يومئذ على غير معرفة بالحق لعدم وجود شريعة وهو معنى الجهالة كقوله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى: 7] فالأمر ظاهر.
وعلى كلا الوجهين فجواب موسى فيه اعتراف بظاهر التقرير وإبطال لما يستتبعه من جعله حجة لتكذيبه برسالته عن الله، ولذلك قابل قول فرعون {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] بقوله {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} إبطالا لأن يكون يومئذ كفرا، ولذلك كان هذا أهم بالإبطال.
وبهذا يظهر وجه الاسترسال في الجواب بقوله {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، أي فكان فراري قد عقبه أن الله أنعم علي فأصلح حالي وعلمني وهداني وأرسلني. فليس ذلك من موسى مجرد إطناب بل لأنه يفيد معنى أن الإنسان ابن يومه لا ابن أمسه، والأحوال بأواخرها فلا عجب فيما قصدت فإن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وقوله {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ} أي فرارا مبتدئا منكم، لأنهم سبب فراره، وهو بتقدير
ـــــــ
1 إذ قال: "وقوله {إِذاً} صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ" ريد أن "إذن" تأكيد دالة على الزمان وقد استفيد الزمان من قوله: {فَعَلْتُهَا} أي يومئذ.
(19/128)

مضاف، أي من خوفكم. والضمير لفرعون وقومه الذين ائتمروا على قتل موسى، كما قال تعالى {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]. والحكم: الحكمة والعلم، وأراد بها النبوءة وهي الدرجة الأولى حين كلمه ربه. ثم قال {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي بعد أن أظهر له المعجزة وقال له {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] أرسله بقوله {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
ثم عاد إلى أول الكلام فكر على امتنانه عليه بالتربية فأبطاه وأبى أن يسميه نعمة، فقوله {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة.
ثم إن جعلت جملة {أَنْ عَبَّدْتَ} بيانا لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجرك 66] إذ قوله {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ} بيانا لقوله {ذَلِكَ الْأَمْرَ} .
ويجوز أن يكون {أَنْ عَبَّدْتَ} في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير: لأن عبدت بني إسرائيل.
وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار. ومعنى {عَبَّدْتَ} ذللت، يقال: عبد كما يقال: أعبد بهمزة التعدية. أنشد أيمة اللغة:
حتام يعبدني قومي وقد كثرت
...
فيهم آباعر ما شاءوا وعبدان
وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أم موسى بطفلها في اليم حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسمات وجهه ولون جلده، ولذلك قالت امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9]. وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحسانا ولا منة.
[23، 24] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} .
(19/129)

لما لم يرج تهويله على موسى عليه السلام وعلم أنه غير مقلع عن دعوته - تنفيذا لما أمره الله - ثنى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة رب العالمين الذي ذكر موسى وهارون أنهما مرسلان منه إذ قالا {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وإظهار اسم فرعون مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال، أو قال فقال، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر.
والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام موسى فاصلا بينه وبين ما عطف عليه.
وحرف {مَا} الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة، ففي حديث الوفود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم {مَا أَنْتُمْ} ، ففرعون سأل موسى عليه السلام تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد، فإن تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف، فلما سمع فرعون من كلام موسى إثبات رب العالمين قرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم، على أنهم كانوا يزعمون أن فرعون هو المجتبى من الآلهة ليكون ملك مصر. فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]. وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان فرعون يدعى إلها.
وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر. ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها فكان الملك لا يشيع في أمته غير قوته وانتصاره على الثائرين، ويخيل للناس أن العالم منحصر في تلك الرقعة من الأرض. فلا تجد في آثار القبط صورا للأمم غير صور القبائل الذين يغزوهم فرعون ويأتي بأسراهم في الأغلال والسلاسل خاضعين عابدين حتى يخيل لقومه أنه لما غلب أولئك فقد كان قهار البشر كلهم، ويخفي أخبار انكساره إلا إذا لحقه غلب عظيم من أمة كبرى بحيث لا يستطيع إخفاءه، فحينئذ ينتقل أسلوب التاريخ عمدهم وتنتحل الدولة الجديدة أساليب الدولة الماضية وتنسى حوادث الماضي وتغلب على
(19/130)

مخيلاتهم الحالة الحاضرة، وللدعاة والمروجين أثر كبير في ذلك. وبهذا يتضح باعث فرعون على هذا السؤال الذي ألقاه على موسى، وهو استفهام مشوب بتعجب وإنكار على طريق الكناية.
ومن دقائق هذه المجادلة أن الاستفسار مقدم في المناظرات ولذلك ابتدأ فرعون بالسؤال عن حقيقة الذي أرسل موسى عليه السلام.
وكان جواب موسى عليه السلام بيانا لحقيقة رب العالمين بما يصير وصفه برب العالمين نصا لا يحتمل غير ما أراداه من ظاهره فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه، إذ قال {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، فبذكر السماوات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسؤول عنه بـ {مَا} . ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الرب بخصائصها لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يعرف بآثار خلقه، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي.
وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة {مَا} عن الجنس. وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال والجواب من كلام الكشاف، وهو أيضا مختار السكاكي في قانون الطلب من كتاب المفتاح، وطابق الجواب السؤال تمام المطابقة.
وأشار صاحب "الكشاف" وصرح صاحب "المفتاح" بأن جواب موسى بما يبين حقيقة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} تضمن تنبيها على أن الاستدلال على ثبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقة الرب الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات.
ولهذا أتبع بيانه بقوله {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} ، أي كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين. وسمي العلم بذلك إيقانا لأن شأن اليقين بأن خالق السماوات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره.
وضمير الجمع في {كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} مراد به جميع حاضري مجلس فرعون، أراد موسى تشريكهم في الدعوة تقصيا لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجاملات. ومن هذا قال سحنون فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفرا: إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر
(19/131)

مرتدا ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك.
[25] {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} .
أعرض فرعون عن خطاب موسى واستثار نفوس الملأ من حوله وهم مجلسه فاستفهمهم استفهام تعجب من حالهم كيف لم يستمعوا ما قاله موسى فنزلهم منزلة من لم يستمعه تهييجا لنفوسهم كي لا تتمكن منهم حجة موسى، فسلط الاستفهام على نفي استماعهم كما تقدم. وهذا التعجب من حال استماعهم وسكوتهم يقتضي التعجب من كلام موسى بطريق فحوى الخطاب فهو كناية عن تعجب آخر. ومرجع التعجبين أن إثبات رب واحد لجميع المخلوقات منكر عند فرعون لأنه كان مشركا فيرى توحيد الإله لا يصح السكوت عليه، ولكون خطاب فرعون لمن حوله يتضمن جوابا عن كلام موسى حكي كلام فرعون بالصيغة التي اعتيدت في القرآن حكاية المقاولات بها، كما تقدم غير مرة، كأنه يجيب موسى عن كلامه.
[26] {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} .
كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجيب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات. ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله وجه موسى خطابه إلى جميعهم، وإذ رأى موسى أنهم جميعا لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالة على وجود الله تعالى واحد، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم؛ لان أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالا على خالقهم، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة فإن كثيرا من العقلاء توهموا السماوات قديمة واجبة الوجود، فإما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت، وكفى به دليلا على انتفاء القدم الدال على انتفاء الإلهية.
وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأولين بعض من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقبين عندهم بأبناء الشمس والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم "آمون رع".
(19/132)

والرب: الخالق والسيد بموجب الخالقية.
[27] {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .
احتد فرعون لما ذكر موسى ما يشمل آباءه المقدسين بذكر يخرجهم من صفغة الإلهية زاعما أن هذا يخالف العقل بالضرورة فلا يصدر إلا من مختل الإدراك، وأنه رأى أن الاستدلال بخالقيتهم وخالقية آبائهم عبث لأن فرعون وملأه يرون تكوين الآدمي بالتولد وهم لا يحسبون التكوين الدال على الخالقية إلا التكوين بالطفرة دون التدريج بناء على أن الأشياء المعتادة لا تتفطن إلى دقائقها العقول الساذجة، فهم يحسبون تكوين الفرخ من البيضة أقل من تكوين الرعد، وأن تكوين دودة القز أدل على الخالق من تكوين الآدمي مه أنه ليس كذلك؛ فلذلك زعم أن ادعاء دلالة تكوين الآباء والأبناء ودلالة فناء الآباء على ثبوت الإله الواحد رب الأباء والأبناء ضربا من الجنون إذ هو تكوين لم يشهدوا دقائقه، والمعروف المألوف ولادة الأجنة وموت الأموات.
وأكد كلامه بحرفي التأكيد لأن حالة موسى لا تؤذن بجنونه فكان وصفه بالمجنون معرضا للشك فلذلك أكد فرعون أنه مجنون يعني أنه علم من حال موسى ما عسى أن لا يعلمه السامعون.
وقصد بإطلاق وصف الرسول على موسى التهكم به بقرينة رميه بالجنون المحقق عنده.
وأضاف الرسول إلى المخاطبين ربئا بنفسه عن أن يكون مقصودا بالخطاب، وأكد التهكم والربء بوصفه بالموصول {الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ} فإن مضمون الموصول وصلته هو مضمون {رَسُولَكُمُ} فكان ذكره كالتأكيد، وتنصيصا على المقصود لزيادة تهييج السامعين كيلا يتأثروا أو يتأثر بعضهم بصدق موسى لأن فرعون يتهيأ لإعداد العدة لمقاومة موسى لعلمه بأن له قوما في مصر ربما يستنصر بهم.
[28] {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .
لما رأى موسى سوء فهمهم وعدم اقتناعهم بالاستدلال على الوحدانية بالتكوين المعتاد إذ التبس عليهم الأمر المعتاد بالأمر الذي لا صانع له انتقل موسى إلى ما لا قبل لهم بجحده ولا التباسه وهو التصرف العجيب المشاهد كل يوم مرتين، كما إنتقل إبراهيم
(19/133)

عليه السلام من الاستدلال على وجود الله بالإحياء والإماتة لما تموه على النمرود حقيقة معنى الإحياء والإماتة فانتقل إبراهيم إلى الاستدلال بطلوع الشمس فيما حكى الله تعالى {َلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] فكانت حجة موسى حجة خليلية.
والمشرق والمغرب يجوز أن يراد بهما مكان شروق الشمس ومكان غروبها في الأفق، فيكون تحريكا للاستدلال بما يقع في ذلك المكان من الأفق من شروق الشمس وغربوها، فيكون المراد برب المشرق والمغرب خالق ذلك النظام اليومي على طريقة الإيجاز.
ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي، أي رب الشروق والغروب، فيكون المراد بالرب الخالق، أي مكون الشروق والغروب ويكون المراد بما بينهما على هاذين الوجهين ما بين الحالين وضمير "بينهما" للمشرق والمغرب فكأنه قيل وما بين المشرق والمغرب وما بين المغرب والمشرق، أي ما يقع في خلال ذلك من الأحوال، فأما ما بين الشروق والغروب فالضحى والزوال والعصر والاصفرار، وأما ما بين الغروب والشروق فالشفق والفجر والإسفار كلها دلائل على تكوين ذلك النظام العجيب المتقن.
وقيل المراد برب المشرق والمغرب مالك الجهتين. وهذا التفسير يفيت مناسبة الكلام لمقام الاستدلال بعظيم ولا يلاقي التذييل الواقع بعده في قوله {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .
وتانك الجهتان هما منتهى الأرض المعروفة للناس يومئذ فكأنه قيل: رب طرفي الأرض، وهو كناية عن كون جميع الأرض ملكا لله. وهذا استدلال عرفي إذ لم يكونوا يعرفون يومئذ ملكا يملك ما بين المشرق والمغرب وما كان ملك فرعون المؤله عندهم إلا لبلاد مصر والسودان.
والتذييل بجملة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} تنبيه لنظرهم العقلي ليعاودوا النظر فيدركوا وجه الاستدلال، أي إن كنتم تعملون عقولكم. ومن اللطائف جعل ذلك مقابل قول فرعون: إن رسولكم لمجنون، لأن الجنون يقابله العقل فكان موسى يقول لهم قولا لينا ابتداء فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول وعارض قول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فقال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كنتم أنتم
(19/134)

العقلاء، أي فلا تكونوا أنتم المجانين وهذا كقول أبي تمام للذين قالا له "لم تقول ما لا يفهم" قال "لم لا تفهمان ما يقال".
[29] {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .
لما لم يجد فرعون لحجاجه نجاحا ورأى شدة شكيمة موسى في الحق عدل عن الحجاج إلى التخويف ليقطع دعوة موسى من أصلها. وهذا شأن من قهرته الحجة، وفيه كبرياء أن ينصرف عن الجدل إلى التهديد.
واللام في قوله {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً} موطئة للقسم. والمعنى أن فرعون أكد وعيده بما يساوي اليمين المجملة التي تؤذن بها اللام الموطئة في اللغة العربية كأن يكون فرعون قال: علي يمين، أو بالأيمان، أو أقسم. وفعل {اتَّخَذْتَ} للاستمرار، أي أصررت على أن لك إلها أرسلك وأن تبقى جاحدا للإله فرعون، وكان فرعون معدودا إلها للأمة لأنه يمثل الآلهة وهو القائم بإبلاغ مرادها في الأمة فهو الواسطة بينها وبين الأمة.
ومعنى {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} لأسجننك، فسلك فيه طريقة الإطناب لأنه أنسب بمقام التهديد لأنه يفيد معنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت أنهم في سجني، فالمقصود تذكير موسى بهول السجن. وقد تقدم أن مثل هذا التركيب يفيد تمكن الخبر من المخبر عنه عند قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67]. وقد كان السجن عندهم قطعا للمسجون عن التصرف بلا نهاية فكان لا يدري متى يخرج منه قال تعالى {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].
[30 - 33] {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} .
لما رأى موسى من مكابرة فرعون عن الاعتراف بدلالة النظر ما لا مطمع معه إلى الاسترسال في الاستدلال لأنه متعام عن الحق عدل موسى إلى إظهار آية من خوارق العادة دلالة على صدقه، وعرض عليه ذلك قبل وقوعه ليسد عليه منافذ ادعاء عدم الرضى بها.
واستفهمه استفهاما مشوبا بإنكار واستغراب على تقدير عدم اجتزاء فرعون بالشيء
(19/135)

المبين، وأنه ساجنه لا محالة إن لم يعترف بإلهية فرعون، قطعا لمعذرته من قبل الوقوع. وهذا التقدير دلت عليه {لَوْ} الوصلية التي هي لفرض حالة خاصة. فالواو في قوله {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} واو الحال، والمستفهم عنه بالهمزة محذوف دل عليه أن الكلام جواب قول فرعون {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} . وتقدير: أتجعلني من المسجونين والحال لو جئتك بشيء مبين، إذ القصد الاستفهام عن الحالة التي تضمنها شرط {لَوْ} لأنها أولى الحالات بأن لا يثبت معها الغرض المستفهم عنه على فرض وقوعها وهو غرض الاستمرار على التكذيب، وهو استفهام حقيقي.
وليست الواو مؤخرة عن حمزة الاستفهام لأن لحرف الاستفهام الصدارة بل هي لعطف الاستفهام.
والعامل في الحال وصاحب الحال مقدران دل عليهما قوله {لَأَجْعَلَنَّكَ} [الشعراء: 29]، أي أتجعلني من المسجونين.
ووصف "شيء" بـ {مُبِينٌ} اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مظهر أني رسول من الله.
وأعرض فرعون عن التصريح بالتزام الاعتراف بما سيجيء به موسى فجاء بكلام محتمل إذ قال {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وفي قوله {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إيماء إلى أن في كلام فرعون ما يقتضي أن فرض صدق موسى فرض ضعيف كما هو الغالب في شرط {إِنْ} مع إيهام أنه جاء بشيء مبين يعتبر صادقا فيما دعى إليه، فبقي تحقيق أن ما سيجيء به موسى مبين أو غير مبين. وهذا قد استبقاه كلام فرعون إلى ما بعد الوقوع والنزول ليتأتى إنكاره إن احتاج إليه.
والثعبان: الحية الضخمة الطويلة.
ووصف {ثُعْبَانٌ} بأنه {مُبِينٌ} الذي هو اسم فاعل من أبان القاصر الذي بمعنى بان بمعنى ظهر، ف {مبين} دال على شدة الظهور من أجل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا لبس فيه ولا تخييل.
وبالاختلاف بين {مُبِينٌ} الأول و {مُبِينٌ} الثاني اختلفت الفاصلتان معناه فكانتا من قبيل الجناس ولم تكونا مما يسمى مثله إيطاء.
والإلقاء: الرمي من اليد إلى الأرض، وتقدم في سورة الأعراف.
(19/136)

والنزع: سل شيء مما يحيط به، ومنه نزع اللباس، ونزع الدلو من البئر. ونزع اليد: إخراجها من القميص، فلذلك استغنى عن ذكر المنزوع منه لظهوره، أي أخرج يده من جيب قميصه.
ودلت {إذا} المفاجئة على سرعة انقلاب لون يده بياضا.
واللام في قوله {لِلنَّاظِرِينَ} يجوز أن تكون اللام التي يسميها ابن مالك وابن هشام لام التعدية، أي اتصال متعلقها بمجرورها. والأظهر أن تكون اللام بمعنى "عند" ويكون الجار والمجرور حالا. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى في [سورة الأعراف: 108] {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} .
ومعنى {لِلنَّاظِرِينَ} أن بياضها مما يقصده الناظرون لأعجوبته، وكان لوم جلد موسى السمرة. والتعريف في {لِلنَّاظِرِينَ} للاستغراق العرفي، أي لجميع الناظرين في ذلك المسجد. وهذا يفيد أن بياضها كان واضحا بينا مخالفا لون جلده بصورة بعيدة عن لون البرص.
[34، 35] {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأعراف سوى أن في هذه الآية زيادة {بِسِحْرِهِ} وهو واضح، وفي هذه الآية أن هذا قول فرعون للملأ وفي آية الأعراف {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} والجمع بينهما أن فرعون قاله لمن حوله فأعادوه بلفظه للموافقة التامة بحيث لم يكتفوا بقول: نعم، بل أعادوا كلام فرعون ليكون قولهم على تمام قوله.
وانتصب {حَوْلَهُ} على الظرفية. والظرف هنا مستقر لأنه متعلق بكون محذوف هو حال من الملأ. وتقدم وجه التعبير عن إشارتهم عليه بقوله {تَأْمُرُونَ} في [سورة الأعراف: 110].
[36، 37] {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} .
تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف سوى أن في هذه الآية {وَابْعَثْ} بدل {وَأَرْسِلْ} وهما مترادفان، وفي هذه الآية {سَحَّارٍ} وهنالك {سَاحِرٍ}
(19/137)

[سورة الأعراف: 111] والسحار مرادف للساحر في الاستعمال لأن صيغة فعال هنا للنسب دلالة على الصناعة مثل النجار والقصاب ولذلك أتبع هنا وهناك بوصف {عَلِيمٍ} ، أي قوي العلم بالسحر.
[38، 40] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} .
دلت الفاء على أن جمع السحرة وقع في أسرع وقت عقب بعث الحاشرين حرصا من الحاشرين والمحشورين على تنفيذ أمر فرعون.
وبني "جمع - وقيل" للنائب لعدم تعين جامعين وقائلين، أي جمع من يجمع وقال القائلون.
واللام في {لِمِيقَاتِ} بمعنى "عند" كاللام في قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. واليوم: هو يوم الزينة وهو يوم وفاء النيل. والوقت هو الضحى كما في سورة طه.
والميقات: الوقت، وأصله اسم آلة التوقيت. سمي به الوقت المعين تشبيها له بالآلة.
والتعريف في {لِلنَّاسِ} للاستغراق العرفي، وهم ناس بلدة فرعون "منفيس" أو "طيبة".
و {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} استحثاث للناس على الاجتماع، فالاستفهام مستعمل في طلب الإسراع بالاجتماع بحيث نزلوا منزلة من يسأل سؤال تحقيق عن عزمه على الاجتماع كقوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في [سورة العقود: 91]، وقول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا
...
أوعبد رب أخا عون بن مخراق1
يريد ابعث إلينا دينارا أو عبد رب سريعا لأجل حاجتنا بأحدهما. ورجوا اتباع السحرة، أي اتباع ما يؤيده سحر السحرة وهو إبطال دين ما جاء به موسى، فكان قولهم
ـــــــ
1 دينار: اسم رجل وليس المراد المسكوك من الذهب, وإلا لقال: بدينار رجل أيضا, وعبد رب بالنصب عطف على محل"دينار" لأنه مفعول "باعث" أضيف إليه عامله, وأخا عون منادى.
(19/138)

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} كناية عن رجاء تأييدهم في إنكار رسالة موسى فلا يتبعونه. وليس المقصود أن يصير السحرة أيمة لهم لأن فرعون هو المتبع. وقد جيء في شرط {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} بحرف {إِنْ} لأنها أصل أدوات الشرط ولم يكن لهم شك في أن السحرة غالبون. وهذا شأن المغرورين بهواهم العمي عن النظر في تقلبات الأحوال أنهم لا يفرضون من الاحتمالات إلا ما يوافق هواهم ولا يأخذون العدة لاحتمال نقيضه.
[41، 42] {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .
تقدم نظيرها في سورة الأعراف بقوله {جَاءَ السَّحَرَةُ} وبطرح همزة الاستفهام إذ قال هناك {إِنَّ لَنَا لَأَجْراً} ، وهو تفنن في حكاية مقالتهم عند إعادتها لئلا تعاد كما هي، وبدون كلمة {إِذاً} ، فحكى هنا ما في كلام فرعون من دلالة على جزاء مضمون قولهم {إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} زيادة على ما اقتضاه حرف "نعم" من تقرير استفهامهم عن الأجر. فتقدير الكلام: إن كنتم غالبين إذا إنكم لمن المقربين. وهذا وقع الاستغناء عنه في سورة الأعراف فهو زيادة في حكاية القصة هنا. وكذلك شأن القرآن في قصصه أن لا يخلو المعاد منها عن فائدة غير مذكورة في في موضع آخر منه تجديدا لنشاط السامع كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير. وسؤالهم عن استحقاق الأجر إدلال بخبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يسخرهم فرعون بدون أجر فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده.
[43، 44] {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} .
حكى كلام موسى في ذلك الجمع بإعادة فعل {قَالَ} مفصولا بطريقة حكاية المحاورات لأنه كان المقصود بالمحاورة إذ هم حضروا لأجله.
ووقع في [سورة الأعراف: 115] {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} ، واختصر هنا تخييرهم موسى في الابتداء بالأعمال، وقد تقدم بيانه هناك، فقول موسى لهم {أَلْقُوا} المحكي هنا هو أمر لمجرد كونهم المبتدئين بالإلقاء لتعقبه إبطال سحرهم بما سيلقيه موسى، كما يقول صاحب الجدل في علم الكلام
(19/139)

للملحد: قرر شبهتك، وهو يريد أن يدحضها له. وهذا عضد الدين في كتاب المواقف يذكر شبه أهل الزيغ والضلال قبل ذكر الأدلة الناقضة لها. وتقدم الإلقاء آنفا. وذكر هنا مفعول {أَلْقُوا} واختصر في سورة الأعراف.
وفي كلام موسى عليه السلام استخفاف بما سيلقونه لأنه عبر عنه بصيغة العموم، أي ما تستطيعوه إلقاءه. وتقدم الكلام على الحبال والعصي في السحر عند الكلام على مثل هذه القصة في سورة طه.
وقرنت حكاية قول السحر بالواو خلافا للحكايات التي سبقتها لأن هذا قول لم يقصد به المحاورة وإنما هو قول ابتدأوا به عند الشروع في السحر استعانة وتيمنا بعزة فرعون. فالباء في قولهم {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} كالباء في "بسم الله": أرادوا التيمن بقدرة فرعون، قاله ابن عطية.
وقيل الباء للقسم: أقسموا بعزة فرعون على أنهم يغلبون ثقة منهم باعتقاد ضلالهم أن إرادة فرعون لا يغلبها أحد لأنها إرادة آلهتهم. وهذا الذي نحاه المفسرون والوجه الأول أحسن لأن الجملتين على مقتضاه تفيدان فائدتين.
والعزة: القدرة، وتقدم في قوله {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} في [البقرة: 206].
وجملة {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} استئناف إنشاء عن قولهم {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} : كأن السمع هو موسى أو غيره يقول في نفسه: مإذا يؤثر قولهم {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} ? فيقولون {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} ، وأرادوا بذلك إلقاء الخوف في نفس موسى ليكون ما سيلقيه في نوبته عن خور نفس لأنهم يعلمون أن العزيمة من أكبر أسباب نجاح السحر وتأثيره على الناظرين. وقد أفادت جملة {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} بما فيها من المؤكدات مفاد القسم.
[45] {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} .
تقديم قريب منه في سورة الأعراف وفي سورة طه.
[46 - 49] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} .
(19/140)

قصد فرعون إرهابهم بهذا الوعيد لعلهم يرجعون عن الإيمان بالله. ونظير أول هذه الآية تقدم في سورة الأعراف، ونظير آخرها تقدم فيها وفي سورة طه. وهنالك ذكرنا عدد السحرة وكيف آمنوا. واللام في {فَلَسَوْفَ} لام القسم.
[50، 51] {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} .
الضير: مرادف الضر، يقال: ضاره بتخفيف الراء يضيره، ومعنى {لا ضَيْرَ} لا يضرنا وعيدك. ومعنى نفي ضره هنا: أنه ضر لحظة يحصل عقبه النعيم الدائم فهو بالنسبة لما تعقبه بمنزلة العدم. وهذه طريقة في النفي إذا قامت عليها قرينة. ومنه قولهم: هذا ليس بشيء، أي ليس بموجود وإنما المقصود أن وجوده كالعدم.
وجملة {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} تعليل لنفي الضير، وهي القرينة على المراد من النفي.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في سورة الأعراف.
وجملة {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} بيان للمقصود من جملة {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} . والطمع: يطلق على الظن الضعيف، وعرف بطلب ما فيه عسر. ويطلق ويراد به الظن كما في قول إبراهيم {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، فهذا الإطلاق تأدب مع الله لأنه يفعل مايريد. وعللوا ذلك الطمع بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده.
[52] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} .
هذه قصه أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون، فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة فقد لبث موسى زمنا يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجوا من مصر وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآيات التسع كما تقدم في سورة الأعراف. ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه. وزادت هذه بقوله {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} ، أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه. والقصد من إعلامه بذلك تشجيعة.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {اسْرِ} بهمزة وصل أمر من "سَرى" وبكسر نون
(19/141)

{أَنْ} لأجل التقاء الساكنين. وقرأ الباقون بهمزة قطع وسكون نون {أَنْ} . وفعلا سرى وأسرى متحدان كما تقدم في قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} .
[53 - 56] {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} .
ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} وأن بين الجملتين محذوفا تقديره: فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حاشرين، أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شرطا يحشرون الناس ليلحقوا بني إسرائيل فيردوهم إلى المدينة قاعدة الملك.
و {الْمَدَائِنِ} : جمع مدينة، أي البلد العظيم. ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة. منها "ما نوفرى أو منفيس" هي اليوم ميت رهينة بالجيزة و "تيبة أو طيبة" هي بالأقصر و "أبودو" وتسمى اليوم العرابة المدفونة، و"بو" وهي "بو" وهي ادنو، و"اون رميسي"، و"أرمنت" و"سنى" وهي أسناء و"ساورت" وهي السيوط، و"خمونو" وهي الاشمونيين، و"بامازيت" وهي البهنسا، و"خسوو" وهي سخا، و"كاريينا" وهي سد أبي قيرة، و"سودو" وهي الفيوم، و"كويتي" وهي قفط.
والتعريف في {الْمَدَائِنِ} للاستغراق، أي في مدائن القطر المصري، وهو استغراق عرفي، أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم. وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به. وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوب الشام، أو صوب الصحراء الغربية، وما كان يظن أنهم يقصدون شاطئ البحر الأحمر بحر "القلزم" وكان يومئذ يسمى بحر "سوف".
وجملة {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} مقول لقول محذوف لأن {حَاشِرِينَ} يتضمن معنى النداء، أي يقولون إن هؤلاء لشرذمة قليلون.
والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل، وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة.
وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون.
(19/142)

والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة، فإتباعه بوصف {قَلِيلُونَ} للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون، فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف، هكذا قال المفسرون، وهو مرافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين.
و {قَلِيلُونَ} خبر ثان عن اسم الإشارة، فهو وصف في المعنى لمدلول {هَؤُلاءِ} وليس وصفا لشرذمة ولكنه لمعناها ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة.
و {قَلِيلٌ} إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا، ويجوز ملازمته الإفراد والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي:
وما ضرنا أنا قليل...
البيت
ونظيره في ذلك لفظ "كثير" وقد جمعها قوله تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43].
و"غائظون" اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه، أي جعله ذا غيظ. والغيظ: أشد الغضب. وتقدم في قوله تعالى {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} في [آل عمران: 119]، وقوله {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} في [سورة براءة: 15]، أي وأنهم فاعلون ما يغضبنا.
واللام في قوله {لَنَا} لام التقوية واللام في {لَغَائِظُونَ} لام الابتداء، وتقديم {لَنَا} على {لَغَائِظُونَ} للرعاية على الفاصلة.
وقوله {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} حث لأهل المدائن على أن يكونوا حذرين على ابلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله {لَجَمِيعٌ} وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة، أي إنا كلنا حذرون، ف {جميع} وقع مبتدأ وخبره {حَاذِرُونَ} ، والجملة خبر {إِنَّ} ، و"جميع" بمعنى "كل"كقوله تعالى {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} في [سورة يونس: 4].
و {حَاذِرُونَ} قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حذر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بالف بعد الحاء جمع "حاذر" بصيغة اسم الفاعل. والمعنى: أن الحذر من شيمته
(19/143)

وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك، أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحذر مما عسى أن يكون لها من سيء العواقب.
وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سد ذرائع الفساد ولو كان احتمال إفضائها إلى الفساد ضعيفا، فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم، ولذلك يقول علماء الشريعة: إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة، فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه، والترصد لمنع وقوعه، وتقدم في قوله {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} في [براءة: 64]. والمحمود منه هو الخوف من الضار عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذر منه ضرب من الهوس.
وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم.
[57 - 60] {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} .
إن جريت على ما فسر به المفسرون قوله {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} لزمك أن تجعل الفاء في وقوله {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين، أي ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه، فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنبياء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل إذ لا يخرج فرعون بجنده على وجهه، غير عالم بطريقهم. وضمير النصب عائد إلى فرعون ومن معه مفهوما من قوله {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} .
وإن جريت على ما فسرنا به قوله تعالى {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} ولا أخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك، فلتجعل الفاء في {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} تفريعا على جملة {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} . والتقدير: فأسرى موسى ببني إسرائيل فأخرجنا فرعون وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل فاتبعوا بني إسرائيل.
وضمير {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام، أي أخرجنا
(19/144)

فرعون وجنده. والجنات: جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل. والعيون: منابع تحفر على خلجان النيل. والكنوز: الأموال المدخرة.
والمقام: أصله محل القيام أو مصدر قام. والمعنى على الأول: مساكن كريمة، وعلى الثاني: قيامهم في مجتمعهم، والكريم: النفيس في نوعه. وذلك ما كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية، كل ذلك تركه فرعون وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى الشيء مما تركوا.
{كَذَلِكَ} تقد الكلام على نظيره عند قوله تعالى {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في [سورة الكهف: 91]، فهو بمنزلة الاعتراض.
وجملة {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} معترضة أيضا والواو اعتراضية وليست عطفا لأجزاء القصة لما ستعمله. والإيراث: جعل أحد وارثا. وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكا لغير المعطى "بفتح الطاء" كما قال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام، وقال {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].
والمعنى: أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28]. ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان.
فضمير {وَأَوْرَثْنَاهَا} هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس، أي أورثنا بني إسرائيل جنات وعيونا وكنوزا، فعود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه، أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام. وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم: عندي درهم ونصفه، وقوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل
(19/145)

المراد: والمرء يرث أختا له إن لم يكن لها ولد، ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل {أَوْرَثْنَاهَا} على معنى التشبيه البليغ، أي أورثنا أمثالها. وقيل ضمير {أَوْرَثْنَاهَا} عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه.
ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} إلى قوله {وَأَوْرَثْنَاهَا} حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون. وضمير {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله {فِي الْمَدَائِنِ} ، أي فأخرجنا أهل المدائن. وحذف المفعول الثاني لفعل {أَوْرَثْنَاهَا} . والتقدير: وأورثناها غيرهم، ويكون قوله {بَنِي إِسْرائيلَ} بيانا لاسم الإشارة في قوله {إِنَّ هَؤُلاءِ} سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقع.
وجملة {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} مفرعة على جملة {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فأخرجناهم فأتبعوهم. والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله {فَأَخْرَجْنَاهُمْ} ، وضمير النصب عائد إلى {بِعِبَادِي} من قوله {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} .
و {اتَّبَعُوهُمْ} بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تبع، أي فلحقوهم.
و {مُشْرِقِينَ} حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال: أشرق، إذا دخل في أرض الشرق، كما يقال: أنجد وأتهم وأعرق وأشأم، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر "القلزم" وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سوف وهو شرقي مصر. ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشيا فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر.
[61 - 66] {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} .
أي لما بلغ فرعون وجنوده قريبا من مكان جموع بني إسرائيل بحيث يرى كل فريق
(19/146)

منهما الفريق الآخر. فالترائي تفاعل لأنه حصول الفعل من الجانبين.
وقولهم {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} بالتأكيد لشدة الاهتمام بهذا الخبر وهو مستعمل في معنى الجزع. و {كَلَّا} ردع. وتقدم في [سورة مريم: 79] {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ردع به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون، وعلل ردعهم عن ذلك بجملة {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} .
وإسناد المعية إلى الرب في {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه. وذلك أن موسى واثق بأن الله منجيه لقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، وقوله {أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} كما تقدم آنفا أنه وعد بضمان النجاة.
وجملة {سَيَهْدِينِ} مستأنفة أو حال من {رَبِّي} . ولا يضر وجود حرف الاستقبال لأن الحال مقدرة كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} . والمعنى: أنه سيبين لي سبيل سلامتنا من فرعون وجنده. واقتصر موسى على نفسه في قوله {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} لأنهم لم يكونوا عالمين بما ضمن الله له من معية العناية فإذا علموا ذلك علموا أن هدايته تنفعهم لأنه قائدهم والمرسل لفائدتهم. ووجه اقتصاره على نفسه أيضا أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدو، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد الرسول. وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما، وقد أمره الله أن يضرب بعصاه البحر وانفلق البحر طرقا مرت منها أسباط بني إسرائيل، واقتحم فرعون البحر فمد البحر عليهم حين توسطوه فغرق جميعهم.
والفرق بكسر الفاء وسكون الراء: الجزء المفروق منه، وهو بمعنى مفعول مثل الفلق. والطود: الجبل.
و {أَزْلَفْنَا} قربنا وأدنينا، مشتق من الزلف بالتحريك وهو القرب. والظاهر أن فعله كفرح. ويقال: ازدلف: اقترب، وتزلف: تقرب، فهمزة {أَزْلَفْنَا} للتعدية.
والمعنى أن الله جرأهم حتى أرادوا اقتحام طرق البحر كما رأوا فعل بني إسرائيل يظنون أنه ماء غير عميق.
والآخرون: هم قوم فرعون لوقوعه في مقابلة فريق بني إسرائيل .
(19/147)

[67، 68] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
تقدم القول في نظيره آنفا قبل قصة موسى، وكانت هذه القصة آية لأنها دالة على أن ذلك الانقلاب العظيم في أحوال الفريقين الخارج عن معتاد تقلبات الدول والأمم دليل على أنه تصرف إلهي خاص أيد به رسوله وأمته وجدد به شوكة أعدائهم ومن كفروا به، فهو آية على عواقب تكذيب رسل الله مع ما تتضمنه القصة من دلائل التوحيد.
ووجه تذييل كل استدلال من دلائل الوحدانية وصدق الرسل في هذه السورة بجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} إلى آخرها تقدم في طالعة هذه السورة.
[69 - 77] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
عقبت قصة موسى مع فرعون وقومه بقصة إبراهيم. وقدمت هنا على قصة نوح على خلاف المعتاد في ترتيب قصصهم في القرآن لشدة الشبه بين قوم إبراهيم وبين مشركي العرب في عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر. وفي تمسكهم بضلال آبائهم وأن إبراهيم دعاهم إلى الاستدلال على انحطاط الأصنام عن مرتبة استحقاق العبادة ليكون إيمان الناس مستندا لدليل الفطرة، وفي أن قوم إبراهيم لم يسلط عليهم من عذاب الدنيا مثل ما سلط على قوم نوح وعلى عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين فأشبهوا قريشا في إمهالهم.
فرسالة محمد وإبراهيم صلى الله عليهما قائمتان على دعامة الفطرة في العقل والعمل، أي في الاعتقاد والتشريع، فإن الله ما جعل في خلق الإنسان هذه الفطرة ليضيعها ويهملها بل ليقيمها ويعملها. فلما ضرب الله المثل للمشركين لإبطال زعمهم أنهم لا يؤمنون حتى تأتيهم الآيات كما أوتي موسى، فإن آيات موسى وهي أكثر آيات الرسل السابقين لم تقض شيئا في إيمان فرعون وقومه لما كان خلقهم المكابرة والعناد أعقب ذلك بضرب المثل بدعوة إبراهيم المماثلة لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم في النداء على إعمال دليل النظر.
(19/148)

وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى معلوم من السياق كما تقدم في قوله أول السورة {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
والتلاوة: القراءة. وتقدم في قوله {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} في [البقرة: 102].
ونبأ إبراهيم: قصته المذكورة هنا، أي اقرأ عليهم ما ينزل عليك الآن من نبأ إبراهيم. وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتلاوته للإشارة إلى أن الكلام المتضمن نبأ إبراهيم هو آية معجزة، وما تضمنته من دليل العقل على انتفاء إلهية الأصنام التي هي كأصنام العرب آية أيضا. فحصل من مجموع ذلك آيتان دالتان على صدق الرسول. وتقدم ذكر إبراهيم عند قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} في [البقرة: 124].
و{إِذْ قَالَ} ظرف، أي حين قال. والجملة بيان للنبأ، لأن الخبر عن قصة مضت فناسب أن تبين باسم زمان مضاف إلى ما يفيد القصة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} الآية في سورة [يونس: 71].
و {مَا} اسم استفهام يسأل به عن تعيين الجنس كما تقدم في قوله {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} في هذه السورة [الشعراء: 23]. والاستفهام صوري فإن إبراهيم يعلم أنهم يعبدون أصناما ولكنه أراد بالاستفهام افتتاح المجادلة معهم فألقى عليهم هذا السؤال ليكونوا هم المبتدئين بشرح حقيقة عبادتهم ومعبوداتهم، فتلوح لهم من خلال شرح ذلك لوائح ما فيه من فساد، لأن الذي يتصدى لشرح الباطل يشعر بما فيه من بطلان عند نظم معانيه أكثر مما يشعر بذلك من يسمعه، ولأنه يعلم أن جوابهم ينشأ عنه ما يريده من الاحتجاج على فساد دينهم وقد أجابوا استفهامه بتعيين نوع معبوداتهم.
وأدخل أباه في إلقاء السؤال عليهم: إما لأنه كان حاضرا في مجلس قومه إذ كان سادن بيت الأصنام كما روي، وإما لأنه سأله على انفراد وسأل قومه مرة أخرى فجمعت الآية حكاية ذلك.
والأظهر أن إبراهيم ابتدأ بمحاجة أبيه ثم انتقل إلى محاجة قومه، وأن هذه هي المحاجة الأولى في ملأ أبيه وقومه؛ ألقى فيها دعوته في صورة سؤال استفسار غير إنكار استنزالا لطائر نفورهم، وأما قوله في الآية الأخرى {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات 85، 86] فذلك مقام آخر له في قومه كان بعد الدعوة الأولى المحكية في سورة الصافات. ولأجل ذلك كان الاستفهام مقترنَا بما يقتضي.
(19/149)

التعجب من حالهم بزيادة كلمة "ذا" بعد "ما" الاستفهامية في سورة الصافات. وكلمة "ذا" إذا وقعت بعد "ما" تؤول إلى معنى اسم الموصول فصار المعنى في سورة الأنبياء: ما هذا الذي تعبدونه، فصار الإنكار مسلطا إلى كون تلك الأصنام تعبد.
والظاهر أنه ألقى عليهم السؤال حين تلبسهم بعبادة الأصنام كما هو مناسب الإتيان بالمضارع في قوله {تَعْبُدُونَ} وما فهم قومه من كلامه إلا الاستفسار فأجابوا: بأنهم يعبدون أصناما يعكفون على عبادتها.
والتنوين في {أَصْنَاماً} للتعظيم، لذا عدل عن تعريفها وهم يعلمون أن إبراهيم يعرفها ويعلم أنهم يعبدونها. واسم الأصنام عندهم اسم عظيم فهم يفتخرون به على عكس أهل التوحيد. ولهذا قال إبراهيم لهم في مقام آخر {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} [العنكبوت: 17] على وجه التحقير لمعبوداتهم والتحميق لهم. وأتوا في جوابهم بفعل {نَعْبُدُ} مع أن الشأن الاستغناء عن التصريح إذ كان جوابهم عن سؤال فيه {تَعْبُدُونَ} . فلا حاجة إلى تعيين جنس المعبودات فيقولوا أصناما كما في قوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} فعدلوا عن سنة الجواب إلى تكرير الفعل الواقع في السؤال ابتهاجا بهذا الفعل وافتخارا به، ولذلك عطفوا على قولهم {نعبد} ما يزيد فعل العبادة تأكيدا بقولهم {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} . وفي فعل "نظل" دلالة الاستمرار جميع النهار. وأيضا فهم كانوا صابئة يعبدون الكواكب وجعلوا الأصنام رموزا على الكواكب تكون خلفا عنها في النهار، فإذا جاء الليل عبدوا الكواكب الطالعة.
وضمن {عَاكِفِينَ} معنى "عابدين" فعدي إليه الفعل باللام دون "على". ولما كان شأن الرب أن يلجأ إليه في الحاجة وأن ينفع أو يضر ألقى إبراهيم عليهم استفهاما عن حال هذه الأصنام هل تسمع دعاء الداعين وهل تنفع أو تضر تنبيها على دليل انتفاء الإلهية عنها.
وكانت الأمم الوثنية تعبد الوثن لرجاء نفعه أو لدفع ضره ولذلك عبد بعضهم الشياطين.
وجعل مفعول {يَسْمَعُونَكُمْ} ضمير المخاطبين توسعا بحذف مضاف تقديره: هل يسمعون دعاءكم دل عليه الظرف في قوله {إِذْ تَدْعُونَ} . وأراد إبراهيم فتح المجادلة ليعجزوا على إثبات أنها تسمع وتنفع.
(19/150)

و {بَلْ} في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام، فلما طووا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفاديا من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف.
وقوله {كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف، والتقدير: يفعلون فعلا كذلك الفعل وقدم الجار والمجرور على {يَفْعَلُونَ} للاهتمام بمدلول اسم الإشارة.
واقتصر إبراهيم في هذا المقام "الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه الدعوة" على أن أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضر وإلا لضرته
وضمير {فَإِنَّهُمْ} عائد إلى {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} . وقوله {وَآبَاؤُكُمْ} عطف على اسم {كُنْتُمْ} . والعدو: مشتق من العدوان، وهو الإضرار بالفعل أو القول. والعدو: المبغض، فعدو: فعول بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث "إلا نادرا كقول عمر لنساء من الأنصار: يا عدوات أنفسهن". قال في "الكشاف": حملا على المصدر الذي على وزن فعول كالقبول والولوع.
والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة. ولذلك فقوله {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} من قبيل التشبيه البليغ، أي هم كالعدو لي في أني أبغضهم وأضرهم. وهذا قريب من قوله تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} أي عاملوه معاملة العدو عدوه. وبهذا الاعتبار جمع بين قوله {لَكُمْ عَدُوٌّ} وقوله {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} .
والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله {فَإِنَّهُمْ} دون {فإنها} جري على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة.
وجملة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} مفرعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم. فالفاء في {أَفَرَأَيْتُمْ} للتفريع وقدم عليها همزة الاستفهام اتباعا للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام. وفعل الرؤية قلبي.
ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يعلم من شأنه. ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً} [النجم: 33 - 34] الآية، ومنه تعقيب قوله
(19/151)

هنا {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} بقوله {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} .
وعطف {آبَاؤُكُمْ} على {أَنْتُمْ} لزيادة إظهار قلة اكتراثه بتلك الأصنام مع العلم بأن الأقدمين عبدوها فتضمن ذلك إبطال شبهتهم في إستحقاقها العبادة.
ووصف الآباء بالأقدمية إيغال في قلة الاكتراث بتقليدهم لأن عرف الأمم أن الآباء كلما تقادم عهدهم كان تقليدهم آكد.
والفاء في قوله {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} للتفريع على ما اقتضته جملة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} من التعجيب من شأن عبادتهم إياها. ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجعل الاستفهام تقريريا والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي، أو فاء فصيحة بتقدير: إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدو لي. وهذا الوجه أظهر.
والاستثناء في قوله {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} منقطع. و {إِلَّا} بمعنى {لَكِنِ} إذ كان رب العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فهو الصنم الأعظم عندهم، وإلى قوله {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} . ويظهر أن الكلدانيين "قوم إبراهيم" لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار. وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكب الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو"بعل"، فوظيفة الأصنام عندهم هو تدبير شؤون الناس في حياتهم. وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها. وقد يكونون معترفين برب عظيم للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلا لأن الله من جملة معبوديهم، أي إلا الرب الذي خلق العوالم. وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء. وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت.
[78 - 82] {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} .
(19/152)

الأظهر أن الموصول في موضع نعت لـ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وأن {فَهُوَ يَهْدِينِ} عطف على الصلة مفرع عليه لأنه إذا كان هو الخالق فهو الأولى بتدبير مخلوقاته دون أن يتولاها غيره. ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ مستأنفا به ويكون {فَهُوَ يَهْدِينِ} خبرا عن {الَّذِي} . وزيدت الفاء في الخبر لمشابهة الموصول للشرط. وعلى الاحتمالين ففي الموصولية إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو الاستدراك بالاستثناء الذي في قوله {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] أي ذلك هو الذي أخلص له لأنه خلقني كقوله في الآية الأخرى {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {فَهُوَ يَهْدِينِ} دون أن يقول: فيهدين، لتخصيصه بأنه متولي الهداية دون غيره لأن المقام لإبطال اعتقادهم تصرف أصنامهم بالقصر الإضافي، وهو قصر قلب. وليس الضمير ضمير فصل لأن ضمير الفصل لا يقع بعد العاطف.
والتعبير بالمضارع في قوله {يَهْدِينِ} لأن الهداية متجددة له. وجعل فعل الهداية مفرعا بالفاء على فعل الخلق لأنه معاقب له لأن الهداية بهذا المعنى من مقتضى الخلق لأنها ناشئة عن خلق العقل كما قال تعالى {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. والمراد بالهداية الدلالة على طرق العلم كما في قوله تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] فيكون المعنى: الذي خلقني جسدا وعقلا. ومن الهداية المذكورة دفع وساوس الباطل عن العقل حتى يكون إعمال النظر معصوما من الخطأ.
والقول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وقوله {فَهُوَ يَشْفِينِ} كالقول في سابقهما للرد على زعمهم أن الأصنام تقدر لهم تيسير ما يأكلون وما يشربون وبها برؤهم إذا مرضوا، وليسا بضميري فصل أيضا.
وعطف {وَإِذَا مَرِضْتُ} على {يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} لأنه لم يكن حين قال ذلك مريضا فإن {إِذَا} تخلص الفعل بعدها للمستقبل، أي إذا طرأ علي مرض.
وفي إسناده فعل المرض إلى نفسه تأدب مع الله راعي فيه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة في مقام الأدب، فأسند إحداث المرض إلى ذاته ولأنه المتسب فيه، فأما قوله {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} فلم يأت فيه ما يقتضي الحصر لأنهم لم يكونوا يزعمون أن الأصنام تميت بل عمل الأصنام قاصر على الإعانة أو الإعاقة في أعمال الناس في حياتهم. فأما الموت فهو من فعل الدهر والطبيعة إن كانوا دهريين وإن كانوا يعلمون أن
(19/153)

الخلق والإحياء والأمانة ليست من شؤون الأصنام وأنها من فعل الله تعالى كما يعتقد المشركون من العرب فظاهر.
وتكرير اسم الموصول في المواضع الثلاثة مع أن مقتضى الظاهر أن تعطف الصلتان على الصلة الأولى للاهتمام بصاحب تلك الصلات الثلاث لأنها نعت عظيم الله تعالى فحقيق أن يجعل مستقلا بدلالته.
وأطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع تواضعا لله تعالى ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاقه المغفرة وإنما طمع في ذلك لوعد الله بذلك.
والخطيئة: الذنب. يقال: خطئ إذا أذنب. وتقدم في قوله تعالى {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} في [البقرة: 58]. والمقصود في لسان الشرائع: مخالفة ما أمر به الشرع. وإذا قد كان إبراهيم حينئذ نبيا والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي.
والمغفرة: العفو عن الخطايا، وإنما قيده بـ {يَوْمِ الدِّينِ} لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو، فأما صدور العفو من الله لمثل إبراهيم عليه السلام ففي الدنيا وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة.
ويوم الدين: هو يوم الجزاء، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضا بالدعاء. وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحسي بحيث لا يخفى عن أحد قصدا لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء.
وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخلق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخلق إلى الخلق الثاني وهو البعث، فذكر خلق الجسد وخلق العقل وإعطاء ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمة.
وحذفت ياآت المتكلم من {يَهْدِينِ ،يَسْقِينِ ،يَشْفِينِ ، يُحْيِينِ} لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة، وقد تقدم
(19/154)

ذلك في قوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} في قصة موسى المتقدمة.
[83 - 89] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
لما كان آخر مقالة في الدعوة إلى الدين الحق متضمنا دعاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} فكان حينئذ في حال قرب من الله. وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين، فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف، وكلها فراغ من عبادات. ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} إلى قوله {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} إلى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129] وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وكما أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12].
وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة، قال سعد بن أبي وقاص "أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله" وبضد ذلك أوليات المساوئ ففي الحديث "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل".
وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله {يَوْمِ الدِّينِ} الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وأقحم بين طلباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} .
فابتداء دعائه بأن يعطى حكما. هو الحكمة والنبوءة، قال تعالى عن يوسف {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص: 14] أي النبوءة، وقد كان إبراهيم حين دعا نبيا فلذلك كان السؤال طلبا للازدياد لأن مراتب الكمال لا حد لها بأن يعطى الرسالة مع
(19/155)

النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة، أو سأل الدوام على ذلك.
ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين. ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين، فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخرا لأنه يعم، فكان تذييلا.
ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده. وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه.
وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلا يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويخلد ذكره في الكتب. قال ابن العربي "قال مالك: لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح"، وقد قال الله تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله. وقد تقدم الكلام على هذا مشبعا عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} في [سورة الفرقان: 74].
واللسان مراد به الكلام من إطلاق اسم الآلة على ما يتقوم بها. واللام في قوله {لِي} تقتضي أن الذكر الحسن لأجله فهو ذكره بخير. وإضافة {لِسَانِ} إلى {صَدَقَ} من إضافة الموصوف إلى الصفة، ففيه مبالغة الوصف بالمصدر، أي لسانا صادقا.
والصدق هنا كناية عن المحبوب المرغوب فيه لأنه يرغب في تحققه ووقوعه في نفس الأمر. وسأل أن يكون من المستحقين الجنة خالدا فاستعير اسم الورثة إلى أهل الاستحقاق لأن الوارث ينتقل إليه ملك الشيء الموروث بمجرد موت الملك السابق. ولما لم يكن للجنة مالكون تعين أن يكون الوارثون المستحقين من وقت تبوؤ أهل الجنة الجنة، قال تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11].
وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق
(19/156)

مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته. و في الحديث أنه يؤتي بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيح "أي ضبع ذكر" فيلقى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي قطعا لما فيه شائبة الخزي.
وتقدم الكلام على معنى الخزي عند تفسير قوله تعالى {إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في [سورة البقرة: 85]، وقوله {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في [آل عمران: 192].
وضمير {يُبْعَثُونَ} راجع إلى العباد المعلوم من المقام.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} تعليل لطلب المغفرة لأبيه فيه إيماء إلى أنه سأل له مغفرة خاصة وهي مغفرة أكبر الذنوب أعني الإشراك بالله، وهو سؤال اقتضاه مقام الخلة وقد كان أبوه حيا حينئذ لقوله في الآية الأخرى {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47]. ولعل إبراهيم علم من حال أبيه أنه لا يرجى إيمانه بما جاء به ابنه؛ أو أن الله أوحى إليه بذلك ما ترشد إليه آية {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. ويجوز أنه لم يتقرر في شرع إبراهيم حينئذ حرمان المشركين من المغفرة فيكون ذلك من معنى قوله تعالى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. ويجوز أن يكون طلب الغفران له كناية عن سبب الغفران وهو هدايته إلى الإيمان.
و {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} الخ يظهر أنه من كلام إبراهيم عليه السلام فيكون {يَوْمَ لا يَنْفَعُ} بجلا من {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قصد به إظهار أن الالتجاء في ذلك اليوم إلى الله وحده ولا عون فيه بما اعتاده الناس في الدنيا من أسباب الدفع عن أنفسهم.
واستظهر ابن عطية: أن الآيات التي أولها {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} يريد إلى قوله {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله تعالى صفة لليوم الذي وقف إبراهيم عنده في دعائه أن لا يخزى فيه اه. وهو استظهار رشيق فيكون {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ} استئنافا خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: هو يوم لا ينفع مال ولا بنون. وفتحة {يَوْمَ} فتحة بناء لأن {يَوْمَ} ظرف أضيف إلى فعل معرب فيجوز إعرابه ويجوز بناؤه على الفتح، فهو كقوله تعالى {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} . ويظهر على هذا الوجه أن يكون المراد بـ {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة
(19/157)

الصافات في قوله {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ " أي شيعة نوح" لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
وفيه أيضا تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب "على لاحب لا يهتدى بمناره"، أي لا منار له فيهتدي به، وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة. ومن عبارات علم المنطق "السالبة تصدق بنفي الموضوع".
والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة "وهي النصر"، فالمال وسيلة الفدية، والبنون أحق من ينصرون أباهم، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهدا يجب الوفاء به. قال قيس بن الخطيم:
ثأرت عديا والخيم ولم أضع
...
ولاية أشياخ جعلت إزاءها.
واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأولى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العرف. فالكلام من قبيل الاكتفاء، كأنه قيل: يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر. وقوله {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} استثناء من مفعول {يَنْفَعُ} ، أي إلا منفوعا أتى الله بقلب سليم.
هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثر على أحد من سلف المفسرين عد هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام. وذكر صاحب الكشاف احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذف، فبنا أن نفصل وجه استفادة هذا المعنى من نظم الآية بوجه يكون أليق بتركيبها دون تكلف.
فاعلم أن فعل {يَنْفَعُ} رافع لفاعل ومتعد إلى مفعول، فهو بحق تعدية إلى المفعول يقتضي مفعولا، كما يصلح لأن تعلق به متعلقات بحروف تعدية، أي حروف جر، وإن أول متعلقاته خطورا بالذهن متعلق سبب الفعل، فيعلم أن قوله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يشير إلى فاعل {يَنْفَعُ} ومفعوله وسببه الذي يحصل به، فقوله {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو المتعلق بفعل {أَتَى اللَّهَ} لأن فاعل الإتيان إلى الله هو المنفوع فهو في المعنى مفعول فعل {يَنْفَعُ} والمتعلق بأحد فعليه وهو فعل {أَتَى} الذي
(19/158)

هو فاعله متعلق في المعنى بفعله الآخر وهو {يَنْفَعُ} الذي {مَنْ أَتَى اللَّهَ} مفعوله. فعلم أن تقدير الكلام: يوم لا ينفع نافع أو شيء، أو نحو ذلك مما يفيد عموم نفي النافع، حسبما دل عليه {مَالٌ وَلا بَنُونَ} من عموم الأشياء كما قررنا. وحذف مفعول {يَنْفَعُ} لقصد العموم كحذفه في قوله تعالى {والله يدعو إلى دار السلام} أي يدعو كل أحد، فتحصل أن التقدير: يوم لا ينفع أحدا شيء يأتي به للدفع عن نفسه.
والمستثنى وهو {مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} متعين لأن يكون استثناء من مفعول {يَنْفَعُ} وليس مستثنى من فاعل {يَنْفَعُ} لأن من أتى الله بقلب سليم يومئذ هو منفوع لا نافع فليس مستثنى من صريح أحد الاسمين السابقين قبله، ولا مما دل عليه الايمان من المعنى الأعم الذي قدرناه بمعنى {ولا غيرهما} ، فتمحض أن يكون هذا المستثنى مخرجا من عموم مفعول {يَنْفَعُ} . وتقديره: إلا أحد أتى الله بقلب سليم، أي فهو منفوع، واستثناؤه من مفعول فعل {يَنْفَعُ} يضطرنا إلى وجوب تقدير نافعه فاعل فعل {يَنْفَعُ} ، أي فإن نفعه شيء نافع. ويبين إجماله متعلق فعل {يَنْفَعُ} وهو {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} إذ كان القلب السليم سبب النفع فهو أحد أفراد الفاعل العام المقدر بلفظ {شيء} كما تقدم آنفا.
فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع "أي نافع نفسه" بدلالة المجرور المتعلق بفعل {أَتَى} ، فإن القلب السليم قلب ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعا ومنفوعا باختلاف الاعتبار، وهو ضرب من التجريد. وقريب من وقوع الفاعل مفعولا في باب ظن في قولهم: خلتني ورأيتني، فجعل القلب السيم سببا يحصل به النفع، ولهذا فالاستثناء متصل مفرغ عن المفعول. وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجاز مغن أضعاف من الجمل الطويلة. وجعل الاستثناء منقطعا لا يدفع الإشكال.
والقلب: الإدراك الباطني.
والسليم: الموصوف بقوة السلامة، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي. وضده المريض مرضا مجازيا قال تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]. والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة والظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربهم
(19/159)

[90 - 95] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .
الظاهر أن الواو في قوله {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} واو الحال، والعامل فيها {لا يَنْفَعُ مَالٌ} [الشعراء: 88]، أي يوم عدم نفع من عدا من أتى الله بقلب سيلم وقد أزلفت الجنة للمتقين. والخروج إلى تصوير هذه الأحوال شيء اقتضاه مقام الدعوة إلى الإيمان بالرغبة والرهبة لأنه ابتدأ الدعوة بإلقاء السؤال على قومه فيما يعبدون إيقاظا لبصائرهم، ثم أعقب ذلك بإبطال إلهية أصنامهم. والاستدلال على عدم استئهالها الإلهية بدليل التأمل، وهو أنها فاقدة السمع والبصر وعاجزة عن النفع والضر، ثم طال دليل التقليد الذي نحا إليه قومه لما عجزوا عن تأييد دينهم بالنظر.
فلما نهضت الحجة على بطلان إلهية أصنامهم انتصب لبيان الإله الحق رب العالمين، الذي له صفات التصرف في الأجسام والأرواح، تصرف المنعم المتوحد بشتى التصرف إلى أن يأتي تصرفه بالإحياء المؤبد وأنه الذي نطمع في تجاوزه عنه يوم البعث فليعلموا أنهم إن استغفروا الله عما سلف منهم من كفر فإن الله يغفر لهم، وأنهم أن لم يقلعوا عن الشرك لا ينفعهم شيء يوم البعث، ثم صور لهم عاقبة حالي التقوى والغواية بذكر دار إجزاء الخير ودار إجزاء الشر.
ولما كان قومه مستمرين على الشرك ولم يكن يومئذ أحد مؤمنا غيره وغير زوجه وغير لوط ابن أخيه كان المقام بذكر الترهيب أجدر ، فلذلك أطنب في وصف حال الضالين يوم البعث وسوء مصيرهم حيث يندمون على ما فرطوا في الدنيا من الإيمان والطاعة ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتداركوا الإيمان ولات ساعة مندم.
والإزلاف: التقريب. وقدم تقدم في قوله {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} في هذه السورة. والمعنى: أن المتقين يجدون الجنة حاضرة فلا يتجشمون مشقة السوق إليها.
واللام في {لِلْمُتَّقِينَ} لام التعدية.
{وَبُرِّزَتِ} مبالغة في أبرزت لأن التضعيف فيه مبالغة ليست في التعدية بالهمزة، ونظيره في قوله تعالى {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} في [سورة النازعات: 36]. والمراد بـ {الْغَاوِينَ} الموصوفون بالغواية، أي ضلال الرأي.
(19/160)

وذكر ما يقال للغاوين للإنحاء عليهم وإظهار حقارة أصنامهم، فقيل لهم {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} وفي الاقتصار على ذكر هذا دون غيره مما يخاطبون به يومئذ مناسبة لمقام طلب الإقلاع عن عبادة تلك الأصنام.
وأسند فعل القول إلى غير معلوم لأن الغرض تعلق بمعرفة القول لا بمعرفة القائل، فالقائل الملائكة بإذن من الله تعالى لأن المشركين أحقر من أن يوجه الله إليهم خطابه مباشرة.
والاستفهام في قوله {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} استفهام عن تعيين مكان الأصنام إن لم تكن حاضرة، أو عن عملها إن كانت حاضرة في ذلك الموقف، تنزيلا لعدم جدواها فيما كانوا يأملونه منها منزلة العدم تهكما وتوبيخا وتوقيفا على الخطأ.
والاستفهام في {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} كذلك مع الإنكار أن تكون الأصنام نصراء. والانتصار طلب النصير.
وكتب {أَيْنَمَا} في المصاحف موصولة نون "أين" بميم "ما" والمتعارف في الرسم القياسي أن مثله يكتب مفصولا لأن {ما} هنا اسم موصول وليست المزيدة بعد "أين" التي تصير "أين" بزيادتها اسم شرط لعموم الأمكنة، ورسم المصحف سنة متبعة.
و {أَوْ} للتخيير في التوبيخ والتخطئة، أي هل أخطأتم في رجاء نصرها إياكم، أو في الأقل هل تستطيع نصر أنفسها وذلك حين يلقى بالأصنام في النار بمرأى من عبدتها ولذلك قال {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} ، أي كبكبت الأصنام في جهنم.
ومعنى {فَكُبْكِبُوا} كبوا فيها كبا بعد كب فإن {فَكُبْكِبُوا} مضاعف كبوا بالتكرير وتكرير اللفظ مفيد تكرير المعنى مثل: كفكف الدمع، ونظيره في الأسماء: جيش لملم، أي كثير، مبالغة في اللم وذلك لأن له فعلا مرادفا له مشتملا على حروفه ولا تضعيف فيه مكان التضعيف في مرادفه لأجل الدلالة على الزيادة في معنى الفعل.
وضمائر {يَنْصُرْكُمُ - وَ - يَنْتَصِرُونَ - وَ - كُبْكِبُوا} عائد إلى {مَا تَعْبُدُونَ} بتنزيلها منزلة العقلاء. وجنود إبليس: وهم أولياؤه وأصناف أهل الضلالات التي هي من وسوسة إبليس. وتقدم الكلام على إبليس في سورة البقرة.
[96 - 102] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ
(19/161)

نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
ويجوز أن يكون هذا من حكاية كلام إبراهيم عليه السلام أطنب به الموعظة لتصوير هول ذلك اليوم فتكون الجملة حالا، أو تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كما سيأتي.
ويجوز أن يكون حكاية كلام إبراهيم انتهت عند قوله {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أو عند قوله تعالى {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} على ما استظهر ابن عطية. ويكون هذا الكلام موعظة من الله للسامعين من المشركين وتعليما منه للمؤمنين فتكون الجملة استئنافا معترضا بين ذكر القصة والتي بعدها وهو استئناف بياني ناشئ عن قوله {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} لأن السامع بحيث يسأل عن فائدة إيقاع الأصنام في النار مع أنها لا تفقه ولا تحسن فبين له ذلك فحكاية مخاصمة عبدتها بينهم لأن رؤيتهم أصنامهم هو مثار الخصومة بينهم إذ رأى الأتباع كذب مضلليهم معاينة ولا يجد المضللون تنصلا ولا تفصيا فإن مذلة الأصنام وحضورها معهم وهم في ذلك العذاب أقوى شاهد على أنها لا تملك شيئا لهم ولا لأنفسها.
وأما جملة {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} فهي في موضع الحال، وجملة {تَاللَّهِ} مقول القول، وجملة {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} جواب القسم. و {إِنْ} مخففة من "إن" الثقيلة وقد أهملت عن العمل بسبب التخفيف فإنه مجوز للإهمال. والجملة بعدها سادة مسد اسمها وخبرها. واقتران "كان" باللام في الجملة التي بعدها بين {إِنْ} المخففة المؤكدة وبين "إن" النافية، والغالب أن لا تخلو الجملة التي بعد {إِنْ} المخففة عن فعل من باب "كان".
وجيء في القسم بالتاء دون الواو لأن التاء تختص بالقسم في شيء متعجب منه كما تقدم في قوله تعالى {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} في [سورة يوسف: 73]، وقوله {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} في [سورة الأنبياء: 57]، فهم يعجبون من ضلالهم إذ ناطوا آمالهم المعونة والنصر بحجارة لا تغني عنهم شيئا. ولذلك أفادوا تمكن الضلال منهم باجتلاب حرف الظرفية المستعار لمعنى الملابسة لأن المظروف شديد الملابسة لظرفه، وأكدوا ذلك بوصفهم الضلال بالمبين، أي الواضح البين. وفي هذا تسفيه منهم لأنفسهم إذ تمشى عليها هذا الضلال الذي ما كان له أن يروج على ذي مسكة من عقل.
(19/162)

و {إِذْ نُسَوِّيكُمْ} ظرف متعلق بـ {كُنَّا} أي كنا في ضلال في وقت إنا نسويكم برب العالمين. وليست {إِذْ} بموضوعة للتعليل كما توهمه الشيخ أحمد بن علوان التونسي الشهير بالمصري فيما حكاه عنه المقري في نفح الطيب في ترجمة أبي جعفر اللبلي في الباب الخامس من القسم الأول، وإنما غشي عليه حاصل المعنى المجازي فتوهمه معنى من معاني {إِذْ}. ومنه قول النابغة:
فعد عما ترى إذ
... لا ارتجاع له
أي حين لا ارتجاع له.
والتسوية: المعادلة والمماثلة، أي إذ نجعلكم مثل رب العالمين، فالظاهر أنهم جعلوهم مثله مع الاعتراف بالإلهية وهو ظاهر حال إشراكهم كما تقدم في قوله {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]، ويحتمل أنهم جعلوه مثله فيما تبين لهم من إلهيته يومئذ إذ كانوا لا يؤمنون بالله أصلا في الدنيا فهي تسوية بالمآل وقد آبوا إلى الاعتراف بما تضمنته كلمة إبراهيم لهم في الدنيا إذ قال لهم {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77].
وضمير الخطاب في {نُسَوِّيكُمْ} موجه إلى الأصنام، وهو من توجيه المتندم الخطاب إلى الشيء الذي لا يعقل وكان سببا في الأمر الذي جر إليه الندامة بتنزيله منزلة من يعقل ويسمع. والمقصود من ذلك المبالغة في توبيخ نفسه. ومنه ما روى الغزالي في الإحياء: أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق فوجده ممسكا بلسانه بأصبعيه وهو يقول: أنت أوردتني الموارد. وعن ابن مسعود أنه وقف على الصفا يلبي ويقول: يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم. وهذا أسلوب متبع في الكلام نثرا ونظما قال أبو تمام:
فيا دمع أنجدنى على ساكني نجد
وصيغ {نُسَوِّيكُمْ} في صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة حين يتوجهون إلى الأصنام بالدعاء والنعوت الإلهية.
وقولهم {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} خطاب بعض العامة لبعض. وعنوا بالمجرمين أيمة الكفر الذين ابتدعوا لهم الشرك واختلقوا لهم دينا.
والمناسب أن يكون التعريف في {الْمُجْرِمُونَ} مستعملا في كمال الإجرام فإن من.
(19/163)

معاني اللام أن تدل على معنى الكمال.
ورتبوا بالفاء انتفاء الشافعين على جملة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} حيث أطمعوهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله مثل المشركين من العرب {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فتبين لهم أن لا شفاعة لها، وهذا الخبر مستعمل في التحسر والتوجع.
والشافع: الذي يكون واسطة جلب نفع لغيره أو دفع ضر عنه. وتقدم ذكر الشفاعة في قوله {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} في [البقرة: 123]، والشفيع في أول سورة يونس.
وأما قولهم {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فهو تتميم أثاره ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون، ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسلسك أو يتوجع ويومئذ حقت كلمة الله {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى {أَوْ صَدِيقِكُمْ} في [سورة النور: 61].
والحميم: القريب، فعيل من حم بفتح الحاء إذ دنا وقرب أخص من الصديق.
والمراد جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكد بـ {مِنْ} الزائدة، وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس. وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء بـ {شَافِعِينَ} جمعا، وبـ {صَدِيقٍ} مفردا لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم. وأما الصديق فإنه مفروض جنسه دون عدد أفراده إذ لم يعنوا عددا معينا فبقي على أصل نفي الجنس، وعلى الأصل في الألفاظ إذ لم يكن داع لغير الإفراد. والذي يبدو لي أنه أوثر جمع {شَافِعِينَ} لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم. وأما إفراد {صَدِيقٍ} فلأنه أريد أن يجرى عليه وصف {حَمِيمٍ} فلو جيء بالموصوف جمعا لاقتضى جمع وصفه، وجمع {حَمِيمٍ} فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء.
ثم فرعوا على هذا التحسر والندامة تمني أن يعادوا إلى الدنيا ليتداركوا أمرهم في
(19/164)

الإيمان بالله وحده.
و"لو" هذه للتمني، وأصلها "لو" الشرطية لكنها تنوسي منها معنى الشرط.
وأصلها: لو أرجعنا إلى الدنيا لآمنا، لكنه إذا لم يقصد تعليق الامتناع على امتناع تمحضت "لو" للتمني لما بين الشيء الممتنع وبين كونه متمنى من المناسبة. والكرة: مرة من الكر وهو الرجوع.
وانتصب {فَتَكُونَ} في جواب التمني.
[103، 104] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
تكرير ثالث لهاته الجملة تعدادا على المشركين وتسجيلا لتصميمهم. واسم الإشارة إشارة إلى كلام إبراهيم عليه السلام فإن فيه دليلا بينا على الوحدانية الله تعالى وبطلان إلهية الأصنام، فكما لم يهتد بها قوم إبراهيم فما كان أكثر المشركين بمكة بمؤمنين بها بعد سماعها، ولكن التبليغ حق على الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم الكلام على نظير هذه الآية.
[105 - 110] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
استئناف لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناشئ عن قوله {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 103] أي لا تأس عليهم ولا يعظم عليك أنهم كذبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين؛ وقد علم العرب رسالة نوح، وكذلك شأن أهل العقول الضالة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها.
وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل {قَوْمُ} بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال: قالت قريش1، وقالت بنو عامر2، وذلك قياس في كل اسم جمع لا واحد له من لفظه.
ـــــــ
1 أشرت إلى قول الشاعر:
إذا قُتِلنا ولم يثْأر لنا أحد
...
قالت قريش ألا تلك المقادير
2 أشرت إلى قول النابغة:
قالت بنو عامر خانوا بني أسد
...
يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام
(19/165)

إذا كان للآدمي مثل نفر ورهط، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير. قاله الجوهري وتبعه صاحب "اللسان" و"المصباح".
ووقع في الكشاف هذه العبارة "القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة" فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير، وهذا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في الأساس فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده. ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث "قوم" وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكد بقوله: وتصغيره قويمة، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها. وأيا ما كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز.
وجمع {الْمُرْسَلِينَ} وإنما كذبوا رسولا واحدا أول الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذبين فإنما جمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشرا وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالا فكان تكذيبهم إياه مقتضيا تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه السلام، ولذلك تكرر في قوله {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123] وما بعده. وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشرا في قوله {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} في [الأعراف: 63].
وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله {كَذَّبَتْ} وقوله {الْمُرْسَلِينَ} .
و{إِذْ قَالَ} ظرف، أي كذبوه حين قال لهم {أَلا تَتَّقُون} فقالوا {أَنُؤْمِنُ لَكَ} . ويظهر أن قوله {أَلا تَتَّقُونَ} صدر بعد أن دعاهم من قبل وكرر دعوتهم إذ رآهم مصرين على الكفر ويدل لذلك قولهم في مجاوبته {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء 111].
وخص بالذكر في هذه السورة هذا الموقف من مواقفه لأنه أنسب بغرض السورة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر مماثل حاله مع قومه. والأخ مستعمل في معنى القريب من القبيلة. وقد تقدم في قوله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} في [سورة الأعراف: 65].
وقوله {أَلا تَتَّقُونَ} يجوز أن يكون لفظ {أَلا} مركبا من حرفين همزة استفهام دخلت على "لا" النافية، فهو استئناف عن انتفاء تقواهم مستعمل في الإنكار وهو يقتضي.
(19/166)

امتناعهم من الامتثال لدعوته.
ويجوز أن يكون {أَلا} حرفا واحدا هو حرف التحضيض مثل قوله تعالى {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] وهو يقتضي تباطؤهم عن تصديقه.
والمراد بالتقوى: خشية الله من عقابه إياهم على أن جعلوا معه شركاء.
وجملة {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} تعليل للإنكار أو للتحضيض، أي كيف تستمرون على الشرك وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمين عنكم.
وكان نوح موسوما بالأمانة لا يتهم في قومه كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يلقب الأمين في قريش. قال النابغة:
كذلك كان نوح لا يخون
وتأكيده بحرف التأكيد مع عدم سبق إنكارهم أمانته لأنه توقع حدوث الإنكار فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة فإن الأمانة دليل على صدقه فيما بلغهم من رسالة الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله؛ هل جربتم عليه "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كذبا فقال أبو سفيان: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما فعل فيها. فقال له هرقل بعد ذلك: فقد علمت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله. ففي حكاية استدلال نوح بأمانته بين قومه في هذه القصة المسوقة مثلا للمشركين في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذ كذبوه بعد أن كانوا يدعونه الأمين، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها. والتأكيد أيضا لتوقع الإنكار منهم.
وجملة {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} عطف على جملة {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي علمتم أني أمين لكم وتعلمون أني لا أطلب من دعوتكم إلى الإيمان نفعا لنفسي. وضمير {عَلَيْهِ} عائد إلى معلوم من مقام الدعوة.
وقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} تأكيد لقوله {أَلا تَتَّقُونَ} وهو اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين. وكرر جملة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لزيادة التأكيد فيكون قد افتتح دعوته بالنهي عن ترك التقوى ثم علل ذلك ثم أعاد ما تقتضيه جملة الاستفتتاح، ثم علل ذلك بقوله {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ، ثم أعاد جملة الدعوة في آخر كلامه إذ قال {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} مرة ثانية بمنزلة النتيجة للدعوة ولتعليلها.
(19/167)

وحذفت الياء من {أَطِيعُونِ} في الموضعين كما حذفت في قوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} في أوائل السورة.
وفي قوله {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارة إلى يوم الجزاء وكانوا ينكرون البعث كما دل عليه قوله في [سورة نوح: 18] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} . وتقدم ذكر نوح عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في [آل عمران: 33].
[111 - 115] {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
جملة {قَالُوا} استئناف بياني لما يثيره قوله {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} من استشراق السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين نوح من حوار ولذلك حكيت مجادلتهم. بطريقة: قالوا، وقال. والقائلون: هم كبراء القوم الذي تصدوا لمحاورة نوح.
والاستفهام في {أَنُؤْمِنُ} استفهام إنكاري، أي لا نؤمن لك وقد اتبعك الأرذولون فجملة {وَاتَّبَعَكَ} حالية.
والأرذولون: سقط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخسة والحقارة، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاء سواء في اتباع نوح. وهذا كما قال عظماء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان من المؤمنين عمار وبلال وزيد ابن حارثة: أنحن نكون تبعا لهؤلاء أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآيات من [سورة الأنعام: 52].
وقرأ الجمهور {وَاتَّبَعَكَ} بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال. والمعنى: أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه. وقرأ يعقوب {واتباعك} بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع. والمعنى: أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغة قصر.
وجواب نوح عن كلام قومه يحتاج إلى تدقيق في لفظه ومعناه. فأما لفظه فاقتران.
(19/168)

أوله بالواو يجعله في حكم المعطوف على كلام قومه تنبيها على اتصاله بكلامهم. وذلك كناية عن مبادرته بالجواب كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام قال {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} بعد قوله {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} . ويسمى عطف تلقين مراعاة لوقوعه في تلك الآية والأولى أن يسمى عطف تكميل.
وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصلوا إجمال وصفهم أتباعه بالأرذلين بأن بينوا أوصافا من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس فأتى بالاستفهام عن علمه استفهاما مستعملا في قلة الاعتناء بالمستفهم عنه، وهو كناية عن قلة جدواه لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به، والجهل تلازمه قلة العناية بالمجهول وضعف شأنه، كما يقال لك: يهددك فلان، فتقول: وما فلان، أي لا يعبأ به. وفي خبر وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن أبا عبيدة كان يقوتنا كل يوم تمرة فقال وهب: قلت وما تغني عنكم تمرة.
والمعنى: أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى اشتغل بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبل إيمانهم.
وضمن {عِلْمِي} معنى اشتغالي واهتمامي فعدي بالباء.
و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} موصول ما صدقه الحالة لأن الحالة لا تخلو من عمل. فالمعنى: وما علمي بأعمالهم. وهذا كما يقال في السؤال عن أحد: ماذا فعل فلان ? أي ما خبره وما حاله ? ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للصبي الأنصاري يا أبا عمير ما فعل النغير لطائر يسمى النغر بوزن صرد وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به، ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين الله أعلم بما كانوا عاملين أي الله اعلم بحالهم، فهو إمساك عن الجواب. وقريب منه قول العرب: ما باله، أي ما حاله ?.
وفعل {كَانُوا} مزيد بين "مَا" الموصولة وصلتها لإفادة التأكيد، أي تأكيد مدلول "ما علمي بما كانوا يعملون". والمعنى: أي شيء علمي بما يعملون. وليس المراد بما كانوا عملوه من قبل. والواو في قوله {بما كانوا} فاعل وليست اسما لـ"كان" لأن "كان" الزائدة لا تنصب الخبر.
وشمل قوله {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن.
والحساب حقيقته: العد، واستعمل في معنى تمحيض الأ'مال وتحقيق ظواهرها وبواطنها بحيث لا يفوت منها شيء أو يشتبه.
(19/169)

والمعنى: أن الله هو الذي يتولى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم. وهذا المقال اقتضاه قوله {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرع فلذلك لما قال {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أتبعه بقوله {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فرصته. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا قالوها "أي لا إله إلا الله" عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله.
وزاد نوح قوله بيانا بقوله {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وبين هذا المعنى قوله في الآية الأخرى {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} في [سورة هود: 31].
والقصر في قوله {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} قصر موصوف على الصفة، والموصوف هو حسابهم والصفة هي على ربي، لأن المجرور الخبر في قوة الوصف، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقر كما بينه علماء النحو. والتقدير: حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول {عَلَى رَبِّي} . وكذلك قدره السكاكي في المفتاح، وهو قصر إفراد إضافي، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه علي. وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه.
وقوله {لَوْ تَشْعُرُونَ} تجهيل لهم ورغم لغرورهم وإعجابهم الباطل. وجواب {لَوْ} محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: لو تشعرون لشعرتم بأن حسابهم على الله لا علي فلما سألتمونيه. ودل على أنه جهلهم قوله في [سورة هود: 29] {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} 1. هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض.
والمفسرون نحوا منحى تأويل {الْأَرْذَلُونَ} أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به، وجعلوا قوله {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تبرؤا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم. ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر.
ـــــــ
1 في المطبوعة: "ولكنكم قوم تجهلون" وهو خطأ، والمثبت هو الصواب والله أعلم.
(19/170)

وعطف قوله {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} على قوله {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فبعد أن أبطل مقتضى طردهم صرح بأنه لا يفعله.
وجملة {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} استئناف في معنى التعليل، أي لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم.
والمبين: من أبان المتعدي بمعنى بين ووضح. والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة.
وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف لنوح عليه السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف ما، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى.
[116 - 120] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .
لما أعياهم الاستدلال صاروا إلى سلاح المبطلين وهو المناضلة بالأذى.
والرجم: الرمي بالحجارة، وقد غلب استعماله في القتل به، و {مِنَ الْمَرْجُومِينَ} يفيد من بين الذين يعاقبون بالرجم، أي من فئة الدعار الذين يستحقون الرجم، كما تقدم في قوله {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في [سورة الأنعام: 56].
وقوله {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} تمهيد للدعاء عليهم وهو خبر مستعمل في إنشاء التحسر واليأس من إقلاعهم عن التكذيب.
والفتح: الحكم، وتأكيده بـ {فَتْحاً} لإرادة حكم شديد، وهو الاستئصال ولذلك أعقبه بالاحتراس بقوله {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
والمشحون: المملوء.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي في الإخبار لأن إغراق أمة كاملة أعظم دلالة على عظيم القدرة من إنجاء طائفة من الناس.
(19/171)

وحذف الياء من قوله {كَذَّبُونِ} للفاصلة كما تقدم في قوله {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .
[121، 122] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
الآية في قصة نوح دلالتها على أن الله لا يقر الذين يكذبون رسله ففي هذه القصية آية للمشركين من قريش وهم يعلمون قصة نوح والطوفان.
[123 - 127] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
جملة مستأنفة استئناف تعداد لأخبار التسلية للرسول وتكرير الموعظة للمكذبين بعد جملة {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} .
والقول في هذه الآيات كالقول في نظيرتها في أول قصة نوح سواء سوى أن قوله تعالى {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} يفيد أنهم كذبوا رسولهم هودا وكذبوا رسالة نوح لأن هودا وعظهم بمصير قوم نوح في آية {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} في [سورة الأعراف: 69].
واقترن فعل {كَذَّبَتْ} بتاء التأنيث لأن اسم عاد علم على أمة فهو مؤول بمعنى الأمة.
والقول في {أَلا تَتَّقُونَ} مثل القول في نظيره المتقدم في قصة قوم نوح. وقوله {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} هو كقول نوح لقومه، فإن الرسول لا يبعث إلا وقد كان معروفا بالأمانة وحسن الخلق قبل الرسالة. ويدل لكون هود قد كان كذلك في قومه قول قومه له {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} في [سورة هود: 54] الدال على أنهم زعموا أن تغير حاله عما كان معروفا به من قبل بسبب سوء اعتقاده في آلهتهم.
وتفريع {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} عليه كما تقدم في قصة نوح. وحذف ياء {وَأَطِيعُونِ} للفاصلة كحذفها في قصة نوح وإبراهيم آنفا.
(19/172)

وتقدم ذكر عاد وهود عند قوله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} في [سورة الأعراف: 65].
[128 - 130] { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} .
رأى من قومه تمحضا للشغل بأمور دنياهم، وإعراضا عن الفكرة في الآخرة والعمل لها والنظر في العاقبة، وإشراكا مع الله في إلهيته، وانصرافا عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأعمرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم، فانصرفت هماتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب.
وكانت عاد قد بلغوا مبلغا عظيما من البأس وعظم السلطان والتغلب على البلاد مما أثار قولهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فقد كانت قبائل العرب تصف الشيء العظيم في نوعه بأنه "عادي" وكانوا أهل رأي سديد ورجاحة أحلام قال وداك ابن ثميل المازني:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم
...
ولو نطق العوار غرب لسان
وقال النابغة يمدح غسان:
أحلام عاد وأجساد مطهرة
...
من المعقة والآفات والأثم
فطال عليهم الأمد، وتفننوا في إرضاء الهوى، وأقبلوا على الملذات واشتد الغرور بأنفسهم فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة، فعبدوا الأصنام، واستخفوا بجانب الله تعالى، واستحمقوا الناصحين، وأرسل الله إليهم هودا ففاتحهم بالتوبيخ على ما فتنوا بالإعجاب به وبذمه إذ ألهاهم التنافس فيه عن معرفة الله فنبذوا اتباع الشرائع وكذبوا الرسول. فمن سابق أعمال عاد أنهم كانوا بنوا في طرق أسفارهم أعلاما ومنارات تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبنوا حصونا وقصورا على أشراف من الأرض، وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق، ومن الهلكة عطشا إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه، فمتى أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده كانت جديرة بالثناء عاجلا والثواب آجلا.
(19/173)

فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها. فصار وجودها شبيها بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر بعادته وطاعته. وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا.
والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عمليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تبنى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوبا للناس فإن باعث الرغبة المنبث في الناس مغن عن ترغيبهم فيه، وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك، وإذا كان الباعث على الخير مفقودا أو ضئيلا. وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دل عليه قوله تعالى عنهم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136]. ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر فموعظة هود عليه السلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع.
ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقص النافع للحياة في الآخرة نزل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل {تَبْنُون} ، وقيد بجملة {تُبْعَثُونَ} التي هي في موضع الحال من فاعل {تَبْنُونَ} ، مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثا، فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيد بالعبث لأن الحكم إذا دخل على مقيد بقيد انصرف إلى ذلك القيد.
وكذلك المعطوف على الفعل المستفهم عنه وهو جملة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} هو داخل في حيز الإنكار ومقيد بها المعطوف عليه بناء على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك.
(19/174)

وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيين البناء والآيات والمصانع كما سيأتي. وفي بعض ما قالوه ما هو متحمض للهو والعبث والفساد، وفي بعضه ما الأصل فيه الإباحة، وفي بعضه ما هو صلاح ونفع كما سيأتي.
وموقع جملة {أَتَبْنُونَ} في موضع بدل الاشتمال لجملة {أَلا تَتَّقُونَ} فإن مضمونها مما يشتمل عليه عدم التقوى الذي تسلط عليه الإنكار وهو في معنى النفي.
والريع بكسر الراء: الشرف، أي المكان المرتفع، كذا عن ابن عباس، والطريق والفج بي الجبلين، كذا قال مجاهد وقتادة.
والآية: العلامة الدالة على الطريق، وتطلق الآية على المصنوع المعجب لأنه يكون علامة على إتقان صانعه أو عظمة صاحبه.
و"كل" مستعمل في الكثرة، أي في الأرياع المشرفة على الطرق المسلوكة، والعبث: العمل الذي لا فائدة نفع فيه.
والمصانع: جمع مصنع وأصله مفعل مشتق من صنع فهو مصدر ميمي وصف به للمبالغة، فقيل: هو الجابية المحفورة في الأرض. وروي عن قتادة: مبنية بالجير يخزن بها الماء ويسمى صهريجا وماجلا، وقيل: قصور وهو عن مجاهد.
وكانت بلاد عاد ما بين عمان وحضرموت شرقا وغربا ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاق.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} مستأنفة. و"لعل" للترجي، وهو طلب المتكلم شيئا مستقرب الحصول، والكلام تهكم بهم، أي أرجو لكل الخلود بسبب تلك المصانع. وقيل: جعلت عاد بنايات على المرتفعات على الطرق يعبثون فيها ويسخرون بالمارة. وقد يفسر هذا القول بأن الأمة في حال انحطاطها حولت ما كان موضوعا للمصالح إلى مفاسد فعمدوا إلى ما كان مبنيا لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لهو وسخرية كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر، وكما أدركنا الصهاريج التي في قرطاجنة كانت خزانا لمياه زغوان المنسابة إليها على الحنايا فرأيناها مكامن للصوص ومخازن للدواب إلى أول هذا القرن سنة 1303 هـ.
(19/175)

وقيل: إن المصانع قصور عظيمة اتخذوها فيكون الإنكار عليهم متوجها إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة كأنها تمنعهم من الموت فيكون الكلام مسوقا مساق الموعظة من التوغل في الترف والتعاظم. هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملين كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة.
وقوله {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أعقب به موعظتهم على اللهو واللعب والحرص على الدنيا بأن وعظهم على الشدة على الخلق في العقوبة وهذا من عدم التوازن في العقول فهم يبنون العلامات لإرشاد السابلة ويصطنعون المصانع لإغاثة العطاش فكيف يلاقي هذا التفكير بالإفراط في الشدة على الناس في البطش بهم، أي عقوبتهم.
والبطش: الضرب عند الغضب بسوط أو سيف، وتقدم في قوله {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في آخر [الأعراف: 195].
و {جَبَّارِينَ} حال من ضمير {بَطَشْتُمْ} وهو جمع جبار، والجبار: الشديد في غير الحق. فالمعنى: إذا بطشتم كان بطشكم في حالة التجبر، أي الإفراط في الأذى وهو ظلم قال تعالى {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19]. وشأن العقاب أن يكون له حد مناسب للذنب المعاقب عليه بلا إفراط ولا تفريط في البطش استخفاف بحقوق الخلق.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات.." الحديث. ووقع فعل {بَطَشْتُمْ} الثاني جوابا لـ {إِذاً} وهو مرادف لفعل شرطها لحصول الاختلاف بين فعل الشرط وفعل الجواب بالعموم والخصوص كما تقدم في قوله تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} في [سورة الفرقان: 72] وإنما يقصد مثل هذا النظم لإفادة الاهتمام بالفعل إذ يحصل من تكريره تأكيد مدلوله.
[131 - 135] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
(19/176)

لما أفاد الاستفهام في قوله {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} معنى الإنكار على ما قارن بناءهم الآيات واتخاذهم المصانع وعلى شدتهم على الناس عند الغضب فرع عليه أمرهم باتقاء الله، وحصل مع ذلك التفريع تكرير جملة الأمر بالتقوى والطاعة.
وحذف ياء المتكلم من {أَطِيعُونِ} كحذفها في نظيرها المتقدم. وأعيد فعل {وَاتَّقُوا} وهو مستغنى عنه لو اقتصر على الموصول وصفا لاسم الجلالة لأن ظاهر النظم أن يقال: فاتقوا الله الذي أمدكم بما تعلمون، فعدل عن مقتضى الظاهر وبني الكلام على عطف الأمر بالتقوى على الأمر الذي قبله تأكيدا له واهتماما بالأمر بالتقوى مع أن ما عرض من الفصل بين الصفة والموصوف بجملة {أَطِيعُونِ} قضى بأن يعاد اتصال النظم بإعادة فعل {وَاتَّقُوا} .
وإنما أتي بفعل {وَاتَّقُوا} معطوفا ولم يؤت به مفصولا لما في الجملة الثانية من الزيادة على ما في الجملة الأولى من التذكير بإنعام الله عليهم، فعلق بفعل التقوى في الجملة الأولى اسم الذات المقدسة للإشارة إلى استحقاقه التقوى لذاته، ثم علق بفعل التقوى في الجملة الثانية اسم الموصول بصلته الدالة على إنعامه للإشارة إلى استحقاقه التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به.
وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يهيئ السامعين لتلقي ما يرد بعده فقال {الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ثم فصل بقوله {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وأعيد فعل {أَمَدَّكُمْ} في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي. وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} فإن فعل {أَمَدَّكُمْ} الثاني وإن كان مساويا لـ {أَمَدَّكُمْ} الأول فإنما صار بدلا منه باعتبار ما يتعلق به من قوله {بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} الخ الذي هو بعض مما تعلمون. وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل فلأجله لم تعطف الجملة.
وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها اجل نعمة على أهل ذلك البلد لأن منها أقواتهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهل نجعة فهي سبب بقائهم وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم، وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تعليل لإنكار عدم تقواهم وللمر بالتقوى، أي أخاف عليكم عذابا إن لم تتقوا، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.
(19/177)

والعذاب يجوز ان يريد به عذابا في الدنيا توعدهم الله به على لسانه، ويجوز أن يريد به عذاب يوم القيامة.
ووصف {يَوْمَ} بـ {عَظِيمٌ} على طريقة المجاز العقلي، أي عظيم ما يحصل فيه من الأهوال.
[136 - 140] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشاده فجعلوا وعظه وعدمه سواء، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم.
والهمزة للتسوية. وتقدم بيانها عند قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في [سورة البقرة: 6].
والوعظ: التخويف والتحذير من شيء فيه ضر، والاسم الموعظة. وتقدم في قواه {وهدى وموعظة للمتقين} في سورة العقود.
ومعنى {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء، وهو أشد في نفي الصفة عنه من أن لو قيل: أم لم تعظ، كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67]، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في[سورة الأنعام: 56]، وتقدم آنفا قوله في قصة نوح {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116].
وجملة {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} تعليل لمضمون جملة {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} ، أي كان سواء علينا فلا نتبع وعظك لأن هذا خلق الأولين. والإشارة بـ {هَذَا} إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم وسيأتي بيانه.
وقوله {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم وخلف بضم الخاء وضم اللام. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بفتح الخاء وسكون اللام.
(19/178)

فعلى قراءة الفريق الأول {خُلُقُ} بضمتين فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فسر بالقوى النفسية، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر ولذلك لا يعرف أحد النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال: خلق حسن، ويقال في ضده: سوء خلق، أو خلق ذميم، قال تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وفي الحديث "وخالق الناس بخلق حسن" .
فإذا أطلق عن التقييد نصرف إلى الخلق الحسن، كما قال الحريري في المقامة التاسعة وخلقي نعم العون، وبيني وبين جاراتي بون أي في حسن الخلق.
والخلق في اصطلاح الحكماء: ملكة "أي كيفية راسخة في النفس أي متمكنة من الفكر" تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل.
فخلق المرء مجموع غرائز "أي طبائع نفسية" مؤتلفة من انطباع فكري: إما جبلي في أصل خلقته، وإما كسبي ناشئ عن تمرن الفكر عليه وتقلده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد. وينبغي أن يسمى اختيارا من قول أو عمل لذاته، أو لكونه من سيرة من يحبه ويقتدي به ويسمى تقليدا، ومحاولته تسمى تخلقا. قال سالم بن وابصة:
عليك بالقصيد فيما أنت فاعله
...
إن التخلق يأتي دونه الخلق
فإذا استقر وتمكن من النفس صار سجية له يجري أعماله على ما تمليه عليه وتأمره به نفسه بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها، ولو رام حمل نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيته لاستصغر نفسه وإرادته وحقر رأيه. وقد يتغير الخلق تغيرا تدريجيا بسبب تجربة انجرار مضرة من داعيه، أو بسبب خوف عاقبة سيئة من جرائه بتحذير من هو قدوة عنده لاعتقاد نصحه أو لخوف عقابه. وأول ذلك هو المواعظ الدينية.
ومعنى الآية على هذا يجوز أن يكون المحكي عنهم أرادوا مدحا لما هم عليه من الأحوال التي أصروا على عدم تغييرها فيكون أرادوا أنها خلق أسلافهم وأسوتهم فلا يقبلوا فيه عذلا ولا ملاما كما قال تعالى عن أمثالهم {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10]. فالإشارة تنصرف إلى ما هم عليه الذي نهاهم عنه رسولهم.
ويجوز أن يكونوا أرادوا ما يدعو إليه رسولهم: أي ما هو إلا من خلق أناس قبله، أي من عقائدهم وما راضوا عليه أنفسهم وأنه عبر عليها وانتحلها، أي ما هو بإذن من الله.
(19/179)

تعالى كما قال مشركو قريش {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]. والإشارة إلى ما يدعوهم إليه.
وأما على قراءة الفريق الثاني فالخلق بفتح الخاء وسكون اللام مصدر هو الإنشاء والتكوين، والخلق أيضا مصدر خلق، إذا كذب في خبره، ومنه قوله تعالى {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]. وتقول العرب: حدثنا فلان بأحاديث الخلق وهي الخرافات المفتعلة، ويقال له: اختلاق بصيغة الافتعال الدالة على التكلف والاختراع، قل تعالى {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] وذلك أن الكاذب يخلق خبرا لم يقع.
فيجوز أن يكون المعنى أن ما تزعم من الرسالة عن الله كذب وما تخبرنا من البعث اختلاق، فالإشارة إلى ما جاء به صالح.
ويجوز أن يكون المعنى أن حياتنا كحياة الأولين نحيا ثم نموت، فالكلام على التشبيه البليغ وهو كناية عن التكذيب بالبعث الذي حذرهم جزاءه في قوله {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135] يقولون: كما مات الأولون ولم يبعث أحد منهم قط فكذلك نحيا نحن ثم نموت ولا نبعث. وهذا كقول المشركين {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25] فالإشارة في قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} إلى الخلق الذي هم عليه كما دل عليه المستثنى. فهذه أربعة معان واحد منها مدح، واثنان ذم، وواحد دعاء.
وجملة {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على المعاني الأول والثاني والثالث عطف على جملة {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} عطف مغاير.
وعلى المعنى الرابع عطف تفسير لقولهم {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} تصريحا بعد الكناية.
والقصر قصر إضافي على المعاني كلها.
ولا شك أن قوم صالح نطقوا بلغتهم جملا كثيرة تنحل إلى هذه المعاني فجمعها القرآن في قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} باحتمال اسم الإشارة واختلاف النطق بكلمة خلق فلله إيجاز وإعجازه.
والفاء في {فَكَذَّبُوهُ} فصيحة، أي فتبين أنهم بقولهم: سواء علينا ذلك أوعظت الخ قد كذبوه فأهلكناهم.
وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} إلى آخره هو مثل نظيره في قصة نوح.
(19/180)

[141 - 145] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
موقع هذا الجملة استئناف تعداد وتكرير كما تقدم في قوله {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]. والكلام على هذه الآيات مثل الكلام على نظيرها في قصة نوح، وثمود قد كذبوا المرسلين لأنهم كذبوا صالحا وكذبوا هودا لأن صالحا وعظهم بعاد في قوله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} في [سورة الأعراف: 74] وبتكذيبهم هود كذبوا بنوح أيضا لأن هودا ذكر قومه بمصير قوم نوح في آية {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} .
وتقدم ذكر ثمود وصالح عنده قوله تعالى {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} في [سورة الأعراف: 73]، وكان صالح معروفا بالأمانة لأنه لا يرسل رسول إلا وهو معروف بالفضائل و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقد دل على هذا المعنى قولهم {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] المقتضي تغيير حاله عما كان عليه وهو ما حكاه الله عن قومه {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} في [سورة هود: 62]. وحذف ياء المتكلم من {وَأَطِيعُونِ} هو مثل نظائره المتقدمة آنفا.
[146 - 152] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} .
كانوا قد أعرضوا عن عبادة الله تعالى، وأنكروا البعث وغرهم أيمة كفرهم في ذلك فجاءهم صالح عليه السلام رسولا يذكرهم بنعمة الله عليهم بما مكن لهم من خيرات، وما سخر لهم من أعمال عظيمة، ونزل حالهم منزلة من يظن الخلود ودوام النعمة فخاطبهم بالاستفهام الإنكاري التوبيخي وهو في المعنى إنكار على ظنهم ذلك. وسلط الإنكار على فعل الترك لأن تركهم على تلك النعم لا يكون. فكان إنكار حصوله مستلزما إنكار اعتقاده.
وهذا الكلام تعليل للإنكار الذي في قوله {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 142] لأن الإنكار.
(19/181)

عليهم دوام حالهم يقتضي أنهم مفارقون هذه الحياة وصائرون إلى الله.
وفيه حث على العمل لاستبقاء تلك النعم بأن يشكروا الله عليها كما قال صاحب "الحكم" من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها .
و {هَاهُنَا} إشارة إلى بلادهم، أي في جميع ما تشاهدونه، وهذا إيجاز بديع. و {آمِنِينَ} حال مبنية لبعض ما أجمله قوله {فِيمَا هَاهُنَا آمِنِينَ} . وذلك تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يتذوق طعم النعم الأخرى إلا بها.
وقوله {فِي جَنَّاتٍ} ينبغي أن يعلق بـ {آمِنِينَ} ليكون مجموع ذلك تفصيلا لإجمال اسم الإشارة، أي اجتمع لهم الأمن ورفاهية العيش. والجنات: الحوائط التي تشجر بالنخيل والأعناب.
والطلع: وعاء يطلع من النخل فيه ثمر النخلة في أول أطواره يخرج كنصل السيف في باطنه شماريخ القنو، ويسمى هذا الطلع الكم بكسر الكاف وبعد خروجه بأيام ينفلق ذلك الوعاء عن الشماريخ وهي الأغصان التي فيها الثمر كحب صغير، ثم يغلظ ويصير بسرا ثم تمرا.
والهضيم: بمعنى المهضوم، وأصل الهضم شدخ الشيء حتى يلين، واستعبر هنا للدقيق الضامر، كما يقال: امرأة هضيم الكشح. وتلك علامة على أنه يخرج تمرا جيدا. والنخل الذي يثمر تمرا جيدا يقال له: النخل الإناث وضده فحاحيل، وهي جمع فحال بضم الفاء وتشديد الحاء المهملة أي ذكر، وطلعه غليظ وتمره كذلك.
وخص النخل بالذكر مع أنه مما تشمله الجنات لقصد بيان جودته بأن طلعه هضيم.
{وَتَنْحِتُونَ} عطف على {آمِنِينَ} ، أي وناحتين، عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتا من الجبال. وتقدم ذلك في سورة الأعراف.
و {فَرِهِين} صيغة مبالغة في قراءة الجمهور بدون ألف بعد الفاء، مشتق من الفراهة وهي الحذق والكياسة، أي عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف {فَارِهِينَ} بصيغة اسم الفاعل.
(19/182)

وقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} مفرع مثل نظيره في قصة عاد.
والمراد بـ {الْمُسْرِفِينَ} أيمة القوم وكبراؤهم الذين يعزونهم بعبادة الأصنام ويبقونهم في الضلالة استغلالا لجهلهم وليسخروهم لفائدتهم. والإسراف: الإفراط في شيء، والمراد به هنا الإسراف المذموم كله في المال وفي الكفر، ووصفهم بأنهم {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ، فالإسراف منوط بالفساد.
وعطف {وَلا يُصْلِحُونَ} على جملة {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} تأكيد لوقوع الشيء بنفي ضده مثل قوله تعالى {وأضل فرعون قومه وما هدى} وقول عمرو بن مرة الجهني:
النسب المعروف غير المنكر.
يفيد أن فسادهم لا يشوبه صلاح؛ فكأنه قبل: الذين إنما هم مفسدون في الأرض، فعدل عن صيغة القصر لئلا يحتمل أنه قصر مبالغة لأن نفي الإصلاح عنهم يؤكد إثبات الإفساد لهم، فيتقرر ذلك في الذهن، ويتأكد معنى إفسادهم بنفي ضده كقول السموأل أو الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا
...
وليست على غير الظبات تسيل
والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف العهد.
[153 - 154] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
أجابوا موعظته بالبهتان فزعموه فقد رشده وتغير حاله واختلقوا أن ذلك من اثر سحر شديد. فالمسحر: اسم مفعول سحره إذا سحره سحرا متمكنا منه، و {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أبلغ في الاتصاف بالتسحير من أن يقال: إنما أنت مسحر كما تقدم في قوله {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
ولما تضمن قولهم {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} تكذيبهم إياه أيدوا تكذيبه بأنه بشر مثلهم. وذلك في زعمهم ينافي أن يكون رسولا من الله لأن الرسول في زعمهم لا يكون إلا مخلوقا خارقا للعادة كأن يكون ملكا أو جنيا. فجملة {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} في حكم التأكيد بجملة {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} باعتبار مضمون الجملتين.
(19/183)

وفرعوا على تكذيبه المطالبة بأن يأتي بآية على صدقه، أي أن يأتي بخارق عادة يدل على أن الله صدقه في دعوى الرسالة عنه. وفرضوا صدقه بحرف {إِنَّ} الشرطية الغالب استعمالها في الشك.
ومعنى {مِنَ الصَّادِقِينَ} من الفئة المعروفين بالصدق يعنون بذلك الرسل الصادقين لدلالته على تمكن الصدق منه، كما تقدم في قوله {مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
[155 - 159] { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
اسم الإشارة إلى ناقة جعلها لهم آية. وتقدم خبر هذه الناقة في سورة هود وذكر أن صالحا جعل لها شربا، وهو بكسر الشين وسكون الراء: النوبة في الماء للناقة يوما تشرب فيه لا يزاحمونها فيه بأنعامهم. والكلام على {عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} نظير الكلام على نظيره في قصة عاد ورسولهم.
وأصبحوا نادمين لما رأوا أشراط العذاب الذي توعدهم به صالح ولذلك لم ينفعهم الندم لأن العذاب قد حل بهم سريعا فلذلك عطف بفاء التعقيب على {نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} .
وتقدم نظير قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} الآية.
[160 - 164] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
القول في موقعها كالقول في سابقتها، والقول في تفسيرها كالقول في نظيرتها.
وجعل لوطا أخا لقومه ولم يكن من نسبهم وإنما كان نزيلا فيهم إذ كان قوم لوط من أهل فلسطين من الكنعانيين وكان لوط عبرانيا وهو ابن أخي إبراهيم ولكنه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخا لهم كقول سحيم عبد بني الحسحاس:
(19/184)

أخوكم ومولى خيركم وحليفكم
...
ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
يعني نفسه يخاطب مواليه بني الحسحاس. وقال تعالى في الآية الأخرى {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق: 13]. وهذا من إطلاق الأخوة على ملازمة الشيء وممارسته كما قال:
أخور الحرب لباسا إليها جلالها
...
إذا عدموا زادا فإنك عاقر
وقوله تعالى {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].
[165، 166] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} .
هو في الاستئناف كقوله {أَتُتْرَكُونَ} [الشعراء: 146] في قصة ثمود. والإتيان: كناية. والذكران: جمع ذكر وهو ضد الأنثى. وقوله {مِنَ الْعَالَمِينَ} الأظهر فيه أنه في موضع الحال من الواو في {أَتَأْتُونَ} . و {مِنْ} فصلية، أي تفيد معنى الفصل بين متخالفين بحيث لا يماثل أحدهما الآخر. فالمعنى: مفصولين من العالمين لا يماثلكم في ذلك صنف من العالمين. وهذا المعنى جوزه في الكشاف ثانيا وهو أوفق بمعنى {الْعَالَمِينَ} الذي المختار فيه أنه جمع "عالم" بمعنى النوع من المخلوقات كما تقدم في سورة الفاتحة.
وإثبات معنى الفصل لحرف {مِنْ} قاله ابن مالك ، ومثل بقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وقوله {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]. ونظر فيه ابن هشام في مغني اللبيب وهو معنى رشيق متوسط بين معنى الابتداء ومعنى البدلية وليس أحدهما. وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى {والله يعلم المفسد من المصلح} في سورة البقرة.
والمعنى: أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين من الأنواع التي فيها ذكور وإناث فإنها لا يوجد فيها ما يأتي الذكور.
فهذا تنبيه على أن هذا الفعل الفظيع مخالف للفطرة لا يقع من الحيوان العجم فهو عمل ابتدعوه ما فعله غيرهم، ونحوه قوله تعالى في الآية الأخرى {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 28].
والمراد بالأزواج: الإناث من نوع، وإطلاق اسم الأزواج عليهن مجاز مرسل بعلاقة الأول، ففي هذا المجاز تعريض بأنه يرجو ارعواءهم.
(19/185)

وفي قوله {مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} إيماء إلى الاستدلال بالصلاحية الفطرية لعمل على بطلان عمل يضاده، لأنه مناف للفطرة. فهو من تغيير الشيطان وإفساده لسنة الخلق والتكوين قال تعالى حكاية عنه {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].
و {بَلْ} لإضراب الانتقال من مقام الموعظة والاستدلال إلى مقام الذم تغليظا للإنكار بعد لينه لأن شرف الرسالة يقتضي الإعلان بتغيير المنكر والأخذ بأصرح مراتب الإعلان فإنه إن استطاع بلسانه غليظ الإنكار لا ينزل منه إلى لينه وأنه يبتدئ باللين فإن لم ينفع انتقل منه إلى ما هو أشد ولذلك انتقل لوط من قوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} إلى قوله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} .
وفي الإتيان بالجملة الاسمية في قوله {أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} دون أن يقول: بل كنتم عادين، مبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم. وفي جعل الخبر {قَوْمٌ عَادُونَ} دون اقتصار على {عَادُونَ} تنبيه على أن العدوان سجية فيهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164].
والعادي: هو الذي تجاوز حد الحق إلى الباطل، يقال: عدا عليه، أي ظلمه، وعدوانهم خروجهم عن الحد الموضوع بوضع الفطرة إلى ما هو مناف لها محفوف بمفاسد التغيير للطبع.
[167 - 173] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .
قولهم كقول قوم نوح لنوح إلا أن هؤلاء قالوا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} فهددوه بالإخراج من مدينتهم لأنه كان من غير أهل المدينة بل كان مهاجرا بينهم وله صهر فيهم.
وصيغة {مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أبلغ من: لنخرجنك، كما تقدم في قوله تعالى {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} . وكان جواب لوط على وعيدهم جواب مستخف بوعيدهم إذ أعاد الإنكار {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} أي من المبغضين. وقوله {مِنَ الْقَالِينَ} أبلغ في الوصف من أن يقول: إني لعلمكم قال، كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67]. وذلك أكمل في الجناس لأنه يكون جناسا تاما فقد حصل بين {قَالَ} وبين {الْقَالِينَ} جناس مذيل ويسمى مطرفا.
(19/186)

وأقبل على الدعاء إلى الله أن ينجيه وأهله مما يعمل قومه، أي من عذاب ما يعملونه فلا بد من تقدير مضاف كما دل عليه قوله {فَنَجَّيْنَاهُ} . ولا يحسن جعل المعنى: نجني من أن أعمل عملهم، لأنه يفوت معه التعريض بعذاب سيحل بهم. والقصة تقدمت في الأعراف وفي هود والحجر.
والفاء في قوله {فَنَجَّيْنَاهُ} للتعقيب، أي كانت نجاته عقب دعائه حسبما يقتضي ذلك من أسرع مدة بين الدعاء وأمر الله إياه بالخروج بأهله إلى قرية صوغر .
والعجوز: المرأة المسنة وهي زوج لوط، وقوله {فِي الْغَابِرِينَ} صفة {عَجُوزاً} .
والغابر: المتصف بالغبور وهو البقاء بعد ذهاب الأصحاب أو أهل الخيل، أي باقية في العذاب بعد نجاة زوجها وأهله وهي مستثناة من {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} . وذلك أنها لحقها العذاب من دون أهلها فكان صفة لها. وقد تقدم ذلك في قصتهم في سورة هود.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن إهلاك المكذبين أجدر بأن يذكر في مقام الموعظة من ذكر إنجاء لوط والمؤمنين.
والتدمير: الإصابة بالدمار وهو الهلاك وذلك أنهم استؤصلوا بالخسف وإمطار الحجارة عليهم.
والمطر: الماء الذي يسقط من السحاب على الأرض. والإمطار: إنزال المطر، يقال: أمطرت السماء. وسمي ما أصابهم من الحجارة مطرا لأنه نزل عليهم من الجو. وقيل هو من مقذوفات براكين في بلادهم أثارتها زلازل الخسف فهو تشبيه بليغ.
و {ساء} فعل ذم بمعنى بئس. وفي قوله {الْمُنْذَرِينَ} تسجيل عليهم بأنهم أنذروا فلم ينتذروا.
[174، 175] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
أي في قصتهم المعلومة للمشركين آية قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وتقدم القول في نظيره آنفا.
[176 - 180] {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ
(19/187)

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
استئناف تعداد وتكرار كما تقدم في جملة {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} . ولم يقرن فعل {كَذَّبَ} هذا بعلامة التأنيث لأن {أَصْحَابُ} جمع صاحب وهو مذكر معنى ولفظا بخلاف قوله {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} فإن {قَوْمُ} في معنى الجماعة والأمة كما تقدم في قوله {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر {لَيْكَةِ} بلام مفتوحة بعدها ياء تحتية ساكنة ممنوعا من الصرف للعلمية والتأنيث. وقرأه الباقون {لْأَيْكَةِ} بحرف التعريف بعده همزة مفتوحة وبجر آخره على انه تعريف عهد لأيكة معروفة. والأيكة: الشجر الملتف وهي الغيضة. وعن أبي عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه في الحجر وق {لْأَيْكَةِ} وفي الشعراء وص {لَيْكَةِ} واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف.
وأصحاب ليكة: هم قوم شعيب أو قبيلة منهم. قالوا: وكانت غيضتهم من شجر المقل بضم الميم وسكون القاف وهو النبق ويقال له الدوم بفتح الدال المهملة وسكون الواو .
ولإفرادها بتاء الوحدة على إرادة البقعة واسم الجمع: أيك، واشتهرت بالأيكة فصارت علما بالغلبة معرفا باللام مثل العقبة. ثم وقع فيه تغيير ليكون علما شخصيا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على لام التعريف وتنوسي معنى التعريف باللام. وعن الزجاج جاء في التفسير أن اسم المدينة التي أرسل إليها شعيب كان ليكة. وعن أبي عبيد: وجدنا في بعض كتب التفسير أن ليكة اسم القرية والأيكة البلاد كلها كمكة وبكة. وهذا من التغيير لأجل التسمية، كما سموا شمسا بضم الشين ليكون علما وأصله الشمس علما بالغلبة. والتغيير لأجل النقل إلى العلمية وارد بكثرة ذكره ابن جني في شرح مشكل "الحماسة" عند قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد به
...
لابن عم الصدق شمس بن مالك
وذكره في الكشاف في سورة أبي لهب. وقد تقدم بيانه عند الكلام على البسملة قبل سورة الفاتحة، فلما صار اسم ليكة علما على البلاد جاز منعه من الصرف لذلك،
(19/188)

وليس ذلك لمجرد نقل حركة الهمزة على اللام كما توهمه النحاس ولا لأن القراءة اغترار بخط المصحف كما تعسفه صاحب الكشاف على عادته في الاستخفاف بتوهيم القراء وقد علمتم أن الاعتماد في القراءات على الرواية قبل نسخ المصاحف كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير فلا تتبعوا الأوهام المخطئة.
وقد أختلف في أن أصحاب ليكة هم مدين أو هم قوم آخرون ساكنون في ليكة جوار مدين أرسل شعيب إليهم وإلى أهل مدين. وإلى هذا مال كثير من المفسرين. روى عبد الله بن وهب عن جبير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب إلى أمتين إلى قومه من أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة. وقال جابر بن زيد: أرسل شعيب إلى قومه أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة. وفي "تفسير ابن كثير " روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي" ،وقال ابن كثير: هذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أنه موقوف. وروى ابن جريح عن ابن عباس أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين. والأظهر أن أهل الأيكة قبيلة غير مدين فإن مدين هم أهل نسب شعيب وهم ذرية مدين بن إبراهيم من زوجه قطورة سكن مدين في شرق بلد الخليل كما في التوراة فاقتضى ذلك أنه وجده بلدا مأهولا بقوم فهم إذن أصحاب الأيكة فبنى مدين وبنوه المدينة وتركوا البادية لأهلها وهم سكان الغيضة.
والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لما ذكر هذه القصة لأهل مدين وصف شعيبا بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيبا بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيبا ولا صهرا لأصحاب ليكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة. ومما يرجح ذلك قوله تعالى في [سورة الحجر: 78 - 79] {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} ، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين: مدين وأصحاب ليكة. وقد بينا ذلك في سورة الحجر. وإنما ترسل الرسل من أهل المدائن قال تعالى {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم من أهل القرى} وتكون الرسالة شاملة لمن حول القرية.
وافتتح شعيب دعوته بمثل دعوات الرسل من قبله للوجه الذي قدمناه.
وشمل قوله {أَلا تَتَّقُونَ} النهي عن الإشراك فقد كانوا مشركين كما في آية سورة
(19/189)

هود.
[181 - 183] {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .
استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله {أَلا تَتَّقُونَ} إلى آخره إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطففون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض. فأما تطفيف الكيل والميزان فظلم وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالؤوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.
و {أَوْفُوا} أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء تاما، أي اجعلوا الكيل غير ناقص. والمخسر: فاعل الخسارة لغيره، أي المنقص، فمعنى {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} لا تكونوا من المطففين. وصوغ {مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أبلغ من: لا تكونوا مخسرين. لأنه يدل على الأمر بالتبرؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفا في عدة آيات منها قوله {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] في قصة نوح.
والقسطاس: بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل، ومن أسماء الميزان وتقدم في قوله تعالى {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} في [سورة الإسراء: 35]، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف ب {المستقيم} يرجح أن المقصود به الميزان، وتقدم تفصيل ما يرجع إليه هذا التشريع في قصته في الأعراف.
وقرأ الجمهور {بِالْقِسْطَاسِ} بضم القاف. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر القاف.
وبخس أشياء الناس: غبن منافعها وذمها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن، وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة.
والبخس: النقص والذم. وتقدم في قوله {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} في [سورة البقرة: 282] ونظيره في سورة الأعراف. وقد تقدم نظير بقية الآية في سورة هود. ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع: إن سلعتك رديئة ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برخص.
(19/190)

[184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} .
أكد قوله في صدر خطابه {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بقوله هنا {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} وزاد فيه دليل استحقاقه التقوى بأن الله خلقهم وخلق الأمم من قبلهم، وباعتبار هذه الزيادة أدخل حرف العطف على فعل {اتَّقُوا} ولو كان مجرد تأكيد لم يصح عطفه. وفي قوله {الَّذِي خَلَقَكُمْ} إيماء إلى نبذ اتقاء غيره من شركائهم.
والجبلة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام: الخلقة، وأريد به المخلوقات لأن الجبلة اسم كالمصدر ولهذا وصف بـ {الْأَوَّلِينَ} . وقيل: أطلق الجبلة على أهلها، أي وذوي الجبلة الأولين. والمعنى: الذي خلقكم وخلق الأمم قبلكم.
[185 - 188] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحا فزعموه مسحورا، أي مختل الإدراك والتصورات من جراء سحر سلط عليه. وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله. وفي صيغة {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} من المبالغة ما تقدم في قوله {مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] {مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167].
والإتيان بواو العطف في قوله {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} يجعل كونه بشرا إبطالا ثانيا لرسالته. وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشرا حجة على أن ما يصدر منه ليس وحيا على الله بل هو من تأثير كونه مسحورا. فمآل معنيي الآيتين متحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين.
وأطلق الظن على اليقين في {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} وهو إطلاق شائع كقوله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} ، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني لـ"ظن" لأن أصلها لام قسم.
و {إِنَّ} مخففة من الثقيلة، واللام في {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} اللام الفارقة، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلا: وإن أنت لمن الكاذبين، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيرا ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدأ والخبر فيجتمع.
(19/191)

في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} وكان أصل التركيب في مثله: ونظن أنك لمن الكاذبين، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد لأن "إن" وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا "أن" المفتوحة. وأحسب أنهم ما يخففون "إن" إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع، فالذي يقول: إن أظنك لخائفا، أراد أن يقول: أظن انك لخائف، فقدم "إن" وخففها وصير خبرها مفعولا لفعل الظن، فصار: إن أظنك لخائفا، والكوفيون يجعلون {إِنْ} في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى "إلا".
والأمر في {فَأَسْقِطْ} أمر تعجيز.
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قرأة من عدا حفصا: القطعة من الشيء. وقال في الكشاف هو جمع كسفة مثل قطع وسدر. والأول أظهر قال تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً} .
وقرأ حفص {كِسْفاً} بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع كسف كما في قوله {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} ، وقد تقدم في[سورة الإسراء: 92].
وقولهم {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كقول ثمود {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] إلا أن هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم، ويحتمل أن شعيبا أنذرهم بكسف يأتي فيه عذاب. وذلك هو يوم الظلة المذكور في هذه الآية، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره. و {أَعْلَمُ} هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل.
[189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
الظلة: السحابة، كانت فيها صواعق متتابعة اصابتهم فأهلكتهم كما تقدم في سورة الأعراف. وقد كان العذاب من جنس ما سألوه، ومن إسقاط شيء من السماء. وقوله {فَكَذَّبُوهُ} الفاء فصيحة، أي فتبين من قولهم {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أنهم كذبوه، أي تبين التكذيب والثبات عليه بما دل عليه ما قصدوه من تعجيزه إذ قالوا {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وفي إعادة فعل التكذيب إيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال أصحاب شعيب فيوشك أن يكون عقابهم كذلك.
(19/192)

[190، 191] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
أي في ذلك آية لكفار قريش إذ كان حالهم كحال أصحاب ليكة فقد كانوا من المطففين مع الإشراك قال تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين1 - 5]. وقد تقدم القول في نظائره. وقد ذكرنا في طالعة هذا السورة وجه تكرير آية [8] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} .
[192 - 195] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
عود إلى ما افتتحت به السورة من التنويه بالقرآن وكونه الآية العظمى بما اقتضاه قوله {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 2] كما تقدم لتختتم السورة بإطناب التنويه بالقرآن كما ابتدئت بإجمال التنويه به، والتنبيه على أنه أعظم آية اختارها الله أن تكون معجزة أفضل المرسلين. فضمير {وَإِنَّهُ} عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر آيات الرسل الأولين. فبواو العطف اتصلت الجملة بالجمل التي قبلها، وبضمير القرآن اتصل غرضها بغرض صدر السورة.
فجملة {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} معطوفة على الجمل التي قبلها المحكية فيها أخبار الرسل المماثلة أحوال أقوامهم لحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم وما أيدهم الله به من الآيات ليعلم أن القرآن هو آية الله لهذه الأمة، فعطفها على الجمل التي مثلها عطف القصة على القصة لتلك المناسبة. ولكن هذه الجملة متصلة في المعنى بجملة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 2] بحيث لولا ما فصل بينها وبين الأخرى من طول الكلام لكانت معطوفة عليها. ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن في التنويه بالقرآن تسلية له على ما يلاقيه من إعراض الكافرين عن قبوله وطاعتهم فيه.
والتأكيد بـ"إن" ولام الابتداء لرد إنكار المنكرين.
والتنزيل مصدر بمعنى المفعول للمبالغة في الوصف حتى كأن المنزل نفس التنزيل. وجملة {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} بيان لـ {َتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي كان تنزيله على هذه الكيفية.
(19/193)

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر بتخفيف زاي {نَزَلَ} ورفع {الرُّوحُ} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف {نَزَلَ} بتشديد الزاي ونصب {الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، أي نزله الله به.
و {الرُّوحُ الْأَمِينُ} : جبريل وهو لقبه في القرآن، سمي روحا لأن الملائكة من عالم الروحانيات وهي المجردات. وتقدم الكلام على الروح في سورة الإسراء، وتقدم {رُوحُ الْقُدُسِ} في [البقرة: 87]. ونزول جبريل إذن الله تعالى، فنزوله تنزيل من رب العالمين.
و {الْأَمِينُ} صفة جبريل لأن الله أمنه على وحيه. والباء فيقوله {نَزَلَ بِهِ} للمصاحبة.
والقلب: يطلق على ما به قبول المعلومات كما قال تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي إدراك وعقل.
وقوله {عَلَى قَلْبِكَ} يتعلق بفعل {نَزَلَ} ، و {عَلَى} للاستعلاء المجازي لأن النزول وصول من مكان عال فهو مقتض استقرار النازل على مكان.
ومعنى نزول جبريل على قلب النبي عليهما السلام: اتصاله بقوة إدراك النبي لإلقاء الوحي الإلهي في قوته المتلقية للكلام الموحى بألفاظه؛ ففعل {نَزَلَ} حقيقة.
وحرف {عَلَى} مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ? فقال رسول الله: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول .
وهذان الوصفان خاصان بوحي نزول القرآن. وثمة وحي من قبيل إبلاغ المعنى وسماه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر نفثا. فقال: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها" فهذا اللفظ ليس من القرآن فهو وحي بالمعنى "والروع: العقل". وقد يكون الوحي في رؤيا النوم فإن النبي لا ينام قلبه، ويكون أيضا بسماع كلام الله من وراء حجاب، وقد بينا في شرح الحديث النكتة في اختصاص إحدى الحالتين ببعض الأوقات.
(19/194)

وأشعر قوله {عَلَى قَلْبِكَ} أن القرآن ألقي في قلبه بألفاظه، قال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}
ومعنى {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} لتكون من الرسل. واختير من أفعاله النذارة لأنها أخص بغرض السورة فإنها افتتحت بذكر إعراضهم وبإنذارهم.
وفي {مِنَ الْمُنْذِرِينَ} من المبالغة في تمكن وصف الرسالة منه ما تقدم غير مرة في مثل هذه الصيغة في هذه القصص وغيرها. و{بِلِسَانٍ} حال من الضمير المجرور في {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} .
والباء للملابسة. واللسان: اللغة، أي نزل بالقرآن ملابسا للغة عربية مبينة أي كائنا القرآن بلغة عربية.
والمبين: الموضح الدلالة على المعاني التي يعنيها المتكلم فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار، فإن ما في أساليب نظم كلام العرب من علامات الإعراب، والتقديم والتأخير، وغير ذلك، والحقيقة والمجاز والكناية، وما في سعة اللغة من الترادف، وأسماء المعاني المقيدة، وما فيها من المحسنات، ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلة متمكنة، فقدر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس فأنزل بادئ ذي بدء بين العرب أهل ذلك اللسان ومقاويل البيان ثم جعل منهم حملته إلى الأمم تترجم معانيه فصاحتهم وبيانهم، ويتلقى أساليبه الشادون منهم وولدانهم، حين أصبحوا أمة واحدة يقوم باتحاد الدين واللغة وكيانهم.
[196 - 197] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} .
عطف على {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . والضمير للقرآن كضمير {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وهذا تنويه آخر بالقرآن بأنه تصدقه كتب الأنبياء الأولين بموافقتها لما فيه وخاصة في أخباره عن الأمم وأنبيائها.
وقوله {فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} أي كتب الرسل السالفين، أي أن القرآن كائن في كتب الأنبياء السالفين مثل التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء التي نعلمها إجمالا. ومعلوم
(19/195)

أن ضمير القرآن لا يراد به ذات القرآن، أي ألفاظه المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليست سور القرآن وآياته مسطورة في زبر الأولين بلفظها كله فتعين أن يكون الضمير للقرآن باعتبار اسمه ووصفه الخاص أو باعتبار معانيه. فأما الاعتبار الأول فالضمير مؤول بالعود إلى اسم القرآن كقوله تعالى {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]، أي يجدون اسمه ووصفه الذي يعنه. فالمعنى أن ذكر القرآن وارد في كتب الأولين، أي جاءت بشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول يجيء بكتاب. ففي سفر التثنية من كتب موسى عليه السلام في الإصحاح الثامن عشر قول موسى قال لي الرب: أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به إذ لا شك أن إخوة بني إسرائيل هم العرب كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر عند ذكر الحمل بإسماعيل وأمام جميع إخوته يسكن أي لا يسكن معهم ولكن قبالتهم. ولم يأت نبي بوحي مثل موسى بشرع كشرع موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم وكلام الله المجعول في فمه هو القرآن الموحى به إليه وهو يتلوه.
وفي إنجيل متى الإصحاح الرابع عشر قال عيسى عليه السلام ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا... ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يدوم إلى آخر الدهر أي دينه إذ لا خلود للأشخاص فهذا يخلص ويكرز أي يدعو ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة أي الأرض المأهولة شهادة لجميع الأمم رسالة عامة ثم يأتي المنتهى أي نهاية العالم
فالبشارة هي الوحي وهو القرآن وهو الكتاب الذي دعا جميع الأمم قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1] وقال {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 89].
وفي إنجيل يوحنا قول المسيح الإصحاح الرابع عشر وأنا "أطلب من الأب فيعطيكم معزيا "أي رسولا "آخر ليمكث معكم إلى الأبد هذا "هو دوام الشريعة "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله "إشارة إلى تكذيب المكذبين" لأنه لا يراه ولا يعرفه". ثم قال وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي "أي وصف الرسالة" فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم وهذا التعليم لكل شيء هو القرآن ما فرطنا في الكتاب من شيء"
وأما الاعتبار الثاني فالضمير مؤول بمعنى مسماه كقولهم: عندي درهم ونصفه، أي
(19/196)

نصف مسمى درهم فكما يطلق اسم الشيء على معناه نحو {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} [مريم: 41] أي أحواله، كذلك يطلق ضمير الاسم على معناه، فالمعنى: أن ما جاء به القرآن موجود في كتب الأولين. وهذا كقول الإنجيل آنفا "ويذكركم بكل ما قلته لكم"، ولا تجد شيئا من كلام المسيح عليه السلام المسطور في الأناجيل غير المحرف عنه إلا وهو مذكور في القرآن، فيكون الضمير باعتبار بعضه كقوله {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية.
والمقصود: أن ذلك آية على صدق أنه من عند الله. وهذا معنى كون القرآن مصدقا لما بين يديه.
وقوله {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم فباعتبار كون هذه الجملة تنويها آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولولا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف.
وفعل {يَعْلَمَهُ} شامل للعلم بصفة القرآن، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء بعده، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم.
وضمير {أَنْ يَعْلَمَهُ} عائد إلى القرآن على تقدير: أن يعلم ذكره. ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} .
[198 - 199] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} .
كان من جملة مطاعن المشركين في القرآن أنه ليس من عند الله ويقولون: تقوله محمد من عند نفسه وقالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} فدمغهم الله بأن تحداهم بالإتيان بمثله فعجزوا.
وقد أظهر الله بهتانهم في هذه الآية بأنهم إنما قالوا ذلك حيث جاءهم بالقرآن رسول عربي وأنه لو جاءهم بهذا القرآن رسول أعجمي لا يعرف العربية بأن أوحى الله بهذه الألفاظ إلى رسول لا يفهمها ولا يحسن تأليفها فقرأه عليهم وفي قراءته وهو لا يحسن
(19/197)

اللغة أيضا خارق عادة؛ لو كان ذلك لما آمنوا بأنه رسول مع أن ذلك خارق للعادة فزيادة قوله {عَلَيْهِمْ} زيادة بيان في خرق العادة. يعني أن المشركين لا يريدون مما يلقونه من المطاعن البحث عن الحق ولكنهم أصروا على التكذيب وطفقوا يتحملون أعذارا لتكذيبهم جحودا للحق وتسترا من اللائمين.
وجملة {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} معطوفة على جملة {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} إلى قوله {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} لأن قوله {عَلَى قَلْبِكَ} أفاد أنه أوتيه من عند الله وأنه ليس من قول النبي لا كما يقول المشركون: تقوله، كما أشرنا إليه آنفا.
فلما فرغ من الاستدلال بتعجيزهم فضح نياتهم بأنهم لا يؤمنون به في كل حال قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96 - 97].
و {الْأَعْجَمِينَ} جمع أعجم. والأعجم: الشديد العجمة، أي لا يحسن كلمة بالعربية، وهو هنا مرادف أعجمي بياء النسب فيصح في جمعه على أعجمين اعتبار أنه لا حذف فيه باعتبار جمع أعجم كما قال حميد بن ثور يصف حمامة:
ولم أر مثلي شاقه مثلها
...
ولا عربيا شاقه لفظ أعجما
ويصح اعتبار حذف ياء النسب للتخفيف. وأصله: الأعجمين كما في الشعر المنسوب إلى أبي طالب:
وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم
...
بملقى السيول بين ساف ونائل
أي الأشعريون، وعلى هذين الاعتبارين يحمل قول النابغة:
فعودا له غسان يرجون أوبه
...
وترك ورهط الأعجمين وكابل
[200 - 203] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} .
تقدم نظير أول هذه الآية في سورة الحجر [12]، إلا أن آية الحجر قيل فيها {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} وفي هذه الآية قيل {سَلَكْنَاهُ} ، والمعنى في الآيتين واحد والمقصود منهما واحد فوجه اختيار المضارع في آية الحجر أنه دال على التجدد لئلا يتوهم أن
(19/198)

المقصود إبلاغ مضى وهو الذي أبلغ لشيع الأولين لتقدم ذكرهم فيتوهم أنهم المراد بالمجرمين مع أن المراد كفار قريش. وأما هذه الآية فلم يتقدم فيها ذكر لغير كفار قريش فناسبها حكاية وقوع هذا الأبلاغ منذ زمن مضى. وهم مستمرون على عدم الإيمان.
وجملة {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} الخ مستأنفة بيانية، أي إن سألت عن استمرار تكذيبهم بالقرآن في حين أنه نزل بلسان عربي مبين فلا تعجب فكذلك السلوك سلكناه في قلوب المشركين؛ فهو تشبيه للسلوك المأخوذ من {سَلَكْنَاهُ} بنفسه لغرابته. وهذا نظير ما تقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة، أي هو سلوك لا يشبه سلوك وهو أنه دخل قلوبهم بإبانته وعرفوا دلائل صدقه من أخبار علماء بني إسرائيل ومع ذلك لم يؤمنوا به.
ومعنى {سَلَكْنَاهُ} أدخلناه، قال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق.
وعبر عن المشركين بـ {الْمُجْرِمِينَ} لأن كفرهم بعد نزول القرآن إجرام. وجملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} في موضع الحال من {الْمُجْرِمِينَ} .
والغاية في {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} تهديد بعذاب سيحل بهم، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب. والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا، وصادق بعذاب السيف يوم بدر، ومعلوم أنه {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}
وقوله {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} صالح للعذابين: عذاب الآخرة يأتي عقب الموت والموت يحصل بغتة، وعذاب الدنيا بالسيف يحصل بغتة حين الضرب بالسيف.
والفاء في قوله {فَيَأْتِيَهُمْ} عاطفة لفعل {يَأْتِيَهُمْ} على فعل {يروا} كما دل عليه نصب {يَأْتِيَهُمْ} وذلك ما يستلزمه معنى العطف من إفادة التعقيب فيثير إشكالا بأن إتيان العذاب لا يكون بعد رؤيتهم إياه بل هما حاصلان مقترنين فتعين تأويل معنى الآية. وقد حاول صاحب الكشاف والكاتبون عليه تأويلها بما لا تطمئن له النفس.
ولا وجه عندي في تأويلها أن تكون جملة {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} بدل اشتمال من جملة {يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال، أي أن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة، أي يرونه دفعة دون سبق أشراط له.
(19/199)

أما الفاء في قوله {فَيَقُولُوا} فهي لإفادة التعقيب في الوجود وهو صادق بأسرع تعذيب فتكون خطرة في نفوسهم قبل أن يهلكوا في الدنيا، أو يقولون ذلك ويرددون يوم القيامة حين يرون العذاب وحين يلقون فيه.
و {هَلْ} مستعملة في استفهام مراد به التمني مجازا، وجيء بعدها بالجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي تمنوا إنظارا طويلا يتمكنون فيه من الإيمان والعمل الصالح.
[204 - 207] {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} .
نشأ عنه قوله {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء: 202] تقدير جواب عن تكرر سؤالهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48]، حيث جعلوا تأخر حصول العذاب دليلا على انتفاء وقوعه، فأعقب ذلك بقوله {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} . فالفاء في قوله {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} تفيد تعقيب الاستفهام عقب تكرر قولهم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ونحوه. والاستفهام مستعمل في التعجيب من غرورهم. والمعنى: أيستعجلون بعذابنا فما تأخيره إلا تمتيع لهم. وكانوا يستهزئون فيقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، ويستعجلون بالعذاب {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} . قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتي به، فنزلت {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} .
وتقديم "بعذابنا" للرعاية على الفاصلة وللاهتمام به في مقام الإنذار، أي ليس شأن مثله أن يستعجل لفظاعته.
ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضيا أنهم في مهلة منه ومتعة بالسلامة وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جابههم بجملة {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} .
والاستفهام في {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ} للتقرير. و {مَا} في قوله {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ} استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار، أي لم يغن عنهم شيئا. والرؤية في {أَفَرَأَيْتَ} قلبية، أي أفعلمت. والخطاب لغير معين يعم كل مخاطب حتى المجرمين.
وجملة {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سد مسد
(19/200)

مفعولي "رأيت". و {ثُمَّ جَاءَهُمْ} معطوف على جملة الشرط المعترضة، و {ثُمَّ} فيه للترتيب والمهلة، أي جاءهم بعد سنين. وفيه رمز إلى أن العذاب جائيهم وحال بهم لا محالة. و {مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} موصول وصلته والعائد محذوف تقديره: يوعدونه.
وجملة {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ} سادة مسد مفعولي "رأيتَ" لأنه معلق عن العمل بسبب الاستفهام بعده. و {مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} موصول وصلته. والعائد محذوف تقديره: يمتعونه.
والمعنى: أعلمت أن تمتيعهم بالسلامة وتأخير العذاب إن فرض امتداده سنين عديدة غير مغن عنهم شيئا ن جاءهم العذاب بعد ذلك. وهذا كقوله تعالى {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8]، وذلك أن الأمور بالخواتيم. في تفسير القرطبي: روى ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} ثم يبكي ويقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
...
وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الإيقاظ يقظان حازم
...
ولا أنت في النوام ناج فسالم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
...
كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه
...
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ولم أقف على صاحب هذه الأبيات قال ابن عطية: ولأبي جعفر المنصور قصة في هذه الآية. ولعل ما روي عن عمر بن عبد العزيز روي مثيله عن المنصور.
[208] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .
تذكير لقريش بان القرى التي أهلكها الله والتي تقدم ذكرها في هذه السورة قد كان لها رسل ينذرونها عذاب الله ليقيسوا حالتهم على أحوال الأمم التي قبلهم.
وبالاستثناء من أحوال محذوفة. والتقدير: وما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون. وعريت جملة الحال عن الواو استغناء عن الواو بحرف الاستثناء ولو ذكرت الواو لجاز كقوله في [سورة الحجر: 4] {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} . وعبر عن الرسل بصفة الإنذار لأنه المناسب للتهديد بالإهلاك.
[209] {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
(19/201)

أي هذه ذكرى، فذكرى في موضع رفع على الخبرية مبتدأ محذوف دلت عليه قرينة السياق كقوله تعالى في [سورة الأحقاف: 35] {بَلاغٌ} أي هذا بلاغ، وفي [سورة إبراهيم: 52] {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} وفي [سورة ص: 49] {هَذَا ذِكْرٌ} . والمعنى: هذه ذكرى لكم يا معشر قريش. وهذا المعنى هو أحسن الوجوه في موقع قوله {ذِكْرَى} وهو قول ابي إسحاق الزجاج والفراء وإن اختلفا في تقدير المحذوف قال ابن الأنباري قال بعض المفسرين: ليس في الشعراء وقف تام إلا قوله {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} .
وقد تردد الزمخشري في موقع قوله {ذِكْرَى} بوجوه جعلها جميعا على اعتبار قوله {ذِكْرَى} تكملة للكلام السابق وهي غير خلية عن تكلف. والذكرى: اسم مصدر ذكر.
وجملة {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} يجوز أن تكون معطوفة على {ذِكْرَى} لأنه كالمصدر يقتضي مسندا إليه، وعلى الوجهين فمفاد {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} الأعذار لكفار قريش والإنذار بأنهم سيحل بهم هلاك.
وحذف مفعول {ظَالِمِينَ} لقصد تعميمه كقوله تعالى {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
[210 - 212] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .
عطف على جملة {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذ بعضها بحجر بعض تفننا في الغرض. وهذا رد على قولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو كاهن قال تعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29]، وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأة أبي لهب لما تخلف رسول الله عن قيام الليل ليلتين لمرض: أرجو أن يكون شيطانك قد تركك. ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا نقول: كلامه كلام كاهن، فقال: والله ما هو بزمزمته. وكلام الكهان في مزاعمهم من إلقاء الجن إليهم وإنما هو خواطر نفوسهم ينسبونها إلى شياطينهم المزعومة. نفي عن القرآن أن يكون من ذلك القبيل، أي الكهان لا يجيش في نفوسهم
(19/202)

كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثل هذا القرآن. فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم، وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسعها الناقلون.
فالتعريف في {السَّمْعِ} للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع، أي تتحيل على الاتصال بعلم ما يجري في الملأ الأعلى. ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي فلذلك نفي هنا تنزل الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون. وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات.
ومعنى {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} ما يستقيم وما يصح، أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين، وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصور ما يجري في عالم الغيب فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل.
فضمير {يَنْبَغِي} عائد إلى ما عاد ضمير {بِهِ} ، أي ما ينبغي القرآن لهم، أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون. ومفعول {يَسْتَطِيعُونَ} محذوف، أي ما يستطيعونه. وأعيدت الضمائر بصيغة العقلاء بعد أن أضمر اهم بضمير غير العقلاء في قوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ} اعتبارا بملابسة ذلك الكهان. وقد تقدم في سورة الحجر أن صنفا من الشياطين يتهيأ للتلقي بما يسمى استراق السمع وأنه يصرف عنه بالشهب. واستؤنف بـ {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} فكان ذلك كالفذلكة لما قبله وهو بعمومه يتنزل منزلة التذييل.
والمعزول: المبعد عن أمر فهو في عزلة عنه. وفي هذا إبطال للكهانة من أصلها وهي وإن كانت فيها شيء من الاتصال بالقوى الروحية في سالف الزمان فقد زال ذلك منذ ظهور الإسلام.
[213] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} .
لما وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] إلى هنا، في آيات أشادت بنزول القرآن من عند الله تعالى وحققت صدقه بأنه مذكور في كتب الأنبياء السالفين وشهد به علماء بين إسرائيل، وأنحى على المشركين
(19/203)

بإبطال ما ألصقوه بالقرآن من بهتانهم، لا جرم اقتضى ذلك ثبوت ما جاء به القرآن. وأصل ذلك هو إبطال دين الشرك الذي تقلدته قريش وغيرها وناضلت عليه بالأكاذيب؛ فناسب أن يتفرع عليه النهي عن الإشراك بالله والتحذير منه.
فقوله {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} خطاب لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام، ويجوز أن يكون الخطاب موجها إلى النبيء صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله تعالى فللاهتمام بهذا النهي وقع توجيهه إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع تحقق أنه منته عن ذلك فتعين أن يكون النهي للذين هم متلبسون بالإشراك، ونظير هذا قوله تعالى {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} . والمقصود من مثل ذلك الخطاب غيره ممن يبلغه الخطاب.
فالمعنى: فلا تدعو مع الله إلها آخر فتكونوا من المعذبين. وفي هذا تعريض بالمشركين أنهم سيعذبون للعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير مشركين.
[214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
عطف على قوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194]، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص. ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم "لا أغني عنكم من الله شيء" ، وأن فيه تعريضا بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصوه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفي من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح؛ فهذا مما يدخل في النذارة، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابته مؤمنين وكافرين.
ففي حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في صحيحي البخاري ومسلم يجمعها قولهم لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام رسول الله على الصفا فدعا قريشا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فقال: يا معشر قريش، فعم وخص، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني
(19/204)

هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، أشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارهما إعمال لفعل الأمر في معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال؛ فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصي لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ? قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ? فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2].
وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عدت السادسة في عداد السور وسورة الشعراء عدت السابعة والأربعين. فالظاهر أن قوله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} نزل قبل سورة الشعراء مفردا، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في صحيح مسلم: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين" وأن ذلك نسخ. فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة سورة الشعراء.
والعشيرة: الأدنون من القبيلة، فوصف {الْأَقْرَبِينَ} تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
وإلى هذا يشير النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعوة المتقدمة "غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئا، فيحق عليكم أن تبلوا لي رحمي مما تملكون فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي.
(19/205)

وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} في [سورة براءة: 24].
[215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
معترض بين الجملتين ابتدارا لكرامة المؤمنين قبل الأمر بالتبرؤ من الذين لا يؤمنون، وبعد الأمر بالإنذار الذي لا يخلو من وقع أليم في النفوس.
وخفض الجناح: مثل المعاملة باللين والتواضع. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} في [سورة الحجر: 88]، وقوله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} في [سورة الإسراء: 24]. والجناح للطائر بمنزلة اليدين للدواب، وبالجناحين يكون الطيران.
و {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بيان لـ {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} فإن المراد المتابعة في الدين وهي الأيمان. والغرض من هذا البيان التنويه بشأن الإيمان كأنه قيل: واخفض جناحك لهم لأجل إيمانهم كقوله تعالى {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وجبر لخاطر المؤمنين من قرابته. ولذلك لما نادى في دعائه صفية قال عمة رسول الله ولما نادى فاطمة قال بنت رسول الله تأنيسا لهما، فهذا من خفض الجناح ولم يقل مثل ذلك للعباس لأنه كان يومئذ من مشركا.
[216] {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} .
تفريع على جملة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أي عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار، أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم، وهذا هو مثار قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في دعوته "غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه.
[217 - 220] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
(19/206)

وعطف الأمر بالتوكل بفاء التفريع في قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر فيكون تفريعا على {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} تنبيها على المبادرة بالعوذ من شر أولئك الأعداء وتنصيصا على اتصال التوكل بقوله {إِنِّي بَرِيءٌ} .
وقرأ الجمهور {وَتَوَكَّلْ} بالواو وهو عطف على جواب الشرط، أي قل إني بريء وتوكل، وعطفه على الجواب يقتضي تسببه على الشرط كتسبب الجواب وهو يستلزم البدار به، فمآل القراءتين واحد وإن اختلف طريق انتزاعه.
والمعنى: فإن عصاك أهل عشيرتك فتبرأ منهم. ولما كان التبرؤ يؤذن بحدوث مجافاة وعداوة بينه وبينهم ثبت الله جأش رسوله بأن لا يعبأ بهم وأن يتوكل على ربه فهو كافيه كما قال {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وعلق التوكل بالاسمين {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وما تبعهما من الوصف الموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يلاحظ قوله ويعلم نيته، إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف {العزيز الرحيم} للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوه الذي هو أقوى منه، وأنه برحمته يعصمه منهم. وقد لوحظ هذان الاسمان غير مرة في هذه السورة لهذا الاعتبار كما تقدم.
والتوكل: تفويض المرء أمره إلى من يكفيه مهمه، تقدم عند قوله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في [سورة آل عمران: 159].
ووصفه تعالى بـ {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} مقصود به لازم معناه. وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بمحل العناية منه لأنه يعلم توجهه إلى الله ويقبل ذلك منه، فالمراد من قوله {يَرَاكَ} رؤية خاصة وهي رؤية الإقبال والتقبل كقوله {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
والقيام: الصلاة في جوف الليل، غلب هذا الاسم عليه في اصطلاح القرآن والقلب في الساجدين هو صلاته في جماعات المسلمين في مسجده. وهذا يجمع معنى العناية بالمسلمين تبعا للعناية برسولهم، فهذا من بركته صلى الله عليه وسلم وقد جمعها هذا التركيب العجيب الإيجاز.
وفي هذه الآية ذكر صلاة الجماعة. قال مقاتل لأبي حنيفة: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن ? فقال أبو حنيفة: لا يحضرني، فتلا مقاتل هذه الآية.
وموقع {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} موقع التعليل للأمر بـ {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ،
(19/207)

وللأمر بـ {تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، فصفة {السَّمِيعُ} مناسبة للقول، وصفة {الْعَلِيمُ} مناسبة للتوكل، أي أنه يسمع قولك ويعلم عزمك.
وضمير الفصل في قوله {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} للتقوية.
[221 - 223] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} .
لما سفه قولهم في القرآن: إنه قول كاهن، فرد عليهم بقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وأنه لا ينبغي للشياطين ولا يستطيعون مثله وأنهم حيل بينهم وبين أخبار أوليائهم، عاد الكلام إلى وصف حال كهانهم ليعلم أن الذي رموا به القرآن لا ينبغي أن يتلبس بحال أوليائهم. فالجملة متصلة في المعنى بجملة {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} .
وألقي الكلام إليهم في صورة استفهام عن أن يعرفوهم لمن تتنزل عليه الشياطين، استفهاما فيه تعريض بأن المستفهم عنه مما يسوءهم لذلك يحتاج فيه إلى إذنهم بكشفه.
وهذا الاستفهام صوري مستعمل كناية عن كون الخبر مما يستأذن في الإخبار به. واختير له حرف الاستفهام دال على التحقيق وهو {هَلْ} لأن هل في الاستفهام بمعنى "قد" والاستفهام مقدر فيها بهمزة استفهام، فالمعنى: أنبئكم إنباء ثابتا محققا وهو استفهام لا يترقب منه جواب المستفهم لأنه ليس بحقيقي فلذلك يعقبه الإفضاء بما استفهم عنه قبل الإذن من السامع. ونظيره في الجواب قوله تعالى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 - 2] وإن كان بين الاستفهامين فرق.
وفعل {أُنَبِّئُكُمْ} معلق عن العمل بالاستفهام في قوله {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} . وهو أيضا استفهام صوري معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسسون ويتطلبونه، فالاستفهام من لوازم الاهتمام.
والمجرور مقدم على عاملة للاهتمام بالمتنزل عليه. وأصل التركيب: من تنزل عليه الشياطين فلما قدم المجرور دخل حرف {عَلَى} على اسم الاستفهام وهو {مَنْ} لأن ما صدقها هو المتنزل عليه، ولا يعكر عليه أن المتعارف أن يكون الاستفهام في صدر
(19/208)

الكلام، لأن أسماء الاستفهام تضمنت معنى الاسمية وهو أصلها، وتضمنت معنى همزة الاستفهام كما تضمنته {هَلْ} ، فإذا لزم مجيء حرف الجر مع أسماء الاستفهام ترجح فيها جانب الاسمية فدخل الحرف عليها ولم تقدم هي عليه، فلذلك تقول: أعلى زيد مررت? ولا تقول: من على مررت? وإنما تقول: على من مررت? وكذا في بقية أسماء الاستفهام نحو {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ، {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، وقولهم: علام، وإلام، وحتام، و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} .
وأجيب الاستفهام هنا بقوله {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} .
و {كُلِّ} هنا مستعملة في معنى التكثير، أي على كثير من الأفاكين وهم الكهان، قال النابغة:
وكل صموت نثلة تبعية
...
ونسج سليم كل قمصاء ذائل
والأفاك كثير الإفك، أي الكذب، والأثيم كثير الأثم. وإنما كان الكاهن أثيما لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقا، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء.
وجعل للشياطين {تَنَزَّلُ} لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سورة الحجر.
و {يُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة لـ {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي يظهرون أنهم يلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر وذلك من إفكهم وإثمهم.
وإلقاء السمع: هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاء للسمع من موضعه، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أي أبلغ في الإصغاء ليعي ما يقال له.
وهذا كما أطلق عليه إصغاء، أي إمالة السمع إلى المسموع.
وقوله {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئا، أي وبعضهم يتلقى شيئا قليلا من الشياطين فيكذب عليه أضعافه.
ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال: ليسوا بشيء قيل: يا
(19/209)

رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا. فقال تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة. فهم أفاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن، ومنهم أفاكون في أصل تلقي شيء من الجن، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادىء النظر. أطنبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبار عن أشياء قليلة قد تصدق فأين هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات. كما قال {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} في آيات كثيرة من هذا المعنى.
[224 - 227] {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .
كان مما حوته كنانة بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم: هو شاعر فلما نثلث الآيات السابقة سهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم: هو كاهن، لم يبق إلا إبطال قولهم: هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطانا يملي عليه الشعر وربما سموه الرئي، فناسب أن يقارن بين تزييف قولهم في القرآن: هو شعر، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم: هو شاعر، وبين قولهم: هو قول كاهن، كما قرن بينهما في قوله تعالى {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ؛ فعطف هنا قوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} على جملة {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} .
ولما كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفا لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال ما بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعرا، وأن يكون القرآن شعرا. دون تعرض إلى تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة.
وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يعنون بمجالسهم وسماع أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيهم، أدمجت
(19/210)

الآية حال من يتبع الشعراء بحالهم تشويها للفريقين وتنفيرا منهما. ومن هؤلاء النضر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحمي، وابن الزبعرى، وأمية بن أبي الصلت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأم جميل العوراء بنت حرب زوج أبي لهب التي لقبها القرآن: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] وكانت شاعرة وهي التي قالت:
مذمما عصينا
...
وأمره أبينا
...
ودينه قلينا
فكانت هذه الآية نفيا للشعر أن يكون من خلق النبي صلى الله عليه وسلم وذما للشعراء الذين تصدوا لهجائه.
فقوله {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ذم لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى. والغاوي: المتصف بالغي والغواية، وهي الضلالة الشديدة، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى. فقوله {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} خبر، وفي كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذم أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعرا.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
وجعله في الكشاف للحصر، أي لا يتبعهم إلا الغاوون، لأنه أصرح في نفي اتباع الشعراء عن المسلمين. وهذه طريقته باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر، أي قصر مضمون الخبر عليه، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في [سورة البقرة: 15].
والرؤية في {أَلَمْ تَرَ} قلبية لأن الهيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يعلم لا مما يرى.
والاستفهام تقريري، وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18]، والخطاب لغير معين. وضمائر "إنهم - ويهيمون - ويقولون - ويفعلون" عائدة إلى الشعراء.
(19/211)

فجملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.
ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحونه رغبة في إعطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذم من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذموا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سبق لهم ذمة.
والهيام: هو الحيرة والتردد في المرعى. والواد: المنخفض بين عدوتين. وإنما ترعى الإبل الأودية إذا أقحلت الربى، والربى أجود كلأ، فمثل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة، لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس.
و {كُلِّ} مستعمل في الكثرة. روي أنه اندس بعض المزاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحاجب الشعراء وأنكر هذا الذي اندس فيهم فقال له هؤلاء الشعراء وأنت من الشعراء? قال: بل أنا من الغاوين، فاستطرفها.
وشفع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذبا لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح وإن كان عليه قرينة كان كذبا معتذرا عنه فكان غير محمود.
وفي هذا إبداء للبون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقا ولا يصانع ولا يأتي بما يضلل الأفهام.
ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله:
فبتن بجانبي مصرعات
...
وبت أفض أغلاق الختام
فقال سليمان: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب فقال شعرا:
من مبلغ الحسناء أن حليلها
...
بميسان يسقى في زجاج وحنتم
(19/212)

إلى أن قال:
لعل أمير المؤمنين يسوءه
...
تنادمنا بالجوسق المتهدم1
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال له: أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت وإنما كان فضلة من القول وقد قال الله تعالى {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر أما عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت.
وقد كني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغض منه، واستثناء {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ... من عموم الشعراء، أي من حكم ذمهم. وبهذا الاستثناء تعين أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام.
ومعنى {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} أي كان إقبالهم على القرآن والعباد أكثر من إقبالهم الشعر. {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وهم من أسلموا من الشعراء وقالوا: الشعر في هجاء المشركين والانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة فقد قالوا شعرا كثيرا في ذم المشركين. وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت ومن أسلم من بعد من العرب مثل لبيد، وكعب بن زهير، وسحيم عبد بني الحسحاس، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السورة مدنيا كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة.
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة، وحالة مأذونة، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعرا ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه. وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ، وإلى الحالة المأذونة قوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصت أصحابه
ـــــــ
1 الجوسق: القصر، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.
(19/213)

لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة، على أن أذن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له: كلامك أشد عليهم من وقع النبل.. وقال له "قل ومعك روح القدس" وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} في [سورة يس: 69]. وأجاز عليه كما أجاز كعب بن زهير فخلع عليه بردته فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمنا.
وقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر "أصدق كلمة، أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطلا"
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال: "كاد أمية أن يسلم"، وأمر حسانا بهجاء المشركين وقال له: "قل ومعك روح القدس". وقال لكعب بن مالك "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل".
روى أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن بسنده إلى خريم بن أوس بن حارثة أنه قال: هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرفه من تبوك فسمعت العباس قال: يا رسول الله إني أريد أن امتدحك. فقال: قل لا يفضض الله فاك. فقال العباس:
من قبلها طبت في الظلال وفي
...
مستودع حيث يخصف الورق
الأبيات السبعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضض الله فاك .
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله ابن رواحة يمشي بين يديه يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله
...
اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
...
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خل عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نضح النبل" .
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ما تقول في الشعر ? قال: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل" .
ولعلي بن أبي طالب كثير، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه.
(19/214)

وقد بين القرطبي في تفسيره في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب دلائل الإعجاز.
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ولم يزل العلماء يعنون بشعر العرب ومن بعدهم، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن.
ومعنى {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم. وجعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك، وللاعتداء على حقوق الناس. وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده، والواو اعتراضية للاستئناف.
وهذه الآية تحذير من غمص الحقوق وحث عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم، ومن الإبهام في قوله {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} إذ ترك تبيينه بعقاب معين لتذهل نفوس الموعدين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلب سوء.
والمنقلب: مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآل لأن الانقلاب هو الرجوع. وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده. واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه. قال في الكشاف: وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها.
(19/215)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل
أشهر أسمائها سورة النمل. وكذلك سميت في صحيح البخاري وجامع الترمذي. وتسمى أيضا سورة سليمان ، وهذان الاسمان اقتصر عليهما في الإتقان وغيره.
وذكر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن أنها تسمى سورة الهدهد. ووجه الأسماء الثلاثة أن لفظ النمل ولفظ الهدهد لم يذكرا في سورة من القرآن غيرها، وأما تسميتها سورة سليمان فلأن ما ذكر فيها من ملك سليمان مفصلا لم يذكر مثله في غيرها.
وهذه السورة مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية والقرطبي والسيوطي وغير واحد. وذكر الخفاجي أن بعضهم ذهب إلى مكية بعض آياتها كذا ولعله سهو صوابه مدنية بعض آياتها ولم أقف على هذا لغير الخفاجي.
وهي السورة الثامنة والأربعون في عداد نزول السور، نزلت بعد الشعراء وقبل القصص. كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقد عدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة خمسا وتسعين، وعند أهل الشام والبصرة والكوفة أربعا وتسعين.
من أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة افتتاحها بما يشير إلى إعجاز القرآن ببلاغة نظمه وعلو معانيه، بما يشير إليه الحرفان المقطعان في أولها.
(19/216)

والتنويه بشأن القرآن وأنه هدى لمن ييسر الله الاهتداء به دون من جحدوا أنه من عند الله.
والتحدي بعلم ما فيه من أخبار الأنبياء.
والاعتبار بملك أعظم ملك أوتيه نبي. وهو ملك داود وملك سليمان عليهما السلام. وما بلغه من العلم بأحوال الطير، وما بلغ إليه ملكه من عظمة الحضارة.
وأشهر أمة في العرب أوتيت قوة وهي أمة ثمود. والإشارة إلى ملك عظيم من العرب وهو ملك سبأ. وفي ذلك إيماء إلى أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة تقارنها سياسة الأمة ثم يعقبها ملك، وهو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن الشريعة المحمدية سيقام بها ملك للأمة عتيد كما أقيم لبني إسرائيل ملك سليمان.
ومحاجة المشركين في بطلان دينهم وتزييف آلهتهم وإبطال أخبار كهانهم وعرافيهم، وسدنة آلهتهم. وإثبات البعث وما يتقدمه من أهوال القيامة وأشراطها.
وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة. ثم موادعة المشركين وإنباؤهم بأن شأن الرسول الاستمرار على إبلاغ القرآن وإنذارهم بأن آيات الصدق سيشاهدونها والله مطلع على أعمالهم.
قال ابن الفرس ليس في هذه السورة إحكام ولا نسخ. ونفيه أن يكون فيها إحكام ولا نسخ معناه أنها لم تشتمل على تشريع قار ولا على تشريع منسوخ. وقال القرطبي في تفسير آية {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل: 91 - 92] الآية نسختها آية القتال اهـ، يعني الآية النازلة بالقتال في سورة البراءة. وتسمى آية السيف، والقرطبي معاصر لابن الفرس إلا أنه كان بمصر وابن الفرس بالأندلس، وقوله {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ويؤخذ منهما حكمان كما سيأتي.
[1] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ}
{طس}
تقدم القول في أن الراجح أن هذه الحروف تعريض بالتحدي بإعجاز القرآن وأنه مؤتلف من حروف كلامهم. وتقدم ما في أمثالها من المحامل التي حاولها كثير من المتأولين.
(19/217)

ويجيء على اعتبار أن تلك الحروف مقتضبة من أسماء الله تعالى أن يقال في حروف هذه السورة ما روي عن ابن عباس أن: طس مقتضب من طاء اسمه تعالى اللطيف، ومن سين اسمه تعالى السميع. وأن المقصود القسم بهاذين الاسمين، أي واللطيف والسميع تلك آيات القرآن المبين.
{تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} .
القول فيه كالقول في صدر سورة الشعراء وخالفت آية هذه السورة سابقتها بثلاثة أشياء: بذكر اسم القرآن وبعطف {وَكِتَابٍ} على {الْقُرْآنِ} وبتنكير {كِتَابٍ} .
فأما ذكر اسم القرآن فلأنه علم للكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والهدي. وهذا العلم يرادف الكتاب المعرف بلام العهد المجعول علما بالغلبة على القرآن، إلا أن اسم القرآن أدخل في التعريف لأنه علم منقول. وأما الكتاب فعلم بالغلبة، فالمراد بقوله {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} القرآن أيضا ولا وجه لتفسيره باللوح المحفوظ للتقصي من إشكال عطف الشيء على نفسه لأن التقصي من ذلك حاصل بأن عطف إحدى صفتين على أخرى كثير في الكلام. ولما كان في كل من {الْقُرْآنِ} { وَكِتَابٍ مُبِينٍ} شائبة الوصف فالأول باشتقاقه من القراءة، والثاني بوصفه بـ {مُبِينٍ} ، كان عطف أحدهما على الآخر راجعا إلى عطف الصفات بعضها على بعض، وإنما لم يؤت بالثاني بدلا، لأن العطف أعلق باستقلال كلا المتعاطفين بأنه مقصود في الكلام بخلاف البدل.
ونظير هذه الآية آية سورة الحجر {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} فإن {قُرْآنِ} في تلك الآية في معنى عطف البيان من {كِتَابٍ} ولكنه عطف لقصد جمعهما بإضافة {آيَاتُ} إليهما.
وإنما قدم في هذه الآية القرآن وعطف عليه {كِتَابٍ مُبِينٍ} على عكس ما في طالعة سورة الحجر لأن المقام هنا مقام التنويه بالقرآن ومتبعيه المؤمنين، فلذلك وصف بأنه {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي بأنهم على هدى في الحال ومبشرون بحسن الاستقبال فكان الأهم هنا للوحي المشتمل على الآيات هو استحضاره باسمه العلم المنقول من مصدر القراءة لأن القراءة تناسب حال المؤمنين بهو المتقبلين لآياته فهم يدرسونها ولأجل ذلك أدخلت اللام للمح الأصل، تذكيرا بأنه مقروء مدروس. ثم عطف عليه {كِتَابٍ مُبِينٍ} ليكون التنويه به جامعا لعنوانيه ومستكملا للدلالة بالتعريف على معنى
(19/218)

الكمال في نوعه من المقروآت، والدلالة بالتنكير على معنى تفخيمه بين الكتب كقوله تعالى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وأما ما في أول سورة الحجر فهو مقام التحسير للكافرين من جراء إعراضهم عن الإسلام فناسب أن يبتدئوا باسم الكتاب المشتق من الكتاب دون القرآن لأنهم بمعزل عن قراءته ولكنه مكتوب، وحجة عليهم باقية على مر الزمان. وقد تقدم تفصيل ذلك في أول سورة الحجر، ولهذا عقب هنا ذكر {كِتَابٍ مُبِينٍ} بالحال {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2].
و {مُبِينٍ} اسم فاعل إما من "أبان " القاصر بمعنى "بان" لأن وصفه بأنه بين واضح له حظ من التنويه به ما ليس من الوصف بأنه موضح مبين. فالمبين أفاد معنيين أحدهما: أن شواهد صدقه وإعجازه وهديه لكل متأمل، وثانيهما أنه مرشد ومفصل.
[2، 3] { هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
{هُدىً وَبُشْرَى} حالان من {كِتَابٌ} بعد وصفه بـ {مُبِينٌ} [النمل: 1].
وجعل الحال مصدرا للمبالغة بقوة تسببه في الهدى وتبليغه البشرى للمؤمنين. فالمعنى: أن الهدى للمؤمنين والبشرى حاصلان منه ومستمران من آياته.
والبشرى: اسم للتبشير، ووصف الكتاب بالهدى والبشرى جار على طريقة المجاز العقلي وإنما الهادي والمبشر الله أو الرسول بسبب الكتاب. والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى: أشير، كقوله {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72]، وقد تقدم ما فيه فيسورة إبراهيم.
و {لِلْمُؤْمِنِينَ} يتنازعه {هُدىً وَبُشْرَى} لأن المؤمنين هم الذين انتفعوا بهديه كقوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} .
ووصف المؤمنين بالموصول لتمييزهم عن غيرهم لأنهم عرفوا يومئذ بإقامة الصلاة وإعطاء الصدقات للفقراء والمساكين، ألا ترى أن الله عرف الكفار بقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]، ولأن في الصلة إيماء إلى وجه بناء الإخبار عنهم بأنهم على هدى من ربهم ومفلحون.
(19/219)

والزكاة: الصدقة لأنها تزكي النفس أو تزكي المال، أي تزيده بركة. والمراد بالزكاة هنا الصدقة مطلقا أو صدقة واجبة كانت على المسلمين، وهي مواساة بعضهم بعضا كما دل عليه قوله في صفة المشركين {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17 - 18]. وأما الزكاة المقدرة بالنصب والمقادير الواجبة على أموال الأغنياء فإنها فرضت بعد الهجرة فليست مرادا هنا لأن هذه السورة مكية.
وجملة {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} عطف على الصلة وليست من الصلة ولذلك خولف بين أسلوبها وأسلوب الصلة فأتي له بجملة اسمية اهتماما بمضمونها لأنه باعث على فعل الخيرات، وعلى أن ضمير {هُمْ} الثاني يجوز أن يعتبر ضمير فصل دالا على القصر، أي ما يوقن بالآخرة إلا هؤلاء.
والقصر إضافي بالنسبة إلى مجاوريهم من المشركين، وإلا فإن أهل الكتاب يوقنون بالآخرة إلا أنهم غير مقصود حالهم للمخاطبين من الفريقين. وتقديم {بِالْآخِرَةِ} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بها.
[4] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} .
لا محالة يثير كون الكتاب المبين هدى وبشرى للذين يوقنون بالآخرة سؤالا في نفس السامع عن حال أضدادهم الذين لا يوقنون بالآخرة لماذا لا يهتدون بهدي هذا الكتاب البالغ حدا عظيما في التبين والوضوح. فلا جرم أن يصلح المقام للإخبار عما صرف هؤلاء الأضداد عن الإيمان بالحياة الآخرة فوقع هذا الاستئناف البياني لبيان سبب استمرارهم على ضلالهم. ذلك بأن الله يعلم خبث نواياهم فحرمهم التوفيق ولم يصرف إليهم عناية تنشلهم من كيد الشيطان لحكمة علمها الله من حال ما جلبت عليه نفوسهم، فوقع هذا الاستئناف بتوابعه موقع الاعتراض بين أخبار التنويه بالقرآن بما سبق والتنويه به بمن أنزل عليه بقوله {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [النمل: 6].
وتأكيد الخبر بحرف التوكيد للاهتمام به لأنه بحيث يلتبس على الناس سبب افتراق الناس في تلقي الهدى بين مبادر ومتقاعس ومصر على الاستمرار في الضلال. ومجيء المسند إليه موصولا يومئ إلى أن الصلة علة في المسند.
وتزيين تلك الأعمال لهم: تصورهم إياها في نفوسهم زينا، وإسناد التزيين إلى الله تعالى يرجع إلى أمر التكوين، أي خلقت نفوسهم وعقولهم قابلة للانفعال وقبول ما تراه
(19/220)

من مساوي الاعتقادات والأعمال التي اعتادوها، فإضافة أعمال إلى ضمير الذي لا يؤمنون بالآخرة يقتضي أن تلك الأعمال هي أعمال الإشراك الظاهرة والباطنة فهم لإلفهم إياها وتصلبهم فيها صاروا غير قابلين لهدي هذا الكتاب الذي جاءتهم آياته.
وقد أشارت الآية إلى معنى دقيق جدا وهو أن تفاوت الناس في قبول الخير كائن بمقدار رسوخ ضد الخير في نفوسهم وتعليق فطرتهم به. وذلك من جراء ما طرأ على سلامة الفطرة التي فطر الله الناس عليها من التطور إلى الفساد كما أشار إليه قوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5 - 6] الآية. فمبادرة أبي بكر رضي الله عنه إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم أمارة على أن الله فطره بنفس وعقل بريئين من التعلق بالشر مشتاقين إلى الخير حتى إذا لاح لهما تقبلاه. وهذا معنى قول أبي الحسن الأشعري ما زال أبو بكر بعين الرضى من الرحمان .
وقد أومأ جعل صلة الموصول مضارعا إلى أن الحكم منوط بالاستمرار على عدم الإيمان، وأومأ جعل الخبر ماضيا في قوله {زَيَّنَّا} إلى أن هذا التزيين حكم سبق وتقرر من قبل، وحسبك أنه من آثار التكوين بحسب ما طرأ على النفوس من الأطوار.
فإسناد تزيين أعمال المشركين إلى الله في هذه الآية وغيرها مثل قوله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في [سورة الأنعام: 108] لا ينافي إسناد ذلك إلى الشيطان في قوله الآتي {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]؛ فإن وسوسة الشيطان تجد في نفوس أولئك مرتعا خصبا ومنبتا لا يقحل؛ فالله تعالى مزين لهم بسبب تطور جبلة نفوسهم من أثر ضعف سلامة الفطر عندهم، والشيطان مزين لهم بالوسوسة التي تجد في نفوسهم كما قال تعالى حكاية عنه {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] وقال تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وقد تقدم ذلك في قوله تعالى {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية في[سورة البقرة: 7].
وفرع على تزيين أعمالهم لهم أنهم في عمه متمكن منهم بصوغ الإخبار عنهم بذلك بالجملة الاسمية. وأفادت صيغة المضارع أن العمه متجدد مستمر فيه، أي فهم لا يرجعون إلى اهتداء لأنهم يحسبون أنهم على صواب.
والعمه: الضلال عن الطريق بدون اهتداء. وقد تقدم في قوله تعالى {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في [سورة البقرة: 15]. وفعله كمنع وفرح.
(19/221)

فضمير {هُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} بمراعاة هذا العنوان لا بذواتهم.
واعلم أن هذا الاستمرار متفاوت الامتداد فمنه أشده وهو الذي يمتد بصاحبه إلى الموت، ومنه دون ذلك. وكل ذلك على حسب تزيين الكفر في نفوسهم تزيينا خالصا أو مشوبا بشيء من التأمل في مفاسده، وتلك مراتب لا يحيط بها إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
[5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
قصد باس
م الإشارة زيادة تمييزهم فضحا لسوء حالهم مع ما ينبه إليه اسم الإشارة في مثل هذا المقام من أن استحقاقهم ما يخبر به عنهم ناشئ عما تقدم اسم الإشارة كما في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في [سورة البقرة: 5].
وعزز ما نبه عليه باسم الإشارة فأعقب باسم الموصول وصلته لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
وجيء بلام الاختصاص للإشارة إلى أنهم في حالتهم هذه قد هيىء لهم سوء العذاب. والظاهر أن المراد به عذاب الدنيا وهو عذاب السيف وخزي الغلب يوم بدر وما بعده بقرينة عطف {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
ففي الآية إشارة إلى جزاءين: جزاء في الدنيا معدود لهم يستحقونه بكفرهم فهم ما داموا كافرين متهيئون للوقوع في ذلك العذاب إن جاء إبانه وهم على الكفر.
وجزاء في الآخرة ينال من صار إلى الآخرة وهو كافر وهذا المصير يسمى بالموافاة عند الأشعري.
ولكون نوال العذاب الأول إياهم قابلا للتقصي منه بالإيمان قبيل حلوله بهم جيء في جانبه بلام الاختصاص المفيدة كونها مهيأ تهيئة، أما أصالة جزاء الآخرة إياهم فلا مندوحة لهم عنه إن جاؤوا يوم القيامة بكفرهم.
فالضمائر في قوله {لَهُمْ} وقوله {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ} عائدة إلى {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النمل: 4] بمراعاة ذلك العنوان الذي أفادته الصلة فلا دلالة في الضمير على أشخاص معينين ولكن على موصوفين بمضمون الصلة فمن تنقشع عنه الضلالة ويثوب
(19/222)

إلى الإيمان يبرأ من هذا الحكم. وصيغ الخبر عنهم بالخسران في صيغة الجملة الاسمية وقرن بضمير الفصل للدلالة على ثبات مضمون الجملة وعلى انحصار مضمونها فيهم كما تقدم في قوله {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3].
وجاء المسند اسم تفضيل للدلالة على أنهم أوحدون في الخسران لا يشبهه خسران غيرهم لأن الخسران في الآخرة متفاوات المقدار والمدة وأعظمه فيهما خسران المشركين.
[6] {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} .
عطف على جملة {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} انتقال من التنويه بالقرآن إلى التنويه بالذي أنزل عليه بأن القرآن آيات دالة على أنه كتاب مبين. وذلك آية أنه من عند الله، ثم بأنه آية على صدق من أنزل عليه إذ أنبأه بأخبار الأنبياء والأمم الماضين التي ما كان يعلمها هو ولا قومه قبل القرآن. وما كان يعلم خاصة أهل الكتاب إلا قليلا منها وأكثره محرف. وأيضا فهذا تميهد لما يذكر بعده من القصص.
و {تُلَقَّى} مضارع لقاه مبني للمجهول، أي جعله لاقيا. واللقي واللقاء: وصول أحد الشيئين إلى شيء آخر قصد أو مصادفة. والتلقية: جعل الشيء لاقيا غيره، قال تعالى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11]، وهو هنا تمثيل لحال إنزال القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال التقلية كأن جبريل سعى للجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وإنما بني الفعل إلى غير مذكور للعلم بأنه لله أو جبريل، والمعنى واحد: وهو يكون التأكيد موجها إلى السامعين من الكفار على طريقة التعريض.
وفي إقحام اسم {لَدُنْ} بين {مِنْ} و {حَكِيمٍ} تنبيه على شدة انتساب القرآن إلى جانب الله تعالى فإن أصل {لَدُنْ} الدلالة على المكان مثل "عند" ثم شاع إطلاقها على ما هو من خصائص ما تضاف هي إليه تنويها بشأنه، قال تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65].
والحكيم: القوي الحكمة، والعليم: الواسع العلم. وفي التنكير إيذان بتعظيم هذا
(19/223)

الحكيم العليم كأنه قيل: من حكيم أي حكيم، وعليم أي عليم.
وفي الوصفين الشريفين مناسبة للمعطوف عليه وللممهد إليه، فإن ما في القرآن دليل على حكمة وعلم من أوحى به، وأن ما يذكر هنا من القصص وما يستخلص منها من المغازي والأمثال والموعظة، من آثار حكمة وعلم حكيم عليم وكذلك ما في ذلك من تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
[7] {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} .
قال الزجاج والزمخشري وغيرهما: انتصب {إِذْ} بفعل مضمر تقديره: اذكر، أي أن {إِذْ} مجرد عن الظرفية مستعمل بمعنى مطلق الوقت، ونصبه على المفعول به، أي اذكر قصة زمن قال موسى لأهله، يعني أنه جار على طريقة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها إفادة تنظير تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بتلقي موسى عليه السلام كلام الله إذ نودي {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9].
وذلك من بديع التخلص إلى ذكر قصص هؤلاء الأنبياء عقب التنويه بالقرآن، وأنه من لدن حكيم عليم. والمعنى: أن الله يقص عليك من أنباء الرسل ما فيه مثل لك ولقومك وما يثبت به فؤادك.
وفي ذلك انتقال لنوع آخر من الإعجاز وهو الإخبار عن المغيبات وهو ما عددناه في الجهة الرابعة من جهات إعجاز القرآن في المقدمة العاشرة من المقدمات.
وجملة {قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} إلى آخرها تمهيدا لجملة {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] الخ. وزمان قول موسى لأهله هذه المقالة وهو وقت اجتلابه للمبادرة بالوحي إليه. فهذه القصة مثل ضربه الله لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه، ابتدئت بما تقدم رسالة موسى من الأحوال إدماجا للقصة في الموعظة.
والأهل: مراد به زوجه، ولم يكن معه إلا زوجه وابنان صغيران. والمخاطب بالقول زوجه، ويكنى عن الزوجة بالأهل. وفي الحديث "والله ما علمت على أهلي إلا خيرا" .
ولم تظهر النار إلا لموسى دون غيره من أهله لأنها لم تكن نارا معتادة لكنها من
(19/224)

أنوار عالم الملكوت جلاه الله لموسى فلا يراه غيره. ويؤيد هذا تأكيده الخبر بـ"إن" المشير إلى أن زوجه ترددت في ظهور نار لأنها لم ترها.
والإيناس: الإحساس والشعور بأمر خفي، فيكون في المرئيات وفي الأصوات كما قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القنـ
...
ـاص عصرا وقد دنا الإمساء
والمراد بالخبر خبر المكان الذي تلوح منه النار. ولعله ظن أن هنالك بيتا يرجو استضافتهم إياه وأهله تلك الليلة، وإن لم يكن أهل النار أهل بيت يستضيفون بأن كانوا رجالا مقوين يأت منهم بجمرة نار ليوقد أهله نارا من حطب الطريق للتدفؤ بها.
والشهاب: الجمر المشتعل. والقبس: جمرة أو شعلة نار تقبس، أي يؤخذ اشتعالها من نار أخري ليشعل بها حطب أو ذبالة نار أو غيرهما.
وقرأ الجمهور بإضافة {شِهَابٍ} إلى {قَبَسٍ} إضافة العام إلى الخاص مثل: خاتم حديد. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بتنوين {شِهَابٍ} ، فيكون {قَبَسٍ} بدلا من {شِهَابٍ} أو نعتا له. وتقدم في أول سورة طه.
والاصطلاء: افتعال من الصلي وهو الشي بالنار. ودلت صيغة الافتعال أنه محاولة الصلي فصار بمعنى التدفؤ بوهج النار.
[8 - 11] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
أُنث ضمير {جَاءَهَا} جريا على ما تقدم من تسمية النور نارا بحسب ما لاح لموسى. وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب، فقوله {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} هو بعض ما اقتضاه قوله في طه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} لأن معنى {بُورِكَ} قدس وزكي.
وفعل "بارك" يستعمل متعديا، يقال: باركك الله، أي جعل لك بركة. وتقديم بيان
(19/225)

معنى البركة في قوله تعالى {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في [آل عمران: 96]، وقوله {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} في [سورة هود: 48]. و"أن" تفسيرية لفعل {نُودِيَ} لأن فيه معنى القول دون حروفه، أي نودي بهذا الكلام.
و {مَنْ فِي النَّارِ} مراد به موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطا به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظرف، فعبر عنه بـ {مَنْ فِي النَّارِ} وهو نفسه.
والعدول عن ذكره بضمير الخطاب كما هو مقتضى الظاهر، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر، لأن في معنى صلة الموصول إيناسا له وتلطفا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي "قم أبا تراب" وكثير التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطف به من أحواله. وهذا الكلام خبر هو بشارة لموسى عليه السلام ببركة النبوة.
ومن حول النار: هو جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسه إن كان النداء بغير واسطة جبريل بل كان من لدن الله تعالى. فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر {مَنْ} الموصولة في الموضعين، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة. وقيل إن قوله {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} إنشاء تحية من الله تعالى إلى موسى عليه السلام كما كانت تحية الملائكة لإبراهيم {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] أي أهل هذا البيت الذي نحن فيه.
{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عطف على ما نودي به موسى على صريح معناه إخبارا بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم موسى أمرين: أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان. ويجوز أن يكون {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} مستعملا للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكر تنزيهه وتقديسه.
وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى وإنما يعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية.
فالمعنى: ونزه الله تنزيها عن كل ما لا يليق به ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالا في ذلك المكان.
وإرداف اسم الجلالة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه معنى التعليل للتنزيه عن شؤون المحدثات لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شؤونهم.
(19/226)

وضمير {إِنَّهُ} ضمير الشأن، وجملة {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبر عن ضمير الشأن. والمعنى: إعلامه بأن أمرا مهما يجب عمله وهو أن الله عزيز حكيم، أي لا يغلبه شيء، لا يستصعب عليه تكوين.
وتقديم هذا بين يدي ما سيلقى إليه الأمر لإحداث رباطة جأش لموسى ليعلم أنه خلعت عليه النبوءة إذ ألقي إليه الوحي، ويعلم أنه سيتعرض إلى أذى وتألب عليه. وذلك كناية عن كونه سيصير رسولا، وأن الله يؤيده وينصره على كل قوي، وليعلم أن ما شاهد من النار وما تلقاه من الوحي وما سيشاهده من قلب العصا حية ليس بعجيب في جانب حكمة الله تعالى فتلك ثلاث كنايات فلذلك أتبع هذا بقوله {وَأَلْقِ عَصَاكَ} . والمعنى: وقلنا ألق عصاك.
والاهتزاز: الاضطراب، وهو افتعال من الهز وهو الرفع كأنها تطاوع فعل هاز يهزها. والجان: ذكر الحيات، وهو شديد الاهتزاز وجمعه جنان "وأما الجان بمعنى واحد الجن فاسم جمعه جن". والتشبيه في سرعة الاضطراب لأن الحياة خفيفة التحرك، وأما تشبيه العصا بالثعبان في آية {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} فذلك لضخامة الجرم.
والتولي: الرجوع عن السير في طريقه. وفعل "تولى" مرادف فعل {وَلَّى} كما هو ظاهر صنيع القاموس وإن كان مقتضى ما في فعل "تولى" من زيادة المبنى أن يفيد "تولى" زيادة في معنى الفعل. وقد قال تعالى {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} في [سورة القصص: 24]. ولعل قصد إفادة قوة توليه لما رأى عصاه تهتز هو الداعي لتأكيد فعل {وَلَّى} بقوله {مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} فتأمل.
والإدبار: التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله {مُدْبِراً} حال لازمة لفعل {وَلَّى} .
والتعقب: الرجوع بعد الانصراف مشتق من العقب لأنه رجوع إلى جهة العقب، أي الخلف، فقوله {وَلَمْ يُعَقِّبْ} تأكيد لشدة توليه، أي ولى توليا قويا لا تردد فيه. وكان ذلك التولي منه لتغلب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة، وتأصل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوهم بتعاقب الأيام.
(19/227)

وقوله {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} مقول قول محذوف، أي قلنا له. والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف لأن خوفه قد حصل. والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذنب، فالمعنى: لايجبن لدي المرسلون لأني أحفظهم.
و {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه. وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ علل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى.
ومعنى {لَدَيَّ} في حضرتي، أي حين تلقي رسالتي. وحقيقة {لَدَيَّ} مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان.
وإذ قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعا لما سبقه من الوحي، وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رباطة الجأش. وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة: مثلك لا يبخل. والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه: 77].
والاستثناء في قوله {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ظاهره أنه متصل. ونسب ابن عطية هذا إلى مقاتل وابن جريج فيكون {مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب، أي إلا رسولا ظلم، أي فرط منه ظلم، أي ذنب قبل اصطفائه للرسالة، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثله في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل "قبل أن يكون الرسول متعبدا بشرع" فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم، واعتداء موسى على القبطي بالقتل دون معرفة المحقق في تلك القضية؛ فذلك الذي ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له.
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15 - 16]، فأفرغ هذا
(19/228)

التطمين لموسى في قالب العموم تعميما للفائدة.
واستقامة نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فالتقدير: إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم. وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبين بذلك كأنه يقول: لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولك {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 15 - 16]، وعزمك على الاستقامة يوم قلت {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17].
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدل حسنا بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم.
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل {ظَلَمَ} ، ليومئ إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ولذلك تعين أن يكون المقصود بـ {مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} موسى نفسه.
وقال الفراء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك: الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظلم وبدل حسنا بعد سوء من الناس يغفر له. وعليه تكون {من} صادقة على شخص ظلم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل، وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس. والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثبات نقيض حكم المستثنى أنه مغفور له فلا خلاف عليه. ويفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسنا بعد سوء يخاف عذاب الآخرة.
أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفراء والزجاج فجعل ما صدق {مَنْ ظَلَمَ} رسولا ظلم. والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعا هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفراء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضا لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صدق {مَنْ ظَلَمَ} رسولا من الرسل ظلم بما فرط منه صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم.
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله "أي حين
(19/229)

القيام بواجبات الرسالة" لا يخافون شيئا من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصمة. ولا يخافون عقابا على الذنوب لأنهم لا يقربونها، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بدل حسنا بعد سوء أمن مما يخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه. فهذه معان دل عليها الاستثناء باحتماليه، وذلك إيجاز.
وفي "تفسير ابن عطية" أن أبا جعفر قرأ {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} بفتح الهمزة "ألا" وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر.
وفعل {بَدَّلَ} يقتضي شيئين: مأخوذا، ومعطى، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، ويتعدى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عاوض كما قال تعالى {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ، أي لا تأخذوا خبيث المال وتضيعوا طيبة، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرئ القيس:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة
...
فيا لك من نعمى تبدلن أبؤسا
وكذلك قوله تعالى هنا {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} أي أخذ حسنا بسوء، فإن كلمة {بَعْدَ} تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتا ثم زال وخلفه غيره وكذلك ما يفيد معنى {بَعْدَ} كقوله تعالى {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة.
[12] {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
عطف على قوله {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وما بينهما اعتراض، بعد أن أراه آية انقلاب العصا ثعبانا أراه آية أخرى ليطمئن قلبه بالتأييد وقد مضى في طه التصريح بأنه أراه آية أخرى. والمقصود من ذلك أن يجعل له ما تطمئن له نفسه من تأييد الله تعالى إياه عند لقاء فرعون.
وقوله {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} حال من {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} أي حالة كونها آية من تسع
(19/230)

آيات، و {إِلَى فِرْعَوْنَ} صفة لآيات، أي آيات مسوقة إلى فرعون. وفي هذا إيذان بكلام محذوف إيجازا وهو أمر الله موسى بأن يذهب إلى فرعون كما بين في سورة الشعراء.
والآيات هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والقحط، وانفلاق البحر وهو أعظمها، وقد عد بعضها في سورة الأعراف. وجمعها الفيروز آبادي في بيت ذكره في مادة {تِسْعِ} من القاموس وهو:
عصا سنة جراد وقمل
يد ودم بعد الضفادع طوفان
[13، 14] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
أوجز بقية القصص وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه الآيات، ليعتبر بذلك حال الذين كذوبا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد من هذا الإيجاز طي بساط القصة لينتقل منها إلى قصة داود ثم قصة سليمان المسبوطة في هذه السورة. والمراد بمجيء الآيات حصولها واحدة بعد أخرى وهي الآيات الثمان التي قبل الغرق.
والمبصرة: الظاهرة. صيغ لها وزن اسم فاعل الإبصار على طريقة المجاز العقلي، وإنما المبصر الناظر إليها. وقد تقدم في قوله تعالى {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} في [سورة الإسراء: 59].
والجحود: الإنكار باللسان.
{وَاسْتَيْقَنَتْهَا} بمعنى أيقنت بها، فحذف حرف الجر وعدي الفعل إلى المجرور على التوسع أو على نزع الخافض، أي تحققتها عقولهم، والسين والتاء للمبالغة. والظلم في تكذيبهم الرسول لأنهم ألقصوا به ما ليس بحق فظلموه حقه.
والعلو: الكبر ويحسن أن تكون جملة {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} حالية، فقوله {ظُلْماً وَعُلُوّاً} نشر على ترتيب اللف. فالظلم في الجحد بها والعلو في كونهم موقنين بها.
وانتصب {ظُلْماً وَعُلُوّاً} على الحال من ضمير {وَجَحَدُوا} وجعل ما هو معلوم من حالهم فيما لحق بهم من العذاب بمنزلة الشيء المشاهد للسامعين فأمر بالنظر إليه بقوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . والخطاب لغير معين. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له بما حل بالمكذبين بالرسل قبله لأن في ذلك تعريضا بتهديد المشركين
(19/231)

بمثل تلك العاقبة.
و {كَيْفَ} يجوز أن يكون مجردا عن معنى الاستفهام منصوبا على المفعولية ويجوز أن يكون استفهاما معلقا فعل النظر عن العمل، والاستفهام حينئذ للتعجيب.
[15] {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} .
كما كان في قصة موسى وإرساله إلى فرعون آيات عبرة ومثل للذين جحدوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في قصة سليمان وملكة سبأ وما رأته من آياته وإيمانها به مثل لعلم النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار لفضيلة ملكة سبأ إذ لم يصدها ملكها عن الاعتراف بآيات سليمان فآمنت به، وفي ذلك مثل للذين اهتدوا من المؤمنين.
وتقديم ذكر داود ليبني عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثه من أبيه داود. ولأن في ذكر داود مثل لإفاضة الحكمة على من لم يكن متصديا لها. وما كان من أهل العلم بالكتاب أيام كان فيهم أحبار وعلماء؛ فقد كان داود راعيا غنم وأبيه "يسي" في بيت لحم فأمر الله شمويل النبي أن يجعل داود نبيا في مدة ملك طالوت "شاول". فما كان عجب في نبوة محمد الأمي بين الأميين ليعلم المشركون أن الله أعطى الحكمة والنبوءة محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعلم ذلك من قبل ولكن في قومه من يعلم ذلك كما قال تعالى {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ، فهذه القصة تتصل بقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].
فيصح أن تكون جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ} معطوفا على {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} إذ جعلنا {إِذْ} مفعولا لفعل {اذْكُرْ} محذوف.
ويصح أن تكون الواو للاستئناف فالجملة مستأنفة. ومناسبة الذكر ظاهرة. وبعد ففي كل قصة من قصص القرآن علم وعبرة وأسوة.
وافتتاح الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين به منزلة من يتردد في ذلك لأنهم جحدوا نبوءة مثل داود وسليمان إذ قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
وتنكير {عِلْماً} للتعظيم لأنه علم بنبوءة وحكمة كقوله في صاحب موسى {وَعَلَّمْنَاهُ
(19/232)

مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65].
وفي فعل {آتَيْنَاهُ} ما يؤذن بأنه علم مفاض من عند الله لأن الإيتاء أخص من {وَعَلَّمْنَاهُ} فلذلك استغني هنا عن كلمة {مِنْ لَدُنَّا} .
وحكاية قولهما {الحمد لله الذي فضلنا} كناية عن تفضيلهما بفضائل غير العلم. ألا ترى إلى قوله {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} ومنهم أهل العلم وغيرهم، وتنويه بأنهما شاكران نعمته.
ولأجل ذلك عطف قولهما هذا بالواو دون الفاء لأنه ليس حمدا لمجرد الشكر على إيتاء العلم.
والظاهر أن حكاية قوليهما وقعت بالمعنى، بأن قال كل واحد منهما: الحمد لله الذي فضلني، فلما حكي القولان جمع ضمير المتكلم. ويجوز أن يكون كل واحد شكر لله على منحه ومنح قريبه، على أنه يكثر استعمال ضمير المتكلم المشارك لا لقصد التعظيم بل لإخفاء المتكلم نفسه بقدر الإمكان تواضعا كما قال سليمان عقب هذا {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} . وجعلا تفضيلهما على كثير من المؤمنين دون جميع المؤمنين؛ أما لأنهما أرادا بالعباد المؤمنين كل من ثبت له هذا الوصف من الماضين وفيهم موسى وهارون، وكثير من الأفضل والمساوي، وإما لأنهما اقتصدا في العبارة إذ لم يحيطا بمن ناله التفضيل، وأما لأنهما أرادا بالعباد أهل عصرهما فعبرا بـ {كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ} تواضعا لله. ثم إن كان قولهما هذا جهرا وهو الظاهر كان حجة على أنه يجوز للعالم أن يذكر مرتبته في العلم لفوائد شرعية ترجع إلى أن يحذر الناس من الاغترار بمن ليست له أهلية من أهل الدعوى الكاذبة والجعجعة الجالبة، وهذا حكم يستنبط من الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا، وإن قالاه في سرهما لم يكن في هذه الحجة.
[16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} .
طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفا. وقد كان داود ملكا على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن
(19/233)

سبعين سنة.
فخلفه سليمان فهو وارث ملكه القائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم. فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} [النمل: 15]فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه.
وقد كان لداود أحد عشر ولدا فلا يختص إرث ماله بسليمان وليس هو أكبرهم، وكان داود قد أقام سليمان ملكا على إسرائيل. وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به أن يورث مال النبي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركناه صدقة" ، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء: إنا أو نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ولا يعرف بهذا اللفظ ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال: لا نورث ما تركنا صدقة، يريد رسول الله نفسه وكذلك قالت عائشة، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكما في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر. وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك، خلافا للعباس وعلي ثم رجعا حين حاجهما عمر. والعلة هي سد ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته.
{وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} .
قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة. فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم وملك، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق
(19/234)

إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو ملكها، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشرع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس، ويعلموا واجب طاعته.
وعلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وغرادتها. وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلا له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القوى الكثيرة، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك.
ووراء ذلك كله انشراح الصدر بالحكمة والمعرفة للكثير من طبائع الموجودات وخصائصها. ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها: بعضها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه ممسك أو يهاجمه كاسر، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضا فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكها وإدغامها واختلاف حركاتها على معان لا يهتدي إليها من يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها، مثل أن يسمع ضللت وظللت، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري:
أبكت تلكم الحمامة أم غنـ
...
ـت على غصن دوحها المياد
وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبد العزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى:
فمن كان مسرورا يراه تغنيا
...
ومن كان محزونا يقول ينوح
والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفورا منه، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطا بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريبا {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19]، فتدل هذه الآية على أنه علم منطق كل صنف من أصناف الحيوان. وهذا العلم
(19/235)

سماه العرب علم الحكل بضم الحاء المهملة وسكون الكاف قال الحجاج وقيل أبنه رؤبة:
لو أنني أوتيت علم الحكل
...
علم سليمان كلام النمل
أو أنني عمرت عمر الحسل
...
أو عمر نوح زمن الفطحل
كنت رهين هرم أو قتل
وعبر عن أصوات الطير بلفظ {مَنْطِقَ} تشبيها له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير، فحقيقة المنطق الصوت المشتمل على حروف تدل على معان.
وضمير {عُلِّمْنَا - و أُوتِينَا} مراد به نفسه، جاء به على صيغة المتكلم المشارك؛ إما لقصد التواضع كأن جماعة علموا وأوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفا {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} ، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال كما أجاب معاوية عمر رضي الله عنهما حين لقيه في جند "وأبهة" ببلاد الشام فقال عمر أمعاوية "أكسروية يا معاوية" ? فقال معاوية: إنا في بلاد من ثغور العدو فلا يرهبون إلا مثل هذا. فقال عمر: خدعة أريب أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك فترك الأمر لعهدة معاوية وما يتوسمه من أساليب سياسة الأقوام.
والمراد بـ {كُلِّ شَيْءٍ} كل شيء من الأشياء المهمة ففي {كُلِّ شَيْءٍ} عمومان عموم {كُلِّ} وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي، فـ {كُلِّ} مستعملة في الكثرة و {شَيْءٍ} مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد {وأوتيت من كل شيء} ، أي كثير من النفائس والأموال. وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه.
والتأكيد في {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة.
و {الْفَضْلُ} : الزيادة من الخير والنفع. و {الْمُبِينُ} : الظاهر الواضح.
[17] {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
(19/236)

وهب الله سليمان قوة من قوى النبوءة يدرك بها من أحوال الأرواح والمجردات كما يدرك منطق الطير ودلالة النمل ونحوها. ويزع تلك الموجودات بها فيوزعون تسخيرا كما سخر بعض العناصر لبعض في الكيمياء والكهربائية. وقد وهب الله هذه القوة محمد صلى الله عليه وسلم فصرف إليه نفرا من الجن يستمعون القرآن، ويخاطبونه. وإنما أمسك رسول الله عن أن يتصرف فيها ويزعها كرامة لأخيه سليمان إذ سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فلم يتصرف فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع المكنة من ذلك لأن الله محضه لما هو أهم وأعلى فنال بذلك فضلا مثل فضل سليمان، ورجح بإعراضه عن التصرف تبريرا لدعوة أخيه في النبوة لأن جانب النبوة في رسول الله أقوى من جانب الملك، كما قال للرجل الذي رعد حين مثل بين يديه "أني لست بملك ولا جبار". وقد ورد في الحديث: أنه خير بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا فاختار ان يكون نبيا عبدا ، فرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم رتبة التشريع وهي أعظم من رتبة الملك وسليمان لم يكن مشرعا لأنه ليس برسول، فوهبه الله ملكا يتصرف به في السياسة، وهذه المراتب يندرج بعضها فيما هو أعلى منه فهو ليس بملك، وهو يتصرف في الأمة تصرف الملوك تصرفا بريئا مما يقتضيه الملك من الزخرف والأبهة كما بيناه في كتاب "النقد" على كتاب الشيخ علي عبد الرازق المصري الذي سماه "الإسلام وأصول الحكم"1.
والحشر: الجمع. والمعنى: أن جنوده كانت محضرة في حضرته مسخرة لأمره حين هو.
والجنود: جمع جند، وهو الطائفة التي لها عمل متحد تسخر له. وغلب إطلاق الجند على طائفة من الناس يعدها الملك لقتال العدو ولحراسة البلاد.
وقوله {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} بيان للجنود فهي ثلاثة أصناف: صنف الجن وهو لتوجيه القوى الخفية، والتأثير في الأمور الروحية. وصنف الإنس وهو جنود تنفيذ أوامره ومحاربة العدو وحراسة المملكة، وصنف الطير وهو من تمام الجند لتوجيه الإخبار وتلقيها وتوجيه الرسائل إلى قواده وأمرائه. واقتصر على الجن والطير لغرابة كونهما من الجنود فلذلك لم يذكر الخيل وهي من الجيش.
والوزع: الكف عما لا يراد، فشمل الأمر والنهي، أي فهم يؤمرون فيأتمرون وينهون
ـــــــ
1 انظر صفحة 76 من كتاب "الإسلام وأصول الحكم" طبع مطبعة مصر سنة 1343هـ، وصفحة 13، 14 من كتاب "النقد العلمي" طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1344هـ.
(19/237)

فينتهون فقد سخر الله له الرعية كلها.
والفاء للتفريع على معنى حشر لأن الحشر إنما يراد لذلك.
وفي الآية إشارة إلى أن جمع الجنود وتدريبها من واجبات الملوك ليكون الجنود متعهدين لأحوالهم وحاجاتهم ليشعروا بما ينقصهم ويتذكروا ما قد ينسونه عند تشوش الأذهان عند القتال وعند النفير.
[18، 19] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} .
{حَتَّى} ابتدائية ومعنى الغاية لا يفارقها ولكنها مع الابتدائية غاية غير نهاية.
و {إِذَا} ظرف زمان بمعنى حين، وهو يقتضي فعلين بعده يشبهان فعلي الشرط وجوابه لأن {إِذَا} مضمنه معنى الشرط، و {إِذَا} معمول لفعل جوابه وأما فعل شرطه فهو جملة مضاف إليها {إِذَا} . والتقدير: حتى قالت نملة حين أتوا على واد النمل. وواد النمل يجوز أن يكون مرادا به الجنس لأن للنمل شقوقا ومسالك هي بالنسبة إليها كالأودية للساكنين من الناس، ويجوز أن يراد به مكان مشتهر بالنمل غلب عليه هذا المضاف كما سمي وادي السباع موضع معلوم بين البصرة ومكة. قيل: وادي النمل في جهة الطائف وقيل غير ذلك، وكله غير ظاهر من سياق الآية.
و {النَّمْلِ} : اسم جنس لحشرات صغيرة ذات ستة أرجل تسكن في شقوق من الأرض. وهي أصناف متفاوتة في الحجم، والواحد منه نملة بتاء الوحدة، فكلمة نملة لا تدل إلا على فرد واحد من هذا النوع دون دلالة على تذكير ولا تأنيث فقوله: {نَمْلَةٌ} مفاده: قال واحد من هذا النوع.
واقتران فعله بتاء التأنيث جرى على مراعاة صورة لفظه لشبه هائه بهاء التأنيث وإنما هي علامة الوحدة والعرب لا يقولون: مشى شاة، إذا كان الماشي فحلا من الغنم وإنما يقولون: مشت شاة، وطارت حمامة، فلو كان ذلك الفرد ذكرا وكان مما يفرق بين ذكره وأنثاه في أغراض الناس وأرادوا بيان كونه ذكرا قالوا: طارت حمامة ذكر
(19/238)

ولا يقولون طار حمامة، لأن ذلك لا يفيد التفرقة. ألا ترى أنه لا يصلح أن يكون علامة على كون الفاعل أنثى، ألا ترى إلى قول النابغة:
ما ارزئنا من حية ذكر
...
نضناضة بالرزايا صل أصلال
فجاء باسم "حية" وهو اسم للجنس مقترن بهاء التأنيث ثم وصفه بوصف ذكر ثم أجرى عليه التأنيث في قوله: نضناضة، لأنه صفة لـ"حية".
وفي حديث ابن عباس عن صلاة العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقبلت راكبا على حمار أتان" فوصف "حمار" الذي هو اسم جنس باسم خاص بأنثاه. ولذلك فاقترن فعل {قَالَتِ} هنا بعلامة التأنيث لمراعاة اللفظ فقط، على أنه لا يتعلق غرض بالتمييز بين أنثى النمل وذكره بله أن يتعلق به غرض القرآن لأن القصد وقوع هذا الحادث وبيان علم سليمان لا فيما دون ذلك من السفاسف.
وذكر في الكشاف: أن قتادة دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضرا وهو غلام حدث فقال لهم أبو حنيفة: سلوه عن نملة سليمان: أكانت ذكرا أم أنثى ? فسألوه، فأفحم. فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: من أين عرفت ? قال: من كتاب الله وهو قوله تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كان ذكرا لقال: قال نملة. قال في "الكشاف": وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وقولهم: وهو وهي. اه.
ولعل مراد صاحب "الكشاف" إن كان قصد تأييد قولة أبي حنيفة أن يقاس على الوصف بالتذكير مما يقوم مقامه في الدلالة على التفرقة بين الذكر والأنثى فتقاس حالة الفعل على حالة الوصف إلا أن الزمخشري جاء بكلام غير صريح لا يدري أهو تأييد لأبي حنيفة أم خروج من المضيق. فلم يتقدم على التصريح بأن الفعل يقترن بتاء التأنيث إذا أريد التفرقة في حالة فاعله. وقد رد عليه ابن المنير في "الانتصاف" وابن الحاجب في إيضاح المفصل والقزويني في "الكشف على الكشاف". ورأوا أن أبا حنيفة ذهل فيما قاله بأنه لا يساعد قول أحد من أئمة اللغة ولا يشهد به استعمال ولا سيما نحاة الكوفة بلده فإنهم زادوا فجوزوا تأنيث الفعل إذا كان فعله علما مؤنث اللفظ مثل: طلحة وحمزة. واعلم أن إمامة أبي حنيفة في الدين والشريعة لا تنافي أن تكون مقالته في العربية غير ضليعة. وأعجب من ذهول أبي حنيفة انفحام قتادة من مثل ذلك الكلام. وغالب ظني أن
(19/239)

القصة مختلقة اختلاقا غير متقن.
ويجوز أن يخلق الله لها دلالة وللنمل الذي معها فهما لها وأن يخلق فيها إلهاما بأن الجيش جيش سليمان على سبيل المعجزة له.
والحطم: حقيقته الكسر لشيء صلب. واستعير هنا للرفس بجامع الإهلاك.
و {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} إن جعلت {لا} فيه ناهية كانت الجملة مستأنفة تكريرا للتحذير ودلالة على الفزع لأن المحذر من شيء مفزع يأتي بجمل متعددة للتحذير من فرط المخافة والنهي عن حطم سليمان إياهن كناية عن نهيهن عن التسبب فيه وإهمال الحذر منه كما يقال: لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعله فأعرفك بفعله، والنون توكيد للنهي؛ وإن جعلت {لا} نافية كانت الجملة واقعة في جواب الأمر فكان لها حكم جواب شرط مقدر. فالتقدير: إن تدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان، أي ينتف حطم سليمان إياكن، وإلا حطمكم. وهذا مما جوزه في الكشاف. وفي هذا الوجه كون الفعل مؤكدا بالنون وهو منفي بـ {لا} وذلك جائز على رأي المحققين إلا أنه قليل. وأما من منعه من النحاة فيمنع أن تجعل {لا} نافية هنا. وصاحب "الكشاف" جعله من اقتران جواب الشرط بنون التوكيد لأن جواب الأمر في الحكم جواب الشرط وهو عنده أخف من دخولها في الفعل المنفي بناء على أن النفي يضاد التوكيد.
وتسمية سليمان في حكاية كلام النملة يجوز أن تكون حكاية بالمعنى وإنما دلت دلالة النملة على الحذر من حطم ذلك المحاذي لواديها فلما حكيت دلالتها حكيت بالمعنى لا باللفظ، ويجوز أن يكون قد خلق الله علما في النملة علمت به أن المار بها يدعى سليمان على سبيل المعجزة وخرق العادة.
وتبسم سليمان من قولها تبسم تعجب. والتبسم أضعف حالات الضحك فقوله {ضَاحِكاً} حال مؤكدة لـ {تَبَسَّمَ} وضحك الأنبياء التبسم كما ورد في صفة ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما يقرب من التبسم مثل بدو النواجذ كما ورد في بعض صفات ضحكه. وأما القهقهة فلا تكون للأنبياء وفي الحديث "كثرة الضحك تميت القلب" . وإنما تعجب من أنها عرفت اسمه وأنها قالت {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فوسمته وجنده بالصلاح والرأفة وأنهم لا يقتلون ما فيه روح لغير مصلحة، وهذا تنويه برأفته وعدله الشامل بكل مخلوق لا فساد منه أجراه الله على نملة ليعلم شرف العدل ولا يحتقر مواضعه وأن ولي الأمر إذ عدل سرى عدله في سائر الأشياء وظهرت آثاره فيها حتى كأنه معلوم عند ما لا إدراك له،
(19/240)

فتيسير أمور جميع الأمة على عدل. ويضرب الله الأمثال للناس، فضرب هذا المثل لنبيه سليمان بالوحي من دلالة نملة، وذلك سر بينه وبين ربه جعله تنبيها له وداعية لشكر ربه فقال {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} .
وأوزع: مزيد "وزع" الذي هو بمعنى كف كما تقدم آنفا، والهمزة للإزالة، أي أزال الوزع، أي الكف. والمراد أنه لم يترك غيره كافا عن عمل وأرادوا بذلك الكناية عن ضد معناه، أي كناية عن الحث على العمل. وشاع هذا الإطلاق فصار معنى أوزع أغرى بالعمل. فالمعنى: وفقني للشكر. ولذلك كان حقه أن يتعدى بالباء.
فمعنى قوله {أَوْزِعْنِي} ألهمني وأغرني. و {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} منصوب بنزع الخافض وهو الباء. والمعنى: اجعلني ملازما شكر نعمتك. وإنما سأل الله الدوام على شكر النعمة لما في الشكر من الثواب ومن ازدياد النعم فقد ورد: النعمة وحشية قيدوها بالشكر فإنها إذا شكرت قرت. وإذا كفرت فرت1. ومن كلام الشيخ ابن عطاء الله: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها. وفي الكشاف عند قوله {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12] وفي كلام بعض المتقدمين "أن كفران النعم بوار، وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار، واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا"2.
وأدرج سليمان ذكر والديه عند ذكر إنعام الله تعالى عليه لأن صلاح الولد نعمة على الوالدين بما يدخل عليهما من مسرة في الدنيا وما ينالهما من دعائه وصدقاته عنهما من الثواب.
ووالداه هما أبوه داود بن يسي وأمه "بثشبع" بنت "اليعام" وهي التي كانت زوجة "أوريا" الحثي فاصطفاه داود لنفسه3، وهي التي جاءت فيها قصة نبأ الخصم المذكور في سورة ص.
ـــــــ
1 ذكره الطيبي في حاشية "الكشاف" ولم أقف عليه.
2 لم يذكر شراح "الكشاف" اسم هذا المتقدم المعزو إليه الكلام وأقشعت: تفرقت. والراهن: الدائم. ورجعت في نصابها أي في أصلها وقرارها. والوفار الحلم، أي مالكم لا تظنون أن تأثير العذاب حلم من الله عليكم يوشك أن يزول.
3 الإصحاح 11 والإصحاح 12، من سفر صمويل الثاني، والإصحاح 2 من سفر الملوك الأول.
(19/241)

{وَأَنْ أَعْمَلَ} عطف على {أَنْ أَشْكُرَ} . والإدخال في العباد الصالحين مستعار لجعله واحدا منهم، فشبه لإلحاقه بهم في الصلاح بإدخاله عليهم في زمرتهم وسؤاله ذلك مراد به الاستمرار والزيادة من رفع الدرجات لأن لعباد الله الصالحين مراتب كثيرة.
[20، 21] {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
صيغة التفعل تدل على التكلف، والتكلف: الطلب. واشتقاق {تَفَقَّد} من الفقد يقتضي أن {تَفَقَّد} بمعنى طلب الفقد. ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء، فالتفقد: البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيرا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل، ومنه الهدهد أيضا لمعرفة الماء، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفذ الزاد. وللطير جنود يقومون بشؤونها. وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها. والمعنى: تفقد الطير في جملة ما تفقده فقال لمن يلون أمر الطير: ما لي لا أرى الهدهد.
ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية، أو بمن يكل إليه ذلك فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال.
والهدهد: نوع من الطير وهو ما يقرقر وفي رائحته نتن وفوق رأسه قزعة سوداء، وهو أسود البراثن، أصفر الأجفان، يقتات الحبوب والدود، يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان. قال الجاحظ: يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها.
وقوله {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد، ف {مَا} استفهام. واللام من قوله {لِيَ} للاختصاص. والمجرور باللام خبر عن {مَا} الاستفهامية. والتقدير: ما الأمر الذي كان لي.
وجملة {لا أَرَى الْهُدْهُدَ} في موضع الحال من ياء المتكلم المجرور باللام،
(19/242)

فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال، أي عن المانع لرؤية الهدهد. والكلام موجه إلى خفرائه. يعني: أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد ? فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد.
و {أَمْ} منقطعة لأنها تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين. و {أَمْ} لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر. والتقدير: بل أكان من الغائبين? وليست {أَمْ} المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام.
وصاحب المفتاح مثل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض. ولما كان قول سليمان هذا صادرا بعد تقصيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه أو إعداما له لئلا يلقن بالفساد غيره فيدخل الفساد في الجند ويكون عقابه نكالا لغيره. فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود. ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عين له من عمل أو تغيب عنه.
وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله. قال القرافي في "تنقيح الفصول" في آخر فصوله: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر الموذي هل يجوز? فكتب وأنا حاضر: إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه. قال القرافي: فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله. قال القرافي: وقال أبو حنيفة إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" اهـ. وقال الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة: ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها. فقول سليمان {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} شريعة منسوخة.
أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش.
(19/243)

و {أَوْ} تفيد أحد الأشياء فقوله {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول.
والسلطان: الحجة. والمبين: المظهر للحق المحتج بها. وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه.
وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين {لَأُعَذِّبَنَّهُ} {لَأَذْبَحَنَّهُ} باللام المؤكدة التي تسمى لام القسم وبنون التوكيد ليعلم الجند ذلك حتى إذا فقد الهدهد ولم يرجع يكون ذلك التأكيد زاجرا لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فعلته فينالهم العقاب.
وأما تأكيد جملة {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} فلإفادة تحقيق أنه لا منجى له من العقاب إلا أن يأتي بحجة تبرر تغيبه لأن سياق تلك الجملة يفيد أن مضمونها عديل العقوبة. فلما كان العقاب مؤكدا محققا فقد اقتضى تأكيد المخرج منه لئلا يبرئه منه إلا تحقق الإتيان بحجة ظاهرة لئلا تتوهم هوادة في الإدلاء بالحجة فكان تأكيد العديل كتأكيد معادله. وبهذا يظهر أن {أَوْ} الأولى للتخيير و {أَوْ} الثانية للتقسيم. وقيل جيء بتوكيد جملة {لَيَأْتِيَنِّي} مشاكلة للجملتين اللتين قبلها وتغليبا. واختاره بعض المحققين وليس من التحقيق.
وكتب في المصاحف {لَأَذْبَحَنَّهُ} بلام ألف بعدها ألف حتى يخال أنه نفي الذبح وليس بنفي لأن وقوع نون التوكيد بعده يؤذن بأنه إثبات إذ لا يؤكد المنفي بنون التأكيد إلا نادرا في كلامهم، ولأن سياق الكلام والمعنى حارس من تطرق احتمال النفي، ولن اعتماد المسلمين في ألفاظ القرآن على الحفظ لا على الكتابة فإن المصاحف ما كتبت حتى قرئ القرآن نيفا وعشرين سنة. وقد تقع في رسم المصحف أشياء مخالفة لما اصطلح عليه الراسمون من بعد لأن الرسم لم يكن على تمام الضبط في صدر الإسلام وكان اعتماد العرب على حوافظهم.
وقرأ ابن كثير {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} بنونين الأولى مشددة وهي نون التوكيد والثانية نون الوقاية. وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة بحذف نون الوقاية لتلاقي النونات.
[22 - 26] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا
(19/244)

يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
الفاء لتفريع الحكاية عطفت جملة على جملة وضمير {مَكَثَ} للهدهد.
والمكث: البقاء في المكان وملازمته زمنا ما وفعله من باب كرم ونصر. وقرأه الجمهور بالأول. وقرأه عاصم وروح عن يعقوب بالثاني.
وأطلق المكث هنا على البطء لأن الهدهد لم يكن ماكثا بمكان ولكنه كان يطير وينتقل، فإطلاق المكث على البطء مجاز مرسل لأن المكث يستلزم زمنا.
و {غَيْرَ بَعِيدٍ} صفة لاسم زمن أو اسم مكان محذوف منصوب على الظرفية، أي مكث زمنا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد. وكلا المعنيين يقتضي أنه رجع إلى سليمان بعد زمن قليل.
و {غير بعيد} قريب قربا يوصف بضد البعد، أي يوشك أن يكون بعيدا. وهذا وجه إيثار التعبير بـ {غَيْرَ بَعِيدٍ} لأن {غَيْرَ} تفيد دفع توهم أن يكون بعيدا وإنما يتوهم ذلك إذا كان القرب يشبه البعد.
والبعد والقرب حقيقتهما من أوصاف المكان ويستعاران لقلة الحصة بتشبيه الزمن القصير بالمكان القريب وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة قال تعالى {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.
والفاء في {فَقَالَ} عاطفة على "مكُث". وجعل القول عقيب المكث لأنه لما حضر صدر القول من جهته فالتعقيب حقيقي.
والقول المسند إلى الهدهد إن حمل على حقيقة القول وهو الكلام الذي من شأنه أن ينطق به الناس فقول الهدهد هذا ليس من دلالة منطق الطير الذي علمه سليمان لأن ذلك هو المنطق الدال على ما في نفوس الطير من المدركات وهي محدودة كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16]. وليس للهدهد قبل بإدراك ما اشتمل عليه
(19/245)

القول المنسوب إليه ولا باستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقه الذي علم سليمان دلالته كما قدمناه. فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد.
وأما قول سليمان {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] فيجوز أن يكون سليمان خشي أن يكون ذلك الكلام الذي سمعه من تلقاء الهدهد كلاما ألقاه الشيطان من جانب الهدهد ليضلل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ليسخر به كما يسخر المتثائب، فعزم سليمان على استثبات الخبر بالبحث الذي لا يترك ريبة في صحته خزيا للشيطان.
ولنشتغل الآن بما اشتمل عليه هذا الكلام فابتداؤه بـ {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} تنبيه لسليمان بأن في مخلوقات الله ممالك وملوكا تداني ملكه أو تفوقه في بعض أحوال الملك جعله الله مثلا له، كما جعل علم الخضر مثلا لموسى عليه السلام لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو. وفيه استدعاء لإقباله على ما سيلقى إليه بشراشره لأهمية هذا المطلع في الكلام، فإن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يعنى به ملوك الصلاح ليكونوا على استعداد بما يفاجئهم من تلقائها، ولتكون من دواعي الازدياد من العمل النافع للمملكة بالاقتداء بالنافع من أحوال غيرها والانقباض عما في أحوال المملكة من الخلل بمشاهدة آثار مثله في غيرها.
ومن فقرات الوزير ابن الخطيب الأندلسي: فأخبار الأقطار مما تنفق فيه الملوك أسمارها، وترقم ببديع هالاته أقمارها، وتستفيد منه حسن السير، والأمن من الغير، فتستعين على الدهر بالتجارب. وتستدل بالشاهد على الغائب اه.
والإحاطة: الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط، وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات كقوله تعالى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] فما صدق {مَا لَمْ تُحِطْ} معلومات لم يحط بها علم سليمان.
و {سَبَأٍ} : بهمزة في آخره وقد يخفف اسم رجل هو عبشمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. لقب بسبأ. قالوا: لأنه أول من سبى في غزوه. وكان الهمز فيه لتغييره العلمية عن المصدر. وهو جد جذم عظيم من أجذام العرب. وذريته كانوا باليمن ثم
(19/246)

تفرقوا كما سيأتي في سورة سبإ. وأطلق هذا الاسم هنا على ديارهم لأن {مِنْ} ابتدائية وهي لابتداء الأمكنة غالبا.
فاسم {سَبَأٍ} غلب على القبيلة المتناسلة من سبأ المذكور وهم من الجذم القحطاني المعروف بالعرب المستعربة أي الذين لم ينشأوا في بلاد العرب ولكنهم نزحوا من العراق إلى بلاد العرب، وأول نازح منهم هو يعرب بفتح التحتية وضم الراء بن قحطان وبالعبرانية يقطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد وبالعبرانية أرفكشاد بن سام بن نوح. وهذا النسب يتفق مع ما في سفر التكوين من سام إلى عابر فمن عابر يفترق نسب القحطانيين من نسب العبرانيين، فأما أهل أنساب العرب فيجعلون لعابر ابنين أحدهما اسمه قحطان والآخر اسمه فالغ. وأما سفر التكوين فيجعل أن أحدهما اسمه يقطن ولا شك أنه المسمى عند العرب قحطان، والآخر اسمه فالج بفاء في أوله وجيم في آخره فوقع تغيير في بعض حروف الاسمين لاختلاف اللغتين.
ولما انتقل يعرب سكن جنوب البلاد العربية "اليمن" فاستقر بموضع بنى فيه مدينة ظفار "بفتح الظاء المشالة المعجمة وكسر الراء" فهي أول مدينة في بلاد اليمن وانتشر أبناؤه في بلاد الجنوب الذي على البحر وهو بلاد "حضرموت" ثم بنى ابنه يشجب "بفتح التحتية وضم الجيم" مدينة صنعاء وسمى البلاد باليمن، ثم خلفه ابنه عبشمس "بتشديد الموحدة ومعناه ضوء الشمس" وساد قومه ولقب سبأ "بفتحتين وهمزة في آخره" واستقل بأهله فبنى مدينة مأرب حاضرة سبأ قال النابغة الجعدي:
من سبا الحاضرين مأرب إذ
...
يبنون من دون سيله العرما
وبين مأرب وصنعاء مسيرة ثلاث مراحل خفيفة.
ثم جاء بعد سبأ ابنه حمير ويلقب العرنجح "أي العتيق"، ويظهر أنه جعل بلاده ظفار بعد أن انتقل أبناء يشجب منها إلى صنعاء. وفي المثل: من ظفر حمر، أي من دخل ظفار فليتكلم بالحميرية، ولهذا المثل قصة.
فكانت البلاد اليمنية أو القحطانية منقسمة إلى ثلاث قبائل: اليمنية، والسبئية، والحميرية. وكان على كل قبيلة ملك منها، واستقلت أفخاذهم بمواقع أطلقوا على الواحد منها اسم مخلاف "بكسر الميم" وكان لكل مخلاف رئيس يلقب بالقيل ويقال له: ذو كذا، بالإضافة إلى اسم مخلافه، مثل ذو رعين. والملك الذي تتبعه الأقيال كلها ويحكم اليمن
(19/247)

كلها يلقب تبع لأنه متبوع بأمراء كثيرين.
وقد انفردت سبأ بالملك في حدود القرن السابع عشر قبل الهجرة وكان أشهر ملوكهم أو أولهم الهدهاد بن شرحبيل ويلقب اليشرح "بفتح التحتية وفتح الشين المعجمة وفتح الراء مشددة وبحاء مهملة في آخره". ثم وليت بعده بلقيس ابنة شرحبيل أيضا أو شراحيل ولم تكن ذات زوج فيما يظهر من سياق القرآن. وقيل كانت متزوجة شدد بن زرعة فإن صح ذلك فلعله لم تطل مدته فمات. وكان أهل سبأ صابئة يعبدون الشمس. وبقية ذكر حضارتهم تأتي في تفسير سورة سبأ.
و {أَحَطْتُ} يقرأ بطاء مشددة لأنه التقاء طاء الكلمة وتاء المتكلم فقلبت هذه التاء طاء وأدغمتا.
والباء في قوله {بِنَبَأٍ} للمصاحبة لأن النبأ كان مصاحبا للهدهد حين مجيئه والنبأ: الخبر المهم.
وبين بـ {سَبَأٍ} و {بِنَبَأٍ} الجناس المزدوج. وفيه أيضا جناس الخط وهو أن تكون صورة الكلمتين واحدة في الخط وإنما تختلفان في النطق. ومنه قوله تعالى {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 - 80].
ووصفه بـ {يَقِينٍ} تحقيق لكون ما سيلقى إليه شيء محفف لا شبهة فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.
وجملة {إني وجدت امرأة} بيان لـ {نَبَأَ} فلذلك لم تعطف. وإدخال {إِنَّ} في صدر هذه الجملة لأهمية الخبر إذ لم يكن معهودا في بني إسرائيل أن تكون المرأة ملكا.
وفعل {تَمْلِكُهُمْ} هنا مشتق من الملك بضم الميم وفعله كفعل ملك الأشياء. وروي حديث هرقل "هل كان في آبائه من ملك" بفتح اللام، أي كان ملكا، ويفرق بين الفعلين بالمصدر فمصدر هذا ملك بضم الميم، والآخرة بكسرها، وضمير الجمع راجع إلى سبأ.
وهذه المرأة أريد بها بلقيس "بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القاف" ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سبأ وتعيين اسمها اسم أبيها اضطراب للمؤرخين. والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة. ويقال: هي التي بنت سد مأرب. وكانت حاضرة ملكها مأرب مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة مراحل وسيأتي ذكرها في سورة سبأ.
(19/248)

وتنكير {امْرَأَةً} وهو مفعول أول لـ {وَجَدْتُ} له حكم المبتدأ فهو كالابتداء بالنكرة إذ أريد بالنكرة التعجب من جنسها كقولهم: بقرة تكلمت لأن المراد حكاية أمر عجيب عندهم أن تكون امرأة ملكة على قوم. ولذلك لم يقل: وجدتهم تملكهم امرأة.
والإيتاء: الإعطاء، وهو مشعر بأن المعطى مرغوب فيه وهو مستعمل في لازمه وهو النول.
ومعنى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} نالت من كل شيء حسن من شؤون الملك. فعموم كل شيء عموم عرفي من جهتين يفسره المقام كما فسر قول سليمان {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي أوتيت من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن.
وبناء فعل {أُوتِيَتْ} إلى المجهول إذ لا يتعلق الغرض بتعيين أسباب ما نالته بل المقصود ما نالته على أن الوسائل والأسباب شتى فمنه ما كان إرثا من الملوك الذي سلفوها، ومنه ما كان كسبا من كسبها واقتنائها، ومنه ما وهبها الله من عقل وحكمة، وما منح بلادها من خصب ووفرة مياه. وقد كان اليونان يلقبون مملكة اليمن بالعربية السعيدة أخذا من معنى اليمن في العربية وقال تعالى {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]. وأما رجاحة العقول ففي الحديث "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة، اظفيمان يمان، والحكمة يمانية" فليس المراد خصوص ما آتاها الله في أصل خلقتها وخلقة أمتها وبلادها، ولذا فلم يتعين الفاعل عرفا. وكل من عند الله.
وخص من نفائس الأشياء عرشها إذ كان عرشا بديعا ولم يكن لسليمان عرش مثله. وقد جاء في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول ما يقتضي أن سليمان صنع كرسية البديع بعد أن زارته ملكة سبأ. وسنشير إليه عند قوله تعالى {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38].
والعظيم: مستعمل في عظمة القدر والنفاسة في ضخامة الهيكل والذات. وأعقب التنويه بشأنها بالحط من حال اعتقادهم إذ هم يسجدون، أي يعبدون الشمس. ولأجل الاهتمام بهذا الخبر أعيد فعل وجدتها إنكارا لكونهم يسجدون للشمس. فذلك من انحطاط العقلية الاعتقادية فكان انحطاطهم في الجانب الغيبي من التفكير وهو ما يظهر فيه تفاوت عوض العقول على الحقائق لأنه جانب متحمض لعمل الفكر لا يستعان فيه بالأدلة
(19/249)

المحسوسة، فلا جرم أن تضل فيه عقول كثير من أهل العقول الصحيحة في الشؤون الخاضعة للحواس. قال تعالى في المشركين {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وكان عرب اليمن أيامئذ من عبدة الشمس ثم دخلت فيهم الديانة اليهودية في زمن تبع أسعد من ملوك حمير، ولكونهم عبدة شمس كانوا يسمون عبد شمس كما تقدم في اسم سبأ.
وقد جمع هذا القول الذي ألقي إلى سليمان أصول الجغرافية السياسية من المكان والأديان وصبغة الدولة وثروتها، ووقع الاهتمام بأخبار مملكة سبأ لأن ذلك أهم لملك سليمان إذ كانت مجاورة لمملكته يفصل بينهما البحر الأحمر، فأمور هذه المملكة أجدى بعمله.
وقرأ الجمهور {مِنْ سَبَأٍ} بالصرف. وقرأه أبو عمرو عمرو والبزي عن ابن كثير بفتحة غير مصروف على تأويل البلاد أو القبيلة. وقرأه قنبل عن ابن كثير بسكون الهمزة على اعتبار الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
يجوز أن يكون هذا من جملة الكلام الذي ألقي على لسان الهدهد، فالواو للعطف. والأظهر أنه كلام آخر من القرآن ذيل به الكلام الملقى إلى سليمان، فالواو للاعتراض بين الكلام الملقى لسليمان وبين جواب سليمان، والمقصود التعريض بالمشركين.
وقوله {أَلَّا يَسْجُدُوا} قرأه الجمهور بتشديد اللام على أنه مركب في الخط من "أن" و"لا" النافية كتبتا كلمة واحدة اعتبارا بحالة النطق بها على كل المعاني المرادة منها. و {يَسْجُدُوا} فعل مضارع منصوب. ويقدر لام جر يتعلق بـ {صَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي صدهم لأجل أن لا يسجدوا لله، أي فسجدوا للشمس.
ويجوز أن يكون المصدر المسبوك من {أَلَّا يَسْجُدُوا} بدل بعض من {أَعْمَالَهُمْ} وما بينهما اعتراض.
(19/250)

وجوز أن يكون {أَلَّا} كلمة واحدة بمعنى "هلا" فإن هاءها تبدل همزة. وجعل {يَسْجُدُوا} مركبا من ياء النداء المستعملة تأكيدا للتنبيه وفعل أمر من السجود كقول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
وهو لا يلائم رسم المصحف إلا أن يقال إنه رسم كذلك على خلاف القياس. وقرأ الكسائي بتخفيف اللام على أنها {أَلَّا} حرف الاستفتاح ويتعين أن يكون {يَسْجُدُوا} مركبا من ياء النداء وفعل الأمر، كما تقدم وفيه ما تقدم. والوقف في هذه على {أَلَّا} .
وتزيين الأعمال تقدم في أول السورة عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} . وإسناده هنا للشيطان حقيقي. و {السَّبِيلِ} مستعار للدين الذي باتباعه تكون النجاة من العذاب وبلوغ دار الثواب.
والخبء: مصدر خبأ الشيء إذا أخفاه. أطلق هنا على اسم المفعول، أي المخبوء على طريقة المبالغة في الخفاء كما هو شأن الوصف بالمصدر. ومناسبة وقوع الصفة بالموصول في قوله {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} لحالة خبر الهدهد ظاهرة لأن فيها اطلاعا على أمر خفي. وإخراج الخبء: إبرازه للناس، أي إعطاؤه، أي إعطاء ما هو غير معلوم لهم من المطر وإخراج النبات وإعطاء الأرزاق، وهذا مؤذن بصفة القدرة. وقوله {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} مؤذن بعموم صفة العلم.
وقرأ الجمهور {يخفون .. ويعلنون} بياء الغيبة. وقرأه الكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب فهو التفات.
ومجيء جملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} عقب ذلك استئناف هو بمنزلة النتيجة للصفات التي أجريت على اسم الجلالة وهو المقصود من هذا التذييل، أي ليس لغير الله شبهة إلهية.
وقوله {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي مالك الفلك الأعظم المحيط بالعوالم العليا وقد تقدم. وفي هذا تعريض بأن عظمة ملك بلقيس وعظم عرشها ما كان حقيقا بأن يغرها بالإعراض عن عبادة الله تعالى لأن الله هو رب الملك الأعظم، فتعريف {الْعَرْشِ} للدلالة على معنى الكمال. ووصفه بـ {الْعَظِيمِ} للدلالة على كمال العظم في تجسم النفاسة.
وفي منتهى هذه الآية موضع سجود تلاوة تحقيقا للعمل بمقتضى قوله {أَلَّا يَسْجُدُوا
(19/251)

لِلَّهِ} . وسواء قرىء بتشديد اللام من قوله {أَلَّا يَسْجُدُوا} أم بتخفيفها لأن مآل المعنى على القراءتين واحد وهو إنكار سجودهم لغير الله لأن الله هو الحقيق بالسجود.
[27] {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
تقدم عند قوله {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} بيان وجه تطلب سليمان تحقيق صدق خبر الهدهد. والنظر هنا نظر العقل وهو التأمل، ولا سيما وإقحام {كُنْتَ} أدخل في نسبته إلى الكذب من صيغة {أَصَدَقْتَ} لأن فعل {كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} يفيد الرسوخ في الوصف بأنه كائن عليه. وجملة {مِنَ الْكَاذِبِينَ} أشد في النسبة إلى الكذب بالانخراط في سلك الكاذبين بأن يكون الكذب عاده له. وفي ذلك إيذان بتوضيح تهمته بالكذب ليتخلص من العقاب، وإيذان بالتوبيخ والتهديد وإدخال الروع عليه بأن كذبه أرجح عند الملك ليكون الهدهد مغلبا الخوف على الرجاء، وذلك أدخل في التأديب على مثل فعلته وفي حرصه على تصديق نفسه بأن يبلغ الكتاب الذي يرسله معه.
[28] {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} .
الجملة مبينة لجملة {سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} لأن فيما سينكشف بعد توجيه كتابه إلى ملكة سبأ ما يصدق خبر الهدهد إن جاء من الملكة جواب عن كتابه، أو يكذب خبر الهدهد إن لم يجيء منها جواب. ألهم الله سليمان بحكمته أن يجعل لاتصاله ببلاد اليمن طريق المراسلة لإدخال المملكة في حيز نفوذه والانتفاع باجتلاب خيراتها وجعلها طريق تجارة مع شرق مملكته فكتب إلى ملكة سبا كتابا لتأتي إليه وتدخل تحت طاعته وتصلح ديانة قومها، وليعلم أن الله ألقى في نفوس الملوك المعاصرين له رهبة من ملكه وجلبا لمرضاته لأن الله أيده وأن كانت مملكته أصغر من ممالك جيرانه مثل مملكة اليمن ومملكة مصر. وكانت مملكة سليمان يومئذ محدودة بالأردن وتخوم مصر وبحر الروم1. ولم يزل تبادل الرسائل بين الملوك من سنة الدول ومن سنة الدعاة إلى الخير. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. وقد عظم شأن الكتابة في دول الإسلام قال الحريري في "المقامة الثانية والعشرين "والمنشئ جهنية الأخبار، وحقيبة الأسرار، وقلمه لسان الدول، وفارس الجولة..." الخ.
ـــــــ
1 انظر الإصحاح 4 من سفر الملوك الأولى.
(19/252)

واتخذ للمراسلة وسيلة الطير الزاجل من حمام ونحوه، فالهدهد من فصيلة الحمام وهو قابل للتدجين، فقوله {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا} يقتضي كلاما محذوفا وهو أن سليمان فكر في الاتصال بين مملكته وبين مملكة سبأ فأحضر كتابا وحمله الهدهد.
وتقدم القول على {مَاذَا} عند قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ} في [سورة النحل: 24]. وفعل {انْظُرْ} معلق عن العمل بالاستفهام.
والإلقاء: الرمي إلى الأرض. وتقدم في قوله تعالى {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} في [سورة يوسف: 10] وهو هنا مستعمل إما في حقيقته إن كان شأن الهدهد أن يصل إلى المكان فيرمي الكتاب من منقاره، وإما في مجازه إن كان يدخل المكان المرسل إليه فيتناول أصحابه الرسالة من رجله التي تربط فيها الرسالة فيكون الإلقاء مثل قوله {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في [سورة النحل: 86].
والمراد بالرجع: رجع الجواب عن الكتاب، أي من قبول أو رفض. وهذا كقوله الآتي {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} .
[29 - 31] {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
طويت أخبار كثير دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث، إذ التقدير: فذهب الهدهد إلى سبا فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته قالت يا أيها الملأ الخ.
وجملة {قَالَتِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالا عن شأنها حين بلغها الكتاب.
و {الْمَلأِ} الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها. وظاهر قولها {أُلْقِيَ إِلَيَّ} أن الكتاب سلم إليها دون حضور أهل مجلسها. وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأسا. والإلقاء تقدم آنفا.
ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في [سورة الأنفال: 74]؛ بأن كل نفيس الصحيفة نفيس التخطيط
(19/253)

بهيج الشكل مستوفيا كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه. ومن ذلك أن يكون مختوما، وقد قيل كرم الكتاب ختمه ليكون ما في ضمنه خاصا باطلاع من أرسل إليه وهو يطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء. قال ابن العربي "الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير، والأثير، والمبرور، فإن كان لملك قالوا: العزيز، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة".
وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محمودا عندها لأنها قالت {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34].
ثم قصت عليهم الكتاب حين قالت {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} إلى آخره. فيحتمل أن يكون قد ترجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشورتها، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوبا بالعربية القحطانية فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك، وقد كتب النبيء صلى الله عليه وسلم للملوك باللغة العربية.
أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشىء بها.
وقوله {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطبة أهل مشورتها لإيقاظ أفهاهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدم في كتابه شيئا قبل اسم الله تعالى، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضا.
والتأكيد بـ {إِنَّ} في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتماما يؤدي مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه.
وتكرير حرف {إِنَّ} بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذات الكتابة والمراد بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه، كما تقول: إن فلانا لحسن الطلعة وإنه لزكي. وهذا من خصوصيات إعادة العامل بعد حرف العطف مع إغناء حرف العطف عن ذكر العامل، ونظيره قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(19/254)

أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، أعيد {أَطِيعُوا} لاختلاف معنى الطاعتين لأن طاعة الله تنصرف إلى الأعمال الدينية وطاعة الرسول مراد بها طاعته في التصرفات الدنيوية ولذلك عطف على الرسول أولو الأمر من الأمة.
وقوله {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} حكاية لمقالها، وعرفت هي ذلك من عنوان الكتاب بأعلاه أو بظاهره على حسب طريقة الرسائل السلطانية في ذلك العهد في بني إسرائيل، مثل افتتاح كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك بجملة "من محمد رسول الله".
وافتتاح الكتاب بجملة البسملة يدل على أن مرادفها كان خاصا بكتب النبي سليمان أن يتبع اسم الجلالة بوصفي: الرحمان الرحيم، فصار ذلك سنة لافتتاح الأمور ذوات البال في الإسلام ادخره الله للمسلمين من بقايا سنة الأنبياء بعد أن تنوسي ذلك فإنه لم يعرف أن بني إسرائيل افتتحوا كتبهم باسم الله الرحمن الرحيم.
روى أبو داود في كتاب "المراسيل": أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب "باسمك اللهم" كما كانت قريش تكتب، فلما نزلت هذه الآية صار يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" ، أي صار يكتب البسملة في أول كتبه. وأما جعلها فصلا بين السور أو أية من كل سورة فمسألة أخرى.
وكان كتاب سليمان وجيزا لأن ذلك أنسب بمخاطبة من لا يحسن لغة المخاطب فيقتصر له على المقصود لإمكان ترجمته وحصول فهمه فأحاط كتابه بالمقصود، وهو تحذير ملكة سبأ من أن تحاول الترفع على الخضوع إلى سليمان والطاعة له كما كان شأن الملوك المجاورين له بمصر وصور والعراق.
فالإتيان المأمور به في قوله {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} هو إتيان مجازي مثل ما يقال: اتبع سبيلي.
و {مُسْلِمِينَ} مشتق من أسلم إذا تقلد الإسلام. وإطلاق اسم الإسلام على الدين يدل على أن سليمان إنما دعا ملكة سبا وقومها إلى نبذ الشرك والاعتراف لله بالإلهية والوحدانية ولم يدعهم إلى اتباع شريعة التوراة لأنهم غير مخاطبين بها وأما دعوتهم إلى إفراد الله بالعبادة والاعتراف له بالوحدانية في الإلهية فذلك مما خاطب الله به البشر كلهم وشاع ذلك فيهم من عهد آدم ونوح وإبراهيم. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في[سورة البقرة: 132]، قال تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ
(19/255)

لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} . جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة لأن النبي يلقي الإرشاد إلى الهدى حيثما تمكن منه كما قال شعيب {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] وهذا نظير قول يوسف لصاحبي السجن {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] الآية. وإن كان لم يرسل إليهم، فالأنبيائ مأمورون أمرا عاما بالإرشاد إلى الحق وكذلك دعاء سليمان هنا، وقال النبيء صلى الله عليه وسلم "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم" فهذه سنة الشرائع لأن الغاية المهمة عندها هو إصلاح النفوس دون التشفي وحب الغلبة.
وحرف {أَنَّ} من قوله {أن لا تعلوا عليّ} في موقعه غموض لأن الظاهر أنه مما شمله كتاب سليمان لوقوعه بعد البسملة التي هي مبدأ الكتاب. وهذا الحرف لا يخلو من كونه {أَنَّ} المصدرية الناصبة للمضارع، أو المخففة من الثقيلة، أو التفسيرية.
فأما معنى {أَنَّ} المصدرية الناصبة للمضارع فلا يتضح لأنها تستدعي عاملا يكون مصدرها المنسبك بها معملا له وليس في الكلام ما يصلح لذلك لفظا مطلقا ولا معنى إلا بتعسف وقد جوزه ابن هشام في مغني اللبيب في بحث "ألا" الذي هو حرف تخضيض وهو وجهة شيخنا محمد النجار رحمه الله بأن يجعل {أن لا تعلوا} الخ خبرا عن ضمير {كِتَابٌ} في قوله {وَإِنَّهُ} فحيث كان مضمون الكتاب النهي عن العلو جعل {أن لا تعلوا} نفس الكتاب كا يقع الإخبار بالمصدر. وهذا تكلف لأنه يقتضي الفصل بين أجزاء الكتاب بقوله {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
وأما معنى المخففة من الثقيلة فكذلك لوجوب سد مصدر مسدها وكونها معمولة لعامل، وليس في الكلام ما يصلح لذلك أيضا. وقد ذكر وجها ثالثا في الآية في بعض نسخ مغني اللبيب في بحث "ألا" أيضا ولم يوجد في النسخ الصحيحة من المغني ولا من شروحه ولعله من زيادات بعض الطلبة. وقد اقتصر في الكشاف على وجه التفسيرية لعلمه بأن غير ذلك لا ينبغي أن يفرض. وأعقبه بما روي من نسخة كتاب سليمان ليظهر أن ليس في كتاب سليمان ما يقابل حرف "أن" فلذلك تتعين "أن" لمعنى التفسيرية لضمير {وَإِنَّهُ} العائد إلى حرف {كِتَابٌ} كما علمته آنفا لأنه لما كان عائد إلى "كتاب" كان بمعنى معاده فكان مما فيه معنى القول دون حروفه فصح وقع "أن" بعده فيكون "أن" من كلام ملكة سبا فسرت بها وبما بعدها مضمون {كِتَابٌ} في قولها {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .
(19/256)

و {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} يكون هو أول كتاب سليمان، وإنها حكاية لكلام بلقيس. قال في الكشف يتبين أن قوله {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بيان لعنوان الكتاب وأن قوله {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الخ بيان لمضمون الكتاب فلا يرد سؤال كيف قدم قوله {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} على {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية ويخطر ببالي أن أن موقع "أن" هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه. وأنها المخففة من الثقيلة. وقد رأيت في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح بـ"أن" في ثاني خطبة خطبها بالمدينة في سيرة ابن إسحاق. وذكر السهيلي: أن الحمد، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن. ولكن كلامه جرى على أن حرف "إن" مكسور الهمزة مشدد النون. ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال لـ"إن" المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
و {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} نهي مستعمل في التهديد ولذلك أتبعته ملكة سبا بقولها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي}
[32] {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} .
سألتهم إبداء آرائهم ماذا تعمل تجاه دعوة سليمان. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا مثل التي قبلها.
والإفتاء: الإخبار بالفتوى وهي إزالة مشكل يعرض. وقد تقدمت عند قوله تعالى { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} في [سورة يوسف: 41].
والأمر: الحال المهم، وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شؤون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة، ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين: ولي الأمر. وبهذه الثلاثة فسر قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان:
أولي أمر الله إنا معشر
...
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
فهذا معنى قولهم لها {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} .
(19/257)

وقد أفادت إضافة {أَمْرِي} تعريفا، أي في الحادثة المعينة.
ومعنى {قَاطِعَةً أَمْراً} عاملة عملا لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان.
وصيغة {كُنْتُ قَاطِعَةً} تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين.
والأمر في {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً} هو أيضا الحال المهم، أي أنها لا تفضي في المهمات إلا عن استشارتهم.
و {تَشْهَدُونِ} مضارع شهد المستعمل بمعنى حضر كقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} ، أي حتى تحضرون، وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات، وذلك تعد على التوسع لكثرته، وحق الفعل أن يعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف. يقال: شهد عند فلان وشهد مجلس فلان. ويقال: شهد الجمعة. وفعل {تَشْهَدُونِ} هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالبا إذ لا تقع مشاورة مع غائب.
والنون في {تَشْهَدُونِ} نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفا وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسورا ونون الوقاية دالة على المحذوف.
وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلا ووقفا. وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلا ووقفا.
وفي قولها {حَتَّى تَشْهَدُونِ} كناية من معنى: توافقوني فيما أقطعه، أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة: إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة، وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة. ولذلك قال فقهاؤنا: إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم أو مشاورتهم. وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عمر يستشيرهم وإن لم يحضروا. وقال الفقهاء إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه.
وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شرعا إلهيا ولا سيق مساق المدح، ولكنه حكاية ما جرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي؛ غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للإسوة كما قدمنه في المقدمة السابعة. فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى. وتقدم ذكر الشورى في سورة
(19/258)

آل عمران.
[33] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا ؤ} .
جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات. أرادوا من قولهم: نحن جماعة الملكة الذين هم من أهل الحرب. فهو من إخبار عرفاء القوم عن حال جماعتهم ومن يفوض أمرهم إليهم. والقوة: حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} في [سورة الأعراف: 145]. وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} في سورة الأنفال، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه.
والبأس: الشدة على العدو، قال تعالى {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] أي في مواقع القتال، وقال {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر: 14]. وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا.
ومع إظهار هذا الرأي فوضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه، فحذف مفعول {تَأْمُرِينَ} ومتعلقه لظهورهما من المقام، والتقدير: ما تأمريننا به، أي إن كان رأيك غير الحرب فمري به نطعك.
وفعل {انْظُرِي} معلق عن العمل بما بعده من الاستفهام وهو {مَاذَا تَأْمُرِينَ} .
وتقدم الكلام على {مَاذَا} في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} في [سورة النحل: 24].
[34، 35] {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .
{قَالَتْ} جواب محاورة فلذلك فصل.
أبدت لهم رأيها مفضلة جانب السلم على جانب الحرب وحاذرة من الدخول تحت سلطة سليمان اختيارا لأن نهاية الحرب فيها احتمال أن ينتصر سليمان فتصير مملكة سبا إليه، وفي الدخول تحت سلطة سليمان إلقاء للمملكة في تصرفه، وفي كلا الحالين يحصل
(19/259)

تصرف ملك جديد في مدينتها فعلمت بقياس شواهد التاريخ وبخبرة طبائع الملوك إذا تصرفوا في مملكة غيرهم أن يقلبوا نظامها إلى ما يساير مصالحهم واطمئنان نفوسهم من انقلاب الأمة المغلوبة عليهم في فرص الضعف أو لوائح الاشتغال بحوادث مهمة، فأول ما يفعلونه إقصاء الذين كانوا في الحكم لأن الخطر يتوقع من جانبهم حيث زال سلطانهم بالسلطان الجديد، ثم يبدلون القوانين والنظم التي كانت تسير عليها الدولة، فأما إذا أخذوها عنوة فلا يخلو الأخذ من تخريب وسبي ومغانم، وذلك أشد فسادا. وقد اندرج الحالان في قولها {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} .
وافتتاح جملة {إِنَّ الْمُلُوكَ} بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه، فقولها {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون {إِذَا} ظرفا للماضي بقرينة المقام كقوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] وقوله {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} [التوبة: 92].
وجملة {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} . والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجعل الأعزة أذلة، أي فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفسادا في حالنا.
فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد، بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بإرسال هدية إليه، وقد عزمت على ذلك ولم تستطلع رأي أهل مشورتها لأنهم فوضوا الرأي إليها، ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يعد موافقة ورضى.
وهذا الكلام مقدمة لما ستلقيه إليهم من عزمها، ويتضمن تعليلا لما عزمت عليه.
والباء في {بِهَدِيَّةٍ} باء المصاحبة. ومفعول {مُرْسِلَةٌ} محذوف دل عليه وصف {مُرْسِلَةٌ} وكون التشاور فيما تضمنه كتاب سليمان. فالتقدير: مرسلة إليهم كتابا ووفدا مصحوبا بهدية إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوبا بكتاب تجيب به كتاب سليمان فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة، وهو من سنن المسلمين، وعد من حق المسلم على المسلم قال القرطبي: إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السلام اه. ولم أقف على حكم فيه من مذاهب الفقهاء. والظاهر أن الجواب إن كان عن كتاب مشتمل على صيغة السلام أن يكون رد الجواب واجبا وأن
(19/260)

يشتمل على رد السلام لأن الرد بالكتابة يقاس على الرد بالكلام مع إلغاء فارق ما في المكالمة من المواجهة التي يكون ترك الرد معها أقرب لإلقاء العداوة. ولم أر في كتب النبي صلى الله عليه وسلم جوابا عن كتاب إلا جوابه عن كتاب مسيلمة والسلام على من أتبع الهدى.
والهدية: فعيلة من أهدى: فالهدية ما يعطى لقصد التقرب والتحبب، والجمع هدايا على اللغة الفصحى، وهي لغة سفلى معد. وأصل هدايا: هدائي بهمزة بعد ألف الجمع ثم ياء لأن فعيلة يجمع على فعائل بإبدال ياء فعيلة همزة لأنها حرف وقع في الجمع بعد حرف مد فلما وجدوا الضمة في حالة ارفع ثقيلة على الياء سكنوا الياء طردا للباب ثم قلبوا الياء الساكنة ألفا للخفة فوقعت الهمزة بين ألفين فثقلت فقلبوها ياء لأنها مفتوحة وهي أخف، وأما لغة سفلى معد فيقولون: هداوى بقلب الهمزة التي بين الألفين واوا لأنها أخت الياء وكلتاهما أخت الهمزة.
و {نَاظِرَةٌ} اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر، أي مترقبة، فتكون جملة {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} مبينة لجملة {فَنَاظِرَةٌ} ، أو مستأنفة. وأصل النظم: فناظرة ما يرجع المرسلون به، فغير النظم لما أريد أنها مترددة فيما يرجع به المرسلون. فالباء في قوله {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} متعلقة بفعل {يَرْجِعُ} قدمت على متعلقها لاقترانها بحرف {ما} الاستفهامية لأن الاستفهام له صدر الكلام.
ويجوز أن يكون {نَاظِرَةٌ} من النظر العقلي، أي عالمة، وتعلق الباء بفعل {يَرْجِعُ} ، وعلى كلا الوجهين {فَنَاظِرَةٌ} معلق عن العمل في مفعوله أو مفعوليه لوجود الاستفهام، ولا يجوز تعلق الباء بـ {نَاظِرَةٌ} لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده فمن ثم غلطوا الحوفي في تفسيره لتعليقه الباء بـ {نَاظِرَةٌ} كما في الجهة السادسة من الباب الخامس من مغنى اللبيب.
[36، 37] {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
أي فلما جاء الرسول الذي دل عليه قوله {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} ، فالإرسال يقتضي رسولا، والرسول لفظه مفرد ويصدق بالواحد والجماعة، كما تقدم في قصة موسى في سورة الشعراء. وأيضا فإن هدايا الملوك يحملها ركب، فيجوز أن يكون
(19/261)

فاعل {جَاءَ} الركب المعهود في إرسال هدايا أمثال الملوك.
وقد أبى سليمان قبول الهدية لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فتبين له قصدها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بث سلطانه على مملكة سبأ.
والخطاب في {أَتُمِدُّونَنِ} لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه.
والاستفهام إنكاري لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال، فيقتضي أنهم يحسوبنه محتاجا إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجه إليه.
ويظهر أن الهدية كان ذهبا ومالا.
وقرأ الجمهور {أتمدونني} بنونين. وقرأه حمزة وخلف بنون واحدة مشددة بالإدغام. والفاء لتفريع الكلام الذي بعدها على الإنكار السابق، أي أنكرت عليكم ظنكم فرحي بما وجهتم لي لأن ما أعطاني الله خير مما أعطاكم، أي فهو أفضل منه في صفات الأموال من نفاسة ووفرة.
وسوق التعليل يشعر بأنه علم أن الملكة لا تعلم أن لدى سليمان من الأموال ما هو خير مما لديها لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع.
وهذا من أسرار الفرق في الكلام البليغ بين الواو والفاء في هذه الجملة فلو قال: وما آتاني الله خير مما آتاكم، لكان مشعرا بأنها تعلم ذلك لأن الواو تكون واو الحال.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم.
وإضافة {هديتكم} تشبيه، تحتمل أن تكون من إضافة الشيء إلى ما هو في معنى المفعول، أي مما تهدونه. ويجوز أن يكون شبيهة بالإضافة إلى ما هو في معنى المفعول، أي بما يهدى إليكم. والخبر استعمل كناية عن رد الهدية للمهدي.
ومعنى {تَفْرَحُونَ} يجوز أن يكون تسرون، ويجوز أن يكون تفتخرون، أي أنتم
(19/262)

تعظم عندكم تلك الهدية لا أنا لأن الله أعطاني خيرا منها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في "أنتم...تفرحون" لإفادة القصر، أي أنتم. وهو الكناية عن رد الهدية.
وتوعدهم وهددهم بأنه مرسل إليهم جيشا لا قبل لهم بحربه. وضمائر جمع الذكور الغائب في قوله {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ} {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} عائدة إلى القوم، أي لنخرجن من نخرج من الأسرى.
وقوله {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} يحتمل أنه أراد غزو بلدها بنفسه، فتكون الباء للمصاحبة. ويحتمل أنه أراد إرسال جنود لغزوها فتكون الباء للتعدية كالتي في قوله تعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي أذهبة؛ فيكون المعنى: فلنؤتينهم جنودا، أي نجعلها آتية إياهم.
والقبل: الطاقة. وأصله المقابلة فأطلق على الطاقة لأن الذي يطيق شيئا يثبت للقائه ويقابله. فإذا لم يطقه تقهقر عن لقائه. ولعل أصل هذا الاستعمال ناظر إلى المقابلة في القتال.
والباء في {بِهَا} للسببية، أي انتفى قبلهم بسببها، أو تكون الباء للمصاحبة، أي انتفى قبلهم المصاحب لها، أي للقدرة عل لقائها.
وضمير {بِهَا} للجنود وضمير {مِنْهَا} للمدينة، وهي مأرب، أي يخرجهم أسرى ويأتي بهم إلى مدينته.
والصاغر: الذليل اسم فاعل من صغر بضم الغين المستعمل بمعنى ذل ومصدره الصغار. والمراد: ذل الهزيمة والأسر.
[38 - 40] {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
استئناف ابتدائي لذكر بعض أجزاء القصة طوي خبر رجوع الرسل والهداية، وعلم سليمان أن ملكة سبأ لا يسعها إلا طاعته ومجيئها إليه، أو ورد له منها أنها عزمت على
(19/263)

الحضور عند عملا بقوله {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيأ للدخول على الملك، أو حين جاءه الخبر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليريها مقدرة أهل دولته.
وقد يكون عرشها محمولا معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهئ لها سلميان عرشا، فإن للملوك تقادير وظنونا يحترزون منها خشية الغضاضة.
وقوله {آتِيكَ} يجوز ان يكون فعلا مضارعا من أتى، وأن يكون اسم فاعل منه، والباء على الاحتمالين للتعدية. ولما علم سليمان بأنها ستحضر عنده أراد أن يبهتها بإحضار عرشها الذي تفتخر به وتعده نادرة الدنيا فخاطب ملأه ليظهر منهم منتهى علمهم وقوتهم، فالباء في {بِعَرْشِهَا} كالباء في قوله {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} تحتمل الوجهين.
وجملة {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} مستأنفة ابتداء لجزء من قصة. وجملة {قَالَ عِفْرِيتٌ} واقعة موقع جواب المحاورة ففصلت على أسلوب المحاورات كما تقدم غير مرة. وجملة {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} أيضا جواب محاورة.
ومعنى {عِفْرِيتٌ} حسبما يستخلص من مختلف كلمات أهل اللغة أنه اسم للشديد الذي لا يصاب ولا ينال، فهو يتقى لشره. وأصله اسم لعتاة الجن، ويوصف به الناس على معنى التشبيه.
و {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان.
و {مِنَ} في قوله {مِنَ الْكِتَابِ} ابتدائية، أي عنده علم مكتسب من الكتب، أي من الحكمة، وليس المراد بالكتاب التوراة. وقد عد في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلا أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن {الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} هو "آصف بن برخيا" وأنه كان وزير سليمان.
وارتداد الطرف حقيقته: رجوع تحديق العين من جهة منظورة تحول عنها لحظة. وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك.
(19/264)

وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة، وأن الحكمة مكتسبة لقوله {عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} ، وأن قوة العناصر طبيعة فيها، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضا. فذكر في هذه القصة مثلا لتغلب العلم على القوة. ولما كان هذان الرجلان مسخرين لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى. ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الاتيان بعرش بلقيس.
والظاهر أن قوله {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} وقوله {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} مثلان في السرعة والأسرعية، والضمير البارز في {رَآهُ} يعود إلى العرش.
والاستقرار: التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار. وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلقا بهما إذا وقعا خبرا أو وقعا حالا إذ يقدر "كائن" أو "مستقر" فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به. وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد.
ولما ذكر الفضل إضافة إلى الله بعنوان كونه ربه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه. فليس إحسان الله إليه إلا فضلا محضا ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله.
وضرب حكمة خلقية دينية وهي {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن علمه إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك.
فالكلام في قوله {يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لام الأجل وليست اللام التي يعدى بها فعل الشكر في نحو {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152]. والمراد بـ {مَنْ كَفَرَ} من كفر فضل الله عليه بأن عبد غير الله فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا. وقد تقدم عند قوله فيما تقدم {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} دون أن يقول:
(19/265)

فإنه غني كريم، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله {فَضْلِ رَبِّي} .
[41] {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} .
هذا من جملة المحاورة التي جريت بين سليمان عليه السلام وبين ملئه ولذلك لم يعطف لأنه جرى على طريقة المقاولة والمحاورة.
والتنكير: التغيير للحالة. قال جميل:
وقالوا نزاها يا جميل تنكرت
...
وغيرها الواشي فقلت: لعلها
أراد: تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين، بأن يغير بعض أوصافه، قالوا: أراد مفاجأتها واختبار مظنتها.
والمأمور بالتنكير أهل المقدرة على ذلك من ملئه.
و {مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} أبلغ في انتفاء الاهتداء من: لا تهتدي، كما تقدم في نظائره غير مرة.
[42، 43] {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} .
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} .
دل قوله {لَمَّا جَاءَتْ} أن الملكة لما بلغها ما أجاب به سليمان رسلها أزمعت الحضور بنفسها لدى سليمان داخلة تحت نفوذ مملكته وأنها تجهزت للسفر إلى أورشليم بما يليق بمثلها.
وقد طوي خبر ارتحالها إذ لا غرض مهما يتعلق به في موضع العبرة. والمقصود أنها خضعت لأمر سليمان وجاءته راغبة في الانتساب إليه.
وبني فعل {قِيلَ} للمجهول إذ لا يتعلق غرض بالقائل. والظاهر أن الذي قال ذلك هو سليمان.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} .
(19/266)

يجوز أن يكون عطفاً على قوله: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] الآية وما بينهما اعتراضاً، أي هذا من قول سليمان.
يجوز أن يكون عطفا على قوله {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} الآية وما بينهما اعتراضا كذلك، ويجوز أن يكون عطفا على {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} وما بينهما اعتراضا به جوابها، أي وقيل أوتينا العلم من قبلها، أي قال القائل أهكذا عرشك، أي قال سليمان ذلك في ملئه عقب اختيار رأيها شكرا لله على ما لديه من العلم، أو قال بعض ملأ سليمان لبعض هذه المقالة. ولعلهم تخافتوا به أو رطنوه بلغتهم العبرية بحيث لا تفهمهم. وقالوا ذلك بهجين بأن فيهم من له من العلم ما ليس لملأ ملكة سبأ، أي لا ننسى بما نشاهده من بهرجات هذه الملكة إننا في حالة عقلية أفضل. وأرادوا بالعلم علم الحكمة الذي علمه الله سليمان ورجال مملكته وتشاركهم بعض أهل سبأ في بعضه فقد كانوا أهل معرفة أنشاوا بها حضارة مبهتة.
فمعنى {مِنْ قَبْلِهَا} إن حمل على ظاهره أن قومهم بني إسرائيل كانوا أسبق في معرفة الحكمة وحضارة الملك من أهل سبا لأن الحكمة ظهرت في بني إسرائيل من عهد موسى، فقد سن لهم الشريعة، وأقام لهم نظام الجماعة، وعلمهم أسلوب الحضارة بتخطيط رسوم مساكنهم وملابسهم ونظام الجيش والحرب والمواسم والمحافل. ثم أخذ ذلك يرتقي إلى أن بلغ غاية بعيدة في مدة سليمان، فبهذا الاعتبار كان بنو إسرائيل أسبق إلى علم الحكمة قبل أهل سبأ. وإن أريد بـ {مِنْ قَبْلِهَا} القبلية الاعتبارية وهي الفضل والتفوق في المزايا وهو الأليق بالمعنى كان المعنى: إنا أوسع وأقوى منها علما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "نحن الأولون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" أي نحن الأولون في غايات الهدى، وجعل مثلا لذلك اهتداء أهل الاسلام ليوم الجمعة فقال "وهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه". فكان الأرجح أن يكون معنى {مِنْ قَبْلِهَا} أنا فائتونها في العلم وبالغون ما لم تبلغه. وازادوا في إظهار فضلهم عليها بذكر الناحية الدينية، أي وكنا مسلمين دونها. وفي ذكر فعل الكون دلالة على تمكنهم من الإسلام منذ القدم.
وصدها هي عن الإسلام ما كانت تعبد من دون الله، أي صدها معبودها من دون الله، ومتعلق الصد محذوف لدلالة الكلام عليه في قوله {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} . وما كانت تعبده هو الشمس. وإسناد الصد إلى المعبود مجاز عقلي لأنه بسبب صدها عن التوحيد كقوله تعالى {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} وقوله {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} .
(19/267)

وفي ذكر فعل الكون مرتين في {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} ، و {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} دلالة على تمكنها من عبادة الشمس وكان ذلك التمكن بسبب الانحدار من سلالة المشركين، فالشرك منطبع في نفسها بالوراثة، فالكفر قد أحاط بها بتغلغله في نفسها وبنشأتها عليه وبكونها بين قوم كافرين فمن أين يخلص إليها الهدى والإيمان.
[44] {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} .
جملة {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} استئناف ابتدائي لجزء من القصة. وطوي ذكر ترحلها إلى وصولها في ذكر ما يدل عليه من حلولها أمام صرح سليمان للدخول معه إليه أو الدخول عليه وهو فيه.
لما أراها سليمان عظمة حضارته انتقل بها حيث تشاهد أثرا بديعا من آثار الصناعة الحكيمة وهو الصرح. والصرح يطلق على صحن الدار وعرصتها. والظاهر أن صرح القصر الذي ذكر في سفر الملوك الأول في الإصحاح السابع وهو بيت وعر له بابان كا يجلس فيه سليمان للقضاء بين الناس.
والقائل لها {ادْخُلِي الصَّرْحَ} هم الذين كانوا في رفقتها.
والقائل {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} . هو سليمان كان مصاحبا لها أو كان يترقبها وزجاج الصرح المبلط به الصرح بينهما.
وذكر الدخول يقتضي أن الصرح مكان له باب. وفي سفر الملوك الأول في الإصحاح العاشر: فلما رأت البيت الذي بناه.
وحكاية أنها حسبته لجة عندما رأته تقتضي أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل على ان الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة معنية للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لجة ماء. وهذا من بديع الصناعة التي
(19/268)

اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من حضارة وعظمة بناء.
وقرأ قنبل عن ابن كثير {عن سأقيها} بهمزة ساكنة بعد السين عوضا عن الألف على لغة من يهمز حرف المد إذا وقع وسط الكلمة. ومنه قول جرير:
لحب المؤقدان إلي مؤسى
...
وجعدة إذ أضاءهما الوقود
فهمز المؤقدان ومؤسى.
وكشف ساقيها كان من أجل أنها شمرت ثيابها كراهية ابتلالها بما حسبته ماء. فالكشف عن ساقيها يجوز أن يكون بخلع خفيها أو نعليها، ويجوز أن يكون بتشمير ثوبها. وقد قيل: إنها كانت لا تلبس الخفين. والممرد: المملس.
والقوارير: جمع قارورة وهي اسم لإناء من الزجاج كانوا يجعلونه للخمر ليظهر للرائي ما قر في قعر الإناء من نفث الخمر فيظهر المقدار الصافي منها. فسمى ذلك الإناء قارورة لأنه يظهر منه ما يقر في قعره، وجمعت على قوارير، ثم أطلق هذا الجمع على الطين الذي تتخذ منه القارورة وهو الزجاج فالقوارير من أسماء الزجاج، قال بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته
...
فإنه عربي من قوارير
يريد أن نسبته في العرب ضعيفة إذا حركت تكسرت. وقد تقدم ذكر الزجاج عند قوله تعالى {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} في [سورة النور: 35].
{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
بهرها ما رأت من آيات علمت منها أن سليمان صادق فيما دعاها إليه وأنه مؤيد من الله تعالى، وعلمت أن دينها ودين قوها باطل فاعترفت بأنها ظلمت نفسها في اتباع الضلال بعبادة الشمس. وهذا درجة أولى في الاعتقاد وهو درجة التخلية، ثم صعدت إلى الدرجة التي فوقها وهي درجة التحلي بالإيمان الحق فقالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فاعترفت بأن الله هو رب جميع الموجودات، وهذا مقام التوحيد.
وفي قولها {مَعَ سُلَيْمَانَ} إيمان بالدين الذي تقلده سليمان وهو دين اليهودية، وقد أرادت جمع معاني الدين في هذه الكلمة ليكون تفصيلها فيما تتلقاه من سليمان من الشرائع والأحكام.
(19/269)

وجملة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} جواب عن قول سليمان {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} ولذلك لم تعطف.
والإسلام: الانقياد إلى الله تعالى. وتقلد بلقيس للتوحيد كان في خاصة نفسها لأنها دانت لله بذلك إذ لم يثبت أن أهل سبأ انخلعوا عن عبادة الأصنام كما يأتي في سورة سبأ. وأما دخول اليهودية بلاد اليمن فيأتي في سورة البروج. وسكت القرآن عن بقية خبرها ورجوعها إلى بلادها وللقصاصين أخبار لا تصح فهذا تمام القصة.
ومكان العبرة منها الاتعاظ بحال هذه الملكة، إذ لم يصدها علو شأنها وعظمة سلطانها مع ما أوتيته من سلامة الفطرة وذكاء العقل عن أن تنظر في دلائل صدق الداعي إلى التوحيد وتوقن بفساد الشرك وتعترف بالوحدانية لله، فما يكون إصرار المشركين على شركهم بعد أن جاءهم الهدي الاسلامي إلا لسخافة أحلامهم أو لعمايتهم عن الحق وتمسكهم بالباطل وتصلبهم فيه. ولا أصل لما يذكره القصاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس ولا أن له ولدا منها. فان رحبعام ابنه الذي خلفه في الملك كان من زوجة عمونية.
[45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} .
هذا مثل ثالث ضربه الله لحال المشركين مع المؤمنين وجعله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله.
والانتقال من ذكر ملك سليمان وقصة ملكة سبأ إلى ذكر ثمود ورسولهم دون ذكر عاد لمناسبة جوار البلاد لأن ديار ثمود كانت على تخوم مملكة سليمان وكانت في طريق السائر من سبأ إلى فلسطين.
ألا ترى أنه أعقب ذكر ثمود بذكر قوم لوط وهم أدنى إلى بلاد فلسطين فكان سياق هذه القصص مناسبا لسياق السائر من بلاد اليمن إلى فلسطين. ولما كان ما حل بالقوم أهم ذكرا في هذا المقام قدم المجرور على المفعول لأن المجرور هو محل العبرة، وأما المفعول فهو محل التسلية، والتسلية غرض تبعي.
ولام القسم لتأكيد الإرسال باعتبار ما اتصل به من بقية الخبر؛ فإما أن يكون التأكيد
(19/270)

لمجرد الاهتمام، وإما أن يبنى على تنزيل المخاطبين منزلة من يتردد فيما تضمنه الخبر من تكذيب قومه إياه واستخفافهم بوعيد ربهم على لسانه. وحلول العذاب بهم لأجل ذلك لأن حالهم في عدم العظة بما جرى للمماثلين في حالهم جعلهم كمن ينكر ذلك.
و {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} تفسير لما دل عليه {أَرْسَلْنَا} من معنى القول. وفرع على {أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} الخ {إِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} . فالمعنى: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا لإنقاذهم من الشرك ففاجأ من حالهم أن أعرض فريق عن الإيمان وآمن فريق.
والإتيان بحرف المفاجأة كناية عن كون انقسامهم غير مرضي فكأنه غير مترقب، ولذلك لم يقع التعرض لإنكار كون أكثرهم كافرين إشارة إلى أن مجرد بقاء الكفر فيهم كاف في قبح فعلهم. وحالهم هذا مساو لحال قريش تجاه الرسالة المحمدية. وأعيد ضمير {يَخْتَصِمُونَ} على المثنى وهو {فَرِيقَانِ} باعتبار اشتمال الفريقين على عدد كثير. كقوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ولم يقل: اقتتلنا.
والفريقان هما: فريق الذين استكبروا، وفريق الذين استضعفوا وفيهم صالح. والفاء للتعقيب وهو تعقيب بحسب ما يقتضيه العرف بعد سماع الدعوة. والاختصام واقع مع صالح ابتداء ومع أتباعه تبعا.
[46] {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
لما كان الاختصام بين الفريقين في شأن صالح ابتداء جيء بجواب صالح عما تضمنه اختصامهم من محاولتهم إفحامه بطلب نزول العذاب. فمقول صالح هذا ليس هو ابتداء دعوته فإنه تقدم قوله {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ولكنه جواب عما تضمنه اختصامهم معه، ولذلك جاءت جملة {قَالَ يَا قَوْمِ} مفصولة جريا على طريقة المحاورة لأنها حكاية جواب عما تضمنه اختصامهم.
واقتصر على مراجعة صالح قومه في شأن غرورهم بظنهم أن تأخر العذاب أمارة على كذب الذي توعدهم به فأنهم قالوا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} كما حكي عنهم في سورة الأعراف لأن الغرض هنا موعظة قريش في قولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] بحال ثمود المساوي لحالهم
(19/271)

ليعلموا أن عاقبة ذلك مماثلة لعاقبة ثمود لتماثل الحالين قال تعالى {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} .
والاستفهام في قوله {وَيَسْتَعْجِلُونَ} إنكار لأخذهم بجانب العذاب دون جانب الرحمة.
فـ {السَّيِّئَةِ} : صفة لمحذوف، أي بالحالة السيئة، وكذلك {الْحَسَنَةَ} .
فيجوز أن يكون المراد بـ {السَّيِّئَةِ} الحالة السيئة في معاملتهم إياه بتكذيبهم إياه. والمراد بالحسنة ضد ذلك، أي تصديقهم لما جاء به، فالاستعجال: المبادرة. والباء للملابسة. ومفعول {تَسْتَعْجِلُونَ} محذوف تقديره: تستعجلونني متلبسين بسيئة التكذيب. والمعنى: أنه أنكر عليهم أخذهم بطرف التكذيب إذ أعرضوا عن التدبر في دلائل صدقه، أي إن كنتم مترددين في أمري فافرضوا صدقي ثم انظروا. وهذا استنزال بهم إلى النظر بدلا عن الإعراض، ولذلك جمع في كلامه بين السيئة والحسنة.
ويجوز أن يكون المراد بـ {السَّيِّئَةِ} الحالة السيئة التي يترقبون حلولها، وهي ما سألوا من تعجيل العذاب المحكي عنهم في سورة الأعراف، وبـ {الْحَسَنَةَ} ضد ذلك أي حالة سلامتهم من حلول العذاب، فـ {السَّيِّئَةِ} مفعول {تَسْتَعْجِلُونَ} والباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ما في قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
والمعنى: إنكار جعلهم تأخير العذاب أمارة على كذب الوعيد به وأن الأولى بهم أن يجعلوا امتداد السلامة أمارة على إمهال الله إياهم فيتقوا حلول العذاب، أي لم تبقون على التكذيب منتظرين حلول العذاب، وكان الأجدر بكم أن تبادروا بالتصديق منتظرين عدم حلول العذاب بالمرة. وعلى كلا الوجهين فجواب صالح إياهم جار على الأسلوب الحكيم بجعل يقينهم بكذبه محمولا على ترددهم بين صدقه وكذبه.
وقوله {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} حال من {السَّيِّئَةِ} . وهذا تنبيه لهم على خطئهم في ظنهم أنه لو كان صالح صادقا فيما توعدهم به لعجل لهم به، فما تأخيره إلا لأنه ليس بوعيد حق، لأن العذاب أمر عظيم لا يجوز الدخول تحت احتماله في مجاري العقول. فالقبلية في قوله {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة.
(19/272)

وظاهر الاستفهام أنه استفهام عن علة استعجالهم، وإنما هو استفهام عن المعلول كناية عن انتفاء ما حقه أن يكون سببا لاستعجال العذاب، فالإنكار متوجه للاستعجال لا لعلته.
ثم أعقب الإنكار المقتضي طلب التخلية عن ذلك بتحريضهم على الإقلاع عن ذلك بالتوبة وطلب المغفرة لما مضى منهم ويرجون أن يرحمهم الله فلا يعذبهم وإن كان ما صدر منهم موجبا لاستمرار غضب الله عليهم إلا أن الله برحمته جعل التائب من الذنب كمن لم يذنب.
[47] {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} .
هذا من محاورتهم مع صالح فلذلك لم يعطف فعلا القول وجاء على سنن حكاية أقوال المحاورات كما بيناه غير مرة.
وأصل {اطَّيَّرْنَا} تطيرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجيهما وسكنت لتخفيف الإدغام وأدخلت همزة الوصل لابتداء الكلمة بساكن، والباء للسببية.
ومعنى التطير: التشاؤم. أطلق عليه التطير لأن أكثره ينشأ من الاستدلال بحركات الطير من سانح وبارح. وكان التطير من أوهام العرب وثمود من العرب، فقولهم المحكي في هذه الآية حكي به مماثلة من كلامهم ولا يريدون التطير الحاصل من زجر الطير لأنه يمنع من ذلك قولهم {بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} في [سورة الأعراف: 131]. وتقدم معنى الشؤم هنالك.
وأجاب صالح كلامهم بأنه ومن معه ليسوا سبب شؤم ولكن سبب شؤوهم وحلول المضار بهم هو قدرة الله.
واستعير لما حل بهم اسم الطائر مشاكلة لقولهم {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} ، ومخاطبة لهم بما يفهمون لإصلاح اعتقادهم، بقرينة قولهم {اطَّيَّرْنَا بِكَ} .
و {عِنْدَ} للمكان المجازي مستعارا لتحقق شأن من شؤون الله به يقدر الخير والشر وهو تصرف الله وقدره. وقد تقدم نظيره في الأعراف.
وأضرب بـ {بَلْ} عن مضمون قولهم {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} بأن لا شؤم بسببه هو وبسبب من معه ولكن الذين زعموا ذلك قوم فتنهم الشيطان فتنة متجددة بإلقاء الاعتقاد
(19/273)

بصحة ذلك في قلوبهم.
وصيغ الإخبار عنهم بأنهم مفتونون بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم بذلك. وصيغ المسند فعلا مضارعا لدلالته على تجدد الفتون واستمراره.
وغلب جانب الخطاب في قوله {تُفْتَنُونَ} على جانب الغيبة مع أن كليهما مقتضى الظاهر ترجيحا لجانب الخطاب لأنه أدل من الغيبة.
[48، 49] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .
عطف جزء القصة على جزء منها. و {الْمَدِينَةِ} : هي حجر ثمود بكسر الحاء وسكون الجيم المعروف مكانها اليوم بديار ثمود ومدائن صالح وهي بقايا تلك المدينة من أطلال وبيوت منحوتة في الجبال. وهي بين المدينة المنورة وتبوك في طريق الشام وقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مسيرهم في غزوة تبوك ورأوا فيها آبارا نهاهم النبي عن الشرب والوضوء منها إلا بئرا واحدة أمرهم بالشرب والوضوء بها وقال: "أنها البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح" .
والرهط: العدد من الناس حوالي العشرة وهو مثل النفر. وإضافة تسعة إليه من إضافة الجزء إلى اسم الكل على التوسع وهو إضافة كثيرة في الكلام العربي مثل: خمس ذود. واختلف أئمة النحو في القياس عليها ومذهب سيبويه والأخفش أنها سماعية.
وكان هؤلاء الرهط من عتاة القوم، واختلف في أسمائهم على روايات هي من أوضاع القصاصين ولم يثبت في ذلك ما يعتمد. وأشتهر أن الذي عقر الناقة اسمه "قدار" بضم الميم وتخفيف الدال، وقد تشاءم بعض الناس بعدد التسعة بسبب قصة ثمود وهو من التشاؤم المنهي عنه.
و {الأرض} : أرض ثمود فالتعريف للعهد.
وعطف {وَلا يُصْلِحُونَ} على {يُفْسِدُونَ} احتراس للدلالة على أنهم تمحضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفساد بإصلاح.
وجملة {قَالُوا} صفة لـ {تِسْعَةُ} ، أو خبر ثان لـ {كَانَ} ، أو هو الخبر لـ {كَانَ} .
(19/274)

وفي {الْمَدِينَةِ} متعلق بـ {كَانَ} ظرفا لغوا ولا يحسن جعل الجملة استئنافا لأنها المقصود من القصة. والمعنى: قال بعضهم لبعض.
و {تَقَاسَمُوا} فعل أمر، أي قال بعضهم: تقاسموا، أي ابتدأ بعضهم فقال: تقاسموا. وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دل عليه قوله {لَنُبَيِّتَنَّهُ} . فلما قال ذلك بعضهم توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلا ذلك فلذك أسند القول إلى التسعة.
والقسم بالله يدل على أنهم يعترفون بالله ولكنهم يشركون به الآلهة كما تقدم في قصصهم فيما مر من السور.
و {لَنُبَيِّتَنَّهُ} جواب القسم، والضمير عائد إلى صالح. والتبييت والبيات: مباغتة العدو ليلا. وعكسه التصبيح: الغارة في الصباح، وكان شأن الغارات عند العرب أن تكون في الصباح ولذلك يقول من ينذر قوما بحلول العدو "يا صباحاه"، فالتبييت لا يكون إلا لقصد غدر. والمعنى: أنهم يغيرون على بيته ليلا فيقتلونه وأهله غدرا من حيث لا يعرف قاتله ثم ينكرون أن يكونوا هم قتلوهم ولا شهدوا مقتلهم.
والمهلك: مصدر ميمي من أهلك الرباعي، أي شهدنا إهلاك من أهلكهم. وقولهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} هو من جملة ما هيأوا أن يقولوه فهو عطف على {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ} أي ونؤكد إنا لصادقون. ولم يذكروا أنهم يحلفون على أنهم صادقون.
وقرأ الجمهور {لَنُبَيِّتَنَّهُ} بنون الجماعة وفتح التاء التي قبل نون التوكيد. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أوله وبضم التاء الأصلية قبل نون التوكيد. وذلك على تقدير: أمر بعضهم لبعض. وهكذا قرأ الجمهور {لَنَقُولَنَّ} بنون الجماعة في أوله وفتح اللام. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب وبضم اللام.
وقرأ الجمهور: {مُهْلِكَ} بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر الإهلاك أو مكانه أو زمانه. زقرأه حفص بفتح الميم وكسر اللام ويحتمل المصدر والمكان والزمان. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح اللام فهو مصدر لا غير.
ووليُّ صالح هم أقرب القوم إذا راموا الأخذ بثأره.
وهذا الجزء من قصة ثمود لم يذكر في غير هذه السورة. وأحسب أن سبب ذكره أن نزول هذه السورة كان في وقت تآمر فيه المشركون على الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو التآمر
(19/275)

الذي حكاه الله في قوله {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ فضرب الله لهم مثلا بتآمر الرهط من قوم صالح عليه ومكرهم وكيف كان عاقبة مكرهم، ولذلك ترى بين الآيتين تشابها وترى تكرير ذكر مكرهم ومكر الله بهم، وذكر أن في قصتهم آية لقوم يعلمون.
[50 - 53] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
سمى الله تآمرهم مكرا لأنه كان تدبير ضر في خفاء. وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر، وتنوينه للتعظيم.
والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي. استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله، وتأخيره استئصالهم أي الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشبه فعل الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة، مع عدم إشعار من يفعل به.
وأكد مكر الله وعظم كما أكد مكرهم وعظم، وذلك بما يناسب جنسه فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس.
والمراد بالمكر المسند إلى الجلالة هو ما دلت عليه جملة {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية.
وفي قوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} تأكيد لاستعارة المكر لتقدير الاستئصال فليس في ذلك ترشيح للاستعارة ولا تجريد.
والخطاب في قوله {فَانْظُرْ} للنبي صلى الله عليه وسلم. واقترانه بفاء التفريع إيماء إلى أن الاعتبار بمكر الله بهم هو المقصود من سوق القصة تعريضا بأن عاقبة أمره مع قريش أن يكف عنهم كيدهم وينصره عليهم، وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من قومه.
والنظر: نظر قلبي، وقد علق على المفعولين بالاستفهام.
وقرأ الجمهور {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} بكسر الهمزة فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما
(19/276)

يثيره الاستفهام في قوله {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} من سؤال عن هذه الكيفية. والتأكيد للاهتمام بالخبر. وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة فيكون المصدر بدلا من {عَاقِبَةُ} . والتأكيد أيضا للاهتمام.
وضمير الغيبة في {دَمَّرْنَاهُمْ} للرهط. وعطف {قَوْمَهُمْ} عليهم لموافقة الجزاء للمجزي عليه لأنهم مكروا بصالح وأهله فدمرهم الله وقومهم.
والتدمير: الإهلاك الشديد، وتقدم غير مرة منها في سورة الشعراء.
والقصة تقدمت. وتقدم إنجاء صالح والذين آمنوا معه وذلك أن الله أوحى إليه أن يخرج ومن معه إلى أرض فلسطين حين أنذر قومه بتمتع ثلاثة أيام.
وتفريع قوله {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} على جملة {دَمَّرْنَاهُمْ} لتفريع الإخبار. والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرهم إلى الشام.
وانتصب {خَاوِيَةً} على الحال. وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} . وقد تقدم في سورة هود.
والخاوية: الخالية، ومصدره الخواء، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها.
والباء في {بِمَا ظَلَمُوا} للسببية، و {مَا} مصدرية، أي كان خواؤها بسبب ظلمهم. والظلم: الشرك وتكذيب رسولهم، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق.
ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثرا في خراب بلادهم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرب البيوت وتلا: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} . وهذا من أسلوب أخذ كل ما يحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره، وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلا في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يرد بعضها إلى بعض
(19/277)

باختلاف الاعتبار. فالشرك مثلا حثيثة معروفة يكون بها جنسا عقليا وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم، أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه، ومثل الفسق فإنه من آثاره، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضا {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11]، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضا. فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم، ناهيك أن الشرك من أنواعه. وكذلك قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيرا من المسرفين والكاذبين بالتوبة، ومن قوله {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ونحو ذلك.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} معترضة بين الجمل المتعاطفة. والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم. والآية: الدليل على انتصار الله لرسله.
واللام في قوله {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لام التعليل يعني آية لأجلهم، أي لأجل إيمانهم. وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون.
وفي ذكر كلمة {قَوْمِ} إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية، كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164].
وفي تأخير جملة {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} عن جملة {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} طمأنه لقلوب المؤمنين بأن الله ينجيهم مما توعد به المشركين كما نجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من ثمود وهم صالح ومن آمن معه. وقيل: كان الذين آمنوا مع صالح أربعة آلاف، فلما أراد الله إهلاك ثمود أوحى الله إلى صالح أن يخرج هو ومن معه فخرجوا ونزلوا في موضع الرس فكان أصحاب الرس من ذرياتهم. وقيل: نزلوا شاطئ اليمن وبنوا مدينة حضرموت. وفي بعض الروايات أن صالحا نزل بفلسطين. وكلها أخبار غير موثوق بها.
وزيادة فعل الكون في {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} للدلالة على أنهم متمكنون من التقوى.
(19/278)

[54، 55] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .
عطف {لُوطاً} على {صَالِحاً} في قوله السابق {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [النمل: 45]. ولا يمنع من العطف أن العامل في المعطوف تعلق به قوله {إِلَى ثَمُودَ} لأن المجرور ليس قيدا لمتعلقه، ولكنه كواحد من المفاعيل فلا ارتباط له بالمعطوف على مفعول آخر. فإن الإتباع في الإعراب يميز المعطوف عليه من غيره. وقد سبق نظير هذا في سورة الأعراف. ولم يذكر المرسل إليهم هنا كما ذكر في قصة ثمود لعدم تمام المشابهة بين قوم لوط وبين قريش فيما عدا التكذيب والشرك. ويجوز أن ينصب {وَلُوطاً} بفعل مقدر تقديره: واذكر لوطا، لأن وجود {إِذْ} بعده يقربه من نحو {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} .
وتعقيب قصة ثمود بقصة قوم لوط جار على معتاد القرآن في ترتيب قصص هذه الأمم فإن قوم لوط كانوا متأخرين في الزمن عن ثمود.
وإنما الذي يستشير سؤالا هنا هو. الاقتصار على قصة قوم لوط دون قصة عاد وقصة مدين. وقد بينته آنفا أنه لمناسبة مجاورة ديار قوم لوط لمملكة سليمان ووقوعها بين ديار ثمود وبين فلسطين وكانت ديارهم ممر قريش إلى بلاد الشام قال تعالى {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76] وقال {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138].
وظرف {إِذْ} يتعلق بـ {أَرْسَلْنَا} أو بـ"اذكر" المقدرين. والاستفهام في {أَتَأْتُونَ} إنكاري.
وجملة {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} حال زيادة التشنيع، أي تفعلون ذلك علنا يبصر بعضكم بعضا، فإن التجاهر بالمعصية معصية لأنه يدل على استحسانها وذلك استخفاف بالنواهي.
وقوله {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} تقدم في [الأعراف: 81] {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} ، فهنا جيء بالاستفهام الإنكاري وما في الأعراف جاء لخبر المستعمل في الإنكار، فيجوز أن يكون اختلاف الحكاية لاختلاف المحكي بأن يكون لوط قد قال لهم المقالتين في مقامين
(19/279)

مختلفين. ويجوز أن يكون اختلاف الحكاية تفننا مع اتحاد المعنى. وكلا الأسلوبين يقع في قصص القرآن، لأن في تغيير الأسلوب تجديدا لنشاط السامع.
على أن ابن كثير وأبا عمرو وابن عامر وحمزة وأبا بكر عن عاصم قرأوا ما في سورة الأعراف بهمزتين فاستوت الآيتان على قراءة هؤلاء. وقد تقدمت وجوه ذلك في سورة الأعراف.
ووقع في [الأعراف: 80] {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ولم يذكر هنا لأن ما يجري في القصة لا يلزم ذكر جميعه. وكذلك القول في عدم ذكر {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في سورة الأعراف مع ذكره هنا.
ونظير بقية الآية تقدم في سورة الأعراف، إلا أن الواقع هنا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، فوصفهم بالجهالة وهي اسم جامع لأحوال أفن الرأي وقساوة القلب.
وفي الأعراف وصفهم بأنهم قوم مسرفون وذلك يحمل على اختلاف المقالتين في مقامين.
وفي إقحام لفظ {قَوْمٌ} في الآيتين من الخصوصية ما تقدم آنفا في قوله في هذه السورة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
ورجع في قوله {تَجْهَلُونَ} جانب الخطاب على جانب الغيبة فلم يقل: يجهلون، بياء الغيبة وكلاهما مقتضى الظاهر لأن الخطاب أقوى دلالة كما قرئ في قوله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} .
[56 - 58] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
تقدم نظير هاته الآية في سورة الأعراف، وخالفتها هذه بوقوع العطف بالفاء في قوله {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} دون الواو، وبقوله {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} عوض {أَخْرِجُوهُمْ} وبقوله {قَدَّرْنَاهَا} عوض {كَانَتْ} ، وبقوله {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} عوض {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
فأما موقع الفاء هنا فهو لتعقيب الجملة المعطوفة بالفاء على التي قبلها تعقيب جزء
(19/280)

القصة على أوله فلا تفيد إلا تعقيب الإخبار، وهي في ذلك مساوية للواو.ولكن أوثر حرف التعقيب في هذه الآية لكونها على نسج ما حكيت به قصة ثمود في قوله تعالى {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، فالاختلاف بين هذه الآية وآية الأعراف تفنن في الحكاية، ومراعاة للنظير في النسج. وهذا من أساليب قصص القرآن كما بينته في المقدمة السابعة من مقدمة هذا التفسير.
وكذلك قوله {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} دون {أَخْرِجُوهُمْ} لأن المحكي من كلام القوم هو تآمرهم على إخراج آل لوط؛ فما هنا حكاية بمرادف كلامهم وما في الأعراف حكاية بالمعنى والغرض هو التفنن أيضا.
وكذلك الاختلاف بين {قَدَّرْنَاهَا} هنا وبين {كَانَتْ} في الأعراف. وأما الاختلاف بين {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وبين {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} فهما عبرتان بحالهم تفرعتا على وصف ما حل بهم فوزعت العبرتان على الآيتين لئلا يخلو تكرير القصة من فائدة.
والمراد بآل لوط لوط وأهل بيته لأن رب البيت ملاحظ في هذا الاستدلال كقوله تعالى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، أراد فرعون وآله.
[59] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَ}
لما استوفى غرض الاعتبار والإنذار حقه بذكر عواقب بعض الأمم التي كذبت الرسل وهي أشبه أحوالا بأحوال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي انزل عليه، وفي خلال ذلك وحفا فيه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه اقبل الله بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه ماذا يقوله عقب القصص والمواعظ السالفة استخلاصا واستنتاجا منها، وشكر الله على المقصود منها.
فالكلام استئناف والمناسبة ما علمت. أمر الرسول بالحمد على ما احتوت عليه القصص السابقة من نجاة الرسل من العذاب الحال بقومهم وعلى ما أعقبهم الله على صبرهم من النصر ورفعة الدرجات. وعلى أن اهلك الأعداء الظالمين كقوله {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ونظيره قوله في [سورة العنكبوت: 45] {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقوله في آخر هذه السورة [93] {وَقُلِ الْحَمْدُ
(19/281)

لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ} الآية. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحمد الله على ذلك باعتبار ما أفاده سوق تلك القصص من الإيماء إلى وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه. فقوله {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء حمد الله. وقد تقدمت صيغة الحمد في أول الفاتحة.
وعطف على المأمور بأن يقوله من الحمد أمر بان يتبعه بالسلام على الرسل الذين سبقوه قدرا لقدر ما تجشموه في نشر الدين الحق.
وأصل {سَلامٌ} سلمت سلاما، مقصود منه الإنشاء فحذف الفعل وأقيم مفعوله المطلق بدلا عنه. وعدل عن نصب المفعول المطلق إلى تصييره مبتدأ مرفوعا للدلالة على الثبات الدوام كما تقدم عند قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في أول [سورة الفاتحة: 2].
والسلام في الأصل اسم يقوله القائل لمن يلاقيه بلفظ: سلام عليك، أو السلام عليك. ومعناه سلامة وأمن ثابت لك لا نكول فيه، لما تؤذن به "على" من الاستعلاء المجازي المراد به التمكن كما في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} .
وأصل المقصود منه هو التأمين عند اللقاء إذ قد تكون بين المتلاقين إحن أو يكون من أحدهما إغراء بالآخر، فكان لفظ "السلام عليك" كالعهد بالأمان. ثم لما كانت المفاتحة بذلك تدل على الابتداء بالإكرام والتلطف عند اللقاء ونية الإعانة والقرى، شاع إطلاق كلمة: السلام عليك، ونحوها عند قصد الإعراب عن التلطف والتكريم وتنوسي ما فيها من معنى بذل الأمن والسلامة، فصار الناس يتقاولونها في غير مظان الريبة والمخافة فشاعت في العرب في أحيائهم وبيوتهم وصارت بمنزلة الدعاء الذي هو إعراب عن إضمار الخير للمدعو له بالسلامة في حياته. فلذلك قال تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} كما تقدم في سورة النور. وصار قول: السلام، بمنزلة قول: حياك الله، ولكنهم خصوا كلمة "حياك الله" بملوكهم وعظمائهم فانتقلت كلمة "السلام عليكم" بهذا إلى طور آخر من أطوار استعمالها من عهد الجاهلية وقد قيل إنها كانت تحية للبشر من عهد آدم.
ثم ذكر القرآن السلام من عند الله تعالى على معنى كونه معاملة منه سبحانه بكرامة الثناء وحسن الذكر للذين رضي الله عنهم من عباده في الدنيا كقوله حكاية عن عيسى إذ أنطقه بقوله {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ} . وكذلك في الآخرة وما في معناها من أحوال الأرواح بعد الموت كقوله عن عيسى {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} ، وقوله في أهل الجنة {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 57، 58].
(19/282)

وجاء في القرآن السلام على خمسة من الأنبياء في سورة الصافات. وأيضا أمر الله الأمة بالسلام على رسولها فقال {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي قولوا: السلام عليك أيها النبي لأن مادة التفعيل قد يؤتى بها للدلالة على قول منحوت في صيغة التفعيل فقوله {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} معناه: قولوا كلمة السلام. مثل بسمل، إذا قال: بسم الله، وكبر، إذا قال: الله أكبر. وفي الحديث "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين" .
ومعنى {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} إنشاء طلب من الله أن يسلم على أحد المصطفين، أي أن يجعل لهم ذكرا حسنا في الملأ الأعلى.
فإذا قال القائل: السلام على فلان، وفلان غائب أو في حكم الغائب كان ذلك قرينة على أن المقصود الدعاء له بسلام من الله عليه. فقد أزيل منه معنى التحية لا محالة وتعين للدعاء، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على أن يقولوا في التشهد: السلام على الله السلام على النبي السلام على فلان وفلان. قال لهم "إن الله هو السلام" أي لا معنى للسلام على الله في مقام الدعاء لأن الله هو المدعو بأن يسلم على من يطلب له ذلك.
فلما أمر تعالى في هذه السورة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فقد عين له هذه الجملة ليقولها يسأل من الله أن يكرم عباده الذين اصطفى بالثناء عليهم في الملأ الأعلى وحسن الذكر إذ قصارى ما يستطيعه الحاضر من جزاء الغائب على حسن صنيعه أن يبتهل إلى الله أن ينفحه بالكرامة.
والعباد الذين اصطفاهم الله في مقدمتهم الرسل والأنبياء ويشمل ذلك الصالحين من عباده كما في صيغة التشهد: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وسيأتي الكلام على التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب.
{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}
هذا مما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول فأمر أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} تمهيدا لقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} لأن العباد الذين اصطفاهم الله جاؤوا كلهم بحاصل هذه الجملة. وأمر أن يشرع في الاستدلال على مسامع
(19/283)

المشركين فيقول لهم هذا الكلام، بقرينة قوله {أَمَّا يُشْرِكُونَ} بصيغة الخطاب في قراءة الجمهور، ولأن المناسب للاستفهام أن يكون موجها إلى الذين أشركوا بالله ما لا يخلق ولا يرزق ولا يفيض النعم ولا يستجيب الدعاء، فليس هذا لقصد إثبات التوحيد للمسلمين.
والاستفهام مستعمل في الإلجاء وإلزام المخاطب بالإقرار بالحق وتنبيهه على خطئه. وهذا دليل إجمالي يقصد به ابتداء النظر في التحقيق بالإلهية والعبادة. فهذا من قبيل ما قال الباقلاني وإمام الحرمين وابن فورك إن أول الواجبات أول النظر أو القصد إلى النظر ثم تأتي بعده الأدلة التفصيلية، وقد ناسب إجماله أنه دليل جامع لما يأتي من التفاصيل فلذلك جيء فيه بالاسم الجامع لمعاني الصفات كلها، وهو اسم الجلالة. فقيل: {آللَّهُ خَيْرٌ} . وجيء فيما بعد بالاسم الموصول لما في صلاته من الصفات.
وجاء {خَيْرٌ} بصيغة التفضيل لقصد مجاراة معتقدهم أن أصنامهم شركاء الله في الإلهية بحيث كان لهم حظ وافر من الخير في زعمهم، فعبر بـ {خَيْرٌ} لإيهام أن المقام لإظهار رجحان إلهية الله تعالى على أصنامهم استدراجا لهم في التنبيه على الخطأ مع التهكم بهم إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. والعاقل لا يؤثر شيئا على شيء إلا لداع يدعو إلى إيثاره، ففي هذا الاستفهام عن الأفضل في الخير تنبيه لهم على الخطأ المفرط والجهل المورط لتنفتح بصائرهم إلى الحق إن أرادوا اهتداء. والمعنى: الله الحقيق بالإلهية أم ما تشركون معه.
والاستفهام على حقيقته بقرينة وجود {أَمْ} المعادلة للهمزة فإن التهكم يبنى على الاستعمال الحقيقي.
وهذا الكلام كالمقدمة للأدلة الآتية جميعها على هذا الدليل الإجمالي كما ستعلمه.
وقرأ الجمهور {تُشْرِكُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بياء الغيبة فيكون القول الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم محكيا بالمعنى روعي فيه غيبة المشركين في مقام الخطاب بالأمر.
و {مَا} موصولة والعائد محذوف. والتقدير: ما يشركونها إياه، أي أصنامكم.
[60] {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ
(19/284)

ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون}
{أَمْ} منقطعة بمعنى {بَلْ} للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها لأن {أَمْ} لا تفارق معنى الاستفهام. انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري، ومن المقدمة الإجمالية وهي قوله {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال. عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته. فهو استدلال مشوب بامتنان لأنه ذكرهم بخلق السماوات والأرض فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة، وبسابق رحمته، كما عددها في موضع آخر عليهم بقوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
و {مِنْ} للاستفهام. وهي مبتدأ والخبر جملة {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ..} الخ وهو استفهام تقريري على أن الله إله واحد لا شريك له، ولا تقدير في الكلام. وذهب الزمخشري وجميع متابعيه إلى أن {مِنْ} موصولة وأن خبرها محذوف دل عليه قوله فيما تقدم {آللَّهُ خَيْرٌ} [النمل: 59] وأن بعد "أم" همزة استفهام محذوفة، والتقدير: بل أمن خلق السماوات الخ خير أم ما تشركون. وهو تفسير لا داعي إليه ولا يناسب معنى الإضراب لأنه يكون في جملة الغرض الأول على ما فسر به في "الكشاف" فلا يجدر به إضراب الانتقال.
فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله، وهو مشوب بتوبيخ، فلذلك ذيل بقوله {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} كما سيأتي، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل.
والخطاب بـ {لَكُمْ} موجه إلى المشركين للتعويض بأنهم ما شكروا نعمة الله.
وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغترارا بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتقاء بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما، ولذلك جمع بين قوله {وَأَنْزَلْنَا} وقوله {فَأَنْبَتْنَا} تنبيها
(19/285)

على إزالة الشبهة.
ونون الجمع في {أَنْبَتْنَا} التفات من الغيبة إلى الحضور. ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه.
والإنبات: تكوين النبات.
والحدائق: جمع حديقة وهي البستان والجنة التي فيها نخل وعنب. سميت حديقة لأنهم كانوا يحدقون بها حائطا يمنع الداخل إليها صونا للعنب لأنه ليس كالنخل الذي يعسر اجتناء ثمره لارتفاع شجره فهي بمعنى: محدق بها. ولا تطلق الحديقة إلا على ذلك.
والبهجة: حسن المنظر لأن الناظر يبتهج به.
ومعنى {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق، فاللام في {لَكُمْ} للملك و {أَنْ تُنْبِتُوا} اسم {كَانَ} و {لَكُمْ} خبرها. وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك.
وجملة {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه.
والاستفهام إنكاري. و {بَلْ} للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى "لكن" باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتقاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ} وقوله {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل، فهم يعدلون بالله غيره، أي يجعلون غيره عديلا مثيلا له في الإلهية مع أن غيره عاجز عن ذلك فيكون {يَعْدِلُونَ} من عدل الذي يتعدى بالباء، أو يعدلون عن الحق من عدل الذي يعدى بـ {عَنْ} .
وسئل بعض عن العرب عن الحجاج فقال: "قاسط عادل". فظنوه أثنى عليه فبلغت كلمته للحجاج، فقال: أراد قوله تعالى {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي وذلك قرينة على أن المراد بـ"عادل" أنه عادل عن الحق.
(19/286)

وأيا ما كان فالمقصود توبيخهم على الإشراك مع وضوح دلالية خلق السماوات والأرض وما ينزل من السماء إلى الأرض من الماء.
ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة عدولا عن الحق الواضح قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
والإخبار عنهم بالمضارع لإفادة أنهم مستمرون على شركهم لم يستنيروا بدليل العقل ولا أقلعوا بعد التذكير بالدلائل. وفي الإخبار عنهم بأنهم قوم إيماء إلى تمكن صفة العدول عن الحق منهم حتى كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم غير مرة.
[61] {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} {أَمْ} للإضراب الانتقالي مثل أختها السابقة. وهذا انتقال من الاستدلال المشوب بالامتنان إلى الاستدلال المجرد بدلائل قدرته وعلمه بأن خلق المخلوقات العظيمة وبتدبيره نظامها حتى لا يطغى بعضها على بعض فيختل نظام الجميع.
ولأجل كون الغرض من هذا الاستدلال إثبات عظم القدرة وحكمة الصنع لم يجيء خلاله بخطاب للمشركين كما جاء في قوله في الآية قبلها {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل: 60] الآية، وإن كان هذا الصنع العجيب لا يخلو من لطف بالمخلوقات أراده خالقها، ولكن ذلك غير مقصود بالقصد الأول من سوق الدليل هنا.
والقرار: مصدر قر، إذا ثبت وسكن. ووصف الأرض به للمغالبة، أي ذات قرار. والمعنى جعل الأرض ثابتة قارة غير مضطربة. وهذا تدبير عجيب ولا يدرك تمام هذا الصنع العجيب إلا عند العلم بأن هذه الأرض سابحة في الهواء متحركة في كل لحظة وهي مع ذلك قارة فيما يبدو لسكانها فهذا تدبير أعجب، وفيه مع ذلك رحمة ونعمة، ولولا قرارها لكان الناس عليها متزلزلين مضطربين ولكانت أشغالهم معنتة لهم.
ومع جعلها قرارا شق فيها الأنهار فجعلها خلالها. وخلال الشيء: منفرج ما بين أجزائه. والأنهار تشق الأرض في أخاديد فتجري خلالها الأرض.
(19/287)

والرواسي: الجبال، جمع راس وهو الثابت.واللام في {لَهَا} لام العلة، أي الرواسي لأجلها أي لفائدتها،فإن في تكوين الجبال حكمة لدفع الملامسة عن الأرض ليكون سيرها في الكرة الهوائية معدلا غير شديد السرعة وبذلك دوام سيرها.
وجعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين: أحدهما الآخر عن الاختلاط به، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء المالح والماء العذب. فالحاجز حاجز من طبعهما وليس جسما آخر فاصلا بينهما، وتقدم في سورة النحل.
وهذا الجعل كناية عن خلق البحرين أيضا لأن الحجز بينهما يقتضي خلقهما وخلق الملوحة والعذوبة فيهما.
ثم ذيل بالاستفهام الإنكاري وبالاستدراك بجملة مماثلة لما ذيل به الاستدلال الذي قبلها على طريقة التكرير تعديدا للإنكار وتمهيدا للتوبيخ بقوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . وأوثر هنا نفي صفة العلم عن أكثر المشركين لقلة من ينظر في دقائق هذه المصنوعات وخصائصها منهم فإن اعتياد مشاهدتها من أول نشأة الناظر يذهله عما فيها من دلائل بديع الصنع. فأكثر المشركين يجهل ذلك ولا يهتدي بما فيه، أما المؤمنون فقد نبههم القرآن إلى ذلك فهم يقرأون آياته المتكرر فيها الاستدلال والنظر.
وهذه الدلائل لا تخلو عن نعمة من ورائها كما علمته آنفا ولكنها سيقت هنا لإرادة الاستدلال لا للامتنان.
[62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير، وحال انتياب السوء، وحال التصرف في الأرض ومنافعها. فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر. وهي: حالة الاحتياج، وحالة البؤس، وحالة الانتفاع.
فالأولى هي المضمنة في قوله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء
(19/288)

محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوده من المعاوضات، وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها.
والاضطرار: افتعال من الضرورة لا من الضر. وتقديره: أنه نالته الضرورة فطاوعها. وليس له فعل مجرد وإنما يقال: اضطره كذا إلى كذا.
واللام في {الْمُضْطَرَّ} لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني، أي يجيب فردا معهودا في الذهن بحالة الاضطرار.
والإجابة: إعطاء الأمر المسؤول. والمعنى: أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضا ويؤخر بعضا.
وحالة البؤس هي المشار إليها بقوله {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} .
والكشف: أصله رفع الغشاء، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس.
ورمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء. وهو أيضا مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء. والمعنى: من يزيل السوء. وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والعرض.
والمعنى: إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضا فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه.
وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة. والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى، والله أعلم بذلك.
وحالة الانتفاع هي المشار إليها بقوله {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير: مالكين لها، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها. وأفاد خلفاء بطريق الالتزام
(19/289)

معنى الوراثة لمن سبق، فكل حي هو خلف عن سلفه.والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلا بعد جيل. وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} . وهذه مرتبة التحسيني.
وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا وهو من مسالك العلة في أصول الفقه.
ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها.
ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريرا لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} .
وانتصب {قليلا} على الحال من ضمير الخطاب في قوله {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم.
والتذكر: من الذكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم، أي قليلا استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره. فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالا. و {مَا} مصدرية والمصدر هو فاعل {قَلِيلاً} .
والقليل هنا مكنى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم. وهذه الكناية تمليح وتعريض، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل.
وأصل {تذكرون} تتذكرون فأدغمت تاء التفعيل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفا وهو إدغام سماعي.
وقرأ الجمهور {تَذَكَّرُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم.
(19/290)

[63] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
{بَلْ} لإضراب الانتقال من نوع دلائل التصرف في أحوال عامة الناس إلى دلائل التصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر لما في خلالها من النعمة والامتنان.
ذكر الهداية في ظلمات الليل في البر والبحر. وإضافة الظلمات إلى البر والبحر على معنى {فِي} . والهدى في هذه الظلمات بسير النجوم كما قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . فالله الهادي للسير في تلك الظلمات بأن خلق النجوم على نظام صالح للهداية في ذلك، وبأن ركب في الناس مدارك للمعرفة بإرصاد سيرها وصعودها وهبوطها، وهداهم أيضا بمهاب الرياح، وخولهم معرفة اختلافها بإحساس جفافها ورطوبتها، وحرارتها وبردها.
وبهذه المناسبة أدمج الامتنان بفوائد الرياح في إثارة السحاب الذي به المطر وهو المعني برحمة الله. وإرساله الرياح هو خلق أسباب تكونها.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {نَشْراً} بضمتين وبالنون وقرأه ابن عامر بضم فسكون. وقرأ عاصم {بُشْراً} بالموحدة وبسكون الشين مع التنوين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين. وقد تقدم في سورة الفرقان: 48] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، وتقدم في [سورة الأعراف: 57] {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، وتوجيه هذه القراءات هنالك.
وذيل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا ينازعون في أنه من تصرف الله فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله وذلك تصريح بما أشارت إليه التذييلات السابقة.
[64] {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة. وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد. والاستفهام
(19/291)

تقريري لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم.
وأدمج في خلال الاستفهام قوله {ثُمَّ يُعِيدُهُ} لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم الى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها. ولما كان إعادة الخلق محل جدل وكان إدماجها إيقاظا وتذكير أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم.
وإذا قد كانوا منكرين للبعث ذيلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث.
والبرهان: الحجة. وتقدم عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في آخر [سورة النساء: 174].
وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المعجزين عليه هو برهان عدم البعث، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع. والشيء الواقع لا يعدم دليلا عليه.
وجماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصلت ذلك بآيات {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السماوات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس. ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها، وهذا ملحق بالمشاهدات.
وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار.
وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض، وسخر لهم التصرف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر. وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو.
وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في
(19/292)

الأرض.
[65 - 66] {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .
لما أبطلت الآيات السابقة إلهية أصنام المشركين بالأدلة المتظاهرة فانقطع دابر عقيدة الإشراك ثني عنان الإبطال إلى أثر من آثار الشرك وهو ادعاء علم الغيب بالكهانة وإخبار الجن، كما كان يزعمه الكهان والعرافون وسدنة الأصنام. ويؤمن بذلك المشركون. وفي معالم التنزيل وغيره نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة فما كان سؤالهم عن ذلك إلا لظنهم أن ادعاء العلم بوقتها من شأن النبوة توصلا لحجد النبوة إن لم يعين لهم وقت الساعة فأبطلت الآية هذه المزاعم إبطالا عاما معياره الاستثناء بقوله {إِلَّا اللَّهُ} . وهو عام مراد به الخصوص أعني خصوص الكهان وسدنة بيوت الأصنام. وإنما سلك مسلك العموم لإبطال ما عسى أن يزعم من ذلك، ولأن العموم أكثر فائدة وأوجز، فإن ذلك حال أهل الشرك من بين من في السماوات والأرض. فالقصد هنا تزييف آثار الشرك وهو الكهانة ونحوها. وإذا قد كانت المخلوقات لا يعدون أن يكونوا من أهل السماوات أو من أهل الأرض لانحصار عوالم الموجودات في ذلك كان قوله {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ} في قوة لا يعلم أحد الغيب، ولكن أطنب الكلام لقصد التنصيص على تعميم المخلوقات كلها فإن مقام علم العقيدة مقام بيان يناسبه الإطناب.
واستثناء {إِلَّا اللَّهُ} منه لتأويل {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بمعنى: أحد، فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي. فحق المستثنى أن يكون بدلا من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعا ولو كان الاستثناء منقطعا لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى.
وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى. ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعا وقوفا عند ظاهر صلة {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأن الله ينزه عن الحلول في السماء والأرض.
وأما من يتفضل الله عليه بأن يظهره على الغيب فلذلك داخل في علم الله قال تعالى
(19/293)

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]. فأضاف "غيب" إلى ضمير الجلالة.
وأردف هذا الخبر بإدماج انتفاء علم هؤلاء الزاعمين علم الغيب أنهم لا يشعرون بوقت بعثهم بل جحدوا وقوعه إثارة للتذكير بالبعث لشدة عناية القرآن بإثباته وتسفيه الذين أنكره. فلذلك موقع قوله {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، أي أن الذين يزعمون علم الغيب ما يشعرون بوقت بعثهم.
و {أَيَّانَ} اسم استفهام عن الزمان وهو معلق فعل {يَشْعُرُونَ} عن العمل في مفعوليه. وهذا تورك وتعيير للمشركين فإنهم لا يؤمنون بالبعث بلة شعورهم بوقته.
و {بَلْ} للإضراب الانتقالي من الإخبار عنهم بـ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وهو ارتقاء إلى ما هو أغرب وأشد ارتقاء من تعييرهم بعدم شعورهم بوقت بعثهم إلى وصف علمهم بالآخرة التي البعث من أول أحوالها وهو الواسطة بينها وبين الدنيا بأنه علم متدارك أو مدرك.
وقرأ الجمهور {أدارك} بهمز وصل في أوله وتشديد الدال على أن أصله "تدارك" فأدغمت تاء التفاعل في الدال لقرب مخرجيها بعد أن سكنت واجتلب همز الوصل للنطق بالساكن. قال الفراء وشمر: وهو تفاعل من الدرك بفتحتين وهو اللحاق. وقد امتلكت اللغويين والمفسرين حيرة في تصوير معنى الآية على هذه القراءة تثار منه حيرة للناظر في توجيه الإضرابين اللذين بعد هذا الإضراب وكيف يكونان ارتقاء على مضمون هذا الانتقال، وذكروا وجوها مثقلة بالتكلف.
والذي أراه في تفسيرها على هذا الاعتبار اللغوي أن معنى التدارك هو أن علم بعضهم لحق علم بعض آخر في أمر الآخرة لأن العلم، وهو جنس، لما أضيف إلى ضمير الجماعة حصل من معناه علوم عديدة بعدد أصنام الجماعات التي هي مدلول الضمير فصار المعنى: تداركت علومهم بعضها بعضا.
وذلك صالح لمعنيين: أولهما أن يكون التدارك وهو التلاحق الذي هو استعمال مجازي يساوي الحقيقة، أي تداركت علوم الحاضرين مع علوم أسلافهم، أي تلاحقت وتتابعت فتلقى الخلف عن السلف علمهم في الآخرة وتقلدوها عن غير بصيرة ولا نظر، وذلك أنهم أنكروا البعث ويشعر لذلك قوله تعالى عقبه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً
(19/294)

وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وقريب من هذا قوله تعالى في [سورة المؤمنين: 81] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} .
الوجه الثاني أن يكون التدارك مستعملا مجازا مرسلا في الاختلاط والاضطراب لأن التدارك والتلاحق يلزمه التداخل كما إذا لحقت جماعة من الناس جماعة أخرى أي لم يرسوا على أمر واختلفت أقوالهم اختلافا يؤذن بتناقضها، فهم ينفون البعث ثم يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله من العذاب، وهذا يقتضي إثبات البعث ولكنهم لا يعذبون ثم يتزودون تارة للآخرة ببعض أعمالهم التي منها: أنهم كانوا يحبسون الراحة على قبر صاحبها ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيزعمون أن صاحبها يركبها ويسمونها البلية فلذلك من اضطراب أمرهم في الآخرة.
وفعل المضي على هذين الوجهين على أصله. وحرف {فِي} على هاذين الوجهين في تفسيرها على قراءة الجمهور مستعمل في السببية، أي بسبب الآخرة.
ويجوز وجه آخر وهو أن يكون {ادَّارَكَ} مبالغة في "أدرك" ومفعوله محذوفا تقديره: إدراكهم، أي حصل لهم علمهم بوقت بعثهم في اليوم الذي يبعثون فيه، أي يومئذ يوقنون بالبعث، فيكون فعل المضي مستعملا في معنى التحقق، ويكون حرف {فِي} على اصله من الظرفية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {بل أدرك} بهمز قطع وسكون الدال، ومعناه؛ انتهى علمهم في الآخرة. يقال أدرك، إذا فني. وفي ثبوت معنى فني لفعل أدرك خلاف بين أئمة اللغة فقد أثبته ابن المظفر في رواية شمر عنه قال شمر: ولم أسمعه لغيره، وأثبته الزمخشري في الكشاف في هذه الآية وصاحب القاموس. وقال أبو منصور: هذا غير صحيح في لغة العرب وما علمت أحدا قال: أدرك الشيء إذا فني. وأقول قد ثبت في اللغة: أدركت الثمار، وإذا انتهى نضجها. ونسبه في تاج العروس لليث ولأبن جني وحسبك بإثبات هؤلاء الإثبات. قال الكواشي في تبصرة المتذكر: المعنى فني علمهم في الآخرة من أدركت الفاكهة، إذا بلغت النضج وذلك مؤذن بفنائها وزوالها.
فحاصل المعنى على قراءة الجمهور {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وقد تلقى بعضهم
(19/295)

عن بعض ما يعلمون في شأن الآخرة وهو ما اشتهر عنهم من إنكار الحياة الآخرة، أو قد اضطرب ما يعلمونه في شأن الآخرة وأنهم سيعلمون ذلك لا محالة في يوم الدار الآخرة.
وحاصل المعنى على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر: ما يشعرون أيان يبعثون فإنهم لا علم لهم بالحياة الآخرة، أي جهلوا الحياة الآخرة.
أما عدد القراءات الشاذة في هذه الجملة فبلغت عشرا.
وأما جملة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا} فهو إضراب انتقال للارتقاء من كونهم اضطرب علمهم في الآخرة، أو تقلد خلفهم ما لقنه سلفهم، أو من أنهم انتفى علمهم في الآخرة إلى أن ذلك الاضطراب في العلم قد أثار فيهم شكا من وقوع الآخرة. و"من" للابتداء المجازي، أي في شك ناشئ عن أمر الآخرة. وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات الخبر ودوامه، والظرفية للدلالة على إحاطة الشك بهم.
وجملة {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ارتقاء ثالث وهو آخر درجات الارتقاء في إثبات ضلالهم وهو أنهم عميان عن شأن الآخرة.
و {عَمُونَ} : جمع عم بالتنوين وهو فعل من العمى، صاغوا له مثال المبالغة للدلالة على شدة العمى، وهو تشبيه عدم العلم بالعمى، وعادم العلم بالأعمى. وقال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
...
ولكنني عن علم ما في غد عم
فشبه ضلالهم عن البعث بالعمى في عدم الاهتداء إلى المطلوب تشبيه المعقول بالمحسوس.
و"من" في قوله {مِنْهَا عَمُونَ} للابتداء المجازي، جعل عماهم وضلالهم في إثبات الآخرة كأنه ناشئ لهم من الآخرة إذ هي سبب عماهم، أي إنكارها سبب ضلالهم. وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: من إنكار وجودها عمون، فالمجرور متعلق بـ {عَمُونَ} . وقدم على متعلقة للاهتمام بهذا المتعلق وللرعاية على الفاصلة. وصيغت الجملة الاسمية للدلالة على الثبات كما في قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} .
وترتيب هذه الإضرابات الثلاثة ترتيب لتنزيل أحوالهم؛ فوصفوا أولا بأنهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم تلقفوا في شأن الآخرة التي البعث من شؤونها علما مضطربا أو جهلا فخبطوا في شك ومرية، فأعقبهم عمى وضلالة بحيث إن هذه الانتقالات مندرجة متصاعدة حتى لو قيل: بل أدارك علمهم في الآخرة فهم في شك منها فهم منها
(19/296)

عمون لحصل المراد. ولكن جاءت طريقة التدرج بالإضراب الانتقالي أجزل وأبهج وأروع وأدل على أن كل من هذه الأحوال المرتبة جدير بأن يعتبر فيه المعتبر باستقلاله لا بكونه متفرعا على ما قبله، وهذا البيان هو ما أشرت إليه آنفا عند الكلام على قراءة الجمهور {أدارك} من خفاء توجيه الإضرابين اللذين بعد الإضراب الأول.
وضمائر جمع الغائبين في قوله {يَشْعُرُونَ، يُبْعَثُونَ، عِلْمُهُمْ، هُمْ فِي شَكٍّ، هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} عائدة إلى "من" الموصولة في قوله تعالى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . و"من" هذه وإن كانت من صيغ العموم فالضمائر المذكورة عائدة إليها بتخصيص عمومها ببعض من في الأرض وهم الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيب من الكهان والعرافين وسدنة الأصنام الذين يستقسمون للناس بالأزلام ، وهو تخصيص لفظي من دلالة السياق وهو من قسم المخصص المنفصل اللفظي. والخلاف الواقع بين علماء الأصول في اعتبار عود الضمير إلى بعض أفراد العام مخصصا للعموم يقرب من أن يكون خلافا لفظيا. الضمير إلى أفراد العام مخصصا للعموم يقرب من أن يكون خلافا لفظيا. ومنه قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فإن ضمير {بُعُولَتُهُنَّ} عائد إلى المطلقات الرجعيات من قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] الذي هو عام للرجعيات وغيرهن.
وبهذا تعلم أن التعبير بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا ليس من الإظهار في مقام الإضمار لأن الذين كفروا أعم من ما صدق "من" في قوله {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ} .
[67 - 68] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
أعقب وصف عماية الزاعمين علم الغيب بذكر شبهتهم التي أرتهم البعث مستحيل الوقوع، ولذلك أسند القول هنا إلى جميع الذين كفروا دون خصوص الذين يزعمون علم الغيب، ولذلك عطف الجملة لأنها غايرت التي قبلها بأنها أعم.
والتعبير عنهم باسم الموصول لما في الموصول من الإيماء إلى علة قولهم هذه المقالة وهي ما أفادته الصلة من كونهم كافرين فكأنه قيل: وقالوا بكفرهم أإذا كنا ترابا..إلى آخره استفهاما بمعنى الإنكار.
(19/297)

أتوا بالإنكار في صورة الاستفهام لتجهيل معتقد ذلك وتعجيزه عن الجواب بزعمهم. والتأكيد بـ {إِنَّ} لمجاراة كلام المردود عليه بالإنكار. والتأكيد تهكم.
وقرأ نافع وأبو جعفر {إِذَا كُنَّا تُرَاباً} بهمزة واحدة هي همزة {إِذَا} على تقدير همزة استفهام محذوفة للتخفيف من اجتماع همزتين، أو بجعل {إذا} ظرفا مقدما على عامله والمستفهم عنه هو {إِنَّا لَمُخْرَجُونَ} .
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بهمزتين في {أَإِذَا - وأَإِنَّا} على اعتبار تكرير همزة الاستفهام في الثانية لتأكيد الأولى، إلا أن أبا عمرو خفف الثانية من الهمزتين في الموضعين وعاصما وحمزة حققاهما. وهؤلاء كلهم حذفوا نون المتكلم بعد نون "إن". وقرأ ابن عامر والكسائي {أَإِذَا} بهمزتين و {إِنَّنَا} بهمزة واحدة وبنونين اكتفاء بالهمزة الأولى للاستفهام، وكلها استعمال فصيح.
وقد تقدم في سورة المؤمنين حكاية مثل هذه المقالة عن الذين كفروا إلا أن اسم الإشارة الأول وقع مؤخرا عن {نَحْنُ} في سورة المؤمنين ووقع مقدما عليه هنا، وتقديمه وتأخيره سواء في اصل المعنى لأنه مفعول ثان لـ {وُعِدْنَا} وقع بعد نائب الفاعل في الآيتين. وإنما يتجه أن يسأل عن تقديمه على توكيد الضمير الواقع نائبا على الفاعل. وقد ناطها في الكشاف بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسوق الكلام لأجله. وبينه السكاكي في المفتاح بأن ما وقع في سورة المؤمنين كان بوضع المنصوب بعد المرفوع وذلك موضعه. وأما ما في سورة النمل فقدم المنصوب على المرفوع لكونه فيها أهم، يدلك على ذلك أن الذي قبله {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} والذي قبل آية سورة المؤمنين {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً} فالجهة المنظور فيها هناك "في سورة المؤمنين" هي كون أنفسهم ترابا وعظاما، والجهة المنظور فيها هنا في سورة النمل هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابا لا جزء هناك من بناهم "جمع بنية" على _أي باقيا_ صورة نفسه "أي على صورته التي كان عليها وهو حي". ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره فصيره هذا العارض أهم اهـ .
وحاصل الكلام أن كل آية حكت أسلوبا من مقالهم {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ... قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا} [المؤمنين: 81 - 82] {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} .
(19/298)

وبعد فقد حصل في الاختلاف بين أسلوب الآيتين تفنن كما تقدم في المقدمة السابعة.
والأساطير: جمع أسطورة، وهي القصة والحكاية. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في [سورة النحل: 24]. والمعنى: ما هذا إلا كلام معاد قاله الأولون وسطروه وتلقفه من جاء بعدهم ولم يقع شيء منه.
[69] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم هذه الكلمة ولذلك فصل فعل {قُلْ} وتقدم نظيره في سورة الأنعام. والمناسبة في الموضعين هي الموعظة بحال المكذبين لأن إنكارهم البعث تكذيب للرسول وإجرام. والوعيد بأن يصيبهم ما أصابهم إلا أنها هنالك عطفت بـ {ثُمَّ انْظُرُوا} وهنا بالفاء {فَانْظُرُوا} وهما متئايلان. وذكر هنالك عاقبة المكذبين وذكر هنا عاقبة الجرمين: والمكذبون مجرمون. والاختلاف بين الحكايتين للتفنن كما قدمناه في المقدمة السابعة.
[70] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}
كانت الرحمة غالبة على النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة على الأمة من خلاله، فلما أنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به. وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به، فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
والضيق: بفتح الضاد وكسرها، قرأه الجمهور بالفتح، وابن كثير بالكسر. وحقيقته: عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها. وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره. وقد تقدم عند قوله {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} في آخر [سورة النحل: 127].
والظرفية مجازية، أي لا نكن ملتبسا ومحوطا بشيء من الضيق بسبب مكرهم.
(19/299)

والمكر تقدم عند قوله تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في [سورة آل عمران: 54]. و"ما" مصدرية، أي من مكرهم.
[71 - 72] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} عطف على {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} . والتعبير هنا بالمضارع للدلالة على تجدد ذلك القول منهم، أي لم يزالوا يقولون.
والمراد بالوعد ما أنذروا به من العقاب. والاستفهام عن زمانه، وهو استفهام تهكم منهم بقرينة قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وأمر الله نبيه بالجواب عن قولهم لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أطلعه على شيء منه من عباده المصطفين.
والجواب جار على الأسلوب الحكيم بحمل استفهام على حقيقة الاستفهام تنبيها على أن حقهم أن يسألوا عن وقت العيد ليقدموه بالإيمان.
و {عَسَى} للرجاء، وهو مستعمل في التقريب مع التحقيق.
و {رَدِفَ} تبع بقرب. وعدي باللام هنا مع أنه صالح للتعدية بنفسه لتضمينه معنى "اقترب" أو اللام للتوكيد مثل شكر له. والمعنى: رجاء أن يكون ذلك قريب الزمن. وهذا إشارة إلى ما سيحل بهم يوم بدر.
وحذف متعلق {تَسْتَعْجِلُونَ} أي تستعجلون به.
[73] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}
موقع هذا موقع الاستدراك على قوله {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] أي أن تأخير العذاب عنهم هو من فضل الله عليهم. وهذا خبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها على أن تأخير الوعيد أثر من آثار رحمة الله لأن أزمنة التأخير أزمنة إمهال فهم فيها بنعمة، لأن الله ذو فضل على الناس كلهم. وقد كنا قدمنا مسألة أن نعمة الكافر نعمة حقيقية أو ليست نعمة والخلاف في ذلك بين الأشعري ولما تريدي.
والتعبير بـ {ذُو فَضْلٍ} يدل على أن الفضل من شؤونه. وتنكير {فَضْلٍ} للتعظيم.
(19/300)

والتأكيد بـ {إِنَّ} واللام منظور فيه إلى حال الناس لا إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم، فالتأكيد واقع موقع التعويض بهم بقرينة قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} .
و {لَكِنَّ} استدراك ناشئ عن عموم الفضل منه تعالى فإن عمومه وتكرره يستحق بأن يعلمه الناس فيشكروه ولكن أكثر الناس لا يشكرون كهؤلاء الذين قالوا {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} فإنهم يستعجلون العذاب تهكما وتعجيزا في زعمهم غير قادرين قدر نعمة الإهمال.
[74] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
موقع هذا موقع الاستئناف البياني لأن قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [النمل: 73] يثير سؤالا في نفوس المؤمنين أن يقولوا: إن هؤلاء المكذبين قد أضمروا المكر وأعلنوا الاستهزاء فحالهم لا يقتضي إمهالهم? فيجاب بأن الذي أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مع علمه بهم لحكمة يعلمها.
وفيه إشارة إلى أنهم يكنون أشياء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، منها: أنهم يتربصون بهم الدوائر، وأنهم تخامر نفوسهم خواطر إخراجه وإخراج المؤمنين. وهذا الاستئناف لما كان ذا جهة من معنى وصف الله بإحاطة العلم عطف جملته على جملة وصف الله بالفضل، فحصل بالعطف غرض ثان مهم، وحصل معنى الاستئناف البياني من مضمون الجملة.
وأما التوكيد بـ {إِنَّ} فهو على نحو توكيد الجملة التي قبله. ولك أن تجعله لتنزيل السائل منزلة المتردد وذلك تلويح بالعتاب.
و {تَكُنْ} تخفي وهو من "أكن" إذا جعل شيء كانا، أي حاصلا في كن. والكن: المسكن. وإسناد {تَكُنْ} إلى الصدور مجاز عقلي باعتبار أن الصدور مكانه.والإعلان: الإظهار.
[75] {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
عطف على جملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وهو في معنى التذييل للجملة المذكورة لأنها منها علم الله بضمائرهم فذيل ذلك بأن الله يعلم كل غائبة في السماء والأرض.
وإنما جاء معطوفا لأنه جدير بالاستقلال بذاته من حيث إنه تعليم لصفة علم الله
(19/301)

تعالى وتنبيه لهم من غفلتهم عن إحاطة علم الله لما تكن صدورهم وما يعلنون. والغائبة: اسم للشيء الغائب والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالتاء في العافية، والعاقبة، والفاتحة. وهو اسم مشتق من الغيب وهو ضد الحضور، والمراد: الغائبة عن علم الناس. استعمل الغيب في الخفاء مجازا مرسلا.
والكتاب يعبر به عن علم الله، استعبر له الكتاب لما فيه من التحقق وعدم قبول التغيير. ويجوز أن يكون مخلوقا غيبيا يسجل فيه ما سيحدث.
والمبين: المفصل، لأن الشيء المفصل يكون بينا واضحا. والمعنى: أن الله لا يعزب عن علمه حقيقة شيء مما خفي على العالمين. وذلك يقتضي أن كل ما يتلقاه الرسل من جانب الله تعالى فهو حق لا يحتمل أن يكون الأمر بخلافه. ومن ذلك ما كان الحديث فيه من أمر البعث الذي أنكره وكذبوا بما جاء فيه.
[76] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
إبطال لقول الذين كفروا {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 68]. ولهم مناسبة بقوله {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئا مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه.
ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطا من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فالمعنى: نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين، وتعليم لأهل الكتاب. وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق نفع للمسلمين، وأعرض عما دون ذلك. فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه. فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم
(19/302)

مما اختلفوا فيه.
والتأكيد بـ {إِنَّ} مثل ما تقدم في نظائره. وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم.
ومن مناسبة التنبيه على أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر ما هم فيه مختلفون، أن ما قصه مما جرى بين ملكة سبأ مع سليمان كان فيه مما يخالف ما في كتاب الملوك الأول وكتاب الأيام الثاني ففي ذينك الكتابين أن ملكة سبأ تحملت وجاءت إلى أورشليم من تلقاء نفسها محبة منها في الاطلاع على ما بلغ مسامعها من عظمة ملك سليمان وحكمته، وأنها بعد ضيافتها عند سليمان قفلت إلى مملكتها. وليس مما يصح في حكم العقل وشواهد التاريخ في تلك العصور أن ملكة عظيمة كملكة سبأ تعمد إلى الارتحال عن بلدها وتدخل بلد ملك آخر غير هائبة، لو لا أنها كانت مضطرة إلى ذلك بسياسة ارتكاب أخف الضرين إذ كان سليمان قد ألزمها بالدخول في دائرة نفوذ ملكه، فكان حضورها لديه استلاما واعترافا له بالسيادة بعد أن تنصلت من ذلك بتوجيه الهدية وبعد أن رأت العزل من سليمان على وجوه امتثال أمره.
ومن العجيب إهمال كتاب اليهود دعوة سليمان بلقيس إلى عقيدة التوحيد وهل يظن بنبي أن يقر الشرك على منتحليه.
[77] {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
هذا راجع إلى قوله في طالع السورة {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2] ذكر هنا لاستيعاب جهات هدي القرآن. أما كونه هدى للمؤمنين فظاهر، وأما كونه رحمة لهم فلأنهم لما اهتدوا به قد نالوا الفوز في الدنيا بصلاح نفوسهم واستقامة أعمالهم واجتماع كلمتهم، وفي الآخرة بالفوز بالجنة. والرسالة المحمدية وإن كانت رحمة للعالمين كلهم كما تقدم في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} في سورة الأنبياء: [107] فرحمته للمؤمنين أخص.
والتأكيد بـ {إِنَّ} منظور فيه إلى المعرض كما تقدم في قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [النمل: 73].
(19/303)

[78] {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}
لما سبق ذكر المشركين بطعنهم في القرآن وتكذيبهم بوعيده، وذكر بني إسرائيل بما يقتضي طعنهم فيه بأنه لمخالفة ما في كتبهم، وذكر المؤمنين بأنهم اهتدوا به وكان لهم رحمة فهم موقنون بما فيه، تمخض الكلام عن خلاصة هي افتراق الناس في القرآن فريقين: فريق طاعن، وفريق موقن، فلا جرم اقتضى ذلك حدوث تدافع بين الفريقين. وهو مما يثير في نفوس المؤمنين سؤالا عن مدى هذا التدافع، والتخالف بين الفريقين ومتى ينكشف الحق، فجاء قوله {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} استئنافا بيانيا فيعلم أن القضاء يقتضي مختلفين. وأن كلمة "بين" تقتضي متعددا، فأفاد أن الله يقضي بين المؤمنين والطاعنين فيه قضاء يبين المحق من المبطل. وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن استبطائهم النصر فإن النبي أول المؤمنين، وإنما تقلد المؤمنون ما أنبأهم به فالقضاء للمؤمنين قضاء له بادئ ذي بدء.
وفيه توجيه الخطاب إلى جناب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإسناد القضاء إلى الله في شأنه بعنوان أنه رب له إيماء بأن القضاء سيكون مرضيا له وللمؤمنين. فجعل الرسول في هذا الكلام بمقام المبلغ وجعل القضاء بين أمته مؤمنهم وكافرهم، وتعجيل لمسرة الرسول بهذا الإيماء.
وإذ قد أسند القضاء إلى الله وعلق به حكم مضاف إلى ضميره فقد تعين أن يكون المراد من المتعلق غير المتعلق به وذلك يلجئ: إما إلى تأويل معنى إضافة الحكم بما يخالف معنى إسناد القضاء إذا اعتبر اللفظان مترادفين لفظا ومعنى، فيكون ما تدل عليه الإضافة من اختصاص المضاف بالمضاف إليه مقصودا به ما اشتهر به المضاف باعتبار المضاف إليه. وذلك أن الكل يعلمون أن حكم الله هو العدل ولأن المضاف إليه هو الحكم العدل. فالمعنى على هذا: أن ربك يقضي بينهم بحكمه المعروف المشتهر اللائق بعموم علمه واطراد عدله، وإما أن يؤول الحكم بمعنى الحكمة وهو إطلاق شائع قال تعالى {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] وقال {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] ولم يكن يحيى حاكما وإنما كان حكيما نبيا فيكون المعنى على هذا: إن ربك يقضي بينهم بحكمته، أي بما تقتضيه الحكمة، أي من نصر المحق على المبطل.
ومآل التأويلين إلى معنى واحد. وبه يظهر حسن موقع الاسمين الجليلين في تذييله
(19/304)

بقوله {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، فإن العزيز لا يصانع، والعليم لا يفوته الحق، ويظهر حسن موقع التفريع بقوله:
[79] {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}
فرعت الفاء على الإخبار بأن رب الرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين المختلفين في شأن القرآن أمرا للرسول بأن يطمئن بالا ويتوكل على ربه فيما يقضي به فإنه يقضي له بحقه، وعلى معانده بما يستحقه، فالأمر بالتوكل مستعمل في كنايته وصريحه فإن من لازمه أنه أدى رسالة ربه، وأن إعراض المعرضين عن أمر الله ليس تقصيرا من الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو معنى تكرر في القرآن كقوله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وقوله {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} .
والتوكل: تفعل من وكل إليه الأمر إذا أسند إليه تدبيره ومباشرته، فالتفعل للمبالغة. وقد تقدم عند قوله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في [آل عمران: 159]، وقوله {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في المائدة وقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في [سورة إبراهيم: 11].
وقد وقعت جملة {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} موقعا لم يخاطب الله تعالى أحدا من رسله بمثله فكان ذلك شهادة لرسوله بالعظمة الكاملة المنزهة عن كل نقص، لما دل عليه حرف {عَلَى} من التمكن، وما دل عليه اسم {الْحَقِّ} من معنى جامع لحقائق الأشياء. وما دل عليه وصف مبين من الوضوح والنهوض.
وجاءت جملة {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} مجيء التعليل للأمر بالتوكل على الله إشعارا بأنه على الحق فلا يترقب من توكله على الحكم العدل إلا أن يكون حكمه في تأييده ونفعه. وشأن "إن" إذا جاءت في مقام التعليل أن تكون بمعنى الفاء فلا تفيد تأكيدا ولكنها للاهتمام.
وجيء في فعل التوكل بعنوان اسم الجلالة لأن ذلك الاسم يتضمن معاني الكمال كلها، ومن أعلاها العدل في القضاء ونصر المحق. وذلك بعد أن عجلت مسرة الإيماء إلى أن القضاء في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام بإسناده القضاء إلى عنوان الرب مضافا إلى ضمير الرسول كما تقدم آنفا.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي اقتضاه وجود مقتضي جلب حرف التوكيد لإفادة التعليل فلا يفيد التقديم تخصيصا ولا تقويا.
(19/305)

و {الْمُبِينِ} : الواضح الذي لا ينبغي الامتراء فيه ولا المصانعة للمحكوم له.
وفي الآية إشارة إلى أن الذي يعلم أن الحق في جانبه حقيق بأن يثق بأن الله مظهر حقه ولو بعد حين.
[80] {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
استئناف بياني جوابا عما يخطر في بال السامع عقب قوله {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} من التساؤل عن إعراض أهل الشرك لما عليه الرسول من الحق المبين. وهو أيضا تعليل آخر للأمر بالتوكل على الله بالنظر إلى مدلوله الكنائي، فموقع حرف التوكيد فيه كموقعه في التعليل بالجملة التي قبله. وهذا عذر للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له، ولكونه تعليلا لجانب من التركيب وهو الجانب الكنائي غير الذي علل بجملة {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها تنبيها على استقلالها بالتعليل.
والإسماع: إبلاغ الكلام إلى المسامع.
و {الْمَوْتَى} و {الصُّمَّ} : مستعاران للقوم الذين لا يقبلون القول الحق ويكابرون من يقوله لهم. شبهوا بالموتى على طريقة الاستعارة في انتفاء فهمهم معاني القرآن، وشبهوا بالصم كذلك في انتفاء أثر بلاغة ألفاظه عن نفوسهم.
وللقرآن أثران:
أحدهما ما يشتمل عليه من المعاني المقبولة لدى أهل العقول السليمة وهي المعاني التي يدركها ويسلم لها من تبلغ إليه ولو بطريقة الترجمة بحيث يستوي في إدراكها العربي والعجمي وهذا أثر عقلي.
والأثر الثاني دلالة نظمه وبلاغته على انه خارج عن مقدرة البلغاء العرب. وهذا أثر لفظي وهو دليل الإعجاز وهو خاص بالعرب مباشرة، وحاصل لغيرهم من أهل النظر والتأمل إذا تدبروا في عجز البلغاء من أهل اللسان الذي جاء به القرآن، فهؤلاء يوقنون بأن عجز البلغاء أهل ذلك اللسان على معارضته دال على أنه فوق مقدرتهم؛ فالمشركون شبهوا بالموتى بالنظر إلى الأثر الأول، وشبهوا بالصم بالنظر إلى الأثر الثاني، فحصلت استعارتان. ونفي الإسماع فيهما ترشيحان للاستعارتين وهما مستعاران لانتفاء معالجة إبلاغهم.
(19/306)

ولأجل اعتبار كلا الأثرين المبني عليه ورود تشبيهين كرر ذكر الترشيحين فعطف {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} على {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ} ، ولم يكتف بأن يقال: إنك لا تسمع الموتى ولا الصم.
وتقييد الصم بزمان توليهم مدبرين لأن تلك الحالة أوغل في انتفاء إسماعهم لأن الأصم إذا كان مواجها للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ ويستفيد بقيته بحركة الشفتين فذلك أبعد له عن السمع.
واستدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على رد ظاهر حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين فناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، قال ابن عمر: فقيل له: يا رسول الله أتنادي أمواتا فقال: إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم. فقالت عائشة: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية.
وهذا من الاستدلال بظاهر الدلالة من القرآن ولو باحتمال مرجوح كما بيناه في المقدمة التاسعة. وإلا فإن الموتى هنا استعارة وليس بحقيقة.
وضمير {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} عائدان إلى الصم وهو تتميم للتشبيه حيث شبهوا في عدم بلوغ الأقوال إلى عقولهم بصم ولوا مدبرين فإن المدبر يبعد عن مكان من يكلمه فكان أبعد عن الاستماع كما تقدم آنفا.
[81] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}
كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة إطنابا في تشنيع حالهم الموصوفة على ما هو المعروف عند البلغاء في تكرير التشبيه كما تقدم عند قوله تعالى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في [سورة البقرة: 19].
وحسن هذا التكرير هنا ما بين التشبيهين من الفروق مع اتحاد الغاية؛ فإنهم شبهوا
(19/307)

بالموتى في انتفاء إدراك المعاني الذي يتمتع به العقلاء، وبالصم في انتفاء إدراك بلاغة الكلام الذي يضطلع به بلغاء العرب. وشبهوا ثالثا بالعمي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال من حيث إنهم لم يتبعوا هدي دين الإسلام. والغاية واحدة وهي انتفاء اتباعهم الإسلام ففي تشبيههم بالعمي استعارة مصرحة، ونفي إنقاذهم عن ضلالتهم ترشيح للاستعارة لأن الأعمى لا يبلغ إلى معرفة الطريق بوصف الواصف.
والهدى: الدلالة على طريق السائر بأن يصفه له فيقول مثلا: إذا بلغت الوادي فخذ الطريق الأيمن.
والذي يسلك بالقوافل مسالك الطريق يسمى هاديا.
والتوصل إلى معرفة الطريق يسمى اهتداء. وهذا الترشيح هو أيضا مستعار لبيان الحق والصواب للناس، والأعمى غير قابل للهداية بالحالتين حالة الوصف وهي ظاهرة، وحالة الاقتياد فإن العرب لم يكونوا يأخذوا العمي معهم في أسفارهم لأنهم يعرقلون على القافلة سيرها.
وقوله {عَنْ ضَلالَتِهِمْ} يتضمن استعارة مكنية قرينتها حالية. شبه الدين الحق بالطريق الواضحة، وإسناد الضلالة إلى سالكيه ترشيح لها وتخييل، والضلالة أيضا مستعارة لعدم إدراك ألحق تبعا للاستعارة المكنية، وأطلقت هنا على عدم الاهتداء للطريق، وضمير {ضَلالَتِهِمْ} عائد إلى العمي، ولتأتي هذه الاستعارة الرشيقة عدل عن تعليق ما حقه أن يعلق بالهدي فعلق به ما يقتضيه نفي الهدي من الصرف والمباعدة. فقيل {عَنْ ضَلالَتِهِمْ} بتضمين {هَادِيَ} معنى صارف. فصار: ما أنت بهاد، بمعنى: ما أنت بصارفهم عن ضلالتهم كما يقال: سقاه عن العيمة، أي سقاه صارفا له عن العيمة، وهي شهوة اللبن.
وعدل في الجملة عن صيغتي النفيين السابقين في قوله {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} الواقعين على مسندين فعليين، إلى تسليط النفي هنا على جملة اسمية للدلالة على ثبات النفي. وأكد ذلك الثبات بالباء المزيدة لتأكيد النفي.
ووجه إيثار هذه الجملة بهذين التحقيقين هو أنه لما أفضى الكلام إلى نفي اهتدائهم وكان اهتداؤهم غاية مطمح الرسول صلى الله عليه وسلم كان المقام مشعرا ببقية من طمعه في اهتدائهم حرصا عليهم فأكد له ما يقلع طمعه، وهذا كقوله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
(19/308)

[القصص: 56] وقوله {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} . وسيجيء في تفسير نظير هذه الآية من سورة الروم توجيه لتعداد التشابيه الثلاثة زائدا على ما هنا فأنظره.
وقرأ حمزة وحده {وَمَا أَنْتَ تَهْدِي} بمثناه فوقية في موضع الموحدة وبدون ألف بعد الهاء.
{إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}
استئناف بياني لترقب السامع معرفة من يهتدون بالقرآن.
والإسماع مستعمل في معناه المجازي كما تقدم.
وأوثر التعبير بالمضارع في قوله {مَنْ يُؤْمِنُ} ليشمل من آمنوا من قبل فيفيد المضارع استمرار إيمانهم ومن سيؤمنون.
وقد ظهر من التقسيم الحاصل من قوله {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} إلى هنا، أن الناس قسمان منهم من طبع الله على قلبه وعلم أنه لا يؤمن حتى يعاجله الهلاك ومنهم من كتب الله له السعادة فيؤمن سريعا أو بطيئا قبل الوفاة.
وفرع عليه {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} المفيد للدوام والثبات لأنهم إذا آمنوا فقد صار الإسلام راسخا فيهم ومتمكنا منهم، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
[82] {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ}
هذا انتقال إلى التذكير بالقيامة وما ادخر لهم من الوعيد. فهذه الجملة معطوفة على الجمل قبلها عطف قصة على قصة. ومناسبة ذكرها ما تقدم من قوله {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} إلى قوله {عَنْ ضَلالَتِهِمْ} . والضمير عائد إلى الموتى والصم والعمي وهم المشركون.
و {الْقَوْلِ} أريد به أخبار الوعيد التي كذبوها متهكمين باستبطاء وقوعها بقولهم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالتعريف فيه للعهد يفسره المقام.
والوقوع مستعار لحلول وقته وذلك من وقت تهيؤ العالم للفناء إلى أن يدخل الجنة الجنة وأهل النار النار.
(19/309)

والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات. والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي، أي أشرف وقوعه، على أن فعل المضي مع "إذا" ينقلب إلى الاستقبال.
والدابة: اسم للحي من الإنسان، مشتق من الدبيب، وهو المشي على الأرض وهو من خصائص الأحياء.وتقدم الكلام على لفظ {دَابَّةٍ} في [سورة الأنعام: 38]. وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد فأنظرها في تفسير القرطبي وغيره إذ لا طائل في جلبها ونقدها.
وإخراج الدابة من الأرض ليرهم كيف يحي الله الموتى إذ كانوا قد أنكروا البعث. ولا شك أن كلامها لهم خطاب لهم بحلول الحشر. وإنما خلق الله الكلام لهم على لسان دابة تحقيرا لهم وتنديما على إعراضهم عن قبول أبلغ كلام وأوقعه من أشرف إنسان وأفصحه، ليكون لهم خزيا في آخر الدهر يعيرون به في المحشر. فيقال: هؤلاء الذين أعرضوا عن كلام رسول كريم فخوطبوا على لسان حيوان بهيم. على نحو ما قيل: استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما.
وجملة {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم.
وقرأ الجمهور {أَنَّ النَّاسَ} بكسر همزة "إن"، وموقع "إن" في مثل هذا التعليل. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {أَنَّ النَّاسَ} بفتح الهمزة وهي أيضا للتعليل لأن فتح همزة "أن" يؤذن بتقدير حرف جر وهو باء السببية، أي تكلمهم بحاصل هذا وهو المصدر. والمعنى: أنها تسجل على الناس وهم المشركون عدم تصديقهم بآيات الله. وهو تسجيل توبيخ وتنديم لأنهم حينئذ قد وقع القول عليهم {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} . وحمل هذه الجملة على أن تكون حكاية لما تكلمهم به الدابة بعيد.
[83 - 84] {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
انتصب {يَوْمَ} على تقدير {اذْكُرْ} فهو مفعول به، أو على أنه ظرف متعلق بقوله {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ} مقدم عليه الاهتمام به. وهذا حشر خاص بعد حشر جميع الخلق المذكور
(19/310)

في قوله تعالى بعد هذا {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87] وهو في معنى قوله تعالى {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] فيحشر من كل أمة مكذبو رسولها.
والفوج: الجماعة من الناس. و {مِنْ} الداخلة على {كُلِّ أُمَّةٍ} تبعيضية. وأما {مِنْ} الداخلة على {مَنْ يُكَذِّبُ} فيجوز جعلها بيانية فيكون فوج كل أمة. وهذا الفوج هو زعماء المكذبين وأئمتهم فيكونون في الرعيل الأول إلى العذاب.
وهذا قول أبن عباس إذ قال: مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يساق أمام كل طائفة زعماؤها. وتقدم تفسير {فَهُمْ يُوزَعُونَ} في قصة سليمان من هذه السورة.
والمعنى هنا: أنهم يزجرون إغلاظا عليهم كما يفعل بالأسرى.
والقول في {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} كالقول في {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} ولم يذكر الموضع الذي جاءوه لظهوره وهو مكان العذاب، أي جهنم كما قال في الآية {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} في [سورة فصلت: 20].
و {حَتَّى} في {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} ابتدائية. و {إِذَا} الواقعة بعد {حَتَّى} ظرفية والمعنى: حتى حين جاءوا.
وفعل {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} هو صدر الجملة في التقدير وما قبله مقدم من تأخير للاهتمام. والتقدير: وقال أكذبتم بآياتي يوم نحشر من كل أمة فوجا وحين جاءوا. وفي {قَالَ} التفات من التكلم إلى الغيبة.
وقوله {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} قول صادر من جانب الله تعالى يسمعونه أو يبلغهم إياه الملائكة.
والاستفهام يجوز أن يكون توبيخا مستعملا في لازمه وهو الإلجاء إلى الاعتراف بأن المستفهم عنه واقع منهم تبكيتا لهم، ولهذا عطف عليه قوله {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . فحرف {أَمْ} فيه بمعنى "بل" للانتقال ومعادل همزة الاستفهام المقدرة محذوف دل عليه قوله {أَمَّ ماذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . والتقدير: أكذبتم بآياتي أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم
(19/311)

تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم توقنوا فماذا كنتم تعملون في مدة تكرير دعوتكم إلى الإسلام. ومن هنا حصل الإلجاء إلى الاعتراف بأنهم كذبوا.
ومن لطائف البلاغة أنه جاء بالمعادل الأول مصرحا به لأنه المحقق منهم فقال {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} وحذف معادله الآخر تنبيها على انتفائه كأنه قيل: أهو ما عهد منكم من التكذيب أم حدث حادث آخر، فجعل هذا المعادل مترددا فيه، وانتقل الكلام إلى استفهام. وهذا تبكيت لهم. قال في الكشاف "ومثاله أن تقول لراعيك وقد علمت أنه راعي سوء: أتأكل نعمي أم ماذا تعمل بها، فتجعل ما ابتدأت به وجعلته أساس كلامك هو الذي صح عندك من أكله وفساده وترمي بقولك: أم ماذا تعمل بها، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل لتبهته. ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرا وتكون {أَمْ} متصلة وما بعدها هو معادل الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل: أكذبتم أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم تتبعوا آياتي".
وجملة {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} في موضع الحال، أي كذبتم دون أن تحيطوا علما بدلالة الآيات. وانتصب {عِلْماً} على أنه تمييز نسبة {تُحِيطُوا} ، أي لم يحط علمكم بها، فعدل عن إسناد الإحاطة إلى العلم إلى إسنادها إلى ذوات المخاطبين ليقع تأكيد الكلام بالإجمال في الإسناد ثم التفصيل بالتمييز.
وإحاطة العلم بالآيات مستعملة في تمكن العلم حتى كأنه ظرف محيط بها وهذا تعبير لهم وتوبيخ بأنهم كذبوا بالآيات قبل التدبر فيها.
و {مَاذَا} استفهام واسم إشارة وهو بمعنى اسم الموصول إذا وقع بعد {مَا} . والمشار غليه هو مضمون الجملة بعده في قوله {كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . ولكون المشار إليه في مثل هذا هو الجملة صار اسم الإشارة بعد الاستفهام في قوة موصول فكأنه قيل: ما الذي كنتم تعملون? فذلك معنى قول النحويين: إن {ذَا} بعد {مَا} و {مِنْ} الاستفهاميتين يكون بمعنى {مَا} الموصولة فهو بيان معنى لا بيان وضع.
[85] {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ}
يجوز أن يكون الواو للحال، والمعنى: يقال لهم أكذبتم بآياتي وقد وقع القول عليهم. وهذا القول هو القول السابق في آية {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} فإن ذلك القول مشتمل على حوادث كثيرة فكلما تحقق شيء منها فقد وقع القول.
(19/312)

والتعبير بالماضي في قوله {وَقَعَ} هنا على حقيقته، وأعيد ذكر تعظيما لهوله. ويجوز أن تكون الواو عاطفة والقول هو القول الأول وعطفت الجملة على الجملة المماثلة لها ليبنى عليها سبب وقوع القول وهو أنه بسبب ظلمهم وليفرع عليه قوله {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} .
والتعبير بفعل المضي على هذا الوجه لأنه محقق الحصول في المستقبل فجعل كأنه حصل ومضى.
و {بِمَا ظَلَمُوا} بمعنى المصدر، والباء السببية، أي بسبب ظلمهم، والظلم هنا الشرك وما يتبعه من الاعتداء على حقوق الله وحقوق المؤمنين فكان ظلمهم سبب حلول الوعيد بهم، وفي الحديث "الظلم ظلمات يوم القيامة" فكل من ظلم سيقع عليه القول الموعود به الظالمون لأن الظلم ينتسب إلى الشرك وينتسب هذا إليه كما تقدم عند قوله تعالى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} في هذه [السورة 52].
وجملة {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} مفرعة على {وَقَعَ الْقَوْلُ} أي وقع عليهم وقوعا يمنعهم الكلام، أي كلام الاعتذار أو الإنكار، أي فوجموا لوقوع ما وعدوا به قال تعالى {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
[86] {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
هذا الكلام متصل بقوله {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 85] أي بما أشركوا، فذكرهم بدلائل الوحدانية بذكر أظهر الآيات وأكثرهم تكرارا على حواسهم وأجدرها بأن تكون مقنعة في ارعوائهم عن شركهم. وهي آية ملازمة لهم طول حياتهم تخطر ببالهم مرتين كل يوم على الأقل.وتلك هي آية اختلاف الليل والنهار الدالة على انفراده تعالى بالتصرف في هذا العالم؛ فأصنامهم تخضع لمفعولها فتظلم ذواتهم في الليل وتنير في النهار، وفيها تذكير بتمثيل الموت والحياة بعده بسكون الليل وانبثاق النهار عقبه.
والجملة معترضة بين جملة {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 85] وجملة {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] ليتخلل الوعيد بالاستدلال فتكون الدعوة إلى الحق بالإرهاب تارة واستدعاء النظر تارة أخرى.
والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حالهم لأنها لغرابتها تستلزم سؤال من
(19/313)

يسأل عن عدم رؤيتهم فهذه علاقة أو مسوغ استعمال الاستفهام في التعجيب، وهي علاقة خفية أشار سعد الدين في "المطول" إلى عدم ظهورها وتصدى السيد الشريف إلى بيانها غاية البيان وأرجعها إلى المجاز المرسل فتأمله.
والرؤية يجوز أن تكون قلبية وجملة {أَنَّا جَعَلْنَا} سادة مسد المفعولين، أي كيف لم يعلموا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا مع أن ذلك واضح الدلالة على هذا الجعل. واختير من أفعال العلم فعل الرؤية لشبه هذا العلم بالمعلومات المبصرة.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمصدر المنسبك من الجملة مفعول الرؤية.
والمعنى: كيف لم يبصروا جعل الليل للسكون والنهار للإبصار مع أن ذلك بمرأى من أبصارهم. والجعل مراد منه أثره وهو اضطرار الناس إلى السكون في الليل وإلى الانتشار في النهار. فجعلت رؤية أثر الجعل بمنزلة رؤية ذلك الجعل وهذا واسع في العربية أن يجعل الأثر محل المؤثر، والدال محل المدلول. قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي
...
على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل.
والمبصر: اسم فاعل أبصر بمعنى رأى. ووصف النهار بأنه مبصر من قبيل المجاز العقلي لأن نور النهار سبب الإبصار. ويجوز أن تكون الهمزة للتعدية من أبصره، إذا جعله باصرا.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} تعليل للتعجب من حالهم إذ لم يستدلوا باختلاف الليل والنهار على الوحدانية ولا على البعث.
ووجه كون الآيات في ذلك كثيرة كما اقتضاه الجمع هو أن في نظام الليل آيات على الانفراد بخلق الشمس وخلق نورها الخارق للظلمات، وخلق الأرض، وخلق نظام دورانها اليومي تجاه أشعة الشمس وهي الدورة التي تكون الليل والنهار، وفي خلق طبع الإنسان بأن يتلقى الظلمة بطلب السكون لما يعتري الأعصاب من الفتور دون بعض الدواب التي تنشط في الليل كالهوام والخفافيش وفي ذلك أيضا دلالة على تعاقب الموت والحياة، فتلك آيات وفي كل آية منها دقائق ونظم عظيمة لو بسط القول فيها لأوعب مجلدات من العلوم.
وفي جعل النهار مبصرا آيات كثيرة على الوحدانية ودقة الصنع تقابل ما تقدم في آيات
(19/314)

جعل الليل سكنا. وفيه دلالية على أن لا إحالة ولا استبعاد في البعث بعد الموت، وأنه نظير بعث اليقظة بعد النوم، وفي جليل تلك الآيات ودقيقها عدة آيات فهذا وجه جعل ذلك آيات ولم يجعل آيتين.
ومعنى {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لناس شأنهم الإيمان والاعتراف بالحجة ولذلك جعل الإيمان صفة جارية على {قوم} لما قلناه غير مرة من أن إناطة الحكم بلفظ {قَوْمِ} يومئ إلى أن ذلك الحكم متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم ومنه قوله تعالى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ، أي الفرق من مقومات قوميتهم فكيف يكونون منكم وأنتم لا تفرقون، أي في ذلك آيات لمن من شعارهم التدبر والاتصاف، أي فهؤلاء ليسوا بتلك المثابة.
ولكون الإيمان مقصودا به أنه مرجو منهم جيء فيه بصيغة المضارع إذ ليس المقصود أن في ذلك آيات للذين آمنوا لأن ذلك حاصل بالفحوى والأولوية، فصار المعنى: أن في ذلك لآيات للمؤمنين ولمن يرجى منهم الإيمان عند النظر في الأدلة. وقريب من هذا المعنى قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27 - 28]. ولهذا خولف بين ما هنا وبين ما في [سورة يونس: 67] إذ قال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} لأن آية يونس مسوقة مساق الاستدلال والامتنان فخاطب بها جميع الناس من مؤمن وكافر فجاءت بصيغة الخطاب، وجعلت دلالتها لكل من يسمع أدلة القرآن فمنهم مهتد وضال ولذلك جيء فيها بفعل {يَسْمَعُونَ} المؤذن بالامتثال والإقبال على طلب الهدى.
وأما هذه الآية فمسوقة مساق التعجيب والتوبيخ فجعل ما فيها آيات لمن الإيمان من شأنهم ليفيد بمفهومهم أنه لا تحصل منه دلالة لمن ليس من شأنهم الإنصاف والاعتراف ولذلك أوثر فيه فعل {يُؤْمِنُونَ} .
وجاء ما في الليل من الخصوصية بصيغة التعليل باللام بقوله {لِيَسْكُنُوا فِيهِ} ، وما في النهار بصيغة مفعول الجعل بقوله {مُبْصِراً} تفننا، ولما يفيده {مُبْصِراً} من المبالغة. والمعنى على التعليل والمفعول واحد في المآل. وبهذا قال في الكشاف "التقابل مراعي من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف" أي ففي الآية احتباك إذ المعنى: جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه.
واعلم أن ما قرر هنا يأتي في آية سورة يونس عدا ما هو من وجوه الفروق البلاغية
(19/315)

فارجع إليها هنالك.
[87] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}
عطف على {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} [النمل: 83] عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا بيوم الحشر إلى النار ذكروا أيضا بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور، تسجيلا عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذار بما يعقبه مما دل عليه قوله {أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وقوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} .
والنفخ في الصور تقدم في وله {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في [سورة الأنعام: 73] وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى {نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وذلك هو يوم الحساب. وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعني بها الإحياء، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون، ولهذا فرع عليه قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، أي عقبة حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب،فكل أحد يخشى أن يكون معذبا، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعا من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات.
والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} وقوله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} إلى قوله {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة. قال تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وقال {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
وجيء بصيغة الماضي في قوله {فَفَزِعَ} مع أن النفخ مستقبل، لإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله {يُنْفَخُ} .
والداخرون: الصاغرون. أي الأذلاء، يقال: دخر بوزن منع وفرح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور.
(19/316)

وضمير الغيبة الظاهر في {أَتَوْهُ} عائد إلى اسم الجلالة، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} على تقدير: أتون فيه والمضاف إليه "كل" المعوض عنه التنوين، تقديره: من فزع ممن في السماوات والأرض آتوه داخرين. وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.
وقرأ الجمهور {أَتَوْهُ} بصيغة اسم الفاعل من أتى. وقرأ حمزة وحفص {أَتَوْهُ} بصيغة فعل الماضي فهو كقوله {فَفَزِعَ} .
[88] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}
الذي قاله جمهور المفسرين: إن الآية حكت حادثا يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} عطفا على {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة الخ.. وجعلوا الرؤية بصرية، ومر السحاب تشبيها لتنقلها بمر السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصودا منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، وجعلوا الخطاب في قوله {تَرَى} لغير معين ليعم كل من يرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47]. فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فبها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها، فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله {فقل ينسفها ربي نسفا} إلى أن قال {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} [طه: 105 - 108] لأن الداعي هو إسرافيل "وفيه أن للاتباع أحوالا كثيرة، وللداعي معاني أيضا".
وقال بعض المفسرين: هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف {وَتَرَى الْجِبَالَ} على {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] حتى يتسلط عليه عمل لفظ {يَوْمَ} بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانيا.
(19/317)

وجعل كلا الفريقين قوله {صُنْعَ اللَّهِ} الخ مرادا به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة الصنع من معنى التركيب والإيجاد، فإن الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان.
وقال الماوردي: قيل هذا مثل ضربه الله، أي وليس بخبر. وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله التستري.
الثاني: أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتا في القلب، وعمله صاعد إلى السماء.
الثالث: أنه مثل للنفس عند خروج الروح، والروح تسير إلى العرش. وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة.
ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان {الْجِبَالَ} مشبها بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ {الْجِبَالَ} مستعارا لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنيا.
وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذييل بقوله تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 87 - 89] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجا وجمعا بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا} [النمل: 86] الآية.
أو هي معطوفة على جملة {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا} [النمل: 86] الآية، وجملة {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [النمل: 87] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. وهذا من العلم
(19/318)

الذي أدع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة.
فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة. واهتدى بعض علماء اليونان أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضية تقريبا وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة اقناعية لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرآن السابع عشر بواسطة الرياضي "غاليلي" الإيطالي.
والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلا رمز إليه رمزا، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزا.
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركا يحاكي دبيب النمل أشد وضوحا للراصد، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والمساء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنوار.
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل: 86] فجعل هنا بطريق الخطاب {وَتَرَى الْجِبَالَ} . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعليما له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل: 86] في هذا الخطاب، وادخار لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى، اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقا في كتابه، فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابه.
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ} المقتضي أن الرائي يراها
(19/319)

في هيئة الساكنة، وقوله {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة.
وقوله {وهي تمر} الذي هو بمعنى السير {مَرَّ السَّحَابِ} أي مرا واضحا لكنه لا يبين من أول وهلة. وقوله بعد ذلك كله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور.
و {مَرَّ السَّحَابِ} مصدر مبين لنوع مرور الجبال، أي مرورا تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه. وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47] فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي.
وانتصب قوله {صُنْعَ اللَّهِ} على المصدرية مؤكدا لمضمون جملة {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} بتقدير: صنع الله ذلك صنعا. وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون.
والجامدة: الساكنة، قاله أبن عباس. وفي الكشاف: الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح، يعني أنه جمود مجازي، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة. والصنع، قال الراغب: إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا قال تعالى {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] يقال للحاذق المجيد: صنع، وللحذاقة المجيدة: صناع اه. وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب "اللسان"وصاحب "القاموس" واستدراكه في "تاج العروس".
قلت: وأما قوله: بئس ما صنعت، فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلا حسنا ولم يتفطن لقبحه. فالصنع إذا أطلق انصراف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة.
واعلم أن الصنع يطلق على العلم المتقن في الخير أو الشر قال تعالى {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]، ووصف الله بـ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} تعميم.
(19/320)

قصد به التذليل، أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلا لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع. وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن، وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من الخرم والتفكيك.
وجملة {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره.
ثم جيء لتفصيل هذا بقوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89] الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور، ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} استئنافا بيانيا لجواب سائل: فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال، فأجيب جوابا إجماليا بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا..} [النمل: 89] الآية.
وقرأ الجمهور {بِمَا تَفْعَلُونَ} بتاء الخطاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يَفْعَلُونَ} بياء الغائبين عائدا ضميره على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} .
[89 - 90] {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}
هذه الجملة بيان ناشئ عن قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] لأن الفزع مقتض الحشر والحور للحساب. و"من" في كلتا الجملتين شرطية.
والمجيء مستعمل في حقيقته. والباء في {بِالْحَسَنَةِ} و {بِالسَّيِّئَةِ} للمصاحبة المجازية، ومعناها: أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة. وليس هذا كقوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} في آخر [الأنعام: 160]. فالمعنى هنا: من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة، فالمجيء ناظر إلى قوله {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل
(19/321)

أفراده في المقام الخطابي، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} ، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه، كما اقتضاه قوله {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} .
و {خَيْرٌ مِنْهَا} اسم تفضيل اتصلت به {مِنْ} التفضيلية، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أو خير منها شرفا لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله.
وقوله {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} تبيين قوله آنفا {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم. وكذلك قوله {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء. وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودرجات العقاب. وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلا أو بالأخارة، وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} .
وقرأ الجمهور {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بإضافة {فَزَعٍ} إلى {يَوْمِ} من {يَوْمَئِذٍ} وإضافة "يوم" إلى {إِذْ} ففتحة "يوم" فتحة بناء لأه اسم زمان أضيف إلى اسم غير متمكن فـ {فَزَعٍ} معرف بالإضافة إلى "يوم" و"يوم" معرف بالإضافة إلى "إذ" و"إذ" مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض. والتقدير: من فزع يوم إذ يأتون ربهم.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين {فَزَعٍ} ، و {يَوْمَئِذٍ} منصوبا على المفعول فيه متعلقا ب {آمنون} . والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87] فلما كان معينا استوى تعريفه وتنكيره. فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد.
والكب: جعل ظاهر الشيء إلى الأرض. وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقوله امرئ القيس:
(19/322)

يكب على الأذقان دوح الكنهبل.
وهذا من قبيل قوله تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] وقوله {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] وقول الأعشى:
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق.
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
تذييل للزواجر المتقدمة، فالخطاب للمشركين الذين يسمعون القرآن على طريقة الالتفات من الغيبة بذكر الأسماء الظاهرة وهي من قبيل الغائب. وذكر ضمائرها ابتداء من قوله {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] وما بعده من الآيات إلى هنا. ومقتضى الظاهر أن يقال: هل يجزون إلا ما كانوا يعملون فكانت هذه الجملة كالتلخيص لما تقدم وهو أن الجزاء على حسب عقائدهم وأعمالهم وما العقيدة إلا عمل القلب فلذلك وجه الخطاب إليهم بالمواجهة.
ويجوز أن تكون مقولا لقول محذوف يوجه إلى الناس يومئذ، أي لا يقال لكل فريق: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والاستفهام في معنى النفي بقرينة الاستثناء. وورود {هَلْ} لمعنى النفي أثبته في "مغني اللبيب" استعمالا تاسعا قال "أن يراد بالاستفهام بها النفي ولذلك دخلت على الخبر بعدها "إلا" نحو {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. والباء في قوله:
ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم.
وقال في آخر كلامه: إن من معاني الإنكار الذي يستعمل فيه الاستفهام إنكار وقوع الشيء وهو معنى النفي. وهذا تنفرد به {هَلْ} دون الهمزة. قال الدماميني في "الحواشي الهندية" قوله: يراد بالاستفهام بـ {هَلْ} النفي يشعر بأن ثمة استفهاما لكنه مجازي لا حقيقي اهـ.
وأقول: هذا استعمال كثير ومنه قول لبيد:
هل أنا إلا من ربيعة أو مضر.
وقول النابغة:
وهل علي بأن أخشاك من عار.
(19/323)

حيث جاء ب {من} التي تدخل على النكرة في سياق النفي لقصد التنصيص على العموم وشواهده كثيرة. ولعل أصل ذلك أنه استفهام عن النفي لقصد التقرير بالنفي. والتقدير: هل لا تجزون إلا ما كنتم تعملون، فلما اقترن به الاستثناء غالبا والحرف الزائد في النفي في بعض المواضع حذفوا النافي وأشربوا حرف الاستفهام معنى النفي اعتمادا على القرينة فصار مفاد الكلام نفيا وانسلخت "هل" عن الاستفهام فصارت مفيدة النفي. وقد أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في [الأعراف: 147].
[91 - 92] {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .
أتت هذه السورة على كثير من مطاعن المشركين في القرآن وفيما جاء به من أصول الإسلام من التوحيد والبعث والوعيد بأفانين من التصريح والتضمن والتعريض بأحوال المكذبين السالفين مفصلا ذلك تفصيلا ابتداء من قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1 - 2] إلى هنا، فلما كان في خلال ذلك إلحافهم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بما وعدهم أو أن يعين لهم أجل ذلك ويقولون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 71].
وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياسا وتمثيلا، وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7] وقوله {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون. بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافا يكون فذلكة الحساب، وختاما للسورة وفصل الخطاب، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة، وجاءوا به من خلبطة، ويزيد الرسول تثبيتا وتطمينا بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليها الصلاة والسلام أن يقول لهم {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} فهذا تلقين للرسول صلى الله عليه وسلم. والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 92 - 93] فإن الأول مفرع عليه فهو متصل به.
(19/324)

والثاني: معطوف على أول الكلام.
وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب تعجيب الوعيد، وما تطاولوا به من إنكار الحشر.
والمعنى: ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلما وأن أتلو القرآن عليكم، ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه؛ ومن صل فما أنا بقادر على اهتدائه، ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هديا حتى أهلك الله الضالين. وهذا في معنى قوله تعالى {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20].
وقد أدمج من خلال هذا تنويها بشأن مكة وتعريضا بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها، وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل: 74].
فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة، دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل: التي حرمها الله، لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بظلالهم إذ عبدوا أصناما لا تملك من البلدة شيئا ولا أكسبتها فضلا ومزية، وهذا كقوله {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3].
والإشارة إلى البلدة التي هم بها لأنها حاضرة لديهم بحضور ما هو باد منها للأنظار. والإشارة إلى البقاع بهذا الاعتبار فاشية قال تعالى {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [هود: 60] وقال {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31].
والعدول عن ذكر مكة باسمها العلم إلى طريقة الإشارة لما تقتضيه الإشارة من التعظيم.
وتبيين أسم الإشارة بالبلدة لأن بهاء التأنيث اسم لطائفة من الأرض معينة معروفة محوزة فيشمل مكة وما حولها إلى نهاية حدود الحرم. ومعنى {حَرَّمَهَا} جعلها حراما، والحرام الممنوع، والتحريم المنع. ويعلم متعلق المنع بسياق ما يناسب الشيء الممنوع. فالمراد من تحريم البلدة تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها.
(19/325)

من ساكن ودابة وشجر. فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاهتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة. وهذا التحريم مما أوحى الله به إلى إبراهيم عليه السلام إذ أمره بأن يبني بيتا لتوحيده وباستجابته لدعوة إبراهيم إذ قال {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126].
فالتحريم يكون كمالا للمحرم ويكون نقصا على اختلاف اعتبار سبب التحريم وصفته، فتحريم الزمان والمكان مزية وتفضيل، وتحريم الفواحش والميتة والدم والخمر تحقير لها، والمحرمات للنسل والرضاع والصهر زيادة في الحرمة.
فتحريم المكان: منع ما يضر بالحال فيه. وتحريم الزمان، كتحريم الأشهر الحرم: منع ما فيه ضر للموجودين فيه.
وتعقيب هذا بجملة {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها ليعلم أن تلك الإضافة لتشريف المضاف إليه لا لتعريف المضاف بتعيين مظهر ملكه.
وتكرير "أمرت" في قوله {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} للإشارة إلى الاختلاف بين الأمرين فإن الأول أمر يعمله في خاصة نفسه وهو أمر إلهام إذ عصمه الله من عبادة الأصنام من قبل الرسالة. والأمر الثاني أمر يقتضي الرسالة وقد شمل دعوة الخلق إلى التوحيد. ولهذه النكتة لم يكرر أمرت في قوله {وأن أتلوا القرآن} لأن كلا من الإسلام والتلاوة من شؤون الرسالة.
وفي قوله {أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} تنويه بهذه الأمة إذ جعل الله رسوله آحادها، وذلك نكتة من العدول عن أن يقول: أن أكون مسلما.
والتلاوة: قراءة كلام معين على الناس، وقد تقدم في قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121]، وقوله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في [سورة البقرة: 102].
وحذف متعلق التلاوة لظهوره، أي أن أتلوا القرآن على الناس. وفرع على التلاوة ما يقتضي انقسام الناس إلى مهتد وضال، أي منتفع بتلاوة القرآن عليه وغير منتفع مبينا أن من اهتدى فإنما كان اهتداؤه لفائدة نفسه. وهذا زيادة في تحريض السامعين على الاهتداء بهدي القرآن لأن فيه نفعه كما آذنت به اللام.
(19/326)

وإظهار فعل القول هنا لتأكيد أن حظ النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المعرضين الضالين أن يبلغهم الإنذار فلا يطمعوا أن يحمله إعراضهم على أن يلح عليهم قبول دعوته. والمراد بالمنذرين: الرسل، أي إنما أنا واحد من الرسل ما كنت بدعا من الرسل وسنتي سنة من أرسل قبلي وهي التبليغ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
[93] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
كان ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمعاندين مشتملا على أن الله للدين الحق من التوحيد وشرائع الإسلام وأن الله هدى به الناس بما أنزل الله عليه من القرآن المتلو، وأنه جعله في عداد الرسل المنذرين، فكان ذلك من أعظم النعم عليه في الدنيا وأبشرها بأعظم درجة في الآخرة من أجل ذلك أمر بأن يحمد النعم عليه في الدنيا وأبشرها بأعظم درجة في الآخرة من أجل ذلك أمر بأن يحمد الله بالكلمة التي حمد الله بها نفسه وهي كلمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الجامعة لمعان من المحامد تقدم بيانها في أول سورة الفاتحة. وقد تقدم الكلام على قوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} في هذه السورة [59].
ثم استأنف بالاحتراس مما يتوهمه المعاندون حين يسمعون آيات التبرؤ من معرفة الغيب، وقصر مقام الرسالة على الدعوة إلى الحق من أن يكون في ذلك نقض للوعيد بالعذاب فختم الكلام بتحقيق أن الوعيد قريب لا محالة وأن الله لا يخلف وعده فتظهر لهم دلائل صدق الله في وعده. ولذلك عبر عن الوعيد بالآيات إلى أنهم سيحل بهم ما فيه تصديق لما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يوقنون أن ما كان يقول لهم هو الحق، فمعنى {فَتَعْرِفُونَهَا} تعرفون دلالتها كان متعلق المعرفة هو ما في عنوان الآيات من معنى الدلالة والعلامة.
والسين تؤذن بأنها إراءة قريبة، فالآيات حاصلة في الدنيا مثل الدخان، وانشقاق القمر، واستئصال صناديدهم يوم بدر، ومعرفتهم إياها تحصل عقب حصولها ولو في وقت النزع والغرغرة. وقد قال أبو سفيان ليلة الفتح: لقد علمت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا. وقال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فمن الآيات في أنفسهم إعمال سيوف المؤمنين الذين كانوا يستضعفونهم في أعناق سادتهم وكبرائهم يوم بدر. قال أبو جهل وروحه في الغلصمة يوم.
(19/327)

بدر "وهل أعمد من رجل قتله قومه" يعني نفسه وهو ما لم يكن يخطر له على بال.
وقوله {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} قرأه نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب {تَعْمَلُون} بتاء الخطاب فيكون ذلك من تمام ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله للمشركين. وفيه زيادة إنذار بأن أعمالهم تستوجب ما سيرونه من الآيات. والمراد: ما يعملونه في جانب تلقي دعوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه لأن نفي الغفلة عن الله مستعمل في التعريض بأنه منهم بالمرصاد لا يغادر لهم من عملهم شيئا.
وقرأ الباقون {يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة فهو عطف على {قُلْ} والمقصود تسلية الرسول عليه السلام بعدما أمر به من القول بأن الله أحصى أعمالهم وأنه مجازيهم عنها فلا ييأس من نصر الله.
وقد جاءت خاتمة جامعة بالغة أقصى حد من بلاغة حسن الختام.
(19/328)

المجلد العشرون
سورة القصص
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة القصص
سميت سورة القصص ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية بذلك وقوع لفظ {الْقَصَصُ} فيها عند قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25]. فالقصص الذي أضيفت إليه السورة هو قصص موسى الذي قصه على شعيب عليهما السلام فيما لقيه في مصر قبل خروجه منها. فلما حكي في السورة ما قصه موسى كانت هاته السورة ذات قصص لحكاية قصص، فكان القصص متوغلا فيها. وجاء لفظ {الْقَصَصُ} في [سورة يوسف: 3] ولكن سورة يوسف نزلت بعد هذه السورة.
وهي مكية في قول جمهور التابعين. وفيها آية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. قيل نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الجحفة في طريقه إلى المدينة للهجرة تسلية له على مفارقة بلده. وهذا لا يناكد أنها مكية لأن المراد بالمكي ما نزل قبل حلول النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كما أن المراد بالمدني ما نزل بعد ذلك ولو كان نزوله بمكة.
وعن مقاتل وأبن عباس أن قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52-55] نزل بالمدينة.
وهي السورة التاسعة والأربعون في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة النمل وقبل سورة الإسراء، فكانت هذه الطواسين الثلاث متتابعة في النزول كما هو ترتيبها في المصحف، وهي متماثلة في افتتاح ثلاثتها بذكر موسى عليه السلام. ولعل ذلك الذي حمل كتاب المصحف على جعلها متلاحقة.
وهي ثمان وثمانون آية باتفاق العادين.
(20/5)

أغراضها
اشتملت هذه السورة على التنويه بشأن القرآن والتعريض بأن بلغاء المشركين عاجزون عن الإتيان بسورة مثله. وعلى تفصيل ما أجمل في [سورة الشعراء: 18-19] من قول فرعون لموسى {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} إلى قوله {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ففصلت سورة القصص كيف كانت تربية موسى في آل فرعون.
وبين فيها سبب زوال ملك فرعون.
وفيها تفصيل ما أجمل في [سورة النمل: 7] من قوله {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} ففصلت سورة القصص كيف سار موسى وأهله وأين آنس النار ووصف المكان الذي نودي فيه بالوحي إلى أن ذكرت دعوة موسى فرعون فكانت هذه السورة أوعب لأحوال نشأة موسى إلى وقت إبلاغه الدعوة ثم أجملت ما بعد ذلك لأن تفصيله في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء. والمقصود من التفصيل ما يتضمنه من زيادة المواعظ والعبر.
وإذ قد كان سوق تلك القصة إنما هو للعبرة والموعظة ليعلم المشركون سنة الله في بعثة الرسل ومعاملته الأمم المكذبة لرسلها.
وتحدى المشركين بعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب، ذيل الله ذلك بتنبيه المشركين إليه وتحذيرهم من سوء عاقبة الشرك وأنذرهم إنذارا بليغا.
وفند قولهم {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] من الخوارق كقلب العصا حية ثم انتقاضهم في قولهم إذ كذبوا موسى أيضا.
وتحداهم بإعجاز القرآن وهديه مع هدي التوراة.
وأبطل معاذيرهم ثم أنذرهم بما حل بالأمم المكذبة رسل الله.
وساق لهم أدلة على وحدانية الله تعالى وفيها كلها نعم عليهم وذكرهم بما سيحل بهم يوم الجزاء.
وأنحى عليهم في اعتزازهم على المسلمين بقوتهم ونعمتهم ومالهم بأن ذلك متاع الدنيا وأن ما ادخر للمسلمين عند الله خير وأبقى.
وأعقبه بضرب المثل لهم بحال قارون في قوم موسى. وتخلص من ذلك إلى التذكير
(20/6)

بأن أمثال أولئك لا يحظون بنعيم الآخرة وأن العاقبة للمتقين.
وتخلل ذلك إيماء إلى اقتراب مهاجرة المسلمين إلى المدينة، وإيماء إلى أن الله مظهرهم على المشركين بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية.
وختم الكلام بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيته ووعده بأنه يجعل بلده في قبضته ويمكنه من نواصي الضالين.
ويقرب عندي أن يكون المسلمون ودوا أن تفصل لهم قصة رسالة موسى عليه السلام فكان المقصود انتفاعهم بما في تفاصيله من معرفة نافعة لهم تنظيرا لحالهم وحال أعدائهم. فالمقصود ابتداء هم المسلمون ولذلك قال تعالى في أولها {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3] أي للمؤمنين.
[1] {طسم} تقدم القول في نظيره في فاتحة سورة الشعراء.
[2-3] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
الإشارة في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} على نحو الإشارة في نظيره في سورة الشعراء. فالمشار إليه ما هو مقرؤ يوم نزول هذه الآية من القرآن تنويها بشأن القرآن وأنه شأن عظيم.
وجملة {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى} مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
ومهد لنبأ موسى وفرعون بقوله {نَتْلُو عَلَيْكَ} للتشويق لهذا النبأ لما فيه من شتى العبر بعظيم تصرف الله في خلقه.
والتلاوة: القراءة لكلام مكتوب أو محفوظ كما قال تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 92]، وهو يتعدى إلى من تبلغ إليه التلاوة بحرف (على) وتقدمت عند قوله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} في [البقرة: 102]، وقوله {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} في [سورة الأنفال: 2].
وإسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام
(20/7)

والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله، وهذا كقوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} في [سورة البقرة: 202].
وجعلت التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يتلقى ذلك المتلو. وعبر عن هذا الخبر بالنبإ لإفادة أنه خبر ذو شأن وأهمية.
واللام في {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لام التعليل، أي نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون فكانت الغاية من تلاوة النبأ على النبي صلى الله عليه وسلم هي أن ينتفع بذلك قوم يؤمنون فالنبي يبلغ ذلك للمؤمنين، فإن كان فريق من المؤمنين سألوا أو تشوفوا إلى تفصيل ما جاء من قصة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسورة النمل وهو الظاهر، فتخصيصهم بالتعليل واضح وانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك معهم أجدر وأقوى، فلذلك لم يتعرض له بالذكر اجتزاء بدلالة الفحوى لأن المقام لإفادة من سأل وغيرهم غير ملتفت إليه في هذا المقام.
وإن لم يكن نزول هذه القصة عن تشوف من المسلمين فتخصيص المؤمنين بالتلاوة لأجلهم تنويه بأنهم الذين ينتفعون بالعبر والمواعظ لأنهم بإيمانهم أصبحوا متطلبين للعلم والحكمة متشوفين لأمثال هذه القصص النافعة ليزدادوا بذلك يقينا.
وحصول ازدياد العلم للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك معلوم من كونه هو المتلقي والمبلغ ليتذكر من ذلك ما علمه من قبل ويزداد علما بما عسا أن لا يكون قد علمه، وفي ذلك تثبيت فؤاده كما قال تعالى {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
فالمراد بقوم يؤمنون قوم الإيمان شأنهم وسجيتهم. وللإشارة إلى معنى تمكن الإيمان من نفوسهم أجري وصف الإيمان على كلمة {قَوْمِ} ليفيد أن كونهم مؤمنين هو من مقومات قوميتهم كما قدمناه غير مرة. فالمراد: المتلبسون بالإيمان.وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أن إيمانهم موجود في الحال ومستمر متجدد.
وفي هذا إعراض عن العبء بالمشركين في سوق هذه القصة بما يقصد فيها من العبرة والموعظة فإنهم لم ينتفعوا بذلك وإنما انتفع بها من آمن ومن سيؤمن بعد سماعها.
والباء في قوله {بِالْحَقِّ} للملابسة، وهو حال من ضمير {نَتْلُو} ، أو صفة للتلاوة المستفادة من {نَتْلُو}.
والحق: الصدق لأن حق إذ الحق هو ما يحق له أن يثبت عند أهل العقول
(20/8)

السليمة والأديان القويمة.
ومفعول {نَتْلُو} محذوف دل عليه صفته وهي {مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} . فالتقدير: نتلو عليك كلاما من نبأ موسى وفرعون.
و {مِنْ} تبعيضية فإن المتلو في هذه السورة بعض قصة موسى وفرعون في الواقع ألا ترى أنه قد ذكرت في القرآن أشياء من قصة موسى لم تذكر هنا مثل ذكر آية الطوفان والجراد.
وجعل الزمخشري {مِنْ} اسما بمعنى (بعض) فجعلها مفعول {نَتْلُو} . وجعل الأخفش {مِنْ} زائدة لأنه يرى أن {مِنْ} تزاد في الإثبات، فجعل {نَبَأِ مُوسَى} هو المفعول جر بحرف الجر الزائدة.
والنبأ: الخبر المهم العظيم.
[4] {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .
وهذه الجملة وما عطف عليها بيان لجملة {نَتْلُو} [القصص: 3] أو بيان لـ {نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} [القصص: 3] فقدم له الإجمال للدلالة على أنه نبأ له شأن عظيم وخطر بما فيه من شتى العبر. وافتتاحها بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر.
وابتدأت القصة بذكر أسبابها لتكون عبرة للمؤمنين يتخذون منها سننا يعلمون بها علل الأشياء ومعلولاتها، ويسيرون في شؤونهم على طرائقها، فلولا تجبر فرعون وهو من قبيح الخلال ما حل به وبقومه الاستئصال، ولما خرج بنو إسرائيل من ذل العبودية. وهذا مصداق المثل: مصائب قوم عند قوم فوائد، وقوله تعالى {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].
وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله {عَلا فِي الْأَرْضِ} لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر.
ومعنى العلو هنا الكبر، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]. ومعناه أن يستشعر نفسه عليا على موضع غيره ليس يساويه أحد، فالعلو مستعار لمعنى التفوق على غيره، غير محقوق
(20/9)

لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلها وأنه ابن الشمس.
فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جريا على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي، أو سبب رجحان عادي ويشمل القانوني وهو كل رجحان لا يستقيم نظام الجماعات إلا بمراعاته كرجحان أمير الجيش على جنوده ورجحان القاضي على المتخاصمين.
وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر، والتقي على الفاسق، قال تعالى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة.
وفرعون هذا هو (رعمسيس) الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة، وكان فاتحا كبيرا شديد السطوة وهو الذي ولد موسى عليه السلام في زمانه على التحقيق.
و {الْأَرْضِ} : هي أرض مصر، فالتعريف فيها للعهد لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع لأن فرعون اسم ملك مصر. ويجوز أن تجعل المراد بالأرض جميع الأرض يعني المشهور المعروف منها، فإطلاق الأرض كإطلاق الاستغراق العرفي فقد كان ملك فرعون (رعمسيس) الثاني ممتدا من بلاد الهند من حدود نهر (الكنك) في الهند إلى نهر الطونة في أوربا، فالمعنى أرض مملكته، وكان علوه أقوى من علو ملوك الأرض وسادة الأقوام.
والشيع: جمع شيعة. والشيعة: الجماعة التي تشيع غيرها على ما يريد، أي تتابعه وتطيعه وتنصره كما قال تعالى {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وأطلق على الفرقة من الناس على سبيل التوسع بعلاقة الإطلاق عن التقييد قال تعالى {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
ومن البلاغة اختياره هنا ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقا ذات نزعات تتشيع
(20/10)

كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال (فرق تحكم) وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.
وكان (رعمسيس) الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نوابا عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} الواقع موقع الحال من ضمير {جَعَلَ} وأبدلت منها بدل اشتمال جملة {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدهم ضعفاء، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة. والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل، وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى أهلها لا إلى {شِيَعاً} . وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} تعليل لجملة {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} . وقد علمت مما مضى عند قوله {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [البقرة: 67] أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل: أن أكون جاهلا، فكذلك قوله {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه.
فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.
المفسدة الأولى: التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته. فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه { كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .
المفسدة الثانية: أنه جعل أهل المملكة شيعا وفرقهم أقساما وجعل منهم شيعا مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينهما التحاسد
(20/11)

والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين. وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فتنة، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين، لا ميزة لفرقة على فرقة، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية.
المفسدة الثالثة: أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها.
والمراد بالطائفة: بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض (جاسان) وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى {طَائِفَةً مِنْهُمْ} إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعا.
وأشار بقوله {طَائِفَةً} إلى أنه استضعف فريقا كاملا، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جاريا على أشخاص معينين لأسباب تقضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلا للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول.
من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع النوعية من ذكورة وأنوثة وهي:
المفسدة الرابعة: أنه {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} أي يأمر بذبحهم، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي. والمراد بالأبناء: الذكور من الأطفال. وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة. وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة: أنه يستحيي النساء، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال فأطلق
(20/12)

عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج. وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق. وقد تقدم آنفا موقع جملة {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .
[5-6] { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}
عطفت جملة {وَنُرِيدُ} على جملة {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] لمناسبة ما في تلك الجملة من نبإ تذبيح الأبناء واستحياء النساء، فلذلك من علو فرعون في الأرض وهو بيان لنبأ موسى وفرعون فإن إرادة الله الخير بالذين استضعفهم فرعون من تمام نبأ موسى وفرعون، وهو موقع عبرة عظيمة من عبر هذه القصة.
وجيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد في ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة، ولذلك جاز أن تكون جملة {وَنُرِيدُ} في موضع الحال من ضمير {يَسْتَضْعِفُ}[ القصص: 4] باعتبار أن تلك الإرادة مقارنة لوقت استضعاف فرعون إياهم. فالمعنى على الاحتمالين: ونحن حينئذ مريدون أن ننعم في زمن مستقبل على الذين استضعفوا.
والمن: الإنعام، وجاء مضارعه مضموم العين على خلاف القياس.
و {اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} هم الطائفة التي استضعفها فرعون. والأرض في{الْأَرْضِ} في قوله {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4].
ونكتة إظهار الذين استضعفوا دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل فإن الله رحيم لعباده، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل {نَمُنَّ} عطف الخاص على العام وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال
(20/13)

ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة، ذكر كثير منها في سورة البقرة.
فأما جعلهم أئمة فلذلك بأن أخرجهم من ذل العبودية وجعلهم أمة حرة مالكة أمر نفسها لها شريعة عادلة وقانون معاملاتها وقوة تدفع بها أعداءها ومملكة خالصة لها وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرتها بحيث تصير قدوة للأمم في شؤون الكمال وطلب الهناء، فهذا معنى جعلهم أئمة، أي يقتدي بهم غيرهم ويدعون الناس إلى الخير وناهيك بما بلغه ملك إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام.
وأما جعلهم الوارثين فهو أن يغطيهم الله ديار قوم آخرين ويحكمهم فيهم، فالإرث مستعمل مجاز في خلافة أمم أخرى.
فالتعريف في {الْوَارِثِينَ} تعريف الجنس المفيد أنهم أهل الإرث الخاص وهو إرث السلطة في الأرض بعد من كان قبلهم من أهل السلطان، فإن الله أورثهم أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والأراميين، وأحلهم محلهم على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يعرفون بالجبابرة قال تعالى {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22].
والتمكين لهم في الأرض تثبيت سلطانهم فيما ملكوه منها وهي أرض الشام إن كانت اللام عوضا عن المضاف إليه. ويحتمل أن يكون المعنى تقويتهم بين أمم الأرض إن حمل التعريف على جنس الأرض المنحصر في فرد، أو على العهد، أي الأرض المعهودة للناس.
وأصل التمكين: الجعل في المكان، وقد تقدم في قوله تعالى {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} في [سورة الكهف: 84]، وتقدم الكلام على اشتقاق التمكين وتصاريفه عند قوله تعالى { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في [سورة الأنعام: 6].
و{مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} هو زوال ملكهم بسبب رجل من بني إسرائيل حسبما أنذره بذلك الكهان.
ومعنى إراءتهم ذلك إراءتهم مقدماته وأسبابه.
وفرعون الذي أري ذلك هو ملك مصر (منفتاح) الثالث وهو الذي حكم مصر بعد (رعمسيس) الثاني الذي كانت ولادة موسى في زمانه وهو الذي كان يحذر ظهور رجل من إسرائيل يكون له شان. و {هَامَانَ} قال المفسرون: هو وزير فرعون. وظاهر آيات هذه السورة يقتضي أنه وزير فرعون وأحسب أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب خطة مثل
(20/14)

فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي. فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر. وجاء في كتاب (أستير) من كتب اليهود الملحقة بالتوراة تسمية وزير (أحشويروش) ملك الفرس (هامان) فظنوه علما فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان واتخذوا هذا الظن مطعنا في هذه الآية. وهذا اشتباه منهم فإن الأعلام لا تنحصر وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بين أمم المتجارة، فيجوز أن يكون هامان علما من الأمان فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور، ويجوز أن يكون لقب خطة في مصر فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد الفرس في مدة أسرهم.
ويشبه هذا الطعن طعن بعض المستشرقين من نصارى العصر في قوله تعالى في شأن مريم حين حكى قول أهلها لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] فقالوا: هذا وهم انجر من كون أبي مريم اسمه عمران فتوهم أن عمران هو أبو موسى الرسول عليه السلام، وتبع ذلك توهم أن مريم أخت موسى وهارون وهو مجازفة فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم وهل يمتنع أن يكون مسمى على اسم أبي موسى وهارون وهل يمتنع أن يكون لمريم أخ اسمه هارون. وقد تكلمنا على ذلك في سورة مريم.
والجنود جمع الجند. ويطلق الجند على الأمة قال تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17-18].
وقرأ الجمهور {وَنُرِيَ} بنون العظمة ونصب الفعل ونصب {فِرْعَوْنَ} وما عطف عليه. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {وَيَرَى} بياء الغائب مفتوحة وفتح الراء على أنه مضارع رأى ورفع {فِرْعَوْنَ} وما عطف عليه. ومآل معنى القراءتين واحد.
والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه: هو الجماعة من الناس التي تجتمع على أمر تتبعه، فلذلك يطلق على العسكر لأن عملهم واحد وهو خدمة أمريهم وطاعته.
[7] { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
عطف على جملة {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 5]، إذ الكل من أجزاء النبأ. وتتضمن هذه الجملة تفصيلا لمجمل قوله {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم.
(20/15)

والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها لأنه خاطر من الواردات الإلهية. فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينا يبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه. وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها. وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود، وذكر المفسرين لها أسماء لا يوثق بصحتها.
وقوله {أَنْ أَرْضِعِيهِ} تفسير لـ {أَوْحَيْنَا} . والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى.
الإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن: أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليم.
وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليم قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالية أخته إياهم على أمه إلى أن أحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم. وحكي كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقير وقذفته في النهر. وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عند الضرورة دفعا للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه.
و {الْيَمِّ} : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل. واليم في كلام العرب مرادف البحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحرا قال تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، فإن اليم من الأنهار.
وقد كانت هذه الآية مثالا من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في الشفاء والقرطبي في التفسير يزيد أحدهما على الآخرة عن الأصمعي: أنه سمع جارية أعرابية
(20/16)

تنشد:
أستغفر الله لأمري كله ... قتلت إنسانا بغير حله
مثل غزال ناعما في دله ... انتصف الليل ولم أصله
وهي تريد التورية بالقرآن. فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك (وكانوا يسمون البلاغة فصاحة) فقالت له أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمع في آية واحدة خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين).
فالخبران هما {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وقوله {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه.
والأمران هما: {أَرْضِعِيهِ} و (ألقيه).
والنهيان: {وَلا تَخَافِي} و {وَلا تَحْزَنِي}.
والبشارتان {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
والخوف: توقع أمر مكروه، والحزن: حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب، أو فقد حبيب، أو بعده، أو نحو ذلك.
والمعنى: لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم، ولا تحزني على فراقه.
والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق.
وجملة {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} في موقع العلة للنهيين لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب. وأما قوله { وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فإدخال للمسرة عليها.
[8 ] {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}
الالتقاط افتعال من اللقط، وهو تناول الشيء الملقى في الأرض ونحوها بقصد أو ذهول. أسند الالتقاط إلى آل فرعون لأن استخراج تابوت موسى من النهر كان من إحدى
(20/17)

النساء الحافات بابنة فرعون حين كانت مع أترابها وداياتها على ساحل النيل كما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الخروج.
واللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} لام التعليل وهي المعروفة عند النحاة بلام كي وهي لام جارة مثل كي، زهي متعلقة بـ(التقطه) . وحق لام كي أن تكون جارة لمصدر منسبك من (أن) المقدرة بعد اللام ومن الفعل المنصوب بها فلذلك المصدر هو العلة الباعثة على صدور ذلك الفعل من فاعله. وقد استعملت في الآية استعمالا واردا على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكنهم التقطوه رأفة به وحبا له لما ألقي في نفوسهم من شفقة عليه ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدوا في الله وموجب حزن لهم، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشأن العلة تبعا لاستعارة معنى الحرف إلى معنى آخر استعارة تبعية، أي استعير الحرف تبعا لاستعارة معناه ثم تسري من المعنى إلى الحرف فلذلك سميت استعارة تبعية عند جمهور علماء المعاني خلافا للسكاكي.
وضمير {لَهُمْ} يعود إلى آل فرعون باعتبار الوصف العنواني لأن موسى كان عدوا لفرعون آخر بعد هذا، أي ليكون لدولتهم وأمتهم عدوا وحزنا فقد كانت بعثة موسى في مدة ابن فرعون هذا.
ووصفه بالحزن وهو مصدر على تقدير متعلق محذوف، أي حزنا لهم لدلالة قوله لهم السابق. وليس هذا من الوصف بالمصدر للمبالغة مثل قولك: فلان عدل، لأن ذلك إذا كان المصدر واقعا موقع اسم الفاعل فكان معنى الصدر قائما بالموصوف. والمعنى هنا: ليكون لهم حزنا.والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزنا.
وقرأ الجمهور {وَحَزَناً} بفتح الحاء والزاي. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضم الحاء وسكون الزاي وهما لغتان كالعدم والعدم.
وجملة {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} إلى آخرها في موضع العلة لجملة {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} أي قدر الله نجاة موسى ليكون لهم عدوا وحزنا، لأنهم كانوا مجرمين فجعل الله ذلك عقابا لهم على ظلمهم بني إسرائيل وعلى عبادة الأصنام.
(20/18)

والخاطئ: اسم فاعل من خطئ كفرح إذا فعل الخطيئة وهي الإثم والذنب، قال تعالى {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16]. ومصدره الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء. وتقدم في قوله تعالى {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} في [الإسراء: 31]. وأما الخطأ وهو ضد العمد ففعله أخطأ فهو مخطئ، قال تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، فعلى هذا يتعين أن الفصحاء فرقوا الاستعمال بين مرتكب الخطيئة ومرتكب الخطأ، وعلى التفرقة بين أخطأ وخطئ درج نفطويه وتبعه الجوهري والحريري.
وذهب أبو عبيد وابن قتيبة إلى أن اللفظين مترادفان وأنهما لغتان، وظاهر كلام الزمخشري هنا أنه جار على قول أبي عبيد وابن قتيبة فقد فسر هذه الآية بالمعنيين وقال في (الأساس) (أخطأ في الرأي وخطئ إذا تعمد الذنب. وقيل هما واحد) .
ويظهر أن أصلهما لغتان في معنى مخالفة الصواب عن غير عمد أو عن عمد، ثم غلب الاستعمال الفصيح على تخصيص أخطأ بفعل على غير عمد وخطئ بالإجرام والذنب وهذا الذي استقر عليه استعمال اللغة. وإن الفروق بين الألفاظ من أحسن تهذيب اللغة.
فأما محمل الآية هنا فلا يناسبه إلا أن يكون {خَاطِئِينَ} من الخطيئة ليكون الكلام تعليلا لتكوين حزنهم منه بالأخارة. وتقدم ذكر هامان آنفا.
[9] {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين ايدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح. وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت. وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدر الله نجاة موسى بسببها. وقد قال تعالى في شأنها {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [ التحريم: 11]، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا
(20/19)

حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى.
{امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون ويفيد قولها: ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} .
وارتفع {قُرَّتُ عَيْنٍ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الطفل. وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف، أي هو سبب قرة عين لي ولك.
وقرة العين كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سخنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن، فلما كني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء: أسخن الله عينه. وقول الراجز:
أوه أديم عرضه وأسخن
بعينه بعد هجوع الأعين
أتبعوا ذلك بأن كنوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا: قرة عين، وأقر الله عينه، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنى به العرب عن ذلك وهو {قُرَّتُ عَيْنٍ} ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].
ويجوز أن يكون قوله {قُرَّتُ عَيْنٍ} قسما كما يقال: أيمن الله. فإن العرب يقسمون بذلك، أي أقسم بما تقر به عيني. وفي الحديث الصحيح أن أبا بكر الصديق استضاف نفرا وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر، وفيه قصة إلى أن قال الراوي: فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها. فقال أبو بكر لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا? فقالت: وقرة عيني إنها الآن أكثر من قبل. فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها، وقرة عينه أن لا يقتل موسى، ويكون رفع {قُرَّتُ عَيْنٍ} على الابتداء وخبرة محذوفا، وهو حذف كثير في نص اليمين مثل: لعمرك. وابتدأت بنفسها في {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي} قبل ذكر فرعون إدلالا عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل.
وضمير الجمع في قولها {تَقْتُلُوهُ} يجوز أن يراد به فرعون نزله منزلة الجماعة
(20/20)

على وجه التعظيم كما في قوله {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} . ويجوز أن يراد به خطاب فرعون داخلا فيه أهل دولته هامان والكهنة الذين ألقوا في نفس فرعون أن فتى من إسرائيل يفسد عليه مملكته. وهذا أحسن لأن فيه تمهيدا لإجابة سؤلها حين أسندت معظم القتل لأهل الدولة وجعلت لفرعون منه حظ الواحد من الجماعة فكأنها تعرض بأن ذلك ينبغي أن لا يكون عن رأيه فتهون عليه عدوله في هذا الطفل عما تقرر من قتل الأطفال. وقيل {لا تَقْتُلُوهُ} التفات عن خطاب فرعون إلى خطاب الموكلين بقتل أطفال إسرائيل كقوله {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29].
فموقع جملة {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} موقع التمهيد والمقدمة للعرض. وموقع جملة {لا تَقْتُلُوهُ} موقع التفريع عن المقدمة ولذلك فصلت عنها.
وأما جملة {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فهي في موقع العلة لمضمون جملة {لا تَقْتُلُوهُ} فاتصالها بها كاتصال جملة {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} بها، ولكن نظم الكلام قضى بهذا الترتيب البليغ بأن جعل الوازع الطبيعي عن القتل وهو وازع المحبة هو المقدمة لأنه أشد تعلقا بالنفس فهو يشبه المعلوم البديهي. وجعل الوازع العقلي بعد النهي علة لاحتياجه إلى الفكر، فتكون مهملة التفكير بعد سماع النهي الممهد بالوازع الطبيعي فلا يخشى جماح السامع من النهي ورفضه إياه.
ويتضمن قولها {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} إزالة ما خامر نفس فرعون من خشية فساد ملكه على يد فتى إسرائيلي بأن هذا الطفل لا يكون هو المخوف منه لأنه لما انضم في أهلهم وسيكون ربيهم فإنه يرجى منه نفعهم وأن يكون لهم كالولد. فأقنعت فرعون بقياس على الأحوال المجربة في علاقة التربية والمعاشرة والتبني والإحسان، وإن الخير لا يأتي بالشر. ولذلك وقع بعده الاعتراض بقوله تعالى {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وفرعون وقومه لا يعلمون خفي إرادة الله من الانتقام من أمة القبط بسبب موسى. ولعل الله حقق لامرأة فرعون رجاءها فكان موسى قرة عين لها ولزوجها، فلما هلكا وجاء فرعون آخر بعدهما كان ما قدره الله من نصر بني إسرائيل.
واختير {يَشْعُرُونَ} هنا لأنه من العلم الخفي، أي لا يعلمون هذا الأمر الخفي.
[10] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(20/21)

{أَصْبَحَ} مستعمل في معنى (صار) فاقتضى تحولا من حالة إلى حالة أخرى أي كان فؤادها غير فارغ فأصبح فارغا.
والفؤاد مستعمل في معنى العقل واللب.
والفراغ مجازي. ومعنى فراغ العقل من أمر أنه مجاز عن عدم احتواء العقل على ذلك الأمر احتواء مجازيا، أي عدم جولان معنى ذلك الأمر في العقل، أي ترك التفكير فيه.
وإذ لم يذكر أن فؤاد أم موسى لماذا أصبح فارغا احتملت الآية معاني ترجع إلى محتملات متعلق الفراغ ما هو. فاختلف المفسرون في ذلك قديما، ومرجع أقوالهم إلى ناحيتين: ناحية تؤذن بثبات أم موسى ورباطة جاشها، وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها.
فأما ما يرجع إلى الناحية الأولى فهو أنه فارغ من الخوف والحزن فأصبحت واثقة بحسن عاقبته تبعا لما ألهمها من أن لا تخاف ولا تحزن فيرجع إلى الثناء عليها. وهذا اسعد بقوله تعالى بعد {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لأن ذلك الربط من توابع ما ألهمها الله من أن لا تخاف ولا تحزن.
فالمعنى: أنها لما ألقته في اليم كما ألهمها الله زال عنها ما كانت تخافه عليه من الظهور عليه عندها وقتله لأنها لما تمكنت من إلقائه في اليم ولم يشعر بها أحد قد علمت أنه نجا. وهذا المحمل يساعده أيضا ما شاع من قولهم: فلان خلي البال: إذا كان لا هم بقلبه. وهو تفسير أبي عبيدة والأخفش والكسائي وهذا أحسن ما فسرت به وهو من معنى الثناء عليها بثباتها. وعن ابن عباس من طرق شتى انه قال: فارغا من كل شيء إلا ذكر موسى. وفي هذا شيء من رباطة جاشها إذ فرغ لبها من كل خاطر يخطر في شأن موسى.
وأما زيادة ما أداه الاستثناء بقوله: إلا ذكر موسى، فلعله انتزعه من قوله {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وإلا فليس في الآية ما يؤذن بذلك الاستثناء. وهذا التفسير يقتضي الجمع بين الثناء عليها بحسن ثقتها بالله والإشارة إلى ضعف الأمومة بالتشوق إلى ولدها وإن كانت عالمة بأنه يتقلب في أحوال صالحة به وبها.
وأما الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فقال ابن عطية والقرطبي عن ابن القاسم عن مالك: الفراغ هو ذهاب العقل. قال ابن عطية: هو كقوله تعالى {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} أي لا عقول فيها. وفي الكشاف: أي لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها
(20/22)

لما دهمها من فرط الجزع. وقال ابن زيد والحسن وابن إسحاق: أصبح فارغا من تذكر الوعد الذي وعدها الله إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها: إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله. قال ابن عطية: وقالت فرقة: فارغا من الصبر. ولعله يعني من الصبر على فقده. وكل الأقوال الراجعة إلى هذه الناحية ترمى إلى أن أم موسى لم تكن جلدة على تنفيذ ما أمرها الله تعالى وأن الله تداركها بوضع اليقين في نفسها.
وجملة {كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} تكون بالنسبة للتفسير الأول استئنافا بيانيا لما اقتضاه فعل {أَصْبَحَ} من أنها كانت على حالة غير حالة فراغ فبنيت بأنها كانت تقارب أن تظهر أمر ابنها من شدة الاضطراب فإن الاضطراب ينم بها. فالمعنى: أصبح فؤادها فارغا وكادت، قبل ذلك أن تبدي خبر موسى في مدة إرضاعه من شدة الهلع والإشفاق عليه أن يقتل. وعلى تفسير ابن عباس تكون جملة {إِنْ كَادَتْ} بمنزلة عطف البيان على معنى {فَارِغاً} . وهي دليل على الاستثناء المحذوف. فالتقدير: فارغا إلا من ذكر موسى فكادت تظهر ذكر موسى وتنطق باسمه من كثرة تردد ذكره في نفسها.
وأما على الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فجملة {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} بيان لجملة: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} ، أي كادت لتبدي أمر موسى من قلة ثبات فؤادها.
وعن مجاهد: لما رأت الأمواج حملت التابوت كادت أن تصيح.
والباء في {بِهِ} إما لتأكيد لصوق المفعول بفعله والأصل: لتبديه، وإما لتضمين (تبدي) معنى (تبوح) وهو أحسن و {إِنَّ} مخففة من الثقيلة. واللام في {لَتُبْدِي} فارقة بين {إِنَّ} المخففة و(إن) النافية.
والربط على القلب: توثيقه عن أن يضعف كما يشد العضو الوهن، أي ربطنا على قلبها بخلق الصبر فيه. وجواب {لَوْلا} هو جملة {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} .
والمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله، أي لولا أن ذكرناها ما وعدناها فاطمأن فؤادها. فالإيمان هنا مستعمل في معناه اللغوي دون الشرعي لأنها كانت من المؤمنين من قبل، أو أريد من كاملات المؤمنين.
واللام للتعليل، أي لتحرز رتبة المؤمنين بأمر الله الذين لا يتطرقهم الشك فيما يأتيهم
(20/23)

من الواردات الإلهية.
[11] {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [القصص: 10] سابقا على حصول مضمون {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ، أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته: انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيدا عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها.
وأخت موسى اسمها مريم، وقد مضى ذكر القصة في سورة طه.
والقص: اتباع الأثر، استعمل في تتبع الذات بالنظر فلذلك عدي إلى ضمير موسى دون ذكر الأثر. وقد تقدم في [سورة الكهف: 64] عند قوله {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} .
وبصر بالشيء صار ذا بصر به. أي باصراً له فهو يفيد قوة الإبصار، أي قوة استعمال حاسة البصر وهو التحديق إلى المبصر، فـ(بصر) أشد من (أبصر). فالباء الداخلة على مفعوله باء السببية للدلالة على شدة العناية برؤية المرئي حتى كأنه صار باصرا بسببه. ولك أن تجعل الباء زائدة لتأكيد الفعل فتفيد زيادة مبالغة في معنى الفعل. وتقدم في قوله تعالى {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [سورة طه: 96].
والجنب: بضمتين البعيد. وهو صفة لموصوف يعرف من المقام، أي عن مكان جنب.
و{ عَنْ} للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير (بصرت) لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان.
و {هُمْ} أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته.
[12] {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}
(20/24)

الواو للحال من ضمير {لِأُخْتِهِ} [القصص: 11]. والتحريم: المنع، وهو تحريم تكويني، أي قدرنا في نفس الطفل الامتناع من التقام أثداء المراضع وكراهتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبل ثديها؛ لأن فرعون وامرأته حريصان على حياة الطفل، ومن مقدمات ذلك أن جعل الله إرضاعه من أمه مدة تعود فيها بثديها.
ومعنى {مِنْ قَبْلُ} من قبل التقاطه وهو إيذان بأن ذلك التحريم مما تعلق به علم الله وإرادته في الأزل.
والفاء في قوله {فقالت} فاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة، أي فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد. وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له وتبديل مرضعة عقب أخرى حتى عرض على عدد كثير في حصة قصيرة، وذلك بسرعة مقدرة آل فرعون وكثرة تفتيشهم على المراضع حتى ألفوا عددا كثيرا في زمن يسير، وأيضا لعرض المراضع أنفسهن على آل فرعون لما شاع أنهم يتطلبون مرضعا.
وعرضت سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطفا مع آل فرعون وإبعادا للظنة عن نفسها.
ومعنى {يَكْفُلُونَهُ} يتعهدون بحفظه وإرضاعه. فيدل هذا على أن عادتهم في الإرضاع أن يسلم الطفل إلى المرأة التي ترضعه يكون عندها كما كانت عادة العرب لأن النساء الحرائر لم يكن يرضين بترك بيوتهن والانتقال إلى بيوت آل الأطفال الرضعاء. كما جاء في خبر إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم عند حليمة بنت وهب في حي بني سعد بن بكر. قال صاحب (الكشاف): فدفعه فرعون إليها وأجرى لها وذهبت به إلى بيتها.
والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية في قوله {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} لقصد تأكيد أن النصح من سجاياهم ومما ثبت لهم فلذلك لم يقل: وينصحون له كما قيل {يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} لأن الكفالة أمر سهل بخلاف النصح والعناية.
وتعليق {لَهُ} بـ {نَاصِحُونَ} ليس على معنى التقييد بل لأنه حكاية الواقع. فالمعنى: أن النصح من صفاتهم فهو حاصل له كما يحصل لأمثاله حسب سجيتهم. والنصح: العمل الخالص الخلي من التقصير والفساد.
[13] {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
(20/25)

تقدم نظير قوله {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا} في [سورة طه: 40]. وقوله {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فإنما تأكيد حرف {كَيْ} بمرادفه وهو لام التعليل للتنصيص من أول وهلة على أنه معطوف على الفعل المثبت لا على الفعل المنفي.
وضمير {أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} عائد إلى الناس المفهوم من المقام أو إلى رعية فرعون، ومن الناس بنو إسرائيل.
والاستدراك ناشئ عن نصب الدليل لها على أن وعد الله حق، أي فعلمت ذلك وحدها وأكثر القوم لا يعلمون ذلك لأنهم بين مشركين وبين مؤمنين تقادم العهد على إيمانهم وخلت أقوامهم من علماء يلقنونهم معاني الدين فأصبح إيمانهم قريبا من الكفر.
وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أمور ذات شأن ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين.
فأول ذلك وأعظمه: إظهار أن ما علمه الله وقدره هو كائن لا محالة كما دل عليه قوله {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] وإن الحذر لا ينجي من القدر.
وثانيه: إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغن عنه شيئا في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة.
وثالثه: أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم.
ورابعه: الإشارة إلى حكمة {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [216] في جانب بني إسرائيل {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] في جانب فرعون إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل وتدبير قطع نسلهم.
وخامسه: أن إصابة قوم فرعون بغتة من قبل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] مع قوله {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9].
(20/26)

وسادسه: أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها لعدم التوازن بين المفسدتين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما أخذ البريء وانفلات المجرم.
وسابعه: تعليم أن الله بالغ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي ولما قدر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة ولأنجى موسى مبني إسرائيل إنجاء أسرع ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى في اليم إلى أن رده إلى أمه فتكون في ذلك عبرة للمشركين الذين {قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وليتسموا من بوارق ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخرة.
وثامنه: العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين فإن وجود امرأة فرعون كان سببا في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيل فقالت امرأته {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9] كما قدمنا تفسيره.
وتاسعه: ما في قوله {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفر لهم منه.
وعاشره: ما في قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} من الإشارة إلى أن المرء يؤتي من جهله النظر في أدلة العقل.
ولما في هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التي حقه أن يخطب بها في الناس حين حلوله بالعراق من قبل أخيه عبد الله بن الزبير مكتفيا بالإشارة مع التلاوة فقال {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} وأشار إلى جهة الشام يريد عبد الملك بن مروان {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} وأشار بيده نحو الحجاز، يعني أخاه عبد الله بن الزبير وأنصاره ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما (وأشار إلى العراق يعني الحجاج) {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .
[ القصص : 1- 6 ] .
(20/27)

[14] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج. وهذا الاعتراض نشأ عن جملة {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص: 13] فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[ القصص: 7]. فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [القصص: 13] إلى آخره كمل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وإنما أوتي الحكم أعني النبوة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29]. وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف، إلا قوله {وَاسْتَوَى} فقيل: إن {وَاسْتَوَى} بمعنى بلغ أشده، فيكون تأكيدا، والحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد. وأن الاستواء: كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلا طوالا كما في الحديث (كأنه من رجال شنؤة) فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضيا على الموكوز. والحكم: الحكمة، والعلم: المعرفة بالله.
[15] {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
طويت أخبار كثيرة تنبئ عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدودا من أهل بيت فرعون، وقيل: كان يدعى موسى ابن فرعون.
وجملة {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} عطف على جملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} عطف جزء القصة على جزء آخر منها، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله. والمدينة هي منفيس قاعدة مصر الشمالية.
ويتعلق {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} بـ {دَخَلَ} . و {عَلَى} للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى {عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، أي متمكنا من حين غفلة.
(20/28)