الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف. ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر.
وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار. فمناط التأكيدات في جملة {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبرا على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبه المعلم المتعلم بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لا سيما إذا كانت في معالجتها مشقة.
وزادها تأكيدا عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرة في سياق النفي، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطيع ذلك. فأفاد هذا التركيب نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه.
وزيادة {معي} إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر.
وجملة {وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} في موضع الحال من اسم {إن} أو من ضمير {تستطيع} . فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى. وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد. للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها.
و {كيف} للاستفهام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خبرا.
والخبر بضم الخاء وسكون الباء: العلم. وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ،أي إحاطة من حيث العلم.
(15/108)
والإحاطة: مجاز في التمكن، تشبيها لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به.
وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} أبلغ في ثبوت الصبر من نحو: سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه. وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شانه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد.
ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغا في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم.
فجملة {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} معطوفة على جملة {ستجدني} ، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفا على {صابرا} فيؤول بمصدر، أي وغير عاص. وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم.
وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانة به وحرصا على تقدم التيسير تأدبا مع الله إيذان بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب. إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالبا الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة. وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقى من موسى هذه المعاملة فقال له: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره. والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علما.
والفاء في قوله: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابرا، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه.
وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقا لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه، فربما كان الجواب عنه بدون شره نفس. وربما خالطه بعض القلق فيبكون الجواب غير شاف. فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسبا ليكون البيان أبسط والإقبال
(15/109)
أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين.
والذكر. هنا: ذكر اللسان. وتقدم عند قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} في سورة البقرة [40]. أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض.
وإحداث الذكر: إنشاؤه وإبرازه، كقول ذي الرمة:
أحدتنا لخالقها شكرا
وقرأ نافع {فَلَا تَسْأَلْنِي} بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترنا بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم.
وقرأ ابن عامر مثله. لكن بحذف ياء المتكلم. وقرأ البقية {تسألني} بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون. وأثبتوا ياء المتكلم.
[71] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}
أي فعقب تلك المحاورة أنهما انطلقا. والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد. لأن الدابة إذا حل عقالها مشت. فأصله مطاوع أطلقه.
و {حتى} غاية للانطلاق. أي إلى أن ركبا في السفينة.
و {حتى} ابتدائية. وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله: {إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ} . أصل الكلام: حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها.
وتعريف {السفينة} تعريف العهد الذهني، مثل التعريف في قوله تعالى: {وَأَخَاف أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13].
و {إذا} ظرف للزمان الماضي هنا. وليست متضمنة معنى الشرط. وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما. وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل.
وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة. لأن في تقديم الظرف اهتماما به، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه.
(15/110)
وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي. فلذلك عدي بحرف {في} الظرفية نظير قوله تعالى {وقال اركبوا فيها} دون نحو قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]. وقد تقدم ذلك في سورة هود.
والخرق: الثقب والشق. وهو ضد الالتثام.
والاستفهام في {أخرقتها} للإنكار. ومحل الإنكار هو العلة بقوله: {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} . لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه. ولذلك توجه أن يغير موسى عليه السلام هذا المنكر في ظاهر الأمر. وتأكيد إنكاره بقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} .
والإمر بكسر الهمزة: هو العظيم المفظع. يقال: أمر كفرح إمرا، إذا كثر في نوعه. ولذلك فسره الراغب بالمنكر. لأن المقام دال على شيء ضار. ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة. ولم يجعله نكرا كما في الآية بعدها لأن العمل الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل.
وقرأ الجمهور {لتغرق} بمثناة فوقية مضمونه على الخطاب. وقراه حمزة، والكسائي، وخلف {ليغرق} بتحتية مفتوحة ورفع {أهلها} على إسناد فعل الغرق للأهل.
[72] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}
استفهام تقرير وتعريض باللوم على عدم الوفاء بما التزم، أي أتقر أني قلت إنك لا تستطيع معي صبرا.
و {معي} ظرف متعلق بـ {تستطيع} ، فاستطاعة الصبر المنفية هي التي تكون في صحبته لأنه يرى أمورا عجيبة لا يدرك تأويلها.
وحذف متعلق القول تنزيلا له منزلة اللازم، أي ألم يقع مني قول فيه خطابك بعدم الاستطاعة.
[73] {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسى التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره.
والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذة من لا يصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر. فالحزامة الاحتراز من
(15/111)
صحبة من يطرأ عليه النسيان، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان، كأنه رأى نفسه محقوقا بالمؤاخذة، فكان كلاما بديع النسيج في الاعتذار.
والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61].
و {ما} مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني.
والإرهاق: تعدية رهق، إذا غشي ولحق، أي لا تغشني عسرا. وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة.
والإرهاق: مستعار للمعاملة والمقابلة.
والعسر: الشدة وضد اليسر. والمراد، هنا: عسر المعاملة، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح.
والأمر: الشأن.
و {من} يجوز أن تكون ابتدائية، فكون المراد بأمره نسيانه، أي لا تجعل نسياني منشئا لإرهاقي عسرا. ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسرا.
[74] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}
يدل تفريع قوله: {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاما} عن اعتذار موسى، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين.
والقول في نظم قوله: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاما} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ} [الكهف: 71].
وقوله {فقتله} تعقيب لفعل {لقيا} تأكيدا للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها.
وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه
(15/112)
وصف هذا الفعل بأنه نكر، وهو بضمتين الذي تنكره العقول وتستقبحه. فهو أشد من الشيء الإمر، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم. ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنبا فكان زكيا طاهرا. والزكاء: الزيادة في الخير.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب {زاكية} بألف بعد الزاي اسم فاعل من زكا. وقرأ الباقون {زكية} . وهما بمعنى واحد.
قال ابن عطية: "النون من قوله: {نكرا} هي نصف القرآن. أي نصف حروفه. وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور: إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى: {وليتلطف} في هذه السورة".
[75-76] {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}
كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة {لك} وهو تصريح بمتعلق فعل القول. وإذ كان المقول له معلوما من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به.
واللام في قوله: {لك} لام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقول أو ما في معناه، نحو: قلت له، وأذنت له، وفسرت له؛ وذلك عندما يكون المقول له الكلام معلوما من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع، ولذلك سميت لام التبليغ. ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشد.
وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان: إما لأنه لم يكن نسي. ولكنه رجح تغيير المنكر العظيم. وهو قتل النفس بدون موجب. على واجب الوفاء بالالتزام؛ وإما لأنه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به. وعلى الاحتماليين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعده.
(15/113)
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانا، والثانية شرطا" ، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين.
وأنصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنبا لإحراجه.
وقرأ الجمهور: {لدني} بتشديد النون قال ابن عطية: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سندا خاصا مرويا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.
وقرأ نافع، وأبو بكر، وأبو جعفر {من لدني} بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفا, لأن {لدن} أثقل من {عن} و {من} فكان التخفيف فيها مقبولا دونهما.
ومعنى {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} قد وصلت من جهتي إلى العذر في قطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية.
وأثبت له البلوغ تخييلا، أو استعار البلوغ لتعين حصول الشيء بعد المماطلة.
[77] {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفوهُمَا فوَجَدَا فيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}
نظم قوله {فانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} كنظم نظيريه السابقين.
والاستطعام: طلب الطعام. وموقع جملة {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} كموقع جملة {خرقها} وجملة {فقتله}. فهو متعلق {إذا}. وإظهار لفظ {أهلها} دون الإتيان بضميرهم بأن يقال: استطمعاهم، لزيادة التصريح. تشنيعا بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما وذلك لؤم لأن الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس، ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة، أو من أعد نفسه لذلك من كرام القبيلة، فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية.
وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالا عن نكتة هذا الإظهار في أبيات. وأجابه السبكي جوابا طويلا نشرا ونظما بما لا يقنع. وقد ذكرهما الآلوسي.
وفي الآية دليل على أباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شرع من قبلنا، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه.
(15/114)
ودل لوم موسى الخضر، على أن لم يؤخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم. وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الجي أو القرية. وفي حديث الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة أي يتحفه ويبالغ في بره وضيافته ثلاثة أيام أي إطعام وإيواء بما حضر من غير تكلف كما يتكلف في أول ليلة فما كان بعد ذلك فهو صدقة" .
واختلف الفقهاء في وجوبها فقال الجمهور:الضيافة من مكارم الأخلاق وهي مستحبة وليست واجبة. وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي.وحمد بن عبد الحكم من المالكية: الضيافة حق على أهل الحضر والبوادي. وقال الليث واحمد:الضيافة فرض يوما وليلة.
ويقال: ضيفه وأضافه. فهو مضيف بالتشديد. ومضيف بالتخفيف. والمتعرض للضيافة: ضائف ومتضيف بالتخفيف. والمتعرض للضيافة: ضائف ومتضيف. يقال: ضفته وتضيفته. إذا نزل به ومال إليه.
والجدار: الحائط المبني.
ومعنى {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أشرف على الانقضاض. أي السقوط. أي يكاد يسقط. وذلك بأن مال؛ فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعل شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده.
لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه.
وإقامة الجدار: تسوية ميله. وكانت إقامته بفعل خارق للعادة بأن أشار إليه بيده كالذي يسوي شيئا لينا كما ورد في بعض الآثار. وقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} لوم، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجرا على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجانا لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا. وفيه إشارة إلى أن الأتباع على المتبوع.
وهذا اللوم يتضمن سؤالا عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة
(15/115)
إلى الأجر. وليس هو لوما على مجرد إقامته مجانا، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم.
وقرأ الجمهور {لَتَّخَذْتَ} بهمزة وصل بعد اللام وبتشديد المثناة الفوقية على أنه ماضي {اتخذ}.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {لتخذت} بدون همزة على أنه ماضي {تخذت} المفتتح بتاء فوقية على أنه ماضي ]تخذ[ أوله فوقية، وهو من باب علم.
[78-82] {قَالَ هَذَا فرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أماالسَّفينَةُ فكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في الْبَحْرِ فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفينَةٍ غَصْباً وأماالْغُلامُ فكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفراً فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
المشار إليه بلفظ {هذا} مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال: الشرط أملك عليك أم لك. وكثيرا ما يكون المشار إليه مقدار في الذهن كقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [القصص: 83]وإضافة {فراق} إلى {بيني} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصل: فراق بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج {بين} عن الظرفية عند قوله تعالى {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61].
وجملة {سأنبأك} مستأنفة استئنافا بيانيا، تقع جوابا لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فأنه قد وعده أن يحدث له ذكرا مما يفعله.
والتأويل: تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضي في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضا عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في
(15/116)
العِلْمِ يَقُولُونَ} الخ من أول سورة آل عمران [7].
وفي صلة الموصول من قوله: {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} .
والمساكين: هنا بمعنى ضعفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويرق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم. فليس المراد أنهم فقراء أشد الفقر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين:مسكين ابن آدم وأي مسكين.
وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد.
ومعنى {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} :هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخر كل سفينة يجدها غصبا، أي بدون عوض وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملك في مصالح نفسه وشهواته. كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام.
ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كل بحسب حاله من الاحتياج لأن ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها.
و {وراء} اسم الجهة التي خلف ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم،وهو ضد أمام وقدام.
ويستعار {الوراء} لحال تعقب شيء شيئا وحال ملازمة طلب شيء شيئا بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريبا. كل ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10].
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي
لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وبعض المفسرين فسروا {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} بمعنى أمامهم ملك. فتوهم بعض مدوني اللغة أن {وراء} من أسماء الأضداد، وأنكره الفراء وقال: لا يجوز أن تقول للذي بين يديك وهو وراءك. وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. يعني أن ذلك على المجاز، قال الزجاج: وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللغة.
(15/117)
ومعنى {كُلَّ سَفِيَنةٍ} أي صالحة، بقرينة قوله: {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} . وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصا وأقوالا لم يثبت شيء منها بعينه، ولا يتعلق به غرض في مقام العبرة.
وجملة {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} متفرعة على كل من جملتي {فكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} ، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر، ولكنها قدمت خلافا لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملا ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجبا في الإقدام على خرقها. والمعنى: فأردت أن أعيبها وقد فعلت. وإنما لم يقل: فعبتها، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل. وقد تطلق الإرادة على القصد أيضا. وفي اللسان عزو ذلك إلى سيبويه.
وتصرف الخضر في أمر السفينة تصرف برعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالما بحال الملك أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي. فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين. وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلا الخضر. فلذلك أنكره موسى.
وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جار على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي، فليس من مقام التشريع، وذلك أن الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغيا كافرا. وأراد الله اللطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالم من هذا الطاغي لطفا أراده الله خارقا للعادة جاريا على مقتضى سبق علمه، ففي هذا مصلحة للدين بحفظ أتباعه من الكفر، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين، ومصلحة عامة لأنه حق لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد.
والزكاة: الطهارة، مراعاة لقول موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} .
والرحم بضم الراء وسكون الحاء: نظير الكثر للكثرة.
والخشية: توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله.
وضميرا الجماعة في قوله: {فخشينا} وقوله: {فأردنا} عائدان إلى المتكلم الواحد
(15/118)
بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأن الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال: {فخشينا.. فأردنا} ، ولم يقل مثله عند ما قال: {فأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} لأن سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} في سورة يوسف [79].
وقرأ الجمهور {أَنْ يُبْدِلَهُمَا} بفتح الموحدة وتشديد الدال من التبديل. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الموحدة وتخفيف الدال من الإبدال.
وأما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه. إذ علم الله أن إياهما كان يهمه أمر عيشهما بعده. وكان قد أودع تحت الجدار مالا. ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادقة. فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر، فذلك أيضا لطف خارق للعادة. وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سره لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين.
وقوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها.
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال: {وَمَا فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} علم موسى أن ذلك بأمر من الله تعالى لأن النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعين أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرف عن خطأ.
وانتصب {رحمة} على المفعول لأجله فينازعه كل من أردت، وأردنا، وأراد ربك .
وجملة {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} فذلكة للجمل التي قبلها ابتداء من
(15/119)
قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه.
و {تسطع} مضارع (اسطاع) بمعنى(استطاع). حذف تاء الاستفعال تخفيفا لقربها من مخرج الطاء. والمخالفة بينه وبين قوله {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} للتفنن تجنبا لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه. وابتدئ بأشهرهما استعمالا وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأن التخفيف أولى به لأنه إذا كرر {تستطع} يحصل من تكريره ثقل.
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} تأكيدا للتعريض باللوم على عدم الصبر.
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلا بنوا عليه قواعد موهومة.
فأول ما أسوه منها أن الخضر لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا، وأن العلم الذي أوتيه ليس وحيا ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحه الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعا لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقيه.
وبنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه الفتوحات المكية ، وبين الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منشورة في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفا للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز. وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجة. وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوما ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في عقائده ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.
والأظهر أن الخضر نبي عليه السلام وأنه كان موحى إليه بما أوحي، لقوله: {وَمَا
(15/120)
فعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.
فكونوا على حذر، ممن يقول: أخبرني الخضر.
[84,83] {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
افتتاح هذه القصة بـ {ويسألونك} يدل على أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضابا تنبيها على مثل ذلك.
وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} في سورة الإسراء [85] عن ابن عباس أن المشركين بمكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب. فقالوا: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها كلها فليس بنبي وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبي?. وبينا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف. وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة.
فالسائلون: قريش لا محالة. والمسئول عنه: خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين، كانت أخبار سيرته خفية مجملة مغلقة، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها. وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق، فكان أحبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جربوا بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حكمية أو خلقية فلذلك قال الله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً} .
(15/121)
والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره فحذف المضاف إيجازا لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله {منه} أي من خبره و {من} تبعيضية.
والذكر: التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكرا مبالغة بالوصف بالمصدر، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية.
اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافا كثيرا تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصاصين الذين عنو بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها. والذي يجب الانفصال فيه بادئ ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفا ذاتيا له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ.
ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة بل هما على التشبيه أو على الصورة. فالأظهر أن يكونا ذؤابتين من شعر الرأس متدليتين، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية، قال عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية:"فجعلنا رأسها ثلاثة قرون"، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفرتين فسمي ذا القرنين، كما سمي خرباق ذا اليدين.
وقيل: هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنعت بهما. وقيل: هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون.
ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين، فأحد الأقوال: إنه الإسكندر بن قيليبوس المقدوني. وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين، وقيل: كان
(15/122)
يلبس خوذة في الحرب بها قرنان، وقيل: رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلا لنفسه بالمعبود آمون معبود المصريين وذلك حين ملك مصر.
والقول الثاني: إنه ملك من ملوك حمير هو تبع أبو كرب.
والقول الثالث: أنه ملك من ملوك الفرس وأنه أفريدون بن أنفيان بن جمشيد. هذه أوضح الأقوال، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته.
ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوال تقرب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع وهذه القصة القرآنية تعطى صفات لا محيد عنها: إحداها: أنه كان ملكا صالحا عادلا.
الثانية: أنه كان ملهما من الله.
الثالثة: أن ملكه شمل أقطارا شاسعه.
الرابعة: أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانا كان مجهولا وهو عين حمئة.
الخامسة: أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه.
السادسة: أنه أقام سدا يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين.
السابعة: أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادا وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك.
الثامنة: أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء.
التاسعة: أن خبره خفي دقيق لا يعلمه إلا الأحبار علما إجماليا كما دل عليه سبب النزول.
وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكا صالحا بل كان وثنيا فلم يكن أهلا لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضا فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سدا بين بلدين.
(15/123)
وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الاسكندر فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلا من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تدمر بناها سليمان عليه السلام. وأيضا فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الاسكندر حارب أمه "سكيثوس". وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريبا1.
وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم إسكندر المقدوني أثرا في اشتهار نسبة السد إليه. وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام.
ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عراة أو عديمي المساكين، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين. وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعني بذي القرنين في هذه الآية. فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به. وأيضا فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمتان مجاورتان للأمة العربية.
ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملك المتحدث عنه هو أفريدون، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم. وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصرا إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع. ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا. وقد ظهر من أقوالهم أن سبب هذا التوهم هو وجود كلمة {ذو} التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته.
فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكا من ملوك الصين لوجوه:
أحدهما: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.
الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.
الثالث: أن من سماتهم تطويل سعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.
ـــــــ
1 انظر القاموس الجديد تأليف لاروس في مادة سكيتس.
(15/124)
الرابع: أن سدا ورد ما عظيما لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول. وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.
الخامس: ما روت أن حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال: "ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج هكذا.وأشار بعقد تسعين" أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام. وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم. وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شاول ملك إسرائيل باسم طالوت. وهذا الملك هو الذي بنى السد الفاصل بين الصين ومنغوليا. واسم هذا الملك "تسينشي هوانقتي" أو "تسين شى هو انق تي". وكان موجودا في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن. وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين "كنفيشيوس" المشرع المصلح. فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين.
وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيرا وقتل علماء وأحرق كتبا، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها.
ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن قيليبوس نحلوه بناء السد. وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين. وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة.
والأمر في قوله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} إذن من الله لرسوله بأن يعد بالجواب عن سؤالهم عملا بقوله {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23] على أحد تأويلين في معناه.
والسين في قول: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} في سورة يوسف [98].
وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن فإنه يتلى لأجل الذكر ولا يساق مساق
(15/125)
القصص.
وقوله: {مِنْهُ ذِكْراً} تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكرا وعظة. ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف: نحن نقص عليك من نبئهم. لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر. وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا.
وحرف {من} في قوله: {مِنْهُ ذِكْراً} للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره.
والتمكين: جعل الشيء متمكنا، أي راسخا. وهو تمثيل لقوة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد. وحق فعل مكنا التعدية بنفسه، فيقال: مكناه في الأرض كقوله: {مَكَّنَّاهُمْ في الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]
فاللام في قوله: {مَكَّنَّا لَهُ في الْأَرْضِ} للتوكيد كاللام في قولهم: شكرت له، ونصحت له، والجمع بينهما تفنن. وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ في الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6]
فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف.
والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض ملكه. وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُف في الْأَرْضِ} [يوسف: 56].
والسبب حقيقته: الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} في سورة البقرة [166].
و {كل شيء} مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97]أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.
[85-88] {فأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فسَوْف نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}
السبب: الوسيلة. المراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى
(15/126)
المكان المقصود، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله: {فأتْبَع سَبَبا حَتّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ} . والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} إظهار اسم السبب دون إظماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيها على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقا للسير وكان سيره للغزو، كما دل عليه قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} .
ولم يعد أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام. ويظهر أن قوله تعالى: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] من هذا المعنى، وكذلك قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
أي هاب طرق المنايا أن يسلكها تنله المنايا، أي تأتيه، فذلك مجاز بالقرينة.
والمراد بـ {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته. وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل. والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين.
والقول في تركيب {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفينَةِ خَرَقَهَا}
.
والعين:منبع ماء.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {في عَيْنٍ حَمِئَةٍ} مهموزا مشتقا من الحمأة، وهو الطين الأسود. والمعنى: عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف {في عَيْنٍ حامية} بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن.
ويظهر أن هذه العين من عيون النفط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة باكو، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفا يومئذ. والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة.
(15/127)
وتنكير {قوما} يؤذن بأنهم أمة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.
فجملة {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} استئناف بياني لما أشعر به تنكير {قوما} من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.
وقد دل قوله: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً} على أنهم مستحقون للعذاب، فدل على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه ترددا بين أن يبادر استئصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله: {قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} ، أي قال في نفسه معتمدا على حالة وسط بين صورتي التردد.
وقيل: إن ذا القرنين كان نبيا يوحى عليه فيكون القول كلاما موحى به إليه يخيره فيه بين الأمرين، مثل التخيير الذي في قوله تعالى: {فإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فدَاءً} [محمد: 4] ويكون قوله: {قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} جوابا منه إلى ربه. وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله: {ففهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الانبياء: 79].
و {حسنا} مصدر. وعدل عن {أن تحسن إليهم} إلى {أَنْ تَتَّخِذَ فيهِمْ حُسْناً} مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتخذ فيهم نفس الحسن، مثل قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] }. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.
والظلم: الشرك، بقرينه قسيمة في قوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} .
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله {فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ} يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصر على الكفر يعذبه. وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي آمن بعد كفره.
ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.
والمعنى: فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} [الكهف: 87] وذلك عذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {جَزَاءًَ الْحُسْنَى} بإضافة {جزاء} إلى {الحسنى} على الإضافة البيانية. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف {جزاء الحسنى} بنصب {جزاء} منونا على أنه تمييز لنسبه استحقاقه الحسنى، أو مصدر مؤكد لمضمون
(15/128)
جملة {فَلَهُ جَزَاءًَ الْحُسْنَى} ، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير.
وتأنيث {الحسنى} باعتبار الخصلة أو الفعلة. ويجوز أن تكون {الحسنى} هي الجنة كما في قوله {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].
والقول اليسر: هو الكلام الحسن. وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه. وهو مثل قوله تعالى {فقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الاسراء: 28] أي جميلا.
فإن كان المراد من {الحسنى} الخصال الحسنى، فمعنى عطف {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أنه يجازي بالإحسان وبالثناء. وكلاهما من ذي القرنين، وإن كان المراد من {الحسنى} ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مخبر به خبرا مستعملا في فائدة الخبر، على معنى. إنا نبشره بذلك، أو مستعملا في لازم الفائدة تأدبا مع الله تعالى، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى.
وعطف عليه {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء.
[89-90] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً}
تقدم خلاف القراء في {فأَتْبَعَ سَبَباً} فهو كذلك هنا.
ومطلع الشمس: جهة المشرق من سلطانه ومملكته، بلغ جهة قاصية من الشرق حيث يخال أن لا عمران وراءها، فالمطلع مكان الطلوع.
والظاهر أنه بلغ ساحل بحر اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقا، فوجد قوما تطلع عليهم الشمس لا يسترهم من حرها، أي لا جبل فيها يستظلون بظله ولا شجر فيها، فهي أرض مكشوفة للشمس. ويجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا قوما عراة فكانوا يتقون شعاع الشمس في الكهوف أو في أسراب يتخذونها في التراب. فالمراد بالستر ما يستر الجسد.
وكانوا قد تعودوا ملاقاة حر الشمس، ولعلهم كانوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عن أنفسهم ما يلاقونه من القر ليلا.
(15/129)
وفي هذه الحالة عبرة من اختلاف الأمم في الطبائع والعوائد وسيرتهم على نحو مناخهم.
[91] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} .
{كَذَلِكَ} .
الكاف للتشبيه، والمشبه به شيء تضمنه الكلام السابق بلفظة أو معناه.
والكاف ومجرورها يجوز أن يكون شبه جملة وقع صفة لمصدر محذوف يدل عليه السياق، أي تشبيها ممائلا لما سمعت.
واسم الإشارة يشير إلى المحذوف لأنه كالمذكور لتقرر العلم به، والمعنى: من أراد تشبيهه لم يشبهه بأكثر من أن يشبهه بذاته على طريقة ما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] في سورة البقرة.
ويجوز أن يكون جزء جملة حذف أحد جزأيها والمحذوف ميتدأ. والتقدير:أمر ذي القرنين كذلك، أي كما سمعت.
ويجوز أن يكون صفة ل {قوما} أي قوما كذلك القوم الذين وجدهم في مغرب الشمس، أي في كونهم كفارا، وفي تخييره في إجراء أمرهم على العقاب أو على الإمهال. ويجوز أن يكون المجرور جزء جملة أيضا جلبت للانتقال من كلام إلى كلام فيكون فصل خطاب كما يقال: هذا الأمر كذا.
وعلى الوجوه كلها فهو اعتراض بين جملة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} الخ وجملة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93,92] الخ...
{ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}
هذه الجملة حال من الضمير المرفوع في {ثُمَّ أَتْبَعَ} .
و {بمَا لَدَيْهِ} : ما عنده من عظمة الملك من جند وقوة وثروة.
والخبر بضم الخاء وسكون الموحدة: العلم والإحاطة بالخبر. كناية عن كون المعلوم عظيما بحيث لا يحيط به علما إلا علام الغيوب.
[92-98] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا
(15/130)
يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفسِدُونَ في الْأَرْضِ فهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفيْنِ قَالَ انْفخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}
السد بضم السين وفتحها: الجبل. ويطلق أيضا على الجدار الفاصل، لأنه يسد به الفضاء، وقيل: الضم في الجبل والفتح في الحاجز.
وقرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر. وخلف، ويعقوب بضم السين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاعصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة.
والمراد بالسدين هنا الجبلان، وبالسد المفرد الجدار الفاصل، والقرينة هي التي عينت المراد من هذا اللفظ المشترك.
وتعريف {السدين} تعريف الجنس، أى بين سدين معينين، أي اتبع طريقا آخر في غزوة حتى بلغ بين جبلين معلومين.
ويظهر أن هذا السبب اتجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب. وعينه المفسرون أنه للشمات، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني، فقالوا: إن جهة السدين بين أرمينيا وأذربيجان. ونحن نبني على ما عيناه في الملقب بذي القرنين، فنقول: إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء قوبي الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب مغوليا. وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثاره إلى اليوم شاهدها الجغرافيون والسائحون وصورت صورا شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية.
ومعنى {لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يعرفون شيئا من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام.
(15/131)
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم.
وقرأ الجمهور {يفقهون} بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم. وقرأ حمزة،والكسائى بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم. والمعنيان متلازمان. وهذا كما في حديث الإيمان نسمع دوي صوته ولا نفهم ما يقول.
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج. وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج. ولم يذكر المفسرون تعين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلتهم سوى أنهم قالوا: كم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوما صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتأخم بلاد المغول والتتر.
وجملة {قالوا} استئناف للمحاورة. وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]الآية. فعلى أول الاحتمالين في معنى {لا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال. وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي.
وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين. ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده.
وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين. وهم المغول وبعض أصناف التتار. وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين.
ووقع لعلماء التأريخ وعلماء الأنساب اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما. وقد قال بعض العلماء: إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال أيضا سكيشوس. وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم أنقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة، فمنها ماجوج وياجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك. ويحتمل أن الواو المذكورة
(15/132)
ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيبا مزجيا. فيتكون اسما لأمة وهم المغول.
والذي يجب اعتماده أن اعتماده أن ياجوج وماجوج هم المغول والتتر.
وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون ياجوج هم التتر. وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين. وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أم حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها فزعا يقول: "لا اله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب.فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج مثل هذه" . وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. وقد تقدم آنفا.
ولا يعرف بالضبط وقت إنطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك. ويقدر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري. وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628 هجرية ثم ماكان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660 هجرية.
ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمة من العرب البائدة. وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر. وإطلاق أولاد يحيى على حي بتونس بالجنوب الغربي. ومرادة وفرجان على حي من وطن نابل بتونس.
وقرأ الجمهور {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز. وقرأه عاصم بالهمز.
واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرب. وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج. وهو الخلط. إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطا من أصناف.
والاستفهام من قوله: {فَهَلْ نَجْعَل لَّكَ} مستعمل في العرض.
والخرج: المال الذي يدفع للملك. وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء في قراءة الجمهور. ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء. وكذلك قرأة حمزة، والكسائي، وخلف.
(15/133)
وقرأ الجمهور {سدا} بضم السين وقرأه ابن كثير،وأبو عمرو،وحفص، والكسائي، وخلف بفتح السين.
وقوله {مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه من السد الذي سألتموه. أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين، فأراد أن يبني سورا ممتدا على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذر عليهم تسلق تلك الجبال.
ولذلك سماه ردما. والردم: البناء المردم. شبه بالثؤب المردم المؤتلف من رقاع فوق رقاع. أي سدا مضاعفا. ولعله بني جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتراب المخلوط ليتعذر نقيبه.
ولما كان ذلك يستدعي عمله كثيرين قال لهم: {فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي بقوة الأبدان. أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضرر عنهم.
وقد بنى ذو القرنين وهو تسين شى هوانق تي سلطان الصين هذا الردم بناء عجيبا في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخدمة. فجعل طوله ثلاثة الآف وثلاثمائة كيلو متر. وبعضهم يقول. ألفا ومائتي ميل. بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل. أي البحر الاصفر شرقي مدينة بيكنغ عاصمة الصين في خط اتجاه مدينة مكدن الشهيرة. وذلك عند عرض 40.4 شمالا. وطول 12.02 شرقا. وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 111،50 شرقا. والعرض 39،50 شمالا.وأيضا في 37 عرض شمالي. ومن هنالك يتعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب 99 طولا شرقيا و 40 عرضا شماليا.
وهو مبني بالحجارة ولآجر وبعضه من الطين فقط.
وسمكه عند أسفله نحو 25 قدما وعند أعلاه نحو 15 قدما وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدما. وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدما.
وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع.
ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا. ويخترق جبال بابلوني التي هي حدود طببيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرفه إلى الشمال الغربي لصحراء قوبي.
(15/134)
وقرأ الجمهور {مَكَّنِّي} بنون مدغمة. وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل.
وقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد. فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفا للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله {مَا مَكَّنِّي فيهِ رَبِّي خَيْرٌ فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقا على جعل السد.وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شعب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد.
والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة الكبيرة من الحديد.
والحديد: معدن من معادن الأرض يكون قطعا كالحصى ودون ذلك يكون فيها صلابة. وهو يصنف ابتداء إلى صنفين: لين، ويقال له الحديد الأنثى، وصلب ويقال له الذكر. ثم يصنف إلى ثمانية عشر صنفا. ألوانه متقاربة وهي السنجابي، منها ما هو إلى الحمرة.ومنها ما هو إلى البياض. وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالاسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع مكان فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدأ والخبث، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبد. وخبث الحديد الوارد في الحديث إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الجزاء الغريبة الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زبرا. ومن تلك الزبر تصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات،ولا وسيلة لصنعه إلا الصهر أيضا بالنار بحيث تصير الزبرة كالجمر، فحينئذ تشكل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية.
وقوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفيْنِ} أشعرت {حتى} بشيء مغيا قبلها، وهو كلام محذوف تقديره: فآتوه زبر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل بين الصدفين. وهذا إيجاز الحذف. والمساواة ك جعل الأشياء متساوية، أي متماثلة في مقار أو وصف.
والصدفان بفتح الصاد وفتح الدال في فقراءة الجمهور، وهو الأشهر. وقرأه ابن
(15/135)
كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بضم الصاد والدال، وهو لغة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الصاد وسكون الدال.
والصدف: جانب الجبل، وهما جانبا الجبلين وهما السدان. وقال ابن عطية والقزويني في "الكشف" : إلا صدفان بالثنية، ولا يقال لأحدهما صدف لأن أحدهما يصادف الآخر، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المقصان لما يقطع به الثوب ونحوه.
وعن أبي عيسى: الصدف كل بناء عظيم مرتفع.
والخطاب في قوله: {انفخوا} وقوله: {آتوني} خطاب للعملة. وحذف متعلق {انفخوا} لظهوره من كون العمل من صنع الحديد. والتقدير: انفخوا في الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين وزبر الحديد.
وقرأ الجمهور {قَالَ آتُونِي} مثل الأول.
وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم {ائتوني} على أنه أمر من الإتيان. أي أمرهم أن يحضروا للعمل.
والقطر بكسر القاف: النحاس المذاب.
وضمير {اسطاعوا} و {استطاعوا} ليأجوج وماجوج.
والظهور: العلو. كسر الردم، وعدم استطاعتهم ذلك لارتفاعه وصلابته.
و {اسطاعوا} تخفيف {استطاعوا} . والجمع بينهما تفنن في فصاحة الكلام كراهية إعادة الكلمة. وابتدئ بالأخف منهما لأنه وليه الهمز وهو حرف ثقيل لكونه من الحلق، بخلاف الثاني إذ وليه اللام وهو خفيف.
ومقتضى الظاهر أن يبتدأ بفعل {استطاعوا} ويثنى بفعل {اسطاعوا} لأنه يثقل بالتكرير، كما وقع في قوله آنف: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78].
ثم قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]
ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة زيادة المبنى على زيادة في المعنى.
وقرأ حمزة وحده {فما اسطاعوا} الأول بتشديد الطاء مدغما فيها التاء.
وجملة {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء
(15/136)
حكاية وصف الردم كان ذلك مثيرا سؤال من يسأل: ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم? فيجاب بجملة {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} .
والإشارة بهذا إلى الردم. وهو رحمة للناس لما فيه من رد فساد أمة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة.
و {من} ابتدائية. وجعلت من الله لأن الله ألهمه لذلك ويسر له ما هو صعب.
وفرع عليه {فإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} نطقا بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال. ولأنه علم أن عملا عظيما مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام. وعلم أن ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيض منه لكل ذي سلطان.
والوعد: هو الإخبار بأمر مستقبل، وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم. فاستعار له اسم الوعد. ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيا أو ألهمه إن كان صالحا أن لذلك الردم أجلا معينا ينتهي إليه.
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم "فتح اليوم من ردم ياجوج هكذا. وعقد بين إصبعيه الإبهام والسبابة" كما تقدم.
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة، أي جعله مدكوكا، أي مسوى بالأرض بعد ارتفاع. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} بالمد. والدكاء: اسم للناقة التي لا سنام لها، وذلك على التشبيه البليغ.
وجملة {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] و {كُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقا ثابتا لا يتخلف. وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلا بديعا.
[99-101] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ وَنُفخَ في الصُّورِ فجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ}
(15/137)
الترك: حقيقته مفارقة شيء شيئا كان بقربه، ويطلق مجازا على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلا لحال إلفائه على حالة، تم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه. وإنما يكون هذا المجاز مقيدا بحالة كان عليها مفعول ترك، فيقيد أن ذلك آخر العهد، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة.
والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93]. فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج. بمنزلة جملة {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} [الكهف: 86] في القصة الأولى. وجملة {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} [الكهف:91]
فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد.
و {يومئذ} هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله {فما استطاعوا أن يظهروه} الآية.
و {يموج} يضطرب تشبيها بموج البحر.
وجملة {يموج} حال من {بعضهم} أو مفعول ثان ل {تركنا} على تأويله بـ {جعلنا}. أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصرا عليهم ودفع عن غيرهم.
والنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء.
{وَنُفخَ في الصُّورِ فجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}
تخلص من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر، تذكيرا للسامعين بأمر الحشر وتقريبا بحصوله في خيال المشركين، فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد، بفعل من يسره لذلك من خلقه، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته، لأن متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب. وقد تقدم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات
(15/138)
البعث. واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيها على تحقيق وقوعه.
والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيها لحال الداعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة.
والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى.
وتأكيد فعلي {جمعناهم} و {عرضنا} بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل.
ونعت الكافرين بـ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاءٍ} للتنبيه على أن مضمون الصلة هو سبب عرض جهنم لهم، أي الذين عرفوا بذلك في الدنيا.
والغطاء: مستعار لعدم الانتفاع بدلالة البصر على تفرد الله بالإلهية. وحرف {من} للظرفية المجازية. وهي تمكن الغطاء من أعينهم بحيث كأنها محوية للغطاء.
و {عن} للمجاوزة، أي عن النظر فيما يحصل به ذكري.
ونفي استطاعتهم السمع أنهم لشدة كفرهم لا تطاوعهم نفوسهم للاستماع. وحذف مفعول {سمعا} لدلالة قوله: {عَنْ ذِكْرِي} عليه.
والتقدير: سمعا لآياتي، فنفي الاستطاعة مستعمل في نفي الرغبة وفي الإغراض كقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]
وعرض جهنم مستعمل في إبرازها حين يشرفون عليها وقد سيقوا إليها فيعملون أنها المهيئة لهم، فشبه ذلك بالعرض تهكما بهم، لأن العرض هو إظهار ما فيه رغبة وشهوة.
[102] {أَفحَسِبَ الَّذِينَ كَفرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} .
أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم
(15/139)
تفريع الإنكار على صلة الذين كانت أ'ينهم في غطاء عن ذكري، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعا، أي حسبوا حسبانا باطلا فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئا، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا.
وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله، والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه. فيقدر هنا: آمنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ... وأول القولين أولى. وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى {أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] في سورة البقرة.
والاستفهام إنكاري. والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل. ونظيره قوله {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 2] و {أَنْ يَتَّخِذُوا} ساد مسد مفعولي {حسب} لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين. والتقدير: أحسب الذين كفروا عبادي متخذين أولياء لهم من دوني.
والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو {أولياء} المعمول ل {يتخذوا} بقرينة ما دل عليه فعل
{حسب} من أن هنالك محسوبا باطلا. وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر.
و {عبادي} صادق على الملائكة والجن والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه السلام، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب.
و {مِنْ دُونِي} متعلق بـ {أولياء} إما يجعل {دوني} اسما بمعنى حول أي من حول عذابي، وتأويل {أولياء} بمعنى أنصارا، أي حائلين دون عذابي وما نعينهم منه. وإما يجعل دوني بمعنى غيري. أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم.
وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه.
وجعل في الكشاف فعل {يتخذوا} للمستقبل. أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتخذوهم في الدنيا، وهو المشار إليه بقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافرِينَ عَرْضاً} ونظره بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ
(15/140)
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ: 40-41]
وإظهار الذين كفروا دون أن يقال: أفحسبوا، بإعادة الضمير إلى الكافرين في الآية قبلها، لقصد استقلال الجملة بدلالتها، وزيادة في إظهار التوبيخ لهم.
وجملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} مقررة لإنكار انتفاعهم بأوليائهم فأكد بأن جهنم أعدت لهم نزلا فلا محيص لهم عنها ولذلك أكد بحرف {إن}.
و {أعتدنا} : أعددنا، أبدل الدال الأول تاء لقرب الحرفين، والإعداد: التهيئة، وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف: 29]. وجعل المسند إليه ضمير الجلالة لإدخال الروع في ضمائر المشركين.
والنزل بضمتين: ما يعد للنزيل والضيف من القرى. وإطلاق اسم النزل على العذاب استعارة علاقتها التهكم، كقول عمرو ابن كلثوم:
قربناكم فعجلنا قراكم
قبيل الصبح مرداة طحونا
[103-104] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}
اعتراض باستئناف ابتدائي أثاره مضمون جملة {أَفحَسِبَ الَّذِينَ كَفرُوا} الخ. فإنهم لما اتخذوا أولياء من ليسوا ينفعونهم فاختاروا الأصنام وعبدوها وتقربوا إليها بما أمكنهم من القرب اغترارا بأنها تدفع عنهم وهي لا تغني عنهم شيئا فكان عملهم خاسرا وسعيهم باطلا. فالمقصود من هذه الجملة هو قوله: {وَهُمْ يَحْسًبُونَ...} الخ.
وافتتاح الجملة بالأمر بالقول للاهتمام بالمقول بإصغاء السامعين لأن مثل هذا الافتتاح يشعر بأنه في غرض منهم، وكذلك افتتاحه باستفهامهم عن إنبائهم استفهاما مستعملا في العرض لأنه بمعنى: أتحبون أن ننبئكم بالأخسرين أعمالا، وهو عرض تهكم لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم.
وفي قوله: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} إلى آخره تمليح إذ عدل فيه عن طريقه الخطاب بأن يقال لهم: هل ننبئكم بأنكم الأخسرون أعمالا، إلى طريقة الغيبة بحيث يستشرفون إلى معرفة هؤلاء الأخسرين فما يروعهم إلا أن يعملوا أن المخبر عنهم هم أنفسهم.
والمقول لهم: المشركون، توبيخا لهم وتنبيها على ما غفلوا عنه من خيبة سعيهم.
(15/141)
ونون المتكلم المشارك في قوله: {ننبئكم} يجوز أن تكون نون العظمة راجعة إلى ذات الله على طريقة الالتفات في الحكاية. ومقتضى الظاهر أن يقال: هل ينبئكم الله، أي سينبئكم ويجوز أن تكون للمتكلم المشارك راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الله تعالى لأنه ينبئهم بما يوحى إليه من ربه. ويجوز أن تكون راجعة للرسول وللمسلمين.
وقوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} بدل من {بالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} .
وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصا على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال.
والضلال: خطأ السبيل. شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.
والسعي: المشي في شدة. وهو هنا محاز في العمل كما تقدم عند قوله {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} في سورة الإسراء [19]، أي عملوا أعمالا تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضا وقد أخطأوها وهم يحسبون أنهم يفعلون خيرا.
وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي. والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم.
وبين {يحسبون} و {يحسنون} جناس مصحف، وقد مثل بهما في مبحث الجناس.
[105] {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}
جملة هي استئناف بياني بعد قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} .
وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تميز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} .
وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف.
والآيات: القرآن والمعجزات.
والحبط: البطلان والدحض.
وقوله: {ربهم} يجري على الوجه الأول في نون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أنه إظهار في مقام
(15/142)
الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يقال: أولئك الذين كفروا بآياتنا. ويجري على الوجهين الثاني والثالث انه على مقتضى الظاهر.
ونون {فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} على الوجه الأول في نون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} جارية على مقتضى الظاهر.
وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله: {بِآياتِ رَبِّهِمْ} ، ومقتضى الظاهر أن يقال: فلا يقيم لهم.
ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء. وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلا.
وجعل عدم إقامة الوزن مفرعا على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات.
[106] {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}
الإشارة إما إلى ما تقدم من وعيدهم في قوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} ، أي ذلك الإعداد جزاؤهم.
وقوله: {جزاؤهم} خبر عن اسم الإشارة. وقوله: {جهنم} بدل من {جزاؤهم} بدلا مطابقا لأن إعداد جهنم هو عين جهنم وإعادة لفظ جهنم أكسبه قوة التأكيد؛ وإما إلى مقدر في الذهن دل عليه السياق بينه ما بعده على نحو استعمال ضمير الشأن مع تقدير مبتدأ محذوف. والتقدير: الأمر والشأن ذلك جزاؤهم جهنم.
والباء للسببية، و {ما} مصدرية، أي بسبب كفرهم.
و {اتخذوا} عطف على {كفروا} فهو من صلة {ما} المصدرية. والتقدير: وبما اتخذوا آياتي ورسلي هزوا، أي باتخاذهم ذلك كذلك.
والرسل يجوز أن يراد به حقيقة الجمع فيكون إخبارا عن حال كفار قريش ومن سبقهم من الأمم المكذبين، ويجوز أن يراد به الرسول الذي أرسل إلى الناس كلهم وأطلق عليه اسم الجمع تعظيما كما في قوله: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [ابراهيم: 44].
(15/143)
والهزو بضمتين مصدر بمعنى المفعول. وهو أشد مبالغة من الوصف باسم المفعول، أي كانوا كثيري الهزو بهم.
[107-108] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}
هذا مقابل قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار.
وتأكيد الجملة للاهتمام بها لأنها جاءت في مقابلة جملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافرِينَ نُزُلاً} ، وهي مؤكدة كي لا يظن ظان أن جزاء المؤمنين غير مهتم بتأكيده مع ما في التأكيدين من تقوية الإنذار وتقوية البشارة.
وجعل المسند إليه الموصول بصلة الإيمان وعمل الصالحات للاهتمام بشأن أعمالهم، فلذلك خولف نظم الجملة التي تقابلها فلم يقل: جزاؤهم الجنة. وقد تقدم نظير هذا الأسلوب في المخالف بين وصف الجزاءين عند قوله تعالى في هذه السورة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] ثم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30]
وفي الإتيان بـ {فكانت} دلالة على أن استحقاقهم الجنات أمر مستقر من قبل مهيأ لهم.
وجيء بلام الاستحقاق تكريما لهم بأنهم نالوا الجنة باستحقاق إيمانهم وعملهم، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]
وجمع الجنات إيماء إلى سعة نعيمهم، وأنها جنات كثيرة كما جاء في الحديث: "إنها جنان كثيرة" .
والفردوس: البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين. وعن مجاهد هو معرب عن الرومية. وقيل عن السريانية. وقال الفراء: هو عربي، أي ليس معربا. ولم يرد ذكره في كلام العرب قبل القرآن.
وأهل الشام يقولون للبساتين والكروم: الفراديس. وفي مدينة حلب باب يسمى باب الفراديس.
وإضافة الجنات إلى الفردوس بيانية، أي جنات هي من صنف الفردوس. وورد في
(15/144)
الحديث أن الفردوس أعلى الجنة أو وسط الجنة. وذلك إطلاق آخر على هذا المكان المخصوص يرجع إلى أنه علم بالغلبة.
فإن حملت هذه الآية عليه كانت إضافة {جنات} إلى {الفردوس} إضافة حقيقية، أي جناب هذا المكان.
والنزل تقدم قريبا.
وقوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه. أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى.
والحول: مصدر بوزن العوج والصغر. وحرف العلة يصحح في هذه الضيفة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيح مثل: الحول، وفيما كان منها جمعا الإعلال نحو: الحيل جمع حيلة. وهو من ذوات الواو مشتق من التحول.
[109] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .
لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه غيره وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى.
فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيض العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبينها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله. وفي هذا رد عجز السورة على صدرها.
وقيل: نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول، أي في سورة الإسراء {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا
(15/145)
كثيرا. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} في سورة الإسراء [85].
وقال الترمذي عن ابن عباس: قال حيي بن أخطب اليهودي:"في كتابكم {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] ثم تقرأون {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ؛ فنزل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي...} الآية.
وكلمات الله: ما يدل على شيء من علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به. فإذا أخبر به صار كلمة. ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل. ونظيرها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلق الصلوحي لصفة العلم. وقل من يتنبه لهذا التعلق.
ولما كان شأن ما يخبر الله به على لسان أحد رسله أن يكتب حرصا على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيل الأظفار للمنية. فيكون ما هنا مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحبر.
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء، لأنه يهدي إلى المطلوب، كما شبه نور الله وهديه بالمصباح في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]ويكون المداد تخييلا بالزيت الذي يمد به السراج.
والمداد يطلق على الحبر لأنه تمد به الدواة، أي يمد به ما كان فيها من نوعه، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر. وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمن الآية مكنيتين على الاحتمالين.
واللام في قوله: {لكلماته} لام العلة، أي لأجل كلمات ربي. والكلام يؤذن بمضاف محذوف، تقديره: لكتابة كلمات ربي، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة لو .
(15/146)
والمداد: اسم لما يمد به الشيء، أي يزاد به على ما لديه. ولم يقل مدادا، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده.
والنفاد: الفناء والاضمحلال. ونفاد البحر ممكن عقلا.
وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو {قبل} إمكان نفاد كلمات الله. ولكن لما بني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}
وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله: {قَبْلَ أَنْ تَنْفدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أن لكلمات الله تعالى نفادا كما علمته.
وجملة {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا} في موضع الحال.
و {لو} وصلية،وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فينبه السامع على أنها متحقق معها مفاد الكلام السابق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افتَدَى بِه} في سورة آل عمران [91]. وهذا مبالغة ثانية.
وانتصب {مددا} على التمييز المفسر للإبهام الذي في لفظ {بمثله} أي مثل البحر في الإمداد.
[100] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}
استئناف ثان، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يسأل عن الإخبار به. إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية. ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تلقى إليه، ولكنه بشر علمه كعلم البشر أوحى إليه بما شاء إبلاغه عباده من التوحيد والشريعة. ولا علم له إلا ما علمه ربه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [لأعراف: 203]
(15/147)
فالحصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب. أي ما أنا إلا بشر لا أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيبات.
وأدمج في هذا أهم ما يوحى إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى. وهذا من رد العجز على الصدر من قوله في أول السورة {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْه} إلى قوله: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 2-5].
وجملة {يُوحَى إِلَيَّ} مستأنفة. أو صفة ثانية ل {بشر} .
و {أنما} مفتوحة الهمزة أخت إنما المكسورة الهمزة وهي مركبة من {أن} المفتوحة الهمزة و {ما} الكافة كما ركبت إنما المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده {أن} المفتوحة من المصدرية، وما تفيده إنما من الحصر، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب.
والمعنى: يوحي الله إلي توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة.
وتفريع {فمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} هو من جملة الموحى به إليه. أي يوحى إلي بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة.
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة، إذ جعل التوحيد أصلا لها وفرع عليه الأصلان الآخران، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى. وحصل مع ذلك رد العجز على الصدر وهو أسلوب بديع.
(15/148)
المجلد السادس عشر
سورة مريم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم: عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال :"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال: والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم " . فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته. واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري.
وابن عباس سماها سورة كهيعص ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما.
وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل: أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.
وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]الآية مدني، ولم يعزه لقائل.
وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا.
ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها.
(16/5)
ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.
وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين.
أغراض السورة
ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير.
وهل يثبت الخطي إلا وشيجه
ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم.
والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى.
والتنويه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته. وأن الله يسره بكونه عربيا ليسر تلك اللغة.
والإنذار مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال.
واشتملت على كرامة زكريا إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته.
وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام، ومثله كلامه في المهد.
والتنويه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليه السلام.
ووصف الجنة وأهلها.
وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبي بن خلف والعاصي ابن وائل وتبجحهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.
وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.
ووعد الرسول النصر على أعدائه.
وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.
(16/6)
والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.
وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمان ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمان. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]
ووقع في هذه السورة استطراد بآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية64]
{كهيعص} حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها. وقد تقدم القول في مجموع نظائرها. وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام.
والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفا عليه، لأن الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات.
وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب اسم الحرف الثني وهو{ها}بالإمالة. وفي رواية عن نافع وابن كثير قرأ {ها} بحركة بين الكسر والفتح.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي{يا}بالإمالة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر بإظهار دال{صاد}وقرأ الباقون بإدغامه في ذال {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: من الآية2] وإنما لم يمد{ها} و{يا} مع أن القارئ إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالها، واسما هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة لأجل السكت.
واعلم أنك إن جربت على غير المختار في معاني فواتح السور، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر، وأما الأقوال التي خصت بعضها
(16/7)
بمعان، فقيل في معنى {كهيعص} إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى: الكافي أو الكريم أو الكبير، والهاء من هادي، والياء من حكيم أو رحيم، والعين من العليم أو العظيم، والصاد من الصادق، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وقيل اسم من أسماء القرآن، أي بتسمية جديدة، وليس في ذلك حديث يعتمد.
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم2 :3]
افتتاح كلام، فيتعين أن {ذِكْرُ} خبر مبتدأ محذوف، مثله شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين. والتقدير: هذا ذكر رحمة ربك عبده. وهو بمعنى: اذكر. ويجوز أن يكون {ذكر} أصله مفعولا مطلقا نائبا عن عامله بمعنى الأمر، أي اذكر ذكرا، ثم حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حول في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقد تقدم في سورة الفاتحة. ويرجحه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: من الآية16] ونظائره.
وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدول عن الأسلوب المتعارف في الإخبار، وأصل الكلام: ذكر عبدنا زكريا إذ نادى ربه فقال: رب الخ... فرحمة ربك، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه، مع ما إضافة {رَبِّ} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وإلى ضمير زكريا من التنويه بهما.
وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شؤون آل بيت مريم وكافلها لأن في تلك الأحوال كلها تذكيرا برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه.
وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو زكريا الثاني زوج خالة مريم، وليس له كتاب في أسفار التوراة، وأما الذي له كتاب فهو زكريا ابن برخيا الذي كان موجودا في القرن السادس قبل المسيح. وقد مضت ترجمة زكريا الثاني في سورة آل عمران ومضت قصة دعائه هنالك.
و {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} ظرف ل {رَحْمَتِ} أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت، أو بدل من {ذِكْرُ} ، أي اذكر ذلك الوقت.
والنداء: أصله رفع الصوت بطلب الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} في سورة آل عمران وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
(16/8)
أورثتموها} في سورة الأعراف. ويطلق الندار كثيرا على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهرا، أي تضرعا لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام: أن زكريا قال: يا رب، بصوت خفي. وإنما كان خفيا لأن زكريا رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أن الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا. فلعل يقينن زكريا كاف في تقوية التوجه. فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا، لأنه نداء من يسمع الخفاء.
والمراد بالرحمة: استجابة دعائه، كما سيصرح به بقوله {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكريا كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً [4] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً [5] يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [6]}
جملة {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} مبنية لجملة {نَادَى رَبَّهُ} وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} وإنما كان ذلك تمهيدا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه. فليس سؤاله الولد سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر.
ووصف من ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالا ومثالا. فكان وهن العظم وعموم الشيب حالا مقتضيا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة. فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت.
والخبران من قوله: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} مستعملان مجازا في لازم الإخبار. وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران.
والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه
(16/9)
أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأن العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلعه الوهن إلا وقد بلغ ما فوقه.
والتعريف في {العظم} تعريف الجنس دال على عموم العظام منه. وشبه عموم الشيب شعر رأسه أو غلبته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم اسود. تشبيها مركبا تمثيليا قابلا لاعتبار التفريق في التشبيه. وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل {اشْتَعَل} .
وأسند الاشتعال إلى الرأس. وهو مكان الشعر الذي عمه الشيب.لأن الرأس لا يعمه الشيب إلا بعد أن يعم اللحية غالبا. فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي، لأن الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب. فلما جيء باسم الشيب تميزا لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته، وخصوصية التفضيل بعد الاحتمال. مع إفادة تنكير {شَيْباً} من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد: واشتعل الشيب في شعر الرأس.
ولما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبني المعاني والبيان كان لها اعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب الكشاف ووضحه صاحب المفتاح فانظرهما.
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله:
واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا
ولكنه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل: ماء ولا كصدي.
والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالبا، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيض الشعر من مرض.
وجملة {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} معترضة بين الجمل التمهيدية. والباء في قوله {بِدُعَائِكَ} للمصاحبة.
(16/10)
والشقي: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفا.
ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجري المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي عسى أن أكون سعيدا، أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في شأن الذين يذكون الله ومن جالسهم "هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم" أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء، لم نعرف اسمه وهو إسلامي:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
أي يسعد به جليسه.
والمعنى: لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود منك، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه.
وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل طريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه، وتوسل إليه بما سلف له معه من الاستجابة.
روي أن محتاجا سأل حاتما الطائي أو معن بن زائدة قائلا: أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا.
وجملة {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} عطف على جملة {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} ، أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي.
وما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أنه قال: "يرحم الله زكريا ما كان عليه من وراثة ماله" فلعله خشي سوء معرفتهم بما يخلفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعز على المؤمن تلاشيها، ولذلك قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ} فإن نفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.
فقوله: {يَرِثُنِي} يعني به وراثة ماله. ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله زكريا ما كان عليه من وراثة ماله" .
والظواهر تؤذ ن بأن الأنبياء كانوا يورثون، قال تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}
(16/11)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" فإنما يريد به رسول الله نفسه، كما حمله عليه عمر في حديثه مع العباس وعلي في صحيح البخاري إذ قال عمر: يريد رسول الله بذلك نفسه. فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان ذلك حكما سابقا كان مراد زكريا إرث آثار النبوة خاصة من الكتب المقدسة وتقاييده عليها.
والموالي: العصبة وأقرب القرابة، جمع مولي بمعنى الولي.
ومعنى: {مِنْ وَرَائي} من بعدي، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء. كما قال النابغة:
وليس وراء اله للمرء مطلب
أي بعد الله. فمعنى {مِنْ وَرَائي} من بعد حياتي.
و {مِنْ وَرَائي} في موضع الصفة ل {الْمَوَالِيَ} أو الحال.
وامرأة زكريا اسمها أليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.
والعاقر: الأنثى التي لا تلد، فهو وصف خاص بالمرأة، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره: العقر بفتح العين وضمها مع سكون القاف. وأتى بفعل[كان] للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.
ومعنى {مِنْ لَدُنْكَ} أنه من عند الله عندية خاصة، لأن المتكلم يعلم أن كل شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسباب ومسبباتها تبعا لخلقها، فلما قال {مِنْ لَدُنْكَ} 1 دل على أنه سأل وليا غير جار أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة، فتكون هبته كرامة له.
ويتعلق {لِيَ} و {مِنْ لَدُنْكَ} بفعل {فَهَبْ} . وإنما قدم {لِي} على {مِنْ لَدُنْكَ} لأنه الأهم من غرض الداعي، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.
و {يَرِثُنِي} قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل {وَلِيّاً} . وقرأه أبو عمرو، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله: {فَهَبْ ِلي} لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السبب.
و {آلِ يَعْقُوبَ} يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ {آلِ}
ـــــــ
1 في المطبوع " من عندك".
(16/12)
المشعر بالفضيلة والشرف، فيكون يعقوب هو إسرائيل، كأنه قال: ويرث من آل إسرائيل، أي حملة الشريعة وأحبار اليهودية كقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54] وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سنته، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} ، وقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] . مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.
ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان، قاله: معقل والكلبي. وهو عم مريم أخو عمران أبيها، وقيل: هو أخو زكريا، أي ليس له أولاد فيكون ابن زكريا وارثا ليعقوب لأنه ابن أخيه، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكريا من ورائه.
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم: 7 - 8]
مقول قول محذوف دل عليه السياق عقب الدعاء إيجازا، أي قلنا يا زكريا الخ...
والتبشير: الوعد بالعطاء. وفي الحديث: أنه قال للأنصار فأبشروا وأملوا وفي حديث وفد بني تميم: اقبلوا البشرى، فقالوا بشرتنا فأعطيتنا.
ومعنى: {اسْمُهُ يَحْيَى} سمية يحيى، فالكلام خبر مستعمل في الأمر.
والسمي فسروه بالموافق في الاسم، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده. فعليه يكون هذا الإخبار سرا من الله أودعه زكريا فلا يظن أنه قد يسمي أحد ابنه يحيي فيما بين هذه البشارة وبين ازداد الولد. وهذه منة من الله وإكرام لزكريا إذا جعل اسم ابنه مبتكرا. وللأسماء المبتكرة مزية قوة تعريف المسمى لقلة الاشتراك، إذ لا يكون مثله كثيرا مدة وجوده. وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمنا واستجادة.
وعندي: أن السمي هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف فإن الاسم أصله في الاشتقاق "وسم"، والسمة: أصلها وسمة، كما في قوله تعالى: {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27]، أي يصفونهم أنهم إناث، ومنه قوله
(16/13)
الآتي: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: من الآية65] أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه. وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه. والمعنى: أنه لم يجيء قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطى النبوءة وهو صبي، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: من الآية12]. وجعل حصورا ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمه بعد العقر. وبعث مبشرا برسالة عيسى عليه السلام، ولم يكن هو رسولا، وجعل اسمه العلم مبتكرا غير سابق من قلبه. وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأن الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلت، ولذلك قيل المزية لا تقتضي الأفضلية وهي كلمة صدق.
وجملة {قَالَ رَبِّ} جواب للبشارة.
و {أَنَّى} استفهام مستعمل في التعجب. والتعجب مكنى به عن الشكر، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولدا ثم يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولدا من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر، وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران.
وجملة {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} حال من ياء التكلم وكرر ذلك مع قوله في دعائه {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} . وهو يقتضي أن زكريا كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عنة ولا خصاء ولا اعتراض، لأنهم يحسبون الإنعاض والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العقر. وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إما لعلة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} للابتداء، وهو مجاز في معنى التعليل.
والكبر: كثرة سني العمر. لأنه يقارنه ظهور قلة النشاط واختلال نظام الجسم.
و {عِتِيّا} مفعول {بَلَغْتُ}
والبلوغ: مجاز في حلول الإنسان. وجعل نفسه هنا بالغا الكبر وفي آية آل عمران قال {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: من الآية40] لأن البلوغ لما كان مجازا في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف.
(16/14)
والعتي بضم العين في قراءة الجمهور: مصدر عتا العود إذا يبس، وهو بوزن فعول أصله عتوو، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمة ولكنهم لما استقلوا توالي ضمتين بعدهما وأوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثر كسرة فلما قلبت ياء اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام. وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلا لدفع الالتباس بينه وبين العتو الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر.
شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة السكنية، وإثبات وصف العتي لها استعارة تخييلية.
[9] {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}
فصلت جملة {قَالَ كَذَلِك} لأنها جرت على طريقة المحاورة وهي جواب عن تعجبه. والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} . فضمير {قال} عائد إلى الرب من قوله {قال رب أنى يكون لي غلام} [مريم: 8].
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ} إلى قول زكريا: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} والجار والمجرور مفعول لفعل {قال ربك} ، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدر ربك، ففعل {قال ربك} مراد به القول التكويني، أي التقديري، أي تعلق الإرادة والقدرة. والمقصود من تقديره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] فجملة {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] استئناف بياني جوابا لسؤال ناشئ عن قوله: {كَذَلِكَ} لأن تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يبطل ذلك التعجب المقرر، وذلك كونه هينا في جانب قدرة الله تعالى العظيمة.
ويجوز أن يكون المشار إليه بقول: {كَذَلِكَ} هو القول المأخوذ من {قَالَ رَبُّكَ} ، أي أن قول ربك: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت، فيكون جاريا على طريقة التشبيه كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: من الآية143]، وقد تقدم في سورة البقرة. وعلى هذا الاحتمال فجملة {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: من الآية9] تعليل لإبطال التعجب إبطالا مستفادا من قوله: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} ، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله
(16/15)
{قَالَ رَبُّكَ} [مريم: من الآية9] إلى التكلم في قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} التفاتا. ومقتضى الظاهر: هو عليه هين.
والهين بتشديد الياء: السهل حصوله.
وجملة {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله {هو علي هين} ، أي إيجاد الغلام لك هين علي في حال كوني قد خلقتك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجودا، أي في حال كونه مماثلا لخلقي إياك، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم.
ومعنى {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} : لم تكن موجودا.
وقرأ الجمهور {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ} بتاء المتكلم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {وقد خلقناك} بنون العظمة.
[10] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}
أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام، لأن البشارة لم تعين زمنا، وقد يتأخر الموعود به لحكمة، فأراد زكريا أن يعلم وقت الموعود به. وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به، ولذلك حذف متعلق {آية} . وإضافة {آيَتُكَ} [مريم: من الآية10] على معنى اللام، أي آية لك، أي جعلنا علامة لك.
ومعنى {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} [مريم: من الآية10] أن لا تقدر على الكلام، لأن ذلك هو المناسب لكونه آية من قبل الله تعالى. وليس المراد نهيه عن كلام الناس، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية، وقد قدمنا تحقيق ذلك في سورة آل عمران.
وجعلت مدة انتفاء تكليمه الناس هنا ثلاث ليال، وجعلت في سورة آل عمران ثلاثة أيام فعلم أن المراد هنا ليال بأيامها وأن المراد في آل عمران أيام بلياليها.
وأكد ذلك هنا بوصفها ب {سَوِيّاً} [مريم: من الآية10] أي ثلاث ليال كاملة، أي بأيامها.
وسوي: فعيل بمعنى مفعول، يستوي الوصف به الواحد والواحدة والمتعدد منهما.
(16/16)
وفسر أيضا {سَوِيّاً} بأنه حال من ضمير المخاطب، أي حال كونك سويا، أي بدون عاهة الخرس والبكم. ولكنها آية لك اقتضتها الحكمة، التي بيناها في سورة آل عمران. وعلى هذا فذكر الوصف لمجرد تأكيد الطمأنينة، ولألا فإن تأجيله بثلاث ليال كاف في الاطمئنان على انتفاء العاهة.
[11] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
الظاهر أن المعنى أنه خرج على قومه ليصلي على عادته،فكان في محرابه في صلاة خاصة ودعاء خفي، ثم خرج لصلاة الجماعة إذ هو الحبر الأعظم لهم.
وضمن {خَرَجَ} معنى {طلع} فعدي ب {عَلَى} كقوله تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} [القصص: من الآية79].
والمحراب: بيت أو محتجر يخصص للعبادة الخاصة. قال الحريري: فمحرابي أحرى بي.
والوحي: الإشارة بالعين أو بغيرها، والإيماء لإفادة معنى شأنه أن يفاد بالكلام.
و [أن] تفسيرية. وجملة {سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} تفسير ل {أَوْحَى}، لأن [أوحى] فيه معنى القول دون حروفه.
وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكريا لما لم يكلمهم قد نذر صمتا فيقتدوا به فيصمتوا، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة. كما سيأتي في قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: من الآية26]. فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح، أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيهم ابنا يرث علمه. ولعلهم كانوا علموا ترقبه استجابة دعوته، أو أنه أمرهم بذلك أمرا مبهما يفسره عندما تزول حبسة لسانه.
[12- 14 ] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً}
مقول قول محذوف، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى، فلا محالة أنه صادر من قائل، ولا يناسب إلا أن يكون قولا من الله تعالى، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته. والأظهر أن هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكريا. فهذا ابتداء ذكر
(16/17)
فضائل يحيى.
وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به. والسياق يدل عليه. والتقدير: قلنا يا يحيى خذ الكتاب.
والكتاب: التوراة لا محالة، إذ لم يكن ليحيى كتاب منزل عليه.
والأخذ: مستعار للتفهم والتدبر، كما يقال: أخذت العلم عن فلان، لأن المعتنى بالشيء يشبه الآخذ.
والقوة: المراد بها قوة معنوية، وهي العزيمة والثبات.
والباء للملابسة، أي أخذا ملابسا للثبات على الكتاب. أي على العمل به وحمل الأمة على اتباعه، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها.
و {وَآتَيْنَاهُ} عطف على جملة القول المحذوفة، أي قلنا: يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم.
والحكم: اسم للحكمة. وقد تقدم معناها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} البقرة: من الآية269 في سورة البقرة. والمراد بها النبوءة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: من الآية22] في سورة يوسف، فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه. وقيل: الحكم هو الحكمة والفهم.
و {صبيا} حال من الضمير المنصوب في {آتيناه} . وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد، كما أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه. ويبعد أن يكون يحيى أعطي النبوة وهو صبي، لأن النبوة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشد. واتفق العلماء على أن يحيى أعطي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير. ولعل الله لما أراد أن يكون شهيدا في مقتبل عمرة باكرة بالنبوة.
والحنان: الشفقة. ومن صفات الله تعالى الحنان. ومن كلام العرب: حنانيك، أي حنانا منك بعد حنان. وجعل حنان يحيى من لدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس.
والزكاة: زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث، كما في قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى
(16/18)
أَنْ تَزَكَّى} ، أو أريد بها البركة.
وتقي: فعيل بمعنى مفعل، من اتقى إذا اتصف بالتقوى، وهي تجنب ما يخالف الدين. وجيء في وصفه بالتقوى بفعل {كَاَن تَقِيَّا} للدلالة على تمكنه من الوصف.
وكذلك عطف بروره بوالديه على كونه تقيا للدلالة على تمكنه من هذا الوصف.
والبرور: الإكرام والسعي في الطاعة. والبر بفتح الباء وصف على وزن المصدر، فالوصف به مبالغة. وأما البر بكسر الباء فهو اسم مصدر لعدم جريه على القياس.
والجبار: المستخف بحقوق الناس، كأنه مشتق من الجبر، وهو القسر والغصب، لأنه يغصب حقوق الناس.
والعصي: فعيل من أمثلة المبالغة، أي شديد العصيان. والمبالغة منصرفة إلى النفي لا إلى المنفي، أي لم يكن عاصيا بالمرة.
[15] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}
الأظهر أنه عطف على {وآتيناه الحكم صبيا} مخاطبا به المسلمون ليعلموا كرامة يحيى عند الله.
والسلام: اسم الكلام الذي يفاتح به الزائر والراحل فيه ثناء أو دعاء. وسمي ذلك سلاما لأنه يشتمل على الدعاء بالسلامة ولأنه يؤذن بأن الذي أقدم هو عليه مسالم له لا يخشى منه بأسا. فالمراد هنا سلام من الله عليه، وهو ثناء الله عليه، كقوله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58]. فإذا عرف السلام باللام فالمراد به مثل المراد بالمنكر أو مراد به العهد، أي سلام إليه، كما سيأتي في السلام على عيسى. فالمعنى: أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة.
وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداء أطوار: طور الورود على الدنيا. وطور الارتحال عنها، وطور الورود على الآخرة. وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال.
والمراد باليوم مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال.
(16/19)
وجيء بالفعل المضارع في {وَيَوْمَ يَمُوتُ} [مريم: من الآية15] لاستحضار الحالة التي مات فيها. ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلا إجمالا.
[16 - 21 ] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}
جملة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} عطف على جملة {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} عطف القصة على القصة فلا يراعى حسن اتحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم. على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} مصدرا وقع بدلا من فعله. والمراد بالذكر: التلاوة، أي اتل خبر مريم الذي نقصه عليك.
وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها.
والكتاب: القرآن، لأن هذه القصة من جملة القرآن. وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة {فِي الْكِتَابِ} بعد كلمة {واذكر} . وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبي صلى الله عليه وسلم كقوله "لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي" .
ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ {اذكر} . ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ {واذكر} في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور.
و {إذ} ظرف متعلق بـ {اذكر} باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر، وليس متعلقا به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى.
ويجوز أن يكون {إذ} مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلا من مريم، أي اذكر زمن انتباذها مكانا شرقيا. وقد تقدم مثله في قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى
(16/20)
رَبَّهُ} .
والانتباذ: الانفراد والاعتزال، لأن النبذ: الإبعاد والطرح، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه، تم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له.
وانتصب {مَكَاناً} على أنه مفعول {انْتَبَذَتْ} لتضمنه معنى حلت. ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام. والمعنى: ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي.
ونكر المكان إبهاما له لعدم تعلق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالا في المقصود من القصة. وأما التصدي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قبلة لصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس. كما قال ابن عباس: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى: {مَكَاناً شَرْقِيّاً} أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى. فذكر كون المكان شرقيا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل.
واتخاذ الحجاب: جعل شيء يحجب عن الناس. قيل: إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط.
والروح: الملك، لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلا على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشرا.
والتمثل: تكلف المماثلة، أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة.
و {بَشَراً} حال من ضمير {تَمَثَّلَ}، وهو حال على معنى التشبيه البليغ.
والبشر: الإنسان. قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [صّ: من الآية71] أي خالق آدم عليه السلام.
والسوي: المستوى، أي التام الخلق. وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة، وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} ، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة.
وجملة {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم: من الآية18] خبرية، ولذلك أكدت بحرف التأكيد. والمعنى:
(16/21)
أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذا لها منه، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما هم به. وهذه موعظة له.
وذكرها صفة {الرحمان} دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعرا عليها.
وقولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتقي ربه.
ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته. وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التقوى مستقرة فيه. وهذا أبلغ وعظ وتذكير وحث على العمل بتقواه.
والقصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} قصر إضافي، أي لست بشرا، ردا على قولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} المقتضى اعتقادها أنه بشر.
وقرأ الجمهور {لِأَهَبَ} [مريم: من الآية19] بهمزة المتكلم بعد لام العلة. ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة. وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع "ليهب" بياء الغائب، أي ليهب ربك لك، مع أنها مكتوبة في المصحف بألف. وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء.
ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله، لأنها علمت أنه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربها في أمر لم تطقه،كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط. وكما راجعه محمد صلى الله عليه وسلم في فرض خمسين صلاة. ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرا عظيما إذ هي مخطوبة لرجل ولم يبن بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف.
وقولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون، والمقصود منه تأكيد النفي. فمفاد قولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} غير مفاد قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} .
وقولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي لم يبن بي زوج، لأنها كانت مخطوبة و مراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى.
(16/22)
وأما قولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فهو نفي لأن تكون بغيا من قبل تلك الساعة، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك. فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب. والمعنى: ما كنت بغيا فيما مضى أفأعد بغيا فيما يستقبل.
وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي، وفيما ذكرنا مخرج من مأزقها. وليس كلام مريم مسوقا مساق الاستبعاد مثل قول زكريا: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم: من الآية8] لاختلاف الحالين لأن حال زكريا حال راغب في حصول الولد، وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله.
والبغي: اسم للمرأة الزانية، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.
وجواب الملك معناه: أن الأمر كما قلت، نظير قوله في قصة زكريا {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ، وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة لا بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.
وفي قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضد قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدى الناس لرسالة عيسى عليه السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده، لأن مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.
فضمير {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} . فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكريا اختلاف في المعنى.
والكلام في الموضوعين على لسان الملك من عند الله، ولكنه أسند في قصة زكريا إلى الله لأن كلام الملك كان تبليغ وحي عن الله جوابا من الله عن مناجاة زكرياء، وأسند في هذه القصة إلى الملك لأنه جواب عن خطابها إياه.
وقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ} عطف على {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} باعتبار ما في ذلك من قول الروح لها: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} ، أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها، وجعله
(16/23)
آية للناس ورحمة كرامة للغلام، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم.
وجملة {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} يجوز أن تكون في قول الملك، ويجوز أن تكون مستأنفه. وضمير {كان} عائد إلى الوهب المأخوذ من قوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً}
وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها.
[22] {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}
الفاء للتفريع والتعقيب، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة.
والحمل: العلوق، يقال: حملت المرأة ولدا، وهو الأصل، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} . ويقال: حملت به. وكأن الباء لتأكيد اللصوق، مثلها في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: من الآية6]. قال أبو كبير الهذلي:
حملت به في ليلة قرءودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
والانتباذ تقدم قريبا، وكذلك انتصاب {مكانا} تقدم.
و {قصيا} بعيدا، أي بعيدا عن مكان أهلها. قيل: خرجت إلى البلاد المصرية فارة من قومها أن يعزروها وأعانها خطيبها يوسف النجار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية. ولا يصح.
وفي إنجيل لوقا: أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوبا للحضور بقرية أهله لأن ملك البلاد يجري إحصاء سكان البلاد، وهو ظاهر قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحْمِلُهُ} .
والفاء في قوله {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} للتعقيب العرفي، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها.
و {أَجَاءَهَا} معناه ألجأها، وأصله جاء، عدي بالهمزة فقيل: أجاءه، أي جعله جائيا. ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء، كأنه يجئ به إلى ذلك الشيء، ويضطره إلى المجيء إليه. قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء. وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب وقال زهير:
(16/24)
وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
والمخاض بفتح الميم: طلق الحامل، وهو تحرك الجنين للخروج.
والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد. وهو ما بين العروق والأغصان، أي إلى أصل نخلة استندت إليه.
وجملة {قَالَتْ} استئناف بياني، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها.
وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى. فلذلك كانت في مقام الصديقية.
والمشار إليه في قولها: {قَبْلَ هَذَا} هو الحمل. أرادت أن لا يتطرق عرضا بطعن ولا تجر على أهلها معرة. ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدو الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة.
وقرأ الجمهور {مِتُّ} بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} في سورة آل عمران. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل. وهما لغتان في فعل {مات} إذا اتصل به ضمير رفع متصل.
والنسي بكسر النون وسكون السين في قراءة الجمهور: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى. ووزن فعل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيد تهيئته لتعلق الفعل به دون تعلق حصل. وذلك مثل الذبح في قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، أي كبش عظيم معد لأن يذبح، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذبيح. والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنساء، ويقولون عند الارتحال: أنظروا أنساءكم، أي الأشياء التي شأنكم أن تنسوها.
ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها، أي ليتني كنت شيئا غير متذكر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها
(16/25)
من قبل ذلك.
وقرأه حمزة، وحفص، وخلف {نَسْياً} بفتح النون، وهو لغة في النسي، كالوتر والوتر، والجسر والجسر.
[24] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}
ضمير الرفع المستتر في {نَادَاهَا} [مريم: من الآية24] عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في {فَحَمَلَتْه} ، أي ناداها المولود.
قرأ نافع، وحمزة والكسائي، وحفص، وأبو جعفر، وخلف، وروح عن يعقوب {مِنْ تَحْتِهَا} بكسر ميم من على أنها حرف ابتداء متعلق ب {نَادَاهَا} وبجر {تَحْتِهَا}
وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {مَن} بفتح الميم على أنها اسم موصول، وفتح {تَحتَها} على أنه ظرف جعل صلة. والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها. وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمه عليهما السلام.
وقيد {مِنْ تَحْتِهَا} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويرا لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتصال الصبي بأمه.
و {أنَّ} من قوله: {أَلَّا تَحْزَنِي} تفسيرية لفعل {نَادَاهَا}
وجملة {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} خبر مراد به التعليل لجملة {أَلَّا تَحْزَنِي} ، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.
السري: الجدول من الماء كالساقية، كثير الماء الجاري.
وهبها الله طعاما طيبا وشرابا طيبا كرامة لها يشهدها كل من يراها، وكان معها خطيبها يوسف النجار، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهدا بعصمتها وبراءتها مما يظن بها. فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده. وأما الرطب فقيل كان الوقت شتاء ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة. وإنما أعطيت رطبا دون التمر لأن الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.
(16/26)
[25 - 26] {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً *فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً *فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}
فائدة قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أن يكون إثمار الجذع اليابس رطبا ببركة تحريكها إياه، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يثمر الجذع اليابس رطبا. وفي ذلك كرامة لها بقوة يقينها بمرتبتها.
والباء في {بِجِذْعِ النَّخْلَة} لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: من الآية6] وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]
وضمن {وهُزِّي} معنى قربي أو أدني، فعدي ب [إلى]، أي حركي جذع النخلة وقريبه يدن إليك ويلن بعد اليبس ويسقط عليك رطبا.
والمعنى: أدني إلى نفسك جذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقة متحدا، وكلاهما ضمير معاد واحد. ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: من الآية32]. فالضام والمضموم إليه واحد. وإنما منع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلا في أفعال القلوب، وفي فعلي: عدم وفقد، لعدم سماع ذلك، لا لفساد المعنى، فلا يقاس على ذلك منع غيره.
والرطب: تمر لم يتم جفافه.
والجني: فعيل بمعنى مفعول، أي مجتنى، وهو كناية عن حدثان سقوطه، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدا بنخلته كان أطيب طعما.
و {تُسَاقِطْ} قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام.
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف {رُطَباً} [مريم: من الآية25] على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة.
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع ساقطت النخلة تمرها، مبالغة في أسقطت، و{رُطَباً} [مريم: من الآية25] مفعول به.
(16/27)
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائدا إلى {جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: من الآية25].
وجملة {فَكُلِي} وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي فأنت في بحبوحة عيش.
وقرة العين: كناية عن السرور بطريق المضادة، لقولهم: سخنت عينه إذا كثر بكاؤه. فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب. وتقدم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: من الآية9]. وقرة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود. وفي كونه قرة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه.
وفتح القاف في {وَقَرِّي عَيْناً} لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة.
[26] {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}
هذا من بقية ما زادها به عيسى، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل، تلقينا من الله لمريم وإرشادا لقطع المراجعة مع من يريد مجادلتها. فعلمها أن تنذر صوما يقارنه انقطاع عن الكلام، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة.
وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دل عليه حديث المرأة من أحمس التي حجت مصمتة. ونسخ في شريعة الإسلام بالنسبة، ففي الموطأ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا? فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه" وكان هذا الرجل يدعى أبا إسرائيل.
وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه" أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم. فقال لها: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي". وفي الحديث أن امرأة من أحمس حجت مصمتة، أي لا تتكلم. فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخة الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم " ،وعمل أصحابه.
وقد دلت الآثار الواردة في هذه على أشياء:
(16/28)
الأول:أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا، فدل على أنه غير قربة.
الثاني:أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معين كقوله: علي نذر، وفي الموطأ عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك: ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدل ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.
الثالث:أنه أومأ إلى علة عدم انعقاد النذر به بقوله:"إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني".
فعلمنا من ذلك أن معنى العبادة أن تكون قولا أو فعلا يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج، فيحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: {فكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي.
وفي "البخاري" : "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: ما بال هذا? قالوا: نذر أن يمشي. قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني. وأمره أن يركب" فلم ير له في المشي في الطواف قربة".
وفيه عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي بيده ثم قال:قده بيده" .
وفي مسند أحمد عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقتربان. فقال: ما بالهما? قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة. فقال: أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله" . وقال:"إسناده حسن".
الرابع: أن الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ:"نهى رسول الله عن ذلك. ولذلك قال مالك في الموطأ عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس: قال مالك: قد أمره رسول الله أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية".
(16/29)
ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم سكن فيه حرج على النفس كنذر صمت ساعة، وأنه تعذيب للنفس التي كرمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرء مفسدة مثل القصاص والجلد. ولذلك قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: من الآية29]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبشاركم عليكم حرام" لأن شريعة الإسلام لا تناط شرائعها إلا بجل المصالح ودرء المفاسد".
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في الموطأ . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في الرسالة :"ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه. وليستغفر الله". فقوله: "وليستغفر الله" بناء على أنه أتى بنذره مخالفا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. ولو فعل أحد صمتا بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراما إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية.
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة.
ومعنى {فقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} فانذري صوما وإن لقيت من البشر أحدا فقولي: إني نذرت صوما فحذفت جملة للقرينة. وقد جعل القول المتضمن إخبار بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية136] وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلا في حال الضرورة مع عدم تأتي الصدق معها، ولذلك جاء في الحديث إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وأطلق القول على ما يدل على ما في النفس، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوما مجازا بقرينة قوله {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوما بأن تشير إشارة تدل على الانقطاع عن الأكل، وإشارة تدل على أنها لا تتكلم لأجل ذلك، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطا بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية. وإن كلام الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين، وقد علمت مريم أن الطفل الذي كلمها هو الذي يتولى الجواب عنها حين تسأل بقرينة قوله تعالى: {فأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29].
(16/30)
والنون في قوله: {تَرَيِنَّ} [مريم: من الآية26] نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة.
والإنسي: الإنسان، والياء فيه للنسب إلى الإنس، وهو اسم جمع إنسان، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل: ياء حرسي لواحد من الحرس. وهذا نكره في سياق النفي يفيد المموم، أي لن أكلم أحدا.
وعدل عن {أحد} إلى {إِنْسِيّاً} [مريم: من الآية26] للرعي على فاصلة الياء، وليس ذلك احترازا عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عند المخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة.
[27] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً*يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}
دلت الفاء على أن مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلمها ابنها. وفي إنجيل لوقا: أنها بقيت في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوما، وهي أيام التطهير من دم النفاس، فعلى هذا يكون التعقيب المستفاد من الفاء تعقيبا عرفيا مثل: تزوج فولد له.
و {قومها} : أهل محلتها. وجملة {تَحْمِلُهُ} حال من تاء {أَتَتْ} وهذا الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها مما يتهم به مثل من جاء في حالتها.
وجملة {قَالُوا يَا مَرْيَمُ} مستأنفة استئنافا بيانيا. وقال قومها هذه المقالة توبيخا لها.
وفري: فعيل من فرى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدة إطلاقات، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء، قاله مجاهد والسدي، وهو جاء من مادة افترى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذبا. ومنه قوله تعالى: {لا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} [الممتحنة: من الآية12]
ومن أهل اللغة من قال: إن الفري والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز. وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه، تفرقة بين أفرى وفرى، وأن فرى المجرد للاصلاح.
والأخت: مؤنث الأخ، اسم يضاف إلى اسم آخر، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما
(16/31)
أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم: يا أخا العرب. كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه يا أخت بني فراس ما هذا. فإذا لم يذكر لفظ بني مضافا إلى اسم جد القبيلة كان مقدرا. قال سهل بن مالك الفزاري:
يا أخت خير البدو والحضارة ... كيف ترين في فتى فزارة
يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.
فقوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يحتمل أن يكون على حقيقته. فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك، وهذا أظهر الوجهين. ففي صحيح مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا? قال المغيرة: فلم أدر ما أقول. فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له. فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم اه. ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلا هارون الرسول أخا موسى.
ويحتمل أن معنى {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أنها إحدى النساء من ذرية هارون أخي موسى، كقول أبي بكر: يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي. ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات، واليصابات زوجة زكريا نسيبة مريم، أي ابنة عمها. وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داود خطأ.
ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز. وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة.
والسوء بفتح السين وسكون الواو: مصدر ساءه، إذا أضر به وأفسد بعض حاله، فإضافة اسم إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له. فمعنى {امْرَأَ سَوْءٍ} رجل عمل مفسد.
ومعنى البغي تقدم قريبا. وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمها، وخالفت سيرة
(16/32)
أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغيا؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغيا فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها. وهم أرادوا ذمها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مثل أبويها.
[29] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}
أي أشارت إليه إشارة دلت على أنها تحيلهم عليه ليسألوه عن قصته، أو أشارت إلى أن يسمعوا منه الجواب عن توبيخهم إياها وقد فهموا ذلك من إشارتها.
ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكي حوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولة غير معطوفة.
والاستفهام: إنكار؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته، أي كيف نترقب منه الجواب، أو كيف نلقي عليه السؤال، لأن الحالتين تقتضيان التكلم.
وزيادة فعل الكون في {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ} للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا علة مكالمته، وذلك مبالغة منهم في الإنكار، وتعجب من استخفافها بهم. ففعل {كان} زائد للتوكيد، ولذلك جاء بصيغة المضي لأن "كان" الزائدة تكون بصيغة الماضي غالبا.
وقوله: {فِي الْمَهْدِ} خبر {من} الموصولة.
و {صَبِيّاً} حال من اسم الموصول.
والمهد: فراش الصبي وما يمهد لوضعه.
[30 - 33] {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً *وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها عد وضعها، وهو طي يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة، فأطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.
(16/33)
والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون: إنه ابن الله.
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدر إيتاءه إياه، أي قدر أن يؤتيني الكتاب.
والكتاب: الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن. والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاط الله به عيسى. ويجوز أن يراد الكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] فيكون قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} ارتقاء في المراتب التي أتاه الله إياها.
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} .
والمبارك: الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك، لأن المبارك اسم مفعول من باركه، إذا جعله ذا بركة. أو من بارك فيه، إذا جعل البركة معه.
والبركة: الخير واليمن.
ذلك أن الله أرسله برحمة لنبي إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم، فهذه أعظم بركة تقارنه. ومن بركته أن جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير. ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة. ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة.
وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيا عموما وجهيا، فلم يكن في قوله: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} غنية عن قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً}
والتعميم الذي في قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُ} تعميم للأمكنة، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده، بل هو حيثما حل تحل معه البركة.
والوصاية: الأمر المؤكد بعمل مستقبل، أي قدر وصيتي بالصلاة والزكاة، أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا، فاستعمال صيغة المضي في {وَأَوْصَانِي} مثل استعمالها
(16/34)
في قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}
والزكاة: الصدقة. والمراد: أن يصلي ويزكي. وهذا أمر خاص به كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وقرينة الخصوص قوله: {مَا دُمْتُ حَيّاً} لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة، أي أن يصلي ويتصدق في أوقات التمكن من ذلك، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات.
فالاستغراق المستفاد من قوله: {مَا دُمْتُ حَيّاً} استغراق عرفي مراد به الكثرة؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته، لأن سياق الكلام في أوصاف تميز بها عيسى عليه السلام ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة.
والبر بفتح الباء: اسم بمعنى البار. وتقدم آنفا. وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه، لأن بر الوالدين كان ضعيفا في بني إسرائيل يومئذ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضف، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البر بها.
والجبار: المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم. وقد تقدم في سورة هود قوله {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}
والشقي: الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة، وهو ضد السعيد. وتقدم عند قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} في آخر سورة هود [105].
ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا.
وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} إلى آخره تنويه بكرامته عند الله، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربه، والقول فيه تقدم في آية ذكر يحيى.
وجيء بـ{السَّلامُ} هنا معرفا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه. وهذا مؤذن بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} ، وذلك هو الفرق بين المعرف بلام الجنس وبين النكرة.
ويجوز جعل اللام للعهد، أي سلام إليه، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته. ومن هذا القبيل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: من الآية56]، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
(16/35)
ومؤذن أيضا بتمهيد التعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة، فقالوا: ولد من زنى، وقالوا: مات مصلوبا، وقالوا: يحشر مع الملاحدة والكفرة، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة.
[34-35] {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35]
اعتراض بين الجمل المقولة في قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} مع قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود.
والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضا بالرد على اليهود والنصارى جميعا، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية، وكلاهما مخطئ مبطل، أي ذلك هو عيسى بالحق، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جعلوا بمنزلة من لا يعرفون فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته. والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييز ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية، أي تلك حقيقة عيسى عليه السلام وصفته.
و {قَوْلَ الْحَقِّ} قرأه الجمهور بالرفع. وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بالنصب ؛ فأما الرفع فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أو وصف لعيسى أو بدل منه، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى.
ومعنى {قَوْلَ الْحَقِّ} أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق، أي مقول هو الحق وما خالفها باطل، أو أن عيسى عليه السلام هو قول الحق، أي مقول الحق، أي المكون من قول {كُنْ}، فيكون مصدرا بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: من الآية11].
وجوز أبو علي الفارسي أن يكون نصب {قَوْلَ الْحَقِّ} بتقدير: أحق قول الحق، أي هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوبا، تقديره: أحق قول الحق. ويجوز أن يكون {قَوْلَ الْحَقِّ} مصدرا نائبا عن فعله، أي أقول قول الحق. وعلى
(16/36)
هذين الوجهين يكون اعتراضا. ويجوز أن يكون {قَوْلَ} مصدرا بمعنى الفاعل صفة ل {عِيسَى} أو حالا منه، أي قائل الحق إذ قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 - 33]
و {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن {عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} على ما يناسب الوجوه المتقدمة.
والامتراء: الشك، أي الذي فيه يشكون، أي يعتقدون اعتقادا مبناه الشك والخطأ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقة، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض.
وجملة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} تقرير لمعنى العبودية، أو تفصيل لمضمون جملة {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فتكون بمنزلة بدل البعض أو الاشتمال منها، اكتفاء بإبطال قول النصارى بأن عيسى ابن الله، لأنه أهم بالإبطال، إذ هو تقرير لعبودتة عيسى وتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلال الألوهية من اتخاذ الولد ومن شائبة الشرك، ولأنه القول الناشئ عن الغلو في التقديس، فكان فيما ذكر من صفات المدح لعيسى ما قد يقوي شبهتهم فيه بخلاف قول اليهود فقد ظهر بطلانه بما عدد لعيسى من صفات الخير.
وصيغة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه لأن لام الجحود تفيد مبالغة النفي، وأنه مما لا يلاقي وجود المنفي عنه، ولأن في قوله {أن يتخذ} إشارة إلى أنه لو كان له ولد لكان هو خلقه، واتخذه فلم يعد أن يكون من جملة مخلوقاته، فإثبات البنوة له خلف من القول.
وجملة {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} بيان لجملة {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} ، لإبطال شبهة النصارى إذ جعلوا تكوين إنسان بأمر التكوين عن غير سبب معتاد دليلا على أن المكون ابن لله تعالى، فأشارت الآية إلى أن تكون أصول الموجودات أبناء لله وإن كان ما يقتضيه لا يخرج عن الخضوع إلى أمر التكوين.
[36] {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
يجوز أن يكون هذا بقية لكلام جرى على لسان عيسى تأييدا لبراءة أمه وما بينهما اعتراض كما تقدم آنفا.
والمعنى: تعميم ربوبية الله تعالى لكل الخلق.
(16/37)
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب همزة {وَإِنَّ} مفتوحة فخرجة الزمخشري: أنه على تقدير لام التعليل، فإن كان من كلام عيسى فهو تعليل لقوله {فاعبدوه} على أنه مقدم من تأخير للاهتمام بالعلة لكونها مقرر للمعلول ومثبتة له على أسلوب قوله تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} ويكون قوله: {فاعبدوه} متفرعا على قوله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} بعد أن أردف ما تعلقه من أحوال نفسه.
ولما اشتمل مدخول لام التعليل على اسم الجلالة أضمر له فيما عد. وتقدير النظم هكذا. فاعدوا الله لأنه ربي وربكم.
ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} . أي وأوصاني بأن الله ربي وربكم، فيكون بحذف حرف الجر وهو مطرد مع {إِنَّ}.
ويجوز أن يكون معطوفا على {الْحَقِّ} من قوله {قَوْلَ الْحَقِّ} على وجه جعل {قَوْلَ} بمعنى قائل، أي قائل الحق وقائل إن الله ربي وربكم، فإن همزة {أن} يجوز فتحها وكسرها بع ماد' القول.
وإن كان مما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله كان بتقدير قول محذوف، أو عطفا على {مريم} من قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} أي اذكر يا محمد أن الله ربي فكذلك، ويكون تفريع {فاعبدوه} على قوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} إلى آخره.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح عن يعقوب بكسر همزة {إِنَّ} ووجهها ظاهر على كلا الاحتمالين.
وجملة {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} تذييل وفذلكة لما سبقه على اختلاف الوجوه. والإشارة إلى مضمون ما تقدم على اختلاف الوجوه.
والمراد بالصراط المستقيم اعتقاد الحق، شبه بالصراط المستقيم على التشبيه البليغ، شبه الاعتقاد الحق في كونه موصولا إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله إلى المكان المقصود باطمئنان بال، وعلم أن غير هذا كبنيات الطريق من سلكها ألقت به المخاوف والمتآلف كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
(16/38)
سَبِيلِهِ}
[37] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
الفاء لتفريغ الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم، أي حاد عن الصراط المستقيم الأحزاب فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلوكها، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافا أصليا، فسلك الأحزاب طرقا أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء.
وقوله: {مِنْ بَيْنِهِمْ} متعلق ب {فَاخْتَلَفَ}. و {مِنْ} حرف توكيد، أي اختلفوا بينهم.
والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين. وقد كان النصارى على قول واحد على التوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} في سورة النساء أن الاختلاف انحل إلى ثلاثة مذاهب: الملكانية وتسمى الجاثليقية، واليعقوبية، والنسطورية. وانشعبت من هذه الفرق عدة فرق ذكرها الشهرستاني، ومنها الأليانة، والبليارسية، والمقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية، إلى فرق أخرى. منها فرقة كانت في العرب تسمى الركوسية ورد ذكرها في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: إنك ركوسي" . قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئه. وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية البروتستان أتباع لوثير. وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية كاثوليك، واليعقوبية أرثودوكس، والاعتراضية البروتستان. ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغترارا وسوء فهم في معنى لفظ ابن الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضا أصحابه. وقد جاء في التوراة أيضا أنتم أبناء الله. وفي إنجيل متى الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلهه وربه، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذيل بقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، فشمل قوله: {الذين كفروا} هؤلاء المخبر عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم.
والمشهد صالح لمعان، وهو أن يكون مشتقا من المشاهدة أو من الشهود، ثم إما أن يكون مصدرا ميميا في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما، أي يوم فيه
(16/39)
ذلك وغيره.
والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله، أي نفوا وحدانيته، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين.
[38] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38]
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضا عن تهديدهم؛ فتعين أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغا يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبصر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: من الآية175].
وجوز أن يكون {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} غير مستعمل في التعجب بل صادف أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعين بأن يسمع ويبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر. وهذا كناية عن التهديد.
وضمير الغائبين عائد إلى الذين كفروا، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام.
والاستدراك الذي أفاده قوله {لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله:] {يوْمَ يَأْتُونَنَا} من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأقيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله: {الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
والتعبير عنهم بـ {الظَّالِمُونَ} إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
(16/40)
[39] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
عقب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم.
والضمير عائد إلى الظالمين، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
وانتصب {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} على أنه مفعول خلف عن المفعول الثاني ل {وَأَنْذِرْهُمْ} لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة.
والحسرة: الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف. والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين.
واللام في {الْحَسْرَةِ} على هذا الوجه لام العهد الذهني، ويجوز أن يكون اللام عوضا عن المضاف إليه، أي يوم حسرة الظالمين.
ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} تمم أم الله بزجهم في العذاب فلا معقب له.
ويجوز أن يكون المراد ب {الْأَمْرُ} أمر الله بمجيء يوم القيامة، أي إذا حشروا. و {إِذْ} اسم زمان، بدل من {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
وجملة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} حال من {الْأَمْرُ} وهي حال سببية، إذ التقدير:إذ قضي أمرهم.
والغفلة: الذهول عن شيء شأنه أن يعلم.
ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمر الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة، أي بهت. وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [لأعراف: من الآية187]، وهذا أليق بقوله: {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
(16/41)
ومعنى {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة. فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدل عليه المضارع من استمرار الفعل وقتا فوقتا استحضارا لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه.
[40] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها. والكلام موجه إلى المشركين لإبلاغه إليهم.
وضمير {يُرْجَعُونَ} عائد إلى {مَنْ عَلَيْهَا} وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في {وَأَنْذِرْهُمْ}
وحقيقة الإرث: مصير مال الميت إلى من يبقى بعده. وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك، فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كل بما يناسبه. فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركا بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجل معلوم، فصار الجميع في محض تصرف الله، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء.
وتأكيد جملة {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى.
وأما ضمير الفصل في قوله: {نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصا، إذ لا يفيد رد اعتقاد مخالف لذلك.
وظهر لي: أن مجيء ضمير الفصل لمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّه} طه: من الآية14] في سورة طه. وقوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} في سورة يوسف [37].
وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفر لهم من الكون في قبضة الرب الواحد الذي أشركوا بعبادته بعض ما على الأرض، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلا مما يرثه الله.
(16/42)
وبذلك كان موقع جملة {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} بينا، فالتقديم مفيد القصر، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ}
[41 - 42] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}
قد تقدم أن من أهم ما استملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين. وإذ كان إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء وأول من أعلن التوحيد إعلانا باقيا، لبنائه له هيكل التوحيد وهو الكعبة، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة. وذكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} . ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.
وفي ذلك تسلية للنبىء صلى الله عليه وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.
وقد جرى سرد خبر إبراهيم عليه السلام على أسلوب سرد قصة مريم عليه السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.
وتقدم تفسير {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب} في أول قصة مريم.
و {الصديق} بتشديد الدال صيغة مبالغة في الاتصاف، مثل الملك الضليل لقب امرئ القيس، وقولهم: رجل مسيك، أي شحيح، ومنه طعام حريف، ويقال: دليل خريت، إذ كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز، مشتقا من الخرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره. وتقدم في قوله تعالى {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} . وصف إبراهيم بالصديق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها، كما في قول تأبط شرا.
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
(16/43)
وتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل فإن (إذا) اسم زمان وقع بدلا من إبراهيم، أي اذكر ذلك خصوصا من أحوال إبراهيم فإنه أهم ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار.
والنبي: فعيل بمعنى مفعول، من أنبأه بالخبر. والمراد هنا أنه منبأ من جانب الله تعالى بالوحي. والأكثر أن يكون النبي مرسلا للتبليغ، وهو معنى شرعي، فالنبي فيه حقيقة عرفية. وتقدم في سورة البقرة عند قوله {ذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} ، فدل ذلك على أن قوله لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام.
وقرأ الجمهور {نبيا} بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة. وقرأه نافع وحده (نَبِيّئاً)بهمزة آخره. وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن.
وقوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} الخ... بدل اشتمال من إبراهيم. و {إذ} اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن {إذ} ظرف متصرف على التحقيق. والمعنى: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر.
وأبو إبراهيم هو {آزار} تقدم ذكره في سورة الأنعام.
وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصدا لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه.
قال الجد الوزير رحمة الله فيما أملاه علي ذات ليلة من عام 1318ه فقال:
علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة، وألقى إليه حجة فساد عبادته فيصوره الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطىء، منبها على خطئه عندما بتأمل في عمله، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب
(16/44)
عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه، فإنه لو عبد حيا مميزا لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحس إذ قال له: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} فذلك حجة محسوسة، ثم أتبعها بقوله: {وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان، ثم ألقي إليه حجة لائقة بالمتصلبين في الضلال بقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} ، أي أن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني، فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإن أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجسام قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
قال: وفي النداء بقوله: {يَا أَبَتِ} أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونظر ذلك بتكرير لقمان قوله: {يَا بُنَيَّ} [لقمان: من الآية13] ثلاث مرات، قال: بخلاف قول نوح لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ} [هود: من الآية42] مرة واحدة دون تكرير لأن ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز. انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول: الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته، كما أشار إليه صاحب الكشاف، ومكنى به عن نفي العلة المسؤول عنها بقوله: {لِمَ تَعْبُدُ} فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسؤول عنه، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
و {أَبَتِ} : أصله أبي، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضا على غير قياس، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة. ورأى سيبويه أن التاء تصبر في الوقف هاء، وخالفه الفراء فقال: ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر "يا أبت" بفتح التاء دون ألف بعدها، بناء على أنهم يقولون "يا أبتا" بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفا وبقاء الفتحة.
(16/45)
[43] {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}
إعادة ندائه بوصف الأبوة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول. قال في الكشاف : ثم ئني بدعوته إلى الحق مترفقا به متطلقا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم ليست معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه اه. ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه. وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة.
وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالم بأن يتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصون مظان المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاء ما يضر، قال تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43]
وفي قوله {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} استعارة مكنية، شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا، وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه، وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق البصير بالثناية، وإثبات الصراط السوي قرينة التشبيه، وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود.
و {يَا أَبَتِ} تقدم الكلام على نظيره قريبا.
[44] {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}
إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني.
والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام، عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحا عن فسادها وضلالها، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، ففي الكلام إيجاز لأن معناه:لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس، وعبادتها من وساوس الشيطان للذين سنوا سنن عبادتها، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها، فمن عبد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالا معلوما.
(16/46)
وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [النساء: من الآية117]. وتقدم في سورة النساء. وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده.
وجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم: من الآية44] تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة. وذكر وصف {عصيا} الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل {كان} للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة، أي بما يفضي إلى النقمة، ولذلك اختير وصف الرحمان من بين صفات الله تعالى تنبيها على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع.
وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار، إذ لم يقل: إنه كان للرحمن عصيا، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه، ولزيادة التنفير من الشيطان، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيها إلى النفرة منه، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها. وتقدم الكلام على {يَا أَبَتِ} قريبا.
[45] {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}
لا جرم أنه لما قرر أن عبادته الأصنام اتباع لأمر الشيطان عصي الرحمان انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحل به عذاب من الله، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمال حالهم.
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحل به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة، عبر عن الجلالة بوصف الرحمان للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته من شأنه سعة الرحمة.
والولي: الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحد وأمرهما جميع، فكني بالولاية عن المقارنة في المصير.
والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يثبت أمرا فيما هو من تصرف الله، وإبقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان.
(16/47)
ومعنى {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: من الآية45] فتكون في اتباع الشيطان في العذاب. وتقدم الكلام على {يَا أَبَتِ} قريبا.
[46] {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً}
فصلت جملة {قَالَ....} لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: من الآية30] في سورة البقرة.
والاستفهام للإنكار إنكارا لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم. وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه.
وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعنجهية بعكس ما في كلام إبراهيم من اللين والرقة، فدل ذلك على أنه كان قاسي القلب بعيد الفهم، شديد التصلب في الكفر.
وجملة {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سد مسد الخبر على اصطلاح النحاة طردا لقواعد التركيب اللفظي، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانيا بعد الوصف فاعلا سادا مسد الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدإ حكم المسند. فمن اجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلب جملة اسمية للدلالة على ثبات المسند إليه، ويتطلب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أول والإتيان بالاسم ثانيا.
ولما بلغ الوصف له عمل فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقة في الأسماء، واعتباره مع ذلك متطلبا فاعلا، وجعلوا فاعله سادا مسد الخبر، فصار للتركيب شبهان. والتحقيق أنه في قوة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال قدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} لأنه كان أهم عنده وهو به أعني اه. ولله دره، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دره. فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عجب.
(16/48)
والنداء في قوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ} تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأن المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله {يَا إِبْرَاهِيمُ}
وجملة {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} مستأنفة.
واللام موطئة للقسم تأكيدا لكونه راجمة إن لم ينته عن كفره بآلهتهم.
والرجم: الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي. وإسناد أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة، إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكما في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيرا في دينهم فيرجم قومه إبراهيم استناد لحكمه بمروقة عن دينهم.
وجملة {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} عطف على جملة {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} ، وذلك أنه هدده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طرده من معاشرته وقطع مكالمته.
والهجر: قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدل على أن هذا الهجران في معنى الطرد واخلع إشعارا بتحقيره.
و {مَلِيّاً} طويلا، وهو فعيل، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر. فملي مشتق من مصدر ممات، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال: أملي له، إذا أطال له المدة، فيأتون بهمزة التعدية، ف {مَلِيّاً} صفة لمصر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة، أي هجرا مليا، ومن الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان، وهذه المادة تدل على كثرة الشيء.
ويجوز أن ينتصب على الصفة لظروف محذوف، أي زمانا طويلا، وبناء على أن الملأ مقصورة غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، أي سفينة ذات ألواح.
[47-48] {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}.
(16/49)
سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادره به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته.
ومن حلم إبراهيم أن كانت مشاركته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة.
والسلام: السلامة: و"على" للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام، وتقدمت آنفا عند قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: من الآية15]
وأظهر حرصه على هداه فقال {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي، إذا لم يكن إبراهيم تلقى نهيا من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} . واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]
وجملة {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} مستأنفة، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذ الإشراك.
والحفي: الشديد البر والإلطاف. وتقدم في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} [لأعراف: من الآية187]
وجملة {وَأَعْتَزِلُكُمْ} عطف على جملة {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن، لأن المضارع غالب في الحال. أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى، وهو المحكي بقوله تعالى {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وقد خرج من بلد الكلدان عازما على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى.
رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن، لأن بقية القوم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعا، ولذلك قال له: {وَأَعْتَزِلُكُمْ}
وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى إبراهيم وقومه تنزيلا لهم منزلة الحضور في
(16/50)
ذلك المجلس، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء، أو كان هذا المقال جرى بحضر جماعة منهم.
وعطف على ضمير القوم أصنامهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلانا بتغيير المنكر.
عبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله: {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلة اعتزاله إياهم وأصنامهم:بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها، فلذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم.
والدعاء: العبادة، لأنها تستلزم دعاء المعبود.
وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعوا الله احتراسا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بين لهم أته بعكس ذلك يدعوا الله الذي لا يعبدونه.
وعبر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.
وجملة { وعَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} في موضع الحال من ضمير {وادعوا} ، أي راجا أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. وتقدم معناه عند قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: من الآية4] في هذه السورة. وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم.
[49-50] {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً *وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}
طوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرا إلا نفذ عزمه، والاكتفاء بذكر ما ترتب عليه من جعل عزمه حدثا واقعا قد حصل جزاءه عليه من ربه، فلأنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه لله ذرية يأنس لهم إذ وهبه إسحاق ابنه، ويعقوب ابن ابنه، وجعلهما نبيين. وحسبك بهذا مكرمة له عند ربه.
(16/51)
وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضا، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحق، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومه.
وإنما اقتصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل: وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته، فهي قد اعتزلت قومها أيضا إرضاء لربها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب، ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهبة من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب. أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدا عن إبراهيم في مكة ليكون جار بيت الله. وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما.
وقد خص إسماعيل بالذكر استقلالا عقب ذلك، ومثله قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [صّ: من الآية45] ثم قال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ} [صّ: من الآية48] في سورة ص، وقد قال في آية الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99-101] إلى أن قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] إذ هو المراد بالغلام الحليم.
والمراد بالهبة هنا: تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سكن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها. وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما وردفي الحديث وفي التوراة، أو أريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القران تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه.
والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيدا وسر به، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشر سنة، وأن من يعقوب نشأت أمة عظيمة.
وحرف "لما" حرف وجود لوجود، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطها، وفد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية، أي التعليل دون توقيت، وذلك كما هنا.
(16/52)
وضمير {لَهُمْ} عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
و{مِنْ} [مريم: من الآية49] في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} [الصافات: من الآية113] إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دل عليه {وَهَبْنَا} أي موهوبا من رحمتنا. وإما اسم بمعنى بعض بتأويل، كما تقدم عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية8] في سورة البقرة. وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة {من} استعمالها اسما كما أثبتوا ذلك لكلمات الكاف و عن و على لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه، كما قاله التفتزاني في حاشية الكشاف، وأقره عبد الحكيم. وعلى هذا تكون {من} في موضع نصب على المفعول به لفعل {وهبنا} ، أي وهبنا لهم بعض رحمتنا، وهي النبوءة لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم.
واللسان: مجاز في الذكر والثناء.
ووصف {لِسَانَ صِدْقٍ} وصفا بالمصدر.
الصدق: بلوغ كمال نوعه، كما تقدم آنفا، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل. ووصف بالعلو مجازا لشرف ذلك الثناء.
وقد رتب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيبا بديعا إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف، ونعمة الآخرة وهي الرحمة، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين.
وتقدم اختلاف القراء في نبيا عند ذكر إبراهيم عليه السلام.
[51-53] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}
أفضت مناسبة ذكر إبراهيم ويعقوب إلى أن يذكر موسى في هذا الموضع لأنه أشرف نبي من ذرية إسحاق ويعقوب.
والقول في جملة: {وَاذْكُر} وجملة إِنَّهُ {كَانَ} كالقول في نظيريهما في ذكر إبراهيم عدا أن الجملة هنا غير معترضة بل مجرد استئناف.
(16/53)
وقرأ الجمهور {مُخْلَصاً} بكسر اللام من أخلص القاصر إذا كان الإخلاص صفته. والإخلاص في أمر ما: الإتيان به غير مشوب بتقصير ولا تفريط ولا هوادة، مشتق من الخلوص، وهو التمحض وعدم الخلط. والمراد هنا: الإخلاص فيما هو شأنه، وهو الرسالة بقرينة المقام.
وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بفتح اللام من أخلصه، إذا اصطفاه.
وخص موسى بعنوان [المخلص] على الوجهين لأن ذلك مزيته، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون، وجادله مجادلة الأكفاء، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ *وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إلى قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} . وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته.ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه الملك بالوحي، فكان مخلصا بذلك، أي مصطفى، لأن ذلك مزيته قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
والجمع بين وصف موسى لأنه رسول ونبي. وعطف {نبيا} على {رسولا} مع أن الرسول بالمعنى الشرعي أخص من النبي، فلأن الرسول هو المرسل بوحي من الله ليبلغ إلى الناس فلا يكون الرسول إلا نبيئا، وأما النبي فهو المنبأ بوحي من الله وإن لم يؤمر بتبليغه، فإذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبي وليس رسولا، فالجمع بينهما هنا لتأكيد الوصف، إشارة إلى أن رسالته بلغت مبلغا قويا، فقوله: {نبيا} تأكيد لوصف {رسولا} .
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {نبيا} عند ذكر إبراهيم.
وجملة {وَنَادَيْنَاهُ} عطف على جملة {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً} فهي مثلها مستأنفة.
والنداء: الكلام الدال على طلب الإقبال، وأصله: جهر الصوت لإسماع البعيد، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازا مرسلا، ومنه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: من الآية9]، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بعد الصوت. ولم يسمع فعله إلا بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: من الآية171] في سورة البقرة، وعند قوله:
(16/54)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} آل عمران [193].
وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى، قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} في سورة الأعراف. وتقدم تحقيق صفته هناك وعند قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} في سورة براءة.
والطور: الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر، ويقال: له طور سيناء.
وجانبه: ناحيته السفلى، ووصفه ب {الأيمن} لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس، لأن جهة الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي.
والتقريب: أصله الجعل بمكان القرب، وهو الدنو وهو ضد البعد. وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي. فقوله: {نَجِيّاً} حال من ضمير {مُوسَى} ، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب.
ونجي: فعيل بمعنى مفعول من المناجاة. وهي المحادثة السرية؛ شبه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحدا ولا أطلع عليه أحدا، بالمناجاة. وفعيل بمعنى مفعول، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة، مثل جليس ونديم ورضيع.
ومعنى هبة أخيه له: أن الله عززه به وأعانه به، إذ جعله نبيا وأمره أن يرافقه في الدعوة، لأن في لسان موسى حبسة، وكان هارون فصيح اللسان. فكان يتكلم عن موسى بما يريد إبلاغه، وكان يستخلفه في مهمات الأمة. وإنما جعلت تلك الهبة من رحمة الله لأن الله رحم موسى إذ يسر له أخا فصيح اللسان، وأكلمه بالإنباء حتى يعلم مراد موسى مما يبلغه عن الله تعالى. ولم يوصف هارون بأنه رسول إذ لم يرسله الله تعالى وإنما جعله مبلغا عن موسى. وأما قوله تعالى: {فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه:47] فهو من التغليب.
[54-55] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
خص إسماعيل بالذكر هنا تنبيها على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه اسحاق، لأن إسماعيل صار جد أمه مستقلة قبل أن يصير يعقوب جد أمه و لأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكه في بناء الكعبة. وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله
(16/55)
تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: من الآية127] في سورة البقرة.
وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خلقا في ذريته.
وأعظم وعد صدقه وعده إياه إبراهيم بأن يجده صابرا على الذبح فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: من الآية102].
وجعله الله نبيا ورسولا إلى قومه. وهم يومئذ لا يعدون أهله أمة وبنيه وأصهاره من جرهم. فلذلك قال الله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} ثم إن أمه العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضا، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشؤون ملة أبيه إبراهيم.
ورضي الله عنه:إنعامه عليه نعما كثيرة، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته.
وتقدم اختلاف القراء في قراءة {نبيا} بالهمز أو بالياء المشددة.
وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبي عند ذكر موسى عليه السلام آنفا.
[56-57] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} .
إدريس: اسم جعل علما على جد أبي نوح، وهو المسمى في التوراة أخنوخ. فنوح هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ، فلعل اسمه عند نسابي العرب إدريس، أو أن القران سماه بذلك اسما مشتقا من الدرس لما سيأتي قريبا. واسمه هرمس عند اليونان, ويزعم أنه كذلك يسمى عند المصرين القدماء، والصحيح أن اسمه عند المصريين توت أو تحوتي أو تهوتي لهجات في النطق باسمه.
وذكر ابن العبري في تاريخه أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان "طريسمجيسطيس"، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم، لأنه كان يصف الله بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة اهـ.
ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس, لعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير.
(16/56)
وكان إدريس نبيا، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين وسار أخنوخ مع الله. قيل: هو أول من وضع للبشر عمارة المدن، وقواعد العلم، وقواعد التربية، وأول من وضع الخط؛ وعلم الحساب بالنجوم وقواعد سير الكواكب، وتركيب البسائط بالنار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه، وأول من علم الناس الخياطة. فكان هو مبدأ من وضع العلوم، والحضارة، والنظم العقلية.
فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجمية، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية، كما منع إبليس من الصرف، وكما منع طالوت من الصرف.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {نبيا} عند ذكر إبراهيم.
وقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي. والمراد: رفع المنزلة، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن، وقال به أبو مسلم الأصفهاني. وقال جماعة: هو رفع حقيقي إلى السماء. وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه. وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه السلام. والأظهر أن ذلك بع نزوع روحه وروحنة جثته.ومما يذكر عنه أنه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تروحن، فرفع، وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات. ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه السلام في السماء وأنه لما سلم عليه قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فأخذ منه أن إدريس عليه السلام لم تكن له ولادة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقل له والابن الصالح، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارا بأخوة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.
على أنه يجوز أن يكون ذلك سهوا من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري . وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أوجد أبيه. وذلك يدل على أنه لم ير في قوله مرحبا بالأخ الصالح ما ينافي أن يكون أبا للنبي صلى الله عليه وسلم.
[58] {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ
(16/57)
وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} .
الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:2] إلى هنا. والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبين وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه.
والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وقوله {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} ، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الإعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما. وتلك وإن كانت نعما وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفا لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازي عليه إلا تشريفه.
وقرأ الجمهور {مِنَ النَّبِيِّينَ} بياءين بعد الموحدة. وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة.
وجملة {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء.
والمراد به البكاء الناشئ عن انفعال النفس انفعالا مختلطا من التعظيم والخوف.
و {سُجَّداً} جمع ساجد، {وَبُكِيّاً} وبكياجمع باك. والأول بوزن فعل مثل عذل، والثاني وزنه فعول جمع فاعل مثل قوم قعود، وهو يأتي لأن فعله بكى يبكي، فأصله: بكوي، فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء. وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله.
وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن، فهم سجدوا كثيرا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا. وأثنت على سجودهم قصدا للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم.
(16/58)
وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية وسن ذلك لأمته.
[59-63] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً}.
فرع على الثناء عليهم اعتبار وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخلف.
والخلف بسكون اللام عقب السوء، وبفتح اللام عقب الخير. وتقدم عند قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: من الآية169] في سورة الأعراف.
وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلت لأنها راجعة في النسب إلى إدريس جد نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضا إلى إبراهيم؛ فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب. ومنهم من يدلي إليه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل.
ولفظ {مِنْ بَعْدِهِمْ} يشمل طبقات وقرونا كثيرة، ليس قيدا لأن الخلف لا يكون إلا من بعد أصله وإنما ذكر لاستحضار ذهاب الصالحين.
والإضاعة: مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العرض النفيس، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم مما هو فساد. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في الكهف.
والصلاة: عبادة الله وحده.
وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق، فالشرك إضاعة للصلاة لأنه انصراف عن الخضوع لله تعالى، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماما، قال تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، والشرك: اتباع للشهوات، لأن المشركين اتبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل، وهؤلاء هم المقصود هنا، وغير المشركين كاليهود والنصارى فرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها، ويشمل ذلك كله اسم الغي.
والغي: الضلال، ويطلق على الشر، كما أطلق ضده وهو الرشد على الخير في قوله تعالى {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: من الآية10] } وقوله {قُلْ إِنِّي لا
(16/59)
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [الجن:10]. فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيهم، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: من الآية68] أي جزاء الآثام. وتقدم الغي في قوله تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} ، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:202و146] كلاهما في سورة الأعراف. وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .
وحرف [سوف] دال على أن لقاءهم الغي متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرا لهم من الإصرار على ذلك.
وقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر. وجيء بالمضارع الدال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يمطلون في الجزاء. والجنة: علم لدار الثواب والنعيم. وفيها جنات كثيرة كما ورد في الحديث: أو جنة واحدة هي أنها لجنان كثيرة.
والظلم: هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل، كقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلمَ ْتَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} في سورة الكهف.
وشيء: اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم.
وذكر {شيئا} في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان بظن أن سبق الكفر يحط من حسن مصيرهم.
و {جَنَّاتِ} بدل من {الجنة} . جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال.
و {عَدْنٍ} : الخلد والإقامة، أي جنات خلد ووصفها ب {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} لزيادة تشريفها وتحسينها، وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان.
والغيب: مصدر غاب، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب.
وتقدم في قوله تعالى {الذين يؤمنون بالغيب} في أول البقرة.
والباء في {بِالْغَيْبِ} بالغيب للظرفية، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم، أي في
(16/60)
الأزل إذ خلقها لهم، قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِين} . وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} تعليل لجملة {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي يدخلون الجنة وعدا من الله واقعا. وهذا تحقيق للبشارة.
والوعد: هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول. وهو من باب كسا، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن، فالجنات لهم موعودة من ربهم.
والمأتي: الذي يأتيه غيره، وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب، تشبيها لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه، وتشبيها للشيء المحصل بالمكان المقصود. ففي قوله {مَأْتِيّاً} تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأن المأتي لا بد له من آت.
وجملة {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} حال من {عِبَادَهُ}
واللغو: فضول الكلام وما لا طائل تحته. وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة، كما قال تعالى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11]، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم.
وقوله: {إِلَّا سَلاَماً} استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أي لكن تسمعون سلاما، قال تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: من الآية10] وقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماًإِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} . [الواقعة:25،26]
والرزق: الطعام.
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر. وتقديم الظرف للاهتمام بأنهم، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص.
والبكرة: النصف الأول من النار، والعشي: النصف الأخير، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر الليل.
(16/61)
وجملة {تِلْكَ الْجَنَّةُ} مستأنفة ابتدائية، واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويها بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويها بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى: {أُعْدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
و {نُورِثُ} نجعل وارثا، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث: انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيد بحالة. واستعير هنا للعطية المدخرة لمعطاها، تشبيها بمال لموروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر.
وقرأ الجمهور {نورث} بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء. وقرأه رويس عن يعقوب: نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورثه المضاعف.
[64] {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}
موقع هذه الآية هنا غريب. فقال جمهور المفسرين: إن سبب نزولها أن جبريل عليه السلام أبطأ أياما عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي ود أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، أي إلى قوله: {نَسِيّاً} ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.
والمعنى: أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جوابا عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير: وقل ما نتنزل إلا بأمر ربك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطابا لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمر الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنها نزلت لتكون من القرآن.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن.
والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلا عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرسل، قال تعالى: {لا
(16/62)
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء:27].
و {نَتَنَزَّلُ} مرادف ننزل، وأصل التنزل: تكلف النزول. فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلف، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها} . [القدر:4].
واللام في {له} للملك، وهو ملك التصرف.
والمراد بـ {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} : ما هو أمامنا، و بـ {مَا خَلْفَنَا} : ما هو وراءنا، و بـ {مَا بَيْنَ ذَلِكَ} : ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات.
ولما كان ذلك مخبرا عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} ، فيعم جميع الكائنات، ويستتبع عموم أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} .
وجملة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} على هذا الوجه من الكلام الملقن به جبريل جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم.
و {نَسِيّاً} صيغة مبالغة من نسي، أي كثير النسيان أو شديدة.
والنسيان: الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها. وقد فسروا هنا بتارك، أي ما كان ربك تاركك. وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عند الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي أن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلا بأمره، وهو لا يأمرنا بالتنزل إلا عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به.
وجوز أبو مسلم وصاحب الكشاف : أن هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالا من قوله {مَنْ كَاَن تَقِيَّا} ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلا بأمر ربك الخ. وهو تأويل حسن.
(16/63)
وعليه فكاف الخطاب في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّكَ} خطاب كل قائل لمخاطبة. وهذا التجويز بناء على أن ما روى عن ابن عباس رأى له في تفسير الآية لا تتعين متابعته.
وعليه فجملة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} من قول الله تعالى لرسوله تذييلا لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنة، أي وما كان ربنا غافلا عن إعطاء ما وعدنا به.
[65] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}
جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله: {فَاعْبُدْهُ} إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن: أن الملائكة لا يتصرفون إلا عن إذن ربهم وأن أحوالهم كلها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثم فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه.
وارتفع {رَبُّ السَّمَاوَاتِ} على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر. وهذا الحذف سماه السكاكي بالحذف الذي اتبع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزبير بفتح الزاي وكسر الموحدة:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
والسماوات: العوالم العلوية. والأرض: العالم السفلي، وما بينهما: الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات.
والخطاب في {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ} و {هل تَعْلَمُ} للنبي صلى الله عليه وسلم.
وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلص إلى التنويه بالتوحيد وتفظيع الإشراك.
والاصطبار: شدة الصبر على الأمر الشاق، لأن صيغة الافتعال ترد لإفادة قوة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف على كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: من الآية132] ولكنه عدي هنا باللام لتضمينه معنى الثبات، أي اثبت للعبادة، لأن العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس. وقد يغلب بعضها بعض النفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض منا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: "هي
(16/64)
أثقل صلاة على المنافقين" . فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللام كما يقال: اثبت لعداتك.
وجملة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها.
والسمي هنا الأحسن أن يكون بمعنى المسامي، أي المماثل في شؤونه كلها. فعن ابن عباس أنه فسره بالنظير، مأخوذا من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السمي
أي المسمع. وكما سمي تعالى {الحكيم}، أي المحكم للأمور، فالسمي هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة.
والاستفهام إنكاري، أي لا مسامي لله تعالى، أي ليس من يساميه، أي يضاهيه، موجودا.
وقيل السمي: المماثل في الاسم، كقوله في ذكر يحيى {لم نجعل له من قبل سميا} . والمعنى: لا تعلم له مماثلا في اسمه الله فإن المشركين لم يسموا شيئا من أصنامهم الله باللام وإنما يقولون للواحد منها إله، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن إتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأن المشركين لم يجترثوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} . وبذلك يتم كون الجملة تعليلا للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضا.
وكني بانتفاء العلم بسميه عن انتفاء وجود سمي له، لأن العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثلة انتفى من يستحق العبادة غيره.
[66-76] {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} .
لما تضمن قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} إبطال عقيدة الإشراك به ناسب الانتقال إلى إبطال أثر من آثار الشرك، وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى
(16/65)
يتم انتقاض أصلي الكفر. فالواو عاطفة قصة على قصة، والإتيان بفعل {يَقُولُ} مضارعا لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار.
والمراد بالإنسان جمع من الناس، بقرينة قوله بعده {فَوربِّكَ لَنَحْشرنّهم} ، فيراد من كانت هاته مقالته وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أول نزوله. ويجوز أن يكون وصف حذف، أي الإنسان الكافر، كما حذف الوصف في قوله تعالى: {يَأخذُ كُلَّ سَفِينةٍ غَصْباً} ، أي كل سفينة صالحة، فتكون كقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه} . وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يا أيا الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} إلى قوله :{فأتوا بسورة من مثله} فإن ذلك خطاب للمشركين. وقيل تعريف {الْأِنْسَانُ} للعهد لإنسان معين. فقيل، قائل هذا أبي بن خلف، وقيل: الوليد بن المغيرة.
والاستفهام في {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} إنكار لتحقيق وقوع البعث، فلذلك أتى بالجملة المسلط عليها الإنكار مقترنة بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل.
ومتعلق {أُخْرَجُ} محذوف، أي أخرج من القبر.
وقد دخلت لام الابتداء في قوله: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال، وذلك حجة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال. ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال، وإن صمم الزمخشري على منعه، وتأول ما هنا بأن اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء، وتأوله في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] بتقدير مبتدأ محذوف، أي ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى، فلا تكون اللام داخلة على المضارع، وكل ذلك تكلف لا ملجئ إليه.
وجملة {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ} معطوفة على جملة {يَقُولُ الْأِنْسَانُ} ، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنه لا يتذكر أنا خلقناه من قبل وجوده.
والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول.
(16/66)
وقرأ الجمهور {أَوَلا يَذْكُرُ} بسكون الذال وضم الكاف من الذكر بضم الذال. وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتذكر فقلبت التاء الثانية ذالا لقرب مخرجيهما.
والشيء: هو الموجود، أي أنا خلقناه ولم يك موجودا.
و {قبل} من الأسماء الملازمة للإضافي. ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافا إليه مجملا ولم يراع له لفظ مخصوص تقدم ذكره بنيت {قبل} على الضم، كقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 40].
والتقدير: أنا خلقناه من قبل كل حالة هو عليها. والتقدير في آية سورة الروم: لله الأمر من قبل كل حدث ومن بعده.
والمعنى: الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يجرون في مداركهم على أحكام العادة، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجب وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة. ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها. وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواء عليه الأمران.
[68-70] {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} .
الفاء تفريع على جملة {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل} ، باعتبار ما تضمنته من التهديد. وواو القسم لتحقيق الوعيد. والقسم بالرب مضافا إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره.
وضمير {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} عائد إلى {الإنسان} المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم، أي انحشرن المشركين.
وعطف "الشياطين" على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده، وللإشارة إلى الشياطين هم سبب ظلالهم الموجب لهم هذه الحالة، فحشرهم مع الشياطين إنذارا لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عند الناس
(16/67)
كلهم. فلذلك عطف عليه جملة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ، والضمير للجميع. وهذا إعداد آخر للتقرب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرعب في قلوبهم. فحرف {ثم} للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد.
و {جِثِيّاً} حال من ضمير {لنُحْضِرَنَّهُمْ} ، والجثي: جمع جاث. ووزنه فعول مثل: قاعد وقعود وجالس وجلوس، وهو وزن سماعي في جمع فاعل. وتقدم نظيره {خروا سجدا وبكيا} ، فأصل جثي جثو وبواو ينلأن فعله واوي، يقال: جثا يجثو إذا برك على ركبته وهي هيئة الخاضع الذليل، فلما اجتمع في جثوو واوان استثقلا بعد ضمه الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء، فلما كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياء للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلب الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي.
وقرى حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف - بكسر الجيم - وهو كسر إتباع لحركة الثاء.
وهذا الجثو هو غير جثو الناس في الحشر المحكي بقوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: من الآية28] فإن ذلك جثو خضوع لله، وهذا الجثو حول جهنم جثو مذلة.
والقول في عطف جملة {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} كالقول في جملة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ} وهذه حالة أخرى من الرعب أشد من اللتين قبلها وهي حالة تميزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوهم في الكفر.
والنزع: إخراج شيء من غيره، ومنه نزع الماء من البئر.
والشيعة: الطائفة التي شاعت أحدا، أي اتبعته، فهي على رأي واحد. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} [الحجر:10] في سورة الحجر. والمراد هنا شيع أهل الكفر، أي من كل شيعة منهم، أي ممن أحضرناهم حول جهنم.
والعتي: العصيان والتجبر، فهو مصدر بوزن فعول مثل: خروج وجلوس، فقلبت الواو ياء. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بكسر العين إتباعا لحركة التاء كما تقدم في {جِثِيّاً} .
(16/68)
والمعنى: لنميزن من كل فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو تلك الشيعة أشد عصيانا لله وتجبرا عليه، وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأمية بن خلف ونظرائهم.
و"أي" اسم موصول بمعنى "ما" و"من". والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم. وأصل التركيب: أيهم هو أشد عتيا على الرحمان. وذكر صفة الرحمان هنا لتفظيع عتوهم، لأن شديد الرحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.
ولما كان هذا النزع والتمييز مجملا، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشد عصيانا، أعلم الله تعالى أنه يعلم من هو أولى منهم بمقدار قلي النار فإنها دركات متفاوتة.
والصلي: مصدر صلي النار كرضي، وهو مصدر سماعي بوزن فعول. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف يكسر الصاد إتباعا لحركة اللام، كما تقدم في {جِثِيّاً} .
وحرفا الجر يتعلقات بأفعلي التفضيل.
[71-72] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً}
لما ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أن جميع طوائف الشرك يدخلون النار، دفعا لتوهم أن انتزاع من هو أشد على الرحمان عتيا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب، بأن يحسبوا أن كبراءهم يكونون فداء لهم من النار أو نحو ذلك، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النار فإن الله أوجب على جميعهم النار.
وهذه الجملة معترضة بين جملة {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} الخ... وجملة {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا} الخ...
فالخطاب في {وَإِنْ مِنْكُمْ} التفات عن الغيبة في قوله: {لنحشرنهم} و {لنحضرنهم} ؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة. ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ {وإن منهم} .
(16/69)
وكذلك قرأ عكرمة وجماعة.
فالمعنى: وما منكم أحد ممن نزع من كل شيعة وغيره إلا وارد جهنم حتما قضاه الله فلا مبدل لكلماته، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزة شيعكم، أو تلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم، أو يكونون فداء عنكم من النار. وهذا نظير قوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} ، أي الغاوين وغيرهم.
وحرف {إن} للنفي.
والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقا مجازا شائعا، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازا غير مشهور فلا بد له من قرينة.
وجملة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النار بموقت بأجل.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، تنويها بإنجاء الذين اتقوا، وتشويها بحال الذين يبقون في جهنم جثيا. فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم. وليس المعنى: ثم ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النار. وذكر إنجاء المتقين، أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.
وجملة {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} عطف على جملة {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . والظالمون: المشركون.
والتعبير بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل: ونذركم أيها الظالمون.
ونذر: نترك، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه، أمات العرب ماضي {نذر} استغناء عنه بماضي {ترك}، كما تقدم عند قوله تعالى {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: من الآية91] في سورة الأنعام.
فليس الخطاب في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها، لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات
(16/70)
السابقة. ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا، كيف وقد صدر الكلام بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} وقال تعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} ، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين.
فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:43] عقب قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]. فلا يتوهم أن جهنم موعد عباد الله المخلصين مع تقدم ذكره لأنه ينبو عنه مقام الثناء.
وهذه الآية مثار إشكال ومحط قيل وقال، واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم. واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير {منكم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التأويل، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد لأن أصله من ورود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الانبياء:98] وقوله: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} . على أن إيراد المؤمنين إلى النار لا جدوى له فيكون عبثا، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر مما سماه فوائد.
ومنهم من تأول ورود جهنم بمرور الصراط، وهو جسر على جهنم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز. وهذا أقل بعدا من الذي قبله.
وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" . وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم الحديث في مرور الصراط.
ومن الناس من لفق تعضيدا لذلك بالحديث الصحيح: أنه لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله
(16/71)
تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وهذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنما معنى الحديث: أن من استحق عذابا من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجا قليلا يشبه ما يفعل لأجل تحله القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه اخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله تحله القسم تمثيل.
ويروي عن بعض السلف روايات انهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية. من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة، وعن الحسن البصري، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل.
وذكر فعل {نَذَرُ} هنا دون غيره للإشعار بالتحقير، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.
والحتم: اصله مصدر حتمه إذ جعله لازما، وهو هنا بمعنى المفعول، أي محتوما على الكافرين، والمقتضي: المحكوم به. وجثي تقدم.
وقرأ الجمهور {ثم ننجي} بفتح النون الثانية وتشديد الجيم وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم.
[73-74] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً}
عطف على قوله: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا} . وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: من الآية102] في البقرة، وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [لأنفال: من الآية2] في أول الأنفال. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذبون بذلك ويقولون: لو كان للمؤمنين خير لعجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول
(16/72)
محمد لمن على المؤمنين برفاهية العيش فإنهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتبعاه، قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:25،53]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الاحقاف: من الآية11]. فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلقا بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البينات: آيات القرآن، ومعنى كونها بينات: أنها واضحات الحجة عليهم ومفعمة بالأدلة المقنعة.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يجوز كونها للتعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا القول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل {قَالَ} لتعديته إلى متعلقة، فيكون قولهم خطابا منهم للمؤمنين.
والاستفهام في قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} تقريري.
وقرأ من عدا ابن كثير {مَقَاماً} بفتح الميم على أنه اسم مكان من قام، أطلق مجازا على الحظ والرفعة، كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازا في الظهور والمقدرة.
وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان، وهو مستعمل في الكون في الدنيا. والمعنى: خير حياة.
وجملة {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا وأجمل منهم منظرا. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم. وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب.
والأثاث: متاع البيوت الذي يتزين به، {وَرِئْياً} قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فعل بمعنى مفعول كذبح من الرؤية، أي أحسن مرئيا، أي منظرا وهيئة.
وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر "ريا" بتشديد الياء بلا همز إما على أنه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى، وإما على أنه من الري الذي هو
(16/73)
النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم، وأصله من الري ضد العطش، لأن الري يستعار للتنعم كما يستعار التلهف للتألم.
[75-76] {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً}
هذا جواب قولهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} . لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نهمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إياهم، لأن ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال، قال تعالى في شأن الأولين: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال في شأن الآخرين: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56]
والمعنى: أن من كان منغمسا في الضلالة اغتر بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} .
واللام في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} لام الأمر أو الدعاء، استعملت مجازا في لازم معنى الأمر، أي التحقيق، أي فسيمد له الرحمان مدا، أي أن ذلك واقع لا محالة على سنة الله في إمهال الضلال، إعذارا لهم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: من الآية37] وتنبيها للمسلمين أن لا يغيروا بإنعام الله على الضلال حتى أن المؤمنين يدعون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفار.
فإن كان المقصود من {قُلْ} أن يقول النبي ذلك للكفار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق، وإن كان المقصود أن يبلغ النبي ذلك عن الله أنه قال ذلك فلام الأمر مجاز أيضا وتجريد بحيث إن الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم.
والمد: حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازا في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم: مد الله في عمرك.
(16/74)
و {مَدّاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المد الشديد، فسينتهي ذلك.
و {حَتَّى} لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمد له الرحمان إنى أن يروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدتهم في النعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها {حَتَّى} لا لفظا مفردا. والتقدير: يمد لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى.
وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدلالة على الاستقبال لأن الاستقبال استفيد من الغاية.
و {إمَّا} حرف تفصيل لـ {مَا يُوعَدُونَ} ، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، فإن كل واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما.
وانتصب لفظ {الْعَذَابَ} على المفعولية لـ {يَرَوا} . وحرف {إمَّا} غير عاطف، وهو معترض بين العامل ومعموله، كما في قول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والموت بالحر أجدر
بحر إسار، ومنة، ودم.
وقوله: {شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} مقابل قولهم: {خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأن الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل {خَيْرٌ مَقَاماً} [ بـ {أَضْعَفُ جُنْداً} .
وجملة {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} معطوفة على جملة {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال، والاستمرار: الزيادة. فالمعنى على الاحتباك، أي فليمدد له الرحمان مدا فيزدد ضلالا، ويمد للذين اهتدوا فيزدادوا هدى.
وجملة {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} عطف على جملة {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} . وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} ، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزة هو أقل مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين. إذ كان مآل الكفرة العذاب ومآل
(16/75)
المؤمنين السلامة من العذاب وبعد فللمؤمنين الثواب.
والباقيات الصالحات: صفتان لمحذوف معلوم من المقام. أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب. وقد تقدم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف.
والمرد: المرجع. والمراد به عاقبة الأمر.
[77-80] {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً}
تفريع على قوله: { وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم:66] وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات. والمناسبة: أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه. وهو غرور إحالة البعث. والآية تشير إلى قصة خباب بن الأرت مع العاصي بن وائل السهمي. ففي الصحيح : أن خبابا كان يصنع السيوف في مكة. فعمل للعاصي ابن وائل سيفا وكان ثمنه دينا على العاصي، وكان خباب قد أسلم، فجاء خباب يتقاضى دينه من العاصي فقال له العاصي بن وائل: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد، فقال خباب وقد غضب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله تم يبعثك. قال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت? قال: نعم. قال العاصي متهكما: إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك فنزلت هذه الآية في ذلك. فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا.
والاستفهام في {أَفَرَأَيْتَ} مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر.
والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة. نزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طوق العلم. وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} .
والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالما بها.
(16/76)
والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يرد به معين. ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم.
والآيات: القرآن، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها. ومن جملتها آيات البعث.
والولد: اسم جمع لولد المفرد، وكذلك قرأه الجمهور، وقرأ حمزة، والكسائي في هذه السورة في الألفاظ الأربعة {وولد} بضم الواو وسكون اللام فهو جمع ولد، كأسد وأسد.
وجملة {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إنكاري وتعجيبي.
و {أَطَّلَعَ} افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطلع بالتخفيف ومطلع بالتشديد. ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء، لأن الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علو، فالأصل أن فعل "اطلع" قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} ، فإذا ضمن {أَطَّلَعَ} معنى أشرف عدي بحرف الاستعلاء كقولة تعالى {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا} . وتقدم إجمالا في سورة الكهف.
فانتصب {الْغَيْبَ} في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين. قال في الكشاف : ولاختيار هذه الكلمة شأن، يقول: أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب اه.فالغيب: هو ما غاب عن الأبصار.
والمعنى: أأشرف على عالم الغيب فرأى مالا وولدا معدين له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولدا عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنه معطيه ذلك فأيقن بحصوله، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته. وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه.
ومتعلق العهد محذوف يدل عليه السياق. تقديره: بأن يعطيه مالا وولدا.
(16/77)
و {عِنْدَ} ظرف مكان، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوب بها تعاهد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة. وقال الحارث ابن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينتقض ... ما في المهارق الأهواء
ولعل في تعقيبه بقوله: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير.
وأختير هنا من أسمائه {الرَّحْمَنِ} . لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، ولأن في ذكر هذا الاسم توركا على المشركين الذين {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]
و {كَلَّا} حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلم واحد، أو من كلام يحكي عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء: من الآية62]
والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطل بها، وقد تقدم على الكلام المبطل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 32] على أحد تأويلين. وأما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النفي، فهي نقيض إي و أجل ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق.
والمعنى: لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غروره. والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في رد كلام: كلا، ويسكت.
ولكونها حرف ردع أفادت معنى تاما يحسن السكوت عليه. فلذلك جاز الوقت عليها عند الجمهور. ومنع المبرد الوقف عليها بناء على أنها لابد أن تتبع بكلام، وقال الفراء: مواقعها أربعة.
موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية.
موقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا} [الشعراء: من الآية15].
(16/78)
وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر:54]
موقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4]
وكلام الفراء يبين أن الخلاف بين الجمهور وبين المبرد لفضي لأن الوقف أعم من السكوت التام.
وحرف النفيس في قوله: {سَنَكْتُبُ} لتحقيق أن ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98].
والمد في العذاب: الزيادة منه، كقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} .
و {مَا يَقُولُ} في الموضعين إيجاز، لأنه لو حكي كلامه لطال. وهذا كقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران: من الآية183]. أي وبقربان تأكله النار. أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام. وما قاله من المال والولد، أي سنكتب جزاءه ونهلكه فنرثه ما سماه من المال والولد، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه، إذ لا يعقل أن يورث عنه قوله وكلامه. فـ {مَا يَقُولُ} بدل اشتمال من ضمير النصب في {نرثه} ، إذ التقدير: ونرث ولده وماله.
والإرث: مستعمل مجازا في السلب والأخذ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك. والمقصود: تذكيره بالموت، أو تهديده بقرب هلاكه.
ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله، فإن العاصي ولد عمرا الصحابي الجليل وهشاما الصحابي الشهيد يوم أجنادين، فهنا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم ونكاية وكمد للعاصي بن وائل.
والفرد: الذي ليس معه ما يصير به عددا، إشارة إلى أنه يحشر كافرا وحده دون ولده، ولا مال له. و {فردا} حال.
[81-82] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}
عطف على جملة {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} فضمير {اتَّخَذُوا} عائد
(16/79)
إلى الذين أشركوا لأن الكلام جرى على بعض منهم.
والاتخاذ: جعل الشخص الشيء لنفسه، فجعل الاتخاذ هنا الاعتقاد والعبادة. وفي فعل الاتخاذ إيماء إلى أن عقيدتهم في تلك الآلهة شيء مصطلح عليه مختلق لم يأمر الله به كما قال تعالى عن إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
وفي قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إيماء إلى أن الحق يقتضي أن يتخذوا الله إلها، إذ بذلك تقرر الاعتقاد الحق من مبدأ الخليقة، وعليه دلت العقول الراجحة.
ومعنى {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} ليكونوا معزين لهم، أي ناصرين، فأخبر عن الآلهة بالمصدر لتصوير اعتقاد المشركين في آلهتهم أنهم نفس العز، أي أن مجرد الانتماء لها يكسبهم عزا.
وأجرى على الآلهة ضمير العاقل لأن المشركين الذين اتخذوهم توهموهم عقلاء مدبرين.
والضميران في قوله: {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} يجوز أن يكونا عائدين إلى آلهة، أي سينكر الآلهة عبادة المشركين إياهم، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر، وستكون الآلهة ذلا ضد العز.
والأظهر أن ضمير {سَيَكْفُرُونَ} عائد إلى المشركين، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} . وفيه تمام المقابلة، أي بعد أن تكلفوا جعلهم آلهة لهم سيكفرون بعبادتهم، فالتعبير بفعل {سَيَكْفُرُونَ} يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود، وأن ضمير {يَكُونُونَ} للآلهة وفيه تشتيت الضمائر. ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يرجع كلا إلى ما يناسبه، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي وأحرز جمع المشركين ما جمعه المسلمون من الغنائم.
ويجوز أن يكون ضميرا {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} راجعين إلى المشركين، وأن حرف الاستقبال للحصول قريبا؛ أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضدا على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها، فهو بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دينه سيظهر على دين الكفر. وفي هذه المقابلة طباق مرتين.
(16/80)
والضد: اسم مصدر، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة. ومن الثاني تسمية العدو ضدا. ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه.
[83-84] {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً}
استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم. وآحادهم، وما جره إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} ، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. وهي معترضة بين جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} وجملة {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} . وأيضا هي كالتذليل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تستخلص أحوالهم، وتتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم.
والاستفهام في {أَلَمْ تَرَ} تعجيبي. ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل. والمراد حصول ضده بحث المخاطب على الاهتمام بتحصيله، أي كيف لم تر ذلك. ونزل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرئي المشاهد، فوقع التعجيب من مرآه بقوله: ألم تر ذلك.
والأز: الهز والاستفزاز الباطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها. شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح.
وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النبوي المنقذ من حبائلها، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي. وللإشارة إلى هذا المعنى عدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ} . وجعل {تَؤُزُّهُمْ} حالا مقيدا للإرسال لأن الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوة الإيمان وصلاح العمل، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].
وفرع على هذا الاستئناف وهذه التسلية قوله: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} ، أي فلا تستعجل
(16/81)
العذاب لهم إنما نعد لهم عدا. وعبر ب {تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} معدى بحرف الاستعلاء إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن نزل منزلة الذي هلاكهم بيده. فنهى عن تعجيله بهلاكهم. وذلك إشارة إلى قبول دعائه عند ربه، فلو دعا عليهم بالهلاك لأهلكهم الله كيلا يرد دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه يقال: عجل على فلان بكذا، أي أسرع بتسليطه عليه، كما يقال: عجل إليه إذا أسرع بالذهاب إليه كقوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، فاختلاف حروف تعدية فعل {عجل} ينبئ عن اختلاف المعنى المقصود بالتعجيل.
ولعل سبب الاختلاف بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الاحقاف: من الآية35] لهم} في سورة الأحقاف أن المراد هنا استعجال الاستئصال والإهلاك وهو مقدر كونه على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قيل هنا {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} ، أي انتظر يومهم الموعود، وهو يوم بدر، ولذلك عقب بقوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} ، أي ننظرهم ونؤجلهم، وأن العذاب المقصود في سورة الأحقاف هو عذاب الآخرة لوقوعه في خلال الوعيد لهم بعذاب النار لقوله هنالك: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 34 - 35].
والعد: الحساب.
و {إنما} للقصر، أي ما نحن إلا نعد لهم، وهو قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا، أي نعد لهم ولسنا بناسين لهم كما يظنون، أو لسنا بتاركينهم من العذاب بل نؤخرهم إلى يوم موعود.
وأفادت جملة {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} تعليل النهي عن التعجيل عليهم لأن {إِنَّمَا} مركبة من "إن" و "ما" وإن تفيد التعليل كما تقدم غير مرة.
وقد استعمل العد مجازا في قصر المدة لأن الشيء القليل يعد ويحسب. وفي هذا إنذار باقتراب استئصالهم.
[85-87] {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً*لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}
إتمام لإثبات قلة غناء آلهتهم عنهم تبعا لقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:82].
(16/82)
فجملة {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} هو مبدأ الكلام، وهو بيان لجملة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}
والظرف وما أضيف الظرف إليه إدماج بينت به كرامة المؤمنين وإهانة الكافرين. وفي ضمنه زيادة بيان الجملة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} بأنهم كانوا سبب سوقهم إلى جهنم وردا ومخلفتهم لحال المؤمنين في ذلك المشهد العظيم. فالظرف متعلق ب {يَمْلِكُونَ} وضمير {لا يَمْلِكُونَ} عائد للآلهة. والمعنى: لا يقدرون على أن ينفعوا من اتخذوهم آلهة ليكونوا لهم عزا.
والحشر: الجمع مطلقا، يكون في الخير كما هنا. وفي الشر كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]، ولذلك أتبع فعل {نَحْشُرُ} بقيد {وَفْداً} ، أي حشر الوفود إلى الملوك، فإن الوفود يكونون مكرمين، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات، ولأعيان العرب وفادات سنويه على ملوكهم وسادتهم. ولكل قبيلة وفادة، وفي المثل إن الشقي وافد البراجم. وقد اتبع العرب هذه السنة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أشرف السادة. وسنة الوفود عي سنة تسع من الهجرة تلت فتح مكة بعموم الإسلام بلاد العرب.
وذكر صفة {الرحمان} هنا واضحة المناسبة للوفد.
والسوق: تسيير الأنعام قدام رعاتها، يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتفلت عليهم، فالسوق: سير خوف وحذر.
وقوله: {وِرْداً} حال قصد منها التشبيه، فلذلك جاءت جامدة لأن معنى التشبيه يجعلها كالمشتق.
والورد بكسر الواو: أصله السير إلى الماء، وتسمى الأنعام الواردة وردا تسمية على حذف المضاف، أي ذات ورد، كما يسمى الماء الذي يرده القوم وردا. قال تعالى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: من الآية98]
والاستثناء في {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} استثناء منقطع، أي لكن يملك الشفاعة يومئذ من اتخذ عند الرحمان عهدا، أي من وعده الله بأن يشفع وهم الأنبياء والملائكة.
(16/83)
ومعنى {لا يَمْلِكُونَ} لا يستطيعون، فإن الملك يطلق على المقدرة والاستطاعة. وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]
[88-95] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً}
عطف على جملة {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ} [مريم: من الآية66] أو على جملة {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم: من الآية81] إتماما لحكاية أقوالهم، وهو القول بأن لله ولدا، وهو قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقد تقدم في سورة النحل وغيرها؛ فصريح الكلام رد على المشركين، وكنايته تعريض بالنصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفا: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 35] الخ.
والضمير عائد إلى المشركين، فيفهم منه أن المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه، وإنما قالوا ذلك تأييدا لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم.
وذكر {الرحمان} هنا حكاية لقولهم بالمعنى، وهم لا يذكرون اسم الرحمان ولا يقرون به، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]. فهم إنما يقولون: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف. فذكر {الرَّحْمَنُ} هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه. فذكر اسم {الرَّحْمَنُ} لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه.
وفيه أيضا إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمان اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} والخطاب في {لَقَدْ جِئْتُمْ} للذين قالوا اتخذ الرحمان ولدا، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد. كما تقدم في قوله آنفا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: من الآية71] فلا يحسن تقدير: قل لقد جئتم.
(16/84)
وجملة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} من التشنيع والتفظيع.
وقرأ نافع، والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث. وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعا لضمير مؤنث متصل، وقرأ البقية {تَكَاد} بالتاء المثناة الفوقية، وهو الوجه الآخر.
والتفطر: الانشقاق، والجمع بينه وبين {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} تفنن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ. والخرور: السقوط.
ومن في قوله: {منه} للتعليل، والضمير المجرور بمن عائد إلى {شَيْئاً إِدّاً} ، أو إلى القول المستفاد من {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} .
والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيغير كيانها.
وقرأ نافع، وأبن كثير، وحفص عن عاصم، والكسائي {يتفطرن} بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية. وقرأ أبو عمر، وابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم بتحتية بعدها نون من الانفطار. والوجهان مطاوع فطر المضاعف أو فطر المجرد، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال. ولعل محاولة التفرقة بينهما كما في الكشاف و الشافية لا يطرد. قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: من الآية25]، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1]. وقرئ في هذه الآية {يتفطرون} و {ينفطرون} . والأصل توافق القراءتين في البلاغة.
والهد: هدم البناء. وانتصب {هدا} على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور. أي سقوط الهدم، وهو أن يتساقط شظايا وقطعا.
و {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} متعلق بكل من {يتفطرن، وتنشق، وتخر} ، وهو على حذف لام الجر قبل "أن" المصدرية وهو حذف مطرد.
والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله {منه} . وزيادة بيان لمعاد الضمير المجرور في قوله {منه} اعتناء ببيانه.
ومعنى {دَعَوْا} : نسبوا، كقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: من الآية5]، ومنه يقال:
(16/85)
ادعى إلى بني فلان، أي انتسب. قال بشامة بن حزن النهشلي:
إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
وجملة {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} عطف على جملة {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً}
ومعنى {مَا يَنْبَغِي} ما يتأتى، أو ما يجوز. وأصل الانبغاء: أنه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلب. ومعنى مطاوعته: التأثر بما طلب منه، أي استجابة الطلب، نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في كتاب سيبويه: كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال كصرف وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة اه. فبان أن أصل معنى {يَنْبَغِي} يستجيب الطلب. ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى {يَنْبَغِي} مختلفا بحسب المقام فيستعمل بمعنى: يتأتى، ويمكن، ويستقيم، ويليق. وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح.
والمعنى في هذه الآية: وما يجوز أن يتخذ الرحمان ولدا. بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتى لأنه مستحيل لا تتعلق به القدرة، لا لأن الله عاجز عنه. ونحو قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] يفيد معنى: لا يستقيم لنا، أو لا يخول لنا أن نتخذ أولياء غيرك، ونحو قوله {الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يّس: من الآية40] يفيد معنى لا تستطيع. ونحو {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يّس: من الآية69] يفيد معنى: أنه لا يليق به. ونحو {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} يفيد معنى: لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه، وفرق بين قولك: ينبغي لك أن لا تفعل هذا، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا، أي ما يجوز لجلال الله أن يتخذ ولدا لأن جميع الموجودات غير ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له. وذلك ينافي البنوة لآن بنوة الإله جزء من الإلهية، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، أي لو كان له ولد لعبدته قبلكم.
ومعنى {آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، الإتيان المجازي، وهو الإقرار والاعتراف، مثل: باء بكذا، أصله رجع، واستعمل بمعنى اعترف.
(16/86)
و {عَبْدا} حال، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبدا.
ويجوز جعل {آتِي الرَّحْمَنِ} بمعنى صائر إليه بعد الموت، ويكون المعنى أنه يحيا عبدا ويحشر عبدا بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة.
وتكرير اسم {الرَّحْمَنِ} في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله. والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه. ينافي ادعاء الولد له لأن الرحمان وصف يدل على عموم الرحمة وتكثرها. ومعنى ذلك شاملة لكل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى. ولا يتقوم ذلك إلا بتحقيق العبودية فيه. لأنه لو كان بعض الموجودات ابنا لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالنبوة مساويا له في الإلهية المقتضية الغني المطلق، ولأن اتخاذ الابن يتطلب به متخذه بر الابن به ورحمنه له، وذلك ينافي كون الله مفيض كل رحمة.
فذكر هذا الوصف عند قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} وقوله {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} تسجيل لغباوتهم.
وذكره عند قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله.
وذكره عند قوله: {إلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَا} استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها.
وجملة {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} عطف على جملة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة. فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير {وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} وما بعده. وليس عائدا على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه.
ومعنى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولدا، لنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم الملائكة والجن ليكونوا شفعاءهم عند الله، فأيأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفردا لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة {ويَأْتِينَافَرْداً} . في ذلك تعويض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيان الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه.
(16/87)
[96] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}
يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أن هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين، فيكون حال إتيانهم غير حال انفراد بل حال تأنس بعضهم ببعض.
ولما ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين. وكان ذلك مشعرا بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورط فيه من يدفع عنه وينصره، وإشعار ذلك بأنهم مغضوب عليهم، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين، وأنهم على العكس من حال المشركين، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودة والتبجيل. فالمعنى: سيجعل لهم الرحمان أوداء من الملائكة كما قال تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31]، ويجعل بين أنفسهم مودة كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: من الآية47]
وإيثار المصدر ليفي بعدة متعلقات بالود. وفسر أيضا جعل الود بأن الله يجعل لهم محبة في قلوب أهل الخير. رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي. وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة.
وفسر أيضا بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى. فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] أي هذا أظهر الوجوه في تفسير الود. وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول.
[97] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}
إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأن المتكلم سيطوي بساطة. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.
فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدل عليه المذكور، كأنه قيل: بلغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلا للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما حصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن
(16/88)
المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أرائنا لاتبعناك".
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً *وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 94 - 95]. ووعد المؤمنين بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96]. والمفرع هو مضمون {لِتُبَشِّرَ بِهِ} الخ {وَتُنْذِرَ بِهِ} الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئت به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلا لذلك.
وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السياق مثل {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: من الآية32] وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسر للقراءة، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]
واللسان: اللغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء 192- 195] ؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.
والباء للسببية أو المصاحبة.
وعبر عن الكفار بقوم لد ذما لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللد: جمع ألد، وهو الأقوى في اللدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" . ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللدد، قال بعضهم في رثاء البعض:
إن تحت الأحجار حزما وعزما ... وخصيما ألد ذا مغلاق
وقد حسن مقابلة المتقين بقوم لد. لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولدد.
وفيه تعريض بأن كفرهم عن نعاد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: من الآية33]
وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة، [164] وقوله
(16/89)
تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]
[98] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98]
لما ذكروا بالعناد والمكابرة أتبع بالتعريض بتهديدهم على ذلك بتذكيرهم بالأمم التي استأصلها الله لجبروتها وتعنتها لتكون لهم قياسا ومثلا. فالجملة معطوفة على جملة {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} باعتبار ما تضمنته من بشارة المؤمنين ونذارة المعاندين، لأن في التعريض بالوعيد لهم نذارة لهم وبشارة للمؤمنين باقتراب إراحتهم من ضرهم.
و {وكَمْ} خبرية عن كثرة العدد.
والقرن: الأمة والجيل. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة. وشاع تقديريه بمائة سنة. و {من} بيانية، وما بعدها تمييز {كم} .
والاستفهام في {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} إنكاري. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تبعا لقوله {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي ما تحس، أي ما تشعر بأحد منهم. والإحساس: الإدراك بالحس، أي لا ترى منهم أحدا.
والركز: الصوت الخفي، ويقال: الرز، وقد روى بهما قول لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وهو كناية عن اضمحلالهم؛ كني باضمحلال لوازم الوجود عن اضمحلال وجودهم.
(16/90)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه
سميت سورة "طاها" باسم الحرفين المنطوق بهما في أولها.
ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما تبعا لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف. وكذلك وردت تسميتها في كتب السنة في حديث إسلام عمر بن الخطاب كما سيأتي قريبا.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي عن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله تبارك وتعالى قرأ "طاها" باسمين قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها" الحديث. قال ابن فورك: معناه أن الله أظهر كلامه وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة، فتكون هذه التسمية مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر في الإتقان عن السخاوي أنها تسمى أيضا "سورة الكليم"، وفيه عن الهذلي في كامله أنها تسمى "سورة موسى".
وهي مكية كلها على قول الجمهور. واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين. وفي الإتقان أنه استثني منها آية {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: من الآية130] واستظهر في الإتقان أن يستثنى منها قوله تعالى {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: من الآية131]. لما أخرج أبو يعلى والزار عن أبي رافع قال: "أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي فأخبرته فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فلم أخرج من عنده حتى نزلت {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه:131] الآية اهـ.
(16/91)
وعندي أنه إن صح حديث أبي رافع فهو من اشتباه التلاوة بالنزول. فالعل النبي صلى الله عليه وسلم قرأها متذكرا فظنها أبو رافع نازلة ساعتئذ ولم يكن سمعها قبل، أو أطلق النزول على التلاوة. ولهذا نظائر كثيرة في المرويات في أسباب النزول كما علمته غير مرة.
وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب لما روى الدارقطني عن أنس بن مالك، وابن إسحاق في سيرته عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف. فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما سورة "طاها"، فقال: "أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه? فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فلما قرأ صدرا منها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه" إلى آخر القصة. وذكر الفخر عن بعض المفسرين أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.
وعدت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعا وثلاثين وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين. وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمسا وثلاثين.
أغراضها
احتوت من الأغراض على:
- التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها
- والتنويه بأنه تنزيل من الله لهدي القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.
- والتنويه بعظمة الله تعالى. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس. فضرب المثل لنزول القران على محمد صلى الله عليه وسلم بكلام الله موسى عليه السلام
- وبسط نشأة موسى وتأييد الله إياه ونصره على فرعون بالحجة والمعجزات وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.
(16/92)
- وإنجاء الله موسى وقومه، وغرق فرعون،وما أكرم الله به بني إسرائيل في خروجهم من بلد القبط.
وقصة السامري وصنعه العجل الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى عليه السلام.
وكل ذلك تعويض بأن مآل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صائر إلى ما صارت إليه بعثة موسى عليه السلام من النصر على معانديه. فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد من أعرضوا عن القرآن ولم تنفعهم أمثاله ومواعظه.
- وتذكير الناس بعدواة الشيطان الإنسان بما تضمنه قصة خلق آدم.
- ورتب على ذلك سوء الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مقادتهم بيد الشيطان وإنذارهم بسوء العقاب في الدنيا.
- وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقولونه وتثبيته على الدين.
وتخلل ذلك إثبات البعث. وتهويل يوم القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال.
{طه} [طه:1]
هذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل الم، ويس. ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى "طا" و"ها" كما رسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة. وقرئا لجميع القراء كما قرأت بقية فواتح السور. فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقيل هما حرفان مقتضبان من كلمتي "طاهر" و"هاد" وأنهما على معنى النداء بحذف حرف النداء.
وتقدم وجه المد في "طا" "ها" في أول سورة يونس. وقيل مقتضبان من فعل "طأ" أمرا من الوطء. ومن "ها" ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى رجل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى. ولم يصح.
وقيل: "طاها" كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية. ومعناها إنسان، وتكلمت بها
(16/93)
قبيلة عك أو عكل وأنشدوا ليزيد بن مهلهل:
إن السفاهة طاها من شمائلكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين
وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة عك أو عكل أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأن معناها في لغة: عك يا إنسان، أو يا رجل. وفي ما عداها: يا حبيبي. وقيل: هي اسم سمى الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه على معنى النداء. أو هو قسم به. وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم.
ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في الشفاء . ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها. كقول من قال: هي أسماء للسور الواقعة فيها. ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة. وإنما غرهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها. وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
[2-6] {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}
افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك. أي تصيبه المشقة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضا بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادكروا بالقرآن.
وفي هذه الفاتحة تمهيد لما يرد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاضطلاع بأمر التبليغ. وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام وأن لا يكون مفرطا في العزم كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض. وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويها بمن أنزل عليه وجاء به.
والشقاء: فرط التعب بعمل أو غم في النفس، قال النابغة:
إلا مقالة أقوم شقيت بهم ... كانت مقالتهم قرعا على كبدي
وهمزة الشقاء منقلبة عن الواو. يقال: شقاء وشقاوة بفتح الشين وشقوة بكسرها.
(16/94)
ووقوع فعل {أَنْزَلْنَا} في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله. لأن الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه. وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور، فيعم نفي جميع كل إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشقاء فلا يكون إنزال القرآن سببا في شيء من الشقاء للرسول صلى الله عليه وسلم.
وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
ويجوز أن يكون المراد: ما أرسلناك لتخيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.
وقوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً} استثناء مفرغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلناه عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ} الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل {أَنْزَلْنَا} عامل في {لِتَشْقَى} بواسطة حرف الجر، وعامل في {تَذْكِرَةً} بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلة المنفية بقوله: {لتشقى} حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعا وتقع في كلف لتصحيح النظم.
وقال الواحدي في أسباب النزول : قال مقاتل: قال أبو جهل والنضر بن الحارث وزاد غير الواحدي: الوليد بن المغيرة، والمطعم ابن عدي للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لشقي بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الآية، وليس فيه سند.
والتذكرة: خطور المنسي بالذهن، فإن التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملة إبراهيم عليه السلام.
و {مَنْ يَخْشَى} هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدين، وهو كل من يفكر للنجاة في العاقبة، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العربي الأصلي. ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي، وهو خوف الله، فيكون المراد من الفعل المآل، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيسير الله تعالى له التقوى، كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: من الآية2] أي الصائرين إلى التقوى.
وَ {تَنْزِيلاً} حال من {الْقُرْآنَ} ثانية.
(16/95)
والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك.
والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقا. ولذلك وصف {السَّمَاوَاتِ} بـ {الْعُلَى} صفة كاشفة زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها. وأيضا لما كان ذلك شأن منزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئا عظيما، كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
و {الرَّحْمَنُ} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعا للاستعمال المسند إليه كما سماه السكاكي ويجوز أن يكون مبتدأ. واختر وصف {الرَّحْمَنُ} لتعليم الناس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: من الآية60]. وفي كره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكر على إحسانه بالرحمة البالغة.
وجملة {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حال من {الرَّحْمَنُ} أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.
والاستواء: الاستقرار. قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: من الآية28] الآية. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: من الآية44].
والعرش: عالم عظيم من العوالم العليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها. وقيل غير ذلك. ويسمى: الكرسي أيضا على الصحيح. وقيل: الكرسي غير العرش.
وأياما كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} .
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش وقد عرف العرب من أولئك ملوك الفرس وملوك الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة.
وحسن التعبير بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو مما يستوي عليه في المتعارف. فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه
(16/96)
البين تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة: أن ليس كمثله شيء.
وقيل: الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء. وأنشدوا قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... بغير سيف ودم مهراق
وهو مولد. ويحتمل أنه تمثيل كالآية. ولعله انتزعه من هذه الآية.
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [لأعراف: من الآية54] في سورة الأعراف. وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية.
وفي تقييد الأبي على تفسير ابن عرفة : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة. قيل لابن عرفة: عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال: هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك.
وأتبع ما دل على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريرا وهو جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الخ. فهي بيان لجملة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . والجملتان تدلان على عظيم قدرته لآن ذلك هو المقصود من سعة السلطان.
وتقديم المجرور في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} للقصر، ردا على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض، وأن للجن اطلاعا على الغيب، ولتقرير الرد ذكرت أنحاء الكائنات، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
والثرى: التراب. وما تحته: هو باطن الأرض كله.
وجملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} عطف على جملة {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
[7] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}
عطف على جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته. وأصل النظم: ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول؛ فموقع قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} موقع الاعتراض بين جملة {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وجملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقا له.
(16/97)
والمعنى: أنه يعلم السر وأخفى من السر في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى. وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة. وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
أي سهدا في كل وقت حين ينام غيره ممن هو هوجل. وقول بشامة بن حزن النهشلي:
إذا الكماة تنحو أن يصيبهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا
وقول إبراهيم بن كنيف النبهاني:
فإن تكن الأيام جالت صروفها ... ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة ... وما ذللتنا للتي ليس تجمل
وقول القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا
فالخطاب في قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ} يجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم غيره. ويجوز أن يكون لغير معين ليعم كل مخاطب.
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأن السر أخفى الأنبياء عن علم الناس في العادة. ولما جاء القرآن مذكرا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا?، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا أي وهو بعيد عنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22]. وقد كثر في القرآن أن الله يعلم ما يسر الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرت الآية الآنفة الذكر، وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
(16/98)
الصُّدُورِ} [هود:5]
يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أن حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر.
وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [لأعراف: من الآية205] فيكون هذا مما نسخة قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: من الآية94]، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفا.
والقول: مصدر، وهو تلفظ الإنسان بالكلام، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
وجواب شرط {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} محذوف يدل عليه قوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} والتقدير: فلا تشق على نفسك فإن الله يعلم السر وأخفى. أي فلا مزية للجهر به.
وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء، فقد ثبت في السنة الجهر بالدعاء والذكر، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلا على معنى الإشارة.
و {أخفى} اسم تفضيل، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه، أي وأخفى من السر. والمراد بأخفى منه: ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر.
[8] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
تذييل لما قبله لأن ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته.
واسم الجلالة خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير: هو الله، جريا على ما تقدم عند قوله
(16/99)
تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} حال من اسم الجلالة. وكذلك جملة {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
والأسماء: الكلمات الدالة على الاتصاف بحقائق. وهي بالنسبة إلى الله: إما علم وهو اسم الجلالة خاصة. وإما وصف مثل الرحمان والجبار وبقية الأسماء الحسنى.
وتقديم المجرور في قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} للاختصاص. أي لا لغيره لأن غيره إما أن يكون اسمه مجردا من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام، وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والملك، وإما أن يكون الاتصاف بها كذبا لا حقيقة، كاتصاف البشر بالكبر، إذ ليس أهلا للكبر والجبروت والعزة.
ووصف {الأسماء} ب {الْحُسْنَى} لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس. وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة، وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنه دال على الإله، وعرف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده. فكان جامعا لمعنى وجوب الوجود، واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} في سورة الأعراف [180].
[9-10] {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً}
أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه يذكر قصة موسى عليه السلام ليتأسى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب. وتسلية له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء من سلفهم من المكذبين، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً *مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً *خَالِدِينَ فِيهِ} طه:99-101]. وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: من الآية130] الآيات.
(16/100)
فجملة {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} عطف على جملة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريبا وهذه القصة تقدم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازا وليس مستعملا في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قصت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم كان هذا أول قصصها عليه. وفي قوله: {إِذْ رَأَى نَاراً} زيادة في التشويق كما يأتي قريبا.
وأوثر حرف {هَلْ} في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن {هَلْ} في الاستفهام مثل "قد" في الإخبار.
والحديث: الخبر. وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج، ويجمع على أحاديث على غير قياس. قال الفراء: واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث اه. يعني استغنوا به عن صيغة فعلاء.
و {إذ} ظرف الحديث. وقد تقدم نظائره. وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقا إلى استعلام كنه الخبر، لأن رؤية النار تحتمل أحوالا كثيرة.
ورؤية النار تدل على أن ذلك كان بليل، وأنه كان بحاجة إلى النار، ولذلك فرع عليه: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} ... الخ.
والأهل: الزوج والأولاد. وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله: {امْكُثُوا} . وفي سفر الخروج من التوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر.
وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير {أَهْله} على الأصل. وقرأه حمزة، وخلف بضم الهاء تبعا لضمة همزة الوصل في {امْكُثُوا} .
والإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه.
وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة.
والقبس: ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس، كالجمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك، وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به. وقيل: اقتدح
(16/101)
زنده فصلد، أي لم يقدح.
ومعنى {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} : أو ألقى عارفا بالطريق قاصدا السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل. قيل: كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلا.
و {أَوْ} هنا للتخيير، لأن إتيانه بقبس أمر محقق، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير. وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصدا الطريق مثله فيصحبه.
وحرف {على} في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} مستعمل في الاستعلاء المجازي، أي شدة القرب من النار قربا أشبه الاستعلاء، وذلك أن مشعل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها. قال الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق
وأراد بالهدى صاحب الهدى.
وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاما إياه أنه سيجد عند تلك النار هدى عظيما، ويبلغ قومه منه ما فيه نفعهم.
وإظهار النار لموسى رمز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزا على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.
[11-13] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} علم أن المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن. ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأن موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول.
وجملة {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} بيان لجملة {نُودِيَ} وبهذا النداء علم موسى أن الكلام موجه إليه من قبل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغير العوائد التي قررها في الأكوان إلا لإرادة الإعلام بأن له عناية خاصة بالمغير، فالله تعالى خلق أصواتا خلقا غير
(16/102)
معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد، ولا موجهة له بواسطة ملك يتولى هو تبليغ الكلام لأن قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ظاهر في أنه لم يبلغ إليه ذلك بواسطة الملائكة، فلذلك قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164]، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى. والمراد التي تدل عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي. وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزه عن الحروف والأصوات والتعلق بالأسماع.
والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه رب المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطبة فإن شأن الرب الرفق بالمربوب.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" لتحقيقه لأجل غرابته دفعا لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير "أني" بفتح الهمزة على حذف باء الجر. والتقدير: نودي بأني أنا ربك. والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين.
وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حله التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه.
والخلع: فصل شيء عن شيء كان متصلا به.
والنعلان: جلدان غلظان يجعلان تحت الرجل ويشدان برباط من جلد لوقاية الرجل ألم المشي على التراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل.
وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيما منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي. وروى الترمذي 1 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت نعلاه من جلد حمار ميت" . أقول: وفيه أيضا زيادة خشوع. وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} . فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد. وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكم يقتضي نزع النعل عند الصلاة.
والواد: المفرج بين الجبال والتلال. وأصله بياء في آخره. وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثني لزمته الياء يقال: واديان ولا يقال وادان، وكذلك إذا
ـــــــ
1 في لبس الصوف من كتاب اللباس.
(16/103)
أضيف يقال: بواديك ولا يقال بوادك.
والمقدس: المطهر المنزه. وتقدم في قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: من الآية30] في أول البقرة. وتقديس الأمكنة يكون بما يحل فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قبل الله تعالى.
واختلف المفسرون في معنى {طُوىً} وهو بضم الطاء وبكسرها، ولم يقرأ في المشهور إلا بضم الطاء، فقيل: اسم لذلك المكان، وقيل: هو اسم مصدر مثل هدى، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له: إنك بالواد المقدس الذي طويته سيرا، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد. وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعد إلى أعلاه لتلقي الوحي. وقد قيل: إن موسى صعد أعلى الوادي. وقيل: هو بمعنى المقدس تقديسين، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين. ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: من الآية4] فالمعنى: المقدس تقديسا شديدا. فاسم المصدر مفعول مطلق مبين للعدد، أي المقدس تقديسا مضاعفا.
والظاهر عندي: أن {طُوىً} اسم لصنف من الأدوية يكون ضيقا بمنزلة الثوب المطوي أو غائرا كالبئر المطوية، والبئر تسمى طويا. وسمي واد بظاهر مكة ذا طوى بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده.
وقد اختلف في {طُوىً} هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو، مثل عمر عن عامر.
وقرأ الجمهور {طوى} بلا تنوين على منعه من الصرف. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منونا، لأنه اسم واد مذكر.
وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم، لأن المقام ليس مقام إفادة التخصيص، أي الحصر نحو: أنا سعيت في حاجتك، وهو يعطي الجزيل. وموجب التقوي وغرابة الخبر ومفاجأته به دفعا لتطرق الشك في نفسه.
والاختيار: تكلف طلب ما هو خير. واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير.
(16/104)
وفرع على الإخبار باختياره أن أمر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلا اختياره لتلقي ما سيوحي الله.
والمراد: ما يوحي إليه حينئذ من الكلام، وأما ما يوحي إليه في مستقبل الأيام فكونه مأمورا باستماعه معلوم بالأحرى.
وقرأ حمزة وحده {وأنا اخترناك} بضميري التعظيم.
واللام في {لِمَا يُوحَى} للتقوية في تعدية فعل {اسْتَمِعْ} إلى مفعوله، فيجوز أن تتعلق بـ {اخْتَرْتُكَ} أي اخترتك للوحي فاستمع، معترضا بين الفعل والمتعلق به. ويجوز أن يضمن استمع معنى أصغ.
[14-16] {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}
هذا ما يوحى المأمور باستماعه. فالجملة بدل من {ما يُوحَى} بدلا مطابقا.
ووقع الأخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلم الدال على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علما عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربهم.
وفي هذا إشارة إلى أن أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم. فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلم كليمه اسمه، وهو الله.
وهذا الاسم هو علم الرب في اللغة العربية. واسمه تعالى في اللغة العبرانيه يهوه أو أهيه المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس. وقد ذكر اسم {الله} في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة السادسة عشرة. ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله.
ولفظ "أهية" أو "يهوه" قريب الحروف من كلمة إله في العربية.
(16/105)
ويقال: إن اسم الجلالة في العبرانية لاهم. ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى، نزل منزلة الشاك لأن غرابة الخبر تعرض السامع للشك فيه.
وتوسيط ضمير الفصل بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} لزيادة تقوية الخبر،وليس بمفيد للقصر، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأن المتكلم هو المسمى الله، فالحمل حمل مواطاة لا حمل اشتقاق. وهو كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: من الآية17] [المائدة:72].
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} خبر ثان عن اسم "إن". والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى.
ثم فرع على ذلك الأمر بعبادته. والعبادة تجمع معنى العمل الدال على التعظيم من قول وفعل وإخلاص بالقلب. ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يعبد.
وخص من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأن الصلاة تجمع أحوال العبادة. وإقامة الصلاة: إدامتها، أي عدم الغفلة عنها.
والذكر يجوز أن يكون التذكير بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللسان.
واللام في {لِذِكْرِي} للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذكرني، لأن الصلاة تذكر العبد بخالقه. إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته. ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: من الآية45] يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأن المكلف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرف موسى حكمة الصلاة مجملة وعرفها محمدا صلى الله عليه وسلم مفصلة.
ويجوز أن يكون اللام أيضا للتوقيت، أي أقسم الصلاة عند الوقت الذي جعلته لذكري. ويجوز أن يكون الذكر الذكر اللساني لأن ذكر اللسان يحرك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراف بما له من الحق، أي الذي عينته لك. ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة. وفي الكلام حذف يعلم من السياق.
(16/106)
وجملة {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء.
والساعة: علم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب.
وجملة {أَكَادُ أُخْفِيهَا} في موضع الحال من {السَّاعَةَ} أو معترضة بين جملة وعلتها.
والإخفاء: الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام.
والمشهور في الاستعمال أن "كاد" تدل على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيز الانتفاء، فقوله تعالى: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: من الآية19] يدل على أن كونهم لبدا غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع.
ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة.
فقيل: المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعل توجيه ذلك أن المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عنادا على إنكارها.
وقيل: وقعت {أَكَادُ} زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيدا للإخفاء. والمقصود: أنا أخفيها فلا تأتي إلا بغتة.
وتأول أبو علي الفارسي معنى {أُخْفِيهَا} بمعنى أظهرها، وقال: همزة {أخفيها} للإزالة مثل همزة أعجم الكتاب، وأشكى زيدا، أي أزيل خفاءها. والخفاء: ثوب تلف فيه القربة مستعار للستر.
فالمعنى: أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب. وهذه الآية من غرائب استعمال "كاد" فيضم إلى استعمال نفيها في قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: من الآية71] في سورة البقرة.
وقوله: {لِتُجْزَى} يتعلق ب {آتِيَةٌ} وما بينهما اعتراض. وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء.
واللام في {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} متعلق ب {آتِيَةٌ}
(16/107)
ومعنى {بِمَا تَسْعَى} بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء: من الآية19] في سورة الإسراء.
وفرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذير من أن يصده عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغترارا بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أوقع لأن ذلك الإخفاء هو الذي يشبه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الاسراء: من الآية51] وقال: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
وصيغ نهي موسى عن الصد عنها في صيغة نهي من لا يؤمن بالساعة عن أن يصد موسى عن الإيمان بها، مبالغة في نهي موسى عن أدنى شيء يحول بينه وبين الإيمان بالساعة، لأنه لما وجه الكلام إليه وكان النهي نهي غير المؤمن عن أن يصد موسى، علم أن المراد نهي موسى عن ملابسة صد الكافر عن الإيمان بالساعة، إي لا تكن لين الشكيمة لمن يصدك ولا تصغ إليه فيكون لينك له مجرئا إياه على أن يصدك، فوقع النهي عن المسبب. والمراد النهي عن السبب، وهذا الأسلوب من قبيل قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا ولا أرينك هاهنا.
وزيادة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} للإيماء بالصلة إلى تعليل الصد، أي لا داعي لهم للصد عن الإيمان بالساعة إلا اتباع الهوى دون دليل ولا شبهة، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة كما أشار إليه قوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}
وفرع على النهي أنه إن صد عن الإيمان بالساعة ردي، أي هلك. والهلاك مستعارا لأسوأ الحال كما في قوله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة براءة [42].
والتفريع ناشئ على ارتكاب المنهي لا على النهي. ولذلك جيء بالتفريع بالفاء ولم يقع بالجزاء المجزوم، فلم يقل: ترد، لعدم صحة حلول "إن" مع "لا" عوضا عن الجزاء. وذلك ضابط صحة جزم الجزاء بعد النهي.
وقد جاء خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام بطريقة الاستدلال على كل حكم، وأمر أو نهي، فابتدئ بالإعلام بأن الذي يكلمه هو الله، وأنه لا إله إلا هو، ثم فرع عليه الأمر في قوله: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ثم عقب بإثبات الساعة، وعلل بأنها
(16/108)
لتجزي كل نفس بما تسعى، ثم فرع عليه النهي عن أن يصده عنها من لا يؤمن بها، ثم فرع على النهي أنه إن ارتكب ما نهي عنه هلك وخسر.
[17 - 21] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}
بقية ما نودي به موسى. والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالا إلى محاورة أراد الله منها أن يري موسى كيفية الاستدلال على المرسل إليهم بالمعجزة العظيمة، هي انقلاب العصا حية تأكل الحيات التي يظهرونها.
وإبراز انقلاب العصا حية في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى، ودفع الشك عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأن مشاهد الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حية لم يشك في أن تلك الحية هي التي كانت عصاه. فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه.
والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلم معتاد ولا في صورة المعتاد، كما دل عليه قوله بعد ذلك: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23].
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه، وبينت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله: {بِيَمِينِكَ} ، ووقع الظرف حالا من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك?.
ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جريا على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأن شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلا والسائل يريد من سؤاله أمرا غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أي يوم هذا? سكت الناس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. وفي رواية أنهم قالوا: "الله ورسوله أعلم. فقال: أليس يوم الجمعة?.." إلى آخره.
فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه، وتوقع أن
(16/109)
السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه، فقال: {هِيَ عَصَايَ} بذكر المسند إليه، مع أن غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولا عنه، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول: عصاي. فلما قال: {هِيَ عَصَايَ} كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار، كما يقول سائل لما رأى رجلا يعرفه وآخر لا يعرفه: من هذا معك? فيقول. فلان، فإذا لقيهما مرة أخرى وسأله: من هذا معك? أجابه: هو فلان، ولذلك عقب موسى جوابه ببيان الغرض من اتخاذها لعله أن يكون هو قصد السائل فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . ففصل ثم أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتى إذا استزاده بيانا زاده.
والباء في قوله: {بِيَمِينِكَ} للظرفية أو الملابسة.
والتوكؤ: الاعتماد على شيء من المتاع، والاتكاء كذلك، فلا يقال: توكأ على الحائط ولكن يقال: توكأ على وسادة، وتوكأ على عصا.
والهش: الخبط، وهو ضرب الشجرة بعصا ليتساقط ورقها، وأصله متعد إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع، ثم كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين "أهش" معنى أسقط. على غنمي الورق فتأكله، أو استعملت على بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم: هو وكيل على فلان.
ومآرب: جمع مأربة، مثلث الراء: الحاجة، أي أمور احتاج إليها. وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس. وقد أفرد الجاحظ من كتاب البيان والتبيين بابا لمنافع العصا. ومن أمثال العرب: هو خير من تفارق العصا. ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.
والظاهر أن قوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} حكاية لقول موسى بمماثله، فيكون إيجازا بعد الإطناب، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا. ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه، أي عد منافع أخرى، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام.
والضمير المشترك في {قَالَ أَلْقِهَا} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم الذي في قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ} ؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حوارا مع قول
(16/110)
موسى {هِيَ عَصَايَ} .. إلخ.
وقوله: {أَلْقِهَا} يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه كالذي يجيء في قوله {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]
والحية: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض، ويطلق على الذكر.
ووصف الحية ب {تَسْعَى} لإظهار أن الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد. والسعي: المشي الذي فيه شدة، ولذلك خص غالبا بمشي الرجل دون المرأة.
وأعيد فعل {قَالَ خُذْهَا} بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة.
والسيرة في الأصل: هيئة السير، وأطلقت على العادة والطبيعة، وانتصب {سِيرَتَهَا} بنزع الخافض، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حية، أي سنعيدها عصا كما كانت أول مرة.
والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أن العصا تطبعت بالانقلاب حية، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي.
[22-23] {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}
هذه معجزة أخرى علمه الله إياها حتى إذا تحدى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة. فهذا تمرين على معجزة ثانية متحد الغرض مع إلقاء العصا.
والجناح: العضد وما تحته إلى الإبط، أطلق عليه ذلك تشبيها بجناح الطائر.
والضم: الإلصاق، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكا بها العصا. وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جلد جناحه بأن يدخلها في جيب قميصه حتى تماس بشرة جنبه، كما في آية سورة سليمان {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: من الآية12]. جعل الله تغير لون جلد يده عند مماستها جناحه تشريفا لأكثر ما يناسب من أجزاء حسمه بالفعل والانفعال.
(16/111)
و {بَيْضَاءَ} حال من ضمير {تَخْرُجْ} و {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} حال من ضمير {بَيْضَاءَ} .
ومعنى {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير مرض مثل البرص والبهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لون بقية بشرته. وانتصب {آيَةً} على الحال من ضمير {تَخْرُجْ} .
والتعليل في قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} راجع إلى قوله {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} فاللام متعلقة ب {تَخْرُجْ} لأنه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء. وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها، ويجوز أن يتعلق {لِنُرِيَكَ} بمحذوف دل عليه قوله: {أَلْقِهَا} وما تفرع عليه. وقوله {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} وما بعده، وتقدير المحذوف: فعلنا ذلك لنريك من آياتنا.
و {مِنْ آيَاتِنَا} في موضع المفعول الثاني ل {نُرِيَكَ} فتكون (من) فيها سما بمعنى بعض على رأي التفتزاني. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية8] في سورة البقرة، ويسير إليه كلام الكشاف هنا.
و {الْكُبْرَى} صفة لـ {آيَاتِنَا} والكبر: مستعار لقوة الماهية. أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك.
[24-36] {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}
لما أظهر الله له الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيد من الله تعالى، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يدخل الروع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله، وقد جاء في الآيات الآتية {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى* قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45-46]
والذهاب المأمور به ذهاب خاص، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره، وإظهار المعجزات له، أو صرح له به وطوى ذكره هنا على طريقة الإيجاز، على أن التعليل الواقع بعد ينبئ به.
(16/112)
فجملةِ {إنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر بالذهاب إليه، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغيره عما هو عليه من عبادة غير الله. ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه، وإعطاءه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة.
وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جريا على طريقة المحاورات.
ورتب موسى الأشياء المسؤولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه.
فالشرح، حقيقته: تقطيع ظاهر شيء لين. واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره أو توجب تردده في الإقدام على عمل ما تشبيها بتشريح اللحم بجامع التوسعة.
والقلب: يراد به في كلامهم والعقل فالمعنى: أزل عن فكري الخوف ونحوه، مما يعترض الإنسان من عقبات تحول بينه وبين الانتفاع بإقدامه وعزامته، وذلك من العسر، فسأل تيسير أمره، أي إزالة الموانع الحافة بما كلف به.
والأمر هنا: الشأن، وإضافة {أمر} إلى ضمير المتكلم لإفادة مزيد اختصاصه به وهو أمر الرسالة كما في قوله الآتي: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
والتيسير: جعل الشيء يسيرا، أي ذا يسر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: من الآية185] في البقرة.
ثم سأل سلامة آلة التبليغ وهو اللسان بأن يرزقه فصاحة التعبير والمقدرة على أداء مراده بأوضح عبارة، فشبه حبسه السان بالعقدة في الحبل أو الخيط ونحوهما لأنها تمنع سرعة استعماله.
والعقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه، وهي بزنة فعلة بمعنى مفعول كقصة وغرفة، أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرحة، ويقال لها حبسة.
(16/113)
يقال: عقد اللسان كفرح، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام. واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية.
وزيادة {لِي} بعد {اشْرَحْ} وبعد {يَسِّرْ} إطناب كما أشار إليه صاحب المفتاح لأن الكلام مفيد بدونه. ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلة، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي، وهي اللام الملقبة لام التبيين التي تفيد تقوية البيان، فإن قوله: {صدري} و {أمري} واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله: {لي} فيها زيادة بيان كقوله {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه.
وأما تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد.
ولم يأت بذلك مع قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} لأن ذلك سؤال يرجع إلى رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين.
وتنكير {عُقْدَةً} للتعظيم، أي عقدة شديدة.
و {مِنْ لِسَانِي} صفة ل {عُقْدَةً} وعدل عن أن يقول: عقدة لساني، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة.
وفعل {يَفْقَهُوا} مجزوم في جواب الأمر على الطريقة المتبعة في القرآن من جعل الشيء المطلوب بمنزلة الحاصل عقب الشرط كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: من الآية30] أي إن نقل لهم غضوا يغضوا، أي شأنهم الامتثال. والفقه: الفهم.
والوزير: فعيل بمعنى فاعل، من وازر على غير قياس، مثل حكيم من أحكم، وهو مشتق من الأزر، وهو المعونة، والمؤازرة كذلك، والكل مشتق من الأزر، أي الظهر، كما سيأتي قريبا، فحقه أن يكون أزيرا بالهمزة إلا أنهم قلبوا همزته واو حملا على موازر الذي هو بمعناه الذي قلبت همزته واو الانضمام ما قبلها.فلما كثر في الكلام قولهم: موازر ويوازر بالواو نطقوا بنظيره في المعنى بالواو بدون موجب للقلب إلا الحمل على النظير في النطق، أي اعتياد النطق بهمزته واوا، أي جعل معينا من أهلي.
وخص هارون لفرط ثقته به ولأنه كان فصيح اللسان مقوالا، فكونه من أهله مظنة
(16/114)
النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخ الخاص لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي.
وجملة {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي {اشْدُدْ} ، و {أَشْرِكْ} بيان لجملة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً} . سأل الله أن يجعله معينا له في أعماله، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكا لموسى في أمره، أي أمر رسالته.
وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم بفتح الهمزة المقطوعة في {اشْدُدْ} وبضم همزة {أَشْرِكْه} فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم {يَفْقَهُوا قَوْلِي} .
و {هَارُونَ} مفعول أول لفعل {اجْعَلْ} ، قدم عليه المفعول الثاني للاهتمام.
والشد: الإمساك بقوة.
والأزر: أصله الظهر. ولما كان الظهر مجمع حركة الجسم وقوام استقامته أطلق اسمه على القوة إطلاقا شائعا يساوي الحقيقة فقيل الأزر للقوة.
وقيل: آزره إذا أعانه وقواه. وسمي الإزار إزارا لأنه يشد به الظهر، وهو في الآية مراد به الظهر ليناسب الشد، فيكون الكلام تمثيلا لهيئة المعين والمعان بهيئة مشدود الظهر بحزام ونحوه وشاده.
وعلل موسى عليه السلام سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبحا الله كثيرا ويذكر الله كثيرا. ووجه ذلك أن فيما سأله لنفسه تسهيلا لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها،وذلك مظنة تكثيرها.
وأيضا فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة ولم يكن لأخيه من قبل، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته، وذلك يبعث أخاه أيضا على الدعوة. ودعوة كل منهما تشتمل على التعريف بصفات الله وتنزيهه فهي مشتملة على التسبيح، وفي العودة حث على العمل بوصايا الله تعالى عباده، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان والتقوى. وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيهما وذكرهما الله.
وأيضا في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة، إذ يمكن
(16/115)
أن يقتسما العمل الضروري لحياتهما فيقل زمن اشتغالهما بالضروريات وتتوفر الأوقات لأداء الرسالة. وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ.
والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمه بشدة فرعون وطغيانه ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم، فعلم أن في دعوته فتنه للداعي فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة ليتوفر للتسبيح والذكر كثيرا.
وجملة {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده، أي لأنك تعلم حالي وحال أخي، وأني ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتاجان لذلك، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم، وأنه ما سأل سؤاله إلا بحسب ما بلغ إليه علمه.
وقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وعد له بالإجابة،وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه.
والسؤال بمعنى المسؤول. وهو وزن فعل بمعنى مفعول كالخبر بمعنى المخبوز، والأكل بمعنى المأكول. وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه، ولذلك لم يحك فيما بعد أنه أقام هارون بمجادلة فرعون. ووقع في التوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج: "فقال الرب لموسى أنت تتكلم بكل ما أمرك به وهارون أخوك يكلم فرعون".
[37-41] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}
جملة {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} معطوفة على جملة {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} لأن جملة {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} تتضمن منة عليه، فعطف عليها تذكير بمنة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنه لما كان بمحل العناية من ربه من أول أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعد سؤاله أحرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه. فهذا
(16/116)
طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيدا في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَىووجدك عائلا فأغنى} [الضحى:5-8].
وتأكيد الخبر بلام القسم و"قد" لتحقيق الخبر، لأن موسى عليه السلام قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [طه: 36].
والمرة: فعلة من المرور، غلبت على معنى الفعلة الواحدة من عمل معين يعرف بإضافة أو بدلالة المقام. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: من الآية13] في سورة براءة. وانتصاب {مَرَّةً} هنا على المفعولية المطلقة لفعل {مَنَنَّا} ، أي مرة من المن. ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنة.
و {إِذْ} ظرف للمنة.
والوحي، هنا: وحي الإلهام الصادق. وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجرم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى. وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.
و {مايوحى} موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها. ومفيد تأكيد كونه إلهاما من قبل الحق.
و {أَنِ} تفسير لفعل {أَوْحَيْنَا} لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى.
والقذف: أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت. تمثيلا لهيئة المخفي عمله. فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجرا ونحوه.
والتابوت: الصندوق. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: من الآية248] في سورة البقرة.
واليم: البحر، والمراد به نهر النيل.
والساحل: الشاطئ، ولام الأمر في قوله {فَلْيُلْقِه} دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليم لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو
(16/117)
الذي بقصده آل فرعون للسباحة.
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنه المقصود وهو حاضر في ذهن أمه الموحى إليها، وقذفه في التابوت وفي اليم وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشرا أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة. ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.
وجزم {يَأْخُذْهُ} في جواب الأمر على طريقة جزم قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] المتقدم آنفا.
والعدو: فرعون، فهو عدو الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية، وعدو موسى تقديرا في المستقبل، وهو عدوه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنه اعتزم على قتل أبنائهم.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}
عطف على جملة {أَوْحَيْنَا} أي حين أوحينا أي حين أو حينا إلى أمك ما كان به سلامتك من الموت، وحين ألقيت عليك محبة لتحصل السرقة لواجدة في اليم، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولدا كما جاء في الآية الأخرى {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص: من الآية9] ؛ لأن فرعون قد غلب على ظنه أنه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط.
وإلقاء المحبة مجاز في تعلق المحبة به، أي خلق المحبة في قلب المحب بدون سبب عادي حتى كأنه وضع باليد لا مقتضى له في العادة.
ووصف المحبة بأنها من الله للدلالة على أنها محبة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبة العرفية من الإلف والانتفاع، ألا ترى قول امرأة فرعون: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: من الآية9] مع قولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: من الآية9]. فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولدا.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي*إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}
جملة {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} عطف على جملة {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} الخ. جعل
(16/118)
الأمران إتماما لمنة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلا إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبلية. والتقدير: وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تصنع على عيني.
والصنع: مستعار للتربية والتنمية، تشبيها لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان.
وأخت موسى: مريم ابنة عمران. وفي التوراة: أنها كانت نبية كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج. وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد. وذلك سنة 1417 قبل المسيح.
وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل {تُصْنَعَ} ، وقرأه أبو جعفر بسكون اللام على أنها لام الأمر ويجزم الفعل على أنه أمر تكويني، أي وقلنا: لتصنع.
وقوله: {عَلَى عَيْنِي} "على" منه للاستيلاء المجازي، أي المصاحبة المتمكنة، ف(على)هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور:48].
والعين: مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} ، وقول النابغة:
عهدتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراسا علي وناظرا
ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته، وفصلت في سورة القصص.
والاستفهام في {هَلْ أَدُلُّكُمْ} للعرض. وأرادت ب {مَنْ يَكْفُلُهُ} أمه. فلذلك قال: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} .
وهذه منة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمه بنجاته فلم تفارق ابنها إلا ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها.
وعطف نفي الحزن على قرة العين لتوزيع المنة، لأن قرة عينها برجوعه إليها، وانتفاء حزنها بتحقيق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى. وتقديم
(16/119)
قرة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} . بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التوراة في سفر الخروج.
{وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
جملة {وَقَتَلْتَ} عطف على جملة {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} لأن المذكور في جملة {وَقَتَلْتَ نَفْساً} منة أخرى ثالثة.
وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنة، حيث افتتحت القصة بذكر جناية عظيمة التبعة، وهي قتل النفس ليكون لقوله: {فَنَجَّيْنَاكَ} موقع عظيم من المنة، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثله.
وهذه النفس هي نفس القبطي من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطي فقضى عليه كما قص ذلك في سورة القصص.
والغم: الحزن. والمعني به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه، لأن فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهين بينهم. ويظهر أن فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك.
والفتون: مصدر فتن، كالخروج، والثبور، والشكور، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو {فَتَنَّاكَ} وتنكيره للتعظيم، أي فتونا قويا عظيما.
والفتون كالفتنة: هو اضطراب حال المرء في مدة من حياته. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191]. ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر، فيكون في الشر وفي الخير. وأما الفتنة فلعلها خاصة باختبار المضر. ويظهر أن التنوين في {فُتُوناً} للتقليل، وتكون جملة {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} كالاستدراك على قوله: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} ، أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: من الآية18] فذلك الفتون.
(16/120)
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى {فأصبح في المدينة خائفا يترقب} إلى قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ*فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:20-21]
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يمهل دم القبطي الذي قتله موسى، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ، فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بالخوف والغربة عتابا له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 15 - 16]. وعباد الله الذين أراد بهم خيرا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كل حالة كمالا يكسبونه، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضية القبطي أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئة ضمير لتحمل المصاعب، ويتلقى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام. ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} ، فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركا بين محمود العاقبة وضده مثل الابتلاء في قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} [الأعراف: 168]، أي واختبرناك اختبارا. والاختبار: تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.
وأهل مدين: قوم شعيب، ومدين: اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في موطن تسمى الأيكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علما للمكان فمن ثم أضيف إليه أهل. وقد تقدم في سورة الأعراف.
ومعنى {جِئْتَ} حضرت لدينا. وهو حضوره بالواد المقدس لتلقي الوحي.
و "على" للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.
والقدر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدر بحيث لم يكن على سبيل
(16/121)
المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءمته خلل، قال النابغة:
فريع قلبي وكانت نظرة عرضت
يوما وتوفيق أقدار لأقدار
أي موافقة ما كنت أرغبه.
فقوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} يفيد أن ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدرا من الله تقديرا مناسبا متدرجا، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدرها الله وحددها تحيدا منظما لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير.
فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلمه الله منه.
وليس المراد القدر العام الذي قدره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يشعر بمزية لموسى عليه السلام. وقد انتبه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز:
أتى الخلافة إذ كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة، وذلك جملة {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الذي هو بمنزلة رد العجز على الصدر على قوله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} الآية، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ومن قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
والاصطناع: صنع الشيء باعتناء: واللام للأجل، أي لأجل نفسي. والكلام تمثيل لهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئا لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه.
[42] {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} .
رجوع إلى المقصد بعد المحاورة، فالجملة بيان لجملة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ، أو هي استئناف بياني لأن قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] يؤذن بأنه اختاره وأعده لأمر عظيم، لأن الحكيم لا يتخذ شيئا لنفسه إلا مريدا جعله مظهرا لحكمته، فيترقب لمخاطب تعيينها، وقد أمره هنا بالذهاب إلى فرعون وأن يذهب أخوه معه. ومعنى
(16/122)
ذلك أنه يبلغ أخاه أن الله أمره بمرافقته، لأن هارون لم يكن حاضرا حين كلم الله موسى في البقعة المباركة من الشجرة. ولأنه لم يكن الوقت وقت الشروع في الذهاب إلى فرعون، فتعين أن الأمر لطلب حصول الذهاب المستقبل عند الوصول إلى مصر بلد فرعون وعند لقائه أخاه هارون وإبلاغه أمر الله إياه، فقرينة عدم إرادة الفور هنا قائمة.
والباء للمصاحبة لقصد تطين موسى بأنه سيكون مصاحبا لآيات الله، أي الدلائل التي تدل على صدقة لدى فرعون.
ومعنى {وَلا تَنِيَا} لا تضعفا. يقال: ونى يني ونى، أي ضعف في العمل أي لا تن أنت وأبلغ هارون أن لا يني، فصيغة النهي مستعملة في حقيقتها ومجازها.
[43-44] {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون. فيقتضي أن هارون كان حاضرا لهذا الخطاب. وهو ظاهر قوله بعده {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} . وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض جاسان حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب طيبة. قال في التوراة وفي الإصحاح الرابع من سفر الخروج وقال أي الله هاهو هارون خارجا لاستقبالك فتكلمه أيضا. وفيه أيضا وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله أي جبل حوريب، فيكون قد طوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل حوريب في طريقه إلى أرض مصر، ويكون قوله {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ، جوابا عن قول الله تعالى لهما {اذْهَب إِلَى فِرْعَوْنَ} ، الخ. ويكون فصل جملة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ.. لوقوعها في أسلوب المحاورة.
ويجوز أن تكون جملة {اذْهَبا إِلَى فِرْعَوْنَ} بدلا من جملة {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} فيكون قوله {اذهبا} أمرا لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب. وهذا أنسب لسياق الجمل. وتكون جملة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وقد طوى ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ} الخ. والتقدير: فذهب موسى ولقي أخاه هارون، وأبلغه أمر الله له بما أمره، فقالا ربنا إننا نخاف الخ.
(16/123)
وجملة {إِنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر بأن يذهبان إليه. فعلم أنه لقصد كفه عن طغيانه.
وفعل {طغى} رسم في المصحف آخره ألفا ممالة، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنه من طغي مثل رضي. ويجوز فيه الواو فيقال: يطغوا مثل يدعوا.
والقول اللين: الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال، بأن يظهر المتكلم للمخاطب أن له من سداد الرأي ما يتقبل به الحق ويميز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله.
فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء اللين.
واللين، حقيقة من صفات الأجسام، وهو: رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليه، وضد اللين الخشونة. ويستعار اللين لسهولة المعاملة والصفح. وقال عمرو بن كلثوم:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: من الآية125] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: من الآية159]. ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى] فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: من الآية47]، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى. فإذا لم ينفع اللين مع المدعو وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: من الآية46]، وقال تعالى عن موسى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
والترجي المستفاد من "لعل"؛ إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي، وإما أن يكون إعلاما لموسى وفرعون بأن يرجوا ذلك، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء: فلعله يصادفك تيسير، وأنت لا تريد أنك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب. وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرة.
والتذكر: من الذكر بضم الذال أي النظر، أي لعله ينظر نظر المتبصر فيعرف الحق أو يخشى حلول العقاب به فيطيع عن خشية. لا عن تبصر. وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق. فالتذكير: أن يعرف أنه على الباطل، والخشية: أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى.
(16/124)
وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام.
[45-48] {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفا، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربهما {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} ، لأن غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل والآخذ في التهيؤ له، ولذلك أعيد أمرهما بقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ}
و {يَفْرُطَ} معناه يعجل ويسبق، ويقال: فرط يفرط من باب نصر. والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب. والمعنى: نخاف أن يعجل بعقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلغه ونحجه.
والطغيان: التظاهر بالتكبر. وتقدم آنفا عند قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ، أي نخاف أن يخامره كبره فيعد ذكرنا إلها دونه تنقيصا له وطعنا في دعواه الإلهية فيطغى، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة. فذكر الطغيان بعد الفرط إشارة إلى أنهما لا يطيقان ذلك، فهو انتقال من الأشد إلى الأضعف لأن {نَخَافُ} يؤول إلى معنى النفي. وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك.
وحذف متعلق {يَطْغَى} فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل. والتقدير: أو أن يطغي علينا. ويحتمل أن متعلقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلق آخر لكون التقسيم التقديري دليلا عليه، لأنها لما ذكر متعلق {يَفْرُطَ عَلَينَا} وكان الفرط شاملا لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بـ"أو" منظورا فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه، أي أن يطغي على الله بالتنقيص كقوله،: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: من الآية38] وقوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: من الآية38]، فحذف متعلق {يطغي} حينئذ لتنزيهه على التصريح به في هذا المقام، والتقدير: أو أن يطغي عليك فيتصلب في كفره ويعسر صرفه عنه. وفي التحرز من ذلك
(16/125)
غيرة على جانب الله تعالى، وفيه أيضا تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل، وتلك مفسدة في نظر الدين. وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة.
قال الله: {لا تَخَافَا} أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين. وهو نهى مكنى به عن نفسي وقوع المنهي عنه.
وجملة {إنني معكما} تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي، والمعية معية حفظ.
و {أَسْمَعُ وَأَرَى} حالان من ضمير المتكلم، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا داع عملا أو قولا تخافانه.
ونزل فعلا {أَسْمَعُ وَأَرَى} منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود: أني لا يخفي علي شيء. وفرغ عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون.
والإتيان: الوصول والحلول، أي فحلا عنده، لأن الإتيان اثر الذهاب المأمور به الخطاب السابق، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته، فلذا أمرا بإتيانه ودعوته.
وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجرى عليه في الإفراد وغيره.
وفعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة، كقولهم ناقة طروقة الفحل، وعدم المطابقة كقولهم: وحشية خلوج، أي اختلج ولدها. وجاء الوجهان في نحو {رسول} وهما وجهان مستويان. ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله.
وأدخل فاء التفريع على طلب إطلاق بني إسرائيل لأنه جعل طلب إطلاقهم كالمستقر المعلوم عند فرعون، إما لأنه سبقت إشاعة عزمها على الحضور عند فرعون لذلك المطلب، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرر. وتفريع ذلك على كونهما مرسلين من الله ظاهر، لأن المرسل من الله تجب طاعته.
وخصا الرب بالإضافة إلى ضمير فرعون قصدا لأقصى الدعوة،لأن كون الله ربهما
(16/126)
معلوم من قولهما: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} وكونه رب الناس معلوم بالأحرى لأن فرعون علمهم أنه هو الرب.
والتعذيب الذي سألاه الكف عنه هو ما كان فرعون يسخر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقة في الخدمة، لأنه كان يعد بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه.
وجملة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فيها بيان لجملة {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} فكانت الأولى إجمالا والثانية بيانا. وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلين من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق. وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها.
واقتصر على أنهما مصاحبان لآية إظهارا لكونهما مستعدين لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك، فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل، ولذلك حكي في سورة الأعراف قول فرعون: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [لأعراف:106] وهذه الآية هي انقلاب العصا حية، وقد تبعها آيات أخرى.
والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدل على أن موسى أرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمة مستقلة، بأن يبث فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير النكر الذي هو بين ظهرانيه.
وأيضا لأن ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل. وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى.
والسلام: السلامة والإكرام. وليس المراد به هنا التحية، إذ ليس شم معين يقصد التحية. ولا يراد تحية فرعون لأنهما إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل وغيره: "أسلم تسلم" .
و"على" للتمكن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب. وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، فقوله: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام.
وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ
(16/127)
الرسالة على أتم وجه قبل ظهور لرأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيه بتصريح توجيه الإنذار إليه.وهذا أسلوب القول اللين الذي أمرهما الله به.
وتعريف {الْعَذَابَ} تعريف الجنس، فالمعرف بمنزلة النكرة، كأنه قيل: إن عذابا على من كذب.
وإطلاق السلام والعذاب دون تقيد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشرة والنذارة، قال تعالى في سورة النازعات {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:25-26]
وهذا كله كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون، كما يدل لذلك تعقيبه بقوله تعالى {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} على أسلوب حكاية المحاورات. وما ذكر من أول القصة إلى هنالم يتقدم في السور الماضية.
[49-50] {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون، ففي الآية حذف جمل دل عليها السياق قصدا للإيجاز. والتقدير: فأتياه فقالا له ما أمرا به، فقال:فمن ربكما?.
ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصول على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبيناها في سورة البقرة وغيرها.
ووجه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثم خص موسى بالإقبال عليه بالنداء، لعلمه بأن موسى هو الأصل بالرسالة وأن هارون تابع له، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعين أن يكون فرعون علمه من كيفية دخولهما عليه ومخاطبته، ولأن موسى كان معروفا في بلاط فرعون لأنه ربيه أو ربي أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دل عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]. ولعل موسى هو الذي تولى الكلام وهارون بصدقه بالقول أو بالإشارة.
وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنهما قالا له: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47].
(16/128)
وأعرض عن أن يقول: فمن ربي? إلى قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} إعراضا عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربه، أو أنه اعترف بأن له ربا. وتولى موسى الجواب لأنه خص بالسؤال بسبب النداء له دون غيره.
وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جريا على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم {كُلَّ شَيْءٍ} .
و{كُلَّ شَيْءٍ} مفعول أول ل {أَعْطَى}. و {خَلْقَهُ} مفعوله الثاني.
والخلق: مصدر بمعنى الإيجاد وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أن الخلق والتكوين نعمة، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معا.
ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخص، وهو الخلق على شكل مخصوص، فهو بمعنى الجعل، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختص به، فكونت بذلك الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق.
ويجوز أن يكون {كُلَّ شَيْءٍ} مفعولا ثانيا ل {أَعْطَى} ومفعوله الأول {خَلْقَهُ} ، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه، كقوله {فأخرجنا به نبات كل شيء} . فتركيب الجملة صالح للمعنيين.
والاستغراق المستفاد من "كل" عرفي، أي كل شي من شأنه أن يعطاه أصناف الخلق ويناسب المعطي، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق، مثل: ركب القوم دوابهم.
والمعنى: تأمل وانظر هل أنت أعطيت الخلق أو لا، فلا شك أنه يعلم أنه ما أعطى كل شيء خلقه، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنعم على الموجودات كلها، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصلة إلى الاعتقاد الحق.
و {ثُمَّ} للترتيب بمعنييه الزمني والرتبي، أي خلق الأشياء ثم هدى إلى ما خلقهم لأجله، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم، وأفاض عليهم النعم، على حد قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8-10] أي طريقي الخير والشر، أي فرقنا بينهما بالدلائل الواضحة.
(16/129)
قال الزمخشري في الكشاف : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقي الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.
[51-52] {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}
والبال: كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهم، ومصدره البالة بتخفيف اللام، قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: من الآية2]، أي حالهم. وفي الحديث "كل أمر ذي بال.." الخ، وتطلق على الرأي يقال: خطر كذا ببالي. ويقولون: ما ألقى له بالا، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغية.
أراد فرعون أن يحاج موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنهم اتفقوا على ضلالة. وهذه شنشنة من لا يجد حجة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: من الآية78]
ويجوز أن يكون المعنى أن فرعون أراد التشغيب على موسى حين نهضت حجته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى: هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]، فإذا قال: إنهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال: هم في سلام، نهضت حجة فرعون لأنه متابع لدينهم. ولأن موسى لما أعلمه بربه وكان ذلك مشعرا بالخلق الأول خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء، فسأل: ما بال القرون الأولى? وما شأنهم وما الخبر عنهم? وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
وقول موسى في جوابه {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} صالح للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذراري المشركين فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين" .
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.
(16/130)
والحاصل أن موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.
وإضافة {عِلْمُهَا} من إضافة المصدر إلى مفعوله. وضمير {عِلْمُهَا} عائد إلى {الْقُرُونِ الْأُولَى} لأن لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.
وقوله {فِي كِتَابٍ} يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأن الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ويؤكد هذا المعنى قوله {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} .
والضلال: الخطأ في العلم، شبه بخطأ الطريق. والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.
[53-54] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى}
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنن لأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} فقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا، والضمير عائد إلى الرب المفهوم من {ربي} [طه: 25]، أي هو رب موسى.
وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنه تذكير بالنعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية.
(16/131)
وقرأ الجمهور {مِهادا} بكسر الميم وهو اسم بمعنى الممهود مثل الفراش واللباس. ويجوز أن يكون جمع مهد، وهو اسم لما يمهد للصبي، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كعاب جمعا لكعب. ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {مَهْداً} بفتح الميم وسكون الهاء، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مهده، على أن المصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، ثم شاع ذلك فصار اسما لما يمهد.
ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهوه مسهلة للسير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نتوء فيها ألا نادرا يمكن تجنبه، كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:19-20]
{وسَلَكَ} فعل مشتق من السلوك والسلك الذي هو الدخول مجتازا وقاطعا في السير في الطريق تشبيها للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر. يقال: سلك طريقا. فحق هذا الفعل أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعديا بمعنى أسلك. وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال: أسلك المسمار في اللوح، أي جعله سالكا إياه، إلا أنه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى {نسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 17]. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولا ثانيا يصير مجرورا بـ"في" كقوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] بمعنى أسلككم سقر. وقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الشعراء [200]. وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: من الآية21] في سورة الزمر. وقال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجار، فصار فعل سلك يستعمل قاصرا ومتعديا.
فأما قوله هنا: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} فهو سلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلا، أي جعل سبلا سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة. وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.
والمراد بالسبل: كل سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل الناس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقا يتابع الناس السير فيها.
(16/132)
ولما ذكر منة خلق الأرض شفعها بمنة إخراج النبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء. وتلك منة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير، ولذا لم يقل: وصببنا الماء على الأرض، كما في آية {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّا} [عبس:25-26]. وهذا إدماج بليغ.
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: {فَأَخْرَجْنَا} التفات. وحسنه هنا أنه بعد أن حج المشركين بحجة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يخرج النبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثرا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية99]، وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: من الآية27]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} ، ومنها قوله في سورة الزخرف: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [الزخرف: من الآية11] وقد نبه إلى ذلك في الكشاف ، ولله دره. ونظائره كثيرة في القرآن.
والأزواج: جمع زوج. وحقيقة الزوج أنه اسم لكل فرد من اثنين من صنف واحد. فكل أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجا. ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان، قال تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: من الآية27، وقال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:39] وقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} . ولما شاعت فيه ملاحظة معنى اتحاد النوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيا لآخر، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يّس:36]، ومنه قوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: من الآية10]. وفي الحديث "من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة..." الحديث، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة، ومثل الخيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا. أي فأنبتنا به أنواعا من نبات. وتقدم في سورة الرعد.
(16/133)
والنبات: مصدر سمي به النابت، فلكونه مصدرا في الأصل استوى فيه الواحد والجمع.
وشتى: جمع شتيت بوزن فعلى، مثل: مريض ومرضي.
والشتيت: المشتت، أي المبعد. وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.
والجملة الثانية {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} مقول قول محذوف هو حال من ضمير {فَأَخْرَجْنَا} ، والتقدير: قائلين: كلوا وارعوا أنعامكم. والأمر للإباحة مراد به المنة. والتقدير: كلوا منها وارعوا أنعامكم منها. وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع.
وفعل "رعى" يستعمل قاصرا ومتعديا. يقال: رعت الدابة ورعاها صاحبها. وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر: الرعي، ومصدر المتعدي: الرعاية. ومنه قول النابغة:
رأيتك ترعاني بعين بصيرة
والجملة الثالثة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفا من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنة بها على الإنسان لمن تأمل، جمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة. وكل من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين، لأنهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النهي، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلا لأنهم لم يعدوها آيات. لا جرم أن ذلك المذكور مشتمل على آيات جمة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمل والتفكر، وينتبهون لها بالتذكير.
والنهى: اسم جمع نهية بضم النون وسكون الهاء، أي العقل، سمي نهية لأنه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة، ولذلك أيضا سمي بالعقل وسمي بالحجر.
[55] {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
(16/134)
مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلا على إمكان الخلق الثاني بعد الموت. والمناسبة متمكنة؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للناس من أحوالها، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيها بخروج النبات منها. وإخراج الناس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18].
وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني. وأما تقديم {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} فللمزاوجة مع نظيريه.
ودل قوله تعالى: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعية لمواراة الموتى سواء كان شقا في الأرض أو لحدا، لأن كليهما إعادة في الأرض؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنار، أو إغراقهم في الماء، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض، فذلك مخالف لسنة الله وفطرته، لأن الفطرة اقتضت أن الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها. وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتل أحد ابني آدم أخاه. كما قال تعالى في سورة العقود: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: من الآية31] فجاءت الشرائع الإلهية بوجوب الدفن في الأرض.
والتارة: المرة، وجمعها تارات. وأصل ألفها الواو. وقال ابن الأعرابي: أصل ألفها همزة فلما كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة. وقال بعضهم: ظهر الهمز في جمعها على فعل فقالوا: تئر بالهمز. ويظهر أنها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه.
والإخراج: هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض، كما هو ظاهر قوله {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} ، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض. وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرة الأولى، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: من الآية104]
[56] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}
رجوع إلى قصص موسى عليه السلام مع فرعون. وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سوق ما جرى بين موسى
(16/135)
وفرعون من المحاورة. فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} باعتبار ما يقدر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصارا، تقديره: فأتياه فقالا ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربكما الخ. المعنى: فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى عليه السلام.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها، والواو اعتراضية.
وتأكيد الكلام بلام القسم و "قد" مستعمل في التعجيب من تصلب فرعون في عناده، وقصد منها بيان شدته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تجد في إيمانه.
وأجملت وعممت فلم تفصل، لأن المقصود هنا بيان شدة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها.
وإراءة الله إياه الآيات: إظهارها له بحيث شاهدها.
وإضافة "آيات" إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفا لآيات معهودة، فإن تعريف الجمع بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللام يمون للعهد ويكون للاستغراق، والمقصود هنا الأول، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: من الآية12] وهي انقلاب العصا حية، وتبدل لون اليد بيضاء، وسنو القحط، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطوفان، وانفلاق البحر. وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعا للظفر ببني إسرائيل.
وتأكيد الآيات بأداة التوكيد {كلها} لزيادة التعجيب من عناده ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} في سورة القمر [القمر:41-42].
وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} عطفا على جملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ، وجملة {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} بيانا لجملة {فَكَذَّبَ وَأَبَى} فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخرا عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى {آيَاتِنَا كُلَّهَا} وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيرا من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل: سني القحط، والدم، وانفلاق البحر. وهذا الحمل لا داعي إليه لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا.
(16/136)
[57-59] {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}
هذه الجملة متصلة بجملة {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} وجواب موسى عنها. وافتتاحها بفعل {قال} وعدم عطفه لا يترك شكا في أن هذا من تمام المحاورة.
وقوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حية، وانقلاب يده بيضاء. وذلك ما سماه فرعون سحرا. وقد صرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما قال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ...} الآية في سورة الشعراء [29-35]. وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حية.
وإضافته السحر إلى ضمير موسى قصد منها تحقير شأن هذا الذي سماه سحرا.
وأسند الإتيان بسحر مثله إلى ضمير نفسه تعظيما لشأنه. ومعنى إتيانه بالسحر: إحضار السحرة بين يديه، أي فلنأتينك بسحر ممن شأنهم أن يأتوا بالسحر، إذ السحر لا بد له من ساحر.
والمماثلة في قوله: {مِثْلِهِ} مماثلة في جنس السحر لا في قوته.
وإنما جعل فرعون العلة في مجيء موسى إليه: أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياسا منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولهم محلهم، يعني أن موسى عرته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه، أي حسبت أن إظهار الخوارق يطوع لك الأمة فيجعلونك ملكا عليهم وتخرجني من أرضي. فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة، لأن موسى لم يصدر عنه ما يشم منه إخراجهم من أرضهم.
ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملا في الجماعة تغليبا، ونزل فرعون
(16/137)
نفسه واحدا منها. وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [طه: 47]، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمة بما تظهر لهم من سحرك.
والاستفهام في {أَجِئْتَنَا} إنكاري، ولذلك فرع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله. والقسم من أساليب إظهار الغضب.
واللام لام القسم، والنون لتوكيده. وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق، لعل ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر.
وفرع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره.
والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد، وهذا إيجاز في الكلام.
وقوله: {مَكَاناً} بدل اشتمال من {مَوْعِداً} بأحد معنييه، لأن الفعل يقتضي مكانا وزمانا فأبدل منه مكانه.
وقوله: {لا نُخْلِفُهُ} في قراءة الجمهور برفع الفعل صفة ل {مَوْعِداً} باعتبار معناه المصدري. وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من {نخلفه} على أن "لا" ناهية. والنهي تحذير من إخلافه.
و {سوَىً} قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأه عاصم، وحمزة، وابن عامر، ويعقوب، وخلف بضم السين وهما لغتان. فالكسر بوزن فعل، قال أبو علي: وزن فعل يقل في الصفات، نحو: قوم عدى. وقال أبو عبيده، وأبو حاتم، والنحاس: كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء: فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين. وأنشد أبو عبيده لموسى بن جابر الحنفي:
وإن أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
"الفزر: لقب لسعد بن زيد مناة بن تميم هو بكسر الفاء".
(16/138)
والمعنى: قال مجاهد: إنه مكان نصف، وكأن المراد أنه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة. وعن ابن زيد: المعنى مكانا مستويا، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين، أراد مكانا منكشفا للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة.
ثم تعيين الموعد غير المخلف يقتضي زمانه لا محالة، إذ لا يتصور الإخلاف إلا إذا كان الوعد وقت معين ومكان معين، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}
فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكانا معروفا. ولعله كان بساحة قصر فرعون، لأنهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم.
فقوله: {يَوْمُ الزِّينَةِ} تعيين للوقت، وقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ} تعيين للمكان، وقوله: {ضُحىً} تقييد لمطلق الوقت.
والضحى: وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها.
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط، وهو يوم كسر الخليج أو الخلجان، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للشقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها.
وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطية، وذلك هو أول يوم من شهر "توت" القبطي. وهو "أيلول" بحسب التاريخ الاسكندري، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوما، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوما، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين "سبتمبر". وأول أيام شهر "توت" هو يوم النيروز عند الفرس، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس.
واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلج له، فأحب أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهدا وأوضح رؤية.
[60-60] {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}
(16/139)
تفريع التولي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يضع الوقت للتهيئة له.
والتولي: الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقة، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى*فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23]
ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء.
وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفت في عضده ويشوش رأيه حتى يذهب منه تدبيره.
فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي، واستقصاء ترتيب الأمر، كقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38]
والكيد: إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف [183].
ومعنى {ثُمَّ أَتَى} ثم حضر الموعد، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معا، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهم من جمع الكيد، لأن فيه ظهور أثر ما أعده.
وجملة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {ثُمَّ أَتَى} يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول: فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد. وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.
وضمير {لَهُمْ} عائد إلى معلوم من قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأن ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دل عليه قوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي جمع رجال كيده.
(16/140)
والخطاب بقوله: {وَيْلَكُمْ} يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون: إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجها به فرعون بل واجه به السحرة خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} ، أي قال موسى لأهل كيد فرعون؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر، أغلظ القول زجرا له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييدا لمطلق الأمر بإلانة القول، كما أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآيات في سورة الحج [39]؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أن سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربهم الأعلى وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] رأى واجبا عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة.
ويجوز أن تكون كلمة {وَيْلَكُمْ} مستعملة في التعجب من حال غريبة، أي أعجب منكم وأحذركم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: " ويل أمه مسعر حرب" فحكي تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد.
والويل: اسم للعذاب والشر، وليس له فعل.
وانتصب {وَيْلَكُمْ} إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء، أي الزموا ويلكم، أو احذروا ويلكم؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون: يا ويلنا، ويا ويلتنا، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
والافتراء: اختلاق الكذب. والجمع بينه وبين {كَذِباً} للتأكيد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة [103].
والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيلونه للناس من الشعوذة، ويقولون لهم: انظروا كيف تحرك الحبل فصار ثعبانا، ونحو ذلك من توجيه التخيلات بتمويه أنها حقائق، أو قولهم: ما نفعله تأييد من الله لنا، أو قولهم: إن موسى كاذب وساحر، أو قولهم: إن فرعون إلههم، أو آلهة فرعون آلهة. وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتا.
قرأ الجمهور {فيُسْحِتَكُمْ} بفتح الياء مضارع سحته: إذا استأصله، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف، ورويس عن يعقوب بضم الياء التحتية من أسحته، وهي لغة نجد وبني تميم، وكلتا اللغتين فصحى.
(16/141)
وجملة {قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} في موضع الحال من ضمير {لا تَفْتَرُوا} وهي مسوقة مساق التعليل للنهي، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبل. بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلا بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتروا لأجله.
و {من} الموصولة للعموم.
وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني.
وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله، ومن كان يعلم ذلك لا يقدم عليه.
[62-64] {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}
أي تفرع على موعظة موسى تنازعهم الأمر بينهم، وهذا يؤذن بأن منهم من تركت فيه الموعظة بعض الأثر، ومنهم من خشي الانخذال، فلذلك دعا بعضهم بعضا للتشاور فيما ذا يصنعون.
والتنازع: تفاعل من النزع، وهو الجذب من البئر، وجذب الثوب من الجسد، وهو مستعمل تمثيلا في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب. فالتنازع: التخالف.
والنجوى: الحديث السري، أي اختلوا وتحادثوا سرا ليصدروا عن رأي لا يطلع عليه غيرهم، فجعل النجوى معمولا لـ {أَسَرُّوا} يفيد المبالغة في الكتمان، كأنه قيل: أسروا سرهم، كما يقال: شعر شاعر.
وزاده مبالغة قوله: {بينهم} المقتضي أن النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم.
وجملة {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بدل اشتمال من جملة {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذكر منها هذا القول، لأنه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن
(16/142)
يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.
وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى: قال بعضهم: هذان لساحران، فقال جميعهم: نعم هذان لساحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها وقال بعضهم لبعض: نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقر عليه رأيهم، وهو تحققهم أن موسى وأخاه ساحران.
واعلم أن جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله: "هاذان" ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر. وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ هذان أكثر تواترا بقطع النظر عن كيفية النطق بكلمة "إن" مشددة أو مخففة، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون "إن" ما عدا ابن كثير وحفصا عن عاصم فهما قرءا "إن" بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة.
وإن المصحف الإمام ما رسموه إلا اتباعا لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقراء أصحابه، فإن حفظ القرآن في صدور القراء أقدم من كتابته في المصاحف، وما كتب في أصول المصاحف إلا من حفظ الكاتبين، وما كتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي.
فأما قراءة الجمهور {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد نون "إن" وبالألف في {هَذَانِ} وكذلك في {لَسَاحِرَانِ} فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستة. وأظهرها أن تكون {إن} حرف جواب مثل: نعم وأجل، وهو استعمال من استعمالات "إن" أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيات:
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه
أي أجل أو نعم، والهاء في البيت هاء السكت، وقول عبد الله بن الزبير لأعرابي استجداه فلم يعطه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك. قال ابن الزبير: أن وراكبيها. وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في تفسيره . وقال: عرضته على عالمينا وشيخينا وأستاذينا محمد بن يزيد يعني المبرد، وإسماعيل بن إسحاق بن حماد يعني القاضي الشهير فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا.
وقلت: لقد صدقا وحققا. وما أورده ابن جني عليه من الرد فيه نظر.
(16/143)
وفي التفسير الوجيز للواحدي سأل إسماعيل القاضي "هو ابن إسحاق بن حماد" ابن كيسان عن هذه المسألة، فقال ابن كيسان: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع "أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان" جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغير. فقال له إسماعيل: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به? فقال له ابن كيسان: فليقل به القاضي حتى يؤنس به، فتبسم.
وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} حكاية لمقال فريق من المتنازعين، وهو الفريق الذي قبل هذا الرأي لأن حرف الجواب يقتضي كلاما سبقه.
ودخلت اللام على الخبر: إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير، ووجود اللام ينبئ بأن الجملة التي وقعت خبرا عن اسم الإشارة جملة قسمية؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة.
ووجهت هذه القراءة أيضا بجعل "إن" حرف توكيد وإعراب اسمها المثنى جرى على لغة كنانة وبالحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألف في أحوال الإعراب كلها، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمس:
فأطرق إطراق الشجاع ولو درى ... مساغا لنأباه الشجاع لصمما
وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون "إن" مسكنة على أنها مخففة "إن" المشددة. ووجه ذلك أن يكون اسم "إن" المخففة ضمير شأن محذوفا على المشهور. وتكون اللام في {لَسَاحِرَانِ} اللام الفارقة بين "إن" المخففة وبين "إن" النافية.
وقرأ ابن كثير بسكون نون "إن" على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في "هذان" وبتشديد نون {هاذان}.
وأما قراءة أبي عمرو وحده {إن هذين} بتشديد نون "إن" وبإلياء بعد ذال "هذين". فقال القرطبي: هي مخالفة للمصحف. وأقول: ذلك لا يطعن فيها لأنها رواية صحيحة ووافقت وجها مقبولا في العربية.
ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود. قلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة "إن هاذان" خطأ من كاتب المصحف، وروايتهم ذلك عن أبان بن عثمان بن عفان
(16/144)
عن أبيه، وعن عروة بن الزبير عن عائشة، وليس في ذلك سند صحيح. حسبوا أن المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفل، فإن المصحف ما كتب إلا بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيفا وعشرين سنة في أقطار الإسلام، وما كتبت المصاحف إلا من حفظ الحفاظ، وما أخذ المسلمون القرآن إلا من أفواه حفاظه قبل أن تكتب المصاحف، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخط لما تبعه القراء، ولكان بمنزلة ما ترك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة، والزكاة، والحياة، والربا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلا بألفاتها.
وتأكيد السحرة كون موسى وهارون ساحرين بحرف "إن" لتحقيق ذلك عند من يخامره الشك في صحة دعوتهما.
وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحرا لأنهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة التي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لقومها: جئتكم من عند أسحر الناس، وهو في كتاب المغازي من صحيح البخاري .
والقائلون: قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.
والخطاب في قوله: {أَنْ يُخْرِجَاكُمْ} لملئهم. ووجه اتهامه بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه: 57]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريدان الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.
والطريقة: السنة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، لجامع الملازمة.
والمثلى: مؤنث الأمثل. وهو اسم تفصيل مشتق من المثالة، وهي حسن الحالة يقال: فلان أمثل قومه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالا.
وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكل أمة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
والباء في {بطريقتكم} لتعدية فعل {يذهبا} . والمعنى: يذهبانها، وهو أبلغ في تعلق
(16/145)
الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدم عند قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] في أول سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {فأجمعوا} بهمزة قطع وكسر الميم أمرا من: أجمع أمره، إذا جعله متفقا عليه لا يختلف فيه.
وقرأ أبو عمرو {فاجمعوا} بهمزة وصل وبفتح الميم أمرا من جمع، كقوله فيما مضى {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60]. أطلق الجمع على التعاضد والتعاون، تشبيها للشيء المختلف بالمتفرق، وهو مقابل قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ} .
وسموا عملهم كيدا لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب، فهم يأتون بمثله أو أشد منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به.
والظاهر أن عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى، وما أظهره الله على يديه من المعجزة، وأصبحوا متحيرين في شأنه، فمن أجل ذلك اهتم السحرة بالكيد له، وهو ما حكاه قوله تعالى في آية سورة الشعراء {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:38-40]
ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيب لهم.
ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيرون لذلك بهاء الهيئة وحسن السمت وجلال المظهر. فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود، وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب. وقد فسر به فعل تنمروا في قول ابن معد يكرب:
قوم إذا لبسوا الحديد ... تنمروا حلقا وقدا
وقيل: إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر. وثبت في التاريخ المستند للآثار أن كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور.
والصف: مصدر معنى الفاعل أو المفعول، أي صافين أو مصفوفين، إذا ترتبوا واحدا حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظرا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]. وكان جميع سحرة البلاد المصرية قد أحضروا بأمر فرعون
(16/146)
فكانوا عددا كثيرا. فالصف هنا مراد به الجنس لا الوحدة، أي ثم ائتوا صفوفا، فهو كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} [النبأ: من الآية38] وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22]
وانتصب {صفا} على الحال من فاعل {ائتوا} . والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم، لأن النتاجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .
وجملة {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع. فـ {استعلى} مبالغة في علا، أي علا صاحبه وقهره. فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر.
وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنهم لم يكونوا يؤمنون بأن أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبدية وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية.
[65-66] {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}
تقدمت هذه القصة ومعانيها في سورة الأعراف سوى أن الأولية هنا مصرح بها في أحد الشقين. فكانت صريحة في أن التخيير يتسلط على الأولية في الإلقاء، وسوى أنه صرح هنا بأن السحر الذي ألقوه كان بتخييل أن حبالهم وعصيهم ثعابين تسعى لأنها لا يشبهها في شكلها من أنواع الحيوان سوى الحيات والثعابين.
والمفاجأة المستفادة من {إذا} دلت على أنهم أعدوها للإلقاء وكانوا يخشون أن يمر زمان تزول به خاصياتها فلذلك أسرعوا بإلقائها.
وقرأ الجمهور {يخيل} بتحتية في أول الفعل على أن فاعله المصدر من قوله: {أَنَّهَا تَسْعَى} . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وروح عن يعقوب "تخيل" بفوقية في أوله على أن الفعل رافع لضمير {حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ، أي هي تخيل إليه.
و {أَنَّهَا تَسْعَى} بدل من الضمير المستتر بذل اشتمال.
وهذا التخييل الذي وجده موسى من سحر السحرة هو أثر عقاقير يشربونها تلك الحبال والعصي، وتكون الحبال من صنف خاص، والعصي من أعواد خاصة فيها فاعلية
(16/147)
لتلك العقاقير، فإذا لاقت شعاع الشمس اضطربت تلك العقاقير فتحركت الحبال والعصي. قيل: وضعوا فيها طلاء الزئبق. وليس التخييل لموسى من تأثير السحر في نفسه لأن نفس الرسول لا تتأثر بالأوهام، ويجوز أن تتأثر بالمؤثرات التي يتأثر منها الجسد كالمرض، ولذلك وجب تأويل ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار الآحاد لا تنقض القواطع. وليس هذا محل ذكره وقد حققته في كتابي المسمى النظر الفسيح على صحيح البخاري.
و {من} في قوله: {مِنْ سِحْرِهِمْ} للسببية كما في قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25].
[67-69] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}
أوجس: أضمر واستشعر. وانتصاب {خِيفَةً} على المفعولية، أي وجد في نفسه. وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: من الآية70] في سورة هود.
و { خِيفَةً} اسم هيئة من الخوف، أريد به مطلق المصدر. وأصله خوفة، فقلبت الواو ياء لوقوعها أثر كسرة.
وزيادة {فِي نَفْسِهِ} هنا للإشارة إلى أنها خيفة تفكر لم يظهر أثرها على ملامحه. وإنما خاف موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعبانا، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدة فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومده لما تكون له العاقبة فخشي ذلك. وهذا مقام الخوف، وهو مقام جليل مثله مقام النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إذ قال: "اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض" .
والدليل على هذا قوله تعالى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} . فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقوية تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في {الأعلى} دليل على أن ما خامره من الخوف إنما هو خوف ظهور السحرة عند العامة ولو في وقت ما. وهو وإن كان موقنا بأن الله ينجز له ما أرسله لأجله لكنه لا مانع من أن يستدرج الله الكفرة مدة قليلة لإظهار ثبات إيمان المؤمنين، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196، 197]
(16/148)
وعبر عن العصا بـ {ما} الموصولة تذكيرا له بيوم التكليم إذ قال له {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ، ولذلك لم يقل له: وألق عصاك.
والتلقف: الابتلاع. وقرأه الجمهور بجزم {تلقف} في جواب قوله: {وألق} . وقرأه ابن ذكوان برفع {تلقف} على الاستئناف.
وقرأ الجمهور {تلقف} بفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأه حفص بسكون اللام وفتح القاف من لقف كفرح.
وجملة {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} مستأنفة ابتدائية، وهي مركبة من "إن" و "ما" الموصولة. و {كَيْدُ سَاحِرٍ} خبر "إن". والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه. وكتب "إنما" في المصحف موصولة "إن" بـ"ما" الموصولة كما توصل بـ"ما" الكافة في نحو {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173] ولم يكن المتقدمون يتوخون الفروق في رسم الخط.
وقرأ الجمهور {كَيْدُ سَاحِرٍ} بألف بعد السين. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {كَيْدُ سَاحِرٍ} بكسر السين.
وجملة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} من تمام الجملة التي قبلها، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير {إِنَّمَا صَنَعُوا} ، أي لا ينجح الساحر حيث كان، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثر بها. وتعريف {السَّاحِرُ} تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف، أي لا يفلح بها كل ساحر.
واختير فعل {أَتَى} دون نحو: حيث كان، أو حيث حل، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة.
وتعميم {حَيْثُ أَتَى} لعموم الأمكنة التي يحضرها، أي بسحره.
وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها. وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، لأن عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها.
[70-71] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ
(16/149)
أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}
الفاء عاطفة على محذوف يدل عليه قوله: {وَأَلقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69]. والتقدير: فألقي فتلقفت ما صنعوا، كقوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63].
والإلقاء: الطرح على الأرض. وأسند الفعل إلى المجهول لأنهم لا ملقي لهم إلا أنفسهم، فكأنه قيل: فألقوا أنفسهم سجدا، فإن سجودهم كان إعلانا باعترافهم أن موسى مرسل من الله. ويجوز أن يكون سجودهم تعظيما لله تعالى.
ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيما له.
ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون، جعلوه مقدمة لقولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} حذرا من بطشه.
وسجد: جمع ساجد.
وجملة: {قالوا} يصح أن تكون في موضع الحال، أي ألقوا قائلين. ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.
وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنهم أئمة السحر فعلموا أنه آية من عند الله.
وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أربابا يعبدونها ويعبدها فرعون.
وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف [121، 122]: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره، لأن الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه رب هذين الرجلين؛ فحكي كلامهم بما يدل على ذلك؛ إلا ترى أنه حكي في سورة الأعراف [121] قول السحرة: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولم يحك ذلك هنا، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.
(16/150)
ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي، إذ وقع في الآية الأخرى {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ*رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [لأعراف:122] ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة، فيكون صدر منهم قولان، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتبارا بكبر سنه، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتبارا بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.
ويقال: آمن له، أي حصل عنده الإيمان لأجله. كمه يقال: آمن به، أي حصل الإيمان عنده بسببه، وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأن آمنه بمعنى صدقه. ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق ألا بأحد هذين الحرفين.
وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق، وأبن عامر، وأبو عمرو، وأبوجعفر، وروح عن يعقوب {آمنتم} بهمزة واحدة بعدها مدة وهي المدة الناشئة عن تسهيل الهمز الأصلية في فعل آمن، على أن الكلام استفهام.
وقرأه ورش عن طريق الأصفهاني، وابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب بهمزة واحدة على أن الكلام خبر، فهو خبر مستعمل في التوبيخ.
وقرأه حمزة، والكساءي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بهمزتين على الاستفهام أيضا.
ولما رأى فرعون إيمان السحرة تغيظ ورام عقابهم ولكنه علم أن العقاب على الأيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفي من الذين آمنوا علة إعلانهم الإيمان قبل استئذان فرعون، فعد ذلك جرأة عليه، وأوهم أنهم لو استأذنوه لأذن لهم، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤا مع موسى من قبل فأظهروا العجز عند مناظرته. ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأن موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالا للشك على نفوس الذين شاهدوا الآيات. وهذه شنشنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر. ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
وضمير {له} عائد إلى موسى مثل ضمير {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} .
(16/151)
ومعنى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لكم} قبل أن أسوغ لكم أن تؤمنوا به.يقال: أذن له، إذ أباح له شيئا.
والتقطيع: شدة القطع. ومرجع المبالغة إلى الكيفية، وهي ما وصفه بقوله: {مِنْ خِلاَفٍ} أي مختلفة، بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين، أي تقطع اليد ثم الرجل من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى. والظاهر: أن القطع على هذه الكيفية كان شعارا لقطع المجرمين، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعا.
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جراء قطع يد ثم رجل من جهة واحدة، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.
و"من" في قوله: {مِنْ خِلاَفٍ} للابتداء، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع. والمجرور في موضع الحال، وقد تقدم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.
والتصليب: مبالغة في الصلب. والصلب: ربط الجسم على عود منتصب أو دقه عليه بمسامير، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء157] في سورة النساء. والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضا بشدة الدق على الأعواد.
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيها لشدة تمكن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.
والجذوع: جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. وتعدية فعل {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} بحرف "في" مع أن الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف "في" استعارة تبعية تابعة لاستعارة متعلق معنى "في" لمتعلق معنى "على".
وأينا: استفهام عن مشتركين في شدة التعذيب. وفعل {لتعلمن} معلق عن العمل الاستفهام في آخره. وأراد بالمشتركين نفسه ورب موسى سبحانه لأنه علم من قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [الشعراء: 47] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم
(16/152)
موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: من الآية61]، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حذرتموه. وهذا من عروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} بقولهم {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: من الآية73]، أي خير منك وأبقى عملا من عملك، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.
[72-73] {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرفت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل صدق.
والإيثار: التفضيل. وتقدم في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: من الآية91] في سورة يوسف. والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البينات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبينات، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البينات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى، وبذلك يلتئم عطف {وَالَّذِي فَطَرَنَا} ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التعليل، لأن الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر {الَّذِي فَطَرَنَا} عن {مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} لأن البينات دليل على أن الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله، ولأن فيه تعريضا بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} مستعملة في التسوية، لأن {ما أنت قاض} ما صدقه ما توعدهم له من تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كله أو عدم وقوعه، فلا نطلب منك خلاصا منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز فإن عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.
(16/153)
وانتصب {هَذِهِ الْحَيَاةِ} على النيابة عن المفعول فيه، لأن المراد بالحياة مدتها.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي أنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، فهو قصر حقيقي.
وجملة {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا} في محل العلة لما تضمنه كلامهم.
ومعنى {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أنه اكرههم على تحديهم موسى بسحرهم فعلموا أن فعلهم باطل وخطيئة لأنه استعمل لإبطال إلهية الله، فبذلك كان مستوجبا طلب المغفرة.
وجملة {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} في موضع الحال، أو معترضة في آخر الكلام للتذييل. والمعنى: أن الله خير لنا بأن نؤثره منك. والمراد: رضى الله، وهو أبقى منك، أي جزاؤه في الخير والشر أبقى من جزائك فلا يهولنا قولك: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} ، فذلك مقابلة لوعيده مقابلة تامة.
[74-76] {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}
هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصة خروج بني إسرائيل، ساقها الله موعظة وتأييدا لمقالة المؤمنين من قوم فرعون. وقيل: هي من كلام أولئك المؤمنين. ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصة.
والمجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية والفعل الخبيث. والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29].
واللام في {لَهُ جَهَنَّمَ} لام الاستحقاق، أي هو صائر إليها لا محالة، ويكون عذابه متجددا فيها؛ فلا هو ميت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت، وهو كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
(16/154)
وليس هذا من قبيل قوله: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: من الآية68] ولا قوله: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: من الآية35]
وأما خلود غير الكافرين في النار من أهل الكبائر فإن قوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} جعلها غير مشمولة لهذه الآية. ولها أدلة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي. ونازعنا فيها المعتزلة والخوارج. وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسم الإشارة.
وتقدم معنى {عدن} وتفسير {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72]
والتزكي: التطهر من المعاصي.
[77] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}
افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم. وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصا طويت بين ذكر القصتين، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتوهم أن الأمر بالخروج وقع مواليا لانتهاء محضر السحرة، مع أن بين ذلك قصصا كثيرة ذكرت في سورة الأعراف وغيرها، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما هم بإطلاق بني إسرائيل للخروج. ثم نكل إلى أن أذن لهم بآخرة فخرجوا ثم ندم على ذلك فأتبعهم.
فجملة {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} ابتدائية، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.
و {اسر} أمر من السرى بضم السين وفتح الراء وتقدم في سورة الإسراء أنه يقال: سرى وأسرى. وإنما أمره الله بذلك تجنبا لنكول فرعون عليهم. والإضافة في قوله: {بِعِبَادِي} لتشريفهم وتقريبهم والإيماء إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسوا عبيدا لفرعون.
(16/155)
والضرب: هنا بمعنى الجعل كقولهم: ضرب الذهب دنانير. وفي الحديث: " واضربوا إلي معكم بسهم" ، وليس هو كقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] لأن الضرب هناك متعد إلى البحر وهنا نصب طريقا.
واليبس بفتح المثناة والموحدة. ويقال: بسكون الموحدة: وصف بمعنى اليابس. وأصله مصدر كالعدم والعدم، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا: ناقة يبس إذا جف لبنها.
و {لا تخاف} مرفوع في قراءة الجمهور، وعد لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم، فهو خبر مراد به البشرى. والجملة في موضع الحال.
وقرأ حمزة وحده {لا تخف} على جواب الأمر الذي في قوله: {فاضرب} ، وكلمة {تخف} مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون المحذوف.
وأما قوله: {وَلا تَخْشَى} فالإجماع على قراءته بألف في آخره. فوجه قراءة حمزة فيها مع أنه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: من الآية67] وألف {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: من الآية10]، أو أن تكون الواو في قوله: {وَلا تَخْشَى} للاستئناف لا للعطف.
و {الدرك} بفتحتين اسم مصدر الإدراك، أي لا تخاف أن يدركك فرعون.
والخشية: شدة الخوف. وحذف مفعوله لإفادة العموم، أي لا تخشى شيئا، وهو عام مراد به الخصوص، أي لا تخشى شيئا مما يخشى من العدو ولا من الغرق.
[78-79] {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
الفاء فصيحة عاطفة على مقدر يدل عليه الكلام السابق، أي فسرى بهم فأتبعهم فرعون، فإن فرعون بعد أن رأى آيات غضب الله عليه وعلى قومه وأيقن أن ذلك كله تأييد لموسى أذن لموسى وهارون أن يخرجا بني إسرائيل، وكان إذن فرعون قد حصل ليلا لحدوث موتان عظيم في القبط في ليلة الشهر السابع من أشهر القبط وهو شهر برمهات
(16/156)
وهو الذي اتخذه اليهود رأس سنتهم بإذن من الله وسموه تسري فخرجوا من مدينة رعمسيس قاصدين شاطئ البحر الأحمر. وندم فرعون على إطلاقهم فأراد أن يلحقهم ليرجعهم إلى مدينته، وخرج في مركبته ومعه ستمائة مركبة مختارة ومركبات أخرى تحمل جيشه.
وأتبع: مرادف تبع. والباء في {بجنوده} للمصاحبة.
واليم: البحر. وغشيانه إياهم: تغطيته جثثهم، أي فغرقوا.
وقوله: {مَا غَشِيَهُمْ} يفيد ما أفاده قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} إذ من المعلوم أنهم غشيهم غاش، فتعين أن المقصود منه التهويل، أي بلغ من هول ذلك الغرق أنه لا يستطاع وصفه. قال في الكشاف "هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قتلها بالمعاني الكثيرة". وهذا الجزء من القصة تقدم في سورة يونس.
وجملة {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} في موضع الحال من الضمير في {غشيهم} . والإضلال: الإيقاع في الضلال، وهو خطأ الطريق الموصل. ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعمل ما فيه ضر وهو المراد هنا. والمعنى: أن فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بث فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام.
وعطف {وَمَا هَدَى} على {أضل} : إما من عطف الأعم على الأخص لأن عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال؛ وإما أن يكون تأكيدا لفظيا بالمرادف مؤكدا لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله: {وَمَا هَدَى} تأكيدا ل {أضل} بالمرادف كقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: من الآية21] وقول الأعشى: حفاة لا نعال لنا من قوله:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وفي الكشاف : إن نكتة ذكر {وَمَا هَدَى} التهكم بفرعون في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29] اه. يعني أن في قوله: {وما هدى} تلميحا إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: من الآية29] وما في هذه من قوله {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ، أي هي هدي، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضيا إلى التلميح إلى القصة كما في قول مهلهل:
(16/157)
لو كشف المقابر عن كليب
فخبر بالذنائب أي زير
يشير إلى قول كليب له على وجه الملامة: أنت زير نساء.
[80-82] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}
هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفا في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} الآية. وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا لهم بنعم أخرى.
وقدمت عليها النعمة العظيمة، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة.
وقرأ الجمهور {قد أنجيناكم} {وواعدناكم} بنون العظمة. وقرأهما حمزة، والكسائي، وخلف {قد أنجيتكم} {ووعدتكم} بتاء المتكلم.
وذكرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} . والمواعدة: اتعاد من جانبين، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة، وامتثال موسى لذلك وعد من جانبه، فتم معنى المواعدة، كما قال تعالى في سورة البقرة {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]
ويظهر أن الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح 19 من سفر الخروج: في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل. وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الرب من الجبل قائلا: هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النسور، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة...:إلخ.
وذكر الطور تقدم في سورة البقرة.
وجانب الطور: سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرق الشمس، وإلا فليس للجبل يمين وشمال معينان، وإنما تعرف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجعل محل المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص: من الآية30)، وقال فيها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ
(16/158)
إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: من الآية44] فهو جانب غربي، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل، وهو الذي آنس موسى منه نارا.
وانتصب {جَانِبَ الطُّورِ} على الظرفية المكانية لأنه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم.
ومفعول المواعدة محذوف، تقديره: المناجاة.
وتعدية {وَوَاعَدْنَاكُمْ} إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الذين اختارهم من قومه باعتبار أن المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحا. للأمة فكانت المواعدة مع أولئك كالموعدة مع جميع الأمة.
وقرأ الجميع {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ} الخ؛ فباعتبار قراءة حمزة، والكسائي، وخلف {قد أنجيتكم وواعدتكم} بتاء المفرد تكون قراءة {ونزلنا} بنون العظمة قريبا من الالتفات وليس عينه، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلم.
والسلوى تقدم في سورة البقرة. وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح 16 من سفر الخروج.
وجملة {كلوا} مقول محذوف. تقديره: وقلنا أو قائلين. وتقدم نظيره في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور {مَا رَزَقْنَاكُمْ} بنون العظمة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {ما رزقتكم} بتاء المفرد.
والطغيان: أشد الكبر. ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق: النهي عن ترك الشكر عليه وقلة الاكتراث بعبادة المنعم.
وحرف "في" الظرفية استعارة تبعية؛ شبه ملابسة الطغيان للنعمة بحلول الطغيان فيها تشبيها للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعم عليه على طريقة المكنية، وحرف الظرفية قرينتها.
والحلول: النزول والإقامة بالمكان؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم.
وقرأ الجمهور {فَيَحِلَ عَلَيكُمْ} بكسر الحاء وقرأوا {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} بكسر اللام الأولى على أنهما فعلا حل الدين يقال: حل الدين إذا آن أجل أدائه. وقرأه الكسائي بالضم في الفعلين على أنه من حل بالمكان يحل إذا نزل به. كذا في الكشاف
(16/159)
ولم يتعقبوه.
وهذا مما أهمله ابن مالك في لامية الأفعال . ولم يستدركه شارحها بحرق اليمني في الشرح الكبير . ووقع في المصباح ما يخالفه ولا يعول عليه. وظاهر القاموس أن حل بمعنى نزل يستعمل قاصرا ومتعديا، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك.
وهوى: سقط من علو، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده، كما قالوا: هوت أمه، دعاء عليه، وكما يقال: ويل أمه، ومنه: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] فأريد هوي مخصوص، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد.
وجملة {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح. ومعنى {تاب} : ندم على كفره وآمن وعمل صالحا.
وقوله: {ثم اهتدى} {ثم} فيه للتراخي في الرتبة؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث. ومعنى {اهتدى} : استمر على الهدى وثبت عليه، فهو كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الاحقاف:13]
والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج "الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنه لن يبرئ إبراء".
[83-85] {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}
عطف على جملة {اسْرِ بِعِبَادِي} [طه:77] الواقعة تفسيرا لفعل {أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى} [طه:77]، فقوله: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} هو مما أوحى الله به إلى موسى. والتقدير: وأن: ما أعجلك اله. وهو إشارة إلى ما وقع لهم أيام مناجاة موسى في الطور في الشهر الثالث لخروجهم من مصر. وهذا الجزء من القصة لم يذكر في سورة الأعراف.
والإعجال: جعل الشيء عاجلا.
والاستفهام مستعمل في اللوم. والذي يؤخذ من كلام المفسرين وتشير إليه الآية: أن موسى تعجل مفارقة قومه ليحضر إلى المناجاة قبل الإبان الذي عينه الله له، اجتهادا منه
(16/160)
ورغبة في تلقي الشريعة حسبما وعده الله قبل أن يحيط بنو إسرائيل بجبل الطور، ولم يراع في ذلك إلا السبق إلى ما فيه خير لنفسه ولقومه، فلامه الله على أن غفل عن مراعاة ما يحف بذلك من ابتعاده عن قومه قبل أن يوصيهم الله بالمحافظة على العهد ويحذرهم مكر من يتوسم فيه مكرا، فكان في ذلك بمنزلة أبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم راكعا فركع ودب إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد" .
وقريب من تصرف موسى - عليه السلام - أخذ المجتهد بالدليل الذي له معارض دون علم بمعارضة، وكان ذلك سبب افتتان قومه بصنع صنم يعبدونه.
وليس في كتاب التوراة ما يشير إلى أكثر من صنع بني إسرائيل العجل من ذهب اتخذوه إلها في مدة مغيب موسى، وأن سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91].
وقوله هنا: {هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} يدل على أنهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة.
واعتذر عن تعجله بأنه عجل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه، فقوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} فيه ضرب من الملام على التعجل بأنه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير.
والأثر بفتحتين: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خف. ويقال: إثر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب. فمعنى قولهم: جاء على إثره، جاء مواليا له بقرب مجيئه، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام من مشى قبل أن يتغير ذلك الأثر بأقدام أخرى، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره.
والمعنى: هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي، أي موالون لي في الوصول. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي" ، تقديره: يحشرون سائرين على آثار قدمي.
وقرأ الجمهور {على أثري} بفتحتين. وقرأه رويس عن يعقوب بكسر الهمزة وسكون الثاء.
واستعمل تركيب {هم أولاء} مجردا عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافا
(16/161)
لقوله في سورة النساء: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109]
وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة، نحو قول عبد بني الحسحاس:
ها أنا دون الحبيب يا وجع
وتقدم عند قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: من الآية119] في سورة آل عمران.
وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مقدره وخالق أسبابه البعيدة. وأما إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.
و {السَّامِرِيُّ} يظهر أن ياءه ياء نسبة، وأن تعريفه باللام للعهد. فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر؛ فالسامري نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سامر، وقد كان من الأسماء القديمة "شومر" و "شامر" وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب. وفي أنوار التنزيل : السامري نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة اه. أخذنا من كلام البيضاوي أن السامري منسوب إلى قبيلة وأما قوله "من بني إسرائيل" فليس بصحيح. لأن السامرة أمة من سكان فلسطين في جهة نابلس في عهد الدولة الرومية البيزنطية وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثم امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود. فليس هو منسوبا إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأن مدينة السامرة بناها الملك عمري ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح، وجعلها قصبة مملكته، وسماها "شوميرون" لأنه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه شامر بوزنتين من الفضة، فعربتفي العربية إلى سامرة، وكان الهود يعدونها مدينة كفر وجور، لأن عمري بانيها وابنه آخاب قد أفسدوا ديانة التوراة وعبدا الأصنام المنعانية. وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام.
ويحتمل أن يكون السامري نسبا إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر، كما قال بعض أهل التفسير، فيكون فتى قبطيا اندس في بني إسرائيل لتعلقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم. وعن سعيد بن جبير: كان السامري من أهل كرمان، وهذا يقرب أن يكون السامري تعربب كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب.
(16/162)
ويجوز أن تكون الياء من السامري غير ياء نسب بل حرفا من اسم مثل: ياء علي وكرسي، فيكون اسما أصليا أو منقولا في العبرانية، وتكون اللام في أوله زائدة.
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطا من القصة: أن السامري اسمه موسى بن ظفر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خاله، وأنه كفر بدين موسى بعد أن كان مؤمنا به، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئز النفس منها.
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضا السامرة، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهودية في أصول الدين، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلا من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنية على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصهار ملوكهم، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام. ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم.
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلة كبرى، إذ زعموا أن هارون صنع العجل لهم لما قالوا له: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنع لهم عجلا من ذهب. وأحسب أن هذا من آثار تلاشي التوراة الأصلية بعد الأسر البابلي، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة. ومما نقطع به أن هارون معصوم من ذلك لأنه رسول.
[86] {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}
الغضب: انفعال للنفس وهيجان ينشأ عن إدراك ما يسوءها ويسخطها دون خوف، والوصف منه غضبان.
والأسف: انفعال للنفس ينشأ من إدراك ما يحزنها وما تكرهه مع انكسار الخاطر. والوصف منه أسف. وقد اجتمع الانفعالان في نفس موسى لأنه يسوءه وقوع ذلك في أمته وهو لا يخافهم، فانفعاله المتعلق بحالهم غضب، وهو أيضا يحزنه وقوع ذلك وهو في
(16/163)
مناجاة الله تعالى التي كان يأمل أن تكون سبب رضى الله عن قومه فإذا بهم أتوا بما لا يرضي الله فقد انكسر خاطره بين يدي ربه.
وهذا ابتداء وصف قيام موسى في جماعة قومه وفيهم هارون وفيهم السامري، وهو يقرع أسماعهم بزواجر وعظه، فابتدأ بخطاب قومه كلهم، وقد علم أن هارون لا يكون مشايعا لهم، فلذلك ابتدأ بخطاب قومه ثم وجه الخطاب إلى هارون بقوله، قال: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ} [طه: 92]
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ} مستأنفة بيانية.
وافتتاح الخطاب بـ {يَا قَوْمِ} تمهيد للوم لأن انجرار الأذى للرجل من قومه أحق في توجيه الملام عليهم، وذلك قوله {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} .
والاستفهام في {أَلَمْ يَعِدْكُمْ ربكم} انكاري ؛ نزلوا منزلة من زعم أن الله لم يعدهم وعدا حسنا لأنهم أجروا أعمالهم على حال من يزعم ذلك فأنكر عليهم زعمهم. ويجوز أن يكون تقريريا، وشأنه أن يكون على فرض النفي كما تقدم غير مرة.
والوعد الحسن هو: وعده موسى بإنزال التوراة، ومواعدته ثلاثين ليلة للمناجاة، وقد أعلمهم بذلك، فهو وعد لقومه لأن ذلك لصلاحهم، ولأن الله وعدهم بأن يكون ناصرا لهم على عدوهم وهاديا لهم في طريقهم، وهو المحكي في قوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: من الآية80]
والاستفهام في {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} مفرع على قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} ، وهو استفهام إنكاري، أي ليس العهد بوعد الله إياكم بعيدا. والمراد بطول العهد طول المدة، أي بعدها، أي لم يبعد زمن وعد ربكم إياكم حتى يكون لكم يأس من الوفاء فتكفروا وتكذبوا من بلغكم الوعد وتعبدوا ربا غير الذي دعاكم إليه من بلغكم الوعد فتكون لكم شبهة عذر في الإعراض عن عبادة الله ونسيان عهده.
والعهد: معرفة الشيء وتذكره، وهو مصدر. يجوز أن يكون أطلق على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق، أي طال المعهود لكم وبعد زمنه حتى نسيتموه وعملتم بخلافه. ويجوز أن يبقى على أصل المصدر وهو عهدهم الله على الامتثال والعمل بالشريعة. وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: من الآية27] وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} في سورة البقرة [27و40].
(16/164)
و {أم} إضراب إبطالي. والاستفهام المقدر بعد {أم} في قوله: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86] إنكاري أيضا، إذ التقدير: بل أردتم أن يحل عليكم غضب، فلا يكون كفركم إذن إلا إلقاء بأنفسكم في غضب الله كحال من يحب أن يحل عليه غضب من الله.
ففي قوله: {أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} استعارة تمثيلية، إذ شبه حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بدون داع إلى ذلك بحال من يحب حلول غضب الله عليه؛ إذ الحب لا سبب له.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} تفريع على الاستفهام الإنكاري الثاني. ومعنى {موعدي} هو وعد الله على لسانه، فإضافته إلى ضميره لأنه الواسطة فيه.
[87 - 88] {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا}
وقعت جملة {قالوا} غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جوابا عن كلام موسى عليه السلام. وضمير {قالوا} عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم، تصدوا مجيبين عن القوم كلهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.
وقوله: {بملكنا} قرأه نافع، وعاصم، وأبو جعفر بفتح الميم. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر الميم. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بضم الميم. وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة، ومعناها: بإرادتنا واختيارنا، أي لإخلاف موعدك، أي ما تجرأنا ولكن غرهم السامري وغلبهم دهماء القوم. وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.
والاستدراك راجع إلى ما أفاده نفي أن يكون إخلافهم العهد عن قصد للضلال. والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حصول المقصود من التنصل من تبعة نكث العهد.
ومحل الاستدراك هو قوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} وما قبله تمهيد له، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غلبوا على رأيهم بتضليل السامري.
(16/165)
فأدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما موه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب {حملنا} بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة. أي جملنا من حملنا، أو حملنا أنفسنا.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة، وأبو عمرو، والكسائي، وروح عن يعقوب بفتح الحاء وفتح الميم مخففة.
والأوزار: الأثقال. والزينة: الحلي والمصوغ. وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كل واحد من جاره القبطي حليا فضة وذهبا وأثاثا، كما في الإصحاح 12 من سفر الخروج. والمعنى: أنهم خشوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.
والقذف: الإلقاء. وأريد به هنا الإلقاء في نار السامري للصوغ، كما يومئ إليه الإصحاح 32 من سفر الخروج. فهذا حكاية جوابهم لموسى عليه السلام مجملا مختصرا شأن المعتذر واه أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}
ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادرا من قائل الكلام المفرع عليه. والمعنى: فمثل قذفنا زينة القوم، أي في النار، ألقي السامري شيئا من زينة القوم فأخرج لهم عجلا. والمقصود من هذا التشبيه التخلص إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.
وضميرا الغيبة في قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} وقوله: {فقالوا} عائدان إلى غير المتكلمين. علق المتكلمون الإخراج والقول بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعوا دهماء القوم، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى، ويكون ضمير {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} التفاتا قصد القائلون به التبري من أن يكون إخراج العجل لأجلهم، أي أخرجه لمن رغبوا في ذلك.
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كله من جانب الله، وهو اختيار أبي مسلم،
(16/166)
فيكون اعتراضا وإخبارا للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة. وموقع الفاء يناكد هذا لأن الفاء لا ترد للاستئناف على التحقيق، فتكون الفاء للتفريع تفريع أخبار على أخبار.
والمعنى: فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامري ما بيده من النار ليذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلا جسدا. فإن فعل {ألقى} يحكي حالة مشبهة بحالة قذفهم مصوغ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان، شبه أحدهما بالآخر.
والجسد: الجسم ذو الأعضاء سواء كان حيا أم لا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [صّ: من الآية34]. قيل: هو شق طفل ولدته إحدى نسائه كما ورد في الحديث. قال الزجاج: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما هو الجثة، أي أخرج لهم صورة عجل مجسدة بشكله وقوائمه وجوانبه، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب. وفي سفر الخروج أنه كان من ذهب.
والإخراج: إظهار ما كان محجوبا. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمه.
والخوار: صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفا بصناعة الحيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.
وصنع لهم السامري صنما على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل ايبيس، فلما رأوا ما صاغه السامري في صورة معبود عرفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خوارا، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبروا عنه بقولهم {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة، فتوهموا أنه أفضل من العجل إيبيس. وإذ قد كانوا يثبتون إلها محجوبا عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته، فقالوا لموسى: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة. وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التوراة غير ملائمة للنظر السليم.
وتفريع {فنسي} يحتمل أن يكون تفريعا على {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ} تفريع علة على معلول، فالضمير عائد إلى السامري، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقاه من هدي؛ أو تفريع معلول على علة، أي قال ذلك، فكان قوله سببا في نسيانه ما كان عليه من هدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعد.
(16/167)
والنسيان: مستعمل في الإضاعة، كقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126] وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]
وعلى هذا يكون قوله: {فنسي} من الحكاية لا من المحكي، والضمير عائد إلى السامري فينبغي على هذا أن يتصل بقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ} [طه: 89] ويكون اعتراضا. وجعله جمع من المفسرين عائدا إلى موسى، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه، أي غفل عنه، وذهب إلى الطور يفتش عليه وهو بين أيديكم، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.
والنسيان: يكون مستعملا مجازا في الغفلة.
[89] {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً}
يجوز أن يكون اعتراضا وليس من حكاية كلام القوم، فهو معترض بين جملة {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87] وجملة {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواأَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ} [طه: من الآية92-93] الخ، فتكون الفاء لتفريع كلام متكلم على كلام غيره، أي لتفريع لإخبار لا لتفريع المخبر به، والمخبر متعدد، ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدوا لخطاب موسى عليه السلام من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.
والاستفهام: إنكاري، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جريهم على موجب البصر، فأنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره، أي كيف يدعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعا ولا ضرا.
والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملة في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم، ولا سيما بالنسبة لجملة {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} فإن ذلك لا يرى بالبصر بخلاف {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلم وانتفاء عدم نفعهم وضرهم، لأن الإنكار مسلط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملك لهم ضرا ونفعا.
ومعنى {يرجع} يرد، أي يجيب القول، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يدعونه ويثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يعدهم باستجابة، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقى طلبة أن يجيب. ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضر، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما
(16/168)
فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدو أو مرض. فهم قد شاهدوا عدم عنائه عنهم. ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأن حاله مما يرى.
ولام {لهم} متعلق ب {يملك} الذي هو في معنى يستطيع كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة: 76] في سورة العقود [76].
وقدم الضر على النفع قطعا لعذرهم في اعتقاد إلهيته، لأن عذر الخائف من الضر أقوى من عذر الراغب في النفع.
و"أن" في قوله: {ألا يرجع} مخففة من "أن" المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر، فـ {يرجع} مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة. وليست "أن" مصدرية لأن "أن" المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك.
[90-91] {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}
الجملة في موضع الحال من ضمير {أَفَلا يَرَوْنَ} [طه: 89] على كلا الاحتماليين، أي كيف لا يستدلون على عدم استحقاق العجل الإلهية، بأنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أن هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامري، وأن ربهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعا فضلا عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعية.
وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنع لهم العجل، وأنه لم ينكر عليهم عبادته. وغاية الأمر أنه كان يستهزئ بهم في نفسه، وذلك إفك عظيم في كتابهم.
والمضاف إليه "قبل" محذوف دل عليه المقام، أي من قبل أن يرجع إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه بـ {يَا قَوْمِ} تمهيد لمقام النصيحة.
(16/169)
ومعنى {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} : ما هو إلا فتنة لكم، وليس ربا، وإن ربكم الرحمان الذي يرحمكم في سائر الأحوال، فأجابوه بأنهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربهم.
ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب، ثم دعاهم إلى معرفة الرب الحق، ثم دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولا بينهم، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع، فما كان منهم إلا التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جوابا جازما.
و {عليه} متعلق ب {عاكفين} قدم على متعلقة لتقوية الحكم، أو أرادوا: لن نبرح نخصه بالعكوف لا نعكف على غيره.
والعكوف: الملازمة بقصد القربة والتعبد، وكان عبدة الأصنام يلزمونها ويطوفون بها.
[92-94] {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
انتقل موسى من محاورة قومه إلى محاورة أخيه، فجملة {قَالَ يَا هَارُونُ} تابعة لجملة {قال يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86]. ولجملة {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] وقد وجدت مناسبة لحكاية خطابه هارون بعد أن وقع الفصل بين أجزاء الحكاية بالجمل المعترضة التي منها جملة {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ من قبل} الخ...، فهو استطراد في خلال الحكاية للإشعار بعذر هارون كما تقدم. ويحتمل أن تكون عطفا على جملة {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ} الخ..، على احتمال كون تلك من حكاية كلام قوم موسى.
علم موسى أن هارون مخصوص من قومه بأنه لم يعبد العجل، إذ لا يجوز عليه ذلك لأن الرسالة تقتضي العصمة، فلذلك خصه بخطاب يناسب حاله بعد أن خاطب عموم الأمة بالخطاب الماضي. وهذا خطاب التوبيخ والتهديد على بقائه بين عبدة الصنم.
والاستفهام في قوله: {مَا مَنَعَكَ} إنكاري، أي لا مانع لك من اللحاق بي، لأنه أقامه خليفة عنه فيهم فلما لم يمتثلوا أمره كان عليه أن يرد الخلافة إلى من استخلفه.
(16/170)
و {إِذْ رَأَيْتَهُمْ} متعلق ب {منعك} . و"أن" مصدرية، و"لا" حرف نفي، وهي مؤذنة بفعل محذوف يناسب معنى النفي. والمصدر الذي تقتضيه "أن" هو مفعول الفعل المحذوف. وأما مفعول {منعك} فمحذوف يدل عليه {منعك} ويدل عليه المذكور.
والتقدير: ما منعك أن تتبعني واضطرك إلى أن لا تتبعني، فيكون في الكلام شبه احتباك. والمقصود تأكيد وتشديد التوبيخ بإنكار أن يكون لهارون مانع حينئذ من اللحاق بموسى ومقتض لعدم اللحاق بموسى، كما يقال: وجد السبب وانتفى المانع.
ونظيره قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [لأعراف:12] في سورة الأعراف فارجع إليه.
والاستفهام في قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مفرع على الإنكار. فهو إنكار ثان على مخالفة أمره، مشوب بتقرير للتهديد.
وقوله في الجواب {يَا ابْنَ أُمَّ} نداء لقصد الترقيق والاستشفاع. وهو مؤذن بأن موسى حين وبخه أخذ بشعر لحية هارون. ويشعر بأنه يجذبه إليه ليلطمه، وقد صرح به في الأعراف بقوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} .
وقرأ الجمهور {يَا ابْنَ أُمَّ} بفتح الميم. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بكسر الميم وأصله: يا ابن أمي، فحذفت ياء المتكلم تخفيفا، وهو حذف مخصوص بالنداء. والقراءتان وجهان في حذف ياء المتكلم المضاف إليها لفظ أم ولفظ "عم" في النداء.
وعطف الرأس على اللحية لأن أخذه من لحيته أشد ألما وأنكى في الإذلال.
وابن الأم: الأخ. وعدل عن "يا أخي" إلى "ابن أم" لأن ذكر الأم تذكير بأقوى أواصر الأخوة، وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع من لبان واحد.
واللحية بكسر اللام ويجوز، فتح اللام في لغة الحجاز: اسم للشعر النابت بالوجه على موضع اللحيين والذقن، وقد أجمع القراء على كسر اللام من {لحيتي} .
واعتذر هارون عن بقائه بين القوم بقوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ} ، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوما وتحميلا لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور فيقع انشقاق
(16/171)
بين القوم وربما اقتتلوا فرأى من المصلحة، يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون. ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [لأعراف: 142] في سورة الأعراف. وهو الذي أشار إليه هنا بقوله {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه.
وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة فرجح الثانية. وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى. بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.
وتضمن هذا قوله {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} . وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه. لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع. كما بيناه في كتاب أصول نظام الاجتماع الإسلامي . ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب مقاصد الشريعة .
وفي قوله تعالى: {بين بني} جناس، وطرد وعكس.
وهذا بعض ما اعتذر به هارون، وحكي عنه في سورة الأعراف أنه اعتذر بقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف: من الآية150]
[95-96] {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ *قال بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}
التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامري الذي كان سببا في إضلال القوم، فالجملة ناشئة عن قول القوم {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً} [طه: 88] الخ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلا بالدين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل: إن السامري لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القبط أو من كرمان فاندس في بني إسرائيل. ولما كان موسى
(16/172)
مبعوثا لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل، كان اتباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمرا غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغب فيه لما فيه من الاهتداء، فلذلك لم يعنفه موسى لأن الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.
ومعنى {مَا خَطْبُكَ} ما طلبك، أي ماذا تخطب، أي تطلب، فهو مصدر. قال ابن عطية: وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المكاره، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلُونَ} [الذاريات: 31]، فالمعنى: ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.
وقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} إلى قوله {فنبذتها} إن حملت كلمات بصرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة، وأثر، ونبذتها على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يبصروه، أي نظرت ما لم ينظروه، بناء على أن بصرت، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين، إلا أن بصر بالشيء حقيقته صار بصيرا به أو بصيرا بسببه، أي شديد الإبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنه صيغ من فعل بضم العين الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف شجية، قال تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11] في سورة القصص.
ولما كان المعنى هنا جليا عن أمر مرئي تعين حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصر الدال على قوة الإبصار إلى معنى العلم القوي بعلاقة الإطلاق عن التقييد، كما في قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ: من الآية22] وكما سميت المعرفة الراسخة بصيرة في قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]. وحكى في لسان العرب عن اللحياني: إنه لبصير بالأشياء، أي عالم بها، وبصرت بالشيء: علمته. وجعل منه قوله تعالى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} ، وكذلك فسرها الأخفش في نقل لسان العرب وأثبته الزجاج. فالمعنى: علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، كما جعله في الكشاف أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان: إما جعل بصرت مجازا، وإما جعله حقيقة.
وقرأ الجمهور {يبصروا} بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفوقية على أنه خطاب لموسى ومن معه.
والقبضة: بفتح القاف الواحدة: من القبض، وهو غلق الراحة على شيء، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول. وضد القبض: البسط.
(16/173)
والنبذ: إلقاء ما في اليد.
والأثر، حقيقته: ما يتركه الماشي من صورة قدمه في الرمل او التراب. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84]
وعى حمل الكلمات على حقائقها يتعين صرف الرسول عن المعنى المشهور. فيتعين حمله على جبريل فإنه رسول من الله إلى الأنبياء. فقال جمهور المفسرين: المراد بالرسول جبريل. ورواه قصة قالوا: إن السامري فتنه الله. فأراه الله جبريل راكبا فرسا فوطئ حافر الفرس مكانا فإذا هو مخضر بالنبات، فعلم السامري أن أثر جبريل إذا القي في جماد صار حيا، فأخذ قبضة من ذلك التراب وصنع عجلا وألقى بقبضة عليه فصار جسدا، أي حيا. له خوار كخوار العجل. فعبر عن ذلك الإلقاء بالنبذ. وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنة وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين.
فإذا صرفت هذه الكلمات الست إلى معان مجازية كان بصرت بمعنى علمت واهتديت، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحيل الذي أوجد به خوار العجل. وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان { نبذت} بمعنى أهملت ونقضت، أي كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها الكفر. ويذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف وهو من أوحي إليه بشرع من الله وأمر بتبليغه.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى، والمعنى: أنه اعترف أمام موسى بصنعه العجل واعترف بأنه جهل فضل، واعتذر بأن ذلك سولته له نفسه.
وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على تفسير الجمهور واختاره الفخر.
والتسويل: تزين ما ليس بزين.
والتشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} تشبيه الشيء بنفسه، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، أي كذلك التسويل سولت لي نفسي،أي تسويلا لا يقبل التعريف بأكثر من ذلك.
(16/174)
[97] {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفا}
لم يزد موسى في عقاب السامري على أن خلعه من الأمة، إما لأنه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة، وإما لأن موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه، فيكون ممن حقت عليه كلمة العذاب، مثل الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ *وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:97]، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النار" ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان النبي عليه الصلاة والسلام أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.
فقوله {فاذهب} الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمة، ويجوز أن يكون كلمة زجر، كقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الاسراء: 63]، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في كتابه ولم يعزه:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما وبك لأيام من عجب
ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء الحماسة :
فإن كنت سيدنا سدتنا
وإن كنت للخال فاذهب فخل
أما قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حظه في حياته أن يقول لا مساس، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس، عائشا وحده لا يترك أحد يقترب منه، فإذا لقيه إنسان قال له: لا مساس، يخشى أن يمسه، أي لا تمسني ولا أمسك، أو أراد لا اقتراب مني، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [لأعراف: 73] وهذا أنسب بصيغة المفاعلة، أي مقاربة بيننا، فكان يقول ذلك، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.
ومساس بكسر الميم في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسه بمعنى مسه، و"لا" نافية للجنس، و {مساس} اسمها مبني على الفتح.
(16/175)
وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} اللام في {لك} استعارة تهكمية، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعدا له، أي موعد الحشر والعذاب، فالموعد مصدر، أي وعد لا يخلف، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وهنا توعد بعذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور {لَنْ تُخْلَفَهُ} بفتح اللام مبنيا للمجهول للعلم بفاعله، وهو الله تعالى، أي لا يؤخره الله عنك، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخلف وهمزته للوجدان. يقال: أخلف الوعد إذا وجده مخلفا، وإما على جعل السامري الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه. وذلك على طريق التهكم تبعا للتهكم الذي أفاده لام الملك.
وبعد أن أوعد موسى السامري بين له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهية لأنه للامتهان والعجز، فقال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} . فجعل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بين لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات.
وأضاف الإله إلى ضمير السامري تهكما بالسامري وتحقيرا له، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدل عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه.
وقوله: {ظلت} بفتح الظاء في القراءات المشهورة، وأصله: ظللت، حذفت من اللام الأولى تخفيفا من توالي اللامين وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس.
وفعل "ظل" من أخوات "كان". وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النهار، وهو هنا مجاز في معنى دام بعلاقة الإطلاق بناء، على أن غالب الأعمال يكون في النهار.
والعكوف: ملازمة العبادة وتقدم آنفا. وتقديم المجرور في قوله: {عَلَيْهِ عَاكِفاً} للتخصيص، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره، أي دون الله تعالى.
وقرأ الجمهور {لَنُحَرِّقَنَّهُ} بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة. والتحريق: الإحراق الشديد، أي لنحرقنه إحراقا لا يدع له شكلا. وأراد به أن يذيبه بالنار
(16/176)
حتى يفسد شكله ويصير قطعا.
وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر {لنُحْرِقنه} بضم النون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء. وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء لأنه يقال: أحرقه وحرقه.
والنسف: تفريق وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب.
وأراد باليم البحر الأحمر المسمى بحر القلزم، والمسمى في التوراة: بحر سوف، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور.
وثم للتراخي الرتبي، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له.
وأكد "ننسفنه" بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنه إله.
[98] {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}
هذه الجملة من حكاية كلام موسى عليه السلام فموقعها موقع التذييل لوعظه. وقد التفت من خطاب السامري إلى خطاب الأمة إعراضا عن خطابه تحقيرا له، وقصدا لتبينهم على خطئهم، وتعليمهم صفات الإله الحق، واقتصر منها على الوحدانية وعموم العلم لأن الوحدانية تجمع جميع الصفات، كما قرر في دلالة كلمة التوحيد عليها في كتب علم الكلام.
وأما عموم العلم فهو إشارة إلى علم الله تعالى بجميع الكائنات الشاملة لأعمالهم ليرقبوه في خاصتهم.
واستعير فعل {وسع} لمعنى الإحاطة التامة، لأن الإناء الواسع يحيط بأكثر أشياء مما هو دونه.
وانتصب {علما} على أنه تمييز نسبة السعة إلى الله تعالى، فيؤول المعنى: وسع علمه كل شيء، أي لا يقتصر عن الاطلاع على أخفى الأشياء، كما أفاد لفظ {كل} المفيد للعموم. وتقدم قريب منه عند قوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} في سورة البقرة [255]
(16/177)
[99-100] {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}
جملة مستأنفة تذييلية أفادت التنويه بقصة رسالة موسى وما عقبها من الأعمال التي مع بني إسرائيل ابتداء من قوله {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً} [طه:9-10]، أي مثل القصص نقص عليك من أنباء القرون الماضية. والإشارة راجعة إلى القصة المذكورة.
والمراد بقوله: {نقص} قصصنا، وإنما صيغ المضارع لاستحضار الحالة الحسنة في ذلك القصص.
والتشبيه راجع إلى تشبيهها بنفسها كناية عن كونها إذا أريد تشبيهها وتقريبها بما هو أعرف منها في بابها لم يجد مريد ذلك طريقا لنفسه في التشبيه إلا أن يشبهها بنفسها، لأنها لا يفوقها غيرها في بابها حتى تقرب به، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] في سورة البقرة، ونظائره كثيرة في القرآن.
و "من" في قوله: {مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} تبعيضية، وهي صفة لمحذوف تقديره: قصصا من أنباء ما قد سبق. ولك أن تجعل من اسما بمعنى بعض، فتكون مفعول {نقص} .
والأنباء: الأخبار. و "ما" الموصولة ما صدقها الأزمان، لأن الأخبار تضاف إلى أزمانها، كقولهم: أخبار أيام العرب، والقرون الوسطى.وهي كلها من حقها في الموصولية أن تعرف بـ"ما" الغالبة في غير العاقل. ومعلوم أن المقصود ما فيها من أحوال الأمم، فلو عرفت بـ"من" الغالبة في العقلاء لصح ذلك وكل ذلك واسع.
وقوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} إيماء إلى أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطع حصة الزمان ولا إيناس السامعين بالحديث إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لبصائر المشركين من العرب إلى موضع الاعتبار من هذه القصة، وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها. فللإيماء إلى هذا قال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً* خَالِدِينَ فِيهِ} .
(16/178)
وتنكير {ذكرا} للتعظيم، أي آتيناك كتابا عظيما. وقوله: {من لدنا} توكيد لمعنى {آتيناك} وتنويه بشأن القرآن بأنه عطية كانت مخزونة عند الله فخص بها خير عباده.
والوزر: الإثم. وجعل محمولا تمثيل لملاقاة المشقة من جراء الإثم، أي من العقاب عنه، فهنا مضاف مقدر وقرينته الحال في قوله {خَالِدِينَ فِيهِ} ، وهو حال من اسم الموصول أو الضمير المنصوب بحرف التوكيد، وما صدقها، متحد وإنما اختلف بالإفراد والجمع رعيا للفظ "من" مرة ولمدلولها مرة،وهو الجمع المعرضون، فقال: {مَنْ أَعْرَضَ} ثم قال {خَالِدِينَ} .
وجملة {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} حال ثانية، أي ومسوءين به. و {ساء} هنا هو أحد أفعال الذم مثل "بئس". وفاعل {ساء} ضمير مستتر مبهم يفسره التمييز الذي بعده وهو {حملا} . والحمل بكسر الحاء اسم بمعنى المحمول كالذبح بمعنى المذبوح. والمخصوص بالذم محذوف لدلالة لفظ {وزرا} عليه. والتقدير: وساء لهم حملا وزرهم، وحذف المخصوص في أفعال المدح والذم شائع كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] أي سليمان هو الأواب.
واللام في قوله {وَسَاءَ لَهُمْ} لام التبيين، وهي مبينة للمفعول في المعنى، لأن أصل الكلام: ساءهم الحمل، فجيء باللام لزيادة تبيين تعلق الذم بحمله. فاللام لبيان تعلق بهم سوء الحمل.
والحمل بكسر الحاء المحمول مثل الذبح.
[102-104] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من يوم القيامة في قوله: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه:101]، وهو اعتراض بين جملة {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} [طه:99] وما تبعها وبين جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِياً} [طه:113]. تخص لذكر البعث والتذكير به والنذارة بما يحصل للمجرمين يومئذ.
والصور: قرن عظيم يجعل في داخله سداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة
(16/179)
خرج منه صوت قوي، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب، وتقدم عند قوله تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [73].
وقرأ الجمهور {ينفخ} بياء الغيبة مبنيا للمجهول، أي بنفخ نافخ، وهو الملك الموكل بذلك. وقرأه أبو عمرو وحده {ننفخ} بنون العظمة وضم الفاء. وإسناد النفخ إلى الله مجاز عقلي باعتبار أنه الآمر به، مثل: بنى الأمير القلعة.
والمجرمون: المشركون والكفرة.
والزرق: جمع أزرق، وهو الذي لونه الزرقة. والزرقة: لون كلون السماء إثر الغروب، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرق نار. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وقيل: المراد لون عيونهم، فقيل: لأن زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدة زرقة العين لأنه لون غير معتاد، فيكون كقول بشار:
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقيل: المراد بالزرق العمي، لأن العمى بلون العين بزرقة. وهو محتمل في بيت بشار أيضا.
والتخافت: الكلام الخفي من خوف ونحوه. وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه: 108].
وجملة {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} مبينة لجملة {يتخافتون} ، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتا ورفاتا فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر.
ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلا عشر ليال فلم يصيروا رفاتا، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا برد الأرواح إلى الأجساد، فالمراد باللبث: المكث في القبور، كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} في سورة المؤمنين [112، 113]، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} في سورة الروم: [55]
و "إذ" ظرف، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقة. والأمثل: الأرجح
(16/180)
الأفضل. والمثالة: الفضل، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز.
والطريقة: الحالة والسنة والرأي. والمراد هنا الرأي، وتقدم في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] في هذه السورة، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس.
والذي أراه: أنه يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعا بعد طول المكث في الأرض طولا تتلاشى فيه أجزاء الأجسام، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} . فكان ذلك القول عذرا لأن عشر الليالي تتغير في مثلها الأجسام. فكان الذي قال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} أقرب إلى رواج الاعتذار. فالمراد: أنه الأمثل من بينهم في المعاذير، وليس المراد أنه مصيب.
وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور، فلما كان كلا التقديرين متوغلا في الغلط مؤذنا بجهل القدرين واستفهام الأمر عليهم دالا على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قضى الأزمان الطويلة والأمم العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة. فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقل قدر أو غل في الغلط فعبر عنه بـ {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} تهكما به وبهم معا إذ استوى الجميع في الخطأ.
وجملة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} معترضة بين فعل {يتخافتون} وظرفية {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ} ، أي أنهم يقولون ذلك سرا ونحن أعلم به وأننا نخبر عن قولهم يومئذ خبر العليم الصادق.
[105-107] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً *لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}
لما جرى ذكر البعث ووصف ما سينكشف للذين أنكروه من خطئهم في شبهتهم بتعذر إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها ذكرت أيضا شبهة من شبهاتهم كانوا يسألون بها النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت لا سؤال استهداء، فكانوا يحيلون انقضاء هذا العالم ويقولون: فأين تكون هذه الجبال التي نراها. وروي أن رجلا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهم أهل جبال لأن موطنهم الطائف وفيه جبل كرى. وسواء كان سؤالهم استهزاء أم
(16/181)
استرشادا. فقد أنبأهم الله بمصير الجبال إبطالا لشبهتهم وتعلما للمؤمنين. قال القرطبي: جاء هنا أي قوله {فَقُلْ يَنْسِفُهَا} بفاء وكل سؤال في القرآن {قل} أي كل جواب في لفظ منه مادة سؤال بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ا هـ.
وأكد {ينسفها نسفا} لإثبات أنه حقيقة لا استعارة. فتقدير الكلام: ونحشر المجرمين يومئذ رزقا... إلى آخره، وننسف الجبال نسفا، فقل ذلك للذين يسألونك عن الجبال.
والنسف: تفريق وإذراء، وتقدم آنفا.
والقاع: الأرض السهلة.
والصفصف: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها.
ومعنى {يَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} أنها تندك في مواضعها وتسوى مع الأرض حتى تصير في مستوى أرضها، وذلك يحصل بزلزال أو نحوه، قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة:4-6].
وجملة {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} حال مؤكدة لمعنى {قَاعاً صَفْصَفاً} لزيادة تصوير حالة فيزيد تهويلها، والخطاب في {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} لغير معين يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم سائليه.
والعوج بكسر العين وفتح الواو: ضد الاستقامة، ويقال بفتح العين والواو، كذلك فهما مترادفان على الصحيح من أقوال أئمة اللغة. وهو ما جزم به عمرو واختاره المرزوقي في شرح الفصيح . وقال جماعة: مكسور العين يجري على الأجسام غير المنتصبة كالأرض وعلى الأشياء المعنوية كالدين. و مفتوح العين يوسف به الأشياء المنتصبة كالحائط والعصا، وهو ظاهر ما في لسان العرب عن الأزهري، وقال فريق: مكسور العين توصف به المعاني، و مفتوح العين توصف به الأعيان. وهذا أضعف الأقوال، وهو منقول عن ابن دريد في الجمهرة وتبعه في الكشاف هنا، وكأنه مال إلى ما فيه من التفرقة في الاستعمال، وذلك من الدقائق التي يميل إليها المحققون. ولم يعرج عليه صاحب القاموس، وتعسف صاحب الكشاف تأويل الآية على اعتباره خلافا
(16/182)
لظاهرها. وهو يقتضي عدم صحة إطلاقه في كل موضع. وتقدم هذا اللفظ في أول سورة الكهف فانظره.
والأمت: النتوء اليسير، أي لا ترى فيها وهدة ولا نتوءا ما.
والمعنى: لا ترى في مكان نسفها عوجا ولا أمتا.
[108-112] {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً}
جملة {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} في معنى المفرعة على جملة {يَنْسِفُهَا} [طه: 105]. و {يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق بـ {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} . وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم، وليكون تقديمه قائما مقام العطف في الوصل، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربك الجبال، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.
والداعي، قيل: هو الملك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعو إليه. وقيل: الداعي الرسول، أي يتبع كل قوم رسولهم.
و {لا عِوَجَ لَهُ} حال من {الداعي} . واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجل، أي لا عوج لأجل الداعي، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي بل يقصدون متجهين إلى صوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يراد بالعوج الباطل تعريضا بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العوج كقولهم {إِنْ تَتَّبِعُونَ إَلاَّ رَجُلاً مَسْحُورا} [الفرقان:8]، ونحو ذلك من أكاذيبهم، كما عرض بهم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العوج.
(16/183)
وبين قوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} [طه: 107] وقوله: {لا عِوَجَ لَهُ} مراعاة النظير، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14] كذلك جعل سير الناس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.
والخشوع: الخضوع، وفي كل شيء من الإنسان مظهر من الخشوع؛ فمظهر الخشوع في الصوت: الإسرار به، فلذلك فرع عليه قوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} .
والهمس: الصوت الخفي.
والخطاب بقوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً} وقوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} خطاب لغير معين، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.
وجملة {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} في موضع الحال من ضمير {يتبعون} وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره، وهذا الخشوع من هول المقام.
وجملة {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} كجملة {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} في معنى التفريع على {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} . أي لا يتكلم الناس بينهم إلا همسا ولا يجرأون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلا بإذنه. وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.
واستثناء {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} من عموم الشفاعة باعتبار أن الشفاعة تقتضي شافعا، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلا، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.
واللام في {أَذِنَ لَهُ} لام تعدية فعل {أذن} ، مثل قوله {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} [الأعراف:123]. وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيقال لي: سل تعطه واشفع تشفع.
وقوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} عائد إلى {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} وهو الشافع. واللام الداخلة على ذلك الضمير لام التعليل، أي رضي الرحمان قول الشافع لأجل الشافع، أي إكراما له كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته، فصار الإذن بالشفاعة وقبولها عنوانا على كرامة الشافع عند الله تعالى.
(16/184)
والمجرور متعلق بفعل {رضي} . وانتصب {قولا} على المفعولية لفعل {رضي} لأن {رضي} هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.
وجملة {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} مستأنفة بيانية لجواب سؤال من قد يسأل بيان ما يوجب رضى الله عن العبد الذي يأذن بالشفاعة فيه. فبين بيانا إجماليا بأن الإذن بذلك يجري على ما يقتضيه علم الله بسائر العبيد وبأعمالهم الظاهرة، فعبر عن الأعمال الظاهرة بما بين أيديهم لأن شأن ما بين الأيدي أن يكون واضحا، وعبر عن السرائر بما خلفهم لأن شأن ما يجعل خلف المرء أن يكون محجوبا. وقد تقدم ذلك في آية الكرسي، فهو كناية عن الظاهرات والخفيات، أي فيأذن لمن أراد تشريفه من عباده المقربين بأن يشفع في طوائف مثل ما ورد في الحديث "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان" ، أو بأن يشفع في حالة خاصة مثل ما ورد في حديث الشفاعة العظمى في الموقف لجميع الناس بتعجيل حسابهم.
وجملة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} تذييل للتعليم بعظمة علم الله تعالى وضآلة علم البشر، نظير ما وقع في آية الكرسي.
وجملة {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} معطوفة على جملة {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} ، أي ظهر الخضوع في الأصوات والعناء في الوجوه.
والعناء: الذلة، وأصله الأسر، والعاني: الأسير. ولما كان الأسير ترهقه ذلة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه على سبيل المجاز العقلي، والجملة كلها تمثيل لحال المجرمين الذين الكلام عليهم من قوله {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102]، فاللام في {الوجوه} عوض عن المضاف إليه، أي وجوههم، كقوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] أي لهم. وأما وجوه أهل الطاعات فهي وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة.
ويجوز أن يجعل التعريف في {الوجوه} على العموم. ويراد بـ {عنت} خضعت، أي خضع جميع الناس إجلالا لله تعالى.
والحي:الذي ثبت له وصف الحياة، وهي كيفية حاصلة لأرقى الموجودات، وهي قوة للموجود بها بقاء ذاته وحصول إدراكه أبدا أو إلى أمد ما. والحياة الحقيقية هي حياة الله تعالى لأنها ذاتية غير مسبوقة بضدها ولا منتهية.
(16/185)
والقيوم: القائم بتدبير الناس، مبالغة في القيم. أي الذي لا يفوته تدبير شيء من الأمور. وتقدم {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} في سورة البقرة.
وجملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} ؛ أما معترضة في آخر الكلام تفيد التعليل أن جعل التعريف في {الوجوه} عوضا عن المضاف إليه، أي وجوه المجرمين. والمعنى: إذ قد خاب كل من حمل ظلما؛ وإما احتراس لبيان اختلاف عاقبة عناء الوجوه، فمن حمل ظلما فقد خاب يومئذ واستمر عناؤه. ومن عمل صالحا عاد عليه ذلك الخوف بالأمن والفرح. والظلم: ظلم النفس.
وجملة {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الخ: شرطية مفيدة قسيم مضمون جملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} . وصيغ هذا القسيم في صيغة الشرط تحقيقا للوعد، و {فَلاَ يَخَافُ} جواب الشرط، واقترانه بالفاء علامة على أن الجملة غير صالحة لموالاة أداة الشرط، فتعين؛ إما أن تكون {لا} التي فيها ناهية، وإما أن يكون الكلام على نية الاستئناف. والتقدير: فهو لا يخاف.
وقرأ الجمهور {فَلاَ يَخَافُ} بصيغة المرفوع بإثبات ألف بعد الخاء، على أن الجملة استئناف غير مقصود بها الجزاء، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر لأنه مؤمن ويعمل الصالحات. وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم بحذف الألف بعد الخاء، على أن الكلام نهي مستعمل في الانتفاء. وكتبت في المصحف بدون ألف فاحتملت القراءتين. وأشار الطيبي إلى أن الجمهور توافق قوله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} في أن كلتا الجملتين خبرية. وقراة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من الظلم والهضم، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية.
ومعنى {فَلاَ يَخَافُ ظلما} لا يخاف جزاء الظالمين لأنه آمن منه بإيمانه وعمله الصالحات.
والهضم: النقص، أي لا ينقصون من جزائهم الذي وعدوا به شيئا كقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109].
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى النقص الشديد كما في قوله: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف:33]، أي لا يخاف إحباط عمله، وعليه يكون الهضم بمعنى النقص الخفيف، وعطفه على الظلم على هذا التفسير احتراس.
(16/186)
[113-114] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}
عطف على جملة {كَذَلِكَ نَقُص عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99]، والغرض واحد، وهو التنويه بالقرآن. فابتدئ بالتنويه به جزئيا بالتنويه بقصصه، ثم عطف عليه التنويه به كليا على طريقة تشبه التذييل لما في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} من معنى عموم ما فيه.
والإشارة بـ {كذلك} نحو الإشارة في قوله {كَذَلِكَ نَقُص عَلَيكَ} ، أي كما سمعته لا يبين بأوضح من ذلك.
و {قرآنا} حال من الضمير المنصوب في {أنزلناه} , وقرآن تسمية بالمصدر. والمراد المقروء، أي المتلو، وصار القرآن علما بالغلبة على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ معينة متعبدا بتلاوتها يعجز الإتيان بمثل سورة منها. وسمي قرآنا لأنه نظم على أسلوب تسهل تلاوته. ولوحظ هنا المعنى الاستقاقي قبل الغلبة وهو ما تفيده مادة قرأ من يسر تلاوته؛ وما ذلك إلا لفصاحة تأليفه وتناسب حروفه. والتنكير يفيد الكمال، أي أكمل ما يقرأ.
و {عربيا} صفة {قرآنا} . وهذا وصف يفيد المدح، لأن اللغة العربية أبلغ اللغات وأحسنها فصاحة وانسجاما. وفيه تعريض بالامتنان على العرب، وتحميق للمشركين منهم حيث أعرضوا عنه وكذبوا به، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الانبياء:10]
والتصريف: التنويع والتفنين. وقد تقدم عند قوله تعالى أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون في سورة الأنعام، وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} في سورة الإسراء: [41].
وذكر الوعيد هنا للتهديد، ولمناسبة قوله قبله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111].
والتقوى: الخوف. وهي تستعمل كناية عن الطاعة لله، أي فعلنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر، أي فعلنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر، أي يحدث لهم القرآن تذكرا ونظرا فيما يحق عليهم أن يختاروه لأنفسهم.
(16/187)
وعبر بـ {يحدث} إيماء إلى أن الذكر ليس من شأنهم قبل نزول القرآن، فالقرآن أوجد فيهم ذكرا لم يكن من قبل، قال ذو الرمة:
ولما جرت في الجزل جريا كأنه
سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا
و "لعل" للرجاء، أي أن حال القرآن أن يقرب الناس من التقوى والتذكر، بحيث يمثل شأن من أنوله وأمر بما فيه بحال من يرجو فيلفظ بالحرف الموضوع لإنشاء الرجاء. فحرف "لعل" استعارة تبعية تنبئ عن تمثيلية مكنية. وقد مضى معنى "لعل" في القرآن عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]
وجملة {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} معترضة بين جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} وبين جملة {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} . وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن، وتلقين لشكره على ما بين لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} إلى آخرها.....
والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كل ذلك ناشئ عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة.
وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن ملك غيره من المتسمين بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: من الآية26]. وفي الحديث: "فيقول الله أنا الملك أين ملوك الأرض" ، أي أحضروهم هل تجدون منهم من ينازع في ذلك، كقول الخليفة معاوية حين خطب في المدينة يا أهل المدينة أين علماؤكم.
والجمع بين اسم الجلالة واسمه "الملك" إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحقان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال، وهو الدال على انحصار الإلهية وكمالها.
ثم أتبع بـ"الحق" للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلا بما هو مقتضي الحكمة.
والحق: الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره. وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف.
(16/188)
وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضا إلى أن القرآن قانون ذلك الملك، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة.
وجملة {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على صلاح الأمة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عقب سماع تلك الآيات رغبة أو طلبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعا بعظة الناس وصلاحهم، فعلمه الله أن يكل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العام.
ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك، أي ما نفذ إنزاله فإنه هو المناسب، فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر عليه السلام "وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما" .
ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته. فعن ابن عباس: كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل حرصا على الحفظ وخشية من النسيان فأنزل الله {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} الآية. وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] كما في صحيح البخاري . وعلى هذين التأويلين يكون المراد بقضاء وحيه إتمامه وانتهاؤه، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول.
وعن مجاهد وقتادة أن معناه: لا تعجل بقراءة ما أنزل إليك لأصحابك ولا تمله عليهم حتى تتبين لك معانيه. وعلى هذا التأويل يكون قضاء الوحي تمام معانيه. وعلى كلا التفسيرين يجري اعتبار موقع قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
وقرأ الجمهور {يقضى} بتحتية في أوله مبنيا للنائب، ورفع {وحيه} على أنه نائب الفاعل, وقرأ يعقوب بنون العظمة وكسر الضاد وبفتحة على آخر {نقضي} وبنصب {وحيه} .
وعطف جملة {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} يسير إلى أن المنهي عنه استعجال مخصوص وأن الباعث على الاستعجال محمود. وفيه تلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أتبع نهيه عن التعجل
(16/189)
الذي يرغبه بالإذن له بسؤال الزيادة من العلم، فإن ذلك مجمع كل زيادة سواء كانت بإنزال القرآن أم بغيره من الوحي والإلهام إلى الاجتهاد تشريعا وفهما، إيماء إلى أن رغبته في التعجل رغبة صالحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي راكعا فلم يلبث أن يصل إلى الصف بل ركع ودب إلى الصف راكعا فقال له: " زادك الله حرصا ولا تعد" .
[115] {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}
لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه، وذلك المقصود من قصصها كما أشرنا إليه آنفا عند قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} [طه:99-100]. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريبا عند قوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرض له به الشيطان، تحقيقا لفائدة قوله {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعت.
والكلام معطوف على جملة {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: من الآية99]. وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيها على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله، كما قال فيها: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: 96]، وفي قضى آدم تفريطا في العهد أيضا. وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96] وقال في هذه: {فَوَسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]. وفي أن في القصتين نسيانا لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى {فنسي} [طه: 16] وقال في هذه القصة {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
وعليه فقوله: {مِنْ قَبْلُ} حذف ما أضيف إليه {قبل} . وتقديره: من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر، فإن بناء {قبل} على الضم علامة حذف المضاف إليه ونية معناه. والذي ذكر: إما عهد موسى الذي في قوله تعالى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] وقوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16]؛ وإما عهد الله
(16/190)
لبني إسرائيل الذي ذكرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفا، وهو ما في قوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} [طه: من الآية86] والمراد بالعهد إلى آدم: العهد إليه في الجنة التي أنسي فيها.
والنسيان: أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمدا، كقوله في قصة السامري {فنسي} ، فيكون عصيانا، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [لأعراف:21]، وقد مضت في سورة الأعراف. وهذا العهد هو المبين في الآية بقوله: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: من الآية117] الآية.
والعزم: الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه اعسر عمله أو إيثار ضده عليه. وتقدم قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: من الآية227] في سورة البقرة. والمراد هنا: العزم على امتثال الأمر وإلغاء ما يحسن إليه عدم الامتثال، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: من الآية159] وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: من الآية35] وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وموسى، وداوود، وعيسى عليهم السلام.
واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلا لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.
[116] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}
هذا بيان لجملة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه: 115] إلى آخرها، فكان مقتضى الظاهر أن لا يكون معطوفا بالواو بل أن يكون مفصولا، فوقوع هذه الجملة معطوفة اهتمام بها لتكون قصة مستقلة فتلفت إليها أذهان السامعين، فتكون الواو عاطفة قصة آدم على قصة موسى عطفا على قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً} [طه: 10]، ويكون التقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، وتكون جملة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} تذييلا لقصة هارون مع السامري وقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هارون. والمعنى: أن هارون لم يكن له عزم في الحفاظ على ما عهد إليه موسى، وانتهت القصة بذلك التذييل، ثم عطف على قصة موسى قصة آدم تبعا لقوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99].
(16/191)
[117-119] { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}
قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء الشيطان من السجود تقدمت في سورة البقرة وسورة الأعراف، فلنقتصر على بيان ما اختصت به هاته السورة من الأفانين والتراكيب.
فقوله: {إِنَّ هَذَا} إشارة إلى الشيطان إشارة مرادا منها التحقير، كما حكى الله في سورة الأنبياء من قول المشركين {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، وفي سورة الأعراف {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُما عَدُوٌ} عبر عنه باسمه.
وقوله: {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} هو كقوله في الأعراف [22]: {وأقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لكما عَدُوٌ مُِبينٌ} ، فذكرت عداوته لهما جملة هنالك وذكرت تفصيلا هنا، فابتدئ في ذكر متعلق عداوته بآدم لأن آدم هو منشأ عداوة الشيطان لحسده، ثم أتبع بذكر زوجه لأن عداوته إياها تبع لعداوته آدم زوجها، وكانت عداوته متعلقة بكليهما لاتحاد علة العداوة، وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من علم الأسماء الذي هو عنوان الفكر الموصل إلى الهدى وعنوان التعبير عن الضمير الموصل للإرشاد، وكل ذلك مما يبطل عمل الشيطان ويشق عليه في استهوائهما واستهواء ذريتهما، ولأن الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضيل على آدم فحنق لما أمر بالسجود لآدم.
{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
قوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} تفريع على الإخبار بعداوة إبليس له ولزوجه: بأن نهيا نهي تحذير عن أن يتسبب إبليس في خروجهما من الجنة، لأن العدو لا يروقه صلاح حال عدوه. ووقع النهي في صورة نهي عن عمل هو من أعمال الشيطان لا من أعمال آدم كناية عن نهي آدم عن التأثر بوسائل إخراجهما من الجنة، كما يقال: لا أعرفنك تفعل كذا، كناية عن: لا تفعل، أي لا تفعل كذا حتى أعرفه منك. وليس المراد النهي عن أن يبلغ إلى المتكلم خبر فعل المخاطب.
وأسند ترتب الشقاء إلى آدم خاصة دون زوجه إيجازا، لأن في شقاء أحد الزوجين
(16/192)
شقاء الآخر لتلازمهما في الكون مع الإيماء إلى أن شقاء الذكر أصل شقاء المرأة، مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وجملة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} تعليل للشقاء المترتب على الخروج من الجنة المنهي عنه، لأنه لما كان ممتعا في الجنة برفاهية العيش من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جو مناسب للمزاج كان الخروج منها مقتضيا فقدان ذلك.
و {تضحى} مضارع ضحي: كرضي، إذا أصابه حر الشمس في وقت الضحى. ومصدره الضحو، وحر الشمس في ذلك الوقت هو مبدأ شدته. والمعنى: لا يصيبك ما ينافر مزاجك، فالاقتصار على انتفاء الضحو هنا امتفاء، أي ولا تصرد. وآدم لم يعرف الجوع والعرى والظمأ والضحو بالوجدان، وإنما عرفها بحقائقها ضمن تعليمه الأسماء كلها كما تقدم في سورة البقرة.
وجمع له في هذا الخبر أصول كفاف الإنسان في معيشته إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلية، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعارا بخصائص المكون في مقوماته، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار اللبن على الخمر فقيل له: لو اخترت الخمر لغوت أمتك.
وقد قرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله: {أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} ، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله: {لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} لمناسبة بين الجوع والعرى، في أن الجوع خلو باطن الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البر، ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر، فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما، إذ جمع النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.
ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبية طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيب المتنبي ذكرها المعري في معجزة أحمد شرحه على ديوان أبي الطيب إجمالا، وبسطها الواحدي في شرحه على الديوان وهي: أن أبا الطيب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها:
(16/193)
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف لبدولة والروم في ثغر الحدث:
وقفت ما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك فلما أنشده هذين البيتين. قال له سيف الدولة: إن صدري البيتين لا يلائنان عجزيهما وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، ويكون سباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيب: أدام الله عز الأمير، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امروء القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك لأن البزاز لا يعرف إلا جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية. وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت أتبعته بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت:
ووجهك وضاح وثغرك باسم
لأجمع بين الأضداد في المعنى.
ومعنى هذا أن امرأ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة، وأن أبا الطيب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.
(16/194)
وجعلت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة تحذيرا منها لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم {وإنك لا تظمأ} بكسر همزة "إن" عطفا للجملة على الجملة. وقرأ الباقون {وأَنَّكَ} بفتح الهمزة عطفا على {أَلاََّ تَجوعَ} عطف المفرد على المفرد، أي أن لك نفي الجوع والعري ونفي الظمأ والضحو.
وقد حصل تأكيد الجميع على القراءتين بـ"إن" وبإختها، وبين الأسلوبين تفنن.
[120] {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}
قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} تقدم مثله في الأعراف. والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حدسه الشيطان واشتد حسده.
وتعدية فعل "وسوس" هنا بحرف "إلى" وباللام في سورة الأعراف [20] {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلم، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف، فتعديته بحرف "إلى" هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه، وتعديته باللام في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما.
وجملة {قَالَ يَا آدَمُ} [طه: 117] بيان لجملة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} . وهذه الآية مثال للجملة المبينة لغيرها في علم المعاني.
وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي، إما بألفاظ نطق بها الشيطان سرا لآدم لئلا يطلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان. فيكون إطلاق القول عليه حقيقة؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا، فيكون إطلاق القول عليه مجازا باعتبار المشابهة.
و {هَلْ أَدُلُّكَ} استفهام مستعمل في العرض، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته.
والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه.
والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنة، ولم يذكر النهي
(16/195)
عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة. وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف [20] {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلد، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة.
والدلالة: الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها.
وسماها هنا {شَجَرَةَ الخُلْدِ} بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يقبل عليها، ثم عينها له عقب ذلك بما أنبا به قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا} [طه: 121].
وقد أفصح هذا عن استقرار محبة الحياة في جبلة البشر.
والملك: التحرر من حكم الغير، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرف فيها غير مأمور لآمر.
واستعمل البلى مجازا في الانتهاء، لأن الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.
[121-122] {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
تفريع على ما قبله وثم جملة محذوفة دل عليها العرض، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه.
واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة. وتقدم معنى {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} في سورة الأعراف [22].
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} عطف على {فَأَكَلا مِنْهَا} ، أي أكلا معا، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة، وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]
والغوايه: ضد الرشد، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل. وإثبات العصيان لآدم دليل
(16/196)
على أنه لم يكن يومئذ نبيا. ولأنه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك، فالعصيان والغواية يومئذ: الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمر كبيرها، وإنما كان شنيعا لأنه عصيان أمر الله.
وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لمنعها، لأن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف.
وجملة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} معترضة بين جملة {وَعَصَى آدَمُ} وجملة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} ، لأن الاجتباء والتوبة عليه كانا بعد أن عوقب آدم وزوجه بالخروج من الجنة كما في سورة البقرة، وهو المناسب لترتب الإخراج من الجنة على المعصية دون أن يترتب على التوبة.
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل ببيان مآل آدم إلى صلاح.
والاجتباء: الاصطفاء. وتقدم عند قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] في الأنعام، وقوله: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: من الآية121] في النحل.
والهداية: الإرشاد إلى النفع. والمراد بها إذا ذكرت مع الاجتباء في القرآن النبوءة كما في هذه الآيات الثلاث.
[123-127] {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}
استئناف بياني، لأن الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالا عن جزاء ذلك. وضمير {قال} عائد إلى {ربه} [طه: 121] من قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} . والخطاب لآدم وإبليس.
والأمر في {اهبطا} أمر تكوين، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى.
(16/197)
و {جميعا} يظهر أنه اسم لمعنى كل أفراد ما يوصف {بجميع} ، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل: فريق، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره، قال تعالى { فكيدوني جميعا} . ونصبه على الحال. وهو هنا حال من ضمير {اهبطا} .
وجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حال ثانية من ضمير {اهبطا} . فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها.
والخطاب في قوله: {بعضكم} خطاب لآدم وإبليس. وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
تفريع جملة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباء بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنهم أودعوا في عالم خليط خيره بشره، وحقائقه بأوهامه، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان معدا له من أصل تركيبه.
والخطاب في قوله: {يأتينكم} لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعارا له بأنه سيكون منه جماعة، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنباه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم، فلا يكلفه الله باتباع الهدى، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثا ينزه عنه فعل الحكيم تعالى. وليس هذا مثل أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقن بأنهم لا يؤمنون، ولم يرد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين. وأما الحديث الذي رواه الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله? قال: "وإياي ولكن الله أعانني فأسلم" . فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير، والمراد بالقرين: شيطان قرين، والمراد بالهدى: الإرشاد إلى الخير.
(16/198)
وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي. وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشرية حتى قال كثير من علماء الإسلام: إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور. وإنه لذلك لم يعذر أهل الشرك في مدد الفتر التي لم تجئ فيها رسل للأمم. وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام، وحررناها في رسالة النسب النبوي .
وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأولين في سورة البقرة.
وأما قوله: {فَلا يَضِلُّ} فمعناه: أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحوال أخرى. وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غفلات، أو تعارض أدلة، أو انفعال بعادات مستقرة، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلب مرضاتهم. وهذا سقراط وهو سيد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد رب الحكمة. وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علام الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى، وأيدهم الله. وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء، وكونهم تكوينا خاصا مناسبا لما سبق في علمه من مراده منهم، وثبت قلوبهم على تحمل الأهواء، ولا يخافون في الله لومة لائم. وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات.
والشقاء المنفي في قوله: {وَلا يَشْقَى} هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة.
وبدل لهذا مقابلة ضده في قوله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حاله في الدنيا والآخرة، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة، أي مدة الحياة.
والضنك: مصدر ضنك، من باب كرم ضناكة وضنكا، ولكونه مصدرا لم يتغير لفظه
(16/199)
باختلاف موصوفه، فوصف به هنا {معيشة} وهي مؤنث. والضنك: الضيق، يقال: مكان ضنك، أي ضيق. ويستعمل مجازا في عسر الأمور في الحياة، قال عنترة:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا ... أشدد وإن نزلوا بضنك أنزل
أي بمنزل ضنك، أي فيه عسر على نازله. وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله. والمعنى: أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسه غير مطمئنة.
وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك المعنى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته؛ فـ {أعمى} الأول مجاز و {أعمى} الثاني حقيقة.
وجملة {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
وجملة {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ} الخ. واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف.
وفي هذه الآية دليل على أن الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك، فكان ذلك مستقرا في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام: بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب، وقال جماعة من أهل السنة والمعتزلة قاطبة: أن معرفة الله واجبةبالعقل1. ولا شك أن المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم.
والإشارة في {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتنا} راجعة إلى العمى المضمن في قوله: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك، وكنت تعرض عن النظر في الآيات حين تدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاء وفاقا.
وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات، وأن تقدير الأول: ونحشره يوم القيامة أعمى وننساه، أي تقصيه من رحمتنا. وتقدير الثاني والثالث: قال كذلك أتتك آياتنا
ـــــــ
1 في المطبوع "بالفعل".
(16/200)
فنسيتها وعميت عنها فكذلك اليوم تنسى وتحشر أعمى.
والنسيان في الموضعين مستعمل كناية أو استعارة في الحرمان من حظوظ الرحمة.
وجملة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} الخ... تذييل، يجوز أن تكون من حكاية ما يخاطب الله به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها التوبيخ له والتنكيل، فالواو عاطفة الجملة على التي قبلها. ويجوز أن تكون تذييلا للقصة وليست من الخطاب المخاطب به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها موعظة السامعين ليحذوا من أن يصيروا إلى مثل ذلك المصير، فالواو اعتراضية لأن التذييل اعتراض في آخر الكلام، والواو الاعتراضية راجعة إلى الواو العاطفة إلا أنها عاطفة مجموع كلام على مجموع كلام آخر لا على بعض الكلام المعطوف عليه.
والمعنى: ومثل ذلك الجزاء نجزي من أسرف، أي كفر ولم يؤمن بآيات ربه.
فالإسراف: الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبها.
والمشار إليه بقوله: {وكذلك} هو مضمون قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي وكذلك نجزي في الدنيا الذين أسرفوا ولم يؤمنوا بالآيات.
وأعقبه بقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} وهذا يجوز أن يكون تذييلا للقصة وليس من حكاية خطاب الله للذي حشره يوم القيامة أعمى. فالمراد بعذاب الآخرة مقابل عذاب الدنيا المفاد من قوله {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية، والواو اعتراضية. ويجوز أن تكون الجملة من حكاية خطاب الله للذي يحشره أعمى، فالمراد بعذاب الآخرة العذاب الذي وقع فيه المخاطب، أي أشد من عذاب الدنيا وأبقى منه لأنه أطول مدة.
[128] {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى}
تفريع على الوعيد المتقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [طه: 127]. جعل الاستفهام الإنكاري التعجيبي مفرعا على الإخبار بالجزاء بالمعيشة الضنك لمن أعرض عن توحيد الله لأنه سبب عليه لا محالة، تعجيبا من حال غفلة المخاطبين المشركين عما حل بالأمم المماثلة لهم في الإشراك والإعراض عن كتب
(16/201)
الله وآيات الرسل.
فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى معروف من مقام التعريض بالتحذير والإنذار بقرينة قوله {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ، فإنه لا يصلح إلا أن يكون حالا لقوم أحياء يومئذ.
والهداية هنا مستعارة للإرشاد إلى الأمور العقلية بتنزيل العقلي منزلة الحسي، فيؤول معناها إلى معنى التبيين، ولذلك عدي فعلها باللام، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} في سورة الأعراف [100].
وجملة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} معلقة فعل {يهد} عن العمل في المفعول لوجود اسم الاستفهام بعدها، أي ألم يرشدهم إلى جواب {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} ، أي كثرة إهلاكنا القرون. وفاعل {يهد} ضمير دل عليه السياق وهو ضمير الجلالة. والمعنى: أفلم يهد الله لهم جواب {كَمْ أَهْلَكْنَا} ويجوز أن يكون الفاعل مضمون جملة {كَمْ أَهْلَكْنَا} والمعنى: أفلم يبين لهم هذا السؤال، على أن مفعول {يهد} محذوف تنزيلا للفعل منزلة اللازم، أي يحصل لهم التبيين.
وجملة {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} حال من الضمير المجرور باللام، لأن عدم التبيين في تلك الحالة أشد غرابة وأحرى بالتعجيب.
والمراد بالقرون: عاد وثمود. فقد كان العرب يمرون بمساكن عاد في رحلاتهم إلى اليمن ونجران وما جاورها، وبمساكن ثمود في رحلاتهم إلى الشام. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بديار ثمود في مسيرهم إلى تبوك.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} في موضع التعليل للإنكار والتعجيب من حال غفلتهم عن هلاك تلك القرون. فحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وللإيذان بالتعليل.
والنهي بضم النون والقصر جمع نهية بضم النون وسكون الهاء: اسم العقل. وقد يستعمل النهى مفردا بمعنى العقل. وفي هذا تعريض بالذين لم يهتدوا بتلك الآيات بأنهم عديمو العقول، كقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
[129 - 130] {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً النهار * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ
(16/202)
النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}
جملة {وَلَوْلا كَلِمَةٌ} عطف على جملة {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [طه: 128] باعتبار ما فيها من التحذير والتهديد والعبرة بالقرون الماضية، بأنهم جديرون بأن يحل بهم مثل ما حل بأولئك. فلما كانوا قد غرتهم أنفسهم بتكذيب الوعيد لما رأوا من تأخر نزول العذاب بهم فكانوا يقولون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29] عقب وعيدهم بالتنبيه على ما يزيل غرورهم إن سبب التأخير كلمة سبقت من الله بذلك لحكم يعلمها. وهذا في معنى قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ:29-30]
والكلمة: مستعملة هنا فيما شأنه أن تدل عليه الكلمات اللفظية من المعاني، وهو المسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي الراجع إلى علم الله تعالى بما سيبرزه للناس من أمر التكوين أو أمر التشريع، أو الوعظ.وتقدم قوله تعالى: {ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في سورة هود [110].
فالكلمة هنا مراد بها: ما علمه الله من تأجيل حلول العذاب بهم،فالله تعالى بحكمته أنظر قريشا فلم يعجل لهم العذاب لأنه أراد أن ينشر الإسلام بمن يؤمن منهم وبذرياتهم. وفي ذلك كرامة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بتيسير أسباب بقاء شرعه وانتشاره لأنه الشريعة الخاتمة. وخص الله منهم بعذاب السيف والأسر من كانوا أشداء في التكذيب والإعراض حكمة منه تعالى، كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [لأنفال: 34].
واللزم بكسر اللام مصدر لازم، كالخصام، استعمل مصدرا لفعل لزم الثاني لقصد المبالغة في قوة المعنى كأنه حاصل من عدة ناس. ويجوز أن يكون وزن فعال بمعنى فاعل، مثل لزاز في قول لبيد:
منا لزاز كريهة جذامها
وسداد في قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
أي لكان الإهلاك الشديد لازما لهم.
(16/203)
فانتصب {لزاما} على أنه خبر {كان}، واسمها ضمير راجع إلى الإهلاك المستفاد من {كَمْ أَهْلَكْنَا} ، أي لكان الإهلاك الذي أهلك مثله من قبلهم من القرون، وهو الاستئصال، لازما لهم.
{وَأَجَلٌ مُسَمّىً} عطف على {كلمة} . والتقدير: لولا كلمة وأجل مسمى يقع عنده الهلاك لكان إهلاكهم لزاما. والمراد بالأجل:ما سيكشف لهم من حلول العذاب: إما في الدنيا بأن حل برجال منهم وهو عذاب البطشة الكبرى يوم بدر، وإما في الآخرة وهو ما سيحل بمن ماتوا كفار منهم. وفي معناه قوله تعالى {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77].
ويظهر أنه شاع في عصر الصحابة تأويل اسم اللزام أنه عذاب توعد الله به مشركي قريش. وقيل: هو عذاب يوم بدر. ففي "صحيح البخاري" عن ابن مسعود قال خمس قد مضين: للدخان، والقمر، والروم، والبطشة، والزام {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} . يريد بذلك إبطال أن يكون اللزام مترقبا في آخر الدنيا. وليس في القرآن ما يحوج إلى تأويل اللزام بهذا كما علمت.
وفرع على ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقولون من التكذيب وبالوعيد لتأخير نزوله بهم. والمعنى: فلا تستعجل لهم العذاب واصبر على تكذيبهم ونحوه الشامل له الموصول في قوله: {مَا يَقُولُونَ} .
وأمره بأن يقبل على مزاولة تزكية نفسه وتزكية أهله بالصلاة، والإعراض عما منع الله الكفار برفاهية العيش، ووعده بأن العاقبة للمتقين.
فالتسبيح هنا مستعمل في الصلاة لاشتمالها على تسبيح الله وتنزيهه.
والباء في قوله: {بِحَمْدِ ربك} للملابسة، وهي ملابسة الفاعل لفعله، أي سبح حامدا ربك، فموقع المجرور موقع الحال.
والأوقات الذكورة هي أوقات الصلااة، وهي وقت الصبح قبل طلوع الشمس. ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل المراد صلاة العصر. وأما الظهر فهي قوله {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} كما سيأتي.
و {من} في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} ابتدائية متعلقة بفعل {فسبح}، وذلك وقتا المغرب والعشاء. وهذا كله من المجمل الذي بينته السنة المتواترة.
(16/204)
وأدخلت الفاء على {فسبح} لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان. فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" ، أي الأبوين، وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وقد تقدم في سورة الإسراء [79].
ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه.
وآناء الليل: ساعاته، وهو جمع إني بكسر الهمزة وسكون النون وياء في آخره. ويقال: إنو بواو في آخره. ويقال: إنى بألف في آخره مقصورا. ويقال: أناء بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره. وجمع ذلك على آناء بوزن أفعال.
وقوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} بالنصب عطف على قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، وطرف الشيء منتهاه. قيل: المراد أول النهار وآخره، وهما وقتا الصبح والمغرب، فيكون من عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض، كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقيل: المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق، وهو بلوغ سيرها وسط الأفق المعبر عنه بالزوال، وهما طرفان طرف النهاية وطرف الزوال، وهو انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: من الآية114]. وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معا لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر وتلك حصة دقيقة.
وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف، كما قال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} فالجمع في قوله {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} من إطلاق اسم الجمع على المثنى، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس، كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
والذي حسنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} .
وقرأ الجمهور {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل، أي رجاء لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضى به نفسك.
ويجوز أن يكون المعنى: لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقا بك وبأمتك. ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" .
(16/205)
وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم {ترضى} بضم التاء أي يرضيك ربك، وهو محتمل للمعنيين.
[131] {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
أعقب أمره بالصبر على ما يقولونه بنهيه عن الإعجاب بما ينعم به من تنعم من المشركين بأموال وبنين في حين كفرهم بالله بأن ذلك لحكم يعلمها الله تعالى، منها إقامة الحجة عليهم، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55، 56]
وذكر الأزواج هنا لدلالته على العائلات والبيوت، أي إلى ما متعناهم وأزواجهم به من المتع؛ فكل زوج ممتع بمتعة في زوجه مما يحسن في نظر كل من محاسن قرينه وما يقارن ذلك من محاسن مشتركة بين الزوجين كالبنين والرياش والمنازل والخدم.
ومد العينين: مستعمل في إطالة النظر للتعجيب لا للإعجاب؛ شبه ذلك بمد اليد لتناول شيء مشتهى. وقد تقدم نظيره في آخر سورة الحجر.
والزهرة بفتح الزاي وسكون الهاء: واحدة الزهر، وهو نور الشجر والنبات. وتستعار للزينة المعجبة المبهتة، لأن منظر الزهرة يزين النبات ويعجب الناظر، فزهرة الحياة: زينة الحياة، أي زينة أمور الحياة من اللباس والأنعام والجنان والنساء والبنين، كقوله تعالى: {فَمَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا} [القصص: 60].
وانتصب {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الحال من اسم الموصول في قوله: {مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} .
وقرأ الجمهور {زهرة} بسكون الهاء. وقرأه يعقوب بفتح الهاء وهي لغة.
{لنفتنهم} متعلق بـ {متعنا} . و "في" للظرفية المجازية، أي ليحصل فتنتهم في خلاله، ففي كل صنف من ذلك المتاع فتنة مناسبة له. واللام للعلة المجازية التي هي عاقبة الشيء، مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 68]
وإنما متعهم الله بزهرة الدنيا لأسباب كثيرة متسلسلة عن نظم الاجتماع فكانت لهم فتنة في دينهم، فجعل الحاصل بمنزلة الباعث.
(16/206)
والفتنة: اضطراب النفس وتبلبل البال من خوف أو توقع أو التواء الأمور، وكانوا لا يخلون من ذلك، فلشركهم يقذف الله في قلوبهم الغم والتوقع، وفتنتهم في الآخرة ظاهرة. فالظرفية هنا كالتي في قول سبرة ابن عمرو الفقعسي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها
...
ونشرب في أثمانها ونقامر
وقوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} في سورة النساء [5].
وجملة {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} تذييل، لأن قوله: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} إلى آخره يفيد أن ما يبدو للناظر من حسن شارتهم مشوب ومبطن بفتنة في النفس وشقاء في العيش وعقاب عليه في الآخرة، فذيل بأن الرزق الميسر من الله للمؤمنين خير من ذلك وأبقى في الدنيا ومنفعته باقية في الآخرة لما يقارنه في الدنيا من الشكر.
فإضافة {وَرِزْقُ رَبِّكَ} إضافة تشريف، وإلا فإن الرزق كله من الله، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفر انهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك.
و {خير} تفضيل، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها. فمنها: خير لصاحبه في العاجل شر عليه في الآجل، ومنها خير مشوب بشرور وفتن، وخير صاف من ذلك، ومنها ملائم ملاءمة قوية، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب السيئة والفتن كالمقرون بالقناعة، فتفضيل الخيرية جاء مجملا يظهر بالتدبر.
{وأبقى} تفضيل على ما متع به الكافرون لأن في رزق الكافرين بقاء، وهو أيضا يظهر بقاؤه بالتدبر فيما يحف به وعواقبه.
[132] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
ذكر الأهل هنا مقابل لذكر الأزواج في قوله {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} فإن من أهل الرجل أزواجه، أي متعتك ومتعة أهلك الصلاة فلا تلفتوا إلى زخارف الدنيا. وأهل الرجل يكونون أمثل من ينتمون إليه.
(16/207)
ومن آثار العمل بهذه الآية في السنة ما في صحيح البخاري : أن فاطمة رضي الله عنها بلغها أن سبيا جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتت تشتكي إليه ما تلقى من الرحى تسأله خادما من السبي فلم تجده. فأخبرت عائشة بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذت وعلي مضجعهما فجلس في جانب الفراش وقال لها ولعلي: "ألا أخبركما بخير لكما مما سألتما تسبحان وتحمدان وتكبران دبر كل صلا ثلاثا وثلاثين فذلك خير لكما من خادم" .
وأمر الله رسوله بما هو أعظم مما يأمر به أهله وهو أن يصطبر على الصلاة. والاصطبار: الانحباس، مطاوع صبره، إذا حبسه، وهو مستعمل مجازا في إكثاره من الصلاة في النوافل. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1-2] الآيات، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الاسراء: 79]
وجملة {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} معترضة بين التي قبلها وبين جملة {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} جعلت تمهيدا لهاته الأخيرة.
والسؤال: الطلب التكليفي، أي ما كلفناك إلا بالعبادة، لأن العبادة شكر الله على ما تفضل به على الخلق ولا يطلب الله منهم جزاء آخر. وهذا إبطال لما تعوده الناس من دفع الجبايات والخراج للملوك وقادة القبائل والجيوش. وفي هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، فجملة {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} مبينة لجملة {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . والمعنى: أن رزق ربك خير وهو مسوق إليك.
والمقصود من هذا الخطاب ابتداء هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويشمل أهله والمؤمنين لأن المعلل به هذه الجملة مشترك في حكمة جميع المسلمين.
وجملة {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} عطف على جملة {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} المعلل بها أمره بالاصطبار للصلاة، أي إنا سألناك التقوى والعاقبة.
وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمرا ويقع في آخره من خير وسر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير. فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير.
واللام للملك تحقيقا لإرادة الخير من العاقبة لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال
(16/208)
الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة. وقد تكون العاقبة في خير الدنيا أيضا للتقوى.
وهذه الجملة تذييل لما فيها من معنى العموم. أي لا تكون العاقبة إلا للتقوى. فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل.
[133] {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}
رجوع إلى التنويه بشأن القرآن، وبأنه أعظم المعجزات. وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113]
والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] فجيء هنا بشنع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا: لولا يأتينا بآية من عند ربه فتؤمن برسالته، كما قال تعالى {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الانبياء: 5].
ولولا حرف تحضيض. وجملة {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} في موضع الحال، والواو للحال، أي قالوا ذلك في حال أنهم أتتهم بينة ما في الصحف الأولى. فالاستفهام إنكاري؛ أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية.
والبينة: الحجة.
و {الصُّحُفِ الْأُولَى} : كتب الأنبياء السابقين. كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19]
والصحف: جمع صحيفة. وهي قطعة من ورق أو كاغد أو خرقة يكتب فيها. ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب.
ووجه اختيار {الصُّحُفِ} هنا على الكتب أن في كل صحيفة من الكتب علما، وأن جميعه حواه القرآن، فكان كل جزء من القرآن آية ودليلا.
(16/209)
وهذه البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن، لأن الرسول موعود به في الكتب السالفة، ولأن في القرآن تصديقا لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع. وقد جاء به رسول أمي ليس من أهل الكتاب ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وكانوا لا يحققون كثيرا منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة.
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز، وهو ما قامت به الحجة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالا. وهذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة:1-2]
وقرأ نافع، وحفص، وابن جاز عن أبي جعفر {تأتهم} بتاء المضارع للمؤنث. وقرأه الباقون بتحتية المذكر لأن تأنيث {بينة} غير حقيقي، وأصل الإسناد التذكير لأن التذكير ليس علامة ولكنه الأصل في الكلام.
[134] {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}
الذي يظهر أن جملة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} معطوفة على جملة {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، وأن المعنى على الارتقاء في الاستدلال عليهم بأنهم ضالون حين أخروا الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وجعلوه متوقفا على أن يأتيهم بآية من ربه، لأن ما هم متلبسون به من الإشراك بالله ضلال بين قد حجبت عن إدراك فساده العادات واشتغال البال بشؤون دين الشرك، فالإشراك وحده كاف في استحقاقهم العذاب ولكن الله رحمهم فلم يؤاخذهم به إلا بعد أن أرسل إليهم رسولا يوقظ عقولهم. فمجيء الرسول بذلك كاف في استدلال العقول على فساد ما هم فيه، فكيف يسألون بعد ذلك إتيان الرسول لهم بآية على صدقه فيما دعاهم إليه من نبذ الشرك لو سلم لهم جدلا أن ما جاءهم من البينة ليس هو بآية، فقد بطل عذرهم من أصله، وهو قولهم: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} وهذا كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
(16/210)
مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 156]. فالضمير في قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن الذي الكلام عليه، أو على الرسول باعتبار وصفه بأنه بينة، أو على إتيان البينة المأخوذ من {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].
وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية خالق الخلق يقتضيه العقل لولا حجب الضلالات والهوى، وأن مجيء الرسل لإيقاظ العقول والفطر، وأن الله لا يؤاخذ أهل الفترة على الإشراك حتى يبعث إليهم رسولا، وأن قريشا كانوا أهل فترة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} : أنهم يقولون ذلك يوم الحساب بعد أن أهلكهم الله الإهلاك المفروض، لأن الإهلاك بعذاب الدنيا يقتضي أنهم معذبون في الآخرة.
و"لولا" حرف تحضيض، مستعمل في اللوم أو الاحتجاج لأنه قد فات وقت الإرسال، فالتقدير: هلا كنت أرسلت إلينا رسولا وانتصب {فنتبع} على جواب التحضيض باعتبار تقدير حصوله فيما مضى.
والذل: الهوان. والخزي: الافتضاح، أي الذل بالعذاب. والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87].
[135] {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}
جواب عن قولهم: {لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وما بينهما اعتراض. والمعنى: كل فريق متربص فأنتم تتربصون بالإيمان، أي تؤخرون الإيمان إلى أن تأتيكم آية من ربي، ونحن نتربص أن يأتيكم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، وتفرع عليه جملة {فتربصوا}. ومادة الفعل المأمور به مستعملة في الدوام بالقرينة، نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، أي فدوموا على تربصكم.
وصيغة الأمر فيه مستعملة في الإنذار، ويسمى المتاركة، أي نترككم وتربصكم لأنا
(16/211)
مؤمنون بسوء مصيركم. وفي معناه قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 30] وفي ما يقرب من هذا جاء قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]
وتنوين { كل} تنوين عوض عن المضاف إليه المفهوم من المقام، كقول الفضل بن عباس اللهبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والتربص: الانتظار. تفعل من البص، وهو انتظار حصول حدث من خير أو شر، وقد تقدم في سورة براء.
وفرغ على المتاركة إعلامهم بأنهم يعلمون في المستقبل من من الفريقين أصحاب الصراط المستقيم ومن هم المهتدون. وهذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون، لأن مثل هذا الكلام لا يقوله في مقام المحاجة والمتاركة إلا الموقن بأنه المحق. وفعل "تعلمون" معلق عن العمل لوجود الاستفهام.
والصراط: الطريق. وهو مستعار هنا للدين والاعتقاد، كقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]
والسوي: فعيل بمعنى مفعول، أي الصراط السوى، وهو مشتق من التسوية.
والمعنى : يحتمل أنهم يعلمون ذلك في الدنيا عند انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، فيكون الذين يعلمون ذلك من يبقى من الكفار المخاطبين حين نزول الآية سواء ممن لم يسلموا مثل أبي جهل، وصناديد المشركين اللذين شاهدوا نصر الدين يوم بدر، أو من أسلموا مثل أبي سفيان، وخالد بن الوليد، ومن شاهدوا عزة الإسلام. ويحتمل أنهم يعلمون ذلك في الآخرة علم اليقين.
وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة وانطواء بساط المقارعة.
ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنها تنظر إلى فاتحة السورة.
(16/212)
وهي قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:2]، لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدر أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
(16/213)
المجلد السابع عشر
سورة الأنبياء
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
سماها السلف "سورة الأنبياء". ففي" صحيح البخاري "عن عبد الله بن مسعود قال: "بنو إسرائيل،والكهف، ومريم، طه، والأنبياء، هن من العتاق الأول وهن من تلادي". ولا يعرف لها اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيا ومريم ولم يأت في سورة القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيا في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} إلى قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطاً} فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء، وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية، على أن من الحقائق المسلمة أن وجه التسمية لا يوجبها.
وهي مكية بالاتفاق. وحكي ابن عطية والقرطبي الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في "الإتقان" استثناء قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح.وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية بالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.
(17/5)
وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، كما سيأتي بيانه، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعرى لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدت الزخرف ثانية وستين في النزول.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة وفي عد أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.
أغراض السورة:
والأغراض التي ذكرت في هذه السور هي:
الإنذار بالبعث، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.
وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من السماء.
والتحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.
والتذكير بأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.
وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم السلام.
والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأنه رحمة للعالمين.
والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع ولا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.
وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة، وذكر
(17/6)
من أشراط الساعة فتح يأجوج ومأجوج.
وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.
ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزي كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.
ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذا لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.
وما يكرهه على فعل ما لا يريد.
وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.
وأعقب ذلك تذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.
ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.
وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال قومه.
وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.
وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.
وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.
وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.
[1] {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} .
افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذرين، فإن المراد بالناس مشركو مكة، ولاقتراب مبالغة في القرب، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقيق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم
(17/7)
بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة، وهي هيئة المغير والمعجل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفا للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارين معرضين عن اقتراب العدو منهم، فالكلام تمثيل.
والمراد من الحساب إما يوم الحساب، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع. أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ، أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوا جزاء أعمالهم. وذلك من الحساب. وفي هذا تعريض بالتهديد لقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضا فهو من استعمال اللفظ في حقيته ومجازه.
واللام في قوله: {لِلنَّاسِ} إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله: {حِسَابُهُمْ} لأن تقديره: حساب لهم، والضمير عائد إلى {اِلنَّاسِ} فصار قوله: {لِلنَّاسِ} مساويا للضمير الذي أضيف إليه "حساب" فكأنه قيل: اقترب حساب للناس لهم فكان تأكيدا لفظيا. وكما تقول: أزف للحي رحيلهم، أصله أزف الرحيل للحي ثم صار أزف للحي رحيلهم، ومنه قول العرب: لا أبا لك، أصله لا أباك، فكانت لام "لك" مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام. قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني
وأصل النظم: اقترب للناس الحساب. وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعرف {اِلنَّاسِ} تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين. ولما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يكنى عنهم بالناس كثيرا في القرآن، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مصاف فصار مثل: اقترب حساب للناس الحساب، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه. ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام، ويجوز أن تكون اللام بمعنى "من" أو بمعنى "إلى" متعلقة بـ {اقْتَرَبَ} فيكون المجرور ظرفا
(17/8)
لغوا، وعن ابن مالك أنه مثل لانتهاء الغاية بقولهم: "تقريب منك".
وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} حال من {الناس} ، أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم. والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.
والغفلة: الذهول عن الشيء وعن طرق علمه، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} في سورة الأنعام وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} في سورة الأعراف.
والإعراض: صرف العقل عن الاشتغال بالشيء. وتقدم في قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} في سورة الأنعام.
ودلت "فِي" على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم. والمعنى: أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.
وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلا عنه، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به. فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.
[2-3] { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}
جملة مبينة لجملة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.
لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيرا لهم بالنظر والاستدلال استغلوا عنه باللعب
(17/9)
واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة.
والذكر: القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.
والمحدث: الجديد، أي الجديد نزوله متكررا، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكرا واحدا فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذرا كانوا ساعتئذ في غفلة. فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صدا.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} في سورة الشعراء، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسباق النظم.
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} في سورة النساء.
وجملة: {اسْتَمَعُوهُ} حال من ضمير النصب في {يَأْتِيهِمْ} وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.
وجملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حال لازمة من ضمير الرفع في {اسْتَمَعُوهُ} مفيدة لجملة: {اسْتَمَعُوهُ} لأن جملة: {اسْتَمَعُوهُ} حال باعتبار أنها مقيدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلا لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادة لقطع معذرتهم المستفاد من قوله: {مُحْدَثٍ} كما علمت.
و {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال من المبتدأ في جملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} وهي احتراس لجملة: {اسْتَمَعُوهُ} أي استماعا لا وعي معه.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} .
جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إلى آخرها لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم
(17/10)
بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.
وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى {لِلنَّاسِ} وليست جملة: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} عطفا على جملة: {اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى. ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.
وجملة: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بدل من {النَّجْوَى} لأن ذلك هو ما تناجوا به. فهو بدل مطابق. وليست هي كجملة: {قالوا إن هذان لساحران} من جملة: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} في سورة طه فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.
ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطله المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم.
والنجوى: المحادثة الخفية. والإسرار: هو الكتمان والكلام الخفي جدا. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} في سورة براءة، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا لـ {أَسَرُّوا} في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} في سورة طه، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.
والاستفهام في قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم.
وكذلك الاستفهام في قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.
والمعنى: أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به
(17/11)
فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه.
وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى الله عليه وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتيانا، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحرا فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} في سورة فصلت.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} في موضع الحال، أي تأتون السحر وبصركم سليم، وأرادوا به العلم البديهي، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.
[4] {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فيعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر، فالتعريف في {الْقَوْلَ} للاستغراق، وبذلك كان هذا تذييلا، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقرأ الجمهور {قُلْ} بصيغة الأمر. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص، وخلف {قَالَ} بصيغة الماضي، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة، أي قال الرسول لهم، حكى الله ما قاله الرسول لهم، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور {قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.
وإنما لم يقل يعلم السر لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السر وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسر وغيره بناء على متعارف الناس. وأما قوله في سورة الفرقان: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار، وكان قول الذين كفروا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} صادرا منهم تارة جهرا وتارة سرا فأعلمهم الله باطلاعه على سرهم. ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.
[5] {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} .
(17/12)
{بَلْ} الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين، وهو زعمهم أن ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها، فضمير {قَالُوا} لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.
و {بَلْ} الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن. والمعنى: بل افتراه واختلقه من غير أحلام، أي هو كلام مكذوب.
ثم انتقلوا فقالوا {هُوَ شَاعِرٌ} أي كلامه شعر، فحرف "بل" الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن. وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل: الباطل لجلج، أي ملتبس متردد فيه.
ويجوز أن تكون "بل" الثانية والثالثة مثل "بل" الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم. والتقدير: بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالا.
والأضغاث: جمع ضغث بكسر الضاد، وهو الحزمة من أعواد أو عشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقا كما في سورة يوسف [44] {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.
وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة دل على صدقة غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.
ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاء بأنها سحر أروج في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة. وقديما قال آل فرعون في معجزات موسى: إنها سحر، بخلاف آية إعجاز القرآن.
ودخلت لام الأمر على فعل الغائب لمعنى إبلاغ الأمر إليه، أي فقولوا له: ائتنا بآية. والتشبيه في قوله: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} في موضع الحال من ضمير {يَأْتِنَا} أي
(17/13)
حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب. قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي
على وعل من ذي المطارة عاقل.
أي عل مخافة وعل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون، أي به.
[6] {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}.
استئناف ابتدائي جوابا على قولهم: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} ، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} في سورة الإسراء.
وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها.
و"ما" نافيه. و "من" في قوله تعالى: {مِنْ قَرْيةٍ} مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف {مَا}.
ومتعلق {آمَنَتْ} محذوف دل عليه السياق، أي ما آمنت بالآيات قرية.
وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} صفة لـ {قَرْيةٍ} وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضا يترقبون الإهلاك.
وذكرت القرية هنا مرادا بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم، فلذلك قيل {أَهْلَكْنَاهَا} دون {أَهْلَكْنَاهُمْ} كما في سورة الكهف: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ} .
وفرعت جملة: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} على جملة: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} مقترنة باستفهام الإنكار، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالا في قولهم: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} وهذا أخذ لهم بلازم قولهم.
(17/14)
[7] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إذ أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى، فبين خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشرا وأن الرسالة ليست إلا وحيا من الله لمن اختاره من البشر.
وقوله: {إِلَّا رِجَالاً} يقتضي أن ليس في النساء رسلا وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أخت موسى ومريم أم عيسى. ثم عرض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.
وجملة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الخ معترضة بين الجمل المتعاطفة.
وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفات، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجعلوا فيه معبرا عنهم بضمائر الغيبة، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غير الكلام إلى الخطاب تسجيلا عليهم وتقريعا لهم بتجهيلهم.
[8] {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
الجسد: الجسم الذي لا حياة فيه، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أئمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً} . وقد تقدم هناك، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} . قيل هو شق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه، أي ما جعلناهم أجراما غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنفي عنهم صفات البشر التي خاصتها أكل الطعام، وهذا رد لما يقولونه {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} مع قولهم هنا: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .
وذكر الجسد يقيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين
(17/15)
كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادا بلا أرواح، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة، لقطع معاذير الضالين، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
وأتي في نفي الخلود عنهم بصيغة {مَا كَانُوا} تحقيقا لتمكن عدم الخلود منهم.
[9] {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} .
{ثُمَّ} عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى: وأهم مما ذكر أنا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشير للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين.
والمراد بالوعد وعدهم النصر على المكذبين بقرينة قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ} المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وفي هذا تقريع للمشركين، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} في سورة يونس.
وانتصب الوعد بـ {صَدَقْنَاهُمْ} على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال: صدقناهم في الوعد، لأن "صدق" لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل: "صدقني سن بكره"1.
ـــــــ
1 في "مجمع الأمثال" للميداني يضرب مثلا في الصدق. وأصله أن رجلا ساوم آخر في بكر وهو الفتى من الإبل, وقال: ما سنه؟ قال: بازل, الكهل من الإبل فنفر البعير فدعاه صاحبه هدع هدع وهو صوت تسكن به الصغار من الإبل, فقال المساوم: "صدقني سن بكرة".
(17/16)
والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى: {مَنْ نَشَاءُ} احتباك، والتقدير: فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان، ولذلك لم يقل: ونهلك المسرفين، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حل بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.
والمسرفون: المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.
[10] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
استئناف جواب عن قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقا، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.
ولقصد هذا الإيقاظ صدرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل {أَنْزَلْنَا} بحرف "إلى" شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور بـ"إلى" هو المنزل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال: لقد أنزلنا لكم.
وتنكير {كِتَاباً} للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين: كونه كتاب هدى، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه.
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح، ويطلق على السمعة والصيت كقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا
(17/17)
بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها فيصح قصد المعنيين معا من كلمة "الذكر" بان مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى، هو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم، ومجيئه بلغتهم، وفي قومهم، وبواسطة واحد منهم، سمعة عظيمة لهم كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ}.
وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين. وفي تفسير الطبري هنا قال جماعة: معنى {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أنه الشرف، أي فيه شرفكم. وقال ابن عطية: يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور. وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} .
وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى: {أَفَلَا تَعْقِلُونْ} أحسن موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفا.
وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} في سورة العنكبوت، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.
[11-14 ]{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
عطف على قوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أو على قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} ، وهو تعريض بالتهديد.
ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم. وفيه تعريض بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم، فهو تعريض بإنذار
(17/18)
المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة، وأن الله ينشئ بعدهم أمة مؤمنة كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} في سورة إبراهيم.
و"كم" اسم، له حق صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه، والتقدير: قصمنا كثيرا من القرى ف"كم" هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل { قصمنا} .
وفي "كم" الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حال بهم لا محالة بحكم العموم، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة، فما روي عن ابن عباس: أن المراد بالقرية حضوراء بفتح الحاء مدينة باليمن قتلوا نبيا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبي بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم. فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية، والتقدير: قصمنا كثيرا. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام.
وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} .
ووجه اختيار لفظ {قَرْيةٍ} هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} .
وحرف "من" في قوله تعالى: {مِن قَرْيَةٍ} لبيان الجنس، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام "كم".
والقصم: الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع. واستعير للاستئصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ.
وجملة: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } معترضة بين جملة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وجملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} الخ. فجملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} الخ تفريع على جملة: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} .
وضمير {منها} عائد إلى {قرية}.
(17/19)
والإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
والبأس: شدة الألم والعذاب. وحرف "من" في قوله: {مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يجوز أن يكون للابتداء، أي خارجين منها، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل {يَرْكُضُونَ} معنى "يهربون"، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بد من تقدير مضاف، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية. وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.
والركض: سرعة سير الفرس، وأصله الضرب بالرجل فيسمى به العدو، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس.
و"منها" ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.
ودخلت "إذا" الفجائية في جواب "لما" للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع. وليست "إذا" الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط، و"إذا" الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه.
وجملة: {لا تَرْكُضُوا} معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم كالحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة وهذا كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي
بذي الطبسين فالتقت ورائيا.
أي لما دعاه الهوى، أي ذكره أحبابه وهو غاز بذي الطبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه.
وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} ، وبين جملة: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب. وهذا ما فسر به المفسرون ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية. وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم.
(17/20)
والإتراف: إعطاء الترف، وهو النعيم ورفه العيش، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} من جملة التهكم. وذكر المفسرون في معنى {تُسْأَلُونْ} احتمالات ستة. أظهرها: أن المعنى: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك، وفي هذا تكملة للتهكم.
وجملة: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} إن جعلت جملة: {لا تَرْكُضُوا} معترضة على ما قررته آنفا تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
وإن جعلت جملة: {لَا تَرْكُضُوا} مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} جوابا لقول من قال لهم {لَا تَرْكُضُوا} على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيناه غير مرة، أي قالوا: قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} في سورة الملك.
[15] {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} .
تفريع على جملة: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، فاسم تلك إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى: {قَالَوا يَا وَيْلَنَا} ، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يدعون بها على أنفسهم.
وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر، بخلاف الكلام المسوق جوابا فإنه لا داعي إلى إعادته.
والمعنى: فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم.
(17/21)
وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} في سورة يونس. أي فما زال يكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد، أي أهلكناهم.
وحرف "حتى" مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} .
والحصيد: فعيل بمعنى مفعول، أي المحصود. وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا.
والحصد: جز الزرع والنبات بالمنجل لا باليد. وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد.
والخامد: اسم فاعل من خمدت النار تخمد بضم الميم إذا زال لهيبها.
شبهوا بزرع حصد، أي بعد أن كان قائما على سوقه خضرا، فهو يتضمن تشبيههم قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة، كما شبه بالزرع في قوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} في سورة الفتح. ويقال للناشئ: أنبته الله نباتا حسنا قال تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} في سورة آل عمران. فللإشارة إلى الشبهين شبه البهجة وشبه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحصيد.
وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} في سورة المائدة وقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة. فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوم حقيقة الاستعارة خلافا للعلامتين التفتزاني والجرجاني في شرحيهما للمفتاح متمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى: {جَعَلْنَاهُمْ} ، فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهبت قوتها وحذف المشبه بهما ورمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان {حَصِيدَاً} وصفا في المعنى للضمير المنصوب في {جَعَلْنَاهُمْ} ، فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى: {وَحَب الحَصِيدْ} ، وبذلك لم يكن قوله تعالى: {حَصِيدَاً} من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى: {خَامِدينْ} الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر، ومبنى الاستعارة على
(17/22)
تناسي التشبيه. وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف.
وانتصب {حَصِيداً خَامِدِينَ} على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر، فإن مفعولي "جعل" أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفا لأولهما كما هو ظاهر.
[16-17] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}
كثر في القرآن الاستدلال بإيقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نظمها وسننها وفطرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى: في سورة الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . وقد بينا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.
وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المنسبة بين خلق ما قي السماوات والأرض ملتبسا بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عمتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، والى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقي فيها النفوس جزاء ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقا.
فلذلك كثر أن تعقب الآيات المبينة لما في الخلق من الحق بالآيات التي تذكر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} في آخر سورة المؤمنين، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} آخر الحجر، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} في سورة ص، وقوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ َمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} في سورة الدخان، وقوله
(17/23)
تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في سورة الأحقاف إلى غير هذه الآيات.
فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كل مخلوق ما به قوامه، فإذا كانت تلك سنة الله في خلق العوالم ظرفها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تختلف في رتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علمهم أنهم لا يفرقون ذلك بالموت بل إن لهم حياة آخرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.
ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.
وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآيات ختام سورة آل عمران.
ولأجل هذا طرد أو كاد أن يطرد ذكر لفظ {وَمَا بَيْنَهُمَا} بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبا منظورا فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك ولكنه بني على النفي أخذا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبا.
واللعب: العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر، وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل: لابد للعاقل من حمقة يعيش بها. ويرادفه العبث واللهو، وضده: الجد. واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحق أيضا.
(17/24)
وانتصب {لَاعِبِينْ} على الحال من ضمير {خَلَقْنَا} وهي حال لازمة إذا لا يستقيم المعنى بدونها.
وجملة: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} مقررة لمعنى جملة: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ، تقرير بالاستدلال على مضمون الجملة، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو "لدن" مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى: من {لَدُنَّا} أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين. فالظرفية المفادة من "لدن" ظرفية مجازية. وإضافة "لدن" إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} في سورة القصص وقوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} في آل عمران، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.
وجملة: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} إن جعلت "إن" شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب "لو" وهو جملة "لاتخذناه" فيكون تكريرا للتلازم، وإن جعلت "إن" حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من "لو" أي ما كنا فاعلين لهوا.
[18] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}
"بل" للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخلق لعبا إضراب إبطال وارتقاء، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهية للباطل بله أن نعمل عملا هو باطل ولعب.
والقذف، حقيقته: رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زجر أو إعدام أو تكوين ما يغلب، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء
(17/25)
يأتي عليه ليتلفه أو يشتته، فالله يبطل الباطل بالحق بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجد في عقولهم إدراكا للتميز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} في سورة الأنفال.
والدمغ: كسر الجسم الصلب الأجوف، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل، وهو استعارة أيضا حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالته كما يزيل القذف الجسم المقذوف، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحق الباطل عند وروده لأن للحق صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} في سورة الرعد.
والزاهق: المنفلت من موضعه والهالك، وفعله كسمع وضرب، والمصدر الزهوق. وتقدم في قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} في سورة براءة وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} في سورة الإسراء.
وعندما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إلى قوله تعالى: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر. ختم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، أي مما تصفون به محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن.
والويل: كلمة دعاء بسوء. وفيها في القران توجيه لأن الويل اسم للعذاب.
[19-20] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ }
عطف على جملة "لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا" مبينة أن كل من في السماوات والأرض عباد الله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقيام بما خلقوا
(17/26)
لأجله، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإضافة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القران.
فاللام في {وله} للملك، والمجرور باللام خبر مقدم. و {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} مبتدأ، وتقديم المجرور للاختصاص، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد ردا على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.
و {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعم العقلاء وغيرهم وغلب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.
وقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ} يجوز أن يكون معطوفا على {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} حالا من المعطوف عليه.
ويجوز أن يكون "من" مبتدأ وجملة "لا يستكبرون عن عبادته" خبرا.
وما صدق "من" جماعة كما دل عليه قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ} بصيغة الجمع.
{وَمَنْ عِنْدَهُ} هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.وعلى كلا الوجهين في موقع جملة: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركين.
والاستحسار: مصدر كالحسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاستيخار، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقل ذلك العمل، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرج مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسورا ضعيفا.وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.
وجملة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بيان لجملة: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يعيا منه.
والليل والنهار: ظرفان. والأصل في الظرف أن يستوعبه الواقع فيه، أي يسبحون
(17/27)
في جميع الليل والنهار.
وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.
والفتور: الانقطاع عن الفعل.
[21] {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}
"أم" هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطف إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك، انتقالا من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص، الذي في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} كما تقدم، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضا بين جملة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } وجملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وليس إضراب الانتقال بمقتض عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه، و"أم" تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق الاستفهام وهو استفهام إنكاري، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.
وضمير "اتخذوا" عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتا عن ضمير {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ، ويجوز أن يكون متناسقا مع ضمائر { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وما بعده.
ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين، وإظهار لأفن رأيهم، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضا بأن ما كان مثل ذلك لا يستحق أن يكون معبودا، كما قال إبراهيم عليه السلام {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} في الصافات.
وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ} لأن المراد أهل السماء، وجملة: {هُمْ يَنْشُرُونْ} صفة ثانية لـ {آلِهَةً}.
واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة.
والمراد: إنشار
(17/28)
الأموات، أي بعثهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سوق غيره المسمى بتجاهل المعارف، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه، أي أن الأولى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأن وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإن نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت، والمشركون لم يدعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعا في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة النحل في ذكر الآلهة: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
[22] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
جملة مبنية للإنكار الذي في قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} ولذلك فصلت ولم تعطف.
وضمير المثنى عائد إلى {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامها الذي خلقتا به.
وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء.
وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق السماوات والأرض، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } في سورة الزمر، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} في سورة الزخرف. فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك، ولكنها
(17/29)
منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.
والفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء. ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيها. فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة. ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجر والزرع، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.
ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الإلهية المعروفة آثارها، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إرادتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثا للاستغناء بواحد منهم، ولأنه إذا حصل كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثرين على مؤثر واحد وهو محال لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافا بالأنواع، أو بالأحوال، أو بالبقاع، فالإله الذي لا تنفذ إرادته بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره.
ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم فكل يغار على ما في سلطانه.
فثبت أن التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوث الخلاف.
ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم، وكان مقتضيا تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه، تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يهلك كل ما هو تحت سلطانه فلا يزال يفسد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في سورة المؤمنون.
فلا جرم دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامها في متعدد العصور والأحوال على أن إلهها واحد غير متعدد.
فأما لو فرض التفاوت في حقيقته الإلهية فإن ذلك يقتضي رجحان بعض الآلهة على
(17/30)
بعض، وهو أدخل في اقتضاء الفساد إذ تصير الغلبة للأقوى منهم فيجعل الكل تحت كلاكله، ويفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حوزته فيكون الفساد أسرع.
وهذا الاستدلال باعتبار كونه مسوقا لإبطال تعدد خاص، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشر أو أحدهما للنور والآخر للظلمة هو دليل قطعي.
وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسموه برهان التمانع، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتزاني في شرح النسفية . وقال في المقاصد : وفي بعضها ضعف لا يخفى.
وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العرف وهو قياس إقناعي.
ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة، أي يمنع بعضهم بعضا من تنفيذ مراده، والخوض فيه مقامنا غني عنه.
والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجه عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلا قطعيا لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. وسيجيء في سورة المؤمنون.
وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب المواقف .
الأولى: طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة. وتقريرها: أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة، فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعل إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر بفتح المثلثة واحد وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد. وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مرجح لاستوائهما في الصفة والموصوف بها، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة.
(17/31)
ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور:
أحدها: أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة بل يجوز عقلا أن يكون أحدهما أقوى قدرة من الآخر، وأجيب عنه بأن العجز مطلقا مناف للألوهية بداهة. قاله عبد الحكيم في حاشية البيضاوي .
الأمر الثاني: يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمر الذي لم يرده الآخر فلا يلزم عجز من لم يفعل.
الأمر الثالث: يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال.
الأمر الرابع: يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل فلا يلزم عجز المفوض لأن عدم إيجاد المقدور لمانع أراده القادر لا يسمى عجزا، لا سيما وقد حصل مراده، وإن لم يفعله بنفسه.
والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أن في جميعها نقصا في الألوهية لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال.
إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع.
الطريقة الثانية: عول عليها التفتزاني في "شرح العقائد النسفية" وهي أن تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما، أي أن يمنع أحدهما ما يريده الآخر، لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة. وإذا كان هذا الإمكان لازما للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذا تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده، فلا يصح أن يحصل المرادان معا للزوم اجتماع النقيضين، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل، والعجز يستلزم الحدوث وهو محال، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازم لازم لازم للتعدد وهو محال، ولازم اللازم لازم فيكون الملزوم الأول محالا، قال التفتزاني: وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع.
وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل، لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أن اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء. والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة فعلمهما وحكمتهما يقتضيان
(17/32)
انكشافا متماثلا فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع. ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي.
بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى.
وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أن الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما، وإن كان احتمالا صحيحا لكن يصير به تعدد الإله عبثا لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر. فالآية دليل قطعي.
ثم رجع عن ذلك في شرح النسفية فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلا قطعيا إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى: {فِيهِمَا} ، وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير، أي لو كان مؤثر فيهما، أي السماوات والأرض غير الله تكون الآية حجة قطعية. وقد بسطه عبد الحكيم في حاشيته على الخيالي ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا.
والاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهَ} استثناء من أحد طرفي القضية لا من النسبة الحكيمة، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم. وذلك من مواقع الاستثناء لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبل الاستثناء وذلك في المفرغ وفي المنصوب، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ فيقال حينئذ إن "إلا" بمعنى غير والمستثنى يعرب بدلا من المستثنى منه.
وفرع على هذا الاستدلال إنشاء تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي عما يصفونه به من وجود الشريك.
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة.
ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات وهو شيء ينازعون فيه بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها وهو العرش تعريضا بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك.
(17/33)
[23] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} كما تقدم عند قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} الخ. فالمعنى أن من عنده وهم المقربون من المخلوقات هم مع قربهم يسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حد الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله. فلما كان الضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل مشعرا بفاعل حذف لقصد التعميم، أي لا يسأل سائل الله تعالى عما يفعل. وكان ممن يشملهم الفاعل المحذوف هم من عنده من المقربين، صح كون هذه الجملة حالا من "من عنده"، على أن جملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} تمهيد لجملة: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
على أن تقديمه على جملة: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} اقتضته مناسبة الحديث عن تنزيهه تعالى عن الشركاء فكان انتقالا بديعا بالرجوع إلى بقية أحوال المقربين.
فالمقصود أن من عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون.
وبهذا تعلم أن ليس ضمير {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} براجع إلى ما رجع إليه ضمير {يَصِفُونْ} لأن أولئك لا جدوى للإخبار بأنهم يسألون إذ لا يتردد في العلم بذلك أحذ، ولا براجع إلى {آلِهَة مِنَ الأَرْضِ} لعدم صحة سؤالهم، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} حالا من {مِنْ عِنْدِهِ} .
والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل وبمظنة للخطأ في بعض ما يفعل.
وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في البقرة، ولا سؤال الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرة بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب
(17/34)
مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لإلهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة {لا يسأل عما يفعل} كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبر فيها أو كشف له عما خفي منها.
[24] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
جملة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} تأكيد لجملة: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ} . أكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاما لفظاعته وليبنى عليه استدلال آخر كما بني على نظيره السابق؛ فإن الأول بني عليه دليل استحالة من طريق العقل، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابقها ولاحقها، فلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي، هاتوا دليلا على أن لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.
والبرهان: الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَاالنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة النساء.
والإشارة في قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي} إلى مقدر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه، كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} في سورة لقمان، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة {ذِكْرُ} إلى {مَن مَعِي} من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكرون بفتح الكاف.
والمعية في قوله تعالى: {مَن مَعِي} معية المتابعة، أي من معي من المسلمين، فما صدق "من" الموصولة الأمم، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} . والمراد بقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَن مَعِي} القرآن، وأما قوله تعالى: {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة: التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا
(17/35)
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} في آل عمران.
وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانيا، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون علمه.
والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.
وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلا عليهم بأن قليلا منهم يعلمون الحق ويجحدونه، أو إيماء إلى أن قليلا منهم تهيأت نفوسهم لقبول الحق. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوبا فيه سورة طه فأقبل على قراءاته بشراشره فما أتمهما حتى عزم على الإسلام.
[25] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقيه أقبل على رسوله صلى الله عليه وسلم بتأييد مقاله الذي لقنه أن يجيبهم به وهو قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} ، فأفاده تعميمه في شرائع سائر الرسل سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب، وساء من كان كتابه باقيا مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم.
وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقرير تبعا لفائدتها المقصودة. وفيها إظهار لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر وقطع دابره إصلاحا لعقولهم بأن يزال منها أفظع خطل وأسخف رأي، ولم تقطع دابر الشرك شريعة كما قطعه الإسلام بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمة.
وحرف "من" في قوله تعالى: {مِنْ رَسُولٍ} مزيد لتوكيد النفي.
(17/36)
وفرع فيما أوحي إليهم أمره إياهم بعبادته على الإعلان بأنه لا إله غيره، فكان استحقاق العبادة خاصا به تعالى.
وقرأ الجمهور {إلا يوحى إليه} بمثناة تحتية مبنيا للنائب، وقرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون مبنيا للفاعل، والاستثناء المفرع في موضع الحال.
[26-29] {قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}
عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى. فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو اعتقادهم أن الله اتخذ ولدا. وقد كانت خزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعض من قريش وغيرهم من العرب. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} في سورة النحل.
والولد اسم جمع مفرده مثله، أي اتخذ أولادا، والولد يشمل الذكر والأنثى، والذين قالوا اتخذ الله ولدا أرادوا أنه اتخذ بنات قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ}.
ولما كان اتخاذ الولد نقصا في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة {سُبْحَانَهُ} تنزيها له عن ذلك فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى: في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}.
ولما كان المراد من قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أنهم زعموا الملائكة بنات الله تعالى أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عباد دون ذكر المبتدأ للعلم به. والتقدير: بل الملائكة عباد مكرمون، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين.
والسبق، حقيقته: التقدم في السير على سائر آخر. وقد شاع إطلاقه مجازا على
(17/37)
التقدم في كل عمل. ومنه السبق في القول، أي التكلم قبل الغير كما في هذه الآية. ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة، أي كناية عن التعظيم والتوقير. ونظيره في ذلك النهي عن التقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فإن التقدم في معنى السبق.
فقوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله، أي لا يقولون ما أذن لهم أن يقولوه. وهذا عام يدخل فيه الرد على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح نفيه.
وتقديم {بأمره} على {يعلمون} لإفادة القصر، أي لا يعلمون عملا إلا عن أمر الله تعالى فكما أنهم لا يقولون قولا لم يأذن فيه كذلك لا يعلمون عملا إلا بأمره.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} تقدم نظيره في سورة البقرة.
وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} تخصيص بالذكر ليعض ما شمله قوله تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} اهتماما بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.
وحذف مفعول "ارتضى" لأنه عائد صلة منصوب بفعل، والتقدير: لمن ارتضاه، أي ارتضى الشفاعة له بأن بأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} في سورة الشورى. وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول.
ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريرا بقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره.
و"من" في قوله تعالى: {مِنْ خَشْيَتِهِ} للتعليل، والمجرور ظرف مستقر، وهو حال من المبتدأ. و {مشفقون} خبر، أي وهم لأجل خشيته، أي خشيتهم إياه.
والإشفاق: توقع المكروه والحذر منه.
والشرط الذي في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} الخ... شرط
(17/38)
على سبيل الفرض، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادعوا لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه، وأنهم ادعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
وعدل عن "إن" الشرطية إلى "من" الشرطية للدلالة على العموم مع الإيجاز. وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط، وفي هذا إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى عليه السلام وأنهم يقولون عليه ما لم يقله. ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكا. والظلم: الشرك.
[30] {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} .
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}
قرأ الجمهور {أولم} بواو بعد الهمزة وهي واو العطف، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير {ألم ير} بدون واو عطف. قال أبو شامة: ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت: معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزم قراء مكة رواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير، وأهملت غير قراءته.
والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.
والرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جدير أيضا بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.
والرتق: الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.
والفتق: ضده وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.
(17/39)
والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.
ثم إن قوله تعالى: {كَانَتَا} يحتمل أن تكونا معا رتقا واحدا بأن تكون السماوات والأرض جسما ملتئما متصلا. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقا على حدتها، والأرض رتقا على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا}.
وإنما لم يقل نحو: فصارتا فتقا، لأن الرتق متمكن منهما أشد تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.
والرتق يحتمل أن يراد به معان تنشأ على محتملاتها معان في الفتق، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتق المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض، والفتق هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلا من السماء ويرى البريق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة، كما قال ابن عطية: أي هو عبرة دلالة على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} في سورة فاطر.
وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية، وكان الاستفهام أيضا إنكاريا متوجها إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معان غير مشاهدة ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما، أي الاتصال والانفصال. ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة، أي كانت السماوات والأرض رتقا واحدا، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} في سورة هود.
ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع، أي كانت السماوات رتقا في حد ذاتها وكانت الأرض رتقا في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الأرض، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
(17/40)
لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في سورة فصلت.
وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريريا عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوبا بالإنكار على ذلك.
وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضا الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}.
ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد. وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نورا أضاء الموجودات.
ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيرا أو عماء كما جاء في الحديث كان في عماء، فكانت جنسا عاليا متحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد. ثم خلق الله من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكل بعض مميزات ذاتية فصير كل متميز بحقيقة جنسا فصارت أجناسا. ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعا. وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق، وبعض من الصوفية وهو صاحب مرآة العارفين جعل الرتق علما على العنصر الأعظم يعني الجسم الكل، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش. ذكر ذلك الحكيم الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب معارج النور في أسماء الله الحسنى المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام 1185هـ في مقدمات كتابه معارج النور وفي رسالة له سماها "رسالة الفتق والرتق ".
(17/41)
والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعا، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}
زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابسا لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة، ولذلك كان استمرار الحمى مفضيا إلى الهزال ثم إلى الموت.
و"جعل" هنا بمعنى خلق، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال.
و {من الماء} متعلق بـ {جعلنا} . و "من" ابتدائية. وفرع عليه {أَفَلَا يُؤمِنُونْ} إنكارا عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله.
[31] {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين، وجعل فيها الطرق، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال.
والرواسي: الجبال، لأنها رست في الأرض، أي رسخت فيها. والميد: الاضطراب. وقد تقدم في أول سورة النحل.
وتقدم في أول سورة النحل أن معنى {أَنْ تَمِيدَ} أن لا تميد، أو لكراهة أن تميد. والمعنى: وجعلنا في الأرض فجاجا. ولما كان "فجاجا" معناه واسعة كان في المعنى وصفا للسبيل، فلما قدم على موصوفه انتصب على الحال. والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقا واسعة ولو شار لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأدوية.
(17/42)
والفجاج: جمع فج. والفج: الطريق الواسع.
والسبل: جمع سبيل، وهو: الطريق مطلقا.
وجملة: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء في السير، أي جعلنا سبلا واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله.
فقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} من الكلام الموجه.
[32] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}
لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس. فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} وبقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وأما حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} . فأدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به.
والسقف، حقيقته: غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة، وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وقد تقدم في أول سورة الرعد.
وجملة: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} في موضع الحال. وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات. وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد.
(17/43)
[33] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}
لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرفة الجزأين لإفادة القصر، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء، لأنهم لما عبدوا الأصنام، والعبادة شكر، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية.
ولكون المنة والعبرة في أيجاد نفس الليل والنهار، ونفس الشمس والقمر، لا في إيجادها على حالة خاصة، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل.
وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تفيض النور على الموجودات، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض.
وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية، فخلق النهار تبع لخلق الشمس وخلق الأرض ومقابلة الأرض لأشعة الشمس، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم.
وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكرا مجملا في بعضها الذي هو آيات السماء، ومفصلا في بعض آخر وهو الشمس والقمر، كان المقام مثيرا في نفوس السامعين سؤالا عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير
(17/44)
فيه لا يلاقي فضاء سير غيره.
وضمير {يُسَبِّحُونْ} عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القمر والكوكب.
وقال في الكشاف : "إنه روعي فيه وصفها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضا ضمير العقلاء، يعني فيكون ذلك ترشيحا للاستعارة".
وقوله تعالى: {فِي فَلَكٍ} ظرف مستقر خبر عن {كل} ، و {كل} مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل تلك، فهو معرفة تقديرا. وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلا من المذكورات مستقر في فلك لا يصادم فلك غيره، وقد علم من لفظ "كل" ومن ظرفية "في" أن لفظ {فلك} عام، أي لكل منها فلكه فهي أفلاك كثيرة.
وجملة: {يَسْبَحُونَ} في موضع الحال.
والسبح: مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.
والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكوا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر.
والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد. والأصل الأصيل في ذلك كله فلكه المغزل بفتح الفاء وسكون اللام وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغزل.
ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} فيه محسن بديعي فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سماه السكاكي المقلوب المستوي وجعله من أصناف نوع سماه القلب. وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسماها الحريري في
(17/45)
المقامات ما لا يستحيل بالانعكاس وبني عليه المقامة السادسة عشرة ووضح أمثله نثرا ونظما، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولا زادت ثقلا.
قال العلامة الشيرازي في شرح المفتاح : " وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال". قلت: "ولم يذكروا منه شيئا وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن".
ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زار العماد الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد: سر فلا كبا بك الفرس فقطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة: دام علا العماد وفيه محسن القلب.
[34] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}
عنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، وقولهم: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم أو يرجونه أو يدبرونه قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} في سورة الطور وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} في الأنفال.
وقد دل على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريب المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتم شماتتهم، أو كأنهم لا يموتون أبدا فلا يشمت بهم أحد، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشمتون به فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أهلك الله رؤوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام.
ففي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} طريقة القول بالموجب، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا
(17/46)
بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجب، أي ما هم بخالدين حتى يوقنوا أنهم يرون موتك. وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذار لهم بأنهم لا يرى موته منهم أحد.
[35] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين.
ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها، وهي {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} . ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين.
واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن.
وذوق الموت ذوق آلام مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد.
والمراد بالنفس النفوس الحالة في الأجساد كالإنسان والحيوان. ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيدا بوصف المجردات، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة. وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة: إما لفظية كما في قوله تعالى: "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" في سورة المائدة، وإما تقديرية كما في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} في آل عمران.
وجملة: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشر جميع الأحياء، فعلم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلد. وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى: "ليرجعن رسول الله فيقطع أيدي قوم وأرجلهم" حتى حضر أبو بكر رضي الله عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبله وقال: طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين. وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد:
(17/47)
رأيت المنايا لم يدعن محمدا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشر وأن الدنيا دار ابتلاء.
والبلوى: الاختبار. وتقدم غير مرة. وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة، إطلاق مجازي، لأن ابتناء النظام عليه دل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه. أشبه اختبار المختبر ليعلم أحوال من يختبرهم.
و {فِتْنَةَ} منصوب على المفعولية المطلقة توكيدا لفعل {نَبْلُوكُم} لأن الفتنة ترادف البلوى.
وجملة: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} إثبات للبعث، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر.
وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر. وأما احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ضد ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتهم.
[36] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}
هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبة، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}.
والهزو بضم الهاء وضم الزاي مصدر هزأ به، إذا جعله للعبث والتفكه. ومعنى اتخاذه هزوا أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم في سورة الكهف قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}.
وجملة: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} مبينة لجملة: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} فهي في معنى قول محذوف دل عليه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} لأن الاستهزاء يكون بالكلام. وقد انحصر اتخاذهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه.
والاستفهام مستعمل في التعجيب، واسم الإشارة مستعمل في التحقير، بقرينة الاستهزاء.
ومعنى {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يذكرهم بسوء، بقرينة المقام، لأنهم يعلمون ما يذكر به
(17/48)
آلهتهم مما يسوءهم، فإن الذكر يكون بخير وبشر فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا في قوله تعالى: الآتي {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ}. وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب، ولذلك أعقبه الله بجملة الحال وهي {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}، أي يغضبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكنهها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمان الذي هو الحقيق بأن يذكروه. فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام. والأظهر أن المراد بذكر الرحمان هنا القرآن، أي الذكر الوارد من الرحمان.والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر. ومعنى كفرهم بذكر الرحمان إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا {فلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} . وأيضا كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث.
وعبر عن الله تعالى باسم {الرَّحمَن} توركا عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمان اسما لله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} في سورة الفرقان.
وضمير الفصل في قوله تعالى: {هُمْ كَافِرُونْ} يجوز أن يفيد الحصر، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أن هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر.
ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقا لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر.
[37] {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}
جملة: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} معترضة بين جملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبين جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} ، جعلت مقدمة لجملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} . أما جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} فهي معترضة بين جملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} وبين جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، لأن قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} يثير في نفوس المسلمين تساؤلا عن مدى إمهال المشركين، فكان قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} استئنافا بيانيا جاء معترضا بين الجمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين.
(17/49)
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي "عليه الصلاة والسلام" يهيج حنق المسلمين عليهم فيودوا أن ينزل بالمكذبين الوعيد عاجلا فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين.وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيدا للثانية.
والعجل: السرعة. وخلق الإنسان منه استعارة لنمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة لتكوين موصوفه، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين، فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة. ونحوه قوله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} وقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والكفر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.
وجملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.
والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.
وحذفت ياء المتكلم من كلمة {تَسْتَعْجِلُونْ} تخفيفا مع بقاء حركتها فإذا وقفت عليه حذفت الحركة من النون.
[38-40] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ َبلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
(17/50)
نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكما، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} عطفا على جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} . وهذا معبر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وعنادا.وذكر مقالتهم هذه هنا لاستبطاء المسلمين النصر. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} فيجوز أن تكون معطوفة عليها.وخاطبوا بضمير الجماعة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.
واستفهامهم استعملوه في التهكم مجازا مرسلا بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين موقنين بعدم حصول الوعد.والمراد بالوعد ما توعدهم به القرآن من نصر رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين وقف القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} أي ما وعدنا ربنا وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.
وجملة: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .ماذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.
وجواب "لو" محذوف، تقديره: لما كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً}. وحذف جواب "لو" كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.
و"حين" هنا: اسم منصوب على المفعولية لا على الظرفية،فهو من أسماء الزمان المتصرفة، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عدوا تأخيره دليلا على تكذيبه.
(17/51)
وجملة: {لا يَكُفُّونَ} مضاف إليها {حِينَ} . وضمير {يَكُفُّونَ} فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائد إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجود المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى: في سورة الأنفال {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذارا بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لقوه يوم بدر.
وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض لللطام
ولأن الأدبار يأنف الناس من ضربها لأن ضربها إهانة وخزي، ويسمى الكسع.
والوجه الثاني: أن يكون ضمير {يَكُفُّونَ} عائدا إلى الذين كفروا، والكف بمعنى الدرء والستر مجازا بعلاقة اللزوم، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهة ومدابرة. وذكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.
هذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميع من لدينا كتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ولقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} كما تقدم.
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} عطف على {لا يَكُفُّونَ} ، أي لا يكف عنهم نفح النار، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصا منها ولا يجدون نصيرا من أحلافهم.
و {بَل} للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة، وهو أشد على النفوس لعدم التهيؤ له والتوطن عليه، كما قال كثير:
(17/52)
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}.
وفاعل {تَأْتِيهِمْ} ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} باعتبار الوقعة أو نحو ذلك، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأما على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين في معنى الساعة.
والبغتة: المفاجأة، وهي حدوث شيء غير مترقب.
والبهت: الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة، يقال: بهته فبهت. قال تعالى: في سورة البقرة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي غلب وهو معنى التفريع في قوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أنظروا زمنا طويلا لعلهم يقلعون عن ضلالهم.
وما أشد انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} في الأنفال، وقال تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . ولا شك في أن المستهزئين مثل أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف، كانوا ممن بغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.
وأما إذا أريد بضمير {تَأتِيهِمْ} الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة. وأما أولئك المستهزئون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.
[41] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له. ومناسبة عطفها على جملة: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ}
(17/53)
إلى آخرها ظاهرة.
وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.
[42-44] {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}
{قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}
بعد أن سلي الرسول صلى الله عليه وسلم على استهزائهم بالوعيد أمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظا لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.والاستفهام إنكار وتقريع، أي لا يكلؤكم منه أحد فكيف تجهلون ذلك، تنبيها لهم إذ نسوا نعمه.
وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل: من يكلؤكم في جميع الأوقات.
وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.
وذكر النهار بعده للاستيعاب.
ومعنى {مِنَ الرَّحمَن} من بأسه وعذابه.
وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.
فالإضراب الأول قوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} ، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يرجى منهم الانتفاع بالقوارع، أي أخر السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم.
(17/54)
ثم أضرب إضرابا ثانيا ب"أم" المنقطعة التي هي أخت "بل" مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} ، أي بل ألهم آلهة، والاستفهام إنكار وتقريع، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا. وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.
وجملة: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} مستأنفة معترضة. وضمير {يَسْتَطِيعُونَ} عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم. والمعنى: كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.
ثم أضرب إضرابا ثالثا انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخذ الله إياهم بالعذاب فجرأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد، وهو قوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} ، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مداها حتى طالت أعمار آياتهم. وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمد علمه.
وقد وجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ} ، ثم أعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} الآية في سورة يونس.
و {يُصْحَبُونْ} إما مضارع صحبة إذا خالطه ولازمه، والصحبة تقتضي النصر والتأييد، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعل المبني للنائب مرادا به الله تعالى، أي لا يصحبهم الله، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى: {مِنَّا} متعلقا بـ {يُصْحَبُونَ} على معنى "من" الاتصالية، أي صحبة متصلة بنا بمعنى صحبة متينة. وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفا لقصد العموم، أي لا يصحبهم صاحب، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حماية الجار فيكون قوله تعالى: {مِنَّا} متعلقا بـ {يُصْحَبُونَ} على معنى "من" التي بمعنى "على" كقوله تعالى: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} .
(17/55)
وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه، أي من السوء.
والإشارة بـ {هؤلاء} لحاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.
وقد استقربت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفار قريش.
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}
تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدهم تأخير الوعد به دليلا على تكذيب وقوعه حتى قالوا: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تهكما وتكذيبا. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} إلى قوله تعالى: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فرع على ذلك كله استفهاما تعجيبيا من عدم اهتدائهم إلى أمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالا على قربه بحصول أماراته.
والرؤية علمية، وسدت الجملة مسد المفعولين لأنها في تأويل مصدر، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة، لكونه غير جار على مقتضي الغالب المعتاد، فمن تأمل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى. وكفى بذلك دليلا على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعناية ربه به كما دل عليه فعل {نَأتِيَ}.
فالإتيان تمثيل بحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتل ويأسر كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} .
والتعريف في {الْأَرْضَ} تعريف العهد، أي أرض العرب كما في قوله تعالى: في سورة يوسف {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي أرض مصر.
والنقصان: تقليل كمية شيء.
والأطراف: جمع طرف بفتح الطاء والراء. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته. وضده الوسط.
والمراد بنقصان الأرض: نقصان من عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين. والقرينة
(17/56)
المشاهدة.
والمراد: نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة. ومن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.
وجملة: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} دون الفعلية لدلالتها بتعريف جزأيها على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقض. ولما خلت بلدتهم من عدد كثير منهم.
[45] {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}
استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجابهم بالوعد تهكما بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، ومن التهديد الذي وجه إليهم بقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الخ، ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصر المسلمين، واقتراب الوعد بقوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، عقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته، وهي قصره على الإنذار بما سيحل بهم في الدنيا والآخرة إنذار من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن، أي فلا تعرضوا عنه، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك، ولا تسألوا عن تعيين أجال حلول الوعيد، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.
فالكلام قصر موصوف على صفة، وقصره على المتعلق بتلك الصفة تبعا لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين. ولم يظهر لي مثال له من كلام العرب قبل القرآن.
وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم ولذلك ذيل بقوله تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} . والواو للعطف على {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ
(17/57)
بِالْوَحْيِ} عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.
والتعريف في {الصُّمَّ} للاستغراق. والصم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيها لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به. وتقدم في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في سورة البقرة. ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.
وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإنذار لأنه إعراض يفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.
واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم داعيا كما قال: {أدعوا إلى الله على بصيرة}.
والأظهر أن جملة: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} كلام مخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.
وقرأ الجمهور {وَلا يَسْمَعُ} بتحتية في أوله ورفع {الصُّمُّ} . وقرأه ابن عامر {ولا تُسْمَع} بالتاء الفوقية المضمومة ونصب {الصُّمَّ} خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم.
[46] {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
عطف على جملة: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أنذرهم بأنهم سيندمون عندما ينالهم أول العذاب في الآخرة. وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة.
وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء.
والمس: اتصال بظاهر الجسم.
والنفحة: المرة من الرضخ في العطية، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه.
(17/58)
وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر، وبصميمة بناء المرة فيها، والتنكير، وإسناد المس إليها دون فعل آخر أربع مبالغات في التقليل، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حل به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.
والويل تقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة وعند قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} في أول سورة إبراهيم.
ومعنى {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب.
[47] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} الخ لمناسبة قولهم {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، ولبيان أنهم مجازون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بيانا بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المجازين، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} ، وفي المجازي عليه من أجل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}.
ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله: {رَبِّكَ} ، وتكون نون المتكلم المعظم التفاتا لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال: أدى إليه الكيل صاعا بصاع، ولذلك فرع عليه قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} .
ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية. والوضع حقيقته: حط الشيء ونصبه في مكان، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز.
والميزان: اسم آلة الوزن. وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد، وهي تتحد في كونها ذات طبقين متعادلين في الثقل يسميان كفتين بكسر الكاف وتشديد الفاء تكونان من خشب أو من حديد، وإذا كانتا من صفر سميتا صنجتين بصاد مفتوحة ونون ساكنة، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب، في
(17/59)
طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود شاهين وهو موضوع ممدودا، وتجعل بوسطه على السواء عروة لتمسكه منها يد الوازن، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مصوغة في وسط الشاهين فإذا ارتفع الشاهين تحركت تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله، وتسمى تلك الإبرة لسانا، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كل واحد منهما في كفة، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان، وإذا أريد معرفة ثقل شيء في نفسه دون نسيته إلى شيء آخر جعلوا قطعا من معدن: صفر أو نحاس أو حديد أو حجر ذات مقادير مضبوطة مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرطل، فجعلوها تقديرا لتقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض، ووحدتها هو المثقال، ويسمى السنج بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم.
والقسط بكسر القاف وسكون السين اسم المفعول، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزا. وتقدم في قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في سورة آل عمران.
وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا: أهو الحقيقة أم المجاز، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف. فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزانا خاصا به توزن به أعماله، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في سورة القارعة.
ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحدا فواحدا، وأنه بيد جبريل، وعليه فالجمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام.
واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزان الدنيا ولكنه على مثاله تقريبا. وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملا في معناه الحقيقي وهو النصب والإرصاد.
وذهب مجاهد وقتادة والضحاك وروي عن ابن عباس أيضا أن الميزان الواقع في القرآن مثل للعدل في الجزاء كقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} في سورة الأعراف، ومال إليه الطبري. قال في الكشاف : "الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنصفة
(17/60)
من غير أن يظلم أحد" اهـ.
أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} .
والوضع: ترشيح ومستعار للظهور.
وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره.
وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا: الميزان حقيقة، وفريق قالوا: هو مجاز. وقد ذكر القولين في الكشاف فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أئمتهم وصرح به في تقرير المواقف .
وفي المقاصد : ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين اهـ.
قلت: لعله أراد به النسفي في عقائده .
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم من القواصم : انفرد القرآن بذكر الميزان، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها. ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العباد بمقادير أعمالهم. ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا.
وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى. فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف، ومن أراد المشي ليجدن سبيلا مئتاء1 إذ يجد ثلاثة معان ميزانا ووزنا وموزونا، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحا في كل لفظة حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقري فيبطل ما قد أثبت بل يبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه.
وقلت: كلا القولين مقبول والكل متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء. وليس مثل هذه المباحث تعرف قدرة
ـــــــ
1 بكسر الميم وبهمزة ساكنة بعدها ومد في آخره: الطريق العام و المسلوك.
(17/61)
الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تجحد تصرفاته تعالى.
ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله {القسط} في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحا.
وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} في سورة الأعراف.
والقسط: العدل، ويقال: القسطاس، وهو كلمة معربة من اللغة الرومية "اللاطينية". وقد نقل البخاري في آخر صحيحه ذلك عن مجاهد.
فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف، أي ذات القسط. وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلا من الموازين فيكون تجريدا بعد الترشيح. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله فإنه مصدر صالح لذلك.
واللام في قوله تعالى: {لِيُومِ القِيَامَةِ} تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف، أي لأجل يوم القيامة، أي الجزاء في يوم القيامة، وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى "عند" التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال: كتب لثلاث خلون من شهر كذا، وكقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي نضع الموازين عند يوم القيامة.
وتفريع {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة. والظلم: ضد العدل، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل, و"شيئا" منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئا من الظلم.
ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم، أي شيئا من الظلم. ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم من فعل "تظلم" الواقع أيضا في سياق النفي، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك.
وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها، فنفي جنس الظلم ونفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء.
وجملة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} في موضع الحال. و "إِنْ" وصلية دالة على
(17/62)
أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نص على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى. وقد يرد هذا الشرط بحرف "لو" غالبا كما في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران. ويرد بحرف "إن" كما هنا، وقول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وان رديت بردا
وقد تقدم في سورة آل عمران.
وقرأ الجمهور {مِثْقَالَ} بالنصب على أنه خبر "كان" وأن اسمها ضمير عائد إلى {شَيْئَا} . وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة.
وقرأ نافع وأبو جعفر {مِثقَالُ} مرفوعا على أن "كان" تامة و {مِثْقَالَ} فاعل.
ومعنى القراءتين متحد المآل، وهو: أنه إن كان لنفس مثقال حبة من خردل من خير أو من شر يؤت بها في ميزان أعمالها ويجاز عليها.
وجملة: {أَتِينَا بِهَا} على القراءة الأولى مستأنفة، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف. وضمير {بها} عائد إلى {مِثْقَالَ حَبِّةٍ} . واكتسب ضميره التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو {حبة}.
والمثقال: ما يماثل شيئا في الثقل، أي الوزن، فمثقال الحبة: مقدارها. والحبة: الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبابيد كالقطاني.
والخردل: حبوب دقيقة كحب السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخردل. واسمه في علم النبات "سينابيس". وهو صنفان بري وبستاني، وينبت في الهند ومصر وأوروبا. وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر، وأوراقها كبيرة. يخرج أزهار صفرا منها تتكون بزوره إذ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير. وإذا دق هذا الحب ظهرت منه رائحة معطرة إذا قربت من الأنف شما دمعت العينان، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعا وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلا ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونه بالماء دواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجنب والنزلات الصدرية.
(17/63)
جملة: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} عطف على جملة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} . مفعول {كَفَى} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} . والتقدير: وكفى الناس نحن في حال حسابهم.
ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر تعدل مثلنا, وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.
وضمير الجمع في قوله تعالى: {حَاسِبِين} مراعى فيه ضمير العظمة من قوله تعالى: {بِنَا} ، والباء مزيدة للتوكيد. وأصل التركيب: كفينا الناس، وهذه الباء تدخل بعد فعل "كفى" غالبا فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في سورة النساء. وتدخل على مفعوله كما في الحديث: كفى بالمرء إنما أن يحدث بكل ما سمع.
وانتصب {حَاسِبِين} على الحال أو التمييز لنسبة "كفى". وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرة منها في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في سورة النساء.
[48-50] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
عطف على جملة: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} إلى قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء، وأنه ما كان بدعا من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذكر من ذكر عناد الأقوام، وثبات الأقدام، والتأييد من الملك العلام، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} في سورة الإسراء. فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين.
وفي سوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضا لما بنيت عليه السورة من قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} الآيات ثم قوله تعالى:
(17/64)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ثم قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} . واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} .
وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام.
وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة.
ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب.
والفرقان: ما يفرق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل. وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم، فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} في سورة الصافات.
والإخبار عن الفرقان بإسناد إتيانه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يعد كونه إيتاء من الله تعالى ووحيا كما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه السلام ما جاء إلا بمثله. وفيه تنبيه على جلالة ذلك الموتى.
ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} في سورة غافر. ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في سورة البقرة.
وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى: الآتي {وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} . وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيما لبعض بل هي صفات متداخلة، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث.
والضياء: النور. يستعمل مجازا في الهدى والعلم، وهو استعمال كثير، وهو المراد هنا وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} في سورة المائدة.
(17/65)
والذكر أصله: خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله. فقوله تعالى: {لِلمُتَّقِينْ} يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول، أي الذين اتصفوا بتقوى الله، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة، أي ذكر لأجل المتقين، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.
ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بيانا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وهو على نحو قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة.
والباء في قوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} بمعنى "في". والغيب: ما غاب عن عيون الناس، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.
والإشفاق: رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة: الإشفاق من أهوالها، فهم يعدون لها عدتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهؤلاء هم فرعون وقومه.
وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه، وهو المقابلة بقوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.
واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في سورة النحل.
ووصف القرآن بالمبارك يعم نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير؛ فالقرآن كله خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته، وهو أيضا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحداهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان، وانتفع به من آمنوا به وفريق
(17/66)
ممن حرموا الإيمان. فكان وصفه بأنه مبارك وافيا على وصف كتاب موسى عليه السلام بأنه فرقان وضياء.
وزاده تشريفا بإسناد إنزاله إلى ضمير الجلالة. وجعل الوحي إلى الرسول إنزالا لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذ اعتبر مستقرا في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم.
وفرع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} . ولكون إنكارهم صدقه حاصلا منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسما دالا على الاتصاف في زمن الحال وجعل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاء بحق بلاغة النظم.
[51-75] {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}
أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه، لأن إبراهيم كان هو المثل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذ أقام للتوحيد هيكلا بمكة هو الكعبة وبجبل نابو من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينة تسمى يومئذ لوزا ثم بنى بيت أيل بالقرب من موضع مدينة أورشليم في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهدا على بطلان الشرك الذي كان مماثلا لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى الله عليه وسلم لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدهم إبراهيم على قومه، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضا فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.
وتأكيد الخبر عنه بلام القسم للوجه الذي بيناه آنفا في تأكيد الخبر عن موسى وهارون، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم
(17/67)
أوتي رشدا وهديا.
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.
والرشد: الهدى والرأي الحق، وضده الغي. وتقدم في قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} في سورة البقرة. وإضافة {الرشد} إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي الرشد الذي أرشده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد، أي رشدا يليق به، ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.
وزاده تنويها وتفخيما تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى: {وَكُنَّا بِهِ عَالمِينَ} أي آتيناه رشدا عظيما على علم منا بإبراهيم، أي بكونه أهلا لذلك الرشد، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه، أي علم من سريرته صفات قد رضيها وأحمدها فاستأهل بها اتخاذه خليلا. وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ,
وقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي قبل أن نوتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا. ووجه ذكر هذه القبيلة التنبيه على أن ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.
و {إِذْ قَالَ} ظرف لفعل {آتَينَا} أي كان إيتاؤه الرشد حين قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} الخ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه،أي حين نزل الوحي إليه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، فذلك أول ما بدئ به الوحي.
وقوم إبراهيم كانوا من "الكلدان" وكان يسكن بلدا يقال له "كوثى" بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة "أور الكلدان"، ويقال: أيضا إنها "أورفة" في "الرها"، ثم سكن هو وأبوه وأهله "حاران" وحاران هي "حران"، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح 12 من التكوين لقوله فيه: "اذهب من أرضك ومن
(17/68)
عشيرتك ومن بيت أبيك", ومات أبوه في "حاران" كما في الإصحاح 11 من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من "حاران" لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان. وقد اشتهر حران بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صورا مجسمة.
والاستفهام في قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَمَاثِيلُ} يتسلط على الوصف في قوله تعالى: {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فكأنه قال: ما عبادتكم هذه التماثيل?. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلا مستعلما ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}؛ فإن شأن السؤال بكلمة "ما" أنه لطلب شرح ماهية المسؤول عنه.
والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.
والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي "بعل" وهو أعظمها، وكان مصوغا من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس، وعبدوا رموزا للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح: ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى. وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور إخوان الكلدان صنما اسمه نسروخ وهو نسر لا محالة.
وجعل العكوف مسندا إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركا لهم في ذلك فيعلم منه أنه في مقام الرد عليهم، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فيه معنى دوامهم على ذلك.
وضمن {عَاكِفُونَ} معنى العبادة، فلذلك عدي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.
وجاءوا في جوابه بما توهموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق، ولذلك لم يلبث أن أجابهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} مؤكدا ذلك بلام القسم.
وفي قوله تعالى: {كُنْتُمْ فِي ضَلَال} من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية، إيماء
(17/69)
إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنه ضلال بواح لا شبهة فيه، وأكد ذلك بوصفه بـ {مُبِينَ} . فلما ذكروا له آباءهم شركهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.
ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالا، وإيقانهم أن آباءهم على الحق، سكوا في حال إبراهيم أنطق عن جد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} ، فعبروا عنه {بِالْحَقِّ} المقابل للعب وذلك مسمى الجد. فالمعنى: بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} . والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمى مزحا، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزح التلطف معه وتجنب نسبته إلى الباطل استجلابا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.
وعدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنا في اللعب ومعدودا من الفريق الموصوف باللعب.
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم: {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} لإبطال أن يكون من اللاعبين، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات، أي وليست تلك التماثيل أربابا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} فلما شذ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلا مربوبة مخلوقة وليست أربابا ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى: {خَلَقَهُنَّ} ضمير السماوات والأرض لا محالة.
فكان جواب إبراهيم إبطالا لقولهم {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} مع مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.
وقوله تعالى: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} إعلام لهم بأنه مرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كل أمة شهيد عليها كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.
(17/70)
ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القسم، كقول الفرزدق:
شهد الفرزدق حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنا عزمه على ذلك بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} مؤكدا عزمه بالقسم، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.
والتاء تختص بقسم على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}.
وسمى تكسيره الأصنام كيدا على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.
والكيد: التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} في سورة يوسف.
وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلا، والمقصود من تغيير المنكر: إزالته بقدر الإمكان، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.
و {مُدْبِرِينَ} حال مؤكدة لعاملها. وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} في سورة براءة.
[58-61] {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
الضميران البارزان في "جعلهم" وفي {لَهُمْ} عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل، وضمير {لَعَلَّهُمْ} عائد إلى قوم إبراهيم، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} .
(17/71)
والجذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور: اسم جمع جذاذة، وهي فعالة من الجذ، وهو القطع مثل قلامة وكناسة، أي كسرهم وجعلهم قطعا. وقرأ الكسائي {جذاذا} بكسر الجيم على أنه مصدر، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.
قيل: كانت الأصنام سبعين صنما مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.
ومعنى {لَعَلَّهُمْ إِلِيهِ يَرْجِعُونَ} رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.
وضمير {لهم} عائد إلى الأصنام من قوله: {أَصْنَامَكُمْ} . وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء. ومثله ضمائر قوله بعده {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} .
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.
وقول قومه: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فعل ذلك، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين {قالوا سمعنا فتى يذكرهم} هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم.
والفتى: الذكر الذي قوي شبابه. ويكون من الناس ومن الإبل. والأنثى: فتاة. وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة.
والذكر: التحدث بالكلام.
وحذف متعلق {يَذْكُرُ} لدلالة القرينة عليه، أي يذكرهم بتوعد. وهذا كقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} كما تقدم.
وموضع جملتي {يَذْكُرُهُمْ} و {يقال له} في موضع الصفة لـ {فَتَىً}.
وفي قولهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا
(17/72)
يعرفون إبراهيم، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهولا لا يعرف وإنما يدعى أو يسمى إبراهيم، أي ليس هو من الناس المعروفين.
ورفع {إبراهيم} على أنه نائب فاعل {يُقَالُ} ، لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيرا ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحث وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} .
ومعنى {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} على مشاهدة الناس، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأن المرئي مظروف في الأعين.
ومعنى {يَشْهَدُونْ} لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد.
[62-67] {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ُأُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير: فأتوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.
وقوله تعالى: "بل" إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك، فنفي أن يكون فعل ذلك، لأن "بل" تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.
وقوله تعالى: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الخبر مستعمل في معنى التشكيك أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يبقى صحيحا من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية، وذلك تدرج إلى دليل الوحدانية، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأولى على نية أن يكر على ذلك كله
(17/73)
بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه، ولذلك قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون} تهكما بهم وتعريضا بأن ما لا ينطق ولا يعرف عن نفسه غير أهل للإلهية.
وشمل ضمير {فَاسْأَلُوهُمْ} جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائما. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثا عظيما مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعله بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب، فخلقه خارق العادة عند تحدي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.
وأما ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منه في ذات لله عزوجل: قوله: {إَنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال: من هذه? قال: أختي. فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني...." وساق الحديث.
فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} حيث قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، لأن " بَلْ" إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه. فقولهم {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} سؤال عن كونه محطم الأصنام، فلما قال {بَلْ} فقد نفى ذلك عن نفسه، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب. غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم، فهذا الإضراب كان تمهيدا للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بأخرة. ولذلك قال {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} الآية.
أما الإخبار بقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال: لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} كما تقدم. فالمراد من الحديث
(17/74)
أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه. فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما.
وأما ما ورد في حديث الشفاعة فيقول إبراهيم: لست هناكم ويذكر كذبات كذبها فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن الله بوحي، ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف.
وقوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أي فقال بعضهم لبعض {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} .وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في: ركب القوم دوابهم، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم. فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} . وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف. والجملة مفيدة للحصر، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظلم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمن فعل بها ذلك، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم.
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره.
وفعل {نُكِسُوا} مبني للمجهول، أي نكسهم ناكس. ولما لم يكن لذلك النكس فاعل إلا أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى: انتكسوا على رؤوسهم. وهذا تمثيل.
والنكس: قلب أعلى الشيء أسفله وأسفله أعلاه، يقال: صلب اللص منكوسا، أي مجعولا رأسه مباشرا للأرض، وهو أقبح هيئات المصلوب. ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصبا على قدميه فإذا نكس صار انتصابه كأنه على رأسه، فكان قوله هنا {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} تمثيلا لتغير رأيهم عن الصواب كما قالوا {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ
(17/75)
الظَّالِمُونَ} إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرؤوس منكوسين. فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع. وحرف "على" للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رؤوسهم بأن انكبوا انكبابا شديدا بحيث لا تبدو رؤوسهم. وتحتمل الآية وجوها أخرى أشار إليها في الكشاف .
والمعنى: ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام. فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} إلا التنصل من جريمتك.
فجملة {لقد علمت} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} .
وجملة: {مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} تفيد تقوى الاتصاف بانعدام النطق، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسن.
وفعل {عَلِمْتَ} معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده. فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعا على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاما إنكاريا على عبادتهم إياها وزائدا بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر.
وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوما لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة.
و {أُفٍّ} اسم فعل دال على الضجر، وهو منقول من صورة تنفس المتجر لضيق نفسه من الغضب. وتنوين {أُفٍّ} يسمى تنوين التنكير والمراد به التعظيم، أي ضجرا قويا لكم. وتقدم في سورة الإسراء {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} .
واللام في {لكم} لبيان المتأفف بسببه، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله.
وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره.
وفرع على الإنكار والتضجر استفهاما إنكاريا عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
(17/76)
[68-69] {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصا إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قرعت باطله حجة فساده غضب على المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته والتشفي منه، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعاقب به وأفظعه.
والتحريق: مبالغة في الحرق، أي حرقا متلفا.
وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملكهم، وهو النمرود، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كردي اسمه هينون، واستحسن القوم ذلك، والذي أمر بالإحراق بمروذ، فالمر في قولهم: {حَرِّقُوهُ} مستعمل في المشاورة.
ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم، وأنهم دبروه ليبغتوه به خشية هروبه لقوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} .
ونمروذ هذا يقولون: إنه ابن كوش بن حام بن نوح. ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن كوش. فالصواب أن نمروذ من نسل كوش. ويحتمل أن تكون كلمة نمروذ لقبا لملك الكلدان وليست علما. والمقدر في التاريخ أن ملك مدينة أور في زمن إبراهيم هو ألغى بن أورخ وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} في سورة البقرة.
ونصر الآلهة بإتلاف عدوها.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} إن كنتم فاعلين النصر. وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.
وجملة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} مفصولة عن التي قبلها: إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم {حَرِّقٌوهُ} فأشبهت جمل المحاورة، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى، أي فألقوه في النار قلنا: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم
(17/77)
إذ وجه إلى النار تعلق الإرادة بسلب قوة الإحراق، وأن تكون بردا وسلاما إن كان الكلام على الحقيقة، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقى فيك بحرك.
وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة، وذكر {سَلاماً} بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد، فعقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وإنما ذكر {بَرْداً} ثم أتبع بـ {سَلاماً} ولم يقتصر على {بَرْداً} لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صير النار بردا.
و {عَلَى إِبْرَاهِيمْ} يتنازعه {بَرْداً وَسَلاماً} . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له. ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.
[70] {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}
تسمية عزمهم على إحراقه كيدا يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعل قصدهم من ذلك أن لا يفر من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم.
والأخسر: مبالغة في الخاسر، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة.
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر، وهو قصر للمبالغة كأن خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة. وسميت خيبتهم خسارة على طريقة الاستعارة تشبيها لخيبة قصدهم إحراقه بخيبة التاجر في تجارته، كما دل عليه قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً} ، أي فخابوا خيبة عظيمة. وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعدوه للعقاب معجزة وتأييدا لإبراهيم عليه السلام.
وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذابا كما دل عليه قوله تعالى: في سورة الحج {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . وقد عد فيهم قوم إبراهيم، ولم أر من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول. والظاهر أن الله سلط عليهم الآشوريين فأخذوا بلادهم، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح.
(17/78)
[71-73] {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد "الكلدان" إلى أرض "فلسطين" وهي بلاد "كنعان".
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطا ابن أخيه "هاران" لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأة إبراهيم معهما، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته.
وانتصب {لُوطاً } على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلق به فعل الإنجاء.
وضمن {نَجَّيْنَاهُ} معنى الإخراج فعدي بحرف "إلى".
والأرض: هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين، أي للناس، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. وورد في التوراة: أن الله قال لإبراهيم: إنها تفيض لبنا وعسلا.
والبركة: وفرة الخير والنفع. وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} في سورة آل عمران.
وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة.
وهبة يعقوب ازدياد لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا.
والنافلة: الزيادة غير الموعودة، فإن إبراهيم سأل ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} أراد الولد فولد له إسماعيل، كما في سورة الصافات ثم ولد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة، وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة.
وانتصب {نَافِلَةً} على الحال التي عاملها {وَوَهَبْنَا} فتكون حالا من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها.
(17/79)
وتنوين {كُلاً} عوض عن المضاف إليه. والمعنى: وكلهم جعلنا صالحين، أي أصلحنا نفوسهم. والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم. وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية.
وإعادة فعل "جعل" في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} دون أن يقال: وأئمة يهدون، بعطف {أَئِمَّةً} على {الصَّالحِينْ} ، اهتماما بهذا الجعل الشريف، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.
ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.
وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.
والأئمة: جمع إمام وهو القدوة والذي يعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.
وجملة: {يَهْدُونَ} في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة، أي أنهم أئمة هدى وإرشاد.
وقوله: {لِأَمْرِنَا} أي كانوا هادين بأمر الله، وهو الوحي زيادة على الجعل. وفي الكشاف: فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميل اهـ.
وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان. ويشمل هذا شؤون الإيمان وشعبه وآدابه.
وأما قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات. وقد شملها قوله تعالى: {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}.
و {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} مصدر مضاف إلى {الْخَيْرَاتِ}، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله، وأما الفاعل فتبع له، أي أن يفعلوا هم ويفعل قومهم الخيرات،
(17/80)
حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه.
واعتبار المصدر مصدرا لفعل مبني للنائب جائز إذا قامت القرينة. وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري. على أن الأخفش أجازه بدون شرط.
ويجوز أن يكون {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} هو الموحى به، أي وأحينا إليهم هذا الكلام، فيكون المصدر قائما مقام الفعل مرادا به الطلب. والتقدير: افعلوا الخيرات، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} .
وتخصيص {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبالزكاة صلاح المجتمع لكفاية عوز المعوزين.
وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه السلام.
ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بين.
ثم خصهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دل عليه فعل الكون المفيد تمكن الوصف، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} . وقال تعالى: في الثناء على إبراهيم {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[74-75 ]{وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
عطف على جملة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} . وقدم مفعول {آتَيْنَاهُ} اهتماما به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعا لذكر إبراهيم تنبيها على أنه بعث بشريعة خاصة، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم، وإلى أنه كان في مواطن غير المواطن التي حل فيها إبراهيم، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.
(17/81)
ولأجل البعد أعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على {آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} . ولم يعد في قصة نوح عقب هذه.
وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.
والحكم: الحكمة، وهو النبوة، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} .
والعلم: علم الشريعة، والتنوين فيهما للتعظيم.
والقرية سدوم. وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود. والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} في سورة يوسف.
والخبائث: جمع خبيثة بتأويل الفعلة، أي الشنيعة. والسوء بفتح السين وسكون الواو مصدر، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أغم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.
[76-77] {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب يذكر أول الرسل.
وعطف {وَنُوحاً} على {لُوطاً} ، أي آتينا نوحا حكما وعلما، فحذف المفعول الثاني لـ {آتَيْنَا} لدلالة ما قبله عليه، أي آتيناه النبوة حين نادى، أي نادانا.
ومعنى {نَادَى} دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} .
وبناء {قَبْلُ} على الضم يدل على مضاف إليه مقدر، أي من قبل هؤلاء، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنته المرادة له
(17/82)
تعريضا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسله شاذة ولا فاذة.
وأهل نوح: أهل بيته عدا أحد بنيه الذي كفر به.
والكرب العظيم: هو الطوفان. والكرب: شدة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.
ووجه كون الطوفان كربا عظيما أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مده ولا يزال لاحقا بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقوا زمنا يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويطفون حتى يموتوا بانحباس التنفس؛ وفي ذلك كله كرب متكرر، فلذلك وصف بالعظيم.
وعدي {نصرناه} بحرف "من" لتضمينه معنى المنع والحماية، كما في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} ، وهو أبلغ من تعديته بـ{عَلَى" لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدو بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.
ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد. وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} علة لنصر نوح عليه لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.
والسوء بفتح السين تقدم آنفا.
وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به. والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.
و {أَجْمَعِين} حال من ضمير النصب في {أَغْرَقْنَاهُمْ} لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريبا من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.
وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كما روي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصلت حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فزع عتبة وقال له: ناشدتك الرحم.
[78-79] {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ
(17/83)
الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}
شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا. وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب الماثل للقرآن وما عقب ذلك. ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون. ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت شمشون إلى قيام شاول حمي داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند ولم يكن نبيا، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل صمويل.
فداود أول من جمعت له النبوة والملك في أنبياء بني إسرائيل. وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداد. وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام.
وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتهما مثل.
وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدي والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون {دَاوودَ} عطفا على {نُوحَاً} في قوله: {وَنُوحَاً} ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان... إلى آخره، فـ {إِذْ يَحْكُمَانِ} متعلق بـ {آتَينَا} المحذوف، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعملهما.
والحكم: الحكمة، وهو النبوة. والعلم: أصالة الفهم. و {إِذْ نَفَشَتْ} متعلق بـ {يَحْكُمَانِ}.
(17/84)
فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء، والجمع بين المصالح والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق. فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.
وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء. فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم، والآخر راعي غنم لجماعة، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقص أمرهما على سليمان، فقال: لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا. فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له: بماذا كنت تقضي? قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو? قال: أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم أراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له. فقال داود: وفقت يا بني. وقضى بينهما بذلك.
فمعنى {نَفَشَتْ فِيهِ} دخلته ليلا، قالوا: والنفش الانفلات للرعي ليلا. وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى: {غَنَمُ الْقَوْمِ} . وكذلك كان الحرث شركة بين أناس. كما يؤخذ مما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير الكشاف . وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.
واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي عالمين وقوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد، إذ أن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان، فلذلك من القضاء بالاجتهاد. وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا صلى الله عليه وسلم ووقوعه في مختلف المسائل.
(17/85)
وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا. وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.
وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح. ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب.
ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من العريض على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع? فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، ففعل الضحاك.
وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما، فكان قضاء سليمان أرجح.
وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرة إذ قضى أول مرة بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره، فلما لم يرض الأنصاري فقضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل، فاستوفى للزبير حقه. وإنما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضي بينهما بالفصل، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.
فمعنى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أنه ألهمه وجها آخر في القضاء أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير. وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.
(17/86)
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} في معرض الثناء عليهما.
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة.
وإضافة "حكم" إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين. وتأنيث الضمير في قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا} ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ، على تأويل الحكم في قوله تعالى: {لحُِكْمِهِمْ} بمعنى الحكومة أو الخصومة.
وجملة: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب.
وتقدمت ترجمة داود عليه السلام عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء، وقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} في سورة الأنعام.
وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة.
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
هذه مزية اختص بها داود هي تسخير الجبال له وهو الذي بينه جملة: {يُسَبِّحْنَ} فهي إما بيان لجملة {سَخَّرْنَا} أو حال مبينة. وذكرها هنا استطراد وإدماج.
{وَالطَّيْرَ} عطف على {الْجِبَالَ} أو مفعول معه، أي مع الطير يعني طير الجبال.
و {مَعَ} ظرف متعلق بفعل {يُسَبِّحْنَ} ، وقدم على متعلقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود، فيكون المعنى: أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبال تسبح مثل تسبيحه. وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} إذ التأويب الترجيع، مشتق من الأوب وهو الرجوع. وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرد تغريدا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له. ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلا له بعد أن أوتي النبوة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله، ولا يعرف لداود بعد أن أوتي النبوة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان
(17/87)
قبل النبوة راعيا. فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية زيف الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارا من الملك شاول طالوت حين تنكر له شاول بوشاية بعض حساد داود، كما حكي في الإصحاحين 23-24 من سفر صمويل الأول. وهذا سر التعبير بـ {مَعَ} متعلقة بفعل {سَخَّرنَا} هنا. وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} إذ عدي فعل التسخير الذي نابت عنه واو العطف بلام الملك. وكذلك جاء لفظ {مَعَ} في آية سورة سبأ {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} .
وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.
وجملة: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود. وفاعل هنا بمعنى قادر، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه. وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل، أي وكنا قادرين على ذلك.
[80] {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}
وامتن الله بصنعه علمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع، أي دروع السرد. قيل كانت الدروع من قبل داود ذات حراشف من الحديد، فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية.
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول: أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد.
واشتهر عند العرب، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول1
ـــــــ
1 القفعاء: بقاف ففاء فعين: بزرة صحراء نبت ينبسط على وجه الأرض يشبه حلق الدروع.
(17/88)
وكانت الدروع التبعية مشهورة عند العرب فلعل تبعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف، وقد جمعها النابغة بقوله:
وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قمصاء ذائل
أراد بسليم ترخيم سليمان، يعني سليمان بن داوود، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها.
واللبوس بفتح اللام أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول. وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب. وقال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.
ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل1
وقرأ الجمهور {لِيُحْصِنَكُمْ} بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ {لَبُوسٍ} . وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى "لبوس" بالدرع، وهي مؤنثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {لْنُحْصِنَكُمْ} بالنون.
وضمائر الخطاب في {لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى: قبل ذلك {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.
والإحصان: الوقاية والحماية. والبأس: الحرب.
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنى به عن الأمر بالشكر.
وكان العدول عن إيلاء "هل" الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن لـ"هل" مزيد اختصاص بالفعل، فلم يقل: فهل تشكرون، وعدل إلى {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} ليدل العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله
ـــــــ
1 البئيس: الثور الوحشي معه نعاجه أي إناثه فهو مجفل من الصائد.
(17/89)
تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في آية تحريم الخمر.
[81] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}
عطف على جملة: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} بمناسبة تسخير خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبيين عليهما السلام.
والأرض التي بارك الله فيها عي أرض الشام. وتسخير الريح: تسخيرها لما تصلح له. وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها.
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين، فوقع في الكلام اكتفاء اعتمادا على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
ووصفها هنا بـ {عَاصِفَةً} بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص بأنها {رَخَاءً} في قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} . والرخاء: الليلة المناسبة لسير الفلك. وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رخاء، والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكبا في البحر فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بين بالتأمل.
وعبر {بِأَمْرِهِ} عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح موسمية منتظمة سخرها الله له.
وأمر سليمان دعاؤه الله أن يجري الريح كما يريد سليمان: إما دعوة عامة كقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فيشمل كل ما به استقامة أمور الملك
(17/90)
وتصاريفه، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراما له وتأييدا إذ كان همه نشر دين الحق في الأرض.
وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة ملك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن ترشيش يظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقردة والطواويس وهدايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح 10 من سفر الملوك الأول.
وجملة: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان. والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} .
[82] {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}
هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان. وهي أن سخر إليه من القوى المجردة من طوائف الجن والشياطين التي تتأتى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} . وفصل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} وهذه أعمال متعارفة. وإنما اختص سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها.
ومعنى {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه، وجعلهم يعلمون في خفاء ولا يؤذوا أحدا من الناس؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم، وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له، وحال دونهم ودون الناس لئلا يؤذوهم. ولما توفي سليمان لم يسخر الله الجن لغيره استجابة لدعوته إذ قال {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . ولما مكن الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من الجني الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهم بأن يربطه، ذكر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجن
(17/91)
وبين تحقيق رغبة سليمان.
وقوله: {لَهُمْ} يتعلق بـ {حَافِظِينَ} ، واللام لام التقوية. والتقدير: حافظينهم، أي مانعينهم عن الناس.
[83-84] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}
عطف على {دَاودَ وَسُلَيمَانَ} أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه. وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختص به من الصبر حتى كان مثلا فيه. وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام.
وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيين الإسرائيلية. وحاصلها أنه كان نبيا وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم. ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر. وتلقى رثاء أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله، وأوحى الله إليه بمواعظ. ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالا أكثر من ماله وولدت له زوجه أولادا وبنات بعدد من هلكوا له من قبل.
وقد ذكرت قصته بأبسط من هنا في صورة ص. ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوة.
و"إذ" ظرف قيد به إيتاء أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة. وتقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} فصار أيوب مضرب المثل في الصبر.
وقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر، أي نادى ربه بأني مسني الضر.
والمس: الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حل به من الضر كالمس الخفيف.
(17/92)
والضر بضم الضاد ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزل، أو في ماله من نقص ونحوه.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} التعريض بطلب كشف الضر عنه بدون سؤال فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء.
وكون الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.
ولكون ثناء أيوب تعريضا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} . والسين والتاء للمبالغة في الإجابة، أي استجبنا دعوته العرضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضر، إشارة إلى سرعة كشف الضر عنه، والتعقيب في كل شيء بحسبه. وهو ما تقتضيه العادة في البرء وحصول الرزق وولادة الأولاد.
والكشف: مستعمل في الإزالة السريعة. شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.
والموصول في قوله تعالى: {مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} مقصود منه الإبهام. ثم تفسيره بـ"مِنْ" البيانية لقصد تهويل ذلك الضر لكثرة أنواعه بحيث يطول عدها. ومثله قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} إشارة إلى تكثيرها. ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضر وينسون شكره على عظيم النعم، أي كشفنا ما حل به من ضر في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.
والإيتاء: عطاء، أي أعطيناه أهله، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته. وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل، يعني بموت أولاده وبناته، وهو على تقدير مضاف بين من السياق، أي مثل أهله بأن رزق أولاده بعدد ما فقد، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سن العقم.
(17/93)
وانتصب {رَحْمَةٍ} على المفعول لأجله. ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويها بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل. والمراد رحمة بأيوب إذ قال {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
والذكرى: التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه. وهو معطوف على رحمة فهو مفعول لأجله، أي وتنبيها للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.
وبما في {العَابِدِينَ} من العموم صارت الجملة تذييلا.
[85-86] {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
عطف على {وَأَيُّوبَ} أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حكما وعلما.
وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لإشراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} . جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.
فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فقال {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وتقرر بسكناه بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر أبيه المتلقى من الله تعالى. وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.
وأما إدريس فهو اسم أخنوخ على إرجح الأقوال. وقد ذكر أخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدا لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صديق نبي وقد وصفه الله تعالى هنا فليعد في صف الصابرين. والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عدت من صبره قصص، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.
وأما ذو الكفل فهو نبي اختلف في تعيينه, فقيل هو إلياس المسمى في كتب اليهود إيليا.
وقيل: هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل. والظاهر أنه عوبديا الذي له كتاب
(17/94)
من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثنى عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.
والكفل بكسر الكاف وسكون الفاء أصله: النصيب من شيء، مشتق من كفل إذ تعهد لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع. وذلك أن اليسع لما كبر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال: من يتكفل لي بثلاث أستخلفه: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه عوبديا، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين. وقد وعد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18. ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس. وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيا. وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.
وجملة: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} تعليل لإدخالهم في الرحمة، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين.
[87-88] {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
عطف على {وَذَا الْكِفْلِ} .وذكر ذي النون في جملة من خصوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له.
و{ذَا النُّونِ} وصف، أي صاحب الحوت. لقب به يونس بن متي عليه السلام وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس.
وذهابه مغاضبا قيل خروجه غضبان من قومه أهل نينوى إذ أبوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته، فالمغاضبة مفاعلة. وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس. وقيل: إنه أوحى إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبان من عدم تحقق ما أنذرهم به، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غضب غريب. وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير، وروي عن ابن عباس أيضا واختاره ابن جرير. والوجه أن يكون {مُغَاضِباً}
(17/95)
حالا مرادا بها التشبيه، أي خرج كالمغاضب. وسيأتي هذا المعنى في سورة الصافات.
وقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} يقتضي أنه خرج خروجا غير مأذون له فيه من الله. ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل إليها يرسل الله غيره إليهم. وقد روي عن ابن عباس أن حزقيال ملك إسرائيل كان في زمنه خمسة أنبياء منهم يونس، فاختاره الملك ليذهب إلى أهل نينوى لدعوتهم فأبى وقال: هاهنا أنبياء غيري وخرج مغاضبا الملك. وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل.
ومحل العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة.
ومعنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} قيل نقدر مضارع قدر عليه أمرا بمعنى ضيق كقوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي ظن أن لن نضيق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه، فعوتب بما حل به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله. وفي الكشاف: أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. فقال: وما هي ? فقرأ معاوية هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن الله لا يقدر عليه? قال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة يعني التضييق عليه.
وقيل {نَقْدِرَ} هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القدرة، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذن. ونقل عن هذا مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفراء والزجاج. وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ.
وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرة بدافع الغضب من غير تأمل في لوازمه وعواقبه، قالوا: وكان في طبعه ضيق الصدر.
وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته. والتقدير: أفظن أن لن نقدر عليه? ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر. قال منذر بن سعيد في تفسيره : وقد قرئ به.
وعندي فيه تأويلان آخران وهما أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه
(17/96)
في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلا عادة، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة، أي ظن بعد أن ابتلعه الحوت.
وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده، ولذلك قال: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} مبالغة في اعترافه بظلم نفسه، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله.
و {إِنِّي} مفسرة لفعل {نَادَى} وتقيمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء.
والظلمات: جمع ظلمة. والمراد ظلمة الليل، وظلمة قعر البحر. وظلمة بطن الحوت. وقيل: الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وقد تقدم أنا نظن أن الظلمة لم ترد مفردة في القرآن.
والاستجابة: مبالغة في الإجابة. وهي إجابة توبته مما فرط منه. والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقى في بطن الحوت إلا ساعة قليلة. وعطف بالواو هنا بخلاف عطف {فَكَشَفْنَا} على {فَاسْتَجَبنَا} . وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقيأه فخرج يسبح إلى الشاطئ.
وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه. وشاع بين الناس تسمية صنف من الحوت بحوت يونس رجما بالغيب.
وجملة: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة بـ {كَذَلِكَ} إلى الإنجاء الذي أنجى به يونس، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غموم يحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة. وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغم والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم.
وأعلم أن كلمة {فَنُجِّيَ} كتبت في المصاحف بنون واحد كما كتبت بنون واحد
(17/97)
في قوله في سورة يوسف {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ووجه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفي مع الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد فلما أخفيت حذفت في النطق فشابه إخفاؤها حالة الإدغام فحذفها كاتب المصحف في الخط لخفاء النطق بها في اللفظ، أي كما حذفوا نون "إن" مع "لا" في نحو {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} من حيث إنها تدغم في اللام. وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبار من اعتبارات الأداء. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم بنون واحدة وبتشديد الجيم على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء. وأنكر ذلك عليها أبو حاتم والزجاج وقالا: هو لحن. ووجه أبو عبيد والفراء وثعلب وقراءتها بأن {نُنَجِّي} سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بقي ورضي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} بتسكين ياء {بَقِيَ} . وعن أبي عبيد والقتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم.
ووجه ابن جني متابعا للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة: ننجي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نجي. وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نجي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} .
وانتصب {الْمُؤْمِنِينَ} على المفعول به على رأى من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به. كما في قراءة أبي جعفر {لِيَجْزِيَ} بفتح الزاي قوما بما كانوا يكسبون بتقدير ليجزى الجزاء قوما. وقال الزمخشري في الكشاف: إن هذا التوجيه بارد التعسف.
[89-90] {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}
كان أمر زكريا الذي أشار إليه قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} آية من آيات الله في عنايته
(17/98)
بأوليائه المنقطعين لعبادته فخص بالذكر لذلك. والقول في عطف {وَزَكَرِيَّا} كالقول في نظائره السابقة.
وجملة: {لا تَذَرْنِي فَرْداً} مبينة لجملة: {نَادَى رَبَّهُ} . وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيها له بالمنفرد الذي لا قرين له. قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له، قال الحارث بن هشام:
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فشبه من لا ولد بالمفرد لأن الولد يصير أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوج ولا شفع.
وجملة: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثناء لتمهيد الإجابة، أي أنت الوارث الحق فاقض علي من صفتك العلية شيئا. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها، كما قال أيوب {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، ودل ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية سورة مريم {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} حذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير: يرثني الإرث الذي لا يداني إرثك عبادك، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرف قدرتك، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرا أبديا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.
وإصلاح زوجه: جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرا وتقدم ذكر زكريا في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين، وما أوتوه من النصر، واستجابة الدعوات، والإنجاء من كيد الأعداء، وما تبع ذلك، ابتداء من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً}. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب، أي ما استحقوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدهم في تحصيلها.
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم.
(17/99)
والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والحد للخيرات، أي لفعلها، تشبيها للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجاد في مسالكه.
والخيرات: جمع خير بفتح الخاء وسكون الياء وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضد الشر، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} فيحتمل أنه مثل هذا، ويحتمل أنه جمع خيرة بفتح فسكون الذي هو مخفف خيرة المشدد الياء، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على {الْخَيْرَاتُ} في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} في سورة براءة، وعطف على ذلك أنهم يدعون الله رغبة في ثوابه ورهبة من غضبه، كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}.
والرغب والرهب بفتح ثانيهما مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر يدعوننا لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه، أو يقدر مضاف، أي ذوي رغب ورهب، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.
وذكر فعل الكون في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} مثل ذكره في قوله تعالى: {كَانُوا يُسَارِعُونَ}.
والخشوع: خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.
[91] {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيه إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة، كما قال الله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية. هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصوليه غالبا، وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقولوا عنها إفكا وزورا، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} الذي هو في حكم الصلة أيضا، فكأنه قيل: والتي نفخنا فيها من روحنا، لأن كلا الأمرين موجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر، ليرى الناس مثالا من التكوين الأول كما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
(17/100)
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
والنفخ، حقيقته: إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل: إن الملك نفخ مما هو له كالفم.
والظرفية المفادة بـ{فِي} كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه، ولذلك قيل {فِيهَا} ولم قيل "فِيهِ" للإشارة إلى أن الحمل الذي كون في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد، كأنه قيل: فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح: هو القوة التي بها الحياة قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ، أي جعلت آدم روحا فصار حيا. وحرف {مِنْ} تبعيضي، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في سورة المؤمنين {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} . وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} .
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة. ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.
[92] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
{إِنَّ} مكسورة الهمزة عند جميع القراء. فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع {أُمَّتُكُمْ} . والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.
(17/101)
والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغا في صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. والتقدير: قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى، أي قائلين لكل واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}.
فصيغة الجمع مراد بها التوزيع. وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات. ومنه قولهم: ركب القوم دوابهم، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين. وفيه ما يزيد هذه توضيحا فإنه ورد هنالك ذكر عدة من الأنبياء تفصيلا وإجمالا، كما ذكروا في هذه السورة، ثم عقب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَأَنَّ بفتح الهمزة وبكسرها {هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} ، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} في الكلام المخاطب به الرسل، والتأكيد على هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير ترددا في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك. وهو وإن كان خطابا للرسل فإن مما يقصد منه تبليغ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة من قبله من الرسل.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذه الملة، وهي الإسلام، هي ملة واحدة لسائر الرسل. أي أصولها واحدة كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية. والتأكيد على هذا لرد إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.
والإشارة بقوله تعالى: {هَذِهِ} إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى: {أُمَّتُكُمْ} كقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} . فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل. فما أفادته الإشارة من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع ما عليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.
والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
(17/102)
وأصل الأمة: الجماعة التي حالها واحد، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.
و {أُمَّةً وَاحِدَةً} حال من {أُمَّتُكُمْ} مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال. وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كونها واحدة أنها توحد الله تعالى فليس دونه إله. وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعا وإن كان يجمعها وصف الشرك فلذلك جنس عام وقد أومأ إلى هذا قوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} ، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.
وأفاد قوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} الحصر، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على {أُمَّةً وَاحِدَةً} ، إذ المعنى: وأنا ربكم ربا واحدا، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته، أي فاعبدون دون غيري. وهذا الأمر مراعي فيه ابتداء حال السامعين من أمم الرسل، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.
[93] {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}
عطف على جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي أعرضوا عن قولنا و {تَقَطَّعُوا} وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين من الشأن التحدث عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المراد منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل. فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يكون الكلام انتقالا من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم. وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتا.
ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال، أي أمرنا الرسل بملة الإسلام، وهي الملة الواحدة، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين
(17/103)
التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.
والتقطع: مطاوع قطع، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقا فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلها من الأصنام مع الله، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.
وفي "جمهرة الأنساب" لابن حزم: كان الحصين بن عبيد الخزاعي، وهو والد عمران بن حصين لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: يا حصين ما تعبد? قال: عشرة آلهة، قال: ما هم وأين هم? قال: تسعة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن لحاجتك? قال: الذي في السماء، قال: فمن لطلبتك? قال: الذي في السماء، قال: فمن لكذا? فمن لكذا? كل ذلك يقول: الذي في السماء، قال رسول الله: فألغ التسعة. وفي كتاب الدعوات من سنن الترمذي "أنه قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء".
والأمر: الحال. والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} في سورة الأنعام.
ولما ضمن {تَقَطَّعُوا} معنى توزعوا عدي إلى "دينهم" فنصبه. والأصل: تقطعوا في دينهم وتوزعوه.
وزيادة {بَيْنَهُمْ} لإفادة أنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطع أمرهم. قرب قبيلة اتخذت صنما لم تكن تعبده قبيلة أخرى ثم سولوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب. وقد روي أن عمرو بن لحي الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.
وجملة: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} وهو معرفة عاقبة هذا التقطع.
وتنوين {كُلٌّ} عوض عن المضاف إليه، أي كلهم، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضا بالتهديد.
ودل على ذلك التفريع في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} إلى آخره.
(17/104)
[94] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}
فرع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} تفريع بديع من بيان صفة ما توعدوا به، وذلك من قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات.
وقدم وعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتماما به، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلا لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد، فليس هو مقصودا من التفريع، ولكنه يشبه الاستطراد تنويها بالمؤمنين كما سيعتنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى آخر السورة.
والكفران مصدر أصله: عدم الاعتراف بالإحسان، ضد الشكران واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عرفا كقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} . فالمعنى: أنهم يعطون جزاء أعمالهم الصالحة.
وأكد ذلك بقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} مؤكدا بحرف التأكيد للاهتمام به.
والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظاهر من الكتاب والسنة.
[95] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
جملة معترضة، والمراد بالقرية أهلها. وهذا يعم كل قرية من قرى الكفر، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}.
(17/105)
والحرام: الشيء الممنوع، قال عنتره:
حرمت علي وليتها لم تحرم
أي منعت أي منعها أهلها.
أي ممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن لا يرجعوا، فـ {حَرَامٌ} خبر مقدم و {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} في قوة مصدر مبتدأ. والخبر عن "أن" وصلتها لا يكون إلا مقدما، كما ذكره ابن الحاجب في أماليه في ذكر هذه الآية.
وفعل {أَهْلَكْنَاهَا} مستعمل في إرادة وقوع الفعل، أي أردنا إهلاكها.
والرجوع: العود إلى ما كان فيه المرء؛ فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون "لا" في قوله تعالى: {لا يَرْجِعُونَ} زائدة للتوكيد، لأن {حَرَامٌ} في معنى النفي و"لا" نافية ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان، فيؤول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان، وليس هذا بمراد. فتعين أن المعنى: منع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها. وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان وتهديدهم بالهلاك. وهؤلاء هم الذين قدر الله هلاكهم يوم بدر بسيوف المؤمنين.
ويجوز أن يراد رجوعهم إلى الآخرة بالبعث، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فتكون "لا" نافية. والمعنى: ممنوع عدم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه، أي دعواهم باطلة، أي فهم راجعون إلينا فمجازون على كفرهم، فيكون إثباتا للبعث بنفي ضده، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة. ويفيد تأكيدا لقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}.
وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
وفعل {أَهْلَكْنَاهَا} مستعمل في أصل معناه، أي وقع إهلاكنا إياها. والمعنى: ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون إلينا بالبعث. وقيل {حَرَامٌ} اسم مشترك بين الممنوع والواجب. وأنشدوا قول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر.
(17/106)
وفي كتاب "لسان العرب" في حديث عمر: في الحرام كفارة يمين: هو أن يقول الرجل: حرام الله لا أفعل، كما يقول: يمين الله لا أفعل، وهي لغة العقيليين آهـ. ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة من كتب جامع الزيتونة عددها 4561: أن بني عقيل يقولون حرام الله لآتينك كما يقال يمين الله لآتينك آهـ. وهو يشرح كلام لسان العرب بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال لسان العرب .
فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ويمين منا على قرية، فحرف "على" داخل على المسلطة عليه اليمين، كما تقول: عزمت عليك، وكما يقال: حلفت على فلان أن لا ينطق. كقول الراعي:
أني حلفت على يمين برة ... لا أكتم اليوم الخليفة قيلا
وفتح همزة "أن" في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم.
ومعنى {لا يَرْجِعُونَ} على هذا الوجه لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم.
وقرأ الجمهور {وَحَرَامٌ} بفتح الحاء وبألف بعد الراء. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَحَرَمٌ} بكسر الحاء وسكون الراء، وهو اسم بمعنى حرام. والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف.
[96-97] {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}
"حتى" ابتدائية. والجملة بعدها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب ولكن "حتى" تكسبه ارتباطا بالكلام الذي قبله. وظاهر كلام الزمخشري: أن معنى الغاية لا يفارق "متى" حين تكون للابتداء، ولذلك عني هو ومن تبعه من المفسرين بتطلب المغيا بها هاهنا فجعلها في الكشاف غاية لقوله: {وَحَرَامٌ} فقال: "حتى" متعلقة بـ {وَحَرَامٌ} وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة" اهـ. أي فهو من تعليق الحكم على أمر لا يقع كقوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . ويتركب على كلامه الوجهان اللذان تقدما في معنى الرجوع من قوله تعالى: {أَنَّهُمْ لا
(17/107)
يَرْجِعُونَ} ، أي لا يرجعون عن كفرهم حتى ينقضي العالم، أو انتفاء رجوعهم إلينا في اعتقادهم يزول عند انقضاء الدنيا. فيكون المقصود الإخبار عن دوام كفرهم على كلا الوجهين. وعلى هذا التفسير ففتح يأجوج ومأجوج هو فتح السد الذي هو حائل بينهم وبين الانتشار في أنحاء الأرض بالفساد، وهو المذكور في قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
وتوقيت وعد الساعة بخروج يأجوج ومأجوج أن خروجهم أول علامات اقتراب القيامة.
وقد عده المفسرون من الأشراط الصغرى لقيام الساعة.
وفسر اقتراب الوعد باقتراب القيامة. وسميت وعدا لأن البعث سماه الله وعدا في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
وعلى هذا أيضا جعلوا ضمير {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} عائد إلى {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} فالجملة حال من قوله: {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} .
وبناء على هذا التفسير تكون هذه الآية وصفت انتشار يأجوج ومأجوج وصفا بديعا قبل خروجهم بخمسة قرون فعددنا هذه الآية من معجزات القرآن العلمية والغيبية. ولعل تخصيص هذا الحادث بالتوقيت دون غيره من علامات قرب الساعة قصد منه مع التوقيت إدماج الإنذار للعرب المخاطبين ليكون ذلك نصب أعينهم تحذيرا لذرياتهم من كوارث ظهور هذين الفريقين فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور حضارتهم وقوتهم على أيدي يأجوج ومأجوج وهم المغول والتتار كما بين ذلك الإنذار النبوي في ساعة من ساعات الوحي. فقد روت زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها".
والاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
ويجوز أن يكون المراد بفتح يأجوج ومأجوج تمثيل إخراج الأموات إلى الحشر، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} ويكون اسم يأجوج ومأجوج تشبيها بليغا. وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة
(17/108)
عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين. ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله لآدم يوم القيامة أخرج بعث النار، فيقول: يارب، وما بعث النار1? فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسعه وتسعون. قالوا: يا رسول الله: وأينا ذلك الواحد2? قال: أبشروا، فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعه وتسعين" .
أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلا للكثرة كما في قول ذي الرمة:
لو أن يأجوج ومأجوج معا ... وعاد عاد واستجاشوا تبعا
أي حتى إذا أخرجت الأموات كيأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} ، فيكون تشبيها بليغا من تشبيه المعقول بالمعقول. ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، "جدث" بجيم ومثلثة، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} فيكون ضميرا {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} عائدين إلى مفهوم من المقام دلت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى: {لَا يَرْجعُونَ} أي أهل كل قرية أهلكناها.
والاقتراب، على هذا الوجه: القرب الشديد وهو المشارفة، أي اقترب الوعد الذي وعده المشركون، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب.
وعلامة التأنيث في فعل {فُتِحَت} لتأويل يأجوج ومأجوج بالأمة. ثم يقدر المضاف وهو سد فيكتسب التأنيث من المضاف إليه.
ويأجوج ومأجوج هم قبيلتان من أمة واحدة مثل طسم وجديس.
وإسناد فعل {فُتِحَت} إلى {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} بتقدير مضاف، أي فتح ردمهما أو سدهما. وفعل الفتح قرينة على المفعول.
وقرأ الجمهور {فُتِحَتْ} بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدهما.
وتقدم الكلام على يأجوج ومأجوج في سورة الكهف.
ـــــــ
1 البعث مصدر بمعنى المفعول, أي: المبعوثين إلى النار.
2 أي الذي بقي من الألف.
(17/109)
والحدب: النشز من الأرض، وهو ما ارتفع منها.
و {يَنْسِلُونَ} يمشون النسلان بفتحتين وفعله من باب ضرب، وأصله: مشي الذئب. والمراد: المشي السريع. وإيثار التعبير به هنا من نكث القرآن الغيبية، لأن يأجوج ومأجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعا مفسدين.
هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه، وهي تدور حول محور التزام أن "حتى" الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول {فتحت} بأنه سد يأجوج ومأجوج. ومع حمل يأجوج ومأجوج على حقيقة مدلول الاسم، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق.
ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة.
فأما دلالة "حتى" الابتدائية على معنى الغاية، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها، فلا أراه لازما. ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحا جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رعوه حق رعايته فإن معنى الغاية في "حتى" الجارة وهي الأصل في استعمال هذا الحرف ظاهر لأنها بمعنى "إلى". وفي "حتى" العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم فتعين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد.
فأما "حتى" الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرد، ولما كان ما بعدها كلاما مستقلا تعين أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد "حتى" ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل "حتى" بما عند حصول ما بعدها "الذي هو المعنى الأصل للغاية". وانظر إلى استعمال "حتى" في مواقع من معلقة لبيد1.
ـــــــ
1 بيت: حتى إذا سلخا جمادي سنة ....................
وبيت: حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ....................
ومصراع: ................... حتى إذا سنحت وخف عظامها.
(17/110)
وفي قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشئ عنها. وقد مثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشده وقعا في نفس السامع، إذ جعلت مفرعة على فتح يأجوج ومأجوج واقتراب الوعد الحق للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دفعة بلا تدرج ولا مهلة، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسر ضمير القصة فقال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخره.
والشخوص: إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت.
وجملة: {يَا وَيْلَنَا} مقول قول محذوف كما هو ظاهر، أي يقولون حينئذ: يا ويلنا.
ودلت "في" على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف، أي كانت لنا غفلة عظيمة، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث.
و {يَا وَيْلَنَا} دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم.
و {بل} للإضراب الإبطالي، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دعينا وأنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا.
والمشار إليه بـ"هذا هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.
[98-100] {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }
جملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} جواب عن قولهم: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} إلى آخره. فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات. فالتقدير: يقال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم.
وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعز عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.
(17/111)
و "ما" موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل. وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجن والشياطين تعليبا، على أن "ما" تستعمل فيما هو أعم من العاقل وغيره استعمالا كثيرا في كلام العرب.
وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلت عليه الإشارة {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.
والحصب: اسم بمعنى المحصوب به. أي المرمي به. ومنه سميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها، أي يرمون في جهنم، كما قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . أي الكفار وأصنامهم.
وجملة: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} بيان لجملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. والمقصود منه: تقريب الحصب بهم في جهنم لما يدل عليه قوله: {وَارِدُونَ} من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.
وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.
وذيل ذلك بقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم وأصنامهم.
والزفير: النفس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغم. وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام. وقرينة معاد الضمائر واضحة.
وعطف جملة: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} اقتضاه قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} لأن شأن الزفير أن يسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقدون السمع بهذه المناسبة.
فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.
وقد روى ابن إسحاق في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش، فتلا رسول الله عليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ثم قال رسول الله وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي1 قبل أن يسلم فحدثه الوليد بن المغيرة
ـــــــ
1 بكسر الزاي وفتح الموحدة وسكون العين وفتح الراء مقصورا: السيىء الخلق .
(17/112)
بما جرى في ذلك المجلس فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبدوهم? فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فحكي ذلك لرسول الله، فقال رسول الله: إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادتهم، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} اهـ.
وقريب من هذا في أسباب النزول للواحدي، وفي الكشاف مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا وزاد فقال: خصمت ورب هذه البنية ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، وهذه بنو مليح1 يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون المسيح، وهذه اليهود يعبدون عزيرا، فضج أهل مكة أي فرحا وقالوا: إن محمدا قد خصم. ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزبعري: ما أجهلك بلغة قومك إني قلت: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ، و "مَا" لما لا يعقل ولم أقل "ومن تعبدون".
وأن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذارا للمشركين حتى يكون قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} تخصيصا لها، أو تكون القصة سببا لنزوله.
[101-103] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
جملة: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم. فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون. ولا علاقة لهذه الجملة بجملة: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ولا
ـــــــ
1 بضم الميم وفتح اللام: بطن من خزاعة.
(17/113)
هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بل قوله تعالى: {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.
والسبق، حقيقته: تجاوز الغير في السير إلى مكان معين. ومنه سباق الخيل. واستعمل هنا مجازا في ثبوت الأمن في الماضي، يقال كان هذا في العصور السابقة، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم في الملازمة، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله، أي بتوفيقه وتقديره، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.
والحسنى: الحالة الحسنة في الدين، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أو الموعدة الحسنى، أي تقرر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.
وذكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم. وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف، وهو سبق الحسنى من الله.
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم، والرفعة تشبه بالبعد.
وجملة: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} بيان لمعنى مبعدون، أي مبعدون عنها بعدا شديدا بحيث لا يلفحهم حرها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد ما يبلغ منه المرئي.
والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.
وعقب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} وما يدل على الدوام وهو {خَالِدُونَ}.
والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلذ لها.
وجملة: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ} خبر ثان عن الموصول.
(17/114)
والفزع: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجزع، والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.
وذلك مفاد قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}.
والتلقي: التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.
وجملة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} مقول لقول محذوف، أي يقولون لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، تذكيرا لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.
وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد خلا زمني.
أي هذا الزمن المختص بك، أي لتتصرف فيه.
[104] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدعى بعثها قد انتابها الفناء العظيم {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية.
وقد رتب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة: نعيد
(17/115)
الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا. فحول النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء.
وقدم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} وهو حال من الضمير المنصوب في {نُعِيدُهُ} للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} متعلقا بما قبله من قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}.
وعقب ذلك بما يفيد تحقيق حصول البعث من كونه وعدا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف "على" في قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} أي حقا واجبا.
وجملة: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} مؤكدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.
والمراد بقوله: {فَاعِلِينَ} أنه الفاعل لما وعد به، أي القادر. والمعنى: إنا كنا قادرين على ذلك.
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}.
والطي: رد بعض أجزاء الجسم اللين المطلوق على بعضه الآخر، وضده النشر.
والسجل: بكسر السين وكسر الجيم هنا، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها، ويطلق على كاتب الصحيفة، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف، أي صاحب السجل، وقيل سجل: اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.
ولا يحسن حمله هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطي إليه ولا إرادفه لقوله {للكتاب} أول {لكتب} ، ولا حمله على معنى الملك الموكل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهورا فكيف يشبه بفعله. فالوجه: أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.
(17/116)
وقرأ الجمهور {للكتاب} بصيغة الإفراد. وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف {للكتاب} بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريف الكتاب تعريف جنس استوى في المعرف الإفراد والجمع. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السجل مفردا ففيها حسن التفنن بالتضاد.
ورسمها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يحذف في مثله.
واللام في قوله: {للكتاب} لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول {طي}.
ومعنى طي السماء تغيير أجرامها من موقع إلى موقع أو اقتراب بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليكتب الكاتب في إحدى صفحتيها. وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي، وهو انقراض له أحوال كثيرة وصف بعضها في سور من القرآن.
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها، وفي سورة الزمر {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . ومسألة دثور السماوات "أي اضمحلالها" فرضها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر انكسمائس الملطي وفيثاغورس و أفلاطون.
وقرأ الجمهور {نطوي} بنون العظمة وكسر الواو ونصب {السماء} . وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيا للنائب وبرفع {السماء}
والبدء: الفعل الذي لم يسبق مماثله بالنسبة إلى فاعل أو إلى زمان أو نحو ذلك. وبدء الخلق كونه لم يكن قبل، أي كما جعلنا خلقا مبدوءا غير مسبوق في نوعه.
وخلق: مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى إعادة الخلق إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق اعتبار أنه فرد من جنس إذا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أي مثل سيرتها في جنسها، أي في أنها عصا من العصي.
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أن
(17/117)
إعادة خلق الأجسام شبهت بابتداء خلقها. ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام، على أن التشبيه صالح للماثلة في غير ذلك. روى مسلم عن ابن عباس قال: "قام فينا رسول الله بموعظة فقال: يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} الحديث. فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.
وانتصب {وعدا} على أنه مفعول مطلق لـ {نعيده} لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة. ويجوز كونه مفعولا مطلقا مؤكدا لمضمون جملة: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} .
[105-106] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى: في سورة الزمر {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}.
وإن كان المراد أرضا من الدنيا، أي مصيرها بيد عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى، وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داود والترمذي عن ثوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" .
(17/118)
وقرأ الجمهور {فِي الزَّبُورِ} بصيغة الإفراد وهو اسم المزبور، أي المكتوب، فعول معنى مفعول، مثل: ناقة حلوب وركوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع زبور بوزن فعول جمع زبر بكسر فسكون أي مزبور، فوزنه مثل قشر وقشور، أي في الكتب.
فعلى قراءة الجمهور فهو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء وفي سورة الإسراء، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عام للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.
والزبور: كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب فويدو أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا صديقين يرشون أرض بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرض، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود: الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في سورة النور في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر لفرق من العباد الصالحين.
ومعنى {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة. فيعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض. وقيل المراد بـ {الذِّكْرِ} كتاب الشريعة وهو التوراة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} فيكون الظرف في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} مستقرا في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود، فإن ملك داود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض
(17/119)
ببركة رسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيهم عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم آنفا.
وجملة: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه. فإنه لم يأت بعد داود قوم مؤمنون ورثوا الأرض، فما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ البلاغ إليهم.
فالإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلغ في القرآن.
والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ "قوم" المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في آخر سورة يونس. فكأنه يقول: فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله. والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، والموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم.
والعبادة: الوقوف عند حدود الشريعة. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف.
وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
[107] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن بدعا من الرسل، وذكروا إجمالا، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل. وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل.
(17/120)
وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم. ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين، فهذه الجملة عطف على جملة: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ختاما لمناقب الأنبياء، وما بينهما اعتراض واستطراد. ولهذه الجملة اتصال بآية {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
ووزانها في وصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وزان آية {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} وآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} والآيات التي بعدها في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.
وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به. وذكر فيها الرسول، ومرسله، والمرسل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير {رحمة} للتعظيم؛ إذ لا مقتضي لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أن المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب، وهي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا: أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير حبيب ومنزل إلا للوحدة لأنه أراد فردا معينا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل، وهما حبييه صاحب ذلك المنزل، ومنزله.
(17/121)
واعلم أن انتصاب {رَحْمَةً} على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لصيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إنما أنا رحمة مهداة" 1.
وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلامذة أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس: زين الله محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق آه. ذكره عنه عياض في الشفاء . قلت: يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه. قالت عائشة كان خلقه القرآن. ولهذا خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا. وفي حديث مسلم "أن رسول الله لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم فقال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة".
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته. أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى: {للعالمين} متعلق بقوله: {رَحْمَةً} .
والتعريف في {العَالمَينَ} لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالم:
ـــــــ
1 رواه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "ذخيرة الحفاظ" عن أبي هريرة يصفه بالضعف.
(17/122)
الصنف من أصناف ذوي العلم، أي الإنسان، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إما لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين، فالحنيفية شريعة إبراهيم عليه السلام كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام، وشريعة عيسى عليه السلام قريبة منها في ذلك، وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} إلى آيات كثيرة.
لا جرم أن الله تعالى خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: فيما حكاه خطابا منه لموسى عليه السلام {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية. ففي قوله تعالى: {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.
(17/123)
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت بالحنيفية السمحة".
وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم. وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.
هذا وإن أريد بـ {الْعَالَمِينَ} في قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه.
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا: "أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش، فنزل في بئر فملأ خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب، فغفر الله له.
أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وفي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.
[108] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
(17/124)
عقب الوصف الجامع لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كل متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطال إلهية ما سواه، لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ. وللاهتمام بذلك صدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم.
وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم، وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه، فالدعوة إليه هي مقادة الاجتلاب إلى الشريعة كلها، إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك. فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقا لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} .
وأفادت "إنما" المكسورة الهمزة وإتلاؤها بغفل {يوحى} قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وهو قصر صفة على موصوف. و"أنما" المفتوحة الهمزة هي أخت "إنما" المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن "أنما" المفتوحة مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة و"ما" الكافة. كما ركبت "إنما" المكسورة من "إن" المكسورة الهمزة و"ما" الكافة. وإذ كانت "أن" المفتوحة أخت "إن" المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها بـ"ما" الكافة أختا لها في إفادة القصر. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في سورة العقود.
وإذ قد أتليت "أنما" المفتوحه بالاسم الجامع لحقيقة الإله، وأخبر عنه بأنه إله واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد فأفادت قصرا ثانيا، وهو قصر موصوف على صفة.
والقصر الأول إضافي، أي ما يوحي إلى في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد. والقصر الثاني أيضا إضافي. أي في شأن الإله من حيث الوحدانية. ولما كان القصر
(17/125)
الإضافي من شأنه رد اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار رد اعتقاد المشركين بالقصرين.
فالقصر الأول لإبطال ما يلبسون به على الناس من أن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمان. ويلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يعقل. قال تعالى: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريبا لشقة الخلاف والتشعيب. وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
والاستفهام حقيقي، أي فهل تسلمون بعد هذا البيان. وهو مستعمل أيضا في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام.
واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله، أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم. وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال: فهل تسلمون، لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت. وكأن فيه تعريضا بهم بأنهم في ريب يترددون.
[109] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}
أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توعدهم الله به.
والإيذان: الإعلام، وهو بوزن أفعل من أذن لكذا بمعنى سمع. واشتقاقه من اسم الأذن، وهي جارحة السمع، ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقا.
وأما "آذن" فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير. فمن استعمال أذن قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
(17/126)
ومن استعمال "آذن" قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وحذف مفعول {آذَنْتُكُمْ} الثاني لدلالة قوله تعالى: {مَا تُوعَدُونَ} عليه، أو يقدر: آذنتكم ما يوحى إلي لدلالة ما تقدم عليه. والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} .
وقوله تعالى: {عَلَى سَوَاءٌ} "على" فيه للاستعلاء المجازي، وهو قوة الملابسة وتمكن الوصف من موصوفه.
و"سواء" اسم معناه مستو. والاستواء: المماثلة في شيء ويجمع على أسواء. وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك، وحقه أن لا يجمع فيجوز أن يكون {عَلَى سَوَاءٌ} ظرفا مستقرا هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى: {آذَنْتُكُمْ} أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار. وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته "ألا هل بلغت".
ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل {آذَنْتُكُمْ} قال أبو مسلم: الإيذان على السواء: الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} آه. يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاء إلى حرب حقيقية. وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون {عَلَى سَوَاءٍ} حالا من ضمير المتكلم.
وحذف متعلق {آذَنْتُكُمْ} لدلالة قوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} عليه، ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الآية. وتقدم عند قوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} في سورة الأنفال.
وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا.
و"إن" نافية وعلق فعل {أَدْرِي} عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحذف العائد. وتقديره: ما توعدون به.
[110] {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}
جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة. وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة
(17/127)
المقام. والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحل بهم عذابه.
وعائد الموصول في قوله تعالى: {ما تكتمون} ضمير محذوف.
[111] {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
عطف على جملة: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} والضمير الذي هو اسم "لعل" عائد إلى ما يدل عليه قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} من أنه أمر منتظر الوقوع وأنه تأخر عن وجود موجبه، والتقدير: لعل تأخيره فتنة لكم، أو لعل تأخير ما توعدون فتنة لكم، أي ما أدري حكمة هذا التأخير فلعله فتنة لكم أرادها الله ليملي لكم إذ بتأخير الوعد يزدادون في التكذيب والتولي وذلك فتنة.
والفتنة: اختلال الأحوال المفضي إلى ما فيه مضرة.
والمتاع: ما ينفع به مدة قليلة. كما تقدم في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} . في سورة آل عمران.
والحين: الزمان.
[112] {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
استئناف ابتدائي بعدما مضى من وصف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} إلى هنا.
وفي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالالتجاء إليه والاستعانة به بعد ما قال له {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} رمز إلى أنهم متولون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم، وإن الله في إعانته لأن الله إذ لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ونحو ذلك، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء
(17/128)
المعاندين بالحق يوم بدر.
والمعنى: قل ذلك بمسمع منهم إظهارا لتحديه إياهم بأنه فوض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والباء في قوله تعالى: {بِالحَقِّ} للملابسة. وحذف المتعلق الثاني لفعل {احْكُمْ} لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة الأمر. وقرأ حفص {قل} بصيغة الماضي مثل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {رب} منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلا على الياء.
وقرأ الجمهور بكسر الباء من {رب} . وقرأه أبو جعفر بضم الباء وهو وجه عربي في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أمن اللبس.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى: {وَرَبُّنَا} لتضمنها تعظيما لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربهم.
وضمير المتكلم المشارك للنبي ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حسب إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} .
والرحمان عطف بيان من {ربنا} لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف توركا على المشركين، لأنهم أنكروا اسم الرحمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} .
وتعريف {المُسْتَعَانُ} لإفادة القصر، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
(17/129)
وفي قوله تعالى: {عَلَى مَا تَصِفُونَ} مضاف محذوف هو مجرور {عَلَى} ، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم. أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.
ومعنى {مَا تَصِفُونَ} ما تصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بصفات ذم كقولهم: مجنون وساحر، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.
(17/130)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحج
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: "قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال: نعم " وأخرج أبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان. وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية. أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . قال ابن عطية: وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن: هي مدنية إلا آيات {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} إلى قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فهن مكيات.
(17/131)
وعن مجاهد، عن ابن الزبير: أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح.
وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية: روي عن أنس ابن مالك أنه قال: "نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس" وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة.
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جار على سنن فواتح السور المكية. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها، فإن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة.
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله {أذن أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير.
(17/132)
وقد قيل في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنه نزل في وقعة بدر، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر: أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك.
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر? فقال: "أتدرون..." وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله: أنزلت عليه وهو في سفر? أن هذه السورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس، فالظاهر من قوله "أنزلت وهو في سفر" أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} إلى آخره. فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة: سيء الحفظ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال: أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر. ولم يسنده ابن عطية.
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا
(17/133)
ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها.
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سورة القرآن في رواية جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة: سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام: أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة: خمسا وسبعين: وعدها أهل الكوفة: ثمانا وسبعين.
ومن أغراض هذه السورة:
- خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.
- والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي والآخرة.
- وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.
- وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطورا.
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات، فالله هو القادر على كل ذلك. فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.
- والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم عليه السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين.
وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته.
(17/134)
- وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.
- وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم. وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
- وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.
- وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.
- وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.
- وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.
- وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر. ووصف المفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به. والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم أتباع الحنيفية وسماهم المسلمين.
- والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.
- وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم.
[1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يوم نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به، ليستبدلوا ذلك بضده.
(17/135)
وأول فريق من الناس دخولا في خطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم. وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يتقى لعظمته بالخالقية، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيد.
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأن لها مناسب للمقام. وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائض، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.
وجملة: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيد حرف التوكيد الواقع في مقام خطاب لا تردد للسامع فيه.
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثرا في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
والزلزلة، حقيقتها: تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.
والساعة: علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} .
وإضافة {زلزلة} إلى {السَّاعَةِ} على معنى في، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر. والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى
(17/136)
الساعة إضافة حقيقية فيكون معنى قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} . الآية.
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازا عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة، قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاء} . وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب: "اللهم اهزمهم وزلزلهم".
والإتيان بلفظ {شيء} للتهويل بتوغله في التنكير، أي زلزلة الساعة لا يعرف كنهها بأنها شيء عظيم، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة {شيء} وهي التي نبه عليها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} في سورة البقرة.
والعظيم: الضخم، وهو هنا استعاري للقوي الشديد. والمقام يفيد أنه شديد الشر.
[2] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
جملة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ} الخ بيان لجملة {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} لأن ما ذكر في هذه الجملة يبين معنى كونها شيئا عظيما وهو أنه عظيم في الشر والرعب.
ويتعلق {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} بفعل {تَذْهَلُ} . وتقديمه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم ترون زلزلة الساعة. فالخطاب لكل من تتأتى منه رؤية تلك الزلزلة بالإمكان.
وضمير النصب في {تَرَوْنَهَا} يجوز أن يعود على {زَلْزَلَةَ} وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأن الزلزلة تسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.
ورؤيتها: رؤية ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه
(17/137)
ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} الخ.
والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا ينسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه. فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدة التشاغل. قاله شيخنا الجد الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكل ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقلية وليست لفظية.
والتحقت هاء التأنيث بوصف {مُرْضِعَةٍ} للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل،فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبس بالإرضاع، كما يقال: هي ترضع. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كل مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته الكافية بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص ... عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد ... كذي غدت مرضعة طفلا ولد
والمراد: أن ذلك يحصل لكل مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعا. فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن علقه على طريقة الكناية.
وزيادة كلمة "كل" للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثم تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة. وذلك أن المرأة لشدة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دل ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية
(17/138)
عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدة الهول يستلزم شدة الهول لغيرها بطريق الأولى، فهو لزوم بدرجة ثانية. وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.
و"ما" في {عَمَّا أَرْضَعَتْ} موصولة ما صدقها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذف مثله كثير.
والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.
وقوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} هو كناية أيضا كقوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} . ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأن الحمل في قرار مكين.
والحمل: مصدر معنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل {تضع} أي تضع جنينها.
والتعبير بـ {ذَاتِ حَمْلٍ} دون التعبير: بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال: امرأة حامل، بل يقال: ذات حمل قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.
والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}.
والخطاب في {وَتَرَى النَّاسَ} لغير معين، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} . وإنما أوثر الإفراد هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله: {وَتَرَى} لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}.
وقرأ الجمهور {سُكَارَى} بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
وقرأه حمزة والكسائي {سُكَارَى} بوزن عطشى في الموضعين. وسكارى وسكرى
(17/139)
جمع سكران. وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى. وأما سكرى فهو محمول على نوكى لما في السكر من اضطراب العقل. وله نظير وهو جمع كسلان على كسالى وكسلى.
وجملة: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} في موضع الحال من الناس.
و {عَذَابَ اللَّهِ} صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبن ملائكة العذاب.
وجملة: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} في موضع الحال من "الناس".
[3] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}
عطف على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، أي الناس فريقان: فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته. وهذا الفريق هم أئمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه.
والاقتصار على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومهم وصدهم إياهم عن متابعة الذين لاتبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولهم في الفطرة.
وقيل: أريد بـ {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي، فتكون "من" الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل من تصدق عليه الصلة.
والمجادلة: المخاصمة والمحاجة. والظرفية مجازية، أي يجادل جدلا واقعا في شأن الله. ووصف الجدل بأنه بغير علم، أي جدلا ملتبسا بمغايرة العلم، وغير العلم هو الجهل، أي جدلا ناشئا عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.
واتباع الشيطان: الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عرض على نظر واستدلال.
وكلمة {كُلَّ} في قوله: {كُلَّ شَيْطَانٍ} مستعملة في معنى الكثرة. كما سيأتي قريبا عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في هذه السورة. وتقدم في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} في سورة البقرة.
(17/140)
والمزيد: صفة مشبهة من مرد بضم الراء على عمل. إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل. وكأنه محول من مرد بفتح الراء بمعنى مرن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية، فالمريد صفة مشبهة. أي العاتي في الشيطنة.
[4] {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}
جملة: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} إلى آخرها صفة ثانية لـ {شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} فالضمير المجرور عائد إلى {شَيْطَانٍ}. وكذلك الضمائر في {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ}.
وأما الضميران البارزان في قوله: {يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} فعائدان إلى "من" الموصوله. أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.
واتفقت القراءات العشر على قراءة {كُتِبَ} بضم الكاف على أنه مبني للنائب. واتفقت أيضا على فتح الهمزتين من قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}.
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير، فأطلق على لزوم ذلك فعل {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي وجب عليه، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة. قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
والضمير في {أَنَّهُ} عائد إلى {شَيْطَانٍ} وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل {كُتِبَ} . إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة، والمصدران المنسبكان من قوله: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} وقوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} نائب فعل {كُتِبَ} ومفرع عليه بفاء الجزاء. أي كتب عليه إضلال من تولاه. والتولي: اتخاذ ولي، أي نصير، أي من استنصر به.
و"من" موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط. وهي مبتدأ ثان. والضمير المستتر في قوله: {تَوَلَّاهُ} عائد إلى {مَنْ} الموصولة. والضمير المنصوب البارز عائد إلى {شَيْطَانٍ}. أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله.
والفاء في قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن "من" الموصولة
(17/141)
تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار. والمصدر المنسبك من قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن الم "من" وصولة. والتقدير: فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير. وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ. والتقدير: ثابتان.
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على {مَنْ تَوَلَّاهُ} ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع. والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتوليه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير.
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في سورة براءة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل"كتب". فلذلك كانت "من" في قوله: {مَنْ يُحَادِدِ} شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله: {أَنَّهُ} ضمير شأن.
ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل {يُضِلَّهُ} لظهور المعنى.
وذكر متعلق فعل {يَهْدِيَهُ} وهو {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.
وفي الجمع بين {يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ} محسن الطباق بالمضادة. وقد عد من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} النضر بن الحارث. وقيل نزلت فيه. كان كثير الجدل يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا. وعد منهم أيضا أبو جهل، وأبي بن خلف. ومن قال: إن المقصود بقوله: {مَنْ يُجَادِلُ} معينا خص الآية به. ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب.
[5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى
(17/142)
أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه. وهو الخلق الأول. قال تعالى: {فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب، ثم كونه من ماء. ثم خلقه أطوارا عجيبة، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه.
ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم.
وجعل ريبهم في البعث مفروضا بـ"إن" الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبه كما في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ}.
والظرفية المفادة بـ"في" مجازية. شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.
وجملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جوابا لهذا الشرط بل هي دليل الجواب. والتقدير: فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت، أو التقدير: فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب.
والذي خلق من تراب هو أصل النوع. وهو آدم عليه السلام وحواء، ثم كونت
(17/143)
في آدم وزوجه قوة التناسل. فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب"ثم".
والنطفة: اسم لمني الرجل، وهو بوزن فعلة بمعنى مفعول، أي منطوف. والنطف: القطر والصب. والعلقة: القطعة من الدم الجامد اللين.
والمضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مثله. وهي فعلة بمعنى مفعولة بتأويل: مقدار ممضوغه. و "ثم" التي عطف بها {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي.
و{مِنْ} المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد.
وكون الإنسان مخلوقا من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مدة الحيض جزاءا هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين، وهذا الجزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي "المبيض" بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بيضات دقيقة هي حبيبات دقيقة جدا وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت، مودعة في كرة دقيقة كالغلاف لها يقال لها الحويصلة بضم الحاء بصيغة تصغير حوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحويصلة، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمة بوق فلوبيوس لشبهه بالبوق، وأضيف إلى "فلوبيوس" اسم مكتشفه. وهو البرزخ بين المبيض والرحم، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المستملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالتشكل يشبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي، وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل. وبعد أربعين يوما تصير البيضة علقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 ميليمتر. ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لحم هي المسماة "مضغة" طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكيلات الوجه والأنف خفية جدا كالخطوط. ثم يزداد التشكل يوما فيوما إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفع للخروج وهو الولادة.
فقوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} صفة {مُضْغَةٍ} . وذلك تطور من تطورات المضغة. إشارة إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلقة، أي غير ظاهر فيها شكل الخلقة. ثم تكون مخلقة، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف،ولذلك
(17/144)
لم يذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة، وإذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة. وإذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعين أن كلا الوصفين لازمان للمضغة. فلا يستقيم تفسير من فسر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت.
والتخلق: صيغة تدل على تكرير الفعل، أي خلقا بعد خلق، أي شكلا بعد شكل.
وقدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال، وذكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم. فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام.
ولذلك عقب بقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلا واضحا على إمكان الإحياء بعد الموت.
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط من فعل ونحوه تدل عليه جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الخ، وهو فعل: فاعلموا، أو فنعلمكم، أو فانظروا.
وحذف مفعول {لِنُبَيِّنَ} لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة، أي لنبين لكم قدرتنا وحكمتنا.
وجملة: {وَنُقِرُّ} عطف على جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وعدل عن فعل المضي إلى المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم، مع تفاوت القرار. فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر، ومنها ما يزيد على ذلك، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد.
والأجل: الأمد المجعول لإتمام عمل ما، والمراد هنا مدة الحمل.
والمسمى: اسم مفعول سماه إذا جعل له اسما، ويستعار المسمى للمعين المضبوط لضبط الأمور غير المشخصة بعدد معين أو وقت محسوب، بتسمية الشخص بوجه شبه يميزه عما شابهه. ومنه قول الفقهاء: المهر المسمى، أي المعين من نقد معدود أو عرض موصوف، وقول الموثقين: وسمي لها من الصداق كذا وكذا.
(17/145)
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبل وضعه. والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض، وكل معين في علم الله تعالى. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} في سورة البقرة.
وعطف جملة: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} بحرف "ثم" للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود، وقوله: {طِفْلاً} حال من ضمير {نُخْرِجُكُمْ} أي حال كونكم أطفالا. وإنما أفرد {طِفْلاً} لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع.
وجملة: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} مرتبطة بجملة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} ارتباط العلة بالمعلول، واللام للتعليل، والمعلل فعل {نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}.
وإذا قد كانت بين الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة علم أن بلوغ الأشد هو العلة الكاملة لحكمة إخراج الطفل. وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وحرف "ثم" في قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} تأكيد لمثله في قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} هذا ما ظهر لي في اتصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الآلوسي.
وإنما جعل بلوغ الأشد علة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلي ذلك قوله بعد هذا {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} فجعل "الأشد" كأنه الغاية المقصودة من تطويره.والأشد: سن الفتوة واستجماع القوى. وقد تقدم في سورة يوسف {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}.
ووقع في سورة المؤمن {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} . فعطف طور الشيخوخة على طور الأشد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير. وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة. ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الاضمحلال، ولأن المخاطبين بها فريق معين من المشركين كانوا في طور الأشد، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفرا يردون إلى أرذل العمر، وهو طور الشيخوخة بقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى
(17/146)
أَرْذَلِ الْعُمُرِ} .
وجيء بقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى: ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ}
وقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} هو عديل قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحن الخطاب. وجعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة إلى أرذل العمر باعتبار أنه علة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصودا عند رد الإنسان غلى ارذل العمر، فإن ضعف القوى الجسيمة يستتبع ضعف القوى العقلية قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.
وقوله: {مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ} أي بعد ما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.
و "من" الداخلية على "بعد" هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة "من" في خصوص جر النكرة بعد نفي وشبهه، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صوري يساوي معنى التأكيد، ولذلك لم يؤت بـ"من" في قوله تعالى: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} في سورة النحل.
والآيتان بمعنى واحد فذكر "من" هنا تفنن في سياق العبرتين.
و {شَيْئاً} واقع في سياق النفي يعم كل معلوم، أي لا يستفيد معلوما جديدا. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
(17/147)
عطف على جملة: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، والخطاب لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام. وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالة مشاهدة فلذلك افتتح بفعل الرؤية. بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأ غير مشاهد فقيل في شأنه {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} . فهو مناسب الأول {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت.
والهمود: قريب من الخمود. فهمود الأرض جفافها وزوال نبهتا، وهمود النار خمودها.
والاهتزاز: التحرك إلى أعلى، فاهتزاز الأرض تمثل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى.
وربت: حصل لها ربو بضم الراء وضم الموحدة وهو ازدياد السيء يقال: ربا يربو ربوا، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر. وقرأ أبو جعفر {وربأت} بهمزة مفتوحة بعد الموحدة، أي ارتفعت. ومنه قولهم: ربأ بنفسه عن كذا، أي ارتفع مجازا، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلوا ربوة من الأرض لينظر هل من عدو يسير إليهم.
والزوج: الصنف من الأشياء. أطلق عليه اسم الزوج تشبيها له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى. لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجا فيسمى كل واحد منهما زوجا بهذا المعنى، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين، ثم أطلق على كل نوع وصنف وإن لم يكن ذكرا ولا أنثى. فأطلق هنا على أنواع النبات.
والبهيج: الحسن المنظر السار للناظر. وقد سيق هذا الوصف إدماجا للامتنان في أثناء الاستدلال امتنانا بجمال صورة الأرض المنبتة، لآن كونه بهيجا لا دخل له في الاستدلال، فهو امتنان محض كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} .
(17/148)
[6-7] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
فذلكة ما تقدم، فالجملة تذييل.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.
وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معين على نسق قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.
والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق الخ. والباء للسببية فالمعنى: تكون ذلك الخلق من تراب وتطور، وتكون إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أن الله ألا له الحق دون غبره. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابسا لحقية إلهية الله وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله. وهذا ارشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجود الاستدلال.
والحق: الثابت الذي لا مراء فيه، أي هو الموجود.والقصر إضافي، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سلْطَانٍ} . وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقض للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}.
وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، فهي لبيان إمكان البعث.
ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة: إما بدلالة المسبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء, وإما بدلالة التمثيل على الممثل والواقع على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى، ومجيء
(17/149)
الساعة، والبعث، وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحرى بطريقة.
والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياة يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقية آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى. وإذا كان ذلك علم أنه ساعة فناء هذا العالم واقعة قياسا على انعدام المخلوقات بعد تكوينها، وعلم أن الله يعيدها قياسا على إيجاد النسل وانعدام أصله.الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.
وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد. لأن لا النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة "إن" في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.
[8-9] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
عطف على جملة: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} كما عطفت جملة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} . والمعنى: إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناس بعد ذلك فريقان: فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقي في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أئمة الشرك وزعماء الباطل.
وجملة: {لا رَيْبَ فِيهَا} معترضة بين المتعاطفات، أي ليس الشأن أن يرتاب فيها، فلذلك نفى جنس الريب فيها، أي فالريب والمعنى بهذه الآية هو المعنى بقوله فيما مضى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة. فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.
(17/150)
ودافعهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدم علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.
ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث عدم علمهم ما يجادلون فيه. وانتفاء الهدى.وانتفاء تلقي شريعته من قبل. والتكبر عن الاعتراف بالحجة. ومحبة إضلال الناس عن سبيل الله. فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة. ومن أساطين هذا الفريق من عدوا في تفسير الآية الأولى مثل: النصر بن حارث. وأبي جهل، وأبي بن خلف.
وقيل: المراد في هذه الآية بمن يجادل في الله: النضر بن الحارث، كرر الحديث عنه تبيينا لحالتي جداله. وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل، كما قيل: أن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث، فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل، وروي ذلك عن أبن عباس وقيل: هو الأخنس بن شريق وتقدم معنى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} في نظير هذه الآية. وقيل المراد بـ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر. والمراد بـ {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً} المقلدون بفتح اللام أئمة الكفر.
والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله، أي ولا هدى هو مهدي به، وتلك مجادلة المقلد إذا كان مقلدا هاديا للحق مثل أتباع الرسل، فهذا دون مرتبة من يجادل في الله بعلم. ولذلك لم يستغن بذكر السابق عن ذكر هذا.
والكتاب المنير: كتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل. وهذا كما يجادل أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.
والمنير: المبين للحق، شبه بالمصباح المضيء في الليل.
ويجيء في وصف {كِتَابٍ} بصفة {مُنِيرٍ} تعريض بالنضر ابن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وكتاب أخبار رستم، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة.
والثني: لي الشيء، يقال: ثني عنان فرسه، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها. ويطلق أيضا الثني على الإمالة.
(17/151)
والعطف: المنكب والجانب و {ثَانِيَ عِطْفِهِ} تمثيل للتكبير والخيلاء. ويقال: لوي جيده، إذا أعرض تكبرا. وهذه الصفة تنطبق على حال أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.
واللام في قوله {لِيُضِلَّ} لتعليل المجادلة، فهو متعلق بـ {يُجَادِلُ} أي غرضه من المجادلة الإضلال.
وسبيل الله: الدين الحق.
وقوله {لِيُضِلَّ} بضم الياء أي ليضلل الناس بجداله. فهذا المجادل يريد بجدله ان يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.
وإفراد الضمير في قوله: {عِطْفِهِ} وما ذكر بعده مراعاة للفظ "من" وإن كان معنى تلك الضمائر الجمع.
وخزي الدنيا: الإهانة، وهو ما أصابهم من القتل يوم بدر ومن القتل والأسر بعد ذلك. وهؤلاء هم اللذين لم يسلموا بعد. وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما أبناء عفراء. وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.
وينطبق الخزي أيضا على ما حل بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبرا في موضع يقال له: الأثيل قرب المدينة عقب واقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة:
صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... صبر المقيد وهو عان موثق
وإذا كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محال كان قوله تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن وإذاقة العذاب تخيل للمكنية.
وجملة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى: {وَنُذِيقُهُ}.
و {قَدَّمَتْ} بمعنى: أسلفت. جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء بل أن يصل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضرا ينتظره قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
(17/152)
حَاضِراً} .
والإشارة إلى العذاب. والباء سببية، و "ما" موصولة. وعطف على "ما" الموصولة قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لأنه في تأويل مصدره، أي وبانتفاء ظلم الله العبيد، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.
وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد. والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فصيغت له زنة المبالغة،وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن. وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد.
[11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}
هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المعرض عنها إعراضا تاما ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخير عقب ذلك علموا أن دينهم القديم ليس بحق وأن آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم سر من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضبا من مفارقتهم عبادتها كما حكي الله عن عاد إذ قالوا لرسولهم {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
فالعبادة في قوله تعالى: {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} .
والظاهر أن الآية نزلت بالمدينة، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
(17/153)
وفي رواية الحسن: أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل: عبد الله بن أبي بن سلول. وهذا بعيد لأن أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} . وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بان يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود وفروا. فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلب في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.
وفي حديث الموطأ : "أن أعرابيا أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعك بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها" فجعله خبثا لأنه لم يكن مؤمنا ثابتا. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفرا من أسد وغطفان قالوا: تخاف أن لا ينصر الله محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ}.
وعن الضحاك: أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم: عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قالوا: ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق. وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل. وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبر عن ذلك قوله تعالى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.
وحرف الشيء طرفه وجانبه سواء كان مرتفعا كحرف الجبل والوادي أم كان مستويا كحرف الطريق. ويطلق الحرف على طرف الجيش. ويجمع على طرف بوزن عنب قال في القاموس : ولا نظير له سوى طل وطلل.
وقوله تعالى: {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جبل أو حرف واد فهو متهيئ لأن يزل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكب.
ومعنى اطمأن: استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطمأنينة. وتقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة.
(17/154)
والمعنى: استمر على التوحيد فرحا بالخير الذي أصابه. واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمنا إذا زال عنه التردد وحال هؤلاء قريب من حال المؤلفة قلوبهم.
والانقلاب: مطاوع قلبه إذا كبه، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسلفه كما يقلب القالب بفتح اللام. فالانقلاب مستعمل في حقيقته، والكلام تمثيل. وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله: {عَلَى وَجْهِهِ} أي سقط وانكب عليه، كقول امرئ القيس:
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبه الله على وجهه" .
وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضا الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.
ويطلق الانقلاب كثيرا على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون. ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه: انقلب على عقبيه لا على وجهه، كما قال تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.
والفتنة: اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له. وهي مقابل الخير.
وجملة: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} يدل اشتمال من جملة {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} .
وجملة: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} معترضة بين جملة: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِه} وجملة: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} التي هي في موضع الحال من ضمير {انْقَلَبَ} أي: أسقط في الشرك.
والخسران: تلف جزء من أصل مال التجارة، فسبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله. وثنى على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.
وتعلق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير
(17/155)
الآخرة.
فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجو له.
والمبين: الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند اليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل. والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي. ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم. والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه. وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.
[12] {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}
جملة: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ حال من ضمير {انْقَلَبَ}.
وقدم الضر على النفع في قوله: {مَا لا يَضُرُّهُ} إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنبا للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسبا أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى: {مَا لا يَنْفَعُهُ} أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتنزيل عنه الضر فينتفع بفعلها. والمعنى: أنها لا تفعل ما يجلب ضرا ولا ما يجلب نفعا.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} إلى الدعاء المستفاد من {يَدْعُو} .
والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
والبعيد: المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له.
[13] {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
(17/156)
جملة في موضع حال ثانية. ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام. فيعد أن بين لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر. فموضع الارتقاء هو مضمون جملة: {مَا لايَضُرُّهُ} كأنه قيل: ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضر. وذلك أن عبادة الأصنام تضره في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.
ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضرا ناشئا عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ولم يقل: لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله: {مَا لا يَضُرُّهُ} وقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}.
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحضه للضر وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلا الضر.
واللام في قوله: {لَمَنْ} لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد "إن" من التأكيد.
وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة من الموصولة. والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه.
ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على "من" الموصولة ويكون فعل {يَدْعُو} معلقا عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.
وجملة: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادرا كان مذمة وغضاضة، فأما أن يكون ذلك منه مطردا فذلك شر الموالي.
[14] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
هذا مقابل قوله: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فالجملة معترضة. وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب
(17/157)
الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} تذييل للكلام المتقدم من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى هنا، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض. وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة.
وفعل الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سنة نظام هذا العالم. وتبيينة الخير والشر. وترتيبه الثواب والعقاب. وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.
[15] {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
موقع هذه الآية غامض، ومفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالا.
فيحتمل أن يكون موقعها استئنافا ابتدائيا أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} . وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.
ويحتمل أن يكون موقعها تذييلا لقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية بعد أن اعترض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد: أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام.
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء. وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل لن ينصره بالمجرور بقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده. وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم. وهؤلاء مشركون مترددون.
ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله
(17/158)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ} ولم تورد فيه جملة: {وَمِنَ النَّاسِ} كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ} الخ إظهارا في مقام الإضمار، فإن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ذلك الفريق فيقال بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} الخ عائدا الضمير المستتر في قوله: {فَلْيَمْدُدْ} على {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}.
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين. أحدهما: بعد معاد الضمير. وثانيهما التنبيه على أن عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في إتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.
وضمير النصب في {يَنْصُرَهُ} عائد إلى {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على كلا الاحتمالين.
واسم {السَّمَاءِ} مراد به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضا أخذا بما رواه القرطبي عن ابن زيد "يعني عبد الرحمان بن زيد ابن أسلم" أنه قال في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال: هي السماء المعروفة، يعني المطلة. فالمعنى: فلينط حبلا بالسماء مربوطا به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئا من إزالة غيظه.
ومفعول "يقطع" محذوف لدلالة المقام عليه. والتقدير: ثم ليقطعه، أي ليقطع السبب.
والأمر في قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} للتعجيز، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرط لا يقع كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا}.
وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نسجت على إيجاز بديع. شبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارهم الإسلام على حنق، أو حالة ترددهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم: عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سبل الانفراج، فامددوا حبلا بأقصى ما يمد إليه حبل، وتعلقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخروا إلى الأرض. وذلك تهكم بهم
(17/159)
في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم. وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضر الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم. ولعل هؤلاء من المنافقين.
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف. والمناسبة ظاهرة.
ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير {يَنْصُرَهُ اللَّهُ} عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفراء والزجاج.
ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضا بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} الآية.
والسبب: الحبل. وتقدم في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} في سورة البقرة.
والقطع: قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.
و "ما" مصدرية، أي غيظه.
والاستفهام بـ {هَلْ} إنكاري. وهو معلق فعل {فَلْيَنْظُرْ} عن العمل. والنظر قلبي. وسمي الفعل كيدا لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.
وقرأ الجمهور {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} بسكون لام ليقطع وهو لام الأمر. فإذا كان في أول الكلمة كان مكسورا، وإذا وقع بعد عاطف غير "ثم" كان ساكنا مثل {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}. فإذا وقع بعد "ثم" جاز فيه الوجهان. وقرأه ابن عامر، وأبو عمرو وورش عن نافع، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب - بكسر اللام -.
(17/160)
[16] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}
لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها؛ بأن شبه ذلك التبيين بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه، أي مثل هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بينات.
فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف غرض على غرض والمناسبة ظاهرة، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بان الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن. فلام التعليل محذوفة. وحذف حرف الجر مع "ان" مطرد.
[17] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
فذلكة لما تقدم. لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مشار لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان. وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدعى أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.
فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة. إذ لم تقدهم الحجج في الدنيا.
وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض. ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه. لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وذلك من قبيل الكناية التعريضية.
وذكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.
وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل الملل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.
(17/161)
فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين: إلها للخير، وإلها للشر، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعبا تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النحل المجوسية أسسها كيومرث الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه السلام، ولذلك يلقب أيضا بلقب "جل شاه1" تفسيره: ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطا بوجه علمي وكان عصر "كيومرث" يلقب "زروان" أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة: الزروانية وهي تثبت إلهين هما "يزدان" و "أهرمن". قالوا: كان يزدان منفردا بالوجود الأزلي، وأنه كان نورانيا، وأنه بقي كذلك تسعة آلف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه: أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي "أهرمن" وهو إله الظلمة مطبوعا على الشر والضر. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله في لزومياته:
قال أناس باطل زعمهم ... فراقبوا الله ولا تزعمن
فكر يزدان على غرة ... فصيغ من تفكيره أهرمن
فحدث بين "أهرمن" وبين "يزدان" خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثم نشأت على هذا الدين نحل خصت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة "زرادشت" الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير "أهورا مزدا" أو "أرمزد" أو "هرمز"، وسمي إله الشر "أهرمن"، وجعل إله الخير نورا، وإله الشر ظلمة. ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النور.
ووسع شريعة المجوسية، ووضع لها كتابا سماه "زندافستا". ومن أصول شريعته تجنب عبادة التماثيل.
ثم ظهرت في المجوس نحلة المانوية. وهي المنسوبة إلى "ماني" الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م.
وظهرت في المجوس نحلة "المزدكية"، وهي منسوبة إلى "مزدك" الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة 487 وسنة 523م. وهي نحلة قريبة من "المانوية"، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسية قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.
ـــــــ
1 لعل صواب العبارة "جهان شاه".
(17/162)
وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتابا، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يكره المشركون على الدخول في الإسلام.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} في سورة النحل.
وأعيدت "إن" في صدر الجملة الواقعة خبرا عن اسم "إن" الأولى توكيدا لفظيا للخبر لطول الفصل بين اسم "إن" وخبرها. وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل. وتقدم منه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف. وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة "إن" أقل حسنا كقول جرير:
إن الخليفة أن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبرا ضمير اسم "إن" الأولى كما تقول إن زيدا إنه قائم. بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكد الأول كافيا.
والفصل: الحكم، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.
[18] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية. وهي مرتبطة بمعنى قوله: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} إلى قوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} ارتباط الدليل بالمطلوب فإن دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من
(17/163)
دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه.
وما وقع بين هاتين الجملتين استطراد واعتراض.
والروية: علمية. والخطاب لغير معين.
والاستفهام إنكاري. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريريا، لأن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرر من سورة الرعد وسورة النحل. وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين.
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه، وهو حسن وإن أباه الزمخشري، وقد حققناه في المقدمة التاسعة، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم.
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطباع. وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى، وتلبسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقية الموجودات وإن كان حاصلا في حالهم كحال المخلوقات الأخرى.
وجملة: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} معترضة بالواو.
وجملة: {حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} مكنى بها عن ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشترك لعذاب النار. فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به.
وجملة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} اعتراض ثان بالواو.
والمعنى: أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة.
(17/164)
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحض حرف التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل، فتغني "أن" غناء حرف التعليل أو السببية.
وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.
[19-22] {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة: {هَذَانِ خَصْمَانِ} موقع الاستئناف البياني، لأن قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حق على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك. فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مثير إلى ما يفيده قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} من كون أولئك فريقين: فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهده بالعين، ومثلها كثير في الكلام.
والاختصام: افتعال من الخصومة. وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال: خاصمه واختصما، وهو من الأفعال المقتضية جانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدا. وتقدم قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} في سورة النساء. واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاء جلبته، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدا للتفصيل في قوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} .
فالمراد من هذه الآية ما يعم جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدين.
ووقع في الصحيحين عن أبي ذر: أنه كان يقسم أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبيه علي ابن أبي طالب وعتبة بن الحارث الذين
(17/165)
بارزوا يوم بدر شيبة ابن ربيعة. وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عبادة: وفيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وليس في كلام علي أن الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عبادة، وعليه فهذه الآية مدنية فتكون {هذان} إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنزل حضور قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البلغاء. ومنه قول الأحنف بن قيس: "خرجت لأنصر هذا الرجل" يريد علي بن أبي طالب في قصة صفين.
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم. فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية. ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازا مرسلا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا أتحدث خصومتهم كما في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى: {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} .
ومعنى {فِي رَبِّهِمْ} في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر. وقرأ الجمهور {هَذَانِ} بتخفيف النون، وقراه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان.
والتقطيع: مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد: قطع شقة الثوب. وذلك أن الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده. فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
(17/166)
والإصهار: الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس، يقال: أصهره وصهره.
وما في بطونهم: أمعاؤهم، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.
والمقامع: جمع مقمعة بكسر الميم بصيغة اسم آله القمع. والقمع: الكف عن شيء بعنف. والمقمعة: السوط، أي يضربون بسياط من حديد.
ومعنى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} أنهم لشدة ما يغمهم، أي يمنعهم من التنفس، يحاولون الخروج فيعادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
والحريق: النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إحانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.
[23-24] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفا بالواو على جملة: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} ، لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} بأن يقال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم الله جنات... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلا مفتتحا بحرف التأكيد ومتوجا باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أن هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.
فقوله: {يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مقابل قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} يقابل قوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} . وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} مقابل قوله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}. وقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} مقابل قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} فإنه من القول النكد.
(17/167)
والتحلية وضع الحلي على أعضاء الجسم. حلاه: ألبسه الحلي مثل جلبب.
والأساور: جمع أسورة الذي هو جمع سوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً} في سورة الكهف.
و "من" في قوله: {من أساور} زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يحلون أساور معرضا للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي. ولذلك فـ {أَسَاوِرَ} في موضع المفعول الثاني لـ {يُحَلَّوْنَ}.
{ولؤلؤا} قرأه نافع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفا على محل {أساور} أي يحلون لؤلؤا أي عقودا ونحوها. وقرأه الباقون بالجر عطفا على اللفظ. والمعنى: أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ.
وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر {لؤلؤ} مخالفة لمكتوب المصحف. والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجبا على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف. والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضا خط المصحف واعتمدوا روايتهم.
وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأن التأكيد تعلق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.
واللؤلؤ: الدر. ويقال له الجمان والجوهر. وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تستخرج من أجواف حيوان مائي حلزوني مستقر في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غلافه صدفا، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه. وهذا الحيوان يوجد في عدة بحار: كبحر العجم وهو المسمى بالبحرين، وبحر الجابون، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات، ويستخرجه عواصون مدربون على التقاطه من قعر البحر بالغوص، يغوص الغائص مشدودا بحبل بيد من يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط. وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علس أو الأعشى:
(17/168)
لجمانة البحري جاء بها ... عواصها من لجة البحر
تصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدري
وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... على وجهها ماء الفرات يموج
وقد أشارت إليه آية سورة النحل {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} ، ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد {يُحَلَّوْنَ} بصيغة الاسم دون " يَلْبَسُونَ" لتحصل الدلالة على الثبات والاستمرار كما دلت صيغة {يُحَلَّوْنَ} على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل: يحلون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.
والحرير: يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا. وأصل اسم الحرير اسم الخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفها لفا بعضها إلى بعض مثل كبة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه. وإنما تحصل الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيطلقونها خيطا واحدا طويلا. ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان. وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديما وحديثا. وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريبا حيث يكثر شجر التوت. لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان علقه ورق التوت، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التوت. وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصلون الحرير إلا من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية. وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب. ثم نقل بزر دود الحرير الذي يولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الإمبراطور بوستنيانوس بين سنة 527 وسنة 565م. ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف. وعرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.
ومعنى {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يلهمهم
(17/169)
أقوالا حسنة يقولونها بينهم. وقد ذكر بعضها في قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالا طيبة. وهو معنى قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ.سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . وهذا أشد مناسبة بمقابلة ما يسمعه أهل النار في قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
وجملة: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} معترضة في آخر الكلام، والواو للاعتراض، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} ، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين. وسيجيء ذكر مقابلها في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وذلك من أفانين المقابلة. والمعنى: وقد هدوا إلى صراط الحميد في الدنيا، وهو دين الإسلام، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.
والحميد من أسماء الله تعالى، أي المحمود كثيرا فهو فعيل بمعنى مفعول، فإضافة {صِرَاطِ} إلى اسم "الله" لتعريف أي صراط هو. ويجوز أن يكون {الْحَمِيدِ} صفة لـ {صِرَاطِ} ، أي المحمود لسالكه. فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة. والصراط المحمود هو صراط دين الله. وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا.
[25] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
هذا مقابل قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابل في الأحوال المذكورة في آية: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} كما تقدم. فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني. والمعنى: كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتباعهم صراط الله كذلك كان سبب استحقاق المشركين ذلك العذاب كفرهم وصدهم عن سبيل الله.
(17/170)
وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلص بديع إلى ما بعده من بيان حق المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمر الإلحاد فيه، والتنويه به وتنزيهه عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعدوان.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به.
وجاء {يَصُدُّونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصد ووافقوهم.
أما صيغة الماضي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فلأن ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وسبيل الله: الإسلام، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداء المؤمنين إليه لهم نعيم الجنة.
والصد عن المسجد الحرام مما شمله الصد عن سبيل الله فخص بالذكر للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذكر بنائه، وشرع الحج له من عهد إبراهيم. والمراد بصدهم عن المسجد الحرام صد عرفه المسلمون يومئذ. ولعله صدهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت. والمعروف من ذلك أنهم منعوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما جاء إلى مكة معتمرا وقال لصاحبه أمية بن خلف: انتظر لي ساعة من النهار لعلي أطوف بالبيت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وغرفه. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة? آمنا وقد أوتيتم الصباة "يعني المسلمين". ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل: إن الآية نزلت في ذلك. وأحسب أن الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة.
ووصف المسجد بقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} الآية للإيماء إلى علة مؤاخذة المشركين بصدهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبد به العاكف فيه، أي المستقر في المسجد، والبادي، أي البعيد عنه إذا دخله.
والمراد بالعاكف: الملازم له في أحوال كثيرة، وهو كناية عن الساكن بمكة لأن الساكن بمكة يعكف كثيرا في المسجد الحرام، بدليل مقابلته بالبادي، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازا بعلاقة اللزوم العرفي. وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من
(17/171)
الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.
وقرأ الجمهور {سَوَاءً} بالرفع على أنه مبتدأ و {العَاكِفُ فِيهِ} فاعل سد مسد الخبر، والجملة مفعول ثان لـ {جَعَلْنْاهُ}. وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني لـ {جَعَلْنْاهُ}.
والعكوف: الملازمة. والبادي: ساكن البادية.
وقوله: {سَوَاءً} لم يبين الاستواء فيما ذا لظهور أن الاستواء فيه بصفة كونه مسجدا إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي: الطواف، والسعي، ووقوف عرفه.
وكتب {وَالبَادْ} في المصحف بدون ياء في آخره. وقرأ ابن كثير {والبادي} بإثبات الياء على القياس لأنه معرف، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرفا باللام، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أن الياء عوملت معاملة الحركات وألفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها. وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل. ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف.
وقراه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف. والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير.
وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دور مكة إثباتا ولا نفيا لأن سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره، ويلحق به ما هو من تمام مناسكه: كالمسعى، والموقف، والمشعر الحرام، والجمار. وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد. ولا خلاف بين المسلمين في أن الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلا ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة.
وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال: فكان عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون: إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه. وكانت دور مكة تدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مالك والشافعي: دور مكة ملك لأهلها، ولهم الامتناع من إسكان غيرهم، ولهم إكراؤها للناس، وإنما تجب المواساة عند الضرورة، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله
(17/172)
عمر فهو من المواساة. وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجنا. وقال أبو حنيفة: دور مكة لا تملك وليس أهلها أن يكروها. وقد ظن أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أن مكة فتحت عنوة أو صلحا. والحق أنه لا بناء على ذلك لأن من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها. ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما من على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي. ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم.
وخبر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} محذوف تقديره: نذقهم من عذاب أليم، دل عليه قوله في الجملة الآتية {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحادا بظلم فإن جملة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} تذييل للجملة السابقة لما في "من" الشرطية من العموم.
والإلحاد: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور. والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس.
والباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة للتوكيد مثلها في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. أي من يرد إلحادا وبعدا عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته.
والباء في {بِظُلْمٍ} للملابسة. فالظلم: الإشراك، لأن المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناواة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام.
و"من" في قوله: {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة "من" وقوعها بعد نفي أو نهي. ولك أن تجعلها للتبعيض، أي نذقه عذابا من عذاب أليم.
[26] {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
عطف على جملة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} عطف قصة على قصة. ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن الملحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حين أمر ببنائه. والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحج.
(17/173)
و"إذا" اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدر على ما هو متعارف في أمثاله، والتقدير: واذكر إذ بوأنا، أي اذكر زمان بوأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ، أي اذكر ذلك الوقت العظيم. وعرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدل عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر.
والتبوئة: الإسكان. وتقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا}.
والمكان: الساحة من الأرض وموضع للكون فيه، فهو فعل مشتق من الكون، فتبوئته المكان: إذنه بأن يتخذه مباءة، أي مقرا يبني فيه بيتا، فوقع بذكر {مكان} إيجاز في الكلام كأنه قيل: وإذ أعطيناه مكانا ليتخذ فيه بيتا، فقال: مكان البيت، لأن هذا حكاية عن قصة معروفة لهم. وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن.
واللام في {لِإِبْرَاهِيمَ} لام العلة لأن {إبراهيم} مفعول أول لـ {بَوَّأْنَا} الذي هو من باب أعطى، فاللام مثلها في قولهم: شكرت لك، أي شكرتك لأجلك. وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة.
و {البَيْتِ} معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر {مَكَانَ} حشوا. والمقصود أن يكون مأوى للدين، أي معهدا لإقامة شعائر الدين.
فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعلما بالدين فلذلك أعقب بحرف أن التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل معلما للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركا، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} في سورة آل عمران.
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} مؤذن بكلام مقدر دل عليه {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} . والمعنى: وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان، وبعد أن بناه قلنا لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي.
(17/174)
وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت. والتطهير: تنزيهه عن كل خبيث: معنى كالشرك والفواحش وظلم الناس وبث الخصال الذميمة، وحسا من الأقذار ونحوها، أي أعدده طاهرا للطائفين والقائمين فيه.
والطواف المشي حول الكعبة، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.
والمراد بالقائمين الداعون تجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعا للدعاء. قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت مما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
والركع: جمع راكع، ووزن فعل يكثر جمعا لفاعل وصفا إذا كان صحيح اللام نحو: عذل وسجد.
والسجود: جمع ساجد مثل: الرقود، والقعود، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مصادر أفعالها.
[27-28] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}
{وَأَذِّنْ} عطف على {وَطَهّرْ بَيْتِيَ}. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأن ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.
والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء، والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يعدى إلى المفعول الثاني بالباء.
والناس يعم كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.
والمراد بالحج: القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحج علما بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا
(17/175)
إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنة المؤثرات لأهل المقصد النافع.
وفي تعليق فعل {يَأْتُوكَ} بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحج كل عام يبلغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل إصبعيه في أذنيه ونادى: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا". وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. وقد كان إبراهيم رحالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه.
وجملة: {يَأتُوكَ} جواب للأمر، جعل التأذين سببا للإتيان تحقيقا لتيسير الحج على الناس. فدل جواب الأمر على أن الله ضمن له استجابة ندائه.
وقوله {رجالا} حال من ضمير الجمع في قوله: {يَأتُوكَ}.
وعطف عليه {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} بواو التقسيم التي بمعنى "أو" كقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب، إذ الراكب لا يكون راجلا ولا العكس. والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جوابا للأمر، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم.
ولكون هذه الحال أغرب قدم قوله: {رِجَالَاً} ثم ذكر بعده {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين.
و {رِجَالَاً} : جمع راجل وهو ضد الراكب.
والضامر: قليل لحم البطن. يقال: ضمر ضمورا فهو ضامر، وناقة ضامر أيضا. والضمور من محاسن الرواحل والخيل لأنه يعينها على السير والحركة.
فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال: وعلى كل راحلة.
وكلمة "كل" من قوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} مستعملة في الكثرة، أي وعلى رواحل كثيرة. وكلمة "كل" أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك، وقول النابغة:
(17/176)
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
أي بها وحش كثير في رمال كثيرة.
وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة:
جادت عليه كل بكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم.
وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} في سورة البقرة. ويأتي إن شار الله في سورة النمل.
و {يَأْتِينَ} يجوز أن يكون صفة لـ {كُلِّ ضَامِرٍ} لأن لفظ "كل" صيره في معنى الجمع. وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل: يأتون، لأن الرواحل هي سبب إتيان الناس من بعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه.
ويجوز أن تجعل جملة: {يَأْتِينَ} حالا ثانية من ضمير الجمع في {يَأْتُوكَ} لأن الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف، فصار المعنى: يأتوك جماعات، فلما تأول ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث، وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة, وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالا بأولادهم وأزواجهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.
والفج: الشق بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفج على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تسلك بين الجبال.
والعميق: البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر، فأطلق على البعيد مطلقا بطريقة المجاز المرسل، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه. وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.
وقوله: {لِيَشْهَدُوا} يتعلق بقوله: {يَأْتُوكَ} فهو علة لإتيانهم الذي هو مسبب على
(17/177)
التأذين بالحج فآل إلى كونه علة في التأذين بالحج.
ومعنى {لِيَشْهَدُوا} ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصلوا منافع لهم إذ يحصل كل واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب. فكنى بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.
وتنكير {مَنَافِعَ} للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج. ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل.
وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بينته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا. وبينه الإسلام بما فيه شفاء.
وحرف {على} متعلق بـ {يذكروا}. وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها.
و"ما" موصولة، و {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} بيان لمدلول "ما". والمعنى: ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأن الله رزقهم تلك الأنعام. وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها. وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم. ولذلك فرع عليه {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه السلام فيكون الخطاب في قوله: {فَكُلُوا} لإبراهيم ومن معه.
وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، إلى الخطاب بذلك في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} الخ. على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمور به إبراهيم عليه السلام.
(17/178)
وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.
ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} .
ويحتمل أن تكون جملة: {فَكُلُوا مِنْهَا} الخ معترضة مفرعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريع الخبر على الخبر تحذيرا من أن يمنع الأكل من بعضها.
والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حج البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
والبائس: الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، وهو الفقير. هذا قول جمع من المفسرين. وفي الموطأ : في باب ما يكره من أكل الدواب. قال مالك: سمعت أن البائس هو الفقير اهـ. وقلت: من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أن الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غير مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.
[29] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه السلام.
وقرأ ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بكسر لام {لْيَقْضُوا} . وقرأه الباقون بسكون اللام. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد "ثم"، كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}.
و "ثم" هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أن المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهر إذ هما نسكان أهم من نحر الهدايا، وقضاء التفث محمول على أمر مهم كما سنبينه.
(17/179)
والتفث: كلمة وقعت في القرآن وتردد المفسرون في المراد منها. واضطرب علماء اللغة في معناها لعلهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلا من التفسير، أي أقوال المفسرين. فعن ابن عمر وابن عباس: التفث: مناسك الحج وأفعاله كلها. قال ابن العربي: "لو صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة". قلت: رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصائص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب: التفث: هو الوسخ والدرن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس. واختاره أبو بكر ابن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أئمة اللغة قالوا لم يجئ في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه: سألت أعرابيا: ما معنى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ، فقال: ما أفسر القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرنك.
وعن أبي عبيده: التفث: قص الأظفار والأخذ من الشارب وكل ما يحرم على المحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك: رمي الجمار.
وعن صاحب العين والفراء والزجاج: التفث الرمت، والذبح، والحلق وقص الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضا.
وعندي: أن فعل {لْيَقْضُوا} ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخا ولا ظفرا ولا شعرا. ويؤيده ما روي عن ابن غمر وابن عباس آنفا، وأن موقع "ثم" في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أن المعطوف بـ"ثم"أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو مناسك الحج وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية فلما قضيت بعون الله التفث. واستبحت الطيب والرفث. صادف موسم الخيف. معمعان الصيف.
وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي إن كانوا نذروا أعمالا زائدة على ما تقتضيه فريضة الحج مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكا أو إطعام فقير أو نحو ذلك.
والنذر: التزام قربة الله تعالى لم تكن واجبة على ملتزمها بتعليق على حصول
(17/180)
مرغوب أو بدون تعليق، وبالنذر تصير القربة الملتزمة واجبة على الناذر. وأشهر صيغة: لله علي...، وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعا في شريعة إبراهيم. وقد نذر عمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به إسلامه كما في الحديث.
وقرأ الجمهور: {وَلْيُوفُوا} بضم التحتية وسكون الواو بعدها مضارع أوفى. وقرأ أبو بكر عن عاصم {وَلْيُوفُوا} بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفى المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف.
وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذانا بأنهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمى في الإسلام طواف الإفاضة.
والعتيق: المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعا بدون درج لئلا يدخله إلا من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح. وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال: "إنما سمى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط".
واعلم أن هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحج والهدايا في الإسلام.
وقرأ الجمهور {ثُمَّ لْيَقْضُوا} - {وَلْيُوفُوا} - {وَلْيَطَّوَّفُوا} بإسكان لام الأمر في جميعها. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر {وليوفوا} - {وليطوفوا} بكسر اللام فيهما. وقرأ ابن هشام عن ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب {ثُمَّ لْيَقْضُوا} بكسر اللام. وتقدم توجيه الوجهين آنفا عند قوله تعالى: {ثم ليقطع} .
وقرا أبو بكر عن عاصم {وليوفوا} بفتح الواو وتشديد الفاء من وفى المضاعف.
[30-31] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
(17/181)
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}
اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد. والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده. فالإشارة مراد بها التنبيه، وذلك حيث يكون ما بعده غير صالح لوقوعه خبرا عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى: ذلك بيان، أو ذكر، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال. والمشهور في هذا الاستعمال لفظ هذا كما في قوله تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب} وقول زهير:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط الندي إذا ما قائل نطقا
وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.
فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره، أي ذلك بيان ونحوه. وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر، قال: هذا وقد كان كذا وكذا.
وجملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ} الخ معترضة عطفا على جملة: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} عطف الغرض على الغرض. وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بني على أساسها.
وضمير {فهو} عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} . والكلام موجه إلى المسلمين تنبيها لهم على أن تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتها، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر. فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحج عليهم. أي قبل فتح مكة.
والحرمات: جمع حرمة بضمتين: وهي ما يجب احترامه.
والاحترام: اعتبار الشيء ذا حرم، كناية عن عدم الدخول فيه, أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه، والحرمات يشمل كل ما أوصى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم ما دام محرما. فقصره على الذوات دون الأعمال.
(17/182)
والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحج. كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه.
{وََأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}
لما ذكر آنفا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي وبعض ما في بطونها. وقد ذكر في سورة الأنعام.
واستثنى منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في سورة الأنعام في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.
وجيء بالمضارع في قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزول سورة الحج بأنه تلي فيما مضى ولم يزل بتلى، ويشمل ما عسى أن ينزل من بعد مثل قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} الآية في سورة العقود.
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله، وهو الأوثان.
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات {هَذَا حَلَالٌ} مثل الدم وما أهل لغير الله به، وقولهم لبعض {هَذَا حَرَامٌ} مثل: البحيرة، والسائبة قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
والرجس: حقيقته الخبث والقذارة. وتقدم في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} في سورة الأنعام.
ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.
و"من" في قوله: {مِنَ الأَوْثَانِ} بيان لمجمل الرجس، فهي تدخل على بعض أسماء
(17/183)
التمييز بيانا للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعم أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى "من" البيانية.
و {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} حال من ضمير {اجْتَنَبُوا} أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة، أي تكونوا على ملة إبراهيم حقا. ولذلك زاد معنى {حُنَفَاءَ} بيانا بقوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وهذا كقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
والباء في قوله: {مُشْرِكِينَ بِهِ} للمصاحبة والمعية، أي غير مشركين معه غيره.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركا تمثيلا بديعا إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.
قال في الكشاف : "يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرق بأن صور حال المشرك بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة. والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة" اهـ.
يعني أن المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك. ولا يخفى عليك أن في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.
والسحيق: البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.
وقوله: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} تخيير في نتيجة التشبيه، كقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} . أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان: قسم شركه ذبذبة وشك، فهذا مشبه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه. وقسم مصمم على الكفر مستقر فيه، فهو مشبه بمن ألقته الريح في واد سحيق، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا
(17/184)
يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير. ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.
والخرور: السقوط وتقدم في قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} في سورة النحل.
و {تخطفه} مضاعف خطف للمبالغة. الخطف والخطف: أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة. والهوي: نزول شيء من علو إلى الأرض. والباء في {َتَهْوِي بِهِ} للتعدية مثلها في: ذهب به.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {فتخطفه} بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطف المضاعف. وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرد.
[32] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
{ذَلِكَ} تكرير لنظيره السابق.
الشعائر: جمع شعيرة: المعلم الواضح مشتقة من الشعور. وشعائر الله: لقب لمناسك الحج. جمع شعيرة بمعنى: مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي. معلمة بما عينه الله.
فمضمون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الخ أخص من مضمون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعلية بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي. وتقدم ذكرها في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} في سورة البقرة. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما اشعر الله الناس وقرره وشهره. وهي معالم الحج: الكعبة. والصفا والمروة. وعرفة، والمشعر الحرام. ونحوها من معالم الحج.
وتطلق الشعيرة أيضا على بدنة الهدي قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} لأنهم يجعلون فيها شعارا، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعنا حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نذرت للهدي. فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.
فعلى التفسير الأول تكون جملة: {وَمَنْ يُعَظَّمْ شَعَائِرَ اللهِ} إلى آخرها عطفا على
(17/185)
جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} الخ. وشعائر الله أخص من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.
وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} عطفا على جملة: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} تخصيصا لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.
وضمير {فَإِنَّهَا} عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
وقوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله: {الْقُلُوبِ} فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله. فالتقدير: فقد حلت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب. أي لأن تعظيمها من تقوى القلوب.
وإضافة {تَقْوَى} إلى {الْقُلُوبِ} لأن تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.
[33] {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
جملة: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} حال من الأنعام في قوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} وما بينهما اعتراضات أو حال من {شَعَائِرَ اللهِ} على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا: هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وضمير الخطاب موجه للمؤمنين.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحف. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هديا.
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعا لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ قلدوا الهدي وأشعروه حظروا الانتفاع به: من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه. وغير ذلك.
وفي الموطأ عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها? فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك في الثانية
(17/186)
أو الثالثة" .
والأجل المسمى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام منى. وهي الأيام المعدودات.
والمحل: بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حل بحل إذا بلغ المكان واستقر فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال: بلغ الغاية. ونهاية أمرها النحر أو الذبح.
و {إلى} حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأن الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحج، والحج قصد البيت. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، فالهدايا تابعة للكعبة قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر: منى، والمروة، وفجاج مكة أي، طرقها بحسب أنواع الهدايا. وتبيينه في السنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}.
[34-35] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
عطف على جملة: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا}
والأمة: أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد: أن المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغبغب منحر العزى. فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمة إلا منسكا واحدا للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يجعل لغير الله منسك لأن ما لا يخلق الأنعام المقرب بها ولا يرزقها الناس لا يستحق أن يجعل له منسك لقربانها فلا تتعدد المناسك.
(17/187)
فالتنكير في قوله {منسكا} للإفراد أي واحدا لامتعددا ومحل الفائده هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.
وقد دل على ذلك قوله: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وأدل عليه التفريع بقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . والكلام يفيد الاقتداء ببقية الأمم أهل الأديان الحق.
و {عَلَى} يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة بـ {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} مع تقدير مضاف بعد على تقديره: إهداء ما رزقهم. أي عند إهداء ما رزقهم. يعني ونحرها أو ذبحها.
ويجوز أن تكون {عَلَى} بمعنى: لام التعليل. والمعنى: ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وقد فرع على هذا الانفراد بالإلهية بقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي إذ كان قد جعل لكم منسكا واحدا فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم: فلله أسلموا، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في {فَلَهُ أَسْلِمُوا} للحصر، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام: الانقياد التام، وهو الإخلاص في الطاعة، أي لا تخلصوا إلا لله، أي فاتركوا جميع المناسك التي أقيمت لغير الله فلا تنسكوا إلا في المنسك الذي جعله لكم، تعريضا بالرد على المشركين.
وقرأ الجمهور {مَنْسَكَاً} بفتح السين وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بكسر السين. وهو على القراءتين اسم مكان للنسك، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جار على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك بضم العين في المصارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مسجد من سجد يسجد، قال أبو علي الفارسي: ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
اعتراض بين سوق المنن. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.
(17/188)
والمخبت: المتواضع الذي لا تكبر عنده. وأصل المخبت من سلك الخبت. وهو المكان المتخفض ضد المصعد. ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض، والمراد بهم هنا المؤمنون، لأن التواضع من شيمهم كما كان التكبر من سمات المشركين قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
والوجل: الخوف الشديد. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} في سورة الحجر.
وقد أتبع صفة {المُخْبِتِينْ} بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكل هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود من جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأن ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضعيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدم عند قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر، كما قاله النابغة:
أني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبة فمما تتشرك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقا بأدب الإسلام قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} الآية.
[36] {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عطف على جملة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً} أي جعلنا منسكا للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تهدى ويتقرب بها شعائر من شعائر الله.
والمعنى: أن الله أمر بقربان البدن في الحج من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها
(17/189)
جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحج. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجعل الإلهي يمنا وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة {لكم}.
والبدن: جمع بدنة بالتحريك، وهي البعير العظيم البدن. وهو اسم مأخوذ من البدانة. وهي عظم الجثة والسمن. وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفا ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف. وجمعه بدن, وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خشب جمع خشبة، وثمر جمع ثمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع. وغلب اسم البدنة على البعير المعين للهدي.
وفي الموطأ : "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة" فقول الرجل: إنها بدنة، متعين لإرادة هديه للحج.
وتقديم {البدن} على عامله للاهتمام بها تنويها بشأنها.
والاقتصار على البدن الخاص بالإبل لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها. وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنة. واسم ذلك هدي.
ومعنى كونها من شعائر الله: أن الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلم بها بعير الهدي في جلده إشعارا.
قال مالك في الموطأ : كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر.. بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.
وقد عدها في جملة الحرمات في قوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ} في سورة العقود[2].
وتقديم {لكم} على المبتدأ ليتأتى كون المببدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم. وتقديم {فيها} على متعلقه وهو {خير} للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.
والخير: النفع. وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقلائدها. وما يحصل للمهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم
(17/190)
النحر، وخير الآخرة من ثواب المهدين، وثواب الشكر من المعطين لحومها لربهم الذي أغناهم بها.
وفرع على ذلك أن أمر الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.
وصواف: جمع صافة. يقال: صف إذا كان مع غيره صفا بأن اتصل به. ولعلهم كانوا يصفونها في المنحر يوم النحر بمنى، لأنه كان بمنى موضع أعد للنحر وهو المنحر.
وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبد الله في حجة الوداع قال فيه: "ثم انصرف رسول الله إلى المنحر فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده ثم أعطى الحربة عليا فنحر ما غبر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة". وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.
وانتصب {صواف} على الحال من الضمير المجرور في قوله {عليها}. وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مشاهد البدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالا. وقريب منه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
ومعنى: {وَجَبَتْ} سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر من هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.
والأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب. وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأن المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.
واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.
فقال مالك: يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة. وهو عنده مستحب ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاء الصيد ونذر المساكين. والحجة لمالك صريح الآية. فإنها عامة إلا ما قام الدليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.
(17/191)
وقال أبو حنيفة: يأكل من هدي التمتع والقران. ولا يأكل من الواجب الذي عينه الحاج عند إحرامه.
وقال الشافعي: لا يأكل من لحوم الهدايا بحال مستندا إلى القياس. وهو أن المهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه. كذا قال ابن العربي. وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.
وقال أحمد: يؤكل من الهدايا الواجبة إلا جزاء الصيد والنذر.
وأما الأمر في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فقال الشافعي: للوجوب. وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك.
وقلت: المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المهدي على نحو هديه ولم يتصدق منه ما كان آثما.
والقانع: المتصف بالقنوع. وهو التذلل. يقال: قنع من باب سأل، قنوعا بضم القاف إذا سأل بتذلل.
وأما القناعة ففعلها من باب تعب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب. ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي:
العبد حر إن قنع1 ... والحر عبد إن قنع2
فاقنع ولا تقنع فما ... شيء يشين سوى الطمع
وللزمخشري في "مقاماته" : "يا أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القنوع، تستغن عن كل معطاء ومنوع. وفي "الموطأ" في كتاب الصيد: قال مالك: والقانع هو الفقير.
والمعتر: اسم فاعل من اعتر، إذا تعرض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موشع العطاء، يقال: اعتر، إذا تعرض، وفي الموطأ في كتاب الصيد: قال مالك: وسمعت أن المعتر هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار. والمراد زيارة التعرض للعطاء.
وهذا التفسير أحسن. ويرجحه أنه عطف {المعترّ} على {القَانِعَ} ، فدل العطف على
ـــــــ
1 بكسر النون.
2 بفتح النون.
(17/192)
المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
وجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخرها للناس مع ضعف الإنسان وقوة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولولا أن الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجز من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخر له.
وقوله: {كَذَلِكَ} هو مثل نظائره، أي مثل ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.
ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} خلقناها مسخرة لكم استجلابا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذ وضعوا الشرك موضع السكر.
[37] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}
جملة في موضع التعليل لجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أي دل على أنا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتقوه.
والنيل: الإصابة. يقال ناله. أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضا بمعنى أحرز، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} .
والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نصح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة. قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى. يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.
وفي قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} إيماء إلى أن
(17/193)
إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنحر أو الذبح وأن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم.
فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النحر "يوم تأكلون فيه من نسككم" فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.
وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدي من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجلالها وقلائدها.
كما أومأ إليه قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}.
وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعا أو ظنا قريبا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحج، فما يبقى منها حيا يباع وبنفق ثمنه في سد خلة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد. ولو كانت اللحوم التي فات أن قطعت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفن فينفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.
وقد ترددت في الجواب عن ذلك أنظار المتصدين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهديها.
أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج. لينتفع بها المحتاجون في عامهم، أوفق بمقصد الشارع تجنبا لإضاعة ما فضل منها رعيا لمقد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، جمعا بين المقاصد الشرعية.
وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبا لفضيلة المبادرة. فإن التقوى التي
(17/194)
تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وفي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب.
وحكم الهدايا مركب من تعبد وتعليل. ومعنى التعليل فيه أقوى. وعلته انتفاع المسلمين، ومسلك العلة الإيماء الذي في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهة المتقرب إليها بالقرابين. وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدسة.
وقرأ الجمهور {يَنَالَ} ، و {يَنَالُهُ} بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل، وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السباع أو تفسد.
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدق ببعضها على المحتاجين.
و {يَنَالُهُ} مشاكله ل {يَنَالَ} الأول، استعير النيل لتعلق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجهه الحصول في كل وحسنته المشاكلة.
و{مِنْ} في قوله {منكم} ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة. ولذلك عبر بلفظ {التَّقْوَى مِنْكُمْ} دون: تقواكم أو التقوى. مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأن في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
تكرير لجملة: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} . وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة، فصار مدلول الجملتين مترادفا، فوقع التأكيد. فالقول في جملة: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} كالقول في أشباهها.
(17/195)
وقوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} {على} فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن. أي لتكبروا الله عند تمكنكم من نحرها. و"ما" موصولة. والعائد محذوف مع جاره. والتقدير: على ما هداكم إليه من الأنعام.
والهداية إليها: هي تشريع في تلك المواقيت لينفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاة التوحيد لا يفارقون ذلك المكان. والخطاب للمسلمين.
وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا.
[38] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
استئناف بياني جوابا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فإنه توعد المشركين على صدهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم. وبشر المؤمنين المخبتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة. وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا. وهل ينتصر لهم من أعدائهم أو يدخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة. فكان المقام خليقا بأن يطمئن الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم. وحذف مفعول {يُدَافِعُ} لدلالة المقام.
فالكلام موجه إلى المؤمنين. ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر، وإما لتنزيل غير المتردد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه.
والتعبير بالموصول لما فيه من الإيمان إى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم.
وقرأ الجمهور لفظ {يُدَافِعُ} بألف بعد الدال فيفيد قوة الدفع.وقرأه أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب {يدفع} بدون ألف بعد الدال.
وجملة: {أن الله لا يحب كل خوان كفور} تعليل الدفاع بكونه عن الذين
(17/196)
آمنوا، بأن الله لا يجب الكافرين الخائبين، فلذلك يدفع عن المؤمنين لرد أذى الكافرين: ففي هذا إيذان بمفعول {يُدَافِعُ} المحذوف، أي يدافع الكافرين الخائنين.
والخوان: الشديد الخون. والخون كالخيانة: الغدر بالأمانة. والمراد بالخوان الكافر، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناس على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم.
والكفور: الشديد الكفر. وأفادت "كل" في سياق النفي عموم نفي محبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك. ولا يتوهم من قوله: {لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة {كُلَّ} اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة كل وليس هو مثل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الموهم أن نفي قوة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم.
[39] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
جملة وقعت بدل اشتمال من جملة: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلهم كان متكفلا لهم بالنصر.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم {أُذِنَ} بالبناء للنائب. وقراه الباقون بالبناء إلى الفاعل.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر {يُقَاتَلُونَ } بفتح التاء الفوقية مبنيا إلى المجهول. وقرأه البقية بكسر التاء مبنيا للفاعل.
والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتلوا. والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته. وإما بصيغة المضي.
فعلى قراءة فتح التاء فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي. وهو الأذى. وأما على قراءة {يُقَاتِلونَ} بكسر التاء فصيغة المضي مستعملة مجازا في التهيؤ والاستعداد. أي أذن للذين تهيئوا للقتال وانتظروا إذن الله.
وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديد فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه. فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر
(17/197)
بالقتال. فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذنا لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى: عقب هذا {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
والباء في {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أراها متعلقة بـ {أُذِنَ} لتضمينه معنى الإخبار. أي أخبرناهم بأنهم مظلومون. وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد: إنك مظلوم، فكأنك استعديته على ظالمه وذكرته بوجوب الدفاع، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، ويكون قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} نائب فاعل {أُذِنَ} على قراءة ضم الهمزة أو مفعولا على قراءة فتح الهمزة. وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله: {يُقَاتَلُونَ} ، أي أذن لهم في القتال، وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله: {يُقَاتَلُونَ} ، والتفسير الذي رأيته أنسب وأرشق.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} عطف على جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ، أي أذن لهم بذلك وذكروا بقدرة الله على أن ينصرهم. وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه، كقولهم: عسى أن يكون كذا، أو أن عندنا خيرا، أو نحو ذلك، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه.
وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطأوا النصر.
[40] { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
بدل من {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} . وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.
و {بِغَيرِ حَقِّ} حال من ضمير {أُخْرِجُوا} ، أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم
(17/198)
الموجب إخراجهم. فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغليب لسانه، كما قال عمر بن الخطاب: "إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام". ولا يزول ذلك الحق إلا بموجب قرره الشرع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء.
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع. وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك.
ولذلك قال تعالى: {بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} فإن إيمانهم بالله لا ينحر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء من عموم الحق. ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج. أي الحق عليهم، كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية. أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، وشاهده قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
اعتراض بين جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الخ وبين قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} الخ. فلما تضمنت جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}
(17/199)
الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع، مع التنويه بهذا الدفاع، والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة. والواو في قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} إلى آخره. اعتراضية وتسمى واو الاستئناف. ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الخ.
و {وَلَوْلا} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه، أي انتفائه لأجل وجود شرطه، أي عند تحقيق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين. والمعنى: لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوئة لملة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد، للأديان المخالفة للشرك. فذكر الصوامع، والبيع، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتعريف في {النَّاسَ} تعريف العهد، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة.
ويجوز أن يكون المراد: لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك كما قاتل داودد جالوت. وكما تغلب سليمان على ملكة سبا. لمحق المشركون معالم التوحيد كما محق بخنتصر هيكل سليمان فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال، فالتعريف في {النَّاسَ} تعريف الجنس.
وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه إذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع. وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {دفاع} . وقرأ الباقون {دَفْعُ} بفتح الدال وبدون ألف. و {بعضهم} بدل من {النَّاسَ} بدل بعض. و {ببعض} متعلق بـ {دفاع} والباء للآلة.
والهدم: تقويض البناء وتسقيطه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر {لهُدِمت} - بتخفيف الدال -. وقرأه الباقون -
(17/200)
بتشديد الدال - للمبالغة في الهدم، أي لهدّمت هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا.
والصوامع: جمع صومعة بوزن فوعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين. من أجل ذلك سميت الصومعة المنارة. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشي كأنها ... منارة ممسي راهب متبتل
والبيع جمع: بيعة بكسر الباء وسكون التحتية مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها. ولعلها معربة عن لغة أخرى.
والصلوات جمع: صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معربة عن كلمة "صلوثا" "بالمثلثة في آخره بعدها ألف". فلما عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك. وعن مجاهد. والجحدري، وأبي العالية، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا {وصلواث} بمثلثة في آخره. وقال ابن عطيه: قرأ عكرمة. ومجاهد {صلوثا} بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء أي المثلثة كما قال القرطبي وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة.
والمساجد: اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنوا مسجد قباء ومسجد المدينة.
وجملة: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة. فلذلك قيل برجوع صفة {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} إلى {صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد} للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير {فيها}.
وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيرا، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله. لمحو ذكر اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيرا. أي دون ذكر الأصنام. فالكثرة مستعملة في الدوام
(17/201)
لاستغراق الأزمنة، وفي هذا لإيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله.
قال ابن خويز منداد من أئمة المالكية من أهل أواخر القرن الرابع تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم اه.
قلت: أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما منع هدمها عقد الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين. وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة.
وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأن صومع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها، وكانت أشهر عندهم، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها. وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع. وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها، وتأخير المساجد لأنها أعم، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالا للفائدة.
وقوله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} عطف على جملة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم. وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله. ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد. وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لجملة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}، أي كان نصرهم مضمونا لأن ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة. والقوة مستعملة في القدرة. والعزة هنا حقيقة لأن العزة هي المنعة، أي عدم تسلط غير صاحبها على صاحبها.
بدل من {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وما بينهما اعتراض. فالمراد من {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم. وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء. أي قبل اختبار. أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم. ومعنى {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
[41] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
(17/202)
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر}
ويجوز أن يكون بدلا من {مَنْ} الموصولة في قوله: {مَنْ يَنْصُرُه} فيكون المراد: كل من نصر الدين من أجيال المسلمين. أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله. وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوام نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم، والسلامة من اختلال أمرهم، فإن حادوا عن ذلك فقد فرطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله.
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.
والتمكين: التوثيق. وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو ملكهم وما بسطت فيه أيديهم. وقد تقدم قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} في سورة الأعراف، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} في سورة يوسف: والمراد بالمعروف ما هو مقرر من شؤون الدين: وإما بكونه معروفا للأمة كلها: وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة. وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومرتب علمائه.
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الديانات كالأعمال المندرجة تحت كليات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد السريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.
(17/203)
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينها بأعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عن مشاهدة الأعمال، ولتكون معروفة دليلا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} عطف على جملة: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ، أو على جملة: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، والمآل واحد، وهو تحقيق وقوع النصر، لأن الذي وعد به لا يمنعه من تحقيق وعده مانع، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقب الحاضر. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسما. وفي حديث هرقل ثم تكون لهم العاقبة.
وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.
[42-43] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
لما نعى على المشركين مساويهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه، عطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فقصد من ذلك تسلية الرسول "عليه الصلاة والسلام" وتمثيلهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم. ونظير هذه الآية إجمالا وتفصيلا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.
وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} الخ إذ التقدير: فلا عجب في تكذيبهم، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.
وقوم إبراهيم هم الكلدان. وأصحاب مدين هم قوم شعيب. وإنما لم يعبر عنهم بقوم شعيب لئلا يتكرر لفظ قوم أكثر من ثلاث مرات.
وقال: {وَكُذِّبَ مُوسَى} لأن مكذبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.
(17/204)
وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} معناه فأمليت لهم، فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش.
والأخذ، حقيقته: التناول لما لم يكن في اليد، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم. ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى: في سورة الأنبياء {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد. وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا هنالك.
ومناسبة عد قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام، أن قوم إبراهيم أتم شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه، وألجأوه إلى الخروج من موطنه {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} مناسبة لذكر قوم إبراهيم.
والإملاء: ترك المتلبس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة.
والفاء في {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل في وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم، وهو تعقيب موزع، فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه. والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة، فلذلك عطف فعله بحرف المهلة.
وعطفت جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} بالفاء لأن حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ، وهو استفهام تعجيبي، أي فأعجب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم.
والنكير: الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه.
و {نكير} بكرة في آخره دالة على بناء المتكلم المحذوفة تخفيفا.
وكأن مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن النكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم، فإن
(17/205)
الله عاقب على المنكر بأشد العقاب، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله، وقد قال الحكماء: إن الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.
[45] {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}
تفرع ذكر جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} على جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فعطفت عليها بفاء التفريع، والتعقيب في الذكر لا في الوجود، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها بين كيفية نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع. ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله: {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل.
و {كَأَيِّنْ} اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير: كثير من القرى أهلكناها، وجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} الخبر: ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره {أَهْلَكْنَاهَا} . والتقدير: أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها "كأين" بدون حاجة إلى ذكر الاكتفاء بالصدارة الصورية. وعلى الوجه الأول فجملة: {أَهْلَكْنَاهَا} في محل جر صفة لـ"قرية" وجملة: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} معطوفة على جملة: {أَهْلَكْنَاهَا} وقد تقدم نظيره في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} في سورة آل عمران.
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون، منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود، ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة.
ومعنى {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة: {عَلَى عُرُوشِهَا} خبر ثان عن ضمير {فهي} . والمعنى: ساقطة على عروشها، أي ساقطة جدرانها فوق سقفها.
والعروش: جمع عرش، وهو السقف. وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله
(17/206)
تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة البقرة.
والمعطلة: التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقي منها لأن أهلها هلكوا. وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئار في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بئرا واحدة التي شربت منها ناقة صالح "عليه السلام".
والقصر: المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقا.
والمشيد: المبني بالشيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجص، وإنما يبنى به البناء من الحجر لأن الجص أشد من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رص به.
والقصور المشيدة، وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله، كثيرة مثل: قصر غمدان في اليمن، وقصور ثمود في الحجر، وقصور الفراعنة في صعيد مصر. وفي تفسير القرطبي يقال: إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان. ويقال: إنها بئر الرس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول "عليه السلام" وكان صالح معهم، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حنظلة بن صفوان رسولا فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشا. يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة "كأين" تنافي إرادة قرية معينة.
وقرأ الجمهور {أَهْلَكْنَاهَا} بنون العظمة وقرأه أبو عمرو ويعقوب {أهلكتها} بتاء المتكلم.
[46] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
تفريع على جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} وما بعدها.
والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذبة لأنبيائها: والتعجيب متعلق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه
(17/207)
قوله تعالى: {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فالمقصود بالتعجب هو حال الذين ساروا في الأرض، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجب من انتفائه، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر.
والفاء في {فَتَكُونَ} سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا. وفي هذا المعنى قال المعري:
وقيل أفاد بالأسفار مالا ... فقلنا هل أفاد بها فؤادا.
وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات، فهي تفيد كل ذي همة في شيء فوائد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.
وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسة وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال: {يَعْقِلُونَ بِهَا} وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال: {يَعْقِلُونَ بِهَا} فأشار إلى أن القلوب هي العقل.
ونزلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم.
وأما ذكر الأذان فلأن الأذان آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها، على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار.
وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت
(17/208)
منهم آثارها فلهو قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون. بها وهذا كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
والفاء في جملة: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} تفريع على جواب النفي في قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ، وفذلكة للكلام السابق، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.
والضمير في قوله: {فَإِنَّهَا} ضمير القصة والشأن، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب. أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات، والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصم، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.
واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.
والتعريف في {الأبصار} ، و {القلوب} ، و {الصدور} تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدث عنهم وغيرهم. والجمع فيها باعتبار أصحابها.
وحرف التوكيد في قوله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.
وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد.
والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائي للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه، فالقصر ترشيح للاستعارة.
ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم.
و {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} صفة لـ {القلوب} تفيد توكيدا للفظ {القلوب} فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} . ووزان القيد في قوله:
(17/209)
{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} فهو لزيادة التقرير والتشخيص.
ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فالآن أنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي" فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحب الأشياء إليه.
[47] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
عطف على جملة: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا: لو كان محمد صادقا في وعيده لعجل لنا وعيده، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} الآية.
وحكي {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود إبلاغه إياهم.
والباء من قوله: {بِالعَذَابِ} زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدته كأنه قيل يحرصون على تعجيله. وقد تقدم ذلك عند قوله :{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في أول سورة الرعد.
ولما كان استعجالهم إياه تعريضا منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}. أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعد من الله والله لا يخلف وعده. وفيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه.
وقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} عطف على جملة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكما وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد، وإيماء إلى عدم
(17/210)
وقوع عذاب الآخرة بلازمين، فرد الله عليهم ردا عاما بقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وكان ذلك تثبيتا للمؤمنين. ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضا وهو أشد العذاب.
فقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} خبر مستعمل في التعريض بالوعيد. وهذا اليوم هو يوم القيامة".
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وليس المراد بقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ} إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة. ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا}.
والخطاب في {تَعُدُّونَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقرأ الجمهور {تَعُدُّونَ} بالفوقية. وقرأه ابن كثير، وحمزة، والكسائي {مما يعدون} بياء الغائبين، أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب.
[48] {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
عطف على جملة: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أو على جملة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخر وقوعه، فذكروا بأن أمما كثيرة أمهلت ثم حل بها العذاب. فوزان هذه الآية وزان قوله آنفا {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الخ، إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. وهذه الآية القصد منها التذكير بان تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القبضة بعد بعده عنها.
وأما عطف جملة: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} بالفاء وعطف جملة: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} بالواو فلأن الجملة الأولى وقعت بدلا من جملة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فقرنت بالفاء التي دخلت نظيرتها على الجملة
(17/211)
المبدل منها، وأما هذه الجملة الثانية فخلية عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف.
وجملة: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} تذييل، أي مصير الناس كلهم إلي والمصير مصدر ميمي لـ"صار" بمعنى: رجع، وهو رجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة.
وتقديم المجرور للحصر الحقبقي، أي يصير الناس إلا إلى الله، وهو يقتضي أن المصير إليه لا محالة، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات.
[49-50] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات. وافتتحاحه بـ {قل} للاهتمام به: وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام. والمخاطبون هم المشركون.
والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصده عن إداء رسالته: ففي ذلك قمع لهم إذا كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يملونه فيترك دعوتهم. وفيه تثبيت للنبي وتسلية فيما يلقاه منهم.
وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي، أي لست طالبا نكايتكم ولا تزلفا فمن آمن فلنفسه ومن عمي فعليها.
والنذير: المحذر من شر يتوقع.
وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شر عظيم فهم أحرياء بالنذارة.
والمبين: المفصح الموضح، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة.
وفرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسول بتبليغه إلى مصدق ومكذب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيبا في الحالة الحسنى وتحذيرا من الحالة السوأى فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ} إلى آخره، فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله: {فِي آيَاتِنَا}.
(17/212)
والجملة معترضة بالفاء.
والمغفرة: غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده. وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة، فالمعنى: أنهم فازوا في الدار الآخرة.
والرزق: العطاء. ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفائه من المكدرات كقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ذلك هو الجنة.
والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة.
والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا، فمعناه: والذين استمروا على الكفر، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم.
والسعي: المشي الشديد، ويطلق على شدة الحرص في العمل تشبيها للعامل الحريص بالماشي الشديد في كونه يكد للوصول إلى غاية كما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى} . فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وأنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى، وقال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}.
والكلام تمثيل، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم: هو سحر، هو شعر، هو أساطير الأولين، هو قول مجنون، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبي صلى الله عليه وسلم بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول.
والمعاجز: المسابق الطالب عجز مسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به، فصيغ له المفاعلة لأن كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه. والمعنى: أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة.
وقرأ الجمهور {مُعَاجِزِينَ} بألف بعد العين وقرأه ابن كثير، وأبوا عمرو {معجزين} بفتح العين وتضعيف الجيم أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون.
(17/213)
والتصدير باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} " للتنبيه على أن المخبر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحكم لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف، أي هم أصحاب الجحيم لأنهم سعوا في آياتنا معاجزين. ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان1 فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا2 وانطلقوا على مهلهم3. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".
[52-54] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
عطف على جملة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقب قوله: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الخ، وأنه مقصور على النذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفه من الرسل والأنبياء "عليهم السلام" وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقوا من أقوامهم مكذبين ومصدقين سنة الله في رسله "عليهم السلام".
فقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} نص في العموم، فأفاد أن ذلك لم يعد أحد من
ـــــــ
1 العريان: المجرد من الثياب - والنذير العريان مثل أصله: أن أحد القوم إذا رأى عدوا يريد غرة قومه ولم يجد شيئا يشير به نزع ثوبه فألوى به أي لوح.
2 أدلجوا بهمزة قطع مفتوحة وبسكون الدال أي: ساروا في دلجة الليل, أي: ظلامه.
3 المهل - بفتحتين - عدم العجلة, أي: انطلقوا غير فزعين.
(17/214)
الأنبياء والرسل.
وعطف {نَبِيٍّ} على {رَسُولٍ} دال على أن للنبي معنى غير معنى الرسول.
فالرسول: هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي: من أوحى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقة أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشرائع كلها فالنبي أعم من الرسول، وهو التحقيق.
والتمني: كلمة مشهورة. وحقيقتها: طلب الشيء العسير حصوله. والأمنية: الشيء المتمنى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلهم صالحين مهتدين. والاستثناء من عموم أحوال تابعه لعموم أصحابها وهو {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلا في حال إذا تمنى أحدهم أمنية ألقي الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأن أماني الأنبياء خير محض والشيطان دأبه الإفساد وتعطيل الخير.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحد منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.
والإلقاء حقيقته: رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيها للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} وقوله: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} وكقوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} على ما حققناه فيما مضى.
ومفعول {أَلْقَى} محذوف دل عليه المقام لأن الشيطان إنما يلقي الشر والفساد. فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنى الهدي والصلاح. وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دل على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير: أدخل الشيطان في نفوس القوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.
ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول ألقاء ما يضادها، كمن يمكر فيلقي السم في السم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم. ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان، والله تعالى يعيد الإرشاد ويكرر الهدي على لسان النبي. ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
(17/215)
الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}. فالله يهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بيانا، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه. وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.
وقد فسر كثير من المفسرين {تَمَنَّى} بمعنى قرأ. وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتا نسبوه إلى حسان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأياما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء لخلطه وإفساده.
وعندي في صحة إطلاق لفظ المنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الخير:
تمنى كتاب الله أول ليله ... تمنى داود الزبور على مهل
فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.
ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنى هدي قومه أو حرص على ذلك فلقي العناد، وتمنى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر ان ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلف به الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوحا إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} للترتيب الرتبي، لأن إحكام الآيات وتقريرها أهم من نسخ ما يلقي الشيطان بالإحكام يتضح الهدى ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخا.
(17/216)
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معترضة.
ومعنى هذه الآية: أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكي الله عن المشركين قولهم: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا} فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله: {لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن. فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة. فالنسخ: الإزالة، والإحكام: التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارها ما يلقي الشيطان، ويحكم آثار آياته.
واللامان في قوله: {لِيَجْعَلَ} وفي قوله: {وَلِيَعْلَمَ} متعلقتان بفعل {ينسخ الله} فإن النسخ يقتضي منسوخا. وفي "يجعل" ضمير عائد إلى الله في قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ}.
والجعل، هنا: جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها، وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى: أن الله مكن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيماء بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}.
ولام {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} . وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من أفتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى.
(17/217)
وأما لام {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فهي على أصل معنى التعليل، أي ينسخ ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون انه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدي كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المترددون في قبول الإيمان. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد بـ {الظَّالمِينَ} في قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . فذكر {الظَّالِمِينَ} إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم. أي كفرهم.
والشقاق: الخلاف والعداوة.
والبعيد هنا مستعمل في معنى: البالغ حدا قويا في حقيقته. تشبيها لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي دعاء كثير ملح.
وجملة: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} معترضة بين المتعاطفات.
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم المؤمنون بقرينة مقابلته بـ {الذين في قلوبهم مرض} وبقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . فالمراد بالعلم الوحي والكتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.
وإطلاق {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} على المؤمنين تكرار في القرآن.
وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نور النبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. وذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جلفا فإذا آمن انقلب حكيما، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
وضمير {أَنَّهُ الحَقُّ} عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقينا بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير {أنه} عائدا إلى ما
(17/218)
تقدم من قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} إلى قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ، أي أن المذكور هو الحق، كقول رؤية:
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان المذكور.
وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} معناه: فيزدادوا إيمانا أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكم كما آمنوا بالأصل.
والإخبات: الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} ، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى: {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وبما تلقيت في تفسير هذه الآية من الانتظام البين الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته، والسالم من التكلفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السنة، وتلقاء منهم فريق من المفسرين حبا في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق سورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى هذه الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} القي الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله: {تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى} ففرح المشركون بان ذكر آلهتهم بخير. وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة. فلما سجد في آخر السورة سجد كل من حضر من المسلمين والمشركين. وتسامع الناس بان قريشا أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة. فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان بن عفان إلى المدينة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بأن الشيطان ألقى. فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية تسلية له.
وهي قصة يجدها السامع ضغثا على إبالة، ولا يلقي إليها النحرير باله. وما رويت
(17/219)
إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سند مطعون. على أن ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالي النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيبا لها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}. وفي معرفة الملك. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مسكة من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} إلى قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهم لترتجى. وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضا. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرا سورة النجم كلها حتى خاتمتها {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدل على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصح أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها: أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزى فرصة للدخل لاختلاق كلمات في مدحهن، وهي هذه الكلمات وروجوها بين الناس تأنيسا لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيماء.
وفي "شرح الطيبي على الكشاف" نقلا عن بعض المؤرخين: أن كلمات الغرانيق.. أي هذه الجمل من مفتريات ابن الزبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصة آلهة العرب أي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الخ فجعل يتلو: اللات والعزى أي الآية المشتملة على هذا فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودونوا يستمعون فألقى الشيطان: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجي فإن قوله "دنوا يستمعون فألقى الشيطان" الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوت المحاكى.
وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أن المشركين سجدوا في آخر
(17/220)
سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فلذلك من تخليط المؤلفين.
وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحج. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.
وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.
فالوجه: أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام. إنما هي من اختلافات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذكرت فيها اللات والعزى ومناة فركبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خصوا سورة النجم بهذه المرجفة لأنهم حضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلبا لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن {تمنى} بمعنى: قرأ، والأمنية: القراءة، وهو ادعاء لا يوثق به ولا يوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتا لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقي حمام المقادر
وهو محتمل أن معناه تمنى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنيا لأنه أحب ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظن أنه شاهد آخر. وربما توهموا الرواية الثانية بيتا آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس . وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} في سورة البقرة.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} معترضة. والواو للاعتراض. والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} في سورة الروم، وكما في سورة سبأ {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} . فإظهار لفظ {الذِينَ آمَنُوُا} في مقام ضمير {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
(17/221)
مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . فالمراد بالهدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.
وكتب في المصحف {لَهَادِ} بدون ياء بعد الدال واعتبار بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.
[55] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}
لما حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرسل يكون عليهم فتنة، خص في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمهم مع جملة الكافرين بالرسل، فخصهم بأنهم يستمر شكهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة، فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل {لا يزال} وفعل {حَتَّى تَأْتِيَهُمْ} الدالين على استمرار ذلك في المستقبل.
ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين: إن ضمير {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام. والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ}.
و {الساعة} علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن، واليوم: يوم الحرب. وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب. ومنه دعيت حروب العرب المشهورة "أيام العرب".
والعقيم: المرأة التي لا تلد؛ استعير العقيم للمسؤوم لأنهم يعدون المرأة التي لا تلد مشؤومة.
فالمعنى: يأتيهم يوم يستأصلون فيه قتلا. وهذا إنذار بيوم بدر.
[56-59] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ
(17/222)
حَلِيمٌ}
آذنت الغاية التي في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أن ذلك وقت زوال مرية الذي كفروا، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية, وعن ماذا يلقونه عند زوالها، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} إلى آخر ما فيها من التفصيل، فهي استئناف بياني.
فقوله "يومئذ" تقدير مضافة الذي عوض عنه التنوين: يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
وجملة: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} اشتمال من جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
والحكم بينهم: الحكم فيما اختلفوا فيه من أدعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل، الدال عليه قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} فقد يكون الحكم بالقول، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق. وقد فصل الحكم بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدل على تفصيل أصله، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.
وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه. وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويها بشأن الهجرة، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.
والتعريف في {الملك} تعريف الجنس. فذلت جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون ملكا لله. كما تقدم في قوله تعالى: {الحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي لا ملك لغيره يومئذ.
والمقصود بالكلام هو جملة: {يَحْكُمُ بَينَهُمْ} إذ هم البدل. وإنما قدمت جملة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} تمهيدا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.
وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.
(17/223)
والمهين: المذل، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.
وقرن {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو "أما"، كأنه قيل: وأما الذين كفروا، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.
والرزق: العطاء، وهو كل ما يتفضل به من أعيان ومنافع. ووصفه بالحسن لإفادة أنه يرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه.
وجملة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بدل من جملة: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ، وهي بدل اشتمال، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم، ولذلك وصف المدخل بـ {يَرْضَوْنَهُ}.
ووقعت جملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} معترضة بين البدل والمبدل منه. وصريحها الثناء على الله، وكنايتها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.
وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويرا لعظمة رزق الله تعالى. وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} تذييل، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شان هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم، وهو حليم بهم فيما لاقوه فهو يجازيهم بما لقوه من أجله. وهذه الآية تبين مزية المهاجرين في الإسلام.
وقرأ نافع {مدخلا} بفتح الميم على أنهه اسم مكان من دخل المجرد لأن الإدخال يقتضي الدخول. وقرأ الباقون بضم الميم جريا على فعل {لَيُدْخِلَنَّهُمْ} المزيد وهو أيضا اسم مكان للإدخال.
[60] {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}
اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأن ما بعده غير صالح لأن يكون خبرا عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قوله:
(17/224)
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
وجملة: {وَمَنْ عَاقَبَ} الخ، معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقا بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إلى قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، فأنه قد جاء معترضا في خلال النعي على تكذيب المكذبين وكفر هو النعم، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثم عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدي عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلا يرضونه.
وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.
وما صدق "من" الموصولة العموم لقوله فيما سلف {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جزاء على اعتداء سابق كما دل عليه أيضا قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} إلى أسلوب الإفراد في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ} للإشارة إلى إرادة العموم مكن هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنة من سنن الله تعالى في الأمم.
ولما أتى في الصلة هنا بفعل {عَاقَبَ} مع قصد شمول عموم الصلة للذين أذن لهم بأنهم ظلموا علم السامع أن القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.
وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلا للعدوان المجزي عليه، اي أن لا يكون أشد منه.
وسمي اعتداء المشركين على المؤمنين عقابا في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أن ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.
ومعنى {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} المماثلة في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين
(17/225)
وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن، ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأن المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} عطف على جملة: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ، فـ"ثم" للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال البادئ أظلم. فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لنهم بغوا على المسلمين. ومعنى الآية في معنى قوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به. وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك هو أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له: بم دام ملككم? فقال: لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب، فليس ذكر وصفي { عَفُوٌّ غَفُورٌ} إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.
ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} لأن الكلام مستمر في شأنهم.
[61] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدين على ضده وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة، فضرب له مثلا بتغليب
(17/226)
مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها، لما تقرر من اشتهار التضاد بين الليل والنهار، أي الظلمة والنور. وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرار السلمي:
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى ... إذا التبست نفضت لها يدي
فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} الخ.
ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة: {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الخ، مرتبطة بجملة: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الخ. ولذلك يصح جعل {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الخ متعلقا بقوله: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} .
والإيلاج: الإدخال. مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيها لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر، فإيلاج الليل في النهار: غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل. وإيلاج النهار في الليل: غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمولج هو المختفي. فإيلاج الليل انقضاؤه. واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجا. وكذلك تقلص ضوء النهار يحصل تدريجا، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلا فيه شيئا فشيئا.
والباء للسببية. أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلة المسلمين، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينا بعد أن كان أمرهما على العكس حينا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي، فصار حاصل المعنى: ذلك بأن الله قادر على نصرهم.
والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبا ويصير ذلك الغالب مغلوبا. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادة ولا تلزم طريقة واحدة كقدرة الصناع من البشر. وفيه إدماج التنبيه بأن العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.
وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقاد، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة، ولأن الإيمان نور يتجلى به
(17/227)
الحق والاعتقاد الصحيح، فصاحبه كالذي يمشي النهار. ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل. أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك. ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.
وقوله: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية. وتقدم في سورة آل عمران {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} .
وعطف {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.
[62] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف. ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. وهذا على حمل الباء في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} على معنى السببية، وهو محمل المفسرين. وسيأتي في سورة لقمان في نظيرها: أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف {وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
والحق: المطابق للواقع، أي الصدق، مأخوذ من حق الشيء إذا ثبت. والمعنى: أنه الحق في الإلهية. فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.
وأما القصر في قوله: {وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بباطل غيرها حتى كأنه ليس من الباطل. وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأن المقام مقام مناضلة وتوعد، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضا.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر {تَدْعُونَ} بالتاء الفوقية على الالتفات إلى خطاب المشركين لأن الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم. وقرأ البقية بالتحتية على طريقة
(17/228)
الكلام السابق.
وعلو الله: مستعار للجلال والكمال التام.
والكبر: مستعار لتمام القدرة، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة.
[63] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}
انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} الآية. والمقصود: التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دل عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ، أي الإنسان المشرك. وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة. والمناسبة هي ما جرى من أن لله هو الحق وأن ما يدعونه الباطل، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
والخطاب لكل من تصلح منه الرؤية لأن المرئي مشهور.
والاستفهام: إنكاري، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتداد بها منزلة عدم العلم بها. فأنكر ذلك لعدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار.
وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترنا بحرف "لم" الذي يخلصه إلى المضي، وحكي متعلقة بصيغة الماضي في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمرا متقررا ماضيا لا يدعى جهله.
و {تصبح} بمعنى تصير فإن خمسا من أخوات "كان" تستعمل بمعنى: صار.
واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأن ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} .
وإنما عبر عن مصير الأرض خضراء بصيغة {تصبح مخضرة} مع أن ذلك مفرع على
(17/229)
فعل {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زمانا بعد زمان كما تقول: أنعم فلان علي فأروح وأغدو شاكرا له.
وفعل {تصبح} مفرع على فعل {أنزل} فهو مثبت في المعنى. وليس مفرعا على النفي ولا على الإستفهام، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جواب للنفي إذ ليس المعنى: ألم تر فتصبح الأرض. قال سيبويه وسألته يعني الخليل: عن {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} فقال: هذا واجب أي الرفع واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع: أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اهـ.
قال في الكشاف: "لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه "أي الكلام" إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب" اه.
والمخضرة: التي صار لونها الخضرة. يقال: اخضر الشيء، كما يقال: اصفر الثمر واحمر، واسود الأفق. وصيغة افعل مما يصاغ للاتصاف بالألوان.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} في موقع التعليل للإنزال، أي أنزل الماء المتفرع عليه الاخضرار لأنه لطيف، أي رفيق بمخلوقاته، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها.
[64] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحق ليعلم من ذلك أنه المختص بالمعبودية فيرد زعم المشركين أن الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم. والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض.
وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها، ولأن هذه لا تتضمن تذكيرا بنعمة.
وجملة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عطف على جملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
(17/230)
الْأَرْضِ} وتقديم المجرور للدلالة على القصر. أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم، إن جعلت القصر إضافيا، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائيا.
ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره، وهو معنى الغنى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محل ولا إلى مخصص بالوجود دون العدم والعكس تنبيها على أن افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها.
وأما وصف {الْحَمِيدُ} بمعنى المحمود كثيرا، فذكره لمزاوجة وصف الغنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه.
وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصر بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقا لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب "إني أنا الموت". وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.
[65] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقع قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}، فهو من عداد الامتنان والاستدلال، فكان كالتكرير لغرض، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير: فهو الرب الحق.
وجملة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} مستأنفة كجملة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}.
والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.
والتسخير: تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير. وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل. والبقر، والغنم ونحوها، بان جعل الله فيها طبع
(17/231)
الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان. ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل. ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة. ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.
وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة. وتقدم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما. وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير، وجملة: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} في موضع الحال من {الفُلْكِ} . وإنما خص هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق.
وقوله: {بِأَمْرِهِ} هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها، وأوحى إلى نوح عليه السلام معرفة صنعها، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها.
والإمساك: السد، وهو ضد الإلقاء. وقد ضمن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر "عن" أو"من".
ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . فكما سخر الله للناس ما ظهر على وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان، وكما سخر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذر الضبط، كذلك سخر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك
(17/232)
المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، أي تقديره.
ولفظ {السماء} في قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان.
ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض، فيكون قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم، ويكون قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف، ويكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض. وقد أشكل الاستثناء بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} فقيل في دفع الإشكال: إن معناه إلا يوم القيامة بأذن الله لها في الوقوع على الأرض. ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها. وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى.
ويجوز أن يكون لفظ {السماء} بمعنى المطر، كقول معاوية بن مالك:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقول زيد بن خالد الجهني في حديث الموطأ : "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على إثر سماء كانت من الليل" ، فيكون معنى الآية: أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قدر أسبابها، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرر الناس فكان في إمساك نزوله باطراد منه على الناس، وكان تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضا. فيكون هذا مشتملا على ذكر نعمتين: نعمة الغيث، ونعمة السلامة من طغيان المياه.
ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ {السماء} الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} . فالله يمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء. ويمسك ما فيها من القوى كالمطر والبرد والثلج والصواعق من الوقوع على
(17/233)
الأرض والتحك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب. فيكون موقع {وَيُمْسُكُ السَّمَاءَ} بعد قوله تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} كموقع قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} في سورة الجاثية.
ويكون في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} إدماجا بين الامتنان والتخويف: فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس، ومنه ما هو مكروه. وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} استثناء من عموم متعلقات فعل {يمسك} وملابسات مفعوله وهو كلمة {السماء} على اختلاف محامله، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله. هذا ما ظهر لي في معنى الآية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود قوله: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ونحوه فكأنه أراد: إلا بإذنه فيمسكها اهـ. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.
والإذن. حقيقته: قول يطلب به فعل شيء. واستعير هنا للمشيئة والتكوين، وهما متعلق الإرادة والقدرة.
وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة: البر، والبحر، والجو.
وموقع جملة: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.
والرؤوف: صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة. وهي صفة تقتضي صرف الضر.
والرحيم: وصف من الرحمة. وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.
(17/234)
[66] {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}
بعد أن أدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس، فذكر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها، وبان بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة. وهذا محل الاستدلال، فجملة: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} عطف على جملة: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} لأن صدر هذه من جملة النعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتنانا واستدلالا كذلك.
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ}
تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية.
وتوكيد الخبر بحرف "إن" لتنويلهم منزلة المنكر أنهم كفرا.
والتعريف في {الإنسان} تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم: جمع الأمير الصاغة، أي صاغة بلده، وقوله تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} . وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}.
والكفور: مبالغة في الكافر، لأن كفرهم كان عن تعنت ومكابرة.
ويجوز كون الكفور مأخوذا من كفر النعمة وتكون المبالغة باعتبار آثار الغفلة عن الشكر، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقيا.
[67] {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ}
هذا متصل في المعنى بقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا
(17/235)
رَزَقَهُمْ} الآية. وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} الآية ليبنى عليه قوله: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بان الله ما جعل لأهل كل ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقربون فيه إلى الله لأن المتقرب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكل صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزى، قال النابغة:
وما هريق على الأنصاب من جسد
"أي دم". وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} كما تقدم آنفا.
فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.
والمنسك بفتح الميم وفتح السين: اسم مكان النسك بصمهما كما تقدم. وأصل النسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالمنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في {نَاسِكُوهُ} منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.
وفي الموطأ : "أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون بقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اهـ.
قال الباجي في المنتقى : "وهو قول ربيعة". وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع. والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.
وفرع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهرة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه
(17/236)
من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه، كأنه قيل: فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب: لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعل فاعرفك، فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه. والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية.
وقال الزجاج: هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله. فيصح نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج.
واسم {الأمر} هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحج الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملة إبراهيم.فكان قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} كشفا لشبهتهم بان الحج منسك حق، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعن في أمر الحج بعد هذا، وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله: {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.
وقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} عطف على جملة: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ}. عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمر بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجة لأن المكابرة تجافي الاقتناع، ولأن في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين. وفي حذف مفعول {ادع} إيذان بالتعميم.
وجملة: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لرد الشك. و {على} مستعارة للتمكن من الهدى.
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية، شبه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالا، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال
(17/237)
إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.
[68-69] {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
عطف على جملة: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . والمعنى: إن تبين عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيبا واستهزاء فقل: الله أعلم بما تعملون.
وفي قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تفويض أمرهم إلى الله تعالى، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجة. ولما في نفوسهم من إبطال العناد كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} .
والمراد بـ {مَا تَعْمَلُونَ} ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل لدحضوا به الحق وغير ذلك.
وجملة {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كلام مستأنف ليس من المقول. فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وليس خطابا للمشركين بقرينة قوله: {بَيْنَكُمْ} . والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.
وما كانوا فيه يختلفون: هو ما عبر عنه بالأمر في قوله: {فلا ينازعنك في الأمر}.
[70] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلا على حساب عمله. فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.
و {مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.
(17/238)
والاستفهام إنكاري أو تقريري، أي أنك تعلم ذلك. وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدرا مما تلاقيه منهم.
وجملة: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} بيان للجملة قبلها. أي يعلم ما في السماء والأرض علما مفصلا لا يختلف، لأن شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنقصان.
واسم الإشارة إلى العمل في قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أو إلى {ما} في قوله: {مَاكُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال: إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة، وإما على الحقيقة، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتابا لائقا بالمغيبات.
وجملة: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} بيان لمضمون الاستفهام من الكتانة عن الجزاء.
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور. ولك أن تجعلها بيانا لجملة: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل {يَعْلَمُ} ، أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.
وتقديم المجرور على متعلقه وهو {يَسِيرٌ} للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى.
[71] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}
يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرع عليها عطف غرض على غرض.
ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالا من الضمير المرفوع في قوله: {جَادَلُوكَ} . والمعنى: جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعد ما رأوا من الدلائل. وتتضمن الحال تعجيبا من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.
والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحف بهم والتي ذكروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.
(17/239)
و {مِن دُونِ} يفيد أنهم يعرضون عن عبادة الله، لأن كلمة {دُونِ} وإن كانت اسما للمباعدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره. فكلمة {دُونِ} إذا دخلت عليها {مِن} صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه {دُونِ} فاقتضى أن المضاف إليه غير مشارك في الفعل. فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شؤون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناما بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلا.
والسلطان: الحجة. والحجة المنزلة: هي الأمر الإلهي الوارد على ألسنة رسله وفي شرائعه، أي يعبدون ما لا يجدون عذرا لعبادته من الشرائع السالفة. وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم، ولم يدعوا أن نبيا أمر قومه بعبادة صنم ولا أن دينا إلهيا رخص في عبادة الأصنام.
{وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأن الاعتقاد الجازم لا يكون إلا عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه. وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأن الدليل الشرعي أهم.
و {مَا} التي في قوله {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} نافية. والجملة عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي يعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام. فالمراد بالظالمين المشركون المتحدث عنهم، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم، أي كفرهم. وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلا لأنهم عبدوها رجاء النصر. ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل: وما لا ينصرهم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} .
[72] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}
عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لبيان
(17/240)
جرم آخر من أجرامهم مع جرم عبادة الأصنام. وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.
والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
والمنكر: إما الشيء الذي تنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسما، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام. والمحملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغيظ والغضب عندما يتلى عليهم القرآن ويدعون إلى الإيمان. وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثره بواطنهم على وجوههم. كما في قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرتهم به. ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو: أشتد غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظا، ونحو قوله: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}.
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارهم إياها. إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.
والخطاب في قوله: {تَعْرِفُ} لكل من يصلح للخطاب بدليل قوله: {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
والتعبير بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يكون {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا. فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.
والسطو: البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدة الغضب والغيظ من سماع القرآن.
{والذِينَ يَتلُونَ} يجوز أن يكون مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} ، أي كذبوا الرسول.
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول. أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن، أو لعل السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.
(17/241)
وجملة: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} في موضع بدل الاشتمال لجملة: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوالمُنكَرَ} لأن الهم بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.
والتفريع بالفاء ناشئ من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ. ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظا.
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبينة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار.
والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.
وشر: اسم تفضيل، أصله أشر. كثر حذف الهمزة تخفيفا، كما حذفت في خبر بمعنى أخير.
والإشارة بـ {ذَلِكُمُ} إلى ما أثار منكرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرا عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تلي عليكم من الآيات فازدادوا غضبا بهذا الذي أنبئكم به.
وقوله: {النَّارُ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} .والتقدير: شر من ذلكم النار.
فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشد شرا فاعلموا أنه النار.
وجملة {وَعَدَهَا اللَّهُ} حال من النار، أو هي استئناف.
والتعبير عنهم بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذم معطوفة على جملة الحال على تقدير القول. ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها، فتكون الجملة تذييلا
(17/242)
لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية.
[73] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بان إله الناس واحد وأن ما يعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها.
والخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} للمشركين لأنهم المقصود بالرد والزجر وبقرينة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} على قراءة الجمهور {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب.
فالمراد بـ {النَّاسِ} هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن. ويجوز أن يكون المراد بـ {النَّاسِ} جميع الناس من مسلمين ومشركين.
وفي افتتاح السورة بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وتنهيتها بمثل ذلك شبه برد العجز على الصدر. ومما يزيده حسنا أن يكون العجز جامعا لما في الصدر وما بعده. حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصة للخطبة والحوصلة للدرس.
وضرب المثل: ذكره وبيانه؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدة، أي ألقي إليكم مثل. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة.
وبني فعل "ضرب" بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صرح فيها بفاعل ضرب المثل نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} في سورة النحل و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً} في سورة الزمر {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} في سورة النحل. إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضرب المثل إلى الله، ونحو قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} في سورة النحل. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} في سورة يس، إذ أسند الضرب إلى المشركين. لأن المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين:
(17/243)
أحدهما: أن يقدر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثل تشبيها تمثيليا، أي أوضح الله تمثيلا يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكل أحد.
والثاني: أن يقدر الفاعل المشركين ويكون المثل بمعنى المماثل، أي جعلوا أصنامهم مماثلة لله تعالى في الإلهية.
وصيغة الماضي في قوله: {ضُرِبَ} مستعملة في تقريب زمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول، نحو قوله تعالى: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} . أي لو شارفوا أن يتركوا. أي بعد الموت.
وجملة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى آخرها يجوز أن تكون بيانا لفعل ضرب على الاحتمال الأول في التقدير، أي بين تمثيل عجيب.
ويجوز أن تكون بيانا للفظ {مثل} لما فيها من قوله: {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} على الاحتمال الثاني.
وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} لاسترعاء الأسماع إلى مفاد هذا المثل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية. أي استمعوا استماع تدبر.
فصيغة الأمر في {استمعوا له} مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني. وضمير له عائد على المثل على الاحتمال الأول لأن المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة، وعائد على الضرب المأخوذ من فعل {ضرب} على الاحتمال الثاني على طريقة {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي استمعوا للضرب، أي لما يدل على الضرب من الألفاظ، فيقدر مضاف بقرينة {استمعوا} لأن المسموع لا يكون إلا ألفاظا، أي استمعوا لما يدل على ضرب المثل المتعجب منه في حماقة ضاربيه.واستعملت صيغة الماضي في {ضرب} مع أنه لما يقل لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله: {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} ، أي لو قاربوا أن يتركوا. وذلك تنبيه للسامعين بان يتهيأوا لتلقي هذا المثل، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها.
والمثل: شاع في تشبيه حالة بحالة، كما تقدم في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
(17/244)
نَاراً} في سورة البقرة، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفي ينبئ عنه قوله: {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} وقوله: {لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . فشبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكة بالخصوص بعظماء، أي عند عابديها. وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب، بله المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض. وقد دل إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأن نفي الخلق بمقتضى محاولة إيجاده، وذلك كقوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} كما تقدم في سورة النحل. ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئا لم يستطيعوا أخذه منه، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف توسم بالإلهية. ورمز إلى الهيئة المشبه بها يذكر لوازم أركان التشبيه من قوله: {لَنْ يَخْلُقُوا} وقوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} إلى آخره. لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية.
وفسر صاحب الكشاف المثل هنا بالصفة الغربية تشبيها لها ببعض الأمثال السائرة. وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصادا منه في الغوص عن المعنى لا ضعفا عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جذيعها المحكك. وعذيقها الموجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلا بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير.
وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيا للتفطن لما يتلى بعد.
وجملة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} إلخ بيان لـ {مَثَلٌ} على كلا الاحتمالين السابقين في معنى {ضُرِبَ مَثَلٌ} ، فإن المثل في معنى القول فصح بيانه بهذا الكلام.
وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو "إن"، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي "لن" لتنويل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر، لأن جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأن نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئا يكون فعله من بعد أيسر عليه.
وقرأ الجمهور: {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب على أن المراد بالناس في قوله: {يَا أَيُّهَا
(17/245)
النَّاسُ} خصوص المشركين. وقرأه يعقوب بياء الغيبة على أن يقصد بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جميع الناس وأنهم علموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك. والتقدير: إن الذين يدعون هم فريق منكم.
والذباب: اسم جمع ذبابة، وهي حشرة طائرة معروفة، وتجمع على ذبان بكسر الذال وتشدد النون ولا يقال في العربية للواحدة ذبابة.
وذكر الذباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة. وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى "فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة" فهو في سياق التعجيز لأن الحبة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة.
وموقع {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} موقع الحال، والواو واو الحال، و"لو" فيه وصيلة. وقد تقدم بيان حقيقتها عند قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران، أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه.
والاستنقاذ: مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة.
وجملة: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل، أي ضعف الداعي والمدعو، إشارة إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} الخ. أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله.
وهذه الجملة كلام أرسل مثلا، وذلك من بلاغة الكلام.
[74] {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
تذييل للمثل بان عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله.
والقدر: العظمة: وفعل قدر يفيد أنه عامل بقدره. فالمعنى: ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي. وقد تقدم تفسيره في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الأنعام.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله
(17/246)
في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل. والعدول عن أن يقال: ما قدرتم الله حق قدره. إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضا بهم بأنهم ليسوا أهلا للمخاطبة توبيخا لهم، وبذلك يندمج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم.
وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه التنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة.
والقوي: من أسمائه تعالى. وهو مستعمل في القدرة على كل مراد له. والعزيز: من أسمائه، وهو بمعنى: الغالب لكل معاند.
[75] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
لما نفت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} ، وقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ، أي يصاحبه، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس، أي لا ليكونوا شركاء. فلا جرم أبطل قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} جميع مزاعمهم في أصنامهم.
فالجملة استئناف ابتدائي. والمناسبة ما علمت.
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي} دون أن يقول: يصطفي، لإفادة الاختصاص، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه.
والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل: هو يصطفي من الملائكة رسلا، لأن
(17/247)
اسم الجلالة أصله الإله، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريرا للقوة الكاملة والعزة القاهرة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليل لمضمون جملة: {اللَّهُ يَصْطَفِي} لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء. وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصماء.
والسميع البصير: كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات.
[76] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
جملة مقررة لمضمون جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.
و {مَا بَينَ أَيْدِيِهِمْ} مستعار لما يظهرونه، {وَمَا خَلْفَهُمْ} هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يخفيه يجعله وراءه.
ويجوز أن يكون {مَا بَينَ أَيْدِيِهِمْ} مستعارا لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} مستعار لما مضى وعبر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.
وضمير {أَيْدِيِهِمْ} و {خَلْفَهُمْ} عائدان: إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} ، وإما إلى الملائكة والناس. وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.
وبني فعل {تُرْجَعُ} إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلا بالله تعالى، فهو يمهل الناس في الدنيا وهو يرجع الأمور إليه يوم القيامة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين. والتعريف في {الْأُمُورُ} للاستغراق، أي كل أمر. وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعا لما قبله من قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
(17/248)
[77] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
لما كان خطاب المشركين فاتحا لهذه السورة وشاغلا لمعظمها عدا ما وقع اعتراضا في خلال ذلك. فقد خوطب المشركون بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم. ختمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يصلح أعمالهم وينوه بشأنهم.
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال.
والمراد بالركوع والسجود الصلوات. وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية. وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} تنبيه على أن الصلاة عماد الدين.
والمراد بالعبادة: ما أمر الله الناس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج.
وقوله: {وافعلوا الخير} أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة، وحسن المعاملة: كصلة الرحم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر مكارم الأخلاق، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى.
والرجاء المستفاد من {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحد الموجب للفلاح فيما حدد الله تعالى. فهذه حقيقة الرجاء. وأما ما يستلزمه الرجاء من تردد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تحيل الشك على الله تعالى.
واعلم أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} اختلف الأئمة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن. والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في "الموطأ" و "المدونة" ، وأبي حنيفة، والثوري.
(17/249)
وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة، وروى الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وفقهاء المدينة، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه. وقال ابن عبد البر في الكافي : "ومن أهل المدينة قديما وحديثا من يرى السجود في الثانية من الحج" قال: وقد رواه ابن وهب عن مالك. وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب، وكذلك ابن رشد في المقدمات : فما نسبة ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب.
وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مشرح1 عن عقبة بن عامر قال: " قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج لأن فيها سجدتين? قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما"اهـ. قال أبو عيسى: "هذا حديث إسناده ليس بالقوي" اهـ، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعفه يحيى بن معين. وقال مسلم: تركه وكيع، والقطان، وابن مهدي. وقال أحمد: احترقت كتبه فمن روى عنه قديما أي قبل احتراق كتبه قبل.
[78] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}
الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" . وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ، وفسره لهم بمجاهدة العبد هواه2، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.
ومعنى "في" التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت
ـــــــ
1 مشرح - بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة هو ابن عاهان المعافري تابعي توفى سنة 120هـ.
2 رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله بسند ضعيف.
(17/250)
امرأة النار في هرة" أي لأجل هرة، أي لعمل يتعلق بهرة كما بينة بقوله: "حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا".
وانتصب حق جهاده على المفعول المطلق المبين للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله: جهاده الحق، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدم حرف في كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .
والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.
والآية أمر بالجهاد. ولعلها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأن السورة بعضها مكي وبعضها مدني ولأنه تقدم آنفا قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} . فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
جملة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقا بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.
والاجتباء: الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه. فيظهر أن هذا موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتحاد الوصف في الأجيال كما هو الشان في مخاطبات التشريع.
وإن حمل قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظا فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.
وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
(17/251)
وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه لأن ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله. وقد امتن الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ووصفه الدين بالحنيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
والحرج: الضيق، أطلق على عسر الأفعال تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم شاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية كما هنا.
والملة: الدين والشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة النحل. وقوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} في سورة يوسف.
وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} زيادة في التنويه بهذا الدين وتحضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم"1 أي بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}. وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أن هذا الدين دين إبراهيم، أي أن الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومعلوم أن للإسلام أحكاما كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم، جعل كأنه عين ملة إبراهيم، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} على الحال من {الدين} باعتبار أن الإسلام حوى ملة إبراهيم.
ثم إن كان الخطاب موجها إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة، لأن غالب الأمة يومئذ من العرب المضرية وأما الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم من العرب القحطانيين؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قبل الأمهات.
وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ
ـــــــ
1 رواه أبو داود الطيالسي عن عبادة بن الصامت.
(17/252)
أُمَّهَاتُهُمْ} بزيادة وهو أبوهم.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال: ملة أبيك إبراهيم.
والضمير في {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} عائد إلى الجلالة كضمير {هُوَ اجْتَبَاكُم} فتكون الجملة استئنافا ثانيا، أي هو اجتباكم وخصكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم.
و {قبل} إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه. والاسم الذي أضيف إليه {قبل} محذوف. وبني {قبل} على الضم إشعارا بالمضاف إليه. والتقدير: من قبل القرآن. والقرينة قوله: {وَفِي هَذَا} ، أي وفي هذا القرآن.
والإشارة في قوله: {وَفِي هَذَا} إلى القرآن كما في قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي وسماكم المسلمين في القرآن. وذلك في نحو قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
واللام في قوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} يتعلق بقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أو بقوله: {اجْتَبَاكُمْ} أي ليكون الرسول، أي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون. ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا، وقدمت شهادة الأمة في آية البقرة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ؛ لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدين الذي جاء به الرسول. فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم، وآية البقرة صدرت بالثناء على الأمة فكان ذكر شهادة الأمة أهم.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
تفريع على جملة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} وما بعدها، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.
(17/253)
والاعتصام: افتعال من الصم. وهو المنع من الضر والنجاة، قال تعالى: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، وقال النابغة:
يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد.
والمعنى: اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم. وجملة: {هُوَ مَولاكُمْ} مستأنفة معللة للأمر بالاعتصام بالله لأن المولى يعتصم به ويرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته.
والمولى: السيد الذي يراعي صلاح عبده.
وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير. أي نعم المدبر لشؤونكم، ونعم الناصر لكم. ونصير: صيغة مبالغة في النصر. أي نعم المولى لكم ونعم النصير لكم. وأما الكافرون فلا يتولاهم تولي العناية ولا ينصرهم.
وهذا الإنشاء يتضمن تحقيق حسن ولاية الله تعالى وحسن نصره. وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على
الأمر بالاعتصام به.
وهذا من براعة الختام. كما هو بين لذوي الأفهام.
(17/254)
المجلد الثامن عشر
سورة المؤمنين
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنون
ويقال سورة المؤمنون.
فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا. ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي: عن عبد الله بن السائب قال: "حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع" .
والثاني على حكاية لفظ {الْمُؤْمِنُونَ} الواقع أولها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة سورة المؤمنين في السنة. روى أبو داود: عن عبد الله بن السائب قال: "صلى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع" .
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة قد أفلح. ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم. قال ابن القاسم: أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا.. إلى أن قال.. وفي قد أفلح كلها الثلاث لله أي خلافا لقراءة: سيقولون الله. ويسمونها أيضا سورة الفلاح.
وهي مكية بالاتفاق. ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} تعين أنها مدنية؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة. فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النصب المعينة في
(18/5)
الأموال. وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن. قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7,6] وهي من سورة مكية بالاتفاق، وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55,54] ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.
وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة {الطور} وقبل سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} .
وآياتها مائة وسبع عشرة في عد الجمهور. وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة، فالجمهور عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} آية، وأهل الكوفة عدوا {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11,10] آية وما بعدها آية أخرى، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
أغراض السورة
هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه.
فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك.
وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة. ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا.
وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى.
وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل.
ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر. وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثه نوح وحدث الطوفان.
(18/6)
وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة. وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة.
وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه الإ ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق.
وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.
وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغض عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن، ويسأل المغفرة للمؤمنين، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة.
[1] {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل: قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه.
ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمل الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاما بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خير الدنيا، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعدا بأن الله مكمل لهم مايتطلبونه من خير.
وأكد هذا الخبر بحرف قد الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد. فحرف قد في الجملة الفعلية يفيد مفاد إن واللام في الجملة الاسمية، أي يفيد توكيدا قويا.
ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء
(18/7)
فلاحهم كالذي في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم، بله أن يعرفوا اقتراب ذلك، فلما أخبروا بأن ما ترجوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق. فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله. ولعل منه: قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرحنا بها يا بلال" وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان.
وحذف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحا كاملا.
والفلاح: الظفر بالمطلوب من عمل العامل. وقد تقدم في أول البقرة. ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه.
[2] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
إجراء الصفات على {الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلته، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم. وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلا بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سببا للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46,42] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور.
والخشوع تقدم في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45] وفي قوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} في سورة الأنبياء [90]. وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولاشك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح.
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع
(18/8)
وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأن الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محله القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته. وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له. وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها.
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل مواليا للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين.
وتقديم {فِي صَلاتِهِمْ} على {خَاشِعُونَ} للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقا شديدا بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لام الاختصاص. فلو قيل: الذين إذا صلوا خشعوا، فات هذا المعنى، وأيضا لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلا بواسطة كلمة أخرى نحو: كانوا خاشعين. وإلا يفت ما تدل عليه الجملة الاسمية من ثبات الخشوع لهم ودوامه، أي كون الخشوع خلقا لهم بخلاف نحو: الذين خشعوا، فحصل الإيجاز، ولم يفت الإعجاز.
[3] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم.
والقول في تركيب جملة {هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:2] كالقول في {هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وكذلك تقديم {عَنِ اللَّغْوِ} على متعلقه.
وإعادة اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع.
(18/9)
واللغو: الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في البقرة [225]، وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} في سورة مريم [62].
والإعراض: الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراض إعراض السمع عن اللغو. وتقدم عند قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام [68]، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقال تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]. ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يلغوا في كلامهم.
وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصل الدعاء، وهو من الأقوال الصالحة، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية، فكان الإعراض عن اللغو بمعنيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور. وفي الحديث إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
والإعراض عن جنس اللغو من خلق الجد ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلا الأعمال النافعة، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
ولإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله.
واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير فالإعراض عن لغوهم ربء عن التسفل معهم.
[4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
أصل الزكاة أنها اسم مصدر زكى المشدد، إذا طهر النفس من المذمات. ثم
(18/10)
أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازا لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي. فأطلق اسم المسبب على السبب. وأصله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وأطلقت على نفس المال المنفق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب {فَاعِلُونَ} المقتضي أن الزكاة مفعول. وأما المصدر المتعين فلا يكون مفعولا به لفعل من مادة ف.ع.ل لان صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني الإتيان بفعل مبهم ونصب مصدره على المفعولية به. فلو قال أحد: فعلت مشيا، إذا أراد أن يقول: مشيت، كان خارجا عن تركيب العربية ولو كان مفيدا. ولو قال أحد: فعلت مما تريده، لصح التركيب قال تعالى {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59]، أي هذا المشاهد من الكسر والحطم، أي هذا الحاصل بالمصدر. وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غيبة فاعله.
والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة: 55] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة.
وإنما أوثر هنا الاسم الأعم وهو {فَاعِلُونَ} لأن مادة ف.ع.ل مشتهرة في إسداء المعروف. واشتق منها الفعال بفتح الفاء، قال محمد بن بشير الخارجي:
إن تنفق المال أو تكلف مساعيه ... يشقق عليك وتفعل دون ما فعلا
وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الغاز ... ثمة والفاعلون للزكوات
أنشده في الكشاف. وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلا من مصطلحات القرآن فلعل اللبيب مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء. قال ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب.
واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعية وبالتأخير عن معموله.
وقال أبو مسلم والراغب: اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس. ومعنى {فَاعِلُونَ} فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول {فَاعِلُونَ} بدلالة علته عليه.
وفي الكشاف أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي، أي إعطاء الزكاة وهو الذي
(18/11)
يحسن أن يتعلق ب {فَاعِلُونَ} لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بمادة فعل، فيقال للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل. وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف، وكلا الاعتبارين غير ملتزم.
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعت آنفا.
وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال. والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفا.
[7,5] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
الحفظ: الصيانة والإمساك. وحفظ الفرج معلوم، أي عن الوطء. والاستثناء في قوله {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} الخ استثناء من عموم متعلقات الحفظ التي دل عليها حرف {عَلَى} ، أي حافظونها على كل ما يحفظ عليه إلا المتعلق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فضمن حافظون معنى عدم البذل، يقال: احفظ علي عنان فرسي كما يقال: أمسك علي كما في آية: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37]. والمراد حل الصنفين من بين بقية أصناف النساء. وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بينه. وتفاصيل الأحوال من حال حل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين. وكذلك في الإماء.
والتعبير عن الإماء باسم {مَا} الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لاحتاج معه إلى تأويل.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضا لا يوجب اللوم الشرعي، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون.
والفاء في قوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو
(18/12)
في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرىء بالفاء تحقيقا للاشتراط.
وزيد ذلك التحذير تقريرا بأن فرع عليه {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعية يخشى أن تتغلب على حافظها، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي وراء الأزواج والمملوكات، أي غير ذينك الصنفين.
وذكر حفظ الفرج هنا عطفا على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو ترك اللغو بالأحرى كما تقدم آنفا؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة. وفي الحديث: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" .
واللوم: الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف.
و {وَرَاءَ} منصوب على المفعول به. وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيها للمتجاوز الشيء بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بين يديه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال: هو وراء الحد، ولو كان مستقبله. ثم توسع فيه فصار بمعنى غير أو ما عدا كما هنا، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئا غير الأزواج وما ملكت أيمانهم.
وأتي لهم باسم الإشارة في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهورا مقررا كقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} في سورة البقرة. والعادي هو المعتدي، أي الظالم لأنه عدا على الأمر.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مر.
[8] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .
(18/13)
هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلى فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد.
فالأمانة تكون غالبا من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمن والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عريا عن الإشهاد تبعث محبتها الأمين على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردها من شعب الإيمان.
وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة" ، وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة" ، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" اه.
الوكت: سواد يكون في قشر التمر. والمجل: انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قشر العنبة ينشأ من مس النار الجلد ومن كثرة العمل باليد، وقوله: مثقال حبة من خردل من إيمان هو مصدر آمنه، أي وما في قرارة نفسه من إيمان الناس إياه فلا يأتمنه إلا مغرور.
وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} في سورة النساء. وجمع {الْأَمَانَاتِ} باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصا على العموم.
وقرأ الجمهور: {لأماناتهم} بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير {لأمانتهم} بالإفراد باعتبار المصدر مثل {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به. وسمي عهدا لأنهم يتحالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيبا عليهما في ذلك لايفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}
(18/14)
في سورة البقرة.
والوفاء بالعهد من أعظم خلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرائين قد يلتزم كل منهما للآخر عملا عظيما فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الالتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملا لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الختر بالعهد شحا أو خورا في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .
والرعي: مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة. والقائم بالرعي راع.
فرعي الأمانة: حفظها. ولما كان الحفظ مقصودا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها.
ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة.
والقول في تقديم {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ} على {رَاعُونَ} كالقول في نظائره السابقة، وكذلك إعادة اسم الموصول.
والجمع بين رعي الأمانات ورعي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد.
وذكرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال، ولذلك سميت: حق الله، حق المال، وحق المسكين.
[9] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها. والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقية كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وتقدم معنى الحفظ قريبا.
وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصا على العموم.
وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}
(18/15)
لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعا للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمال الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.
وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويها بها. وردا للعجز على الصدر تحسينا للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولا لسماعها ووعيها فتتأسى بها.
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.
وقرأ الجمهور {صَلَوَاتِهِمْ} بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف على {صَلاتِهِمْ} بالإفراد.
وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.
فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} .
ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.
وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غير مستحضر خشوعا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبته ربه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.
وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عن اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك. وفي الإعراض عن اللغو خلق للسمع أيضا كما علمت.
وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
(18/16)
وذكرت حفظ الفرج. وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخلقا.
وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.
وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.
وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية والوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقا راسخا.
وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.
فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعل والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.
روى النسائي: أن عائشة قيل لها: كيف كان خلق رسول الله ? قالت: كان خلقه القرآن، وقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى انتهت إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . وقد كان خلق أهل الجاهلية على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالبا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} ، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وقال {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهلية.
[11,10] {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد أسم الإشارة
(18/17)
أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلت من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} بعد قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} إلى آخره في سورة البقرة. والمعنى: أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك.
وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك. وحذف معمول {الوَارِثُونَ} ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} قصدا لتفخيم هذه الوراثة. والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوما للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف {الوَارِثُونَ} تعريف العهد كأنه قيل: هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به.
واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لآن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال، قال تعالى {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والفردوس: اسم من أسماء الجنة في مصطلح القرآن، أو من أسماء أشرف جهات الجنات. وأصل الفردوس: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سراقة لما أصابه سهم غرب يوم بدر فقلته وقالت أمه: إن كان في الجنة أصبر وأحتسب فقال لها: "ويحك أهبلت أو جنة واحدة هي، إنها لجنان كثيرة وإنه لفي الفردوس" .
وقد ورد في فضل هذه الآيات عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم عشر آيات. قال ابن العربي في العارضة: قوله {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} هي العاشرة. رواه الترمذي وصححه.
[14,12] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
الواو عاطفة غرضا على غرض ويسمى عطف القصة على القصة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} التي هي ابتدائية. وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من
(18/18)
دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية.
ويتضمن ذلك امتنانا على الناس بأنهم أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقا غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرك.
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعى فيه التعريض بالمشركين المنزلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم.
والخلق: الإنشاء والصنع، قد تقدم في قوله: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} في آل عمران. والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوع الإنسان ي. وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس. وضمير {جَعَلْنَاهُ} عائد إلى الإنسان.
والسلالة: الشيء المسلول، أي المنتزع من شيء آخر، يقال: سللت السيف،إذا أخرجته من غمده. فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فعالة? يؤذن بالقلة مثل القلامة والصبابة.
ومن ابتدائية، أي خلقناه منفصلا وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما.
وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دما؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل الأنثيين تفرز منه الأنثيان مادة دهنية شحمية تحتفظ بها وهي التي تتحول إلى مني حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكون الجنين فلا جرم هو مخلوق من سلالة من طين.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم. سميت سلالة الذكر نطفة لأنها تنطف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين.
فنطفة منصوب على الحال وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} هو المفعول الثاني ل {جَعَلْنَاهُ} . و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير
(18/19)
{جَعَلْنَاهُ} عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى: جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظا لها، ولذلك غير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي بفي بمعنى الوضع.
والقرار في الأصل: مصدر قر إذا ثبت في مكانه. وقد سمي به هنا المكان نفسه. والمكين: الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيء الحال في المكان الثابت فيه. وقد وقع هنا وصفا لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة، وحقيقته مكين حاله. وقد تقدم قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الكهف وقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} في سورة الحج.
ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} آدم. وقال بذلك قتادة فتكون السلالة الطينة الخاصة التي كون الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة، فتلك الطينة مسلولة سلا خاصا من الطين ليتكون منها حي، وعليه فضمير {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلا لآدم فيكون في الضمير استخدام، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} .
وحرف ثم في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} للترتيب الرتبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجب من خلق النطفة إذ صير الماء السائل دما جامدا فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عوامل أودعها الله في الرحم.
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن العلقة فإنه وضع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن حي له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم. والعلقة: قطعة من دم عاقد.
والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ. وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين.
وعطف جعل العلقة مضغة بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طور
(18/20)
مدة طويلة.
وخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم، وقد دل عليه قوله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} بالفاء.
فمعنى {فَكَسَوْنَا} أن اللحم كان كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حينا غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" الحديث، فإذا نفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء. وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء بثم الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل بثم.
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلق حيا. وفي شرح الموطأ: تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعلي حاضر فقال لهما عمر: ما هذه المناجاة ? فقال أحدهما: إن إليهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى، فقال علي: لا تكون موؤدة تمر عليها التارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية، فقال عمر لعلي: صدقت أطال الله بقاءك. فقيل: إن عمر أول من دعا بكلمة أطال الله بقاءك.
وقرأ الجمهور {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ} بصيغة جمع {الْعِظَامَ} فيهما، وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصمعظما..والعظم بصيغة الإفراد.
وفرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه أحسن الخالقين أي أحسن المنشئين إنشاء، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقا من البركة وهي الزيادة.
وصيغة تفاعل صيغة مطاوعة في الأصل وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبسا مكينا لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول
(18/21)
فاعلا فيقال: كسرته فتكسر، فلذلك كان تفاعل إذا جاء بمعنى فعل دالا على المبالغة كما صرح به الرضي في شرح الشافية، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالبا في نحو: تثنى، وتكبر، وتشامخ، وتقاعس. فمعنى تبارك الله أنه موصوف بالعظمة في الخير، أي عظمة ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم.
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلا لأن تبارك لما حذف متعلقه كان عاما فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره. وكذلك حذف متعلق الخالقين يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات.
[16,15] {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك. وثم للترتيب الرتبي لأن أهمية التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهمية ذكر الخلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} وهو المقصود.فهو كقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} . ولكون ثم لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك. والإشارة إلى الخلق المبين آنفا، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيره إلى الفساد والاضمحلال. وأكد هذا الخبر بإن واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون.
وتوكيد خبر {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} لأنهم ينكرون البعث. ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلا على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، فلم يحتج إلى تقوية التركيز بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قويا.
ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب.
[17] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}
(18/22)
انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان الإنسان إلى نظيره أقرب، فالجملة عطف على جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} . وانما ذكر هذا عقب قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلا الحكمة، وأن الحكيم لايهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاهم، وأن جعله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
والطرائق: جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث. والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضبط الناس بها سموت سير الكواكب. وقد أطلق على الكواكب اسم الطارق في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له: طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى: خلقنا سيارات وطرائقها.
وذكر فوقكم للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها.
ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} المشعر بأن في ذلك لطفا بالخلق وتيسيرا عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان. فالواو في جملة {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} للحال، والجملة في موضع الحال. وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} .
والخلق مفعول سمي بالمصدر، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر. ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لما خلقت له لطفا بالناس أيضا إذ كان نظام خلقها صالحا لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد فصار المعنى: خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا
(18/23)
تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعي مصالحكم أيضا.
والعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} دون أن يقال: وما كنا عنكم غافلين، لما يفيده المشتق من معنى التعليل، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبية، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر.
[20,18] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}
مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أن ماء المطر ينزل من صوب السماء، أي من جهة السماء.
وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة، وفي ذلك أيضا منة على الخلق فالكلام اعتبار وامتنان من قوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} إلى آخره. ومعنى هذه الآية تقدم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل.
وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماء وثلجا وبردا على السهول والجبال.
والقدر هنا: التقدير والتعيين للمقدار في الكم وفي النوبة، فيصح أن يحمل على صريحه، أي بمقدار معين مناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب، وكذلك ذوبان الثلوج النازلة. ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان. وليس المراد بالقدر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتؤمن بالقدر خيره وشره" .
والإسكان: جعل الشيء في مسكن، والمسكن: محل القرار، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون.
وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة. وهذا الإقرار على نوعين: إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدة الحرارة أو شدة البرد. وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض.
(18/24)
ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تفجر بالحفر آبارا.
وجملة {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} معترضة بين الجملة وما تفرع عليها، وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام.
وتنكير ذهاب للتفخيم والتعظيم، ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه، ومن تجفيفه بشدة الحرارة، ومن إمساك إنزاله زمنا طويلا.
وفي معناه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . وفي الكشاف: وهوأي ما في هاته الآية أبلغ في الإيعاد من قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} . فبين صاحب التقريب1 للأبلغية ثمانية عشر وجها:
الأول: أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع.
الثاني: التوكيد بإن.
الثالث: اللام في الخبر.
الرابع: أن في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم.
الخامس: أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب.
السادس: ما في تنكير ذهاب من المبالغة.
السابع: إسناده ههنا إلى مذهب بخلافه ثمت حيث قيل غورا.
الثامن: ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة.
التاسع: ما في قادرون من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر ابلغ.
ـــــــ
1 هو محمد السيرافي القالي من أهل أواخر القرن السامع .
(18/25)
العاشر: ما في جمعه.
الحادي عشر: ما في لفظ به من الدلالة على أن يمسكه فلا مرسل له.
الثاني عشر: إخلاؤه من التعقيب بإطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع.
الثالث عشر: تقديم ما في الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقه على المذهبين البصري والكوفي.
الرابع عشر: ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره.
الخامس عشر: ما في لفظ أصبح من الدلالة على الانتقال والصيرورة.
السادس عشر: أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام.
السابع عشر: أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه ههنا.
الثامن عشر: اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا وزاد الألوسي في تفسيره فقال: التاسع عشر: إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك.
العشرون:عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك.
الحادي والعشرون: التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمة. الثاني والعشرون: إسناد القدرة إليه تعالى مرتين.
ونقل الألوسي عن عصريه المولى محمد الزهاوي وجوها وهي:
الثالث والعشرون: تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك.
الرابع والعشرون: أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في {إِنْ أَصْبَحَ} فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا.
(18/26)
الخامس والعشرون: أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل أي ما دل عليه لفظ غورا.
السادس والعشرون: أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بما هنالك.
السابع والعشرون: أن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة.
الثامن والعشرون: أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء، ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه.
التاسع والعشرون: أن الموعد به هنا يحتمل في بادئ النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان أن. وظاهر أن التهديد لمحتمل الوقوع في الحال أهول، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون.
الثلاثون: أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فأنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه: إن أصبح ماؤكم غورا فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى.
وأنا أقول: عني هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرض أحدهم للكشف عن وجه وتوفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها، وليس ذلك لخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجز الناظرين عن استخراج أمثالها؛ ولكن ما يبين من الخصائص البلاغية في القرآن ليس يريد من يبينه أن ما لاح له ووفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكن مبلغ ماصا دف لوحه للناظر المتدبر، والعلماء متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغية في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها. وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجا لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات اخرى. كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من المفتاح، وأنه قال في منتهى كلامه ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلا الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي
(18/27)
المعاني والبيان.
وقد نقول: إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة، وأما آية سورة الملك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نصل إليها.
على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها.
وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضا من صنع الله بما أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بعد، فكل هذا الإنشاء من الله تعالى.
والجنة: المكان ذو الشجر. وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكرم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الآية في سورة البقرة.
وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمرا وهو النخيل والأعناب والزيتون، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة النحل.
والفواكه: جمع فاكهة، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت، فإن قصد به القوت قيل له طعام. فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمر والعنب لأنه يؤكل رطبا ويابسا، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منة بالحاجي والتحسيني.
ووصف الفواكه بكثيرة باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر، وكالزيت والعنب والرطب، وأيضا باعتبار كثرة إثمار هذين الشجرين.
{وَشَجَرَةً} عطف على {جَنَّاتٍ} أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء
(18/28)
وهي شجرة الزيتون، وجملة {تَخْرُجُ} صفة لشَجَرَةً. وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاما وإصلاحا ومداواة، ومن أعوادها وقود وغيره. وفي الحديث: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" .
وطور سيناء: جبل في صحراء سيناء الواقعة بين عقبة أيله وبين مصر، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف عند قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} . وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة، وطور سيناء أو طور سينين. ومعنى الطور الجبل. وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك. وقيل اسم حجارة. وقيل هو اسم لذلك المكان. قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح. وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحسن في اللغة الحبشية وهو كلمة سناه. ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطا.
وسكنت ياء سيناء سكونا ميتا وبه قرأ الجمهور. ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكونا حيا، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهو في القراءتين ممدود، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلمية والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فعلاء إذا كان عينه أصلا لاتكون ألفه للتأنيث بل للالحاق وألف الإلحاق لاتمنع الصرف، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فعلاء من أوزان ألف التأنيث.
وقوله: {تخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطور سيناء. وقد غمض وجه ذاك. والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} وقوله: {يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} . وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازما لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوما بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوبا فيه. وهي استعارة شائعة في القرآن.
فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لابد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال،
(18/29)
وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون.
ثم إن البشر إذا نقلوا حيوانا أو نباتا من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غير فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة برد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلا في بعض المناطق الملائمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة، فلعل جو طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرا وبردا ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} ، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} . ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض.
وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعده. ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين: أن نوح أرسل حمامة تبحث عن مكان غيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض. ومعلوم أن ابتداء غيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء.
وأياما كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة قبل الطوفان. ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلا في عهد موسى عليه السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى1، وسكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهنا لبني إسرائيل2.
ـــــــ
1 الإصحاح /25/ من سفر الخروج.
2 الإصحاح /9/ من سفر الخروج.
(18/30)
ويجوز أن يكون معنى {تخْرُجُ} تظهر وتعرف، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء. وهذا كما نسمي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمشرفية لأنها عرفت من مشارف الشام، وبعض الرماح الخطية لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له: الخط، وبعض السيوف بالمهند لأنه يجلب من الهند، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين.
وأياما كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلا التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلا فإن الامتنان بها لم يكن موجها يومئذ لسكان طور سيناء. وما كان هذا التنبيه إلا للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس. ورأيت في لسان العرب عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح: أن كل زيتونة بفلسطين من غرس أمم يقال لهم اليونانيون 1 ه. والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجارا قديمة بادت.
وفي أساطير اليونان ميثولوجيا أن منيرفا ونبتون الربين في اعتقاد اليونان تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسما لمدينة بناها ككرابيسفحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلا من يصنع أنفع الأشياء. فأما نبتون فأوجد فرسا بحريا عظيم القوة، وأما مينيرفا فصنعت شجرة الزيتون بثمرتها، فحكم الأرباب لها بأنها أحق، فلذلك وضعوا للمدينة اسم اثينا الذي هو اسم منيرفا. وزعموا أن هيركول لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل أولمبوس وهو مسكن آلهتهم في زعمهم.
فقد كان زيت الزيتون مستعملا عند اليونان من عهد هوميروس إذ ذكر في الإلياذة أن أخيل سكب زيتا على شلو فطر قليوس وشلو هكتور.
وكان الزيت نادرا في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام.
وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلا لنوره في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} .
والتعبير بالمضارع في قوله: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة
(18/31)
بالنبات في طور سيناء. وذلك كقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} . وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} .
ومعنى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة.
وهذه الآية مثال لباء الملابسة. والملابسة معنى واسع. فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ؛ فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهنا وصبغا للآكلين. فأما كونه دهنا فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجلون به شعورهم ويجعلون فيه عطورا فيرجلون به الشعور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدهن بالزيت في رأسه.
والدهن بضم الدال: اسم لما يدهن به، أي يطلى به شيء، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يطلى به الجسد للتداوي والشعر للترجيل.
والصبغ، بكسر الصاد: ما يصبغ به أي يغير به اللون. ثم توسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم ما، ومنه قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} وسمي الزيت صبغا لأنه يصبغ به الخبز. وعطف صبغ على الدهن باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن والصبغ أخص؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام، وكانوا يأدمون به الطعام وذلك صبغ للطعام. أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب وعن أبي أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" .
وقرأ الجمهور تنبت بفتح التاء وضم الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول: أنبت بمعنى نبت، أو على حذف المفعول، أي تنبت هي ثمرها، أي تخرجه.
[22,21] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} .
هذا العطف مثل عطف جملة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} ففيه كذلك استدلال ومنة.
والعبرة: الدليل لأنه يعبر من معرفته إلى معرفة أخرى. والمعنى: إن في الأنعام
(18/32)
دليلا على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم. والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.
وجملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} بيان لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.
والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه {نُسْقِيكُمْ} . وأما {نُسْقِيكُمْ} بمجرده فهو منة. وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلا في سورة النحل.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} وما بعدها معطوفة على جملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجمل بعده. وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنتاج.
وأما الأكل منها فهو عبرة أيضا إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شيها وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.
وكذلك القول في معنى {وَعَلَيْهَا... تُحْمَلُونَ} فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة. والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون، وقرأه الباقون عدا أبا جعفر بضم النون يقال: سقاه وأسقاه بمعنى، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام.
وعطف {وَعَلَى الْفُلْكِ} إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح.
[25,23] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} .
لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدما موجهين إلى المشركين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب
(18/33)
أن يضرب لهم بقوم نوح مثل تحذيرا مما أصاب قوم نوح من العذاب. وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص، فيعتبر ذلك قصص الرسل إما استطرادا في خلال الاستدلال على الوحدانية، وإما انتقالا كما سيأتي عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} .
وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عقب به ذلك.
وعطف مقالة نوح على جملة إرساله بفاء التعقيب لإفادة أدائه رسالة ربه بالفور من أمره وهو شأن الامتثال.
وأمره قومه بأن يعبدوا الله يقتضي أنهم كانوا معرضين عن عبادة الله بأن أقبلوا على عبادة أصنامهم ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر حتى أهملوا عبادة الله ونسوها. وكذلك حكيت دعوة نوح قومه في أكثر الآيات بصيغة أمر بأصل عبادة الله دون الأمر بقصر عبادتهم على الله مع الدلالة على أنهم ما كانوا ينكرون وجود الله ولذلك عقب كلامه بقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
ويدل على هذا قولهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} فهم مثبتون لوجود الله. فجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} في موقع التعليل للأمر بعبادته وهو تعليل أخص من المعلل، وهو أوقع لما فيه من الإيجاز لاقتضائه معنى: اعبدوا الله وحده. فالمعنى: اعبدوا الله الذي تركتم عبادته وهو إلهكم دون غيره فلا يستحق غيره العبادة فلا تعبدوا أصنامكم معه.
و {غَيْرُهُ} نعت ل {إِلَهٍ} قرأه الجمهور بالرفع على اعتبار محل المنعوت ب غير لأن المنعوت مجرور بحرف جر زائد. وقرأه الكسائي بالجر على اعتبار اللفظ المجرور بالحرف الزائد.
وفرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهام إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى. وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة. فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين:
(18/34)
أحدهما: أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح.
والثاني: ليفاد أنهم أسرعوا لتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر. ووصف الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نهوض له ولكنهم روجوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم.
وقوله: {مِن قَومِهِ} صفة ثانية.
وقول الملأ من قومه {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} خاطب به بعضهم بعضا إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشارة، أي فقال عظماء القوم لعامتهم.
وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليل من ذاته، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة. واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله. وقد تقدم نظير هذا في سورة هود.
وزادت هذه القصة بحكاية قولهم: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلا حبا في أن يسود على قومهم فخشوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم.
فلما كانت مطامح أنفسهم حب الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم.
والتفضل: تكلف الفضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال.
وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} عطف على جملة {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولا لله, وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب لو، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا. وحذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة، وذلك من الإيجاز. ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب المفتاح: ألا ترى قول المعري:
(18/35)
وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد.
وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكر مفعول المشيئة. فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط.
وجملة {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} مستأنفة قصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيها على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لما قبلها، بخلاف أسلوب عطف جملة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} إذ كان مضمونها من تمام غرض ما قبلها.
فالإشارة بهذا إلى الكلام الذي قاله نوح، إي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه، وهو استعمال شائع. ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمنا تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية. والآباء الأولون هم الأجداد.
ولما كان السماع المنفي ليس سماعا بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عدي فعل {سَمِعْنَا} بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء، وهو مجادلة سفسطائية إذ قد يكون انتفاء العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحا فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يتساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فماذا دعاه إلى القول بها? فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثله على الناس كلهم بنسبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون.
والتنوين في {جِنَّةٌ} للنوعية، أي هو متلبس بشيء من الجنون، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنونا خفيفا لا تبدوا آثاره واضحة.
(18/36)
وقصروه على صفة المجنون وهو قصر إضافي، أي ليس برسول من الله.
وفرعوا على ذلك الحكم أمرا لقومهم بانتظار ما ينكشف عنه أمره بعد زمان: إما شفاء من الجنة فيرجع إلى الرشد، أو ازدياد الجنون به فيتضح أمره فتعلموا أن لا اعتداد بكلامه.
والحين: اسم للزمان غير المحدود.
والتربص: التوقف عن عمل يراد عمله والتريث فيه انتظارا لما قد يغني عن العمل أو انتظارا لفرصة تمكن من إيقاعه على أتقن كيفية لنجاحه، وهو فعل قاصر يتعدى إلى المفعول بالباء التي هي للتعدية ومعناها السببية، أي كان تربص المتربص بسبب مدخول الباء. والمراد: بسبب ما يطرأ عليه من أحوال، فهو على نية مضاف حذف لكثرة الاستعمال. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} في سورة براءة فانظره مع ما هنا.
[27,26] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال من يسأل عماذا صنع نوح حين كذبه قومه فيجاب بأنه قال: {رَبِّ انْصُرْنِي} الخ.
ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عد فعلهم معه اعتداء عليه بوصفه رسولا من عند ربه.
والنصر: تغليب المعتدى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصرا مجملا كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلا من آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه وإتباع ملته، فسأل نوح حين ذاك نصرا خاصا وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} . فالتعقيب الذي في قوله تعالى: هنا {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت، وهو
(18/37)
إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} الخ في سورة الشعراء.
والباء في {بِمَا كَذَّبُونِ} سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء، أي نصرا كائنا بسبب تكذيبهم، فجعل حظ نفسه فيما اعتدوا عليه ملغى واهتم حظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله.
وجملة {أَنِ اصْنَعِ} جملة مفسرة لجملة {أوْحَيْنَا} لأن فعل {أوْحَيْنَا} فيه معنى القول دون حروفه، وتقدم نظير جملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} في سورة هود.
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوقت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان.
وتقدم الكلام على معنى {فَارَ التّّنورُ} ومعنى {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} في سورة هود.
والزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما. وتقدم في سورة هود.
وإنما عبر هنالك بقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} وهنا بقوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأمر أن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلا للإسراع بإركاب ما عين له في السفينة حتى كأن حاله في إدخاله إياهم حال من يحمل شيئا ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عين الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.
ومعنى {اسْلُكْ} أدخل، وفعل سلك يكون قاصرا بمعنى دخل ومتعديا بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . وقول الأعشى:.
كما سلك السكي في الباب فيتق
(18/38)
وتقدم الكلام على مثل قوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} في سورة هود.
وقرأ الجمهور {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} بإضافة {كُلٍّ} إلى {زَوْجَيْنِ} . وقرأه حفص بالتنوين كل على أن يكون {زَوْجَيْنِ} مفعول {فَاسْلُكْ} ، وتنوين كل تنوين عوض يشعر بمحذوف أضيف إليه كل. وتقديره: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
[29,28] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} .
الاستواء: الاعتلاء. وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف.
وإطلاق الاستواء على الاستقرار في داخل السفينة مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق وإلا فحقيقة الاستقرار في الفلك أنه دخول. وأتي بحرف الاستعلاء دون حرف الظرفية لأنه الذي يتعدى به معنى الاعتلاء إيذانا بالتمكن من الفلك فهو ترشيح للمجاز.
والتنجية من القوم الظالمين: الإنجاء من أذاهم والكون فيهم لأن في الكون بيهنم مشاهدة كفرهم ومناكرهم وذلك مما يؤذي المؤمن.
والظلم يجوز أن يراد به الشرك كما قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ويجاوز أن يراد به الاعتداء على الحق لأن الكافرين كانوا يؤذون نوحا والمؤمنين بشتى الأذى باطلا وعدوانا وإنما كان ذلك إنجاء لأنهم قد استقلوا بجماعتهم فسلموا من الاختلاط بأعدائهم.
وقد ألهمه الله بالوحي أن يحمد ربه على ما سهل له من سبيل النجاة وأن يسأله نزولا في منزل مبارك عقب ذلك الترحل، والدعاء لذلك يتضمن سؤال سلامة من غرق السفينة. وهذا كالمحامد التي يعلمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم يوم الشفاعة، فيكون في ذلك التعليم إشارة إلى أنه سيتقبل ذلك منه.
وجملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} في موضع الحال. وفيها معنى تعليل سؤاله ذلك.
وقرأ الجمهور {مُنْزَلاً} بضم الميم وفتح الزاي وهو اسم مفعول من أنزله على حذف المجرور، أي منزلا فيه. ويجوز أن يكون مصدرا، أي إنزالا مباركا. والمعنيان
(18/39)
متلازمان. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاي، وهو اسم لمكان النزول.
[30] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} .
لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك.
والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها. والآيات: الدلالات، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلا مباركا، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدر لتطهير الأرض من الشرك مثل هذا الاستيصال العام لأهله، وإذ قدر لإبقاء الأنواع مثل هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل.
وعطف على جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات} جملة {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لأن مضمون {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} يفيد معنى: إن في ذلك لبلوى، فكأنه قيل: إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا. فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهية لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانية فتحمل عواقب البلوى، ولتتخبط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زمانا.
والمعنى: أن ماتقدم قبل الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وآذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميز الله للناس الخبيث من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنة إلهية.وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وفي القرآن: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
والابتلاء تقدم في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في سورة البقرة.
وفي قوله: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} تسلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من المشركين، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجهون به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بقاء له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكل حظ يناسبه.
(18/40)
ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نزل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد بإن المخففة وبفعل كنا.
واللام هي الفارقة بين إن المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين إن النافية.
[32,31] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر، أي أخرى، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعين القرن ولا القرون بأسمائهم.
والقرن: الأمة. والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} ، لأن ثمود أهلكوا بالصاعقة ولقوله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} مع قوله في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} فكان هلاكهم في الصباح. ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافا لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحجر كما قال تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} أي جعل الرسول بينهم وهو منهم، أي من قبيلتهم. وضمير الجمع عائد إلى قرنا لأنه في تأويل الناس كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} .
وعدي فعل أرسلنا بفي دون إلى لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو واردا إليهم مثل لوط لأهل سدوم، ويونس لأهل نينوى، وموسى للقبط. وكان التنبيه على أن رسولهم منه مقصودا إتماما للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم. وكلام رسولهم مثل كلام نوح.
وأن تفسير لما تضمنه {أَرْسَلْنَا} من معنى القول.
[38,33] {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ
(18/41)
الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} .
عطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات بقال ونحوها دون عطف. وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه، وخولف أيضا في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولهم بدون عطف.
ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكي هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجه إلى خطاب قومهم إذ قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} إلى آخره خشية منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم، فرأوا الاعتناء لأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفا في قصة نوح.
وبهذا يظهر وجه الإعجاز في المواضيع المختلفة التي أورد فيها صاحب الكشاف سؤالا ولم يكن في جوابه شافيا وتحير شراحه فكانوا على خلاف.
وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفا لأن قولهم هذا كان متأخرا عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطف جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.
وأيضا لأن كلام رسولهم لم يحك بصيغة قول بل حكي بأن التفسيرية لما تضمنه معنى الإرسال في قوله: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} .
وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ، وقول قوم صالح {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ
(18/42)
آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
وقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} {الَّذِينَ كَفَرُوا} نعت ثان ل {الْمَلَأُ} فيكون على وزان قوله في قصة نوح: { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} . وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله: {وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} .
واللقاء: حضور أحد عند آخر. والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة وعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} في سورة الأنفال.
وإضافة لقاء إلى الآخرة على معنى في أي اللقاء في الآخرة.
والإتراف: جعلهم أصحاب ترف. والترف: النعمة الواسعة. وقد تقدم عند قوله: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} في سورة الأنبياء.
وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألفوا أن يكونوا سادة لا تبعا، قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} ، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} .
و{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولا من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.
وجملة {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه.
وحذف متعلق {تَشْرَبُونَ} وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها.
واللام في {وَلََئِنْ أَطَعْتُمْ} موطئة للقسم، فجملة {إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. وأقحم حرف الجزاء في جواب
(18/43)
القسم لما في جواب القسم من مشابهة الجزاء لاسيما متى اقترن القسم بحرف شرط.
والاستفهام في قوله: {أَيَعِدُكُمْ} للتعجب، وهو انتقال من تكذيبه في دعوى الرسالة إلى تكذيبه في المرسل به.
وقوله: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} إلى آخره مفعول {يَعِدُكُمُ} أي يعدكم إخراج مخرج إياكم. والمعنى: يعدكم إخراجكم من القبور بعد موتكم وفناء أجسامكم.
وأما قوله: {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فيجوز أن يكون إعادة لكلمة أنكم الأولى اقتضى إعادتها بعد ما بينها وبين خبرها. وتفيد إعادتها تأكيدا للمستفهم عنه استفهام استبعاد تأكيدا لاستبعاده. وهذا تأويل الجرمي والمبرد.
ويجوز أن يكون {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} مبتدأ. ويكون قوله: {إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً} خبرا عنه مقدما عليه وتكون جملة {إِذَا مِتُّمْ} إلى قوله: {مُخْرَجُونَ} خبرا عن أن من قوله {أَنَّكُمْ} الأولى.
وجعلوا موجب الاستبعاد هو حصول أحوال تنافي أنهم مبعوثون بحسب قصور عقولهم، وهي حال الموت المنافي للحياة، وحال الكون ترابا وعظاما المنافي لإقامة الهيكل الإنسان ي بعد ذلك.
وأريد بالإخراج إخراجهم أحياء بهيكل إنساني كامل أي مخرجون للقيامة بقرينة السياق.
وجملة {هَيْهَاتَ} بيان لجملة {يَعِدُكُمُ} فلذلك فصلت ولم تعطف.
و {هَيْهَاتَ} كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضا. وقرأها الجمهور بالفتح، وقرأها أبو جعفر بالكسر. وتدل على البعد. وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثا كما جاء في شعر لحميد الأرقط وجرير يأتيان.
واختلف فيها أهي فعل أم اسم؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن هيهات اسم فعل للماضي من البعد، فمعنى هيهات كذا: بعد. فيكون ما يلي هيهات فاعلا. وقيل هي اسم للبعد، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في تفسيره. قال الراغب: قالب البعض: غلط الزجاج في تفسيره واستهواه اللام في قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} .
(18/44)
وقيل: هيهات ظرف غير متصرف، وهو قول المبرد. ونسبه في لسان العرب إلى أبي علي الفارسي. قال: قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتى مرة بكونها اسما سمي به الفعل مثل صه ومه، وأفتى مرة بكونها ظرفا على قدر ما يحضرني في الحال.
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل بوقف عليها هاء، وأنها لا تنون تنوين تنكير.
وقد ورد ما بعد هيهات مجرورا باللام كما في هذه الآية، وورود مرفوعا كما في قول جرير:
فهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نحاوله
وورد مجرورا بمن في قول حميد الأرقط:
هيهات من مصبحها هيهات ... هيهات حجر من صنيبعات
فالذي يتضح في استعمال هيهات أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعا على تأويل هيهات بمعنى فعل ماض من البعد كما في بيت جرير، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجرورا باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق هيهات من الكلام لأنها لا تقع غالبا إلا بعد كلام، وتجعل اللام للتبيين، أي إيضاح المراد من الفاعل، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل. وإذا ورد ما بعدها مجرورا بمن فمن بمعنى عن أي بعد عنه أو بعدا عنه.
على أنه يجوز أن تؤول هيهات مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنيا جامدا غير مشتق. ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.
وجاء هنا فعل {تُوعَدُونَ} من أوعد وجاء قبله فعل {أَيَعِدُكُمْ} وهو من وعد مع أن الموعود به شيء واحد. قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعدا، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه.
وأقول: أحسن من هذا أنه عبر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك، فإن
(18/45)
إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدقوا وعلى وعيد إن كذبوا، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازا.
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يجوز أن يكون بيانا للاستبعاد الذي في قوله: {هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} واستدلالا وتعليلا له، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.
وضمير {هِيَ} عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصدا للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع. وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بيانا له، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان. ومنه قول الشاعر أنشده في الكشاف المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملا:
هي النفس ما حملتها تتحمل ... وللدهر أيام تجور وتعدل
وقول أبي العلاء:
هو الهجر حتى ما يلم خيال ... وبعض صدود الزائرين وصال
ومبين الضمير هنا قوله: {إِلَّا حَيَاتُنَا} فيكون الاسم الذي بعد إلا عطف بيان من الضمير. والتقدير: إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا. ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبين.
وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له. ولأنه في الآية مفسر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.
ولأن دخول لا النافية يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال: لا قصة إلا حياتنا، فدخلت عليه لا النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو {حَيَاتُنَا} فالمعنى: ليست الحياة إلا حياتنا هذه، أي لا حياة بعدها.
والدنيا: مؤنث الأدنى، أي القريبة بمعنى الحاضرة.
وضمير {حَيَاتُنَا} مراد به جميع القوم الذي دعاهم رسولهم. فقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} معناه: يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم. ومعنى {نَحْيَا} : نولد، أي يموت من يموت ويولد من يولد، أو المراد: يموت من يموت فلا يرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت. والواو لا تفيد ترتيبا بين معطوفها والمعطوف عليه. وعقبوه بالعطف في قوله:
(18/46)
{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا نحيا حياة بعد الموت.
وهو عطف على جملة {نَمُوتُ وَنَحْيَا} باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} . وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسمية تقوية مدلولة وتحقيقه.
ثم جاءت جملة {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} نتيجة عقب الاستدلال، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفا في قوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وما بعده من تكذيب دعوته، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال. وضمير {إِنْ هُوَ} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} .
فجملة {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} صفة ل {رَجُلٌ} وهي منصب الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافيا، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.
وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تقريرا لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم، أي زيادة على كونه رجلا مثلهم فهو رجل كاذب.
والافتراء: الاختلاق. وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة.
وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلانا بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه، وهو مقتضى حال خطاب العامة.
والقول في إفادة الجملة الاسمية التقوية كالقول في {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
[40,39] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}
استئناف بياني لأن ما حكي من صد الملإ الناس عند اتباعه وإشاعتهم عنه أنه مفتر على الله وتلفيقهم الحجج الباطلة على ذلك مما يثير سؤال سائل عما كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك، فيجاب بأنه توجه إلى الله الذي أرسله بالدعاء بأن ينصره عليهم. وتقدم القول في نظيره آنفا في قصة نوح.
وجاء جواب دعاء هذا الرسول غير معطوف لأنه جرى على أسلوب حكاية
(18/47)
المحاورات الذي بيناه في مواضع منها قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة.
و{عَمَّا قَلِيلٍ} أفاد عن المجاوزة، أي مجاوزة معنى متعلقها الاسم المجرور بها. ويكثر أن تفيد مجاوزة معنى متعلقها الاسم المجرور بها فينشأ منها معنى بعد نحو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} فيقال: إنها تجيء بمعنى بعد كما ذكره النحاة وهم جروا على الظاهر وتفسير المعنى إذ لا يكون حرف بمعنى اسم، فإن معاني الحروف ناقصة ومعاني الأسماء تامة. فمعنى {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} : أن إصباحهم نادمين يتجاوز زمنا قليل، أي من زمان التكلم وهو تجاوز مجازي بحرف عن مستعار لمعنى بعد استعارة تبعية.
و {مَا} زائدة للتوكيد.
و {قَلِيلٍ} صفة لموصوف محذوف دل عليه السياق أو فعل الإصباح الذي هو من أفعال الزمن فوعد الله هذا الرسول نصرا عاجلا.
وندمهم يكون عند رؤية مبدأ الاستئصال ولا ينفعهم ندمهم بعد حلول العذاب.
والإصباح هنا مراد به زمن الصباح لا معنى الصيرورة بدليل قوله في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} .
[41] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
تقتضي الفاء تعجيل إجابة دعوة رسولهم.
والأخذ مستعار للإهلاك.
والصيحة: صوت الصاعقة، وهذا يرجع أو يعين أن يكون هؤلاء القرن هم ثمود قال تعالى {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وقال في شأنهم في سورة الحجر {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} .
وإسناد الأخذ إلى الصيحة مجاز عقلي لأن الصيحة سبب الأخذ أو مقارنة سببه فإنها تحصل من تمزق كرة الهواء عند نزول الصاعقة.
والباء في {بَالحَقِّ} للملابسة، أي أخذتهم أخذا ملابسا للحق، أي لا اعتداء فيه
(18/48)
عليهم لأنهم استحقوه بظلمهم.
والغثاء: ما يحمله السيل من الأعواد اليابسة والورق. والكلام على التشبيه البليغ للهيئة فهو تشبيه حالة بحالة، أي جعلناهم كالغثاء في البلى والتكدس في موضع واحد فهلكوا هلكة واحدة.
وفرع على حكاية تكذيبهم دعاء عليهم وعلى أمثالهم دعاء شتم وتحقير بأن يبعدوا تحقيرا لهم وكراهية، وليس مستعملا في حقيقة الدعاء لأن هؤلاء بعدوا بالهلاك. وانتصب بعدا على المفعولية المطلقة بدلا من فعله مثل: تبا وسحقا، أي أتبه الله وأسحقه.
وعكس هذا المعنى قول العرب لا تبعد بفتح العين أي لا تفقد. قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
والمراد بالقوم الظالمين الكافرون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . واختير هذا الوصف هنا لأن هؤلاء ظلموا أنفسهم بالإشراك وظلموا هودا لأنه تعمد الكذب على الله إذ قالوا {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} للاستغراق فشملهم، ولذلك تكون الجملة بمنزلة التذييل.
واللام في {لِلقَومِ الظَّالِمِينَ} للتبيين وهي مبينة للمقصود بالدعاء زيادة في البيان كما في قولهم: سحقا لك وتبا له، فإنه لو قيل: فبعدا، لعلم أنه دعاء عليه فبزيادة اللام يزيد بيان المدعو عليهم وهي متعلقة بمحذوف مستأنف للبيان.
[43,42] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} القرون: الأمم، وهذا كقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} .
وهي الأمم الذين لم ترسل إليهم رسل وبقوا على إتباع شريعة نوح أو شريعة هود أو شريعة صالح. أو لم يؤمروا بشرع لأن الاقتصار على ذكر الأمم هنا دون ذكر الرسل ثم ذكر الرسل عقب هذا يومئ إلى أن هذه إما أمم لم تأتهم رسل لحكمة اقتضت تركهم على ذلك لأنهم لم يتأهلوا لقبول شرائع، أو لأنهم كانوا على شرائع سابقة.
(18/49)
وجملة {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} معترضة بين المتعاطفة. وهي استئناف بياني لما يؤذن به قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً} من كثرتها ولا يؤذن به وصفهم ب {آخَرِين} من جهل الناس بهم، ولما يؤذون به عطف جملة {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} من انقراض هذه القرون بعد الأمة التي ذكرت قصتها آنفا في قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين} دون أن تجيئهم رسل، فكان ذلك كله مما يثير سؤال سائل عن مدة تعميرهم ووقت انقراضهم. فيجاب بالإجمال لأن لكل قرن منهم أجلا عينه الله يبقى إلى مثله ثم ينقرض ويخلفه قرن آخر يأتي بعده، أو يعمر بعده قرن كان معاصرا له، وأن ما عين لكل قرن لا يتقدمه ولا يتأخر عنه كقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
والسبق: تجاوز السائر وتركه مسائره خلفه، وعكسه التأخر. والمعنى واضح. والسين والتاء في {يَسْتَأْخِرُونَ} زائدتان للتأكيد مثل: استجاب. وضمير {يَسْتَأْخِرُونَ} عائد إلى {أُمَّةٍ} باعتبار الناس.
[44] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} الرسل الذين جاءوا من بعد، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب، ومن أرسل قبل موسى، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله.
والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} .
و {تَتْرَا} قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فعلى مثل دعوى وسلوى، وألفه للتأنيث مثل ذكرى، فهو ممنوع من الصرف. وأصله: وترى بواو في أوله مشتقا من الوتر وهو الفرد. وظاهر كلام اللغويين انه لا فعل له، أي فردا فردا، أي فردا بعد فرد فهو نظير مثنى. وأبدلت الواو تاء إبدالا غير قياسي كما أبدلت في تجاه للجهة المواجهة وفي تولج لكناس الوحش وتراث للموروث.
ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطع. ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات. والوتيرة: الفترة عن العمل. وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك. يقال: جاءوا متداركين، أي متتابعين.
(18/50)
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر منونا وهي لغة كنانة. وهو على القراءتين منصوب على الحال من {رُسُلِنَا} .
واعلم أن كلمة {تَتْرَا} كتبت في المصاحف كلها بصورة الألف في آخرها على صورة الألف الأصلية مع أنها في قراءة الجمهور ألف تأنيث مقصورة وشأن ألف التأنيث المقصورة أن تكتب بصورة الياء مثل تقوى ودعوى، فلعل كتاب المصاحف راعوا كلتا القراءتين فكتبوا الألف بصورتها الأصلية لصلوحية نطق القارئ على كلتا القراءتين. على أن أصل الألف أن تكتب بصورتها الأصلية، وأما كتابتها في صورة الياء حيث تكتب كذلك فهو إشارة إلى أصلها أو جواز إمالتها فخولف ذلك في هذه اللفظة لدفع اللبس.
ومعنى الآية: ثم بعد تلك القرون أرسلنا رسلا، أي أرسلناهم إلى أمم أخرى، لأن إرسال الرسول يستلزم وجود أمة وقد صرح به في قوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} . والمعنى: كذبه جمهورهم وربما كذبه جميعهم.
وفي حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد..." الحديث.
وإتباع بعضهم بعضا إلحاقهم بهم في الهلاك بقرينة المقام وبقرينة قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ، أي صيرناهم أحدوثات يتحدث الناس بما أصابهم. إنما يتحدث الناس بالشيء الغريب النادر مثله. والأحاديث هنا جمع أحدوثة، وهي اسم لما يتلهى الناس بالحديث عنه. ووزن الأفعولة يدل على ذلك مثل الأعجوبة والأسطورة.
وهو كناية عن إبادتهم، فالمعنى: جعلناهم أحاديث بائدين غير مبصرين.
والقول في {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} مثل الكلام على {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ إلا أن الدعاء نيط هنا بوصف أنهم لا يؤمنون ليحصل من مجموع الدعوتين التنبيه على مذمة الكفر وعلى مذمة عدم الإيمان بالرسل تعريضا بمشركي قريش، على أنه يشمل كل قوم لا يؤمنون برسل الله لأن النكرة في سياق الدعاء تعم كما في قول الحريري: يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا.
[48,45] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}
(18/51)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}
الآيات: المعجزات، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها. والسلطان المبين: الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه. والباء للملابسة، أي بعثناه ملابسا للمعجزات والحجة.
وملأ فرعون: أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة. وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} . ولم يرسلا بشريعة إلى القبط. وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم.
وعطف {فَاسْتَكْبَرُوا} بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء، فالسين والتاء للتوكيد، أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذنا صاغية.
وجملة {وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} معترضة بين فعل استكبروا وما تفرع عليه من قوله فقالوا في موضع الحال من فرعون وملئه، أي فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو، أي كان الكبر خلقهم وسجيتهم. وقد بينا عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من سورة البقرة أن إجراء وصف على لفظ قوم أو الإخبار بلفظ قوم متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ قوم أو تمكنه من أولئك القوم. فالمعنى هنا: أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم. فالعلو بمعنى التكبر والجبروت. وسيجيء بيانه عند قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} في سورة القصص.
وبين ذلك بالتفريع بقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} فهو متفرع على قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} ، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} . وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض، ولما كانوا قد تراضوا عليه نسب إليهم جميعا. وأما فرعون فكان مصغيا لرأيهم ومشورتهم وكان له قول
(18/52)
آخر حكي في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فإن فرعون كان معدودا في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشرا في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة.
والاستفهام في {أَنُؤْمِنُ} إنكاري، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مباينا للمرسل إليهم، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناسا غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي، ولا يقيمون وزنا لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانية. وهذه الشبهة هي سبب ضلالة أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم.
واللام في قوله: {لِبَشَرَينِ} لتعدية فعل {نُؤْمِنُ} . يقال للذي يصدق المخبر فيما أخبر به: آمن له، فيعدى فعل آمن باللام على اعتبار أنه صدق بالخبر لأجل المخبر، أي لأجل ثقته في نفسه. فأصل هذه اللام لام العلة والأجل. ومنه قوله تعالى: {فآمن له لوط} وقوله: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} . وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول: آمنت بأن الله واحد. وبهذا ظهر الفرق بين قولك: آمنت بمحمد وقولك: آمنت لمحمد. فمعنى الأول: أنك صدقت شيئا. ولذلك لا يقال: آمنت لله وإنما يقال: آمن بالله. وتقول: آمن بمحمد وآمنت لمحمد. ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به.
و {مِثْلِنَا} وصف {لِبَشَرَيْنِ} وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغه موصوفه كما هنا. ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} .
وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا و {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا.
وقوله: {عَابِدُونَ} جمع عابد، أي مطيع خاضع. وقد كانت بنو إسرائيل خولا للقبط وخدما لهم قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} .
(18/53)
وتفرع على قولهم التصميم على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا} أي أرسى أمرهم على أن كذبوهما، ثم فرع على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق، أي فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا. وهذا أبلغ من أن يقال: فأهلكوا، كما مر بنا غير مرة.
والتعقيب هنا تعقيب عرفي لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك.
وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى الله عليه وسلم لأن في قوله: {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} إنما إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله.
[49] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
لما ذكرت دعوة موسى وهارون لفرعون وملئه وما ترتب على تكذيبهم من إهلاكهم أكملت قصة بعثة موسى بالمهم منها الجاري ومن بعثة من سلف من الرسل المتقدم ذكرهم وهو إيتاء موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لحصول اهتدائهم ليبني على ذلك الاتعاظ بخلافهم على رسلهم في قوله بعد ذلك {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} فإن موعظة المكذبين رسولهم بذلك أولى. وهنا وقع الإعراض عن هارون لأن رسالته قد انتهت لاقتصاره على تبليغ الدعوة لفرعون وملئه إذ كانت مقام محاجة واستدلال فسأل موسى ربه إشراك أخيه هارون في تبليغها لأنه أفصح منه لسانا في بيان الحجة والسلطان المبين.
والتعريف في {الْكِتَابَ} للعهد. وهو التوراة.
ولذلك كان ضمير {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ظاهر العود إلى غير مذكور في الكلام بل إلى معلوم من المقام وهم القوم المخاطبون بالتوراة وهم بنو إسرائيل فانتساق الضمائر ظاهر في المقام دون حاجة إلى تأويل قوله: {آتَيْنَا مُوسَى} بمعنى: آتينا قوم موسى، كما سلكه في الكشاف.
ولعل للرجاء، لأن ذلك الكتاب من شأنه أن يترقب من إيتائه اهتداء الناس به.
[50] {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفية تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا، ولم
(18/54)
تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته. وأما قوله: {وَأُمَّهُ} فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعنا ومغمزا فيهما.
وتنكير {آيَةً} للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات. ولما كان مجموعها دالا على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمت. آيَةً
وأما قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه.
والإيواء: جعل الغير آويا، أي ساكنا. وتقدم عند قوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} في سورة هود وعند قوله: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} في سورة هود.
والربوة بضم الراء: المرتفع من الأرض. ويجوز في الراء الحركات الثلاث. وتقدم في قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} في البقرة. والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظا لعيسى من أذاهم.
والقرار: المكث في المكان، أي هي صالحة لأن تكون قرارا، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها.
والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وهو وصف جرى على موصوف محذوف، أي ماء معين، لدلالة الوصف عليه كقوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . وهذا في معنى قوله في سورة مريم {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} .
[51] {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
يتعين تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول، وهو استئناف ابتدائي، أي قلنا: يا أيها الرسل كلوا. والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجها للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم. فالتقدير: قلنا لكل رسول ممن مضى ذكرهم
(18/55)
كل من الطيبات واعمل صالحا إني بما تعمل عليم.
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات. ومنه: ركب القوم دوابهم.
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانية والروحانية، فالأكل من الطيبات نزاهة جسمية والعمل الصالح نزاهة نفسانية.
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعللين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} ، وقال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانية. وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.
والأمر في قوله: {كُلُوا} للإباحة، وإن كان الأكل أمرا جبليا للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.
وتعليق {مِنَ الطيِّبَاتِ} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات، أي أن يكون المأكول طيبا. ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات. والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه.
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة، وهذا كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والمراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.
وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء، فالخبر مستعمل في التحريض.
[52] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}
(18/56)
يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الخ، فيكون هذا مما قيل للرسل. والتقدير: وقلنا لهم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية. ويجوز أن تكون عطفا على قصص الإرسال المبدوءة من قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية. وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية.
وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء. فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة إن. فأما هذه الآية فقرأ الجمهور {وَأَنَّ} بفتح الهمزة وتشديد النون، فيجوز ان تكون خطابا للرسل وأن تكون خطابا للمقصودين بالنذارة على الوجهين وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله: {فَاتَّقُونِ} عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعا من تقديم معموله، أو متعلقة بمحذوف دل عليه {فَاتَّقُونِ} عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في سورة النحل.
والمعنى عليه: ولكون دينكم دينا واحدا لا يتعدد فيه المعبود. وكوني ربكم فاتقون ولا تشركوا بي غيري، خطابا للرسل والمراد أممهم، أو خطابا لمن خاطبهم القرآن.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة إن وتشديد النون، فكسر همزة إن إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول، وإما لأنها مستأنفة على الوجه الثاني. والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور.
وقرأ بن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من أن المفتوحة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها. ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء.
واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية.
وتأكيد الكلام بحرف إن على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن.
وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء؛ إلا أن الواقع هنا {فَاتَّقُونِ} وهناك
(18/57)
{فَاعْبُدُونِ} فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكي في كل سورة أمرا من الأمرين، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين. ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين: الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى، قد وقع في خطاب مستقل تماثل بعضه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين. ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة.
وأياما كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان. أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظ الأمم منه أكثر. إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.
وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ثم قال في حق الأمة: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآية. وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضمه إليه وعول عليه.
وقد فات في سورة الأنبياء أن نبين عربية قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فوجب أن نشبع القول فيه هنا. فالإشارة بقوله: {هَذِهِ} إلى أمر مستحضر في الذهن بينه الخبر والحال، ولذلك أنث اسم الإشارة، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك. ومعنى هذه الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئا، ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانا لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة
(18/58)
بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله.
قال الزجاج: ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر. ففي قولك: هذا زيد قائما، لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه، ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح.
وبهذا يعلم بأنه ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازا في معنى التحريض والملازمة، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم، ومنه قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} فإن سارة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق. وإنما المعنى: وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يترقب منه النسل المبشر به، أي حاله ينافي البشارة، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية. وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية.
[53] {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعا قطعا لكل فريق صنم وعبادة خاصة به. فضمير تقطعوا عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} . وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق.
فالكلام مسوق مساق الذم. ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم، فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيبا من حالهم. ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله كل حزب بما لديهم فرحون أي وهم ليسوا بحال من يفرح.
والتقطع أصله مطاوع قطع. واستعمل فعلا متعديا بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل، ونظيره تخوفه السير، أي تنقصه، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن. فالمعنى: قطعوا أمرهم بينهم قطعا كثيرة، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه دينا. ويجوز أن يجعل تقطعوا قاصرا أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله أمرهم كأنه قيل: تقطعوا أمرا، فإن كثيرا من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة.
(18/59)