الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
والمعنى: وليعلموا مما ذكر فيه من الأدلة ما الله إلا إله واحد، أي مقصور على الإلهية الموحدة. وهذا قصر موصوف على صفة وهو إضافي، أي أنه تعالى لا يتجاوز تلك الصفة إلى صفة التعدد بالكثرة أو التثليث، كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [سورة النساء: 171].
والتذكر: النظر في أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، ولذلك خص بذوي الألباب تنزيلا لغيرهم منزلة من لا عقول لهم {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان: 44].
وقد رتبت صفات الآيات المشار إليها باسم الإشارة على ترتيب عقلي بحسب حصول بعضها عقب بعض، فابتدئ بالصفة العامة وهي حصول التبليغ، ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار، ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية لما في خلال هذه السورة من الدلائل، ثم بالتذكير في ما جاء به ذلك البلاغ وهو تفاصيل العلم والعمل. وهذه المراتب هي جامع حكمة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم موزعة على من بلغ إليهم. ويختص السلمون بمضمون قوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
(12/274)
المجلد الثالث عشر
سورة الحجر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
سميت هذه السورة الحجر، ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها.
والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود. وثمود هم أصحاب الحجر. وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة {رُبَمَا} لأن كلمة "ربما" لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه.
وعن الحسن استثناء قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية. وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية.
واستثناء قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} بناء على تفسيرهم {الْمُقْتَسِمِينَ} بأهل الكتاب وهو صحيح، وتفسير {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أنهم قالوا: ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب.ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية.
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ،على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة.
وقال في "الاتقان" ينبغي استثناء قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
(13/5)
الْمُسْتَأْخِرِينَ} لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ.
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال:كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر (أي من صفوف الرجال) فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}. قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس. وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اه. وهذا توهين لطريق نوح.
قال ابن كثير في تفسيره:"وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع.
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام.
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية {فاصدع بما تؤمر} وقد نزلت عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته.
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين.
مقاصد هذه السورة
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن.
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه.
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم.
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم.
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم.
(13/6)
وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم.
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم.
وذكر البعث ودلائل إمكانه.
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع.
وقصة كفر الشيطان.
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.
وختمت بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار ساعة النصر، وأن يصفح عن الذين يؤذونه، ويكل أمرهم إلى الله، ويشتغل بالمؤمنين، وأن الله كافيه أعداءه.
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن، واستراقهم السمع، ووصف أحوال المتقين، والترغيب في المغفرة، والترهيب من العذاب.
[1] {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]
{آلر}.
تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس.
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحدي بإعجاز القرآن.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن. أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزا كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب. وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد.
و {الْكِتَابِ}: علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة. وسمي كتابا لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومراجعته؛ فقد سمي القرآن كتابا قبل أن يكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتابا.
(13/7)
ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية دينه.
ولما كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علما بالغلبة جائيا من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كمال الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلم بالغلبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه، أي من كتب الشرائع.
وعطف {وَقُرْآنٍ} على {الْكِتَابِ} لأن اسم القرآن جعل علما على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع، فهو الاسم العلم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء.
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلم بالغلبة، فسواء نكر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام. فإن نكر فتنكيره على أصل الأعلام، وإن عرف فتعريفه للمح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن"القرآن"منقول من المصدر الدال على القراءة، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة.
وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم.
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن"قرآن"بمنزلة عطف البيان من"كتاب"وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف وما هو منه، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو {مُبِينٍ}. وهذا كله اعتبار بالمعنى.
وابتدئ بالمعرف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال، ولأن المعرف هو أصل الإخبار والأوصاف.ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين، والمنكر أنسب بإجراء الأوصاف عليه، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير.
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين. فلما كان الكلام موجها إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتابا،لأنهم
(13/8)
حين جادلوا ما جالسوا إلا في كتاب فقالوا: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام:157] ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان"كتاب"،ويعرفونهم بعنوان"أهل الكتاب".
فأما عنوان "القرآن" فهو مناسب لكون الكتاب مقروءا مدروسا وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به. ولذلك قدم عنوان "القرآن" في سورة النمل كما سيأتي.
و المبين: اسم الفاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان مبالغة في ظهوره، أي ظهور قرآنيته العظيمة، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم.
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بينا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه. وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل.
[2] {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]
استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار.
و {رُبَمَا} مركبة من "رب". وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء. وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال. وفيها عدة لغات.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بتشديدها.
واقترنت بها "ما" الكافة ل "رب" عن العمل. ودخول "ما" بعد "رب" يكف عملها غالبا. وبذلك يصح دخولها على الأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل.
والأكثر أن يكون فعلا ماضيا، وقد يكون مضارعا للدلالة على الاستقبال كما هنا. ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق.
ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي، وتأول نحو الآية بأنه منزل منزلة الماضي لتحققه. ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يودوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة.
والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام والمعنى:
(13/9)
قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا.
والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف، أي احذروا ودادتكم أن تكونوا مسلمين، فلعلها أن تقع نادرا كما يقول العرب في التوبيخ: لعلك ستندم على فعلك، وهم لا يشكون في تندمه، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكا فيه لكان حقا عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم، لأن العاقل يتحرز من الضر المظنون كما يتحرز من المتيقن.
والمعنى أنهم قد يودون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات.
والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه، وذلك عند ما يقتلون بأيدي المسلمين، وعند حضور يوم الجزاء؛ وقد ود المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين.
وعن ابن مسعود:ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين. ويتمنون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان:27]. وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ود الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين، على أنهم قد ردوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عنادا وكفرا. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27]، أي فلا يصرحون به.
و {لَوْ} في {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى. فأصل {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} لو كنا مسلمين.
والتزم حذف جواب {لَوْ} اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول، فأفادت {لَوْ} معنى المصدرية فصار المعنى: يود الذين كفروا كونهم مسلمين، ولذلك عدوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع.
[3] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
(13/10)
لما دلت "رب" على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعرض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب. وذلك مما يتعيرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهم منغمسون فيما يتعيرون به في أعمالهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [سورة محمد:12].
و {ذَرْ} أمر لم يسمع له ماض في كلامهم. وهو بمعنى الترك. وتقدم في قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} في سورة الأنعام [70].
والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم. وليس مستعملا في الإذن بمتاركتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالدوام على دعائهم. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً} إلى قوله: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الأنعام:70]" وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ". فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن، فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم. وهذا كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمرا للأخذ بثأره:
ودع عنك إن عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [سورة المدثر:11]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [سورة المزمل:11].
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبس بالضد كقول أبي تمام:
دعوني أنح من قبل نوح الحمائم ... ولا تجعلوني عرضة للوائم
إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء.
وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فذلك عدي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس
(13/11)
منهم.
و {يَأْكُلُوا} مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة إبراهيم [31]. وهو أمر التوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وهو كقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46].
ولا يحسن جعله مجزوما في جواب {ذَرْهُمْ} لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم غير مرة،منها قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
وإلهاء الأمل إياهم: هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة والآخرة.
و {الْأَمَلُ}: مصدر. وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله. فهو واسطة بين الرجاء والطمع. ألا ترى إلى قول كعب:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيرا حتى صار كالحقيقة. وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معلوما كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [سورة الفرقان:42].
[4 - 5] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}
اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكما يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك، أي ما أهلكنا أمة إلا وقد متعناها زمنا وكان لهلاكها أجل ووقت محدود، فهي ممتعة قبل حلوله، وهي مأخوذة عند إبانه.
وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيد بتنظيرهم بالمكذبين السالفين.
وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبل لتذكير هؤلاء بسنة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد. وهذا تهديد لا يقتضي أن
(13/12)
المشركين قدر الله أجلا لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيرا منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر.
و القرية: المدينة. وتقدمت عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} في سورة البقرة [259].
والكتاب: القدر المحدود عند الله. شبه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص. وهو معلوم عند الله لا يضل ربي ولا ينسى.
وجملة {وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} في موضع الحال، وكفاك علما على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال، وصاحب الحال هو {قَرْيَةٍ} وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منه كما سوغ العموم صحة الإخبار عن النكرة.
وجملة {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} بيان لجملة {وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} لبيان فائدة التحديد:أنه عدم المجاوزة بدءا ونهاية.
ومعنى "تسبق أجلها" تفوته، أي تعدم قبل حلوله، شبه ذلك بالسبق.
و {يَسْتَأْخِرُونَ}: يتأخرون. فالسين والتاء للتأكيد.
وأنث مفردا ضمير الأمة مرة مراعاة للفظ، وجمع مذكرا مراعاة للمعنى. وحذف متعلق "يستأخرون" للعلم به، أي وما يستأخرون عنه.
[6-7] {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
عطف على جملة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [سورة الحجر:3].
والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنت انهماكهم في الملذات والآمال وهذه تضمنت توغلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمدية.
والمعنى: ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء.
والجملة كلها من مقولهم.
والنداء في {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} للتشهير بالوصف المنادى به، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكم. وقرينة التهكم قولهم:
(13/13)
{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صرفا لألسنتهم عن الشتم. وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أو هجوه يدعونه مذمما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ألم تري كيف صرف الله عني أذى المشركين وسبهم، يسبون مذمما وأنا محمد".
وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكم.
و {الذِّكْرُ}: مصدر ذكر، إذا تلفظ. ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء.فالذكر الكلام الموحى به ليتلى ويكرر، فهو للتلاوة لأنه يذكر ويعاد؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين. وقد شملها قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [سورة الانبياء:10] وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] والمراد به هنا القرآن.
فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن ترد في القرآن.
وكذلك تسميته قرآنا لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة.
ويدلك لهذا قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يّس:69]،
فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم شعرا، ووصفه بأنه ذكر وقرآن،ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه. فالمراد: أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير.
ثم صار "القرآن" بالتعريف باللام علما بالغلبة على الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كما علمت آنفا.
وإنما وصفوه بالجنون لتوهمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهما منهم بان ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء فالداعي به غير عاقل.
والمجنون: الذي جن، أي أصابه فساد في العقل من أثر مس الجن إياه في
(13/14)
اعتقادهم، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول.
وتأكيد الجملة ب "إن" واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعله يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم.
وجملة {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جاريا على مطابقة الواقع فأكثره كذب.
و {لَوْ مَا} حرف تخصيص بمنزلة لولا التحضيضية. ويلزم دخولها الجملة الفعلية.
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقة في الرسالة. وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الاسراء:92].
و {مِنَ الصَّادِقِينَ} أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من "إن كنت صادقا"، كما تقدم في قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة [219]، وفي قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67].
[8] {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}
مستأنفة ابتدائية جوابا لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم.
وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7]. أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان جوابهم مشوبا بطرف من الأسلوب الحكيم، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب، فأراد الله أن لا يدخرهم هديا وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا.
والنزول:التدلي من علو إلى سفل. والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولا مخصوصا. وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على
(13/15)
الكافرين،كما أنزلوا إلى مدائن لوط - عليه السلام -. وليس مثل نزول جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة إلى الرسل عليهم السلام بالشرائع أو بالوحي. قال تعالى في ذكر زكرياء - عليه السلام - {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [سورة آل عمران:39].
والمراد ب"الحق"هنا الشيء الحاقّ، أي المقضي، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضي. وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام، أي العذاب الحاق.قال تعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [سورة الحج:18] وبقرينة قوله: {وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا مصاحبين للعذاب الحاق على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال. ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا.
ويفهم من هذا أن الله منظرهم، لأنه لم يرد استئصالهم، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم.
ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ}. وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين.
والأنظار: التأخير والتأجيل.
و {إِذاً} حرف جواب وجزاء. وقد سقطت هنا بين جزأي جوابها رعيا لمناسبة عطف جوابها على قول: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ}. وكان شأن "إِذاً" أن تكون في صدر جوابها. وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7]. وجملة {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب، فقدم لأنه أوقع في الرد، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب.
وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم منظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاق. وهذا المعنى وارد في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [سورة العنكبوت:53].
(13/16)
وقرأ الجمهور {مَا تَنْزِلُ} بفتح التاء على أن أصله" تتنزل ".
وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة.
وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولي.
[9] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} استئناف ابتدائي لإبطال جزاء من كلامهم المستهزئين به، إذ قالوا {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: من الآية6]، بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [ "الحجر:7].
جاء نشر الجوابين على عكس لف المقالين اهتماما بالابتداء برد المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام، ثم ثني العنان إلى رد تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة.
وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول صلى الله عليه وسلم مجاراة لظاهر كلامهم. والمقصود الرد عليهم في استهزائهم، فأكد الخبر ب {إِنَّا} وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: من الآية1].
ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء؛ فجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} معترضة، والواو اعتراضية.
والضمير المجرور باللام عائد إلى {الذِّكْرَ}، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله.
وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه، بأن يسر تواتره وأسباب ذلك، وسلمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر.
وقد حكى عياض في" المدارك": أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي
(13/17)
البصري1 سئل عن السر في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له. فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: من الآية44] وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
قال أبو الحسن بن المنتاب ذكرت هذا الكلام للمحاملي فقال لي: لا أحسن من هذا الكلام2.
وفي تفسير "القرطبي" في خبر رواه عن يحيى بن أكثم: أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون، وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان: قال الله في التوراة والإنجيل {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ َوَإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ} فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع اه. ولعل هذا من توارد الخواطر.
وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاضة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على مر الأزمان. وهذا من التحدي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزل من عند الله آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء:82 ].
[10،11] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وََََمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
ـــــــ
1و القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدي البصري ثم البغدادي الما لكي الإمام المفسر قاضي بغداد ولد سنة 200 وتوفي في ذي الحجة سنة 382 أخذ عن اصحاب مالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعنبي, وأخذ عن أيمة الحديث مثل إسماعيل بن أبي أويس وعلي بن المديني وأبي بكر بن أبي شيبة.قال الباجي لم تحصل درجة الإجتهاد واجتماع آلته بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي.
2الحسن عبيد الله بن المنتاب البغدادي قاضي المدينة المنورة في زمن المقتدر "من سنة 295 إلى 320 كان من أصحاب القاضي إسماعيل. والمحاملي نسبة إلى صنع المحامل فهو بفتح الميم ,وهو الحسين بن إسماعيل. وولي قضاء الكوفة وتوفي سنة380.
(13/18)
عطف على جملة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر من الآية9] باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]
فإن جملة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} قول بموجب قولهم {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وجملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة.
وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقر عند الأمم ومتحدث به بينهم.
وفيه أيضا تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتأكيد بلام القسم وقد لتحقيق سبق الإرسال من الله، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: من الآية2]. وذلك مقتضى موقع قوله: {منْ قَبْلِكَ}
والشيع: جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: من الآية65]. ويأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم: من الآية69]، أي في أمم الأولين، أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم. فهذا وجه إضافة {شِيَعِ} إلى {الْأَوَّلِينَ}
و {كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يدل على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، ف كان دلت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم.
ومفعول {أَرْسَلْنَا} محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رسلا، ودل عليه قوله: {مِنْ رَسُولٍ}
وتقديم المجرور على {يَسْتَهْزِئُونَ} يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول.
[12،13] {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
(13/19)
استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله: {وََََمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الحجر:13] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل - عليهم السلام - كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53].
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9]؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر. فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل. ونظيره قوله في الآية الأخرى {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [ التوبة:125].
والتعبير بصيغة المضارع في {نَسْلُكُهُ} للدلالة على أن المقصود أسلاك في زمن الحال، أي زمن نزول القرآن، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات من قبلهم.
وفيه تعريض بان ذلك أعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم.
والمشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ} هو السلك المأخوذ من {نَسْلُكُهُ} على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
والسلك: الإدخال. قال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].
(13/20)
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة.
فضمير {نَسْلُكُهُ} و {بِهِ} عائدان إلى {الذِّكْرَ} الذكر في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [سورة الحجر:9]؛ أي القرآن.
والمجرمون هم كفار قريش.
وجملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به. وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم. والمراد أنهم لا يؤمنون وقتا ما.
وجملة {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} معترضة بين جملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وجملة {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ} [الحجر:14] الخ.
والكلام تعريض بالتهديد بان يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره، فكان الخبر مستعملا في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية.
والسنة: العادة المألوفة. وتقدم في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} في سورة آل عمران [137]. وإضافتها إلى {الْأَوَّلِينَ} باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة.
[14،15] {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}
عطف على جملة {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [سورة الحجر:13] وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [سورة الحجر:7] وقولهم: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [سورة الحجر:6] بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه، لأن دلائل الصدق بينة، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة.
والكلام الجامع لإبطال معاذيرهم: أنهم لو فتح الله بابا من السماء حين سألوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيلات وأنهم سحروا فرأوا ما ليس بشيء شيئا.
(13/21)
ونظيره قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سورة الأنعام:7].
و"ظلّ" تدل على الكون في النهار، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي.
والعروج: الصعود. ويجوز في مضارعه ضم الراء وبه القراءة وكسرها، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهارا.
و {سُكِّرَتْ} - بضم السين وتشديد الكاف - في قراءة الجمهور، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير. وهو مبني للمجهول على القراءتين، أي سدت. يقال: سكر الباب بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سده.
والمعنى: لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئا.
وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتوا القول في ذلك. ورد بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردد المتحير ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح بابا من السماء ففتحه لهم.
وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة [102]
وإقحام كلمة {قَوْمٌ} هنا دون أن يقولوا: بل نحن مسحورون، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وتكرر ذلك.
[16-18] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما تركوا به في ذلك، وكان الأصل الأصيل الذي بنوا عليه صرح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم، وإثباته البعث، انبرى القرآن يبين لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية، فذكر
(13/22)
الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [سورة الحجر:23] الآية. وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم، فكان الانتقال إليه تخلصا بديعا.
وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات.
والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم.
وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلا للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردد فأكد لهم الكلام بمؤكدين. ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك.
والبروج: جمع برج - بضم الباء -. وحقيقته البناء الكبير المتخذ للسكنى أو للتحصن. وهو يرادف القصر،قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} في سورة النساء [78].
وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة "وتسمى النجوم الثوابت" متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يشاهد من الجو، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطا لو خططت بينها خطوط لخرج منها شبه صورة حيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس.
وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان. وسماها العرب بروجا ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سببا لوضع الاسم؛ تخيلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قبة الجو نهارا فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة. وجعلوها اثني عشر مكانا بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سموت لجهات تقابل كل جهة منها الأرض من جهة وراء الشمس مدة معينة. ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها. فبما كان لها من النظام تسنى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدودا وهمية عينوا مكانها في الليل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوما فيوما.وكلما
(13/23)
مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة. وهكذا، حتى رأوا بعد اثني عشر شهرا أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولا كاملا. وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السنة سموها دائرة البروج أو منطقة البروج. وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها.
وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع: الحمل، الثور، الجوزاء، "مشتقة من الجوز - بفتح فسكون الوسط - لأنها معترضة في وسط السماء"، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت.
فاعتبروا لبرج الحمل شهر "أبرير" وهكذا، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذ في سمت شكل نجمي شبهوه بنقط خطوط صورة كبش. وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج. وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي.
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم، ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم.
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تخلف ملاحظة راصدها. وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [سورة يونس: من الآية5]. ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة.
وأما قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال. وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة.فهو يرتبط بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9].
وكانوا يقولون: محمد كاهن؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا
(13/24)
من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحج إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادعى النبوءة. وقد عرضوا عليه أن يقولوا: هو كاهن، فكان من كلام الوليد أن قال"... ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه". قال تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الحاقة:42].
وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب.
والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات. والشيطان تقدم في سورة البقرة.
والرجيم: المحقر، لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا حصبوه بالحصباء،كقوله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [سورة الحجر:34]، أي ذميم محقر.
والرجام - بضم الراء - الحجارة. قيل، هي أصل الاشتقاق. ويحتمل العكس. وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة. قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [سورة الشعراء:116]. وعن أبي إبراهيم {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [سورة مريم:46]. وقال قوم شعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [سورة هود:91].
وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}.
واستراق السمع: سرقته. صيغ وزن الافتعال للتكليف. ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.
و"أتبعه"بمعنى تبعه. والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان. وتقدم في قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} في سورة الأعراف [175].
والمبين: الظاهر البين.
وفيه تعليم لهم بان الشهب التي يشاهدونها متساقطة في السماء هي رجوم للشياطين المسترقة طردا لها عن استراق السمع كاملا، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا
(13/25)
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فسادا في الأرض. وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتا فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمع وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح.
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها. وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [سورة الشعراء:223].
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد منع عن الشياطين.
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاما لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - من استراق الجن السمع وصفا للكهانة السابقة.ويكون قوله: "ليسوا بشيء" وصفا لآخر أمرهم.
وقد ثبت بالكتاب والسنة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [سورة صّ:37] الآية. والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دابة الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض، وأن منها أصنافا لها اتصال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر.
وبعض ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفا له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها، فتسبق بعض النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد. وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أو الشياطين هو المسمى
(13/26)
بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}. فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جراء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمة إلى التوجه إليه وحده، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقا ما، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء و تموجات الطبقات العليا المجاورة لها، مما وراء الكرة الهوائية.
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلا.
ثم هذه التموجات التي تخلص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطعة مجملة فيستعين أصحاب تلك النفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألفوه وما أولوه. وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء، وعلى مقدار دربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها. فهؤلاء هم الكهان. وكانوا كثيرين بين قبائل العرب. وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم. ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثرا ما، وكان أقوامهم يعدون المعمرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم الله من مريديهم لا يصدرون إلا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للناس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلمات، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة.
وهم بحيلتهم واطلاعهم على مياذين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع، وأنها أمارة صدق. وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة، ويكثرون النظر في النجوم ليلا لتتفرغ أذهانهم. فهذا حال الكهان وهو قائم على أساس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة.
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من "صحيح البخاري" عن عائشة: أن ناسا سألوا
(13/27)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" "أي لا وجود لما يزعمونه". فقيل: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة1 "فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة". 11
وما في تفسير سورة الحجر من "صحيح البخاري" من حديث سفيان عن أبي هريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى الله الأمر في السماء "أي أمر أو أوحى" وضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله "فإنهم المأمورون كل في وظيفته" كالسلة على صفوان ينفذهم ذلك "أي يحصل العلم لهم.وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف"... فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر "أي هي طبقات مفاوتة في العلو". ووصف سفيان بيده نحرفها وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض "فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر"، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة. فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء".
أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب. وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عمر - رضي الله عنه - من "صحيح البخاري".
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة. ولا محالة أنها مقربة بالمسموعات، لأنها دلالة على عزائم النفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها.
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره، والذي يحصل للكاهن كذلك. والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع.
[19،20] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}
ـــــــ
1 قرت الدجاجة تقر قرا: أخف صوتها.
(13/28)
انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة.
وتقدم الكلام على معنى {مَدَدْنَاهَا} وعلى "الرواسي" في سورة الرعد.
والموزون: مستعار للمقدر المضبوط.
و {معايش}: جمع معيشة. وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف.
{وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} عطف على الضمير المجرور في {لَكُمْ}، إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصل بضمير منفصل على التحقيق، أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش، وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين، أي لمن لستم له بمطعمين.
وما صدق {مَنْ} الذي يأكل طعامه مما في الأرض، وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها الناس.
والإتيان ب {مَنْ} التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب.
ومعنى {لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام. ومصدر رزقه الرزق - بفتح الراء -. وأما الرِّزق - بكسر الراء - فهو الاسم وهو القوت.
[21] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}
هذا اعتراض ناشئ عن قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [سورة الحجر:19]، وهو تذييل.
والمراد بالشيء ما هو نافع للناس بقرينة قوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} الآية. وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف:79] أي سفينة صالحة.
والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة. شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المكنية، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن. وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} في سورة الأنعام [50].
وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب
(13/29)
في أحوال مخصوصة، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة.
وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة [29]، إطلاقا مجازيا لأن ما خلقه الله لما كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني، وهو علو معنوي. أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية، وهذا كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَة} في سورة الزمر [6]. وقوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} في سورة الطلاق [12].
والقدر - بفتح الدال -: التقدير. وتقدم عند قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في سورة الرعد [17].
والمراد بـ {مَعْلُومٍ} أنه معلوم تقديره عند الله تعالى.
[22] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}
انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد.
والإرسال: مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان. وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية. وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا...
و {لَوَاقِحَ} حال من {الرِّيَاحَ}. وقع هذا الحال إدماجا لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك - رحمه الله -.
و {لَوَاقِحَ} صالح لأن يكون جمع لاقح وهي الناقة الحبلى. واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سببا في نزول المطر، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [سورة الذاريات:41].
(13/30)
وصالح لأن يكون جمع ملقح وهو الذي يجعل غيره لاقحا، أي الفحل إذا ألقح الناقة، فإن فواعل يجئ جمع مفعل مذكر نادرا كقول الحارث أو ضرار النهشلي:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوايح
روعي فيه جواز تأنيث المشبه به. وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه.
ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطرا على الأرض؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت، وبدون ذلك تثبت أو لا تصلح. وهذا هو الإبار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر.
ومن بلاغه الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح وقد فسرت الآية بهما. واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر.
وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال: قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت.
وفرع قوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} على قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ}.
وقرأ حمزة {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَحَ لَوَاقِحَ} بإفراد"الريح"وجمع"لواقح"على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد.
و {أَسْقَيْنَاكُمُوهُ} بمعنى جعلناه سيقا، فالهمزة فيه للجعل. وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقي.
واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفا {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُه} [سورة الحجر:21] أي وما أنتم له بمحافظين ومنشئين عندما تريدون.
[23] {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}
(13/31)
لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياء الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية، ولأن فيه دليلا على إمكان البعث. والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قدم.وذكر الإماتة للتكميل.
والجملة عطف على جملة {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:16] للدلالة على القدرة وعموم التصرف.
وضمير"نَحْنُ"ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء. وأكد الخبر ب "إن" واللام وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلا للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة.
والمراد بالإحياء تكوين الموجودات التي فيها الحياة وإحياؤها أيضا بعد فناء الأجسام. وقد أدمج في الاستدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف إثبات البعث ودفع استبعاد وقوعه واستحالته.
ولما كان المشركون منكرين من الإحياء كان توكيد الخبر مستعملا في معنييه الحقيقي والتنزيلي.
وجملة {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} عطف على جملة {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}.
ومعنى الإرث هنا البقاء بعد الموجودات تشبيها بالإرث وهو أخذ مل يتركه الميت من أرض وغيرها.
[24،25] {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها، وكانت الإماتة تذكر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالإحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة? فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي، وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي.
والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب، ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم
(13/32)
على خلاف القياس لأن فعله رباعي. وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف [34].
وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية. وهو خبر واه لا يلاقي انتظام الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة.
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} نتيجة هذه الأدلة من قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [سورة الحجر:23] فإن الذي يحيي الحياة الأولى قادر على الحياة الثانية بالأولى، والذي قدر الموت ما قدره عبثا بعد أن أوجد الموجودات إلا لتستقبلوا حياة أبدية، ولولا ذلك لقدر الدوام على الحياة الأولى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [سورة الملك:2].
وللإشارة إلى هذا المعنى من حكمة الإحياء والإماتة أتبعه بقوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليلا لجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} لأن شأن {إِنَّ} إذا جاءت في غير معنى الرد على المنكر أن تفيد معنى التعليل والربط بما قبلها.
والحكيم: الموصوف بالحكمة. وتقدم عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [سورة البقرة: 269] وعند قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209].
و "العليم" الموصوف بالعلم العام، أي المحيط، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة آل عمران [140].
وقد أكدت جملة {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} بحرف التوكيد وبضمير الفصل لرد إنكارهم الشديد للحشر. وقد أسند الحشر إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم تنويها بشأن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كذبوه في الخبر عن البعث {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سورة سبأ:7-8]
أي فكيف ظنك بجزائه مكذبيك إذا حشرهم.
[26،27] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}
(13/33)
تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها. ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وسواسه بما يرديهم. جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني. ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث، وموعظة وذكرى. والمراد بالإنسان - آدم عليه السلام -.
والصلصال: الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخار؛ إلا أن الفخار هو ما يبس بالطبخ بالنار. قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [سورة الرحمن:14].
والحمأ: الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته. وقوله: {حَمَأٍ} صفة لـ {صَلْصَالٍ}. و {مَسْنُونٍ} صفة لـ {حَمَأٍ} أو لـ {صَلْصَالٍ}. وإذ كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر.
والمسنون: الذي طالت مدة مكثه، وهو اسم مفعول من فعل سنة إذا تركه مدة طويلة تشبه السنة. وأحسب أن فعل "سن" بمعنى ترك شيئا مدة طويلة غير مسموع.
ولعل "تسنه" بمعنى تغير من طول المدة أصله مطاوع سنة ثم تنوسي منه معنى المطاوعة. وقد تقدم قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} في سورة البقرة [259].
والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذا أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة.
وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن، وهو يعطي حرارة ضعيفة. ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفنة حيوانات مثل الدود، ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفنة الحمى.
وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرت على مادة خلق الإنسان.
وتوكيد الجملة بلام قسم وبحرف "قد" لزيادة التحقق تنبيها على أهمية هذا الخلق وأنه بهذه الصفة.
وعطف جملة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين آدم وجند إبليس.
(13/34)
وأكدت جملة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ} بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظير المحذوف، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الذي أكدت به جملة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} الخ.
وفائدة قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجان أسبق لأنه مخلوق من عنصر الحرارة أسبق من الرطوبة.
و {السَّمُومِ} السموم - بفتح السين -: الريح الحارة. فالجن مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقه الجن، فكما كون الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان، كون ريحا حارة وجعل منها الجن. فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قوية. والحكمة كلها في إتقان المزج والتركيب.
[28-35] {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}
عطف قصة على قصة.
و {إِذْ} مفعول لفعل "اذكر" محذوف. وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف.
والبشر: مرادف الإنسان، أي أني خالق إنسانا. وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقى الله فيهم من العلم، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى.
وإنما ذكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.
والتسوية: تعديل ذات الشيء. وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها
(13/35)
بحيث صارت قابلة لنفخ الروح.
والنفخ: حقيقته إخراج الهواء مضغوطا بين الشفتين مضمومتين كالصفير واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دفعة واحدة. وليس ثمة نفخ ولا منفوخ.
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج و تركيب أجزاء المزاج تكونا سريعا دفعيا وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها.
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق. وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعا لطباع الأمزجة أو لإلف العادة ولا يؤبه في علم الله تعالى. وهذا هو ضابط وصف القذارة والنزاهة عند البشر.
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه، ومنه تخلقت أفاضل البشر. وكذلك المسك طيب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشم وما هو إلا غدة من خارجات بعض أنواع الغزال، قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:7-9].
وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام.وفي الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". وفيه: "لا يكلم أحد في سبيل الله؛ والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودمه يشخب اللون لون الدم والريح ريح المسك".
ومعنى {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} اسقطوا له ساجدين، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع، وهو الوقوع لقصد التعظيم. كقوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [سورة يوسف: 100]. وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديرا لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته.
وأمر الملائكة بالسجود لا ينافي تحريم بالسجود في الإسلام لغير الله من وجوه:
أحدهما: أن ذلك المنع لسد ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرق ذلك إليهم.
(13/36)
وثانيها: أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ولم يكن السجود من قبل محظورا فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف - عليهم السلام - وكانوا أهل إيمان.
وثالثها: أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا.
وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} عنوان على طاعة الملائكة.
و {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} تأكيد على تأكيد، أي لم يتخلف عن السجود أحد منهم.
وقوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف.
وقوله هنا {أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بيان لقوله في سورة البقرة [34] {وَاسْتَكْبَرَ}، لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود. فدل هذا على أنه عصى وأنه ترفع عن متابعة غيره.
وجملة {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} استفهام توبيخ. ومعناه أي شيء ثبت لك، أي متمكنا منك، لأن اللام تفيد الملك. و {أَلَّا تَكُونَ} معمول لحرف جر محذوف تقديره "في". وحذف حرف الجر مطرد مع "أن". وحرف "أن" يفيد المصدرية. فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين.
وقوله: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} جحود. وقد تقدم أنه أشد في النفي من "لا أسجد" في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} في آخر العقودالمائدة:116].
وقوله: {لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} تأييد لإبايته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقير ذميم لا يستأهل السجود. وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن. فشتان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة. وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص [76] إذ قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
(13/37)
طِينٍ} ولم يحك عنه هنا.
وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحا بتخطئة الخالق، كافرا بصفاته، فاستحق الطرد من عالم القدس. وقد بيناه في سورة ص.
وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات.
والفاء في {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} دالة على سبب إخراجه من السماوات. و إن مؤذنة بالتعليل. وذلك إيماء إلى سبب إخراجه من عوالم القدس، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم من تلوث الطوية وخبث النفس، أي حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثا لا يرجى بعده صلاح فلا تبقى في عالم القدس والنزاهة.
والرجيم: المطرود. وهو كناية عن الحقارة. وتقدم في أول هذه السورة {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [سورة الحجر:17].
وضمير {منها} عائد إلى السماوات وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها. وقيل: إلى الجنة. وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة.
و {اللَّعْنَةَ}: السب بالطرد.و "على" مستعملة في الاستعلاء المجازي؛ وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه.
وجعل {يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء غاية للعن استعمالا في معنى الدوام، كأنه قيل أبدا. وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلقها ضدها، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذ أشد من اللعنة.
[36-38] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}
سؤاله النظرة بعد إعلامه بأنه معلون إلى يوم الدين فاض به خبث جبلته البالغ نهاية الخباثة التي لا يشفيها إلا دوام الإفساد في هذا العالم، فكانت هذه الرغبة مجلبة لدوام شقوته.
ولما كانت اللعنة تستمر بعد انعدام الملعون إذا اشتهر بين الناس بسوء لم يكن توقيتها بالأبد مقيدا حياة الملعون، فلذلك لم يكن لإبليس غنى بقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ
(13/38)
الدِّينِ} عن أن يسأل الإبقاء إلى يوم الدين ليكون مصدر الشرور للنفوس قضاء لما جبل عليه من بث الخبث؛ فكان بذلك حريصا على دوامها بما يوجه إليه من اللعنة، فسأل النظرة حبا للبقاء لما في البقاء من استمرار عمله.
وخاطب الله بصفة الربوبية تخضعا وحثا على الإجابة. والفاء في {فَأَنْظِرْنِي} فاء التفريع. فرع السؤال عن الإخراج.
ووسّط النداء بين ذلك.
وذكرت هذه الحالة من أوصاف نفسيته بعثا لكراهيته في نفوس البشر الذين يرون أن حق النفس الأبية أن تأنف من الحياة الذميمة المحقرة، وذلك شأن العرب، فإذا علموا هذا الحوص من حال إبليس أبغضوه واحتقروه فلم يرضوا بكل عمل ينسب إليه.
والإنظار: الإمهال والتأخير. وتقدم في قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} في سورة البقرة [280]. والمراد تأخير إماتته لأن الإنظار لا يكون للذات، فتعين أنه لبعض أحوالها وهو الموت بقرينة السياق.
وعبر عن يوم الدين بـ {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} تمهيدا لما عقد عليه العزم من إغواء البشر، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا. وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائما لما خلق له، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله: "كل ميسر لما خلق له".
وضمير {يُبْعَثُونَ} للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم عليه السلام، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل.
وعبر عن يوم البعث بـ {يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} تفننا تفاديا من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل، فالمراد: المعلوم لدينا. ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضا علما إجماليا.
وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم.
وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ
(13/39)
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [سورة الانبياء:18] وقال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17]. فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذود عنها.
وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرع عنه.
[39،39] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}
الباء في {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} للسببية، و "ما" موصولة، أي بسبب إغوائك إياي، أي بسبب أن خلقتني غاويا فسأغوي الناس.
واللام في {لَأُزَيِّنَنَّ} لام قسم محذوف مراد بها التأكيد، وهو القسم المصرح به في قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:82].
والتزيين: التحسين، أي جعل الشيء زينا، أي حسنا. وحذف مفعول {لَأُزَيِّنَنَّ} لظهوره من المقام، أي لأزينن لهم الشر والسيئات فيرونها حسنة، وأزين لهم الإقبال على الملاذ التي تشغلهم عن الواجبات. وتقدم عند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [212].
والإغواء: جعلهم غاوين. والغواية - بفتح الغين -: الضلال. والمعنى: ولأضلنهم. وإغواء الناس كلهم هو أشد أحوال غاية المغوي إذ كانت غوايته متعدية إلى أيجاد غواية غيره.
وبهذا يعلم أن قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} إشارة إلى غواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها، فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية، ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلته، وليس هو تشفيا أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دل عليه قوله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} [سورة الحجر:34]، أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [سورة البقرة:36]، ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد
(13/40)
انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها.
وضمائر: {لَهُمْ}، و {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} و {مِنْهُمُ} ، لبني آدم، لأنه قد علم علما ألقي في وجدانه بان آدم عليه السلام ستكون له ذرية، أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه.
وجعل المغْوَين هم الأصل، واستثنى منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء، فهو الملحوظ ابتداء عنده، على أن المغوين هم الأكثر. وعكسه قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الحجر:42]. والاستثناء لا يشعر بقلة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس.
وقرئ {الْمُخْلَصِينَ} - بفتح اللام - لنافع وحمزة وعاصم والكسائي على معنى الذين أخلصتهم وطهرتهم. و - بكسر اللام - لابن كثير وابن عامر وأبي عمرو، أي الذين أخلصوا لك في العمل.
[41-44] {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}
الصراط المستقيم: هو الخبر والرشاد.
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبينة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد، وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي.
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره. فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن، كما يكتب في العهود والعقود: هذا ما قاضى عليه فلان فلانا أنه كيت و كيت، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة الحجر:40] لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير، فتكون جملة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} مستأنفة
(13/41)
أفادت نفي سلطانه.
والصراط: مستعار للعمل الذي يقصد منه عامله فائدة. شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه، أي هذا هو السنة التي وضعتها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنك لا تغوي إلا من اتبعك من الغاوين، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين.
و {مُسْتَقِيمٌ} نعت لـ {صِرَاطٌ}، أي لا اعوجاج فيه. واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة.
و {عَلَيَّ} مستعملة في الوجوب المجازي، وهو الفعل الدائم الذي لا يتخلف كقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [سورة الليل:12]، أي أنا التزمنا الهدى لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية.
وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية.
وقرأ الجمهور {عَلَيَّ} بفتح اللام - وفتح الياء على أنها "على" اتصلت بها ياء المتكلم. وقرأه يعقوب - بكسر اللام وضم الياء وتنوينها - على أنه وصف من العلو وصف به صراط، أي صراط شريف عظيم القدر.
والمعنى أن الله وضع سنة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا، أي مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر. فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان، وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى. فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران:31].
وإطلاق {الْغَاوِينَ} من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة لأنه لو كان غاويا بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة. وقد دل على هذا المعنى تعلق نفي السلطان بجميع العباد، ثم استثناء من كان غاويا. فلما كان سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا علمنا أن ثمة وصفا بالغواية هو مهيئ تسلط سلطان الشيطان على موصوفه. وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل، أي بالاستعداد
(13/42)
للغواية لا بوقوعها.
فالإضافة في قوله تعالى: {عِبَادِي} للعموم كما هو شأن الجمع المعرف بالإضافة، والاستثناء حقيقي ولا حيرة في ذلك.
وضمير"موعدهم"عائد إلى {مَنِ اتَّبَعَكَ}، والموعد مكان الوعد. وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيها له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد.
ووجه الشبه تحقق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد، لأن إخلاف الوعد محذور، وفي ذلك تمليح بهم لأنهم ينكرون البعث والجزاء، فجعلوا بمنزلة من عين ذلك المكان للإتيان.
وجملة {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم.
والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [سورة الرعد:23]؛ أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بان تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر. وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر.
وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء:145]. وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} في سورة البقرة [8].
وجملة {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} صفة لـ {أَبْوَابٍ} وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى. وضمير {مِنْهُمْ} عائد لـ {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، أي لكل باب فريق يدخل منه، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار.
واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلة التطور الذي تكيفت به نفس إبليس من حين أبى من السجود وكيف تولد كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عندما صدر منه قوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة
(13/43)
الحجر:40]، فكلما حدث في جبلته فصل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه؛ فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب.
وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان. وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ولا بغلبة من الشيطان لخالقه، فإن ضعفه تجاه عزة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك.
[45-48] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}
استئناف ابتدائي، انتقال من وعيد المجرمين إلى بشارة المتقين على عادة القرآن في التفنن.
والمتقون: الموصوفون بالتقوى. وتقدمت عند صدر سورة البقرة.
و الجنات: جمع جنة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في أول سورة البقرة [25].
و العيون: جمع عين اسم لثقب أرضي يخرج منه الماء من الأرض. فقد يكون انفجارها بدون عمل الإنسان. وأسبابه كثيرة تقدمت عند قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [74]. وقد يكون بفعل فاعل وهو التفجير.
وجملة {ادْخُلُوهَا} معمولة لقول محذوف يقدر حالا من {الْمُتَّقِينَ} والقرينة ظاهرة. والتقدير: يقال لهم ادخلوها. والقائل هو الملائكة عند إدخال المتقين الجنة.
والباء من {بِسَلامٍ} للمصاحبة.
والسلام: التحية. وتقدم في قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام [54].
والأمن النجاة من الخوف.
(13/44)
وجملة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} عطف على الخبر، وهو {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. والتقدير: إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غل.
والغل - بكسر الغين - البغض. وتقدم في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} في سورة الأعراف [43]، أي ما كان بين بعضهم من غل في الدنيا.
و {إِخْوَاناً} حال، وهو على معنى التشبيه، أي كالإخوان، أي كحال الإخوان في الدنيا.
وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم. كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو من أن أكون أنا و طلحة ممن قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. فقال جاهل من شيعة علي اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني: كلا الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد. فقال علي: "فلمن هذه الآية لا أم لك بفيك التراب".
والسرر: جمع سرير. وهو محمل كالكرسي متسع يمكن الاضطجاع عليه. والاتكاء: مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلب كيف شاء حتى إذا مل جلسة انقلب لغيرها.
والتقابل: كون الواحد قبالة غيره، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحادثة.
والمس: كناية عن الإصابة.
والنصب: التعب الناشئ عن استعمال الجهد.
[49،50] {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}
هذا تصدير لذكر القصص التي أريد من التذكير بها الموعظة بما حل بأهلها، وهي قصة قوم لوط وقصة أصحاب الأيكة وقصة ثمود.
وابتدئ ذلك بقصة إبراهيم - عليه السلام - لما فيها من كرامة الله له تعريضا بالمشركين إذ لم يقتفوا آثاره في التوحيد.
(13/45)
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهو مرتبط بقوله في أوائل السورة: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [سورة الحجر:4].
وابتداء الكلام بفعل الإنباء لتشويق السامعين إلى ما بعده كقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [سورة البروج:17] ونحوه. والمقصود هو قوله تعالى الآتي: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحجر:51]. وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء من بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب.
وقدمت المغفرة على العذاب لسبق رحمته غضبه.
وضمير {أَنَا} وضمير {هُوَ} ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر.
واعلم أن في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} إلى {الرَّحِيمُ} من المحسنات البديعة محسن الاتزان إذا سكنت ياء {أني} على قراءة الجمهور بتسكينها، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متفعلن فعلاتن مرتين.
[51-56] {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}
هذا العطف مع اتحاد الفعل المعطوف بالفعل المعطوف عليه الصيغة دليل على أن المقصود الإنباء بكلا الأمرين لمناسبة ذكر القصة أنها من مظاهر رحمته تعالى وعذابه.
و {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}: الملائكة الذين تشكلوا بشكل أناس غرباء مارين ببيته. وتقدمت القصة في سورة هود.
وجملة {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة {فَقَالُوا سَلاماً}. وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازا لظهوره.صرح به في قوله: {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الذريات:25]، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام. وفي سورة هود أنه أوجس منهم خيفة حين رآهم لم يمدوا أيديهم للأكل.
وضمير {إِنَّا} من كلام إبراهيم - عليه السلام - فهو يعني به نفسه وأهله،لأن
(13/46)
الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنهم يريدون به شرا؛ فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمن، فقال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}، أي أخفتمونا. وفي سورة الذاريات أنه قال لهم: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الذريات:25].
والوجل: الخائف. والوجل بفتح الجيم الخوف. ووقع في سورة هود [70] {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}.
وقد جمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}، فنهاية الجواب هو {لا تَوْجَلْ}.
وأما جملة: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} فهي استئناف كلام آخر بعد أن قدم إليهم القرى وحضرت امرأته فبشروه بحضرتها كما فصل في سورة هود.
والغلام العليم: إسحاق - عليه السلام - أي عليم بالشريعة بأن يكون نبيا.
وقد حكي هنا قولهم لإبراهيم - عليه السلام -، وحكي في سورة هود قولهم لامرأته لأن البشارة كانت لهما معا فقد تكون حاصلة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار المبشر، وقد تكون حصلت في وقتين متقاربين بشروه بانفراد ثم جاءت امرأته فبشروها.
وقرأ الجمهور {نُبَشِّرُكَ} - بضم النون وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة مضارع بشر بالتشديد -. وقرأ حمزة {نَبْشَرُكَ} - بفتح النون وسكون الموحدة وضم الشين - وهي لغة. يقال: بشره يبشره من باب نصر.
والاستفهام في {أَبَشَّرْتُمُونِي} للتعجب.
و {عَلَى} بمعنى "مع": دالة على شدة اقتران البشارة بمس الكبر إياه.
والمس: الإصابة. والمعنى تعجب من بشارته بولد مع أن الكبر مسه.
وأكد هذا التعجب بالاستفهام الثاني بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب. نزل الأمر العجيب المعلوم منزلة الأمر غير المعلوم لأنه يكاد يكون غير معلوم.
وقد علم إبراهيم عليه السلام من البشارة أنهم ملائكة صادقون فتعين أن الاستفهام للتعجب.
وحذف مفعول "بشرتموني" لدلالة الكلام عليه.
(13/47)
قرأ نافع {تُبَشِّرُونِ} - بكسر النون مخففة دون إشباع - على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح. وقرأ أبن كثير - بكسر النون مشددة - على حذف ياء المتكلم خاصة. وقرأ الباقون - بفتح النون - على حذف المفعول لظهوره من المقام، أي تبشرونني.
وجواب الملائكة إياه بأنهم بشروه بالخبر الحق، أي الثابت لا شك فيه إبطالا لما اقتضاه استفهامه بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفيا وباطلا. فكلامهم رد لكلامه وليس جواب على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي.
ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا: {فلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}. ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثرا من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقى في نفسه بقية من التردد في حصول ذلك فقاربت حالة تلك حال الذين ييأسو من أمر الله. ولما كان إبراهيم - عليه السلام - منزها من القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن، يكون من زمرة القانطين تحذيرا له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطا لرفعة مقام نبوته عن ذلك. وهو في هذا المقام كحالة في مقام ما حكاه الله عنه من قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [سورة البقرة:260].
وهذا النهي كقوله الله تعالى لنوح - عليه السلام - {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة هود:46].
وقد ذكرته الموعظة مقام نسيه فقال: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}. وهو استفهام إنكار في معنى النفي، ولذلك استثنى منه {إِلَّا الضَّالُّونَ}. يعني أنه لم يذهب اجتناب القنوط من رحمة الله، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبهه الملائكة أدنى تنبيه تذكر.
القنوط: اليأس.
وقرأ الجمهور {وَمَنْ يَقْنَطُ} - بفتح النون -. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف - بكسر النون - وهما لغتان في فعل قنط.
(13/48)
قال أبو علي الفارسي: قنَط يقنِط - بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل - من أعلى اللغات. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [سورة الشورى: 28].
قلت: ومن فصاحة القرآن اختياره كل لغة في موضع كونها فيه أفصح، فما جاء فيه إلا الفتح في الماضي، وجاء المضارع بالفتح والكسر على القراءتين.
[57-60] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}
حكاية هذا الحوار بين إبراهيم والملائكة عليهم السلام لأنه يجمع بين بيان فضل إبراهيم - عليه السلام - وبين موعظة قريش بما حل ببعض الأمم المكذبين انتقل إبراهيم عليه السلام إلى سؤالهم عن سبب نزولهم إلى الأرض، لأنه يعلم أن الملائكة لا ينزلون إلا لأمر عظيم كما قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الحجر:8]. وقد نزل الملائكة يوم بدر لاستئصال سادة المشركين ورؤسائهم.
والخطب تقدم في قوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} في [سورة يوسف:51].
والقوم المجرمون هم قوم سدوم وقراها. وتقدم ذكرهم في سورة هود.
والاستثناء في {إِلَّا آلَ لُوطٍ} منقطع لأنهم غير مجرمين. واستثناء {إِلَّا امْرَأَتَهُ} متصل لأنها من آل لوط.
وجملة {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} استئناف بياني لبيان الإجمال الذي في استثناء آل لوط من متعلق فعل {أُرْسِلْنَا} لدفع احتمال أنهم لم يرسلوا إليهم ولا أمروا بإنجائهم.
وفي قوله: {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إيجاز حذف وتقدير الكلام: إنا أرسلنا إلى لوط لأجل قوم مجرمين، أي لعذابهم. ودل ذلك على الاستثناء في {إِلَّا آلَ لُوطٍ}.
وقرأ الجمهور {لَمُنَجُّوهُمْ} - بفتح النون وتشديد الجيم - مضارع نجّى المضاعف. وقرأ حمزة والكسائي وخلف - بسكون النون وتخفيف الجيم - مضارع أنجى المهموز.
وإسناد التقدير إلى ضمير الملائكة لأنهم مزمعون على سببه. وهو ما وكلوا به من تحذير لوط عليه السلام وآله من الالتفات إلى العذاب، وتركهم تحذير امرأته حتى التفتت فحل بها ما حل بقوم لوط.
(13/49)
وقرأ الجمهور {قَدَّرْنَا} - بتشديد الدال - من التقدير. وقرأه أبو بكر عن عاصم - بتخفيف الدال - من قدر المجرد وهما لغتان.
وجملة {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} مستأنفة.و "إن" متعلقة لفعل {قَدَّرْنَا} عن العمل في مفعوله. وأصل الكلام غبورها، أي ذهابها وهلاكها.
والتعليق يطرأ على الأفعال كلها وإنما يكثر في أفعال القلوب ويقل في غيرها. وليس من خصائصها على التحقق.
وتقدم ذكر الغابرين في سورة الأعراف.
[61-65] {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}
تفريع على حكاية قصتهم مع إبراهيم وقد طوى ما هو معلوم من خروج الملائكة من عند إبراهيم. والتقدير: ففارقوه وذهبوا إلى لوط فلما جاءوا لوطا.
وعبر بآل لوط - عليه السلام - لأنهم نزلوا في منزلة بين أهله فجاءوا آله وإن كان المقصود بالخطاب والمجيء هو لوط.
وتولى لوط - عليه السلام - تلقيهم كما هو شأن كبير المنزل ولكنه وجدهم في شكل غير معروف في القبائل التي كانت تمر بهم فألهم إلى أن لهم قصة غريبة ولذلك قال لهم:
{إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}، أي لا تعرف قبيلتكم.وتقدم قوله تعالى: {نَكِرَهُمْ} في سورة هود [70].
وقد أجابوه بما يزيل ذلك إذ {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} إضرابا عن قوله {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وإبطالا لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضره.
وعبر عن العذاب بـ {ما كانوا فيه يمترون} إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب، فعلم أنهم ملائكة.
والمراد بالحق الخبر الحق، ولذلك ذيل بجملة {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}
(13/50)
وقوله: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} حكاية لخطاب الملائكة لوطا عليه السلام لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ، فبنا أن نبين خصائص هذا النظم العربي: فإعادة فعل {أَتَيْنَاكَ} بعد واو العطف مع أن فعل {أَتَيْنَاكَ} مرادف لفعل {جِئْنَاكَ} دون أن يقول: و {بِالْحَقِّ} بالحق، يحتمل أن يكون للتأكيد اللفظي بالمرادف. والتعبير في أحد الفعلين بمادة المجيء وفي الفعل الآخر بمادة الإتيان لمجرد التفنن لدفع تكرار الفعل الواحد، كقوله تعالى في سورة الفرقان [33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}. وعليه تكون الباء في قوله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} وقوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة.
ويحتمل أن تكون لذكر الفعل الثاني وهو {وَأَتَيْنَاكَ} خصوصية لا تفي بها واو العطف وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منها للفعل الذي تعلق هو به. فلما كان المتعلق بفعل {جِئْنَاكَ} أمرا حسيا وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون، وكان ما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنى كالحقيقي، إذ هو مجيء مجازي مشهور مسو للحقيقي، أوثر فعل {جِئْنَاكَ} ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به"ما كانوا فيه يمترون". وتكون الباء المتعلقة به للتعددية لأنه أجاءوا العذاب، قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} موقع مفعول به، كما تقول "ذهبت به" بمعنى أذهبته وإن كنت لم تذهب معه، ألا ترى إلى قوله تعالى:" {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [سورة الزخرف:41] أي نذهبك من الدنيا، أي نميتك. فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية.
وأما متلق فعل {أَتَيْنَاكَ} وهو {بِالْحَقِّ} فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق الإتيان بفعل الإتيان مادة المجيء إلى مادة الإتيان تنبيها على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق، أعني المجيء المجازي. فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي، وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق، أي الصدق، وليس الصدق مسندا إليه الإتيان. فالباء في قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} للملابسة لا للتعددية.
والقطع - بكسر القاف وسكون الطاء - الجزء الأخير من الليل. وتقدم عند قوله تعالى: {قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} في سورة يونس [27].
وأمروه أن يجعل أهله قدامه ويكون من خلفهم، فهو يتبع أدبارهم، أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويها ببركة الرسول -
(13/51)
عليه السلام -، ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم. فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات لأنه يراقبهم. وقد مضى تفضيل ذلك في سورة هود، وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب.
و {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي حيث تؤمرون بالمضي. ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج، وهو مدينة عمورية، كما تقدم في سورة هود.
[66] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}
{قَضَيْنَا} قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي ب "إلى". والتقدير: وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه، أي إلى لوط عليه السلام أي أوحينا إليه بما قضينا.
و {ذَلِكَ الْأَمْرَ} إبهام للتهويل. والإشارة للتعظيم، أي الأمر العظيم.
و {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} جملة مفسرة لـ {ذَلِكَ الْأَمْرَ} وهي المناسبة للفعل المضمن وهو "أوحينا". فصار التقدير: وقضينا الأمر وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع. فنظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله: {ذَلِكَ الْأَمْرَ} من الإبهام والتعظم.
ومجيء جملة {دَابِرَ} مفسرة مع صلوحية {أَنَّ} لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل "أوحينا" المقدر المضمن، فتم ذلك إيجاز بديع معجز.
والدابر: الآخر، أي آخر شخص.
وقطعه: إزالته. وهو كناية عن استئصالهم كلهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة الأنعام [45].
وإشارة {هَؤُلاءِ} إلى قومه.
و {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصباح، أي في أول وقته، وهو حال من اسم الإشارة. ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده:" {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [سورة الحجر:73]
[67-69] {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ}
(13/52)
عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها.
ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لما علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه، كما جاء في قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} في سورة هود [81]. والواو لا تفيد ترتب معطوفها.
ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [سورة الحجر:]، أو من الهاء في {إِلَيْهِ}ولا إشكال حينئذ.والمدينة هي سدوم.
و {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون ويسرون. وهو مطاوع بشره فاستبشر، قال تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} في سورة براءة [111]. وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح. وذلك أنهم علموا أن رجالا غرباء حلوا ببيت لوط - عليه السلام - ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة. وقد تقدمت القصة في سورة هود.
والفضح والفضيحة: شهرة حال شنيعة. وكانوا يتعيرون بإهانة الضيف ويعد ذلك مذلة لمضيفه. وقد ذكرهم بالوازع الديني وإن كانوا كفارا استقصاء للدعوة التي جاء بها، وبالوازع العرفي فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} كما في قول عبد بني الحسحاس:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
والخزي: الذل والإهانة. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في أوائل سورة البقرة [85]. وتقدم في مثل هذه القصة في سورة هود.
[70-77] {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
الواو في {أَوَلَمْ نَنْهَكَ} عطف على كلام لوط - عليه السلام - جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} بعد قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} في سورة البقرة [124].
(13/53)
والاستفهام إنكاري، والمعطوف هو الإنكار.
و {الْعَالَمِينَ} الناس. وتعدية النهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دل عليه المقام، أي ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قراهم. و {الْعَالَمِينَ} تقدم في الفاتحة. وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم.
وعرض عليهم بناته ظنا أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم. ولذلك قال: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته، وأن قوله: {بَنَاتِي} يجوز أن يراد به بنات صلبه وكن اثنتين أو ثلاثا، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلا لهم منزلة بناته لأن النبي كأب لأمته.
وجملة {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه.
والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى. وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول.
وكلمة {لَعَمْرُكَ} صيغة قسم. واللام الداخلة على لفظ "عمر" لام القسم.
والعمر - بفتح العين وسكون اللام - أصله لغة في العمر بضم العين، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام. فهو قسم بحياة المخاطب به. وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لم القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبا. والتقدير: لعمرك قسمي.
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفا لازما في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللام على معنى القسم. وقد يستعملونه بغير اللام فحينئذ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما، كقول عمر بن أبي ربيعة:
عمرك الله كيف يلتقيان
فنصب عمر بنزع الخافض وهو باء القسم ونصب اسم الجلالة على أنه مفعول المصدر، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله، أي قولك الله لعمرك تعظيما لله لأن القسم
(13/54)
باسم أحد تعظيم له، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد "التحيات لله" أي أقسم عليك بتعظيمك ربك. هذا ما يظهر لي في توجيه النصب، وقد خالفت فيه أقوال أهل اللغة بعض مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال.
والسكرة: ذهاب العقل. مشتقة من السكر - بفتح السين - وهو السد والغلق. وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته.
و {يَعْمَهُونَ} يتحيرون ولا يهتدون. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15].
وجملة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} تفريع على جملة {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [سورة الحجر:].
و {الصَّيْحَةُ}: صعقة في الهواء، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجيل. وقد مضى بيانها في سورة هود.
وانتصب {مُشْرِقِينَ} على الحال من ضمير الغيبة. وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس.
وضميرا {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} للمدينة. وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: تذييل. والآيات: الأدلة، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدها، وعلى تعرض المكذبين رسلهم لعقاب شديد.
والإشارة {فِي ذَلِكَ} إلى جميع ما تضمنته القصة المبدوءة بقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحجر:51]. ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم - عليه السلام - كرامة له، وبشارته بغلام عليم، وإعلام الله إياه بما سيحل بقوم لوط كرامة لإبراهيم - عليهما السلام -، ونصر الله لوطا بالملائكة، وإنجاء لوط - عليه السلام - وآله، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إياهم، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرسل.
(13/55)
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة [39]. وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في سورة الأنعام [37].
والمتوسمون أصحاب التوسم وهو التأمل في السمة، أي العلامة الدالة على المعلم، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون. وهو تعريض بالذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضا بالمشركين الذين لم يتعظوا؛ بان يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها.
ولذلك أعقب الجملة بجملة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}، أي المدينة المذكورة آنفا هي بطريق باق يشاهد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشام وما حولها، وهذا كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الصافات:137،138].
والمقيم: أصله الشخص المستقر في مكانه غير مرتحل. وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصة مع ما انضم إليها من التذكير بان قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المحماة.
وعبر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسمين هم المؤمنون.
وجعل ذلك "آية" بالإفراد تفننا لأن "آية" اسم جنس يصدق بالمتعدد، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة وهو عاقبة المكذبين. وفي مطاوي تلك الآيات آيات. والذي في درة التنزيل، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول، وإفراده ثانيا في هذه الآية بأن ما قص من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية.فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات. وأما كون قرية لوط بسبيل مقيم فهو في جملته آية واحدة. فتأمل.
[78،79] {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
(13/56)
عطف قصة على قصة لما في كلتيهما من الموعظة. وذكر هاتين القصتين المعطوفتين تكميل وإدماج إذ لا علاقة بينهما وبين ما قبلهما من قصة إبراهيم والملائكة. وخص بالذكر أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر لأنهم مثل قوم لوط في موعظة المشركين من الملائكة لأن أهل مكة يشاهدون ديار هذه الأمم الثلاث.
و {إِنْ} مخففة "إنّ" وقد أهمل عملها بالتخفيف فدخلت على جملة فعلية. واللام الداخلة على "لظالمين" اللام الفارقة بين "إن" التي أصلها مشددة وبين "إن" النافية.
و {الْأَيْكَةِ}: الغيضة من الأشجار الملتف بعضها ببعض. واسم الجمع "أيك"، وأطلقت هنا مرادا بها الجنس إذ قد كانت منازلهم في غيضة من الأشجار الكثيرة والورق. وقد تخفف الأيكة فيقال:ليكة.
و {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ}: هم قوم شعيب - عليه السلام - وهم مدين. وقيل أصحاب الأيكة فريق من قوم شعيب غير أهل مدين. فأهل مدين سكان الحاضرة وأصحاب الأيكة هم باديتهم وكان شعيب رسولا إليهم جميعا. قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [سورة الشعراء:176-177]. وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي في سورة الشعراء.
والظالمون: المشركون.
والانتقام: العقوبة لأجل ذنب، مشتقة من النقم، وهو الإنكار على الفعل. يقال: نقم عليه كما في هذه الآية، ونقم منه أيضا. وتقدم في قوله: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} في سورة الأعراف [126]. وأجمل الانتقام في هذه الآية وبين في آيات أخرى مثل آية هود.
{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
ضمير {إِنَّهُمَا} لقرية قوم لوط وأيكة قوم شعيب - عليهما السلام -.
والإمام: الطريق الواضح لأنه يأتم به السائر، أي يعرف أنه يوصل إذ لا يخفى عنه شيء منه. والبين، أي أن كلتا القريتين بطريق القوافل بأهل مكة.
وقد تقدم آنفا قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} فإدخال مدينة لوط عليه السلام في الضمير هنا تأكيد للأول.
ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان، وهما مدين
(13/57)
وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم، فإن إبراهيم - عليه السلام - أسكن ابنه مدين في شرق بلاد الخليل، ولا يكون إلا في أرض مأهولة. وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيب - عليه السلام - باسم مدين مرات وباسم أصحاب الأيكة مرات. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشعراء.
[80-84] {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
جمعت قصص هؤلاء الأمم الثلاث: قوم لوط، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الحجر في نسق، لتماثل حال العذاب الذي سلط عليها وهو عذاب الصيحة والرجفة والصاعقة.
وأصحاب الحجر هم ثمود كانوا ينزلون الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم -. والحجر: المكان المحجور، أي الممنوع من الناس بسبب اختصاص به، أو اشتق من الحجارة لأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في صخر الجبل نحتا محكما. وقد جعلت طبقات وفي وسطها بئر عظيمة وبئار كثيرة.
والحجر هو المعروف بوادي القرى وهو بين المدينة والشام، وهو المعروف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك.
وأما حجر اليمامة مدينة بني حنيفة فهي - بفتح الحاء - وهي في بلاد نجد وتسمى العروض وهي اليوم من بلاد البحرين.
وقد توهم بعض المستشرقين من الإفرنج أن البيوت المنحوتة في ذلك الجبل كانت قبورا، وتعلقوا بحجج وهمية. ومما يفند أقوالهم خلو تلك الكهوف عن أجساد آدمية. وإذا كانت تلك قبورا فأين كانت منازل الأحياء?.
والظاهر أن ثمود لما أخذتهم الصيحة كانوا منتشرين في خارج البيوت لقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}. وقد وجدت في مداخل تلك البيوت نقر صغيرة تدل على أنها مجعولة لوصد أبواب المداخل في الليل.
وتعريف {الْمُرْسَلِينَ} للجنس، فيصدق بالواحد، إذ المراد أنهم كذبوا صالحا -
(13/58)
عليه السلام فهو كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [سورة الشعراء:105]. وقد تقدم. وكذلك جمع الآيات في قوله: {آيَاتِنَا} مراد به الجنس، وهي آية الناقة، أو أريد أنها آية تشتمل على آيات في كيفية خروجها من صخرة، وحياتها، ورعيها، وشربها. وقد روي أنها خرج معها فصيلها، فهما آيتان.
وجملة {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ} معترضة. والنحت: بري الحجر أو العود من وسطه أو من جوانبه.
و {مِنَ الْجِبَالِ} تبعيض متعلق بـ {يَنْحِتُونَ}. والمعنى من صخر الجبال، لما دل عليه فعل {يَنْحِتُونَ}.
و {آمِنِينَ} حال من ضمير {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ} وهي حال مقدرة، أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها. وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو.
ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
والفاء في {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} للتعقيب والسببية. و {مُصْبِحِينَ} حال، أي داخلين في وقت الصباح.
و {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي يصنعون، أي البيوت التي عنوا بتحصينها وتحسينها كما دل عليه فعل {كَانُوا}. وصيغة المضارع في {يَكْسِبُونَ} لدلالتها على التكرر والتجدد المكنى به عن إتقان الصنعة. وبذلك كان موقع الموصول والصلة أبلغ من موقع لفظ بيوتهم مثلا، ليدل على أن الذي لم يغن عنهم شيء متخذ للإغناء ومن شأنه ذلك.
[85،86] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع. فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها، ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}. والمراد ساعة جزاء المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي ساعة البعث. فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية، وعلى الثاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر.
(13/59)
على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكملة لغيرها، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة.
وتشمل {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} أصناف المخلوقات من حيوان وجماد، فشمل الأمم التي على الأرض وما حل بها، وشمل الملائكة الموكلين بإنزال العذاب، وشمل الحوادث الكونية التي حلت بالأمم من الزلازل والصواعق و الكسف.
والباء في {إِلَّا بِالْحَقِّ} للملابسة متعلقة بـ {خَلَقْنَا} ، أي خلقا ملابسا للحق ومقارنا له بحيث يكون الحق باديا في جميع أحوال المخلوقات.
والملابسة هنا عرفيه؛ فقد يتأخر ظهور الحق عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخرا متفاوتا. فالملابسة بين الخلق والحق تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحق وخفائه؛ على أنه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دل عليه قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [سورة الانبياء: 18].
والحق: هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشر، والكمال والنقص، والسمو والخفض، في كل نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه، وما يصلح هو له، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات، فإذا لاح ذلك الحق الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالمر واضح، وإذا لاح تخلف شيء عن مناسبة فبالتأمل والبحث يتضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة، ثم لا يتبدل الحق آخر الأمر.
وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت، فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها، وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحق لها، وهو من الحق أيضا فما كان إمهالها إلا حقا، وما كان حلول العذاب بها إلا حقا عند حلول أسبابه، وهو التمرد على أنبيائهم. وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطل الجزاء في الدنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة.
وموقع جملة {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحق وأيقن به علم أن الحق لا يتخلف
(13/60)
عن مستحقه ولو غاب وتأخر، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطل ظهور الحق في نصابه وتخلفه عن أربابه.
فعلم أن وراء هذا النظام نظاما مدخرا يتصل فيه الحق بكل مستحق إن خيرا وإن شرا، فلا يحسبن من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعد عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقيها.
فلذلك أعقب الله و {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بآية {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}، أي أن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم كما قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [سورة يونس:46]. والمقصود من هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم.
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حرية بالفصل وعدم العطف لأن حقها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقل اهتماما بمضمونها، ولأنها تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - على ما يلقاه من قومه، وليصح تفريع أمره بالصفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر.
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقق بها مراد الله من بقاء هذا الدين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إياه وحمله إلى الأمم.
والمراد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة. وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} في سورة الأحقاف [3].
وتفريع {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} باعتبار المعنى الكنائي له، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقيهم للدعوة.
و {الصَّفْحَ}: العفو. وقد تقدم في قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} في سورة العقود [13]. وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدين وحذف متعلق الصفح لظهوره، أي عمن كذبك وآذاك.
(13/61)
و {الْجَمِيلَ}: الحسن. والمراد الصفح الكامل.
ثم إن في هذه الآية ضربا من رد العجز على الصدر، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:14-16] الآيات. وختمت بآية {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} [سورة الحجر:23-25].
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام وما فيه من العبر. ثم إلى سوق قصص الأمم التي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الآيات، فجاءت على وزان قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الحجر:] الآيات. فإن ذلك خلق بديع.
وزيد هنا أن ذلك خلق بالحق.
وكان قوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فذلكة لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سورة الحجر:25]. فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه. ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87] الناظر إلى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9].
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَالقُ الْعَلِيمُ} في موقع التعليل للأمر بالصفح عنهم، أي لأن في الصفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك، فمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم في الصفح هي كمال أخلاقه، ومصلحتهم في الصفح رجاء إيمانهم، فالله الخلاق لكم ولهم ولنفسهم وأنفسهم، العليم بما يأتيه كل منكم، وهذا كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر:8].
ومناسبته لقوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} ظاهرة.
وفي وصفه بـ {الْخَالقُ الْعَلِيمُ} إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنهم يكونون أولياء للنبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والذين
(13/62)
ولدوا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده".
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم:
دعاني داع غير نفسي وردني ... إلى الله من أطردته كل مطرد
يعني بالداعي النبي صلى الله عليه وسلم.
وتلك هي نكتة ذكر وصف {الْخَالقُ} دون غيره من الأسماء الحسنى.
والعدول إلى {إن ربك} دون "إن الله" للإشارة إلى أن الذي هو ربه ومدبر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلا ما فيه خيره.
[87] {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
اعتراض بين جملة {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وجملة {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر:88] الآية.
أتبع التسلية والوعد بالمنة ليذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة.
وفي هذا الامتنان تعريض بالرد على المكذبين. وهو ناظر إلى قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9].
فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصة على القصة. وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين.
وإيتاء القرآن: أي إعطاؤه، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه.
وأوثر فعل {آتَيْنَاكَ} دون "أوحينا" أو "أنزلنا" لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنة.
وجعل {الْقُرْآنَ} معطوفا على {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} يشعر بأن السبع المثاني من القرآن. وذلك ما درج عليه جمهور المفسرين ودل عليه الحديث الآتي.
وقد وصف القرآن في سورة الزمر [23] بالمثاني في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}، فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنها
(13/63)
أجري عليها اسم عدد المؤنث. ويتعين أن المراد آيات أو سور من القرآن، وأن {مِنَ} تبعيضية. وذلك أيضا شأن {مِنَ} إذا وقعت بعد اسم عدد. وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن، وأن المثاني أسماء القرآن كما ذلت عليه آية الزمر، وكما اقتضته {مِنَ} التبعيضية، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكلية والجزئية تصحيحا للعطف.
و {الْمَثَانِي} يجوز أن يكون جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون اسم مفعول مشتقا من ثنى إذا كرر تكريرة. قيل {الْمَثَانِي} جمع مثناة - بفتح الميم وسكون الثاء المثلثة وبهاء تأنيث في آخره -. فهو مشتق من اسم الاثنين.
والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنها يثنى بها، أي تعاد في كل ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الاثنين المراد به مطلق التكرير، فيكون استعماله هذا مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، أو كناية لأن التكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [سورة الملك:4] أي كرات وفي قولهم: لبيك وسعديك ودواليك.
أو هو جمع مثناة مصدرا ميميا على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول.
ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبي بن كعب وأبي هريرة في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أم القرآن هي السبع المثاني" فهو الأولى بالاعتماد عليه.
وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة. ومعنى التكرير في الفاتحة أنها تكرر في الصلاة.
وعن ابن عباس: أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال: أولاها البقرة وآخرها براءة. وقيل: السور التي فوق ذوات المئين.
وعطف {القرآن} على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التذعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كله نعمة عظيمة. وفي حديث أبي سعيد بن المعلى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والقرآن العظيم الذي أوتيه" على تأويله بأن كلمة "القرآن" مرفوعة بالابتداء "والذي أوتيته" خبره.
(13/64)
وأجري وصف {الْعَظِيمَ} على القرآن تنويها به.
وإن كان المراد بالسبع سورا كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصحابة والسلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر، فيكون إبهامها مقصودا لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر.
[88،89] {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [سورة الحجر:85]، ومن تساؤل يجيش في النفس عن الإملاء للمكذبين في النعمة والترف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} بيانا لما يختلج في نفس السامع من ذلك، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن التي قبلها فصل البيان عن المبين.
ولولا أن الجملة التي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذ مجرد نهي لا اتصال له بما قبله، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه [129-131] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة التي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم.
والمد: أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتطويله. يقال: مد يده إلى كذا، ومد رجله في الأرض. ثم استعير للزيادة من شيء. ومنه مدد الجيش، ومد البحر، والمد في العمر. وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة. واستعير المد هنا إلى التحديق بالنظر والطموح به تشبيها له بمد اليد للمتناول لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتبعوا ما آتيناك ولكنهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم.
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معاناة المشهور، أي الكفار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتع لاستكمالها جميع اللذات والأنس.
(13/65)
ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب. فوجه ذكره في الآية أن التمتع الذي تمتد إلى مثله العين ليس ثابتا لجميع الكفار بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش.
والنهي عن الحزن شامل لكل حال من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه. فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [سورة الكهف:6]. ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حل بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحسر على إصرارهم حتى حل بهم ما حل من العذاب. ففي هذا النهي كناية عن قلة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحل بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس.
ولما كان هذا النهي يتضمن شدة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} . وهو اعتراض مراد منه الاحتراس. وهذا كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح:29].
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع خفض جناحه يريد الدنو، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه. وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية، والجناح تخييل. وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [سورة الاسراء:24] وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثل في التواضع واللين في المعاملة. وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدة.
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب من كان متواضعا فظهر منه تكبر "ذكره في سورة الشعراء":
وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعة أجدلا
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الحجر:94].
وجملة {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} عطف على جملة {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. فالمقول لهم هذا القول هم المتحدث عنهم بالضمائر السابقة في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} وقوله: {عَلَيْهِمْ} فالتقدير:وقل لهم لأن هذا القول مراد منه المتاركة، أي ما على إلا
(13/66)
إنذاركم، والقرينة هي ذكر النذارة دون المباشرة لأن النذارة تناسب المكذبين إذ النذارة هي الإعلام بحدث فيه ضر.
والنذير: فعيل بمعنى مفعل مثل الحكيم بمعنى المحكم، وضرب وجميع أي موجع.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل ومن تعريف الجزأين قصر قلب، أي كما تحسبون أنكم تغيظونني بعدم إيمانكم فإني نذير مبين غير متقايض معكم لتحصيل إيمانكم.
و {المبين}: الموضح المصرح.
[90،91] {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين.
و "ما" موصولة أو مصدرية، وهي المشبه به.
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاء المأخوذ من فعل {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87]، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين. شبه إيتاء بعض القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه في شأن المقتسمين، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى {الْمُقْتَسِمِينَ}.
ويجوز أن يكون المشبه الإنذار المأخوذ من قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [سورة الحجر:89]، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر:92،93].
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلص من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم.
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفس المراد من الضميرين في قوله تعالى: {أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [سورة الحجر:88].
وحرف {على} هنا بمعنى لام التعليل كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة:185] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [سورة المائدة:4]، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة:
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
(13/67)
ولفظ {الْمُقْتَسِمِينَ} افتعال من قسم إذا جعل شيئا أقساما. وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل.
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين، من قريش وهم ستة عشر رجلا، سنذكر أسماءهم، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العلم، وهو كتاب الإسلام.
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قسموا كتابهم أقساما، منها ما أظهروه ومنها ما انسوه، فيكون القرآن مصدرا أطلق بمعناه اللغوي، أي المقروء من كتبهم؛ أو قسموا كتاب الإسلام، منه ما صدقوا به وهو مما وافق دينهم، ومنه ما كذبوا به وهو ما خالف ما هم عليه.
وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالا بينه وصفهم بالصلة في قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}؛ فلا يحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقين المذكورين آنفا.
ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصفات والأحوال لا تجزئه الذات.
و {الْقُرْآنَ} هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علما لكتاب الإسلام. ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل.
و {عِضِينَ} جمع عضة، والعضة: الجزء والقطعة من الشيء. وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفة. وحذف اللام قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها، فعوضوا عنها حرفا لئلا تبقى الكلمة على حرفين، وجعلوا العوض هاء لأنها أسعد الحروف بحالة الوقف. وجمع "عضة" على صيغة جمع المذكر السالم على وجه شاذ.
وعلى الوجهين المتقدمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما انزل إليهم من القرآن، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء، فأظهروا بعضا وكتموا بعضا، قال الله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [سورة الأنعام:91] فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهم أيضا جعلوا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم عضين فصدقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوة عيسى لله تعالى، فكانوا إذا سألهم المشركون: هل القرآن صدق? قالوا: بعضه صدق وبعضه كذب، فأشبه اختلافهم اختلاف
(13/68)
المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة، كقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، و"قول كاهن"، و"قول شاعر".
وروي عن قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي قريش جمعهم الوليد بن المغيرة لما جاء وقت الحج فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا، فانتدب لذلك ستة عشر رجلا فتقاسموا مداخل مكة وطرقها لينفروا الناس عن الإسلام، فبعضهم يقول: لا تغتروا بهذا القرآن فهو سحر، وبعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: كلام مجنون، وبعضهم يقول: قول كاهن، وبعضهم يقول: هو أساطير الأولين اكتتبها، فقد قسموا القرآن أنواعا باعتبار اختلاف أوصافه.
وهؤلاء النفر هم: حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأخوه العاص، وأبو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أمية، وهلال بن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، و زمعة ابن الحجاج، وأمية بن خلف، و أوس بن المغيرة.
واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن. وهذا هو معنى {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، فكان ثاني الوصفين بيانا لأولهما وإنما اختلفت العبارتان للتفنن.
وأن ذم المشبه بهم يقتضي ذم المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالرد والتكذيب.
[97،98] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الفاء للتفريع، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [سورة الحجر:85].
والوا للقسم، فالمفرع هو القسم وجوابه. والمقصود بالقسم تأكيد الخبر. وليس الرسول صلى الله عليه وسلم ممن يشك في صدق هذا الوعيد؛ ولكن التأكيد متسلط على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في {لَنَسْأَلَنَّهُمْ}.
ووصف الرب مضافا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حظا من التنويه به، وهو سؤال الله المكذبين عن تكذيبهم إياه سؤال رب يغضب لرسوله - عليه الصلاة والسلام -.
(13/69)
والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسؤول كقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [سورة التكاثر:8] فهو وعيد للفريقين.
[94-96] {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
تفريع على جملة {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} [سورة الحجر:87] بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه.
نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله - عليه الصلاة والسلام - مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم. روي عن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه. يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت سورة المدثر كان يدعو الناس خفية وكان من أسلم من الناس إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين، فلحقهم المشركون يستهزئون بهم ويعيبون صلاتهم، فحدث تضارب بينهم وبين سعد ابن أبي وقاص أدمى فيه سعد رجلا من المشركين. فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصفا فكانوا يقيمون الصلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد، فنزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية. وبنزولها ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدعوة للإسلام جهرا.
و الصدع: الجهر والإعلان. وأصله الانشقاق. ومنه انصداع الإناء، أي انشقاقه. فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان.
وما صدق"ما تؤمر"هو الدعوة إلى الإسلام.
وقصد شمول الأمر كل ما أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بتبليغه هو نكتة حذف متعلق {تُؤْمَرُ}، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدعوة إليه. وهو إيجاز بديع.
والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم. وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم، وعن استهزائهم، وعن تصديهم إلى أذى المسلمين.
(13/70)
وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} مانع من ذلك، وكذلك جملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}.
وجملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به فإن اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمها تعدد الداخلين في الإسلام في تلك المدة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدين مع أن دعوته مخفية، ثم إن الله أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيأ اعتبارها في علمه تعالى.
والتعبير عنهم بوصف {الْمُسْتَهْزِئينَ} إيماء إلى أنه كفاه استهزاءهم وهو أقل أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشد من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحرى.
وتأكيد الخبر بـ"إن" لتحقيقه اهتماما بشأنه لا للشك في تحققه.
والتعريف في {الْمُسْتَهْزِئينَ} للجنس فيفيد العموم، أي كفيناك كل مستهزئ. وفي التعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء، كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [سورة آل عمران:111]، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبي بغير الاستهزاء. وذلك لطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الكفاية تولي الكافي مهم المكفي، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي. يقال: كفيت مهمك، فيتعدى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه. فالأصل أن يكون مصدرا فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدل عليها المقام، فإذا قلت: كفيتك عدوك، فالمراد: كفيتك بأسه، وإذا قلت: كفيتك غريمك، فالمراد: كفيتك مطالبته. فلما قال هنا {كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم. وكانوا يستهزئون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم.
ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة، كما في "الإتقان" في ذكر أسماء السور.
وعد من كبرائهم خمسة هم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة "ويقال ابن عيطل وهو اسم أمه دعي لها واسم أبيه قيس. وفي "الكشاف" و"القرطبي" أنه ابن الطلاطلة، ومثله في"القاموس"، وهي بضم الطاء
(13/71)
الأولى وكسر الطاء الثانية" والعاصي بن وائل، هلكوا بمكة متتابعين، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفا أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عقدهم.
وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيا؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فاعتز به المسلمون، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلا الاستهزاء، ثم أسلم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فخشيه سفهاء المشركين، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة.
و وصفهم بـ {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} للتشويه بحالهم، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم ما اقتصروا على الافتراء عليه فقد افتروا على الله.
وصيغة المضارع في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ} للإشارة إلى أنهم مستمرون على ذلك مجددون له.
وفرع على الأمرين الوعيد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة المقام عليه، أي فسوف يعلمون جزاء بهتانهم.
[97-99] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
لما كان الوعيد مؤذنا بإمهالهم قليلا كما قال تعالى: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [سورة المزمل:11] كما دل عليه حرف التنفيس في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة الحجر:96] طمأن الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مطلع على تحرجه من أذاهم وبهتانهم من أقوال الشرك وأقوال الاستهزاء فأمره بالثبات والتفويض إلى ربه لأن الحكمة في إمهالهم، ولذلك افتتحت الجملة بلام القسم وحرف التحقيق.
وليس المخاطب ممن يداخله الشك في خبر الله تعالى ولكن التحقيق كناية عن الاهتمام بالمخبر وأنه بمحل العناية من الله؛ فالجملة معطوفة على جملة {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [سورة الحجر:95] أو حال.
وضيق الصدر: مجاز عن كدر النفس. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} في سورة هود [12].
وفرع على جملة {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} أمره بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عما يقولونه من نسبة
(13/72)
الشريك، أي عليك بتنزيه ربك فلا يضرك شركهم. على أن التسبيح قد يستعمل في معناه الكنائي مع معناه الأصلي فيفيد الإنكار على المشركين فيما يقولون، أي فاقتصر في دفعهم على إنكار كلامهم. وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [سورة الاسراء:93].
والباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للمصاحبة. والتقدير: فسبح ربك بحمده؛ فحذف من الأول لدلالة الثاني. وتسبح الله تنزيهه بقول: سبحان الله.
والأمر في {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ} مستعملان في طلب الدوام.
و {مِنَ السَّاجِدِينَ} أبلغ في الاتصاف بالسجود من "ساجدا" كما تقدم في قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة [119]، وقوله {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67] ونظائرهما.
والساجدون: هم المصلون. فالمعنى: ودم على الصلاة أنت ومن معك.
وليس هذا موضع سجدة من سجود التلاوة عند أحد من فقهاء المسلمين. وفي"تفسير القرطبي"عن أبي بكر النقاش أن أبا حذيفة "لعله يعني به أبا حذيفة اليمان ابن المغيرة البصري من أصحاب عكرمة وكان منكر الحديث" واليمان بن رئاب "كذا" رأياها سجدة تلاوة واجبة.
قال ابن العربي شاهدت الإمام بمحراب زكرياء من البيت المقدس سجد في هذا الموضع حين قراءته في تراويح رمضان وسجدت معه فيها وسجود الإمام عجيب وسجود أبي بكر بن العربي معه أعجب للإجماع؛ على أنه لا سجدة هنا، فالسجود فيها يعد زيادة وهي بدعة لا محالة.
و {الْيَقِينُ}: المقطوع به الذي لا شك فيه وهو النصر الذي وعده الله به.
(13/73)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة.
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
وعن قتادة أنها تسمى سورة النِعَم - أي بكسر النون وفتح العين -. قال ابن عطية: لما عدد الله فيها من النعم على عباده.
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير. وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل:126] إلى آخر السورة. قيل: نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [سورة النحل:41] فهو مدني إلى آخر السورة.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [سورة النحل:79] ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [سورة النحل:110]، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [سورة النحل:118]، يعني بما قص من قبل قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [سورة الأنعام:146]
(13/74)
الآيات.
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون: لما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال: يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة الم السجدة. وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.
أغراض هذه السورة
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنزال القرآن عليه - عليه الصلاة والسلام -.
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم - عليه السلام -.
وإثبات البعث والجزاء؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم.
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار.
(13/75)
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن.
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.
والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.
والأمر بأصول من الشريعة؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتظمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال.
ومقابلة الأعمال بأضدادها.
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
والإنذار بعواقب كفران النعمة.
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [سورة النحل:119] الخ....
وملاك طرائق دعوة الإسلام {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [سورة النحل:125].
وتثبيت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووعده بتأييد الله إياه.
[1] {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
(13/76)
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}
لما كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك، وكان قد تكرر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارق بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدتهم. وكانوا قد استبطأوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزأون بالنبي - عليه الصلاة والسلام - والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم.
صدرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حل ذلك المتوعد به. فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحقق الوقوع بقرينة تفريع {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد.
والأمر: مصدر بمعنى المفعول، كالوعد بمعنى الموعود، أي ما أمر الله به. والمراد من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمى الذي تقتضيه الحكمة.
وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء. وقد عبر عنه تارات بوعد الله ومرات بأجل الله ونحو ذلك.
والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [سورة الحج:47].
ويجوز أن يكون شاملا للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكما لظنهم أنه غير آت، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبون تعجيله للكافرين.
فجملة {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} تفريع على {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} وهي من المقصود بالإنذار.
والاستعجال: طلب تعجيل حصول شيء، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به. ويتعدى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا: استعجل بكذا. وقد مضى في سورة الأنعام [57] قوله تعالى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.
فضمير {تَسْتَعْجِلُوهُ} إما عائد إلى الله تعالى، أي فلا تستعجلوا الله. وحذف المتعلق بـ {تَسْتَعْجِلُوهُ} لدلالة قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} عليه. والتقدير: فلا تستعجلوا الله بأمره، على نحو قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [سورة الانبياء:37].
(13/77)
وقيل الضمير عائد إلى {أَمْرُ اللَّهِ}، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض.
والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي. ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجل قبل وقته المؤجل له.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها المقصود من الوعيد إذ الوعيد والزجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك. فكانت جملة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} كالمقدمة وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} كالمقصد.
و "ما" في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} مصدرية، أي عن إشراكهم غيره معه.
وقرأ الجمهور {يُشْرِكُونَ} بالتحتية على طريقة الالتفات، فعدل عن الخطاب ليختص التبرئ من شانهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة.
وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعا لقوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
[2] {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}
كان استعجالهم بالعذاب استهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، وكان ناشئا عن عقيدة الإشراك التي من أصولها استحالة إرسال الرسل من البشر.
وأتبع تحقيق مجيء العذاب بتنزيه الله عن الشريك فقفي ذلك بتبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يبلغه عن ربه ووصف لهم الإرسال وصفا موجزا. وهذا اعتراض في أثناء الاستدلال على التوحيد.
والمراد بالملائكة الواحد منهم وهو جبرائيل - عليه السلام -.
والروح: الوحي. أطلق عليه اسم الروح على وجه الاستعارة لأن الوحي به هدى للعقول الحق، فشبه الوحي بالروح كما يشبه العلم الحق بالحياة،وكما يشبه الجهل بالموت قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [سورة الأنعام:122].
(13/78)
ووجه تشبيه الوحي بالروح أن الوحي إذا وعته العقول حلت بها الحياة المعنوية وهو العلم كما أن الروح إذا حل في الجسم حلت به الحياة الحسية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [سورة الشورى:52].
ومعنى {مِنْ أَمْرِهِ} الجنس، أي من أموره، وهي شؤونه ومقدراته التي استأثر بها. وذلك إضافته إلى الله كما هنا وكما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}، وقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [سورة الرعد:11]، وقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الاسراء:85] لما تفيده الإضافة من التخصيص.
وقرأ الجمهور {يُنَزِّلُ} - بياء تحتية مضمومة وفتح النون وتشديد الزاي مكسورة - , وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب - بسكون النون وتخفيف الزاي مكسورة، و {الْمَلائِكَةَ} منصوبا.
وقرأه روح عن يعقوب - بتاء فوقية مفتوحة وفتح النون وتشديد الزاي مفتوحة ورفع {الْمَلائِكَة} على أن أصله تتنزل.
وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} رد على فنون من تكذيبهم. فقد قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف:31] وقالوا: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [سورة الزخرف:53] أي كان ملكا، وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان:7]. ومشيئة الله جارية على وفق حكمته، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاته} [سورة الأنعام:].
و {أَنْذِرُوا} تفسير لفعل {يُنَزِّلُ} لأنه في تقدير ينزل الملائكة بالوحي.
وقوله: {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} اعتراض واستطراد بين فعل {يُنَزِّلُ} ومفسره.
و {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} متعلق بـ {أَنْذِرُوا} على حذف حرف الجر حذفا مطردا مع "أنّ". والتقدير: أنذروا بأنه لا إله إلا أنا. والضمير المنصوب بـ "أنّ" ضمير الشأن. ولما كان هذا الخبر مسوقا للذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى وكان ذلك ضلالا يستحقون عليه العقاب جعل إخبارهم بضد اعتقادهم مما هم فيه إنذارا.
وفرع عليه {فَاتَّقُونِ} وهو أمر بالتقوى الشاملة لجميع الشريعة.
(13/79)
وقد أحاطت جملة {أنَْ أَنْذِرُوا} إلى قوله تعالى: {فَاتَّقُونِ} بالشريعة كلها، لأن جملة {أنَْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} تنبيه على ما يرجع من الشريعة إلى إصلاح الاعتقاد وهو الأمر بكمال القوة العقلية.
وجملة {فَاتَّقُونِ} تنبيه على الاجتناب والامتثال اللذين هما منتهى كمال القوة العملية.
[3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النحل:3]
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النحل:1] لأنهم إذا سمعوا ذلك ترقبوا دليل تنزيه الله عن أن يكون له شركاء.فابتدئ بالدلالة على اختصاصه بالخلق والتقدير، وذلك دليل على أن ما يخلق لا يوصف بالإلهية كما أنبأ عنه التفرع عقب هذه الأدلة بقوله الآتي: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل:17].
وأعقب قوله: {سُبْحَانَهُ} بقوله: {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تحقيقا لنتيجة الدليل، كما يذكر المطلوب قبل ذكر القياس في صناعة المنطق ثم يذكر ذلك المطلوب عقب القياس في صورة النتيجة تحقيقا للوحدانية، لأن الضلال فيها هو أصل انتقاص عقائد أهل الشرك، ولأن إشراكهم هو الذي حداهم إلى إنكار نبوة من جاء ينهاهم عن الشرك فلا جرم كان الاعتناء بإثبات الوحدانية وإبطال الشرك مقدما على إثبات صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام - المبدأ به في أول السورة بقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل:2].
وعددت دلائل من الخلق كلها متضمنة نعما جمة على الناس إدماجا للامتنان بنعم الله عليهم وتعريضا بأن المنعم عليهم الذين عبدوا غيره قد كفروا نعمته عليهم؛ إذ شكروا ما لم ينعم عليهم ونسوا من انفرد بالإنعام، وذلك أعظم الكفران، كما دل على ذلك عطف {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة النحل:18] على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17].
والاستدلال بخلق السماوات والأرض أكبر من سائر الأدلة وأجمع لأنها محوية لهما، ولأنهما من أعظم الموجودات. فلذلك ابتدئ بهما. ولكن ما فيه من إجمال المحويات اقتضى أن يعقب بالاستدلال بأصناف الخلق والمخلوقات فثني بخلق الإنسان
(13/80)
وأطواره وهو أعجب الموجودات المشاهدة، ثم بخلق الحيوان وأحواله لأنه جمع الأنواع التي تلي الإنسان في إتقان الصنع مع ما في أنواعها من المنن، ثم بخلق ما به حياة الإنسان والحيوان وهو الماء والنبات، ثم بخلق أسباب الأزمنة والفصول والمواقيت، ثم بخلق المعادن الأرضية، وانتقل إلى الاستدلال بخلق البحار ثم بخلق الجبال والأنهار والطرقات وعلامات الاهتداء في السير. وسيأتي تفصيله.
والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للملابسة. وهي متعلقة بـ {خَلَقَ} إذ الخلق هو الملابس للحق.
والحق: هنا ضد العبث، فهو هنا بمعنى الحكمة والجد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38-39].
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [سورة صّ:27]. والحق والصدق يطلقان وصفين لكمال الشيء في نوعه.
وجملة {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} معترضة.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {تَعَالَى عَمَّا تُشْرِكُونَ} بمثناة فوقية.
[4] {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}
استئناف بياني أيضا. وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها. وذلك أنه بعد أن استدل عليهم بخلق العوالم العليا والسفلى وهي مشاهدة لديهم انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم. وأيضا لما استدل على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدل عليهم أيضا بخلق أعجب الأشياء للمتأمل وهو الإنسان في طرفي أطواره من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلا فصيحا مبينا بمقاصده وعلومه.
وتعريف {الْإنْسَانَ} للعهد الذهني، وهو تعريف الجنس، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان.
وقد ذكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات: جنسه المعلوم بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام، وبقية أحوال كونه، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل. وذلك في جملتين وشبه جملة {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}.
(13/81)
والخصيم من صيغ المبالغة، أي كثير الخصام.
و {مُبِينٌ} خبر ثان عن ضمير {فَإِذَا هُوَ}، أي فإذا هو متكلم مفصح عما في ضميره ومراده بالحق أو بالباطل والمنطبق بأنواع الحجة حتى السفسطة.
والمراد: الخصام في إثبات الشركاء، وإبطال الوحدانية، وتكذيب من يدعون إلى التوحيد، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس [78،77]: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
والإنسان بحرف" إذا "المفاجأة استعارة تبعية. استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتب الشيء على غير ما يظن أن يترتب عليه. وهذا معنى لم يوضع له حرف. ولا مفاجأة بالحقيقة هنا لأن الله لم يفاجأه ذلك ولا فجأ أحدا، ولكن المعنى أنه بحيث لو تدبر الناظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية وفي إنكار البعث كان كمن فجأه ذلك. ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفجأة للمتكلم به تعين أن تكون المفاجأة استعارة تبعية.
فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهما أمرين هما: التعجيب من تطور الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل، والدلالة على كفرانه النعمة وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعم عليه. فالجملة في حد ذاتها تنويه، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب. ولو قيل: فهو خصيم أو فكان خصيما لم يحصل هذا المعنى البليغ.
[5-7] {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
يجوز أن يعطف {وَالْأَنْعَامَ} عطف المفرد على المفرد عطفا على {الإِنْسَان} [سورة النحل:4]، أي خلق الإنسان من نطفة والأنعام، وهي أيضا مخلوقة من نطفة، فيحصل اعتبار بهذا التكوين العجيب لشبهه بتكوين الإنسان، وتكون جملة {خَلَقَهَا} بمتعلقاتها مستأنفة، فيحصل بذلك الامتنان.
(13/82)
ويجوز أن يكون عطف الجملة على الجملة، فيكون نصب {الْأَنْعَامَ} بفعل ضمر يفسره المذكور بعده على طريقة الاستغلال. والتقدير: وخلق الأنعام خلقها. فيكون الكلام مفيدا للتأكيد لقصد تقوية الحكم اهتماما بما في الأنعام من الفوائد؛ فيكون امتنانا على المخاطبين، وتعريضا بهم، فإنهم كفروا نعمة الله بخلقها فجعلوا من نتاجها لشركائهم وجعلوا لله نصيبا. وأي كفران أعظم من أن يتقرب بالمخلوقات إلى غير من خلقها. وليس في الكلام حصر على كلا التقديرين.
وجملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {خَلَقَهَا} على كلا التقديرين؛ إلا أن الوجه الأول تمام مقابلة لقوله تعالى: {خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [سورة النحل:4] من حيث حصول الاعتبار ابتداء ثم التعريض بالكفران ثانيا، بخلاف الوجه الثاني فإن صريحه الامتنان ويحصل الاعتبار بطريق الكناية من الاهتمام.
والمقصود من الاستدلال هو قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} وما بعده إدماج للامتنان.
و {الْأَنْعَامَ}: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز. وتقدم في سورة الأنعام. وأشهر الأنعام عند العرب الإبل، ولذلك يغلب أن يطلق لفظ الأنعام عندهم على الإبل.
والخطاب صالح لشمول المشركين، وهم المقصود ابتداء من الاستدلال، وأن يشمل جميع الناس ولا سيما فيما تضمنه الكلام من الامتنان.
وفيه التفات من طريق الغيبة الذي في قوله تعالى: {عما يشركون} [سورة النحل:3] باعتبار بعض المخاطبين.
والدفء - بكسر الدال - اسم لما يتدفأ به كالملء والحمل. وهو الثياب المنسوجة من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها تتخذ منها الخيام والملابس.
فلما كانت تلك مادة النسج جعل المنسوج كأنه مظروف في الأنعام.
وخص الدفء بالذكر من بين عموم المنافع للعناية به.
وعطف {مَنَافِعُ} على {دِفْءٌ} من عطف العام على الخاص لأن أمر الدفء قلما تستحضره الخواطر.
(13/83)
ثم عطف الأكل منها لأنه من ذواتها لا من ثمراتها.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} عطف على جملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
وجملة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} عطف على جملة {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}. وهذا امتنان بنعمة تسخيرها للأكل منها والتغذي، واسترداد القوة لما يحصل من تغذيتها.
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} للاهتمام، لأنهم شديدو الرغبة في أكل اللحوم، وللرعاية على الفاصلة. والإتيان بالمضارع في {تَأْكُلُونَ} لأن ذلك من الأعمال المتكررة.
والإراحة: فعل الرواح، وهو الرجوع إلى المعاطن يقال: أراح نعمه إذا أعادها بعد السروح.
والسروح: الإسامة، أي الغدو بها إلى المراعي. يقال: سرحها بتخفيف الراء سرحا وسروحا، وسرحها - بتشديد الراء - تسريحا.
وتقديم الإراحة على التسريح لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج، لأنها تقل حينئذ ملأى البطون حافلة الضروع مرحة بمسرة الشبع ومحبة الرجوع إلى منازلها من معاطن ومرابض.
والإتيان بالمضارع في {تُرِيحُونَ} و {تَسْرَحُونَ} لأن ذلك من الأحوال المتكررة. وفي تكررها تكرر النعمة بمناظرها.
وجملة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} معطوفة على {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}. فهي في موضع الحال أيضا. والضمير عائد إلى أشهر الأنعام عندهم وهي الإبل، كقولها في قصة أم زرع ركب شريا وأخذ خطيا فأراح على نعما ثريا، فإن النعم التي تؤخذ بالرمح هي الإبل لأنها تؤخذ بالغارة.
وضمير {وَتَحْمِلُ} عائد إلى بعض الأنعام بالقرينة. واختيار الفعل المضارع بتكرر ذلك الفعل.
والأثقال: جمع ثقل - بفتحتين - وهو ما يثقل على الناس حمله بأنفسهم.
والمراد بـ {بَلَدٍ} جنس الذي يرتحلون إليه كالشام واليمن بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومنهم أهل مكة في رحلة الصيف والشتاء والرحلة إلى الحج.
(13/84)
وقد أفاد {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} معنى تحملكم وتبلغكم، بطريقة الكناية القريبة من التصريح. ولذلك عقب بقوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}.
وجملة {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} صفة لـ {بَلَدٍ}، وهي مفيدة معنى البعد، لأن بلوغ المسافر إلى بلد بمشقة هو من شان البلد البعيد، أي لا تبلغونه بدون الأنعام الحاملة أثقالكم.
والشق - بكسر الشين - في قراءة الجمهور: المشقة. والباء للملابسة. والمشقة: التعب الشديد.
وما بعد أداة الاستثناء مستثنى من أحوال لضمير المخاطبين.
وقرأ أبو جعفر {إِلَّا بِشَقِّ الْأَنْفُسِ} - بفتح الشين - وهو لغة في الشق المكسور الشين.
وقد نفت الجملة أن يكونوا بالغيه إلا بمشقة، فأفاد ظاهرها أنهم كانوا يبلغونه بدون الرواحل بمشقة وليس مقصودا، إذ كان الحمل على الأنعام مقارنا للأسفار بالانتقال إلى البلاد البعيدة، بل المراد: لم تكونوا بالغيه لولا الإبل أو بدون الإبل، فحذف لقرينة السياق.
وجملة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل لجملة {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} ، أي خلقها لهذه المنافع لأنه رؤوف رحيم بكم.
[8] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
و {الْخَيْلَ} معطوف على {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} [سورة النحل:5] فالتقدير: وخلق الخيل.
والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان والعبرة في كل كالقول فيما تقدم من قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} الآية.
والفعل المحذوف يتعلق به {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، أي خلقها الله لتكونا مراكب للبشر، ولولا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم.
(13/85)
وعطف {وَزِينَةً} بالنصب عطفا على شبه الجملة في {لِتَرْكَبُوهَا}، فجُنِّب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله، لأن فاعله وفاعل عامله واحد، فإن عامله فعل {خَلَقَ} في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} إلى قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} فذلك كله مفعول به لفعل {خَلَقَهَا}.
ولا مرية في أن فاعل جعلها زينة هو الله تعالى، لأن المقصود أنها في ذاتها زينة، أي خلقها تزين الأرض، أو زين بها الأرض، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [سورة الملك:5].
وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل.
وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصرا على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم.
وقد اقتصر على منة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} ، لأنهم لم تكن من عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد، والبغال تركب للمشي والغزو، والحمير تركب للتنقل في القرى وشبهها.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجة الوداع أنه قال:"جئت على حمار أتان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس" الحديث.
وكان أبو سيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه:
خلوا السبيل عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز راكبا حماره ... مستقبل الكعبة يدعو جاره
فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند النعم عليهم، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحرث بالإبل والخيل والبغال والحمير، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم.
أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفا للناس من قبل، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة البقرة. فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم
(13/86)
الأحوال عدا ما خصصه الدليل مما في آية الأنعام [145] {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.
وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلته، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في حالة اضطرار، وآية سورة النحل يومئذ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم.
كما جاء في الصحيح: أنه أتي فقيل له: أكلت الحمر، فسكت، ثم أتي فقيل: أكلت الحمر فسكت. ثم أتي فقيل: أفنيت الحمر فنادي النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر. فأهرقت القدور.
وأن الخيل والبغال والحمير سواء في أن الآية لا تشمل حكم أكلها. فالمصير في جواز أكلها ومنعه إلى أدلة أخرى.
فأما الخيل والبغال ففي جواز أكلها خلاف قوي بين أهل العلم، وجمهورهم أباحوا أكلها. وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ابن الحسن والظاهري. وروي عن ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وعطاء والزهري والنخعي وابن جبير.
وقال مالك وأبو حنيفة: يحرم أكل لحوم الخيل. وروي عن ابن عباس واحتج بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، ولو كانت مباحة الأكل لامتن بأكلها كما امتن في الأنعام بقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [سورة النحل:5]. وهو دليل لا ينهض بمفرده. فيجاب عنه بما قررنا من جريان الكلام على مراعاة عادة المخاطبين به. وقد ثبتت أحاديث كثيرة أن المسلمين أكلوا لحوم الخيل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه. ولكنه كان نادرا في عادتهم.
وعن مالك رضي الله عنه رواية بكراهة لحوم الخيل واختار ذلك القرطبي.
وأما الحمير فقد ثبت أكل المسلمين لحومها يوم خيبر. ثم نهوا عن ذلك كما في الحديث المتقدم. واختلف في محمل ذلك، فحمله الجمهور على التحريم لذات الحمير. وحمله بعضهم على تأويل أنها كانت حمولتهم يومئذ فلو استرسلوا على أكلها لانقطعوا بذلك المكان فآبوا رجالا ولم يستطيعوا حمل أمتعتهم. وهذا رأي فريق من السلف. وأخذ فريق من السلف بظاهر النهي فقالوا بتحريم أكل لحوم الحمر الإنسية لأنها مورد النهي وأبقوا الوحشية على الإباحة الأصلية. وهو قول جمهور الأئمة مالك وأبي حنيفة
(13/87)
والشافعي - رضي الله عنهم - وغيرهم.
وفي هذا إثبات حكم تعبدي في التفرقة وهو مما ر ينبغي المصير إليه في الاجتهاد إلا بنص لا يقبل التأويل كما بيناه في كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية".
على أنه لا يعرف في الشريعة أن يحرم صنف إنسي لنوع من الحيوان دون وحشية.
وأما البغال فالجمهور على تحريمها. فأما من قال بحرمة أكل الخيل فلأن البغال صنف مركب من نوعين محرمين، فتعين أن يكون أكله حراما. ومن قال بإباحة أكل الخيل فلتغليب تحريم أحد النوعين المركب منهما وهو الحمير على تحليل النوع الآخر وهو الخيل. وعن عطاء أنه رآها حلالا.
والخيل: اسم جمع لا واحد له من لفظه على الأصح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} في سورة آل عمران [14].
و {الْبِغَالَ}: جمع بغل. وهو اسم للذكر والأنثى من نوع أمه من الخيل وأبوه من الحمير. وهو من الأنواع النادرة والمتولدة من نوعين. وعكسه البرذون. ومن خصائص البغال عقم أنثاها بحيث لا تلد.
و {الْحَمِيرَ}: جمع تكسير حمار وقد يجمع على أحمرة وعلى حمر. وهو غالب للذكر من النوع، وأما الأنثى فأتان. وقد روعي في الجمع التغليب.
{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
اعتراض في آخر الكلام أو في وسطه على ما سيأتي.
و {وَيَخْلُقُ} مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال، أي هو، الآن يخلق ما لا تعلمون أيها الناس مما هو مخلوق لنفعهم وهم لا يشعرون به، فكما خلق لهم الأنعام والكراع خلق لهم ويخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن، فيدخل في ذلك ما هو غير معهود أو غير معلوم للمخاطبين وهو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة والهنود، وما هو غير معلوم لأحد ثم يعلمه الناس من بعد مثل دواب الجهات القطبية كالفقمة والدب الأبيض. ودواب القارة الأمريكية التي كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن، فيكون المضارع مستعملا في الحال للتجديد، أي هو خالق ويخلق.
ويدخل فيه كما قبل ما يخلقه الله من المخلوقات في الجنة، غير أن ذلك خاص
(13/88)
بالمؤمنين، فالظاهر أنه غير مقصود من سياق الامتنان العام للناس المتوسل به إلى إقامة الحجة على كافري النعمة.
فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتسمى بسكلات، وأرتال السكك الحديدية، والسيارات المسيرة بمصفى النفط وتسمى أطوموبيل، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفى في الهواء. فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها.
وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكل من نعمته.
[9] {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}
جملة معترضة. اقتضت اعتراضها مناسبة الامتنان بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل والخيل والبغال والحمير.
فلما ذكرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتقي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الروحانية وهو سبيل الهدى، فكان تعهد الله بهذه السبيل نعمة أعظم من تيسير المسالك الجثمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية. وهذا السبيل هي موهبة العقل الإنساني الفارق بين الحق والباطل، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحق، وتذكيرهم بما يغفلون عنه، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقة على خطر من التورط في بنيات الطريق.
فالسبيل: مجاز لما يأتيه الناس من الأعمال من حيث هي موصلة إلى دار الثواب أو دار العقاب، كما في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]. ويزيد هذه المناسبة بيانا لما شرحت دلائل التوحيد ناسب التنبيه على أن ذلك طريق للهدى، وإزالة للعذر، وأن من بين الطرق التي يسلكها الناس طريق ضلال وجور.
وقد استعير لتعهد الله بتبيين سبيل الهدى حرف {على} المستعار كثيرا في القرآن وكلام العرب لمعنى التعهد، كقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}. شبه التزام هذا البيان
(13/89)
والتعهد به بالحق والواجب على المحقوق به.
والقصد: استقامة الطريق. وقع هنا وصفا للسبيل من قبيل الوصف بالمصدر، لأنه يقال: طريق قاصد، أي مستقيم، وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة كشأن الوصف بالمصادر، وإضافة {قَصْدُ} إلى {السَّبِيلِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهي صفة مخصصة لأن التعريف في {السَّبِيلِ} للجنس. ويتعين تقدير مضاف لأن الذي تعهد الله به هو بيان السبيل لا ذات السبيل.
وضمير {وَمِنْهَا} عائد إلى {السَّبِيلِ} على اعتبار جواز تأنيثه.
و {جَائِرٌ} وصف لـ {السَّبِيلِ} السبيل باعتبار استعماله مذكرا. أي من جنس السبيل الذي منه أيضا قصد سبيل جائر غير قصد.
والجائر: هو الحائد عن الاستقامة. وكنى به عن طريق غير موصل إلى المقصود، أي إلى الخير، وهو المفضي إلى ضر، فهو جائز بسالكه. ووصفه بالجائر على طريقة المجاز العقلي. ولم يضف السبيل الجائر إلى الله لأن سبيل الضلال اخترعها أهل الضلالة اختراعا لا يشهد له العقل الذي فطر الله الناس عليه، وقد نهى الله الناس عن سلوكها.
وجملة {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} تذييل.
[10] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}
استئناف لذكر دليل آخر من مظاهر بديع خلق الله تعالى أدمج فيه امتنان بما يأتي به ذلك الماء العجيب من المنافع للناس من نعمة الشراب ونعمة الطعام للحيوان الذي به قوام حياة الناس وللناس أنفسهم.
وصيغة تعريف المسند إليه والمسند أفادت الحصر، أي هو لا غيره. وهذا قصر على خلاف مقتضى الظاهر، لأن المخاطبين لا ينكرون ذلك ولا يدعون له شريكا في ذلك، ولكنهم لما عبدوا أصناما لم تنعم عليهم بذلك كان حالهم كحال من يدعي أن الأصنام أنعمت عليهم بهذه النعم، فنزلوا منزلة من يدعي الشركة لله في الخلق، فكان القصر قصر إفراد تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر.
وأنزل الماء من السماء تقدم معناه عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ
(13/90)
بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} في سورة البقرة [22].
وذكر في الماء منّتين: الشراب منه، والإنبات للشجر والزرع.
وجملة {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} صفة لـ {مَاءً}، و {لَكُمْ} متعلق بـ {شَرَابٌ} قدم عليه للاهتمام،
و {مِنْهُ} خبر مقدم كذلك، وتقديمه سوغ أن يكون المبتدأ نكرة.
والشراب: اسم للمشروب، وهو المائع الذي تشتفه الشفتان وتبلغه إلى الحلق فيبلع دون مضغ.
و "من" تبعيضية. وقوله تعالى و {وَمِنْهُ شَجَرٌ} نظير قوله: {مِنْهُ شَرَابٌ} وأعيد حرف "من" بعد واو العطف لأن حرف "من" هنا للابتداء، أو للسببية فلا يحسن عطف {شَجَرٌ} على {شَرَابٌ}.
والشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبا.
وروعي هذا التغليب هنا لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز لقلة الكلأ في أرضهم، فهم يرعون الشعاري والغابات. وفي حديث: "ضالة الإبل تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربذها".
ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف "في" الظرفية، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه والأكل مما تحته من العشب.
والإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي. يقال: سامت الماشية فهي سائمة وأسامها ربذها.
[11] {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
جملة {يُنْبِتُ} حال من ضمير {أنزل} [سورة النحل:10]، أي ينبت الله لكم.
وإنما لم يعطف هذا على جملة {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [سورة النحل:10] لأنه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لا بد معه زرع وغرس.
وهذا الإتيان من دلائل عظيم القدرة الربذانية، فالغرض منه الاستدلال ممزوجا
(13/91)
بالتذكير بالنعمة، كما دل عليه قوله: {لَكُمْ} على وزان ما تقدم في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] الآية، وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8] الآية.
وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيها للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم، ولذلك قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.
وذكر الزرع والزيتون وما معهما تقدم غير مرة في سورة الأنعام.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
وإقحام لفظ "قوم" للدلالة على أن التفكير من سجاياهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} عطف على {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ}، أي وينبت لكم به من الثمرات مما لم يذكر هنا.
والتعريف تعريف الجنس. والمراد: أجناس ثمرات الأرض التي ينبتها الماء، ولكل قوم من الناس ثمرات أرضهم وجوهم. و {مِنْ} تبعيضية قصد منها تنويع الامتنان على كل قوم بما نالهم من نعم الثمرات. وإنما لم تدخل على الزرع وما عطف عليه لأنها من الثمرات التي تنبت في كل مكان.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} تذييل.
والآية: الدلالة على أنه تعالى المبدع الحكيم. وتلك هي إنبات أصناف مختلفة من ماء واحد، كما قال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} في سورة الرعد [4].
ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.
وقرا الجمهور {يُنْبِتُ} بياء الغيبة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بنون العظمة.
(13/92)
[12] {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
آيات أخرى على دقيق صنع الله تعالى وعلمه ممزوجة بامتنان.
وتقدم ما يفسر هذه الآية في صدر سورة يونس. وتسخير هذه الأشياء تقدم عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} في أوائل سورة الأعراف [54] وفي أوائل سورة الرعد وفي سورة إبراهيم.
وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه. وإدماج بين الاستدلال والامتنان. ونيطت الدلالات بوصف العقل لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة، إذ هي دلائل بينة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة.
وتقدم وجه إقحام لفظ "قوم" آنفا، وأن الجملة تذييل.
وقرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لفعل"سخر". وقرأ ابن عامر {وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم} بالرفع على الابتداء ورفع {مُسَخَّرَاتٍ} على أنه خبر عنها. فنكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين. وقرأ حفص برفع {النُّجُومُ} {مُسَخَّرَاتٌ}. ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح والآخر خفي لقلة من يرقب حركات النجوم.
والمراد بأمره أمر التكوين للنظام الشمسي المعروف.
وقد أبدى الفخر في كتاب "درة التنزيل" وجها للفرق بين إفراد آية في المرة الأولى والثالثة وبين جمع آيات في المرة الثانية: بان ما ذكر أول وثالثا يرجع إلى ما نجم من الأرض، فجميعه آية واحدة تابعة لخلق الأرض وما تحتويه "أي وهو كله ذو حالة واحدة وهي حالة النبات في الأرض في الأول وحالة واحدة وهي حالة الذرء في التناسل في الحيوان في الآية الثالثة" وأما ما ذكر في المرة الثانية فإنه راجع إلى اختلاف أحوال الشمس والقمر والكواكب، وفي كل واحد منها نظام يخصه ودلائل تخالف دلائل غيره، فكان ما ذكر في ذلك مجموع آيات "أي لأن بعضها أعراض كالليل والنهار وبعضها أجرام لها أنظمة مختلفة ودلالات متعددة".
[13] {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
(13/93)
يَذَّكَّرُونَ}
عطف على {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [سورة النحل: 12]، أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض. وهو دليل على دقيق الصنع والحكمة لقوله تعالى: {مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. وأومئ إلى ما فيه من منة بقوله {لكم}.
والذرء: الخلق بالتناسل والتولد بالحمل والتفريخ، فليس الإنبات ذرءا، وهو شامل للأنعام والكراع "وقد مضت المنة به" ولغيرها مثل كلاب الصيد والحراسة، وجوارح الصيد، والطيور، والوحوش المأكولة، ومن الشجر والنبات.
وزيد هنا وصف اختلاف ألوانه وهو زيادة للتعجيب ولا دخل له في الامتنان، فهو كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} في سورة الرعد [4]، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌوَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في سورة فاطر [27]. وبذلك صار هذا آية مستقلة فلذلك ذيله بجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، ولكون محل الاستدلال هو اختلاف الألوان مع اتحاد أصل الذرء أفردت الآية في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}.
والألوان: جمع لون. وهو كيفية لسطوح الأجسام مدركة بالبصر تنشأ من امتزاج بعض العناصر بالسطح بأصل الخلقة أو بصبغها بعنصر ذي لون معروف. وتنشأ من اختلاط عنصرين فاكثر ألوان غير متناهية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} في سورة البقرة [69].
ونيط الاستدلال باختلاف الألوان بوصف التذكر لأنه استدلال يحصل بمجرد تذكر الألوان المختلفة إذ هي مشهورة.
وإقحام لفظ "قوم" وكون الجملة تذييلا تقدم آنفا.
وأبدى الفخر في"درة التنزيل" وجها لاختلاف الأوصاف في قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل:11] وقوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة النحل:12] وقوله: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}: بأن ذلك لمراعاة اختلاف شدة الحاجة إلى قوة التأمل بدلالة المخلوقات الناجمة عن الأرض يحتاج إلى التفكير، وهو إعمال المؤدى إلى العلم. ودلالة ما ذرأه في الأرض من الحيوان محتاجة إلى مزيد تأمل في التفكير للاستدلال على اختلاف أحوالها وتناسلها وفوائدها، فكانت بحاجة إلى التذكير، وهو التفكر مع تذكر أجناسها
(13/94)
واختلاف خصائصها. وأما دلالة تسخير الليل والنهار والعوالم العلوية فلأنها أدق وأحوج إلى التعمق. عبر عن المستدلين عليها بأنهم يعقلون، والتعقل هو أعلى أحوال الاستدلال اه.
[14] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
القول في هذا الاستدلال وإدماج الامتنان فيه كالقول فيما سبق.
وتقدم الكلام على تسخير الفلك في البحر وتسخير الأنهار في أثناء سورة إبراهيم.
ومن تسخير البحر خلقه على هيئة يمكن معها السبح والسير بالفلك، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخرة لحيل الصائدين. وزيد في الامتنان أن لحم صيده طري.
و "من" ابتدائية، أي تأكلوا لحما طريا صادرا من البحر.
والطري: ضد اليابس. والمصدر: الطراوة. وفعله: طرو، بوزن خشن.
والحلية: ما يتحلى به الناس، أي يتزينون. وتقدم في قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} في سورة الرعد [17]. وذلك اللؤلؤ والمرجان؛ فاللؤلؤ يوجد في بعض البحار مثل الخليج الفارسي، والمرجان؛ يوجد في جميع البحار ويكثر ويقل. وسيأتي الكلام على اللؤلؤ في سورة الحج، وفي سورة الرحمان. ويأتي الكلام على المرجان في سورة الرحمان.
والاستخراج: كثرة الإخراج، فالسين والتاء للتأكيد مثل: استجاب لمعنى أجاب.
واللبس: جعل الثوب والعمامة والمصوغ على الجسد. يقال: لبس التاج، ولبس الخاتم، ولبس القميص. وتقدم عند قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} في سورة الأعراف [26].
وإسناد لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور تغليب، وإلا فإن غالب الحلية يلبسها النساء عدا الخواتيم وحلية السيوف.
وجملة {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف
(13/95)
لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرا بصيغ كثيرة نحو: ولو ترى، و أرأيت، وماذا ترى. واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحث على معرفة ذلك. فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى ولولاها لكان الكلام هكذا: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فلك مواخر.
وعطف {وَلِتَبْتَغُوا} على {وَتَسْتَخْرِجُوا} ليكون من جملة النعم التي نشأت عن حكمة تسخير البحر. ولم يجعل علة لمخر الفلك كما جعل في سورة فاطر [12] {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} لأن تلك لم تصدر بمنة تسخير البحر بل جاءت في غرض آخر.
وأعيد حرف التعليل في قوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} لأجل البعد بسبب الجملة المعترضة.
والابتغاء من فضل الله: التجارة كما عبر عنها بذلك في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [198].
وعطف {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على بقية العلل لأنه من الحكم التي سخر الله بها البحر للناس حملا لهم على الاعتراف لله بالعبودية ونبذهم إشراك غير به فيها. وهو تعريض بالذين أشركوا.
[15،16] {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان. وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض. ولعل خلقها كان متأخرا عن خلق الأرض، إذ لعل الجبال انبثقت باضطرابات أرضية كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار. وأما السبل والعلامات فتأخر وجودها ظاهر، فصار خلق هذه الأربعة شبيها بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.
ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح
(13/96)
الأرض، كما أن الأمطار تهاطلت فكونت الأنهار؛ فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بينا. وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب. ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة القمر: [25].
و {رَوَاسِيَ} جمع راس. وهو وصف من الرسو بفتح الراء وسكون السين. ويقال بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو. وهو الثبات والتمكن في المكان قال تعالى: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13].
ويطلق على الجبل راس بمنزلة الوصف الغالب. وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس. وهو من النوادر مثل عواذل فوارس. وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد.
وقوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض. والميد: الاضطراب. وضمير {تَمِيدَ} عائد إلى {الأرض} بقرينة قرنه بقوله تعالى: {بِكُمْ}، لأن الميد إذا عدي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقر في الظرف المائد، والاضطراب يعطل مصالح الناس ويلحق بهم آلاما.
ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه. فالكلام جار على حذف تقتضيه القرينة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب، قال عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا. فالعلة هي انتفاء الشتم لا وقوعه. ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النفي بعد {أَنْ}. والتقدير: لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا، وهو الظاهر. ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و {أَنْ}. تقديره: كراهية أن تميد بكم.
وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض. ولعل الله جعل نتوء الجبال على سطح الأرض معدلا لكرويتها بحيث لا تكون بحد من الملاسة يخفف حركتها في الفضاء تخفيفا يوجب شدة اضطرابها.
ونعمة الأنهار عظيمة، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم.
(13/97)
ولهذه المنة الأخيرة عطف عليها {وَسُبُلاً} جمع سبيل. وهو الطريق الذي يسافر فيه برا.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} معترضة، أي رجاء اهتدائكم. وهو كلام موجه. يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق وإقامة المراسي على الأنهار واعتبار المسافات. وكل ذلك من جعل الله تعالى لأن ذلك حاصل بإلهامه. ويصلح للاهتداء إلى الدين الحق وهو دين التوحيد، لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحد بالخلق.
والعلامات: الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البر والبحر فتتبعها السابلة.
وجملة {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} معطوفة على جملة {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}، لأنها في معنى: وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به. وهذه منة بالاهتداء في الليل لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار، وقد يضطر السالك إلى السير ليلا؛ فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس الشائرين ليلا تعرف بها السماوات، وأخص من يهتدي بها البحارة لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرون إلى السير ليلا، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ} تقديما يفيد الاهتمام، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى: {هُمْ يَهْتَدُونَ}.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا يومئ إلى فريق خاص وهم السيارة والملاحون فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير.
والتعريف في "النجم" تعريف الجنس. والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب. وتقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} في سورة الأنعام [97].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى: {هُمْ يَهْتَدُونَ} لمجرد تقوي الحكم، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر وإن تكلفه في"الكشاف".
[17،18] {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
بعد أن أقيمت الدلائل على انفراد الله بالخلق ابتداء من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
(13/98)
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [سورة النحل:3] وثبتت المنة وحق الشكر، فرع على ذلك هاتان الجملتان لتكونا كالنتيجتين للأدلة السابقة إنكارا على المشركين فالاستفهام عن المساواة إنكاري، أي لا يستوي من يخلق بمن لا يخلق. فالكاف للماثلة، وهي مورد الإنكار حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله تعالى. ومن مضمون الصلتين يعرف أي الموصولين أولى بالإلهية فيظهر مورد الإنكار.
وحين كان المراد بمن لا يخلق الأصنام كان إطلاق "من" الغالبة في العاقل مشاكلة لقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ}.
وفرع على إنكار التسوية استفهام عن عدم التذكر في انتفائها. فالاستفهام في قوله: {فَلا تَذَكَّرُونَ} مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين. فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.
وجملة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}. وهي كالتكملة لها لأنها نتيجة لما تضمنته تلك الأدلة من الامتنان كما تقدم. وهي بمنزلة التذييل للامتنان لأن فيها عموما يشمل النعم المذكورة وغيرها.
وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس بحيث لا يستطيع عدها العادون، وإذا كانت كذلك فقد حصل التنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم.
وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم، وتغليظ التهديد لهم. وتقدم نظيرها في سورة إبراهيم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف عقب به تغليظ الكفر والتهديد عليه تنبيها على تمكنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون.
وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم، إذ وقع هنالك {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة ابراهيم:34] لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [سورة ابراهيم:28] فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله.
وأما هذه الآية فقد جاءت خطابا للفريقين كما كانت النعم المعدودة عليهم منتفعا بها
(13/99)
كلاهما.
ثم كان من اللطائف أن وقبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} بوصفين هنا {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى أن تلك النعم كانت سببا لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط الإنسان.
[19] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}. فبعد أن أثبت أن الله منفرد بصفة الخلق دون غيره بالأدلة العديدة ثم باستنساخ ذلك بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} انتقل هنا إلى إثبات أنه منفرد بعموم العلم.
ولم يقدم لهذا الخبر استدلال ولا عقب بالدليل لأنه مما دلت عليه أدلة الانفراد بالخلق، لأن خالق أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة يجب له أن يكون عالما بدقائق حركات تلك الأجزاء وهي بين ظاهر وخفي، فلذلك قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
والمخاطب هنا هم المخاطبون بقوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل:17] وفيه تعريض بالتهديد والوعيد بأن الله محاسبهم على كفرهم.
وفيه إعلام بأن أصنامهم بخلاف ذلك كما دل عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فإنه يفيد القصر لرد دعوى الشركة.
وقرأ حفص {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} بالتحتية فيهما، وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة. وعلى قراءته تكون الجملة أظهر في التهديد منها في قصد التعليم.
[20،21] {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
عطف على جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17] وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [سورة النحل:19].
وما صدق {الَّذِينَ} الأصنام. وظاهر أن الخطاب هنا متمحض للمشركين وهم بعض المخاطبين في الضمائر السابقة.
(13/100)
والمقصود من هذه الجملة التصريح بما استفيد ضمنا مما قبلها وهو نفي الخالقية ونفي العلم عن الأصنام.
فالخبر الأول وهو جملة {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} استفيد من جملة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل:17]. وعطف {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ارتقاء في الاستدلال على انتفاء إلهيتها.
والخبر الثاني وهو جملة {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تصريح بما استفيد من جملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [سورة النحل:19] بطريقة نفي الشيء بنفي ملزومه. وهي طريقة الكناية التي هي كذكر الشيء بدليله. فنفي الحياة عن الأصنام في قوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يستلزم نفي العلم عنها لأن الحياة شرط في قبول العلم، ولأن نفي أن يكونوا يعلمون ما هو من أحوالهم يستلزم انتفاء أن يعلموا أحوال غيرهم بدلالة فحوى الخطاب، ومن كان هكذا فهو غير إله.
وأسند {يُخْلَقُونَ} إلى النائب لظهور الفاعل من المقام، أي وهم مخلوقون لله تعالى، فإنهم من الحجارة التي هي من خلق الله، ولا يخرجها نحت البشر إياها على صور وأشكال عن كون الأصل مخلوقا لله تعالى. كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم - عليه السلام - قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات:96].
وجملة {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} تأكيد لمضمون جملة {أَمْوَاتٌ} ، للدلالة على عراقة وصف الموت فيهم بأنه ليس فيه شائبة حياة لأنهم حجارة.
ووصفت الحجارة بالموت باعتبار كون الموت عدم الحياة. ولا يشترط في الوصف بأسماء الإعدام قبول الموصوفات بها لملكاتها، كما اصطلح عليه الحكماء، لأن ذلك اصطلاح منطقي دعا إليه تنظيم أصول المحاجة.
وقرأ عاصم ويعقوب {يدعون} بالتحتية. وفيها زيادة تبيين لصرف الخطاب إلى المشركين في قراءة الجمهور.
وجملة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} إدماج لإثبات البعث عقب الكلام على إثبات الوحدانية لله تعالى، لأن هذين هما أصل إبطال عقيدة المشركين، وتمهيد لوجه التلازم بين إنكار البعث وبين إنكار التوحيد في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل:22]. ولذلك فالظاهر أن ضميري {يَشْعُرُونَ}
(13/101)
و {يُبْعَثُونَ} عائدان إلى الكفار على طريق الالتفات في قراءة الجمهور، وعلى تناسق الضمائر في قراءة عاصم ويعقوب.
والمقصود من نفي شعورهم بالبعث تهديدهم بان البعث الذي أنكروه واقع وأنهم لا يدرون متى يبغتهم،كما قال تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [سورة الأعراف:187].
والبعث: حقيقته الإرسال من مكان إلى آخر. ويطلق على إثارة الجاثم. ومنه قولهم: بعثت البعير، إذا أثرته من مبركه. ولعله من إطلاق اسم الشيء على سببه. وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت. فمن كان منهم ميتا فبعثه من جدثه، ومن كان منهم حيا فصادفته ساعة انتهاء الدنيا فمات ساعتئذ فبعثه هو إحياؤه عقب الموت، وبذلك لا يعكر إسناد نفي الشعور بوقت البعث عن الكفار الأحياء المهددين. ولا يستقيم أن يكون ضمير {يَشْعُرُونَ} عائدا إلى {الذين تدعون} ، أي الأصنام.
و {أَيَّانَ} اسم استفهام عن الزمان. مركبة من "أي" و "آن" بمعنى أي زمن، وهي معلقة لفعل {يَشْعُرُونَ} عن العمل بالاستفهام، والمعنى: وما يشعرون بزمن بعثهم. وتقدم {أَيَّانَ} في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في سورة الأعراف [187].
[22،23] {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}
استئناف نتيجة لحاصل المحاجة الماضية، أي قد ثبت بما تقدم إبطال إلهية غير الله، فثبت أن لكم إلها واحدا لا شريك له، ولكون ما مضى كافيا في إبطال إنكارهم الوحدانية عريت الجملة عن المؤكد تنزيلا لحال المشركين بعدما سمعوا من الأدلة منزلة من لا يظن به أنه يتردد في ذلك بخلاف قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} في سورة الصافات، لأن ذلك ابتداء كلام لم يتقدمه دليل، كما أن قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} في سورة البقرة [163] خطاب لأهل الكتاب.
وتفرع عليه الإخبار بجملة {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} ، وهو تفريع الأخبار عن الأخبار، أي يتفرع على هذه القضية القاطعة بما تقدم من الدلائل أنكم قلوبكم منكرة وأنتم مستكبرون وأن ذلك ناشئ عن عدم إيمانكم بالآخرة.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته "الذين لا يؤمنون بالآخرة" لأنهم قد عرفوا
(13/102)
بمضمون الصلة واشتهروا بها اشتهار لمز وتنقيص عند المؤمنين، كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [سورة الفرقان:21]، وللإيماء إلى أن لهذه الصلة ارتباطا باستمرارهم على العناد. لأن انتفاء إيمانهم بالبعث والحساب قد جرأهم على نبذ دعوة الإسلام ظهريا فلم يتوقعوا مؤاخذة على نبذها، على تقدير أنها حق فينظروا في دلائل أحقيتها مع أنهم يؤمنون بالله ولمنهم لا يؤمنون بأنه أعد للناس يوم جزاء على أعمالهم.
ومعنى {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} جاحدة بما هو واقع. استعمل الإنكار في جحد الأمر الواقع لأنه ضد الإقرار. فحذف متعلق {مُنْكِرَةٌ} لدلالة المقام عليه، أي منكرة للوحدانية.
وعبر بالجملة الاسمية {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلة. وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجية وتمكن من نفوسهم لأنهم ضروا به من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصر في العواقب.
وكذلك جملة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} بنيت على الاسمية للدلالة على تمكن الاستكبار منهم. وقد خولف ذلك في آية سورة الفرقان {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [ الفرقان: من الآية21] لأن تلك الآية لم تتقدمها دلائل على الوحدانية مثل الدلائل المذكور في هذه الآية.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والجرم بالتحريك: أصله البد. وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حقا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في سورة هود [22 ]
وقوله {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} في موضع جر بحرف جر محذوف متعلق ب {جَرَمَ}. وخبر "لا" النافية محذوف لظهوره، إذ التقدير: لا جرم موجود. وحذف الخبر في مثله كثير. والتقدير: لا جرم في أن الله يعلم أو لا جرم من أنه يعلم، أي لا بد أنه يعلم، أي لا بد من علمه، أي لا شك في ذلك.
وجملة {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} خبر مستعمل كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرها بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرها مؤاخذة عقاب وانتقام، فلذلك عقب بجملة {إِنَّهُ لا يُحِبُّ
(13/103)
الْمُسْتَكْبِرِينَ} الواقعة موقع التعليل والتذييل لها، لأن الذي لا يحب فعلا وهو قادر يجازي فاعله بالسوء.
والتعريف في {الْمُسْتَكْبِرِينَ} للاستغراق، لأن شأن التذييل العموم. ويشمل هؤلاء المتحدث عنهم فيكون إثبات العقاب لهم كإثبات الشيء بدليله.
[24, 25] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عطف على جملة {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل:22] لأن مضمون هذه من أحوالهم المتقدم بعضها، فإنه ذكر استكبارهم وإنكارهم الوحدانية، وأتبع بمعاذيرهم الباطلة لإنكار نبوع محمد صلى الله عليه وسلم وبصدهم الناس عن اتباع الإسلام. والتقدير: قلوبهم منكرة ومستكبرة فلا يعترفون بالنبوة ولا يخلون بينك وبين من يتطلب الهدى مضلون للناس صادونهم عن الإسلام.
وذكر فعل القول يقتضي صدوره عن قائل يسألهم عن أمر حدث بينهم وليس على سبيل الفرض، وأنهم يجيبون بما ذكر مكرا بالدين وتظاهرا بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين بقرينة قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
و {إِذَا} ظرف مضمن معنى الشرط. وهذا الشرط يؤذن بتكرر هذين القولين. وقد ذكر المفسرون أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس، وأخذ أتباع الإسلام يكثرون، وصار الواردون إلى مكة في موسم الحج وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن، وماذا يدعو إليه، دبر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقا يختلفونه ليقنعوا السائلين به، فندب منهم ستة عشر رجلا بعثهم أيام الموسم يقعدون في عقبات مكة وطرقها التي يرد منها الناس، يقولون لمن سألهم لا تغتروا بهذا الذي يدعي أنه نبي فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها. وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحجر. وكان النضر بن الحارث يقول: "أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد أحاديث رستم وإسفنديار." وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} سورة الأنعام: [93].
(13/104)
ومساءلة العرب عن بعث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة واقعة. وأصرحها ما رواه البخاري عن أبي ذر أنه قال: "كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي أنيس: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك? فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر. فقلت: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد..." إلى آخر الحديث.
وسؤال السائلين لطلب الخبر عن المنزل من الله يدل على أن سؤالهم سؤال مسترشد عن دعوى بلغتهم وشاع خبرها في بلاد العرب، وأنهم سألوا عن حسن طوية، ويصوغون السؤال عن الخبر كما بلغتهم دعوته.
وأما الجواب فهو جواب بليغ تضمن بيان نوع هذا الكلام، وإبطال أن يكون منزلا من عند الله لأن أساطير الأولين معروفة والمنزل من عند الله شأنه أن يكون غير معروف من قبل.
و {مَاذَا} كلمة مركبة من "ما" الاستفهامية واسم الإشارة، ويقع بعدها فعل هو صلة لموصول محذوف ناب عنه اسم الإشارة. والمعنى: ما هذا الذي أنزل.
و "ما" يستفهم بها عن بيان الجنس ونحوه. وموضعها أنها خبر مقدم. وموضع اسم الإشارة الابتداء. والتقدير: هذا الذي أنزل ربكم ما هو. وقد تسامح النحويون فقالوا: إن "ذا" من قولهم "ماذا" صارت اسم موصول. وتقدم عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} في سورة البقرة [215].
و {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه ما في السؤال. والتقدير: هو أساطير الأولين، أي المسؤول عنه أساطير الأولين.
ويعلم من ذلك أنه ليس منزلا من ربهم لأن أساطير الأولين لا تكون منزلة من الله كما قلناه آنفا. ولذلك لم يقع {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} منصوبا لأنه لو نصب لاقتضى التقدير: أنزل أساطير الأولين، وهو كلام متناقض. لأن أساطير الأولين السابقة لا تكون الذي أنزل الله الآن.
والأساطير: جمع أسطار الذي هو جمع سطر. فأساطير جمع الجمع. وقال المبرد: جمع أسطورة بضم الهمزة كأرجوحة. وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة. وهذا الذي
(13/105)
ذكره المبرد أولى لأنها أساطير في الأكثر يعني بها القصص لا كل كتاب مسطور. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة الأنعام [25].
واللام في {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} تعليل لفعل {قالوا} ، وهي غاية وليست بعلة لأنهم لما قالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} لم يريدوا أن يكون قولهم سببا لأن يحملوا أوزار الذين يضلونهم، فاللام مستعملة مجازا في العاقبة مثل {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص: 8]
والتقدير: قالوا ذلك القول كحال من يغرى على ما يجر إليه زيادة الضر إذ حملوا بذلك أوزار الذين يضلونهم زيادة على أوزارهم.
والأوزار: حقيقتها الأثقال. جمع وزر - بكسر الواو وسكون الزاي - وهو الثقل. واستعمل في الجرم والذنب، لأنه يثقل فاعله عن الخلاص من الألم والعناء، فأصل ذلك استعارة بتشبيه الجرم والذنب بالوزر. وشاعت هذه الاستعارة، قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} في سورة الأنعام [31]. كما يعبر عن الذنوب بالأثقال قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [سورة العنكبوت:13].
وحمل الأوزار تمثيل لحالة وقوعهم في تبعات جرائمهم بحالة حامل الثقل لا يستطيع تفصيلا منه، فلما شبه الإثم بالثقل فأطلق عليه الوزر شبه التورط في تبعاته بحمل التقل على طريقة التخييلية، وحصل من الاستعارتين المفرقتين استعارة تمثيلية للهيئة كلها. وهذا من أبدع التمثيل أن تكون الاستعارة التمثيلية صالحة للتفريق إلى عدة تشابيه أو استعارات.
وإضافة الأوزار إلى ضمير "هم" لأنهم مصدرها.
ووصفت الأوزار بـ {كَامِلَةً} تحقيقا لوفائها وشدة ثقلها ليسري ذلك إلى شدة ارتباكهم في تبعاتها إذ هو المقصود من إضافة الحمل إلى الأوزار.
و {وَمِنْ} في قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} للسببية متعلقة بفعل محذوف دل عليه حرف العطف وحرف الجر بعده إذ لا بد لحرف الجر من متعلق. وتقديره: ويحملوا. ومفعول الفعل محذوف دل عليه مفعول نظيره. والتقدير: ويحملوا أوزارا ناشئة عن أوزار الذين يضلونهم، أي ناشئة لهم عن تسببهم في ضلال المضللين - بفتح اللام -
(13/106)
فإن تسببهم في الضلال يقتضي مساواة المضلل للضال في جريمة الضلال، إذ لولا إضلاله إياه لاهتدى بنظره أو بسؤال الناصحين. وفي الحديث الصحيح "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".
و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} في موضع الحال من ضمير النصب في {يُضِلُّونَهُمْ}، أي يضلون ناسا غير عالمين يحسبون إضلالهم نصحا. والمقصود من هذا الحال تفظيع التضليل لا تقييده فإن التضليل لا يكون إلا عن عدم علم كلا أو بغضا.
وجملة {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} تذييل. افتح بحرف التنبيه اهتماما بما تتضمنه للتحذير من الوقوع فيه أو للإقلاع عنه.
[26] {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُِ من فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
لما ذكر عاقبة إضلالهم وصدهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكروا برسلهم.
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل: 24] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمي ذلك مكرا بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضر بالغير في صورة تمويهه بالنصح والنفع، فنظر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم فرعون، قال تعالى في قوم صالح: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل:50] الآية، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123].
فالتعريف بالموصول في قوله تعالى {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مساو للتعريف بلام الجنس.
ومعنى {أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ } استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه، ومنه قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: من الآية].
(13/107)
وقوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوة والعزة والمنعة وعلو القدر.
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام. قال عبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وقالت سعدة أم الكميت بن معروف:
بنى لك معروف بناء هدمته ... وللشرف العادي بان وهادم
و {مِنَ الْقَوَاعِدِ} متعلق بـ {أَتَى} و {مِنَ} ابتدائية، ومجرورها هو مبدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال، فهو في معنى هدمه.
و {الْقَوَاعِدِ}: الأسس والأساطين التي تجعل عمدا للبناء يقام عليها السقف. وهو تخييل أو ترشيح، إذ ليس في الكلام شيء يشبه بالقواعد.
والخرور: السقوط والهوي، ففعل خر مستعار لزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: من الآية2].
و {السَّقْفُ}: حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت، يجعل على الجدران وتكون من حجر ومن أعواد، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء.
و {من فَوْقِهِمْ} تأكيد لجملة {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُِ}.
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركب الاستعارة التمثيلية. وهي تشبيه هيئة القوم الذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزة بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخر سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعا. فهذا من إبداع التمثيلية لأنها تنحل إلى عدة استعارات.
وجملة {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} عطف على جملة {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}. وأل في {الْعَذَابُ} للعهد فهي مفيدة مضمون قوله {من فَوْقِهِمْ} مع زيادة قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}. فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن المؤكدة أن لا تعطف. والمعنى: أن العذاب المذكور حل بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فجأة أشد نكاية لما يصحبه من الرعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجا فإن
(13/108)
النفس تتلقاه بصبر.
[27] {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} عطف على {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل:25]، لأن ذلك وعيد لهم وهذا تكملة له.
وضمير الجمع في قوله تعالى: {يُخْزِيهِمْ} عائد إلى ما عاد إليه الضمير المجرور باللام في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: من الآية24]. وذلك عائد إلى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، فإن خزي الآخرة أعظم من استئصال نعيم الدنيا.
والخزي: الإهانة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} [البقرة: من الآية85].
وتقديم الظرف للاهتمام بيوم القيامة لأنه يوم الأحوال الأبدية فما فيه من العذاب مهول للسامعين.
و {أَيْنَ} للاستفهام عن المكان، وهو يقتضي العلم بوجود من يحل في المكان. ولما كان المقام هنا مقام تهكم كان الاستفهام عن المكان مستعملا في التهكم ليظهر لهم كالطماعية للبحث عن آلهتهم، وهم علموا أن لا وجود لهم ولا مكان لحلولهم.
وإضافة الشركاء إلى ضمير الجلالة زيادة في التوبيخ، لأن مظهر عظمة الله تعالى يومئذ للعيان ينافي أن يكون له شريك، فالمخاطبون عالمون حينئذ بتعذر المشاركة.
والموصول من قوله تعالى: {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} للتنبيه على ضلالهم وخطئهم في ادعاء المشاركة مثل الذي في قول عبدة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
والمشاقة: المشادة في الخصومة. كأنها خصومة لا سبيل معها إلى الوفاق، إذ قد صار كل خصم في شق غير شق الآخر.
(13/109)
وقرأ نافع {تُشَاقُّونَ} بكسر النون على حذف ياء المتكلم، أي تعاندونني، وذلك بإنكارهم ما أمرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقرأ البقية {تُشَاقُّونَ} بفتح النون وحذف المفعول للعلم، أي تعاندون من يدعوكم إلى التوحيد.
و "في" للظرفية المجازية مع حذف مضاف، إذ المشاقة لا تكون في الذوات بل في المعاني. والتقدير: في إلهيتهم أو في شانهم.
{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
جملة ابتدائية حكت قول أفاضل الخلائق حين يسمعون قول الله تعالى على لسان ملائكة العذاب: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
وجيء بجملة {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} غير معطوفة لأنها واقعة موقع الجواب لقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} للتنبيه على أن الذين أوتوا العلم ابتدروا الجواب لما وجم المشركون فلم يحيروا جوابا، فأجاب الذين أوتوا العلم جوابا جامعا لنفي أن يكون الشركاء المزعومون مغنين عن الذين أشركوا شيئا، وأن الخزي والسوء أحاطا بالكافرين.
والتعبير بالمضي لتحقيق وقوع القول.
والذين أوتوا العلم هم الذين آتاهم الله علم الحقائق من الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- والمؤمنون، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: من الآية56]، أي يقولون في ذلك الموقف من جراء ما يشاهدوا من مهيأ العذاب للكافرين كلاما يدل على حصر الخزي والضر يوم القيامة في الكون على الكافرين. وقد قصر ادعائي المعرف بلام الجنس على حد النهاية في جنسه حتى كأن غيره من جنسه ليس من ذلك الجنس.
وتأكيد الجملة بحرف التوكيد وبصيغة القصر والإتيان بحرف الاستعلاء الدال على تمكن الخزي والسوء منهم يفيد معنى التعجب من هول ما أعد لهم.
[28, 29] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
(13/110)
القرينة ظاهرة على أن قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة، إذ لا مناسبة لأن يعرف الكافرون يوم القيامة بأنهم الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فإن صيغة المضارع في قوله تعالى {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} قريبة من الصريح في أن هذا التوفي محكي في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر تلك يومئذ، فالوجه أن يكون هذا كلاما مستأنفا.
وعن عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم اسلموا مكة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا ببدر.
فالوجه أن {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} بدل من {الَّذِينَ} في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النحل: من الآية22] أو صفة لهم، كما يومئ إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبرين في قوله تعالى: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فهم الذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى: {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل لآية22]، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتابع فاجعل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} خبرا لمبتدأ محذوف. والتقدير: هم الذين تتوفاهم الملائكة.
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كل مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام. أخبر عنه وحدث عن شأنه، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتبع فيه الاستعمال. ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: من الآية32] فإنه صفة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: من الآية30] فهذه نظيره.
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشرك؛ فيعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حل بهم الاستئصال وما يحل بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدنيا والآخرة، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك.
وأطبق من تصدى لربطه بما قبله من المفسرين، على جعل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية بدلا من {الْكَافِرِينَ} في قوله تعالى: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة النحل:27] أو صفة له. وسكت عنه صاحب "الكشاف " "وهو سكوت من ذهب ". وقال الخفاجي: وهو يصح فيه أن يكون مقولا للقول وغير مندرج تحته. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ} مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله وخبره في قوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} [ سورة النحل:28] ا هـ.
(13/111)
واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة. وقرأ حمزة وخلف {يَتَوَفَّاهُمُ} بالتحتية على الأصل.
وظلم النفس: الشرك.
والإلقاء: مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلة. شبه بإلقاء السلاح على الأرض، ذلك أنهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم.
والسلم - بفتح السين وفتح اللام - الاستسلام. وتقدم الإلقاء والسلم عند قوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} في سورة النساء [90]. وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} في أول هذه السورة [15].
ووصفهم بـ {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} يرمي إلى أن توفي الملائكة إياهم ملابس لغلظة وتعذيب، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [سورة الأنفال:50].
وجملة {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} مقول قول محذوف دل عليه {أَلْقَوُا السَّلَمَ}، لأن إلقاء السلم أول مظاهره القول الدال على الخضوع. يقولون ذلك للملائكة الذين ينتزعون أرواحهم ليكفوا عنهم تعذيب الانتزاع، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجربونهم بالعذاب ليطلعوا على دخيلة أمرهم، فيحسبون أنهم إن كذبوهم راج كذبهم على الملائكة فكفوا عنهم العذاب، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءا من قبل.
ولذلك فجملة {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} جواب الملائكة لهم، ولذلك افتتحت بالحرف الذي يبطل به النفي وهو {بَلَى}. وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}، وكناية على أنهم ما عاملوهم بالعذاب إلا بأمر من الله تعالى العالم بهم.
وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا: إنا نعلم ما كنتم تعملون، أدبا مع الله وإشعارا بأنهم ما علموا ذلك إلا بتعليم من الله تعالى.
وتفريع {فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} على إبطال نفيهم عمل السوء ظاهر، لأن إثبات كونهم كانوا يعملون السوء يقتضي استحقاقهم العذاب، وذلك عندما كشف لهم عن مقرهم الأخير، كما جاء في الحديث: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".
(13/112)
ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50].
وجملة {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} تذييل.يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة،والأظهر أنه من كلام الله الحكاية لا من المحكي، ووصفهم بالمتكبرين يرجح ذلك، فإنه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل:22]. واللام الداخلة على "بئس" لام القسم.
والمثوى. المرجع. من ثوى إذا رجع، أو المقام من ثوى إذا أقام وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في سورة الأنعام [128].
ولم يعبر عن جهنم بالدار كما عبر عن الجنة فيما يأتي بقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [سورة النحل:30] تحقيرا لهم وأنهم ليسوا في جهنم بمنزلة أهل الدار بل هم متراصون في النار وهم في مثوى، أي محل ثواء.
[30،31] {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً}
لما افتتحت صفة سيئات الكافرين وعواقبها بأنهم إذا قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [سورة النحل:24] قالوا: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصة الكافرين، فجاء النظير بين القصتين في أبدع نظم.
وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطرادا. ولم يقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}، لأن قولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائله وأن يرعوي إلى الحق وأن لا يجمع عليه القائلون، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرر ذلك للدلالة على إصرارهم على الكفر، بخلاف ما هنا فإن الصدق مظنة استمرار قائله عليه فليس بحاجة إلى التنبيه على تكرار منه.
والذين اتقوا: هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه. والمراد بهم
(13/113)
المؤمنون المعهودون في مكة، فالموصول للعهد.
والمعنى أن المؤمنين سئلوا عن القرآن، ومن جاء به، فأرشدوا السائلين ولم يترددوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه، وهو كلمة {خَيْراً} المنصوبة، فإن شامل لكل خير في الدنيا وكل خير في الآخرة، ونصبها دال على أنهم جعلوها معمولة لـ {أَنْزَلَ} الواقع في سؤال السائلين، فدل النصب على أنهم مصدقون بأن القرآن منزل من عند الله، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24] بالرفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} بالنصب. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}
مستأنفة ابتدائية، وهي كلام من الله تعالى مثل نظيرها في آية {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ} في سورة الزمر [10]، وليست من حكاية قول الذين اتقوا.
والذين أحسنوا: هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصيلا بالإتيان بالموصول إلى وجه بناء الخبر، أي جزاءهم حسنة لأنهم أحسنوا.
وقوله تعالى: {هَذِهِ الدُّنْيَا} يجوز أن يتعلق بفعل {أَحْسَنُوا}. ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا حالا من {حَسَنَة}. وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة التوسيط.
ومعنى {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} أنها خير لهم من الدنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن، فكما كان للذين كفروا عذاب الدنيا وعذاب جهنم كان للذين اتقوا خير الدنيا وخير الآخرة. فهذا مقابل قوله تعالى في حق المشركين {ليحملوا أوزارهم كاملة} [سورة النحل:25] وقوله تعالى: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النحل:26].
وحسنة الدنيا هي الحياة الطيبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان.
(13/114)
وخير الآخرة هو النعيم الدائم، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل:97].
وقوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مقابل قوله تعالى في ضدهم {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة النحل:29].
وقد تقدم آنفا وجه تسمية جهنم مثوى والجنة دارا.
و "نِعم" فعل مدح غير متصرف، ومرفوعه فاعل دال على جنس الممدوح، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمى المخصوص بالمدح، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدإ. فإذا تقدم ما يدل على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا، فإن تقدم {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} دل على أن المخصوص بالمدح هو دار الآخرة. والمعنى: ولنعم دار المتقين دار الآخرة.
وارتفع {جَنَّاتُ عَدْنٍ} على أنه خبر لمبتدإ محذوف مما حذف فيه المسند إليه جريا على الاستعمال في مسند إليه جرى كلام عليه من قبل، كما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النحل:29]. والتقدير: هي جنات عدن، أي دار المتقين جنات عدن.
وجملة {يَدْخُلُونَهَا} حال من { الْمُتَّقِينَ}. والمقصود من ذكره استحضار تلك الحالة البديعة حالة دخولهم لدار الخير والحسنى والجنات.
وجملة {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} حال ضمير من ضمير الرفع في {يَدْخُلُونَهَا}. ومضمونها مكمل لما في جملة {يَدْخُلُونَهَا} من استحضار الحالة البديعة.
وجملة {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} مستأنفة، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتنويه به. وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبه به جزاء المتقين. والتقدير: يجزي الله المتقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه. وهو تذييل لأن التعريف في {الْمُتَّقِينَ} للعموم.
[32] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
مقابل قوله في أضدادهم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}، فما قيل في
(13/115)
مقابلة يقال فيه.
وقرأ الجمهور {تَتَوَفَّاهُمُ} بفوقيتين، مثل نظيره. وقرأه حمزة وخلف بتحية أولى كذلك.
والطيب: بزنة فيعل، مثل قيم وميت، وهو مبالغة في الاتصاف بالطيب وهو حسن الرائحة. ويطلق على محاسن الأخلاق وكمال النفس على وجه المجاز المشهور فتوصف به المحسوسات كقوله تعالى: {حَلالاً طَيِّباً} [سورة البقرة:168] والمعاني والنفسيات كقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [سورة الزمر:73]. وقولهم: طبت نفسا. ومنه قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سورة الأعراف:58]. وفي الحديث: "إن الله طيب لا يقبل ألا طيبا" أي مالا طيبا حلالا. فقوله تعالى هنا {طَيِّبِينَ} يجمع كل هذه المعاني، أي تتوفاهم الملائكة منزهين من الشرك مطمئني النفوس. وهذا مقابل قوله في أضدادهم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النحل:28].
وجملة {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} حال من {الْمَلائِكَةُ} وهي حال مقارنة لـ {تَتَوَفَّاهُمُ}، أي يتوفونهم مسلمين عليهم، وهو سلام تأنيس وإكرام حين مجيئهم ليتوفوهم، لأن فعل {تَتَوَفَّاهُمُ} يبتدئ من وقت حلول الملائكة إلى أن تنتزع الأرواح وهي حصة قصيرة.
وقولهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو مقابل قولهم لأضدادهم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [سورة النحل:28،29]. والقول في الأمر بالدخول للجنة حين التوفي كالقول في ضده المتقدم آنفا. وهو هنا نعيم المكاشفة.
[33،34] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
استئناف بياني ناشئ عن جملة {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد:42] لأنها تثير سؤال من يسأل عن إبان حلول العذاب على هؤلاء كما حل بالذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلا أحد أمرين هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحق عليهم الوعيد المتقدم، أو أن يأتي أمر الله. والمراد به الاستئصال المعرض بالتهديد في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [سورة النحل:26].
(13/116)
والاستفهام إنكاري في معنى النفي، ولذلك جاء بعد الاستثناء.
و {يَنْظُرُونَ} هنا بمعنى الانتظار وهو النظرة. والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرا بتحقيق الوعيد وعدم استبطائه وتعريضا بالمشركين بالتحذير من اغترارهم بتأخر الوعيد وحثا لهم على المبادرة بالإيمان.
وإسناد الانتظار المذكور إليهم على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيلهم منزلة من ينتظر أحد الأمرين، لأن حالهم من الإعراض عن الوعيد وعدم التفكر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مع ظهور تلك الدلائل وإفادتها التحقق كحال من أيقن حلول أحد الأمرين به فهو يترقب أحدهما، كما تقول لمن لا يأخذ حذره من العدو: ما تترقب أن تقع أسيرا. ومنه قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة يونس:102] وقوله تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [سورة القصص:19]. وهذا قريب من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وما هو بذلك.
وجملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تنظير بأحوال الأمم الماضية تحقيقا للغرضين.
والإشارة إلى الانتظار المأخوذ من {يَنْظُرُونَ} المراد منه الإعراض والإبطاء، أي كإبطائهم فعل الذين من قبلهم، أن يأخذهم العذاب بغتة كما أخذ الذين من قبلهم. وهذا التحذير لهم وقد رفع الله عذاب الاستئصال عن أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - ببركته ولإرادته انتشار دينه.
و {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} هم المذكورون في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد:42].
وجملة {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} معترضة بين جملة {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وجملة {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}.
ووجه هذا الاعتراض أن التعرض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان من عاقبتهم وهو استئصالهم، فعقب بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي فيما أصابهم.
ولما كان هذا الاعتراض مشتملا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز. وتقدير
(13/117)
أصله: كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله. ففي تغيير الأسلوب المتعارف تشويق إلى الخبر، وتهويل له بأنه ظلم أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيترقب السامع خبرا مفظعا وهو {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}.
وإصابة السيئات إما بتقدير مضاف، أي أصابهم جزاؤها، أو جعلت أعمالهم السيئة كأنها هي التي أصابتهم لأنها سبب ما أصابهم، فهو مجاز عقلي.
و {حاق}: أحاط. والحيق: الإحاطة. ثم خص الاستعمال الحيق بالإحاطة الشر. وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} في أوائل سورة الأنعام [10].
و {مَا} موصولة، ما صدقها العذاب المتوعدون به. والباء في {به} للسببية. وهو ظرف مستقر هو صفة لمفعول مطلق. والتقدير: الذي يستهزئون استهزاء بسببه، أي بسبب تكذيبهم وقوعه. وهذا استعمال في مثله. وقد تكرر في القرآن، من ذلك ما في سورة الأحقاف، وليست الباء لتعدية فعل {يَسْتَهْزِئُونَ}. وقدم المجرور على عامل موصوفه للرعاية على الفاصلة.
[35] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
عطف قصة على قصة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم.
وذلك أنهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم، وإنه لا يرضى بان يعبد ما سواه، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى الله عليه وسلم وحاجوه فقالوا له: لو شاء الله أن لا تعبد أصناما لما أقدرنا على عبادتها، ولو شار أن لا نحرم ما حرمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرنا على تحريم ذلك. وذلك قصد إفحام وتكذيب.
وهذا رده الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما علموه لما عاقبهم بالاستئصال، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى:
(13/118)
{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ثم بقطع المحاجة بقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، أي وليس من شأن الرسل - عليهم السلام - المناظرة مع الأمة.
وقال في سورة الأنعام [148] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}، فسمى قولهم هذا تكذيبا كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجة أساءوا الفهم فيها، فهم يحسبون أن الله يتولى تحريك الناس لأعمالهم كما يحرك صاحب خيال الظل ومحرك اللعب أشباحه وتماثيله، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم. وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف، وتخليط بين الرضى والإرادة، ولولا هذا التخليط لكان قولهم إيمانا.
والإشارة بـ {كَذَلِكَ} إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم، أي كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل:26] وبقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [سورة النحل:33]. والمقصود: أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضيا لله لما أهلكهم، فهلا استدلوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.
وضمير {نَحْنُ} تأكيد للضمير المتصل في {عَبَدْنَا}. وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتصل. وإعادة حرف النفي في قوله تعالى: {وَلا آبَاؤُنَا} لتأكيد {ما} النافية.
وقد فرع على ذلك قطع المحاجة معهم وإعلامهم أن الرسل عليهم السلام ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرسل السالفين. وليس الرسل بمكلفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكك بهم والإغاظة لهم.
والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ. والمبين: الموضح الصريح.
والاستفهام بـ {هل} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء الاستثناء عقبه.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن للرسول غرضا شخصيا فيما يدعو إليه.
(13/119)
وأثبت الحكم لعموم الرسل - عليهم السلام - وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلا للمحاجة، فتفيد ما هو أعم من المردود.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعليما وتسلية. ويتضمن تعريضا بإبلاغ المشركين.
[36] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
عطف على جملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النحل:35]. وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالا بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجة، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} بيان لمضمون جملة {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وجملة {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} إلى آخرها بيان لمضمون جملة {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
والمعنى: أن الله بين للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام، فمن كل أمة أقوام هداهم الله فصدقوا وآمنوا، ومنهم أقوام تمكنت منهم الضلالة فهلكوا. ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم.
و {أن} تفسيرية لجملة {بَعَثْنَا} لأن البعث يتضمن معنى القول، إذ هو بعث للتبليغ.
و {الطَّاغُوتَ}: جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام. وقد يذكرونه بصيغة الجمع، فيقال: الطواغيت، وهي الأصنام. وتقدم عند قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء [50].
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيها للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} بأن الله بين لهم الهدى، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه، فهو الهادي لهم.
والتعبير في جانب الضلالة بلفظ "حقت عليهم" دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة "فحقت عليهم الضلالة" ، أي ثبتت ولم ترتفع.
(13/120)
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم، ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضل الضالين، كما في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [سورة الأنعام:125]، وقوله عقب هذا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [سورة النحل:37] على قراءة الجمهور، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كون أسبابا عديدة بعضها جاء من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض، وبعضها تابع للدعوات الضالة بحيث تهيأت من اجتماع أمور شتى لا يحصيها إلا الله، أسباب تامة تحول بين الضال وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حق الضلالة عليهم، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور، فافهم.
ثم فرع على ذلك الأمر بالسير في الأرض لينتظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد، ولذلك كان الاستدلال بها متوقفا على السير في الأرض، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السلف الأوائل.
[37] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
استئناف بياني، لأن تقسيم كل أمة ضالة إلى مهتد منها وباق على الضلال يثير سؤالا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذه الأمة: أهو جار على حال الأمم التي قبلها، أو أن الله يهديهم جميعا. وذلك من حرصه على خبرهم ورأفته بهم، فاعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلالة.
وفي الآية لطيفتان:
الأولى: التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شانه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.
واللطيفة الثانية: الإيماء إلى أن غالب أمة الدعوة المحمدية سيكونوا مهتدين وأن الضلال منهم فئة قليلة، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيأت لهم البقاء في الضلال.
(13/121)
والحرص: فرط الإرادة الملحة في تحصيل المراد بالسعي في أسبابه.
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه الناس، كما قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [سورة التوبة:128]؛ وإنما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط. فالمعنى: إن كنت حريصا على هداهم حرصا مستمرا فاعلم أن من أضله الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد. فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير، كقول عنترة:
إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضا:
إن كنت أومعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم
فإن فعل الشرط في البيتين في معنى: إن كان ذلك تصميما، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم.
وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسم الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر. والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلا إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك، فمن قدر الله دوام ضلاله فلا هادي له. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدث عنهم بان يقال: فإنهم لا يهديهم غير الله.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {لا يُهْدَي} - بضم الياء وفتح الدال - مبنيا للنائب. وحذف الفاعل للتعميم، أي لا يهديه هاد.
و {مَنْ} نائب فاعل، وضمير {يُضِلُّ} عائد إلى الله، أي فإن الله لا يهدى المضلل - بفتح اللام - منه. فالمسند سببي وحذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] وقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له}
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف {لا يَهْدِي} - بفتح الياء - بالبناء للفاعل، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل،و {مَنْ} مفعول {يَهْدِي}، والضمير في {يُضِلُّ} لله والضمير السببي أيضا محذوف، والمعنى: أن الله لا يهدي من قدر دوام ضلاله، كقوله
(13/122)
تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] إلى قوله: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
ومعنى {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال.
[39] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم، واستدلال من أدلة تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به إظهار لدعوته في مظهر المحال، وذلك إنكارهم الحياة الثانية والبعث بعد الموت. وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النحل:22].
والقسم على نفي البعث أرادوا به الدلالة على يقينهم بانتفانه.
وتقدم القول {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} عند قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في سورة العقود} [ 53].
وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه لأنهم توهموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة، وقد رأوا أجساد الموتى معرضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت.
وجملة {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} عطف بيان لجملةَ {أَقْسَمُوا} وهي ما أقسموا عليه.
والبعث تقدم آنفا في قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
والعدول عن "الموتى" إلى {مَنْ يَمُوتُ} لقصد إيذان الصلة بتعليل نفي البعث، فإن الصلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على علية الاشتقاق، فهم جعلوا الاضمحلال منافيا لإعادة الحياة، كما حكي عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67].
و {بَلَى} حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام، أي بل يبعثهم الله. وانتصب {وَعْداً} على المفعول المطلق مؤكدا لما دل عليه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت. ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكدا لنفسه، أي مؤكدا لمعنى فعل هو
(13/123)
عين معنى المفعول المطلق.
و {عليه} صفة لـ {وَعْداً}، أي وعدا كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف. ففي الكلام استعارة مكنية. شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحق الواجب عليه ورمز إليه بحرف الاستعلاء.
و {حَقّاً} صفة ثانية لـ {وَعْداً}. والحق هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلف. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} في سورة براءة [111].
والمراد بأكثر الناس المشركون، وهم يومئذ أكثر الناس. ومعنى {لا يعلمون} أنهم لا يعملون كيفية ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء.
والاستدراك ناشئ عن جعله وعدا على الله حقا، إذ يتوهم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهم، ولأن جملة {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} تقتضي إمكان وقوعه والناس يستبعدون ذلك.
[39] {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}
{لِيُبَيِّنَ} تعليل لقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} لقصد بيان حكمة جعله وعدا لازما لا يتخلف، لأنه منوط بحكمة، والله تعالى حكيم لا تجري أفعاله على خلاف الحكمة التامة، أي جعل البعث ليبين للناس الشيء الذي يختلفون فيه من الحق والباطل فيظهر حق المحق ويظهر باطل المبطل في العقائد ونحوها من أصول الدين وما ألحق بها.
وشمل قوله: {يَخْتَلِفُونَ} كل معاني المحاسبة على الحقوق لأن تمييز الحقوق من المظالم كله محل اختلاف الناس وتنازعهم.
وعطف على هذه الحكمة العامة حكمة فرعية خاصة بالمردود عليهم هنا، وهي حصول العلم للذين كفروا بأنهم كانوا كاذبين فيما اخترعوه من الشرك وتحريم الأشياء وإنكار البعث.
وفي حصول علمهم بذلك يوم البعث مثار للندامة والتحسر على ما فرط منهم من
(13/124)
إنكاره. وقد تقدم بيان حكمة الجزاء في يوم البعث في أول سورة يونس.
و {كَانُوا كَاذِبِينَ} أقوى في الوصف بالكذب من "كذبوا أو كاذبون"، لما تدل عليه "كان" من الوجود زيادة على ما يقتضيه اسم الفاعل من الاتصاف، فكأنه قيل: وجد كذبهم ووصفوا به. وكذبهم يستلزم أنهم معذبون عقوبة على كذبهم. ففيه شتم صريح وتعريض بالعقاب.
[40] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
هذه الجملة متصلة بجملة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:38] لبيان أن جهلهم بمدى قدرة الله تعالى هو الذي جرأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت، ووقعت جملة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:39] إلى آخرها اعتراضا بين البيان والمبين.
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلق قدرته بتكوينه. وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء، وما البعث إلا تكوين، فما يعث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات، فلا يخرج عن قدرته.
وأفادت {إِنَّمَا} قصرا هو قصر وقوع التكوين على صدور الأمر به، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذر إحياء الموتى ظنا منهم أنه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفا، فأريد ب {قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} تكويننا شيئا، أي تعلق القدرة بخلق شيء. وأريد بقوله: {إِذَا أَرَدْنَاهُ} إذا تعلقت به الإرادة الإلهية تعلقا تنجيزيا، فإذا كان سبب التكوين ليس زائدا على قول {كُنْ} فقد بطل تعذر إحياء الموتى. ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين.
والشيء: أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه، أو المراد بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل.
و {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} خبر عن {قَوْلُنَا}.
والمراد بقول {كُنْ} توجه القدرة إلى إيجاد المقدور. عبر عن ذلك التوجه بالقول بالكلام كما عبر عنه بالأمر في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(13/125)
[يّس:82]. وشبه الشيء الممكن حصوله يشخص مأمور، وشبه انفعال الممكن لأمر التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر. وكل ذلك تقريب للناس بما يعقلون، وليس هو خطابا للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعا يعقل به الكلام فيمتثل للآمر.
و "كان" تامة.
وقرأ الجمهور {فَيَكُونُ} بالرفع أي فهو يكون، عطفا على الخبر وهو جملة {أَنْ نَقُولَ}. وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على {نَقُولَ}، أي أن نقول له كن وأن يكون.
[41] {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون. فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية.
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعريض في قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36].
فالجملة معطوفة على جملة {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39].
والمهاجرة: متاركة الديار لغرض ما.
و {فِي} مستعملة في التعليل، أي لأجل الله. والكلام على تقدير مضاف يظهر من السياق. تقديره: هاجروا لأجل مرضاة الله.
وإسناد فعل {ظُلِمُوا} إلى المجهول لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون. والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب.
والتبوئة: الإسكان. وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادة للمهاجرة، لأن المهاجرة الخروج من الديار فيضادها الإسكان.
(13/126)
وفي الجمع بين {هَاجَرُو} و {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} محسن الطباق. والمعنى: لنجازينهم جزاء حسنا. فعبر عن الجزاء بالتبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.
و {حسنة} صفة لمصدر محذوف جار على"نبوئنهم"، أي تبوئة حسنة.
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأموالهم، وما لاقوه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومذلة وفتنة، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارا خيرا من ديارهم، ووطنا خيرا من وطنهم، وهو المدينة، وأموالا خيرا من أموالهم، وهي ما نلوه من المغانم ومن الخراج. روي أن عمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له: "هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكبر"؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمها فتح مكة، وأمنا في حياتهم بما نالوه من السلطان، قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة. وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكية. ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}. ومعنى {أَكْبَرُ} أنه أهم وأنفع. وإضافة إلى {الْآخِرَةِ} على معنى "في"، أي الأمر الذي في الآخرة.
وجملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} معترضة، وهي استئناف بياني ناشئ عن جملة الوعد كلها، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتد بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيانا لما استبهم على السائل. والتقدير: لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنهم لا يعلمون. فضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى {الذين كفروا} [النحل:39].
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو: كيف يحزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، فيكون: المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعد لهم علم مشاهدة لما حزنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم، لأن تأثير العلم الحسي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم
(13/127)
احتياج العلم الحسي إلى استعمال نظر واستدلال، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبها النفوس وترتمي إليها الشهوات، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فليس المراد من قوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لو كانوا يعتقدون ويؤمنون، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع {لَوْ} الامتناعية.
فضمير {يَعْلَمُونَ} على هذا"للذين هاجروا". وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.
و {الَّذِينَ صَبَرُوا} صفة"للذين هاجروا".والصبر: تحمل المشاق. والتوكل: الاعتماد.
وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أوائل البقرة [45]. والتوكل عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في آل عمران [159].
والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه، وأن الله قد جعل لهم فرجا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقبة. فهذا بشارة لهم.
وأن التوكل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالا جليلة تتم لهم بالتوكل على الله في أمورهم فهم يكررونه. وفي هذا بشارة بضمان النجاح.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم دون التوكل على سادة المشركين وولائهم.
[43،44] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.
(13/128)
كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه، ابتداء من قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24]، ورد مزاعمهم الباطلة بالأدلة القارعة لهم متخللا بما ادمج في أثنائه من معان أخرى تتعلق بذلك، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بان يكون سفيرا بين الله والناس، إبطالا بقياس التمثيل بالرسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم - عليهما السلام -. وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2].
وقد غير أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان جاريا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل:22]، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [النحل:35] الآية، تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن فيما مضى من الكلام آنفا حكاية تكذيبهم إياه تصريحا وتعريضا، فأقبل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بانه في منزلة الرسل الأولين - عليهم الصلاة والسلام -.
وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين. ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}.
وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:94]، فقصر الإرسال على التعلق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم.
ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية وأقبل عليهم بالخطاب توبيخا لهم لأن التوبيخ يناسبه الخطاب لكونه أوقع في نفس الموبخ، فاحتج عليهم بقوله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الخ. فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتب اليهود والنصارى والصابئة.
و {الذِّكْر} : كتاب الشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في أول الحجر [6].
وفي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء، فلذلك جيء في الشرط بحرف {إن} التي ترد في
(13/129)
الشرط المظنون عدم وجوده.
وجملة {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} معترضة بين جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا} وبين قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.
والجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الجملة مفرعا على ما قبله. وقد جعلها في الكشاف معترضة على اعتبار وجوه ذكرها في متعلق قوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ}.
ونقل عنه في سورة الإنسان [29] عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أنه لا تقترن الجملة المعترضة بالفاء. وتردد صاحب "الكشاف" في صحة ذلك عنه لمخالفته كلامه في آية سورة النحل.
وقوله {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلق بمستقر صفة أو حالا من {رجالا} وفي تعلقه وجوه أخر ذكرها في الكشاف، والباء للمصاحبة، أي مصحوبين بالبينات والزبر، فالبينات دلائل الصدق من معجزات أو أدلة عقلية. وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأولين كما تفرق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
و {الزبر} جمع زبور وهو مشتق من الزبر، أي الكتابة، ففعول بمعنى مفعول.و {الزبر} الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى - عيسى عليه السلام - وإن لم يكتبه عيسى.
ولعل عطف {الزبر} على {بِالْبَيِّنَاتِ} عطف تقسيم بقصد التوزيع، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجئ رسل بدون كتب، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرس وخالد ابن سنان رسول عبس. ولم يذكر الله لنوح - عليه السلام - والإنجيل كما فسروها به في سورة فاطر.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
لما اتضحت الحجة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذكرت النتيجة المقصودة، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأولين.
والذكر: الكلام الذي شأنه أن يذكر، أي يتلى ويكرر. وقد تقدم عند قوله تعالى:
(13/130)
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر [6]. أي ما كنت بدعا من الرسل فقد أوحينا إليك الذكر. والذكر: ما أنزل ليقرأه الناس ويتلوه تكرارا ليتذكروا ما اشتمل عليه. وتقديم المتعلق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب.
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله: {بالبينات والزبر} إيماء إلى أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بينة وزبور معا، أي هو معجزة وكتاب شرع. وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر، ولا معجزة أخرى، وقد قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50،51]. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
والتبيين: إيضاح المعنى.
والتعريف في"الناس"للعموم.
والإظهار في قوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم، إذ لو كان إياه لكان مقتضى الظاهر أن يقال أن يقال لتبينه: للناس. ولذا فالأحسن أن يكون لمراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعا لها ومبينا لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
وإسناد التبيين إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - باعتبار أنه المبلغ للناس هذا البيان. والأمم على هذا الوجه لذكر العلة الأصلية في إنزال القرآن.
وفسر {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} بأنه عين الذكر المنزل، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينه للناس فيكون إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [ الانبياء:10]
وإنما أتى بلفظة مرتين للإيماء إلى التفاوت بين الإنزالين: فإنزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم.
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني، وتكون اللام لتعليل بعض
(13/131)
الحكم الحافة بإنزال القرآن فإنها كثيرة، فمنها أن يبينه النبي صلى الله عليه وسلم فتحصل فوائد العلم والبيان، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران:187].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنة، وبيان مجمل القرآن بالسنة، وترجيح دليل السنة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنة هو تبيين النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو واسطته.
وعطف {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} حكمة أخرى من حكم إنزال القرآن، وهي تهيئة تفكر الناس فيه وتأملهم فيما يقربهم إلى رضى الله تعالى. فعلى الوجه الأول في تفسير {لَتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} يكون المراد أن يتفكروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده، وعلى الوجه الثاني أن يتفكرون في بيانك ويعوه بأفهامهم.
[45] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}
بعد أن ذكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحا وبعذاب الدنيا تعريضا فرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدرين أن يقع ما يهددهم به الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله، فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ.
و {الَّذِينَ مَكَرُوا}: هم المشركون.
والمكر تقدم في قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} في هذه السورة.
وقوله تعالى: {السَّيِّئَاتِ} صفة لمصدر {مَكَرُوا} محذوفا يقدر مناسبا لتانيث صفته. فالتقدير: مكروا المكرات السيئات، كما وصف المكر بالسيء في قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]. والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفعلة، كالغدرة للغدر.
ويجوز أن يضمن {مَكَرُوا} معنى "اقترفوا" فانتصب {السَّيِّئَاتِ} على المفعولية به. ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو باء الجر التي معناها الآلة.
(13/132)
والخسف: زلزال شديد تنشق به الأرض فتحث بانشقاقها هوة عظيمة تسقط فيها الديار والناس، ثم تنغلق الأرض على ما دخل فيها. وقد أصاب ذلك أهل بابل، ومكانهم يسمى خسف بابل. وأصاب قوم لوط إذ جعل الله عاليها سافلها. وبردهم مخسوفة اليوم في بحيرة لوط من فلسطين.
وخسف من باب ضرب. ويستعمل قاصرا ومتعديا. يقال: خسفت الأرض، ويقال: خسف الله الأرض، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81]، ولا يتعدى إلى ما زاد على المفعول إلا بحرف التعدية، والأكثر أن يعدى بالباء كما هنا وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}، أي جعلناها خاسفة به، فالباء للتعدية، كما يقال: ذهب به.
و {الْعَذَابُ} يعم كل ما فيه تأليم يستمر زمنا، فلذلك عطف على الخسف. وإتيان العذاب إليهم: إصابته إياهم. شبه ذلك بالإتيان.
و {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من مكان لا يترقبون أن يأتيهم منه ضر. فمعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أنه يأتيهم بغتة لا يستطيعون دفعه، لأنهم لبأسهم ومنعتهم لا يبغتهم ما يحذرونه إذ قد أعدوا له عدته، فكان الآتي من حيث لا يشعرون عذابا غير معهود. فوقع قوله: {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} كناية عن عذاب لا يطيقون دفعه بحسب اللزوم العرفي، و إلا فقد جاء العذاب عادا من مكان يشعرون به، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]. وحل بقوم نوح عذاب الطوفان وهم ينظرون، وكذلك عذاب الغرق لفرعون وقومه.
[46،47] {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
الأخذ مستعار للإهلاك قال تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10]. وتقدم عند قوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} في سورة الأنعام [44].
والتقلب: السعي في شؤون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر ومحادثة ومزاحمة. وأصله: الحركة إقبالا وإدبارا، والمعنى: أن يهلكهم الله وهم شاعرون بمجيء العذاب.
وهذا قسيم قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النحل:
(13/133)
45]. وفي معناه قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98].
وتفريع {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} اعتراض، أي لا يمنعهم من أخذه إياهم تقلبهم شيء إذ لا يعجزه اجتماعهم وتعاونهم.
و {في} للظرفية المجازية، أي الملابسة، وهي حال من الضمير المنصوب في {يَأْخُذَهُمْ}.
والتخوف في اللغة يأتي مصدر تخوف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوف المتعدي بمعنى تنقص، وهذا الثاني لغة هذيل، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن.
فللآية معنيان: إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقع نزول العذاب بان يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصواعق، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقص من قبل أن يتنقصهم قبل الأخذ بان يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط.
وحرف {على} مستعمل في التمكن على كلا المعنيين، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في {يَأْخُذَهُمْ} وهم كقولهم: أخذه على غرة.
روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار، وأنه سأل الناس وهو على المنبر: ما تقولون فيها? فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا. التخوف: التنقص، قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها? قال: نعم قال شاعرنا:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن1
ـــــــ
1قلت: نسب في الكشاف هذا البيت إلى زهير وكذلك في الأساس وليس زهير بهذلي ونسبه صاحب اللسان إلى ابن مقبل وليس ابن مقبل بهذلي وكيف وقد قال الشيخ الهذلي لعمر قال شاعرنا فهو هذلي ووقع في تفسير البيضاوي أن الشيخ الهذلي أجاب عمر بقوله نعم:"قال شاعرنا أبو كبير وقال الخفاجي البيت من قصيدة له مذكورة في شعر هذيل فنسبة البيت إلى أبي كبير أثبت وهذا البيت في وصف راحلة أثر الرحل في سنامها فتنقص من وبره.والتامك:بكسر الميم السنام المشرق.والقرد بكسر الراء المتبلد الوبر، والنبعة قصبة شعر النبع تتخذ منه القسي.والسفن بالتحريك البرد.
(13/134)
فقال عمر - رضي الله عنه -: "أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا? قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم".
وتفرع {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} على الجمل الماضية تفريع العلة على المعلل. وحرف "إن" هنا مفيد للتعليل ومغن عن وفاء التفريع كما بينه عبد القاهر، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء. والتعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم: أهم آمنون من ذلك أم لا.
[48] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}
بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلها مشعرة بخضوعها لله تعالى خضوعا مقارنا لوجودها وتقلبها آنا فآنا علم بذلك من علمه وجهله من جهله. وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقا ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشد الأعراض ملازمة للذوات، ومطابقة لأشكالها وهو الظل.
وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد [15].
فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف القصة على القصة.
والاستفهام إنكاري، أي قد رأوا، والرؤية بصرية.
وقرأ الجمهور {أَوَلَمْ يَرَوْا} بتحتية. وقراه حمزة والكسائي وخلف {أَوَلَمْ يَرَوْا} بالمثناة الفوقية على الخطاب على طريقة الالتفات.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان للإبهام الذي في "ما" الموصولة، وإنما كان بيانا باعتبار ما جرى عليه من الوصف بجملة {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} الآية.
والتفيؤ: تفعل من فاء الظل فيئا، أي عاد بعد أن أزاله ضوء الشمس. لعل أصله من فاء إذا رجع بعد مغادرة المكان، وتفيؤ الظلال تنقلها من جهات بعد شروق الشمس وبعد
(13/135)
زوالها.
وتقدم ذكر الظلال عند قوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد.
وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} ، أي عن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظل إذ يكون عن يمين الشخص مرة وعن شماله أخرى، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها.
وليس المراد خصوص اليمين والشمال بل كذلك الأمام والخلف، فاختصر الكلام.
وأفرد اليمين، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المشرق. وجمع {وَالشَّمَائِلِ} مرادا به تعدد جنس جهة الشمال بتعدد أصحابها، كما قال: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]. فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنن.
ومجيء فعل {يَتَفَيَّأُ} بتحتية في أوله على صيغة الإفراد جرى على أحد وجهين في الفعل إذا كان فاعله جمعا غير جمع تصحيح، وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {تَتَفَيَّأُ} بفوقيتين على الوجه الآخر.
وأفرد الضمير المضاف إليه "ظلال" مراعاة لفظ {شَيْءٍ} وإن كان في المعنى متعددا، وباعتبار المعنى أضيف إليه الجمع.
و {سُجَّداً} حال من ضمير {ظِلالُهُ} العائد إلى {مِنْ شَيْءٍ} فهو قيد للتفيؤ، أي أن ذلك التفيؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} في سورة الرعد.
وجملة {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في موضع الحال من الضمير في {ظِلالُهُ} لأنه في معنى الجمع لرجوعه إِلَى {مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. وجمع بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء تغليبا لأن في جملة الخلائق العقلاء وهم الجنس الأهم.
والداخر: الخاضع الذليل، أي داخرون لعظمة الله تعالى.
[49،50] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
لما ذكر في الآية السابقة السجود القسري ذكر بعده هنا سجود آخر بعضه اختيار وفي
(13/136)
بعضه شبه اختيار.
وتقديم المجرور على فعله مؤذن بالحصر، أي يسجد لله لا لغيره ما في السماوات وما في الأرض، وهو تعريض بالمشركين إذ يسجدون للأصنام.
وأوثرت {ما} الموصولة دون "من" تغليبا لكثرة غير العقلاء.
و {مِنْ دَابَّةٍ} بيان ل {مَا فِي الْأَرْضِ}، إذ الدابة ما يدب على الأرض غير الإنسان.
ومعنى سجود الدواب لله أن الله جعل في تفكيرها الإلهامي التذاذها بوجودها وبما هي فيه من المرح والأكل والشرب، وتطلب الدفع عن نفسها من المتغلب ومن العوارض بالمدافعة أو بالتوقي، ونحو ذلك من الملائمات. فحالها بذلك كحال شاكر تتيسر تلك الملائمات لها، وإنما تيسيرها لها ممن فطرها. وقد تصحب أحوال تنعمها حركات تشبه إيماء الشاكر المقارب للسجود، ولعل من حركاتها ما لا يشعر به الناس لخفائه وجهلهم بأوقاته، وإطلاق السجود على هذا مجاز.
ويشمل {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} مخلوقات غير الملائكة، مثل الأرواح، أو يراد بالسماوات الأجواء فيراد بما فيها الطيور والفراش.
وفي ذكر أشرف المخلوقات وأقلها تعريض بذم من نزل من البشر عن مرتبة الدواب في كفران الخالق، وبمدح من شابه من البشر حال الملائكة.
وفي جعل الدواب والملائكة معمولين لـ {يسجد} استعمال للفظ في حقيقته ومجازه.
ووصف الملائكة بأنهم {لا يَسْتَكْبِرُونَ} تعريض ببعد المشركين عن أوج تلك المرتبة الملكية. والجملة حال من {وَالْمَلائِكَةُ}.
وجملة {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} بيان لجملة {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
والفوقية في قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} فوقية تصرف وملك وشرف كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [لأعراف:].
وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، أي يطيعون ولا تصدر منهم مخالفة.
وهنا موضع سجود للقارئ بالاتفاق. وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق
(13/137)
الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى.
[51] {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
لما أشبع القول في إبطال تعدد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، نقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشرك متبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشر، تقلدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كسرى وعوائدهم، مثل بني بكر بن وائل وبني تميم، فقد دان منهم كثير بالمجوسية، أي المزدكية والمانوية في زمن كسرى أبرويش وفي زمن كسرى أنوشروان، والمجوسية تثبت عقيدة بإلهين: إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام، وإله الشر لا يصدر عنه إلا الشر والآلام، وسموا إله الخير "يزدان"، وسموا إله الشر "اهرمن" 1. وزعموا أن يزدان كان منفردا بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير، فخطر في نفسه مرة خاطر شر فتولد عنه إله آخر شريك له هو إله الشر، وقد حكى هذا المعري في لزومياته بقوله:
فكر يزدان على غرة ... فصيغ من تكيره أهرمن
ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صورا مجسمة، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة. وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبد صورا محسوسة. وسيأتي الكلام على المجوسية عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {وَالْمَجُوسَ} في سورة الحج [170].
ويدل على أن هذا الدين هو المراد التعقيب بآية {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] كما سيأتي.
فقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} عطف قصة على قصة وهو مرتبط بجملة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ـــــــ
1يزدان بتحية مفتوحة وزاي ساكنة.وأهرمن بهمزة مفتوحة وهاء ساكنة وراء وميم مضمومتين ونون ساكنة.
(13/138)
ومعنى {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} أنه دعا الناس ونصب الأدلة على بطلان اعتقاده. وهذا كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] وقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15].
وصيغة التثنية من قوله: {إِلَهَيْنِ} أكدت بلفظ {اثْنَيْنِ} للدلالة على أن الاثنينية مقصودة بالنهي إبطالا لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وأن لا اكتفاء بالنهي عن تعدد الإله بل المقصود النهي عن التعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين. ووقع في"الكشاف"توجيه ذكر {اثْنَيْنِ} بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازا.
وإذ نهوا عن اتخاذ إلهين فقد دل بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة.
وجملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يجوز أن تكون بيانا لجملة {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، فالجملة مقولة لفعل {وَقَالَ اللَّهُ} لأن عطف البيان تابع للمبين كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر1:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
فلذلك فصلت، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبل بدلالة الاقتضاء.
والضمير من قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وَقَالَ اللَّهُ} ، أي قال الله إنما الله إله واحد، وهذا جري على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا، وقوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فـ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} مفسر" أمرتني" وفعل"أمرتني"فيه معنى القول، والله قال له: قل لهم اعبدوا الله ربك وربهم، فحكاه بالمعنى، فقال: ربي.
والقصر في قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قصر موصوف على صفة، أي الله مختص بصفة توحد الإلهية، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله.
ويجوز أن تكون جملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} معترضة واقعة تعليلا لجملة {لا تَتَّخِذُوا
ـــــــ
1هذا البيت من شواهد النحو وعلم المعاني وتمام البيت:
ولا فكن في الجهر والسر مسلما
ولا يعرف قائله.
(13/139)
إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي نهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد، لأي والله هو مسمى إله فاتخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية.
وحصر صفة الوحدانية في علم الجلالة بالنظر إلى أن مسمى ذلك العلم مساو لمسمى إله، إذ الإله منحصر في مسمى ذلك العلم.
وتفريع {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يجوز أن يكون تفريعا على جملة {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} فيكون {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} من مقول القول، ويكون في ضمير المتكلم من قوله: {فَارْهَبُونِ} التفات من الغيبة إلى الخطاب.
ويجوز أن يكون تفريعا على فعل {وَقَالَ اللَّهُ} فلا يكون من مقول القول، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري. وليس في الكلام التفات على هذا الوجه.
وتفرع على ذلك قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} بصيغة القصر، أي قصر قلب إضافيا، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضر أحد. وهو رد على الذين يرهبون إله الشر فالمقصود هو المرهوب.
والاقتصار على الأمر بالرهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الرد على الذين يطعمون في إله الخير بطريق الأولى، وإنما اقتصر على الرهبة لأن شأن المزكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشر لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير.
ووقع في ضمير {فَإِيَّايَ} التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقا لتقرير العقيدة الأصلية. وفي هذا الالتفات اهتمام بالرهبة لما في الالتفات من هر فهم المخاطبين. وتقدم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة.
واقتران فعل {فَارْهَبُونِ} بالفاء ليكون تفريعا على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلق فعل" ارهيون "بالمفعول لفظا يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر، فيكون التقدير: فإياي ارهبوا فارهبون، أي أمرتكم بأن تقصروا رهبتكم علي فارهبون امتثالا للأمر.
[52] {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}.
(13/140)
مناسبة موقع جملة {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعد جملة {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]. أن الذين جعلوا إلهين جعلوهما النور والظلمة. وإذ كان النور والظلمة مظهرين من مظاهر السماء والأرض كان المعنى: أن ما تزعمونه إلها للخير وإلها للشر هما من مخلوقاته.
وتقديم المجرور يفيد الحصر فدخل جميع ما في السماء والأرض في مفاد لم الملك، فأفاد أن ليس لغيره شيء من المخلوقات خيرها وشرها. فانتفى أن يكون معه إله آخر لأنه لو كان معه إله آخر لكان له بعض المخلوقات إذ لا يعقل إله بدون مخلوقات.
وضمير {لَهُ} عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}.
فعطفه على جملة {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] لأن عظمة الإلهية اقتضت الرهبة منه وقصرها عليه، فناسب أن يشار إلى أن صفة المالكية تقتضي إفراده بالعبادة.
وأما قوله {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} فالدين يحتمل أن يكون المراد به الطاعة. من قولهم: دانت القبيلة للملك. أي أطاعته، فهو من متممات جملة {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، لأنه لما قصر الموجودات على الكون في ملكه كان حقيقا بقصر الطاعة عليه، ولذلك قدم المجرور في هذه الجملة على فعله كما وقع في التي قبلها.
ويجوز أن يكون {الدِّينُ} بمعنى الديانة، فيكون تذييلا لجملة {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}، لأن إبطال دين الشرك يناسبه أن لا يدين الناس إلا بما يشرعه الله لهم، أي هو الذي يشرع لكم الدين لا غيره من أئمة الضلال مثل عمرو بن لحيي، وزرادشت، ومزدك، وماني، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: من الآية21].
ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء كما في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، فيكون إدماجا لإثبات البعث الذي ينكره أولئك أيضا. والمعنى: له ما في السماوات والأرض وإليه يرجع من في السماوات والأرض لا يرجعون إلى غيره ولا ينفعهم يومئذ أحد.
والواصب: الثابت الدائم، وهو صالح للاحتمالات الثلاثة، ويزيد على الاحتمال الثالث لأنه تأكيد لرد إنكارهم البعث.
(13/141)
وتفرع على هاتين الجملتين التوبيخ على تقواهم غيره، وذلك أنهم كانوا يتقون إله الشر ويتقربون إليه ليأمنوا شره
[53-54] {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} عطف خبر على خبر. وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم؛ فمن الناس معرضون عن التدبر فيها وعن شكرها وهم الكافرون، فكان في الأدلة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعا بالامتنان.
وتغير الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنعم مدمجا فيه الاعتبار بالخلق. فالخطاب موجه إلى الأمة كلها، ولذلك جاء عقبه قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}.
وابتدئ بالنعم على وجه العموم إجمالا ثم ذكرت مهمات منها.
والخطاب موجه إلى المشركين تذكيرا لهم بأن الله هو ربهم لا غيره لأنه هو المنعم.
وموقع قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين "أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشر" أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى، وهو يعطي النعمة وهو كاشف الضر.
والباء للملابسة، أي ما لابسكم واستقر عندكم، و {مِنْ نِعْمَةٍ} لبيان إبهام {مَا} الموصولة.
و "من" في قوله تعالى:ل {فَمِنَ اللَّهِ} ابتدائية، أي واصلة إليكم من الله، أي من عطاء الله، لأن النعمة لا تصدر عن ذات الله ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال. ولما كان" ما بكم من نعمة "مفيدا للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنيا عن الإتيان بصيغة قصر.
و {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} للتراخي الرتبي كما هو شانها الغالب في عطفها الجمل، لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضر أعجب إخبارا من الإخبار
(13/142)
بأن النعم كلها من الله، ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها.
والمقصود: تقرير أن الله تعالى هو مدبر أسباب ما بهم من خير وشر، وأنه لا إله يخلق إلا هو، وإنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضر، وهو ضد النعمة.
ومس الضر: حلوله. استعير المس للحصول الخفيف للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضر له. وتقدم استعمال المس في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17]
و {تجأرون} تصرخون بالتضرع. والمصدر: الجؤار، بصيغة أسماء الأصوات.
وأتبع هذه بنعمة أخرى وهي نعمة كاشف الضر عن الناس بقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} الآية.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما هو شانها في عطف الجمل. وجيء بحرف {ثُمّ} لأن مضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها فإن الإعراض عن المنعم بكشف الضر وإشراك غيره به في العبادة أعجب حالا وأبعد حصولا من اللجأ إليه عند الشدة.
والمقصود تسجيل كفران المشركين، وإظهار رأفة الله بالخلق بكشف الضر عنهم عند التجائهم إليه مع علمه بان من أولئك من يشرك به ويستمر على شركه بعد كشف الضر عنه.
و {إِذَا} الأولى مضمنة معنى الشرط، وهي ظرف. و {إِذَا} الثانية فجائية. والإتيان بحرف المفاجأة للدلالة على إسراع هذا الفريق بالرجوع إلى الشرك وأنه لا يتريث إلى أن يبعد العهد بنعمة كشف الضر عنه بحيث يفجأون بالكفر دفعة دون أن يترقبه منهم مترقب، فكان الفريق المعني في قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} فريق المشركين.
[55] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
لام التعليل متعلقة بفعل {يُشْرِكُونَ} [النحل:54] الذي هو من جواب قوله تعالى: {إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} [النحل:54]. والكفر هنا كفر النعمة، ولذلك
(13/143)
علق به قوله تعالى: {بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي من النعم. وكفر النعمة ليس هو الباعث على الإشراك فإن إشراكهم سابق على ذلك وقد استصحبوه عقب كشف الضر عنهم، ولكن شبهت مقارنة عودهم إلى الشرك بعد كشف الضر عنهم بمقارنة العلة الباعثة على عمل لذلك العمل. ووجه الشبه مبادرتهم لكفر النعمة دون تريث.
فاستعير لهذه المقارنة لام التعليل، وهي استعارة تبعية تمليحية تهكمية ومثلها كثير الوقوع في القرآن. وقد سمى كثير من النحاة هذه اللام لام العاقبة، ومثالها عندهم قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: من الآية8]، وقد بيناها في مواضع آخرها عند قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في هذه السورة [ النحل: من الآية25]
وضمير {لِيَكْفُرُوا} عائد إلى {فَرِيقٌ} [النحل:54] باعتبار دلالته على جمع من الناس.
والإيتاء: الإعطاء. وهو مستعار للإنعام بالحالة النافعة، لأن شان الإعطاء أن يكون تمكينا بالمأخوذ المحبوب.
وعبر بالموصول {بما آتيناهم} لما تؤذن به الصلة من كونه نعمة تفظيعا لكفرانهم بها، لأن كفران النعمة قبيح عند جميع العقلاء.
وفرع عليه مخاطبتهم بأمرهم بالتمتع أمر إمهال وقلة اكتراث بهم وهو في معنى التخلية.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. والمتاع الشيء الذي ينتفع به انتفاعا محبوبا ويسر به. ويقال: تمتع بكذا واستمتع. وتقدم المتاع في ىخر سورة براءة.
والخطاب للفريق الذين يشركون بربهم على طريقة الالتفات. والأظهر أنه مقول لقول محذوف. لأنه جاء مفرعا على كلام خوطب به الناس كلهم كما تقدم، فيكون المفرع من تمام ما تفرع عليه. وذلك ينافي الالتفات الذي يقتضي أن يكون مرجع الضمير إلى مرجع ما قبله.
والمعنى: فتقول تمتعوا بالنعم التي أنتم فيها إلى أمد.
وفرع عليه التهديد بأنهم سيعلمون عاقبة كفران النعمة بعد زوال التمتع. وحذف
(13/144)
مفعول {تَعْلَمُونَ} لظهوره من قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} , أي تعلمون جزاء كفركم.
[56] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النعمة، فهي معطوفة على جملة {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [ النحل: من الآية53] ويجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} على طريق الالتفات. ويجوز أن تكون معطوفة على {يُشْرِكُونَ} من قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [ النحل: 54]
ما حكى هنا هو تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربهم، إذ جعلوا في أموالهم حقا للأصنام التي لم ترزقهم شيئا. وقد مر ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136].
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النعمة، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكرا عليهم، إلا أن بعض الكفر أشد من بعض.
والجعل: التصيير والوضع. تقول: جعلت لك في مالي كذا. وجيء هنا بصيغة المضارع للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره، بخلاف قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [النحل: 38] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف لظهوره، وهو ضمير "ما"، أي لا يعلمونه. ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام.
وما صدق صلة {لا يَعْلَمُونَ} وهو الأصنام، وإنما عبر عنها بهذه الصلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بله مبلغ ما ينالهم منها، وتخيلات يتخيلونها ليست في الوجود ولا في الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء، كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
(13/145)
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [لنجم: من الآية23]، وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى معاد ضمير {يَجْعَلُونَ}.
ووصف النصب بأنه {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقربوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج، وأنفقوا ذلك في التقرب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئا.
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد. ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا} [ النحل: 55]
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكد.
والقسم بالتاء يختص بما يكون المقسم عليه أمرا عجيبا ومستغربا، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 73]. وسيأتي في قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: 57]. فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالا عجيبا بمقدار غرابة الجرم المسؤول عنه.
والسؤال كناية عما يترتب عليه من العقاب، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عما اقترفه إذ لعل له ما يدفع به نفسه، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السنن الشريف. والتعبير عنه ب {كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة.
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدلالة على أن الافتراء كان من شأنهم، وكان متجددا ومستمرا منهم، فهو أبلغ من أن يقال: عما تفترون، وعما افتريتم.
[57] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}
عطف على جملة {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}.
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات، وهي نعمة النسل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذرية.
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكر ضرب شنيع من ضروب كفرهم، وهو
(13/146)
افتراؤهم: أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجن، كما دل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158]. وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة.
والجعل: هنا النسبة بالقول.
و {سُبْحَانَهُ} مصدر نائب عن الفعل، وهو منصوب على المفعولية المطلقة، وهو في محل جملة معترضة وقعت جوابا عن مقالتهم السيئة التي تضمنتها حكاية {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} إذ الجعل فيه جعل القول، فقوله: {سُبْحَانَهُ} مثل قولهم: حاش لله ومعاذ لله، أي تنزيها له عن أن يكون له ذلك.
وإنما قدم {سُبْحَانَهُ} على قوله {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} ليكون في أن التنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوة لله، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشد فظاعة، كما دل عليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون} ، لأن ذلك زيادة في التفظيع، فقوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} جملة في موضع الحال. وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكم.
وما صدق {مَا يَشْتَهُونَ} الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات، وقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: من الآية58]، أي والحال أن لهم ذكور من أبنائهم فهلا جعلوا لله بنين وبنات. وهذا ارتقاء في إفساد معتقداتهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزه عنه واجب الوجود.
وسيخص هذا بالإبطال في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [ النحل: 62]. ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدال على الذوات، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء، ولم يتعرض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذا بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخص بالذكر.
[58-59] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} الواو في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} يجوز أن تكون واو الحال.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع
(13/147)
شركهم. وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [ النحل: من الآية57]. التي هي في موضع الحال، لأن ذلك يفيت قصدها بالعد. وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مال الاعتبارين واحد في حاصل المعنى.
والتعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل {بُشِّرَ} في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذا ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقبه من التأنس به ومزاجه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزتها، وآصرة الصهر. ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتعبير به يفيد تعريضا بالتهكم بهم إذ يعدون البشارة مصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق. والتغريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة.
والباء في {بِالْأُنْثَى} لتعدية فعل البشارة وعلقت بذات الأنثى. والمراد: بولادتها، فهو على حذف مضاف معلوم.
وفعل {ظَلَّ} من أفعال الكون أخوات كان التي تدل على اتصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلا مرفوعا يدعى اسما وحالا لازما له منصوب يدعى خبر لأنه شبيه بخبر المبتدإ. وسماها النحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيها لولاها لكان مبتدأ وخبر فلما تغير معها حكم الخبر سميت ناسخة لرفعه،كما سميت "إن" وأخواتها و "ظن" وأخواتها كذلك. وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق.
ويستعمل {ظَلّ} بمعنى صار. وهو المراد هنا.
واسوداد الوجه: مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة، فشبهت بالسواد مبالغة.
والكظيم: الغضبان المملوء حنقا. وتقدم في قوله تعالى: {فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، أي أصبح حنقا على امرأته. وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها، ولماذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات:
يغضب إن لم نلد البنينا ... وإنما نعطي الذي أعطينا
(13/148)
والتواري: الاختفاء،مضارع واره، مشتق من الوراء وهو جهة الخلف. و {مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل، لأنه يقال: فعلت كذا من أجل كذا، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151]، أي يتوارى من أجل تلك البشارة.
وجملة {أَيُمْسِكُهُ} بدل اشتمال من جملة {يَتَوَارَى}، لأنه يتوارى حياء من الناس، فيبقى متواريا من قومه حتى تنسى قضيته. هو معنى قوله تعالى: {أَيُمْسِكُهُ} الخ، أي يتوارى يتردد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه: أأمسكه على هون أم أدسه في التراب. والمراد: التردد في جواب هذا الاستفهام.
والهون: الذل. وتقدم عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93].
والدس: إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن. والمراد: الدفن في الأرض وهو الوأد. وكانوا يئدون بناتهم، بعضهم يئد بحدثان الولادة، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ومشت وتكلمت، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها. وذلك من أفظع أعمال الجاهلية، وكانوا متمالئين عليه ويحسبونه حقا للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل.
ولذلك سماه الله حكما بقوله تعالى: {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. وأعلن ذمه بحرف {أَلا} لأنه جور عظيم قد تمالأوا عليه وخولوه للناس ظلما للمخلوقات، فأسند إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جاريا على فعل واحد غير معين قضاء لحق هذه النكتة.
[60] {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
هذه الجملة معترضة جوابا عن مقالتهم التي تضمنها قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل:58] فإن ارتباطها بجملة {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل: 57] كما تقدم، فهي بمنزلة جملة {سُبْحَانَهُ} ,غير أن جملة {سُبْحَانَهُ} جواب بتنزيه الله عما نسبوه إليه، وهذه جواب بتحقيرهم على ما يعاملون به البنات مع نسبتهم إلى الله هذا الصنف المحقر عندهم.
(13/149)
وقد جرى الجواب على استعمال العرب عندما يسمعون كلاما مكروها أو منكرا أن يقولوا للناطق به: بفيك الكثكث، ويقولون: تربت يداك، وتربت يمينك، واخسأ.
وكذلك جاء قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} شتما لهم.
والمثل: الحال العجيبة في الحسن والقبح، وإضافة إلى السوء للبيان.
وعرفوا بـ"الذين لا يؤمنون بالآخرة" لأنم اشتهروا بهذه الصلة بين المسلمين، كقوله تعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22]، وقوله: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8].
وجملة {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} عطفت على جملة {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} لأن بها تكملة إفساد قولهم وذم رأيهم، إذ نسبوا إلى الله الولد وهو من لوازم الاحتياج والعجز. ولما نسبوا إليه ذلك خصوه بأخس الصنفين عندهم، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]، وإن لم يكن ذلك في الواقع ولكن هذا جرى على اعتقادهم ومؤاخذة لهم برأيهم.
و {الْأَعْلَى} تفضيل، وحذف المفضل عليه لقصد العموم، أي أعلى من كل مثل في العلو بقرينة المقام.
والسوء: بفتح السين مصدر ساءه، إذا عمل معه ما يكره. والسوء بضم السين الاسم، تقدم في قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} في سورة البقرة [49].
والمثل تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
و {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم عند قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209].
[61] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات. فأما وصف
(13/150)
جعلهم لله البنات اللاتي يأنفون منها لأنفسهم، ووصف ذلك بأنه حكم سوء، ووصف حالهم بأنها مثل سوء، وعرفهم بأخص عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم.
والظلم: الاعتداء على الحق. وأعظمه الاعتداء على حق الخالق على مخلوقاته، وهو حق إفراده بالعبادة، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعد إلى مفعول نحو {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:117] مرادا منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن، وهو المراد هنا من هذا الإنذار. وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريبا فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه.
والتعريف في {الناس} يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس. لأن ذلك أنسب بمقام الزجر، فليس قوله تعالى: {الناس} مرادا به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل:55] وما بعده من الضمائر، وبذلك لا يكون لفظ {الناس} إظهار في مقام الإضمار.
وضمير {عليها} صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دال عليها. وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32] يعني الشمس، ويقولون: أصبحت باردة، يريدون الغداة، ويقول أهل المدينة: ما بين لابتيها أحد يفعل كذا، يريدون لابتي المدينة.
والدابة: اسم لما يدب على الأرض، أي يمشي، وتأنيثه بتأويل ذات. وخص اسم {دابة} في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض.
وحرف {لَوْ} حرف امتناع لامتناع، أي حرف شرط يدل على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه. وشرط {لَوْ} ملازم للزمن الماضي فإذا وقع بعد {لَوْ} مضارع انصرف إلى الماضي غالبا.
فالمعنى: لو كان الله مؤاخذا الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدواب معهم، أي ولكنه لم يؤاخذهم.
ودليل انتفاء شرط {لَوْ} هو انتفاء جوابها، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة، فإن الناس والدواب ما زالوا موجودين على الأرض.
(13/151)
ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدواب أن الله خلق الناس ليعبدوه، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها، قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]،
وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجده، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وجد على شرطه، فاستحق المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء.
وبذلك تعين أن المراد من الظلم في قوله تعالى: {بِظُلْمِهِمْ} الإشراك أو التعطيل. وأما ما دون ذلك من الاعتداء على حق الله بمعصية أمره، أو على حقوق المخلوقات باعتصابها فهو مراتب كثيرة، منها اعتداء أحد على وجود إنسان آخر محترم الحياة فيعدمه عمدا، فذلك جزاؤه الإفناء لأنه أفنى مماثله، ولا يتعداه إلى إفناء من معه، وما دون ذلك من الظلم له عقاب دون ذلك، فلا يستحق شيء غير الشرك الإهلاك، ولكن شأن العقاب أن يقصر على الجاني.
فوجه اقتضاء العقاب على الشرك إفناء جميع المشركين ودوابهم أن إهلاك الظالمين لا يحصل إلا بحوادث عظيمة لا تتحدد بمساحة ديارهم، لأن أسباب الإهلاك لا تتحدد في عادة نظام هذا العالم، فلذلك يتناول الإهلاك الناس غير الظالمين ويتناول دوابهم.
وإذ قد كان الظلم، أي الإشراك لم تخل منه الأرض لزم من إهلاك أهل الظلم سريان الإهلاك إلى جميع بقاع الأرض فاضمحل الناس والدواب فيأتي الفناء في قرون متوالية من زمن نوح مثلا، فلا يوجد على الأرض دابة في وقت نزول الآية.
فأما من عسى أن يكون بين الأمة المشركة من صالحين فإن الله يقدر للصالحين أسباب النجاة بأحوال خارقة للعادة كما قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]. وقد أخبر الله تعالى بأنه نجي هودا والذين آمنوا معه، وأخبر بأنه نجى أنبياء آخرين. وكفاك نجاة نوح - عليه السلام - والذين آمنوا معه من الطوفان في السفينة.
وقد دل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أن تأخيرهم متفاوت
(13/152)
الآجال، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمر بهم الأرض، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم.
واقتضى قوله تعالى: {مِنْ دَابَّةٍ} إهلاك دواب الناس معهم لو شاء الله ذلك، لأن استئصال أمة يشتمل على استئصال دوابها، لأن الدواب خلقت لنفع الناس فلا بدع أن يستأصلها الله إذا استأصل ذويها.
والاقتصار على ذكر دابة في هذه الآية إيجاز، لأنه إذا كان ظلم الناس مفضيا إلى استئصال الدواب كان العلم بأنه مفض إلى استئصال الظالمين حاصلا بدلالة الاقتضاء.
وهذا في عذاب الاستئصال وأما ما يصيب الناس من المصائب والفتن الوارد فيه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فذلك منوط بأسباب عادية، فاستثناء الصالحين يقتضي دواليب كثيرة من دواليب النظام الفطري العام، وذلك لا يريد الله تعطيله لما يستتبع تعطيله من تعطيل مصالح عظيمة والله أعلم بذلك.
فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم"، أي يكون للمحسن الذي أصابه العذاب تبعا جزاء على ما أصابه من مصيبة غيره. وإنما الذي لا ينال البريء هو العقاب الأخروي الذي جعله الله جزاء على التكليف، وهو معنى قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الدواب التي على الأرض مخلوقة لأجل انتفاع الإنسان، فلذلك لم يكن استعمال الإنسان إياها فيما تصلح له ظلما لها، ولا قتلها لأكلها ظلما لها.
والمؤاخذة: الأخذ المقصود منه الجزاء، فهو أخذ شديد، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة، فدل على أن المؤاخذة المنتفية بـ {لو} هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب.
ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}. فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
والأجل: المدة المعينة لفعل ما. والمسمى: المعين، لأن التسمية تعيين الشيء
(13/153)
وتمييزه، وتسمية الآجال تحديدها.
وتقدم نظير هذه عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف [34].
[62] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}
هذا ضغث على إبالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصة قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} [النحل:57] باعتبار ما يختص بهذه القصة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، فكان ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشرك، وهما: نسبة البنوة إلى الله، ونسبة أخس أصناف الأبناء في نظرهم إليه، فخصت الأولى بالذكر بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدم. وخصت هذه بذكر الكراهية تصريحا، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة {مَا يَكْرَهُونَ} هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم وتشنيع استئثارهم. وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرف؛ وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
وفي"الكشاف":"يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها". فهو مراد عموم الموصول، فتكون هذه القصة أعم من قصة قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ}، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين: جهة اختلاف الاعتبار، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل.
وجملة {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم.
ومعنى {تَصِفُ} تذكر بشرح وبيان وتفصيل، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء. وحقيقة الوصف: ذكر الصفات والحلي. ثم أطلق على القول المبين المفصل. قال في "الكشاف" في الآية الآتية في أواخر هذه السورة: "هذا من فصيح الكلام و بليغه. جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر"اهـ.
(13/154)
وقد تقدم في قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} في سورة الأنعام [100]. وسيأتي في آخر هذه السورة {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116]. ومنه قول المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل، وهو من بديع استعاراته.
والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكم. فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77] وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]. ومن الثاني قولهم في البلية: أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يعيي.
وانتصب {الْكَذِبَ} على أنه مفعول {تَصِفُ}.
و {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} بدل من {الْكَذِبَ} أو {الْحُسْنَى} صفة لمحذوف، أي الحالة الحسنى.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} جواب عن قولهم المحكي. ومعنى لا جرم لا شك، أي حقا. وتقدم في سورة هود.
و {مُفْرِطُونَ} - بكسر الراء المخففة - في قراءة نافع: اسم فاعل من أفرط، إذا بلغ غاية شيء ما، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار.
وقراه أبو جعفر - بكسر الراء مشددة - من فرط المضاعف. وقراه البقية بفتح الراء مخففة على زنة اسم المفعول، أي مجعولون فرطا بفتحتين وهو المقدم إلى الماء ليسقي.
والمراد: أنهم سابقون إلى النار معجلون إليها لأنهم أشد أهل النار استحقاقا لها، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا.
(13/155)
وفيه مع ذكر النار في مقابلتها محسن الطباق. على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضا لجواز أن يقال: أفرط إلى الماء إذا تقدم له.
[63] {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي داخل في الكلام الاعتراضي قصد منه تنظير حال المشركين المتحدث عنهم وكفرهم في سوء أعمالهم وأحكامهم بحال الأمم الضالة من قبلهم الذين استهواهم الشيطان من الأمم البائدة مثل عاد وثمود، والحاضرة كاليهود والنصارى.
ووجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقصد إبلاغه إلى أسماع الناس فإن القرآن منزل لهدي الناس، فتأكيد الخبر بالقسم منظور فيه إلى المقصودين بالخبر لا إلى الموجه إليه الخبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك.
ومصب القسم هو التفريع في قوله تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}.
وأما الإرسال إلى أمم من قبلهم فلا يشك فيه المشركون. وشأن التاء المثناة أن تقع في قسم على مستغرب مصب القسم هنا هو المفرد بقوله تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} لأن تأثير تزيين الشيطان لهم أعمالهم بعدما جاءهم من إرشاد رسلهم أمر عجيب. وتقدم الكلام على حرف تاء القسم آنفا عند قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل:56].
وجملة {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} معطوفة على جملة جواب القسم.والتقدير: أرسلنا فزين لهم الشيطان أعمالهم.
وتزيين الشيطان أعمالهم كناية عن المعاصي. فمن ذلك عدم الإيمان بالرسل وهو كمال التنظير. ومنها الابتداعات المنافية لما جاءت به الرسل عليهم السلام مثل ابتداع المشركين البحيرة والسائبة. والمقصود: أن المشركين سلكوا مسلك من قبلهم من الأمم التي زين لهم الشيطان أعمالهم.
وجملة {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} يجوز أن تكون مفرعة على جملة القسم بتمامها، على أن يكون التفريع هو المقصود من جملة الاستئناف للتنظير؛ فيكون ضمير {وَلِيُّهُمُ} عائدا إلى المنظرين بقرينة السياق. ولا مانع من اختلاف معادي ضميرين متقاربين مع القرينة، كقوله
(13/156)
تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].
والمعنى: فالشيطان ولي المشركين اليوم، أي متولي أمرهم كما كان ولي الأمم من قبلهم إذ زين لهم أعمالهم، أي لا ولي لهم اليوم غيره ردا على زعمهم أن لهم الحسنى. ويكون في الكلام شبه الاحتباك. والتقدير: لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فكان وليهم حينئذ، وهو ولي المشركين اليوم يزين لهم أعمالهم كما كان ولي من قبلهم.
وقوله {اليوم} مستعمل في زمان معهود بعهد الحضور، أي فهو وليهم الآن. وهو كناية عن استمرار ولايته لهم إلى زمن المتكلم مطلقا بدون قصد، لما يدل عليه لفظه من الوقت الذي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وهو منصوب على الظرفية للزمان الحاضر. وأصله: اليوم الحاضر، وهو اليوم الذي أنت فيه. وتقدم عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} في سورة العقود [3].
ولا يستعمل في يوم مضى معرفا باللام إلا بعد اسم الإشارة، نحو: ذلك اليوم، أو مثل: يومئذ.
[64] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
عطف على جملة القسم. والمناسبة أن القرآن أنزل لإتمام الهداية وكشف الشبهات التي عرضت للأمم الماضية والحاضرة فتركت أمثالها في العرب وغيرهم.
فلما ذكرت ضلالاتهم وشبهاتهم عقب ذلك ببيان الحكمة في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن إليه، فالقرآن جاء مبينا للمشركين ضلالهم بيانا لا يترك للباطل مسلكا إلى النفوس، ومفصحا عن الهدى إفصاحا لا يترك للحيرة مجالا في العقول، ورحمة للمؤمنين بما جازاهم عن إيمانهم من خير الدنيا والآخرة.
وعبر عن الضلال بطريقة الموصولية {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} للإيماء إلى أن سبب الضلال هو اختلافهم على أنبيائهم، فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام، عبدت كل قبيلة منهم صنما، وعبد بعضهم الشمس والكواكب، واتخذت كل قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا. واختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدين.
(13/157)
والإتيان بصيغة القصر في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ} لقصد الإحاطة بالأهم من غاية القرآن وفائدته التي أنزل لأجلها. فهو قصر ادعائي ليرغب السامعون في تلقيه وتدبره من مؤمن وكافر كل بما يليق بحاله حتى يستووا في الاهتداء.
ثم إن القصر يعرض بتفنيد أقوال من حسبوا من المشركين أن القرآن أنزل لذكر القصص لتعليل الأنفس في الأسمار ونحوها حتى قال مضلهم: أنا آتيكم بأحسن مما جاء به محمد، آتيكم بقصة "رستم" و "اسفنديار". فالقرآن أهم مقاصده هذه الفوائد الجامعة لأصول الخير، وهي كشف الجهالات والهدى إلى المعارف الحق وحصول أثر ذينك الأمرين. وهو الرحمة الناشئة عن مجانبة الضلال وإتباع الهدى.
وأدخلت لام التعليل على فعل"تبين"الواقع موقع المفعول لأجله لأنه من فعل المخاطب لا من فعل فاعل {أَنْزَلْنَا}، فالنبي هو المباشر للبيان بالقرآن تبليغا وتفسيرا. فلا يصح في العربية الإتيان بالتبيين مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله إذ ليس متحدا مع العامل في الفاعل، ولذلك خولف في المعطوف فنصب {وَهُدىً وَرَحْمَةً} لأنهما من أفعال منزل القرآن، فالله هو الهادي والراحم بالقرآن، وكل من البيان والهدى والرحمة حاصل بالقرآن فآلت الصفات الثلاث إلى أنها صفات للقرآن أيضا.
والتعبير بـ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دون للمؤمنين، أو للذين آمنوا، للإيماء إلى أنهم الذين الإيمان كالسجية لهم والعادة الراسخة التي تتقوم بها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
وهاته الآية بمنزلة التذييل للعبر والحجج الناشئة عن وصف أحوال المخلوقات ونعم الخالق على الناس المبتدئة من قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17].
[65] {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنعم. فهذه منة من المنن وعبرة من العبر وحجة من الحجج المتفرعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه.
(13/158)
عاد الكلام إلى تعداد نعم جمة ومعها ما فيها من العبر أيضا جمعا عجيبا بين الاستدلال ووصلا للكلام المفارق عند قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، كما علمته فيما تقدم. فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقا مساق الاستدلال، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء.
وبهذا الاعتبار خالفت هذه النعمة النعمة المذكورة في قوله سابقا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} [النحل:10]
باختلاف الغرض الأولي، فهو هنالك الاستدلال بتكوين الماء وهنا الامتنان.
وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء. وذلك في معنى قوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40]. وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التنويه بالخبر إذ افتتح بهذا السم، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح. فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم، لأن المشركين يقرون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء.
وإحياء الأرض: إخراج ما فيه الحياة، وهو الكلأ والشجر. وموتها ضد ذلك، فتعدية فعل "أحيا" إلى الأرض تعدية مجازية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} في سورة البقرة [164]وتقدم وجه العبرة في آية نزول المطر هنالك.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} مستأنفة. والتأكيد ب {إِنَّ} ولام الابتداء لأن من لم يهتد بذلك إلى الوحدانية ينكرون أن القوم الذين يسمعون ذلك قد علموا دلالته على الوحدانية. أي ينكرون صلاحية ذلك للاستدلال.
والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميع المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء.
والكلام في "قوم يسمعون" كالكلام في قوله آنفا: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64].
والسمع: هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية، وهو سماع التدبر
(13/159)
والإنصاف لما تدبروا به. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية. ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصد عنها إلا المكابرة.
[66] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}
هذه حجة أخرى ومنة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام، أدمج في منتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعا لقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} إلى قوله: {لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 5-7].
ومناسبة ذكر هذه النعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماء السماء، وأن لآثار ماء السماء أثرا في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى.
واختصت هذه العبرة بما تنبه إليه من بديع الصنع والحكمة في خلق الألبان بقوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً} ، ثم بالتذكير بما في ذلك من النعمة على الناس إدماجا للعبرة بالمنة.
فجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} معطوفة على جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65]، أي كما كان لقوم يسمعون عبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضا، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القوم الذين يسمعون.
وضمير الخطاب التفات من الغيبة. وتوكيدها بـ {إن} ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها.
و {الْأَنْعَامِ}: اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز.
والعبرة: ما يتعظ به ويعتبر. وقد تقدم في نهاية سورة يوسف.
وجملة {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} واقعة موقع البيان لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}.
والبطون: جمع بطن، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد
(13/160)
وأمعاء.
و {من} في قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} ابتدائية، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون. وما صدق "ما في بطونه" العلف. ويجوز جعلها تبعيضية ويكون ما صدق" ما في بطونه "هو اللبن اعتدادا بحالة مروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع.
و {من} في قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} زائدة لتوكيد التوسط، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم.
ووقع البيان بـ {نُسْقِيكُمْ} دون أن يقال: تشربون أو نحوه، إدماجا للمنة مع العبرة.
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة، ثم الكبد، ثم غدد الضرع، مائعا يسقى وهو مفرز من بين إفراز فرث ودم.
والفرث: الفضلات التي تركها الهضم المعدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فرثا. والدم: إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يدور كذلك بواسطة القلب. وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} في سورة العقود [3].
ومعنى كون اللبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدم وإفراز الفرث. وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمر بجواز الفضلات البولية والثفلية، فتفرزه غدد الضرع لبنا كما تفرزه غدد الكليتين بولا بدون معالجة زائدة، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثفر بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمني لتوقفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها.
وليس المراد أن اللبن يتميع من بين طيقتي فرث ودم، وإنما الذي أوهم ذلك من توهمه حمله {بين} على حقيقتها من ظرف المكان، وإنما هي تستعمل كثيرا في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم: الشجاعة صفة بين التهور والجبن. فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم، مع كونه موافقا للحقيقة.
والمعنى: إفراز ليس هو بدم لأنه ألين من الدم، ولأنه غير باق في عروق الضرع كبقاء الدم في العروق، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز
(13/161)
طاهر نافع مغذ، وليس قذرا ضارا غير صالح للتغذية كالبول والثفل.
وموقع {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} موقع الصفة لـ {لبنا} ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة، فكان لها مزيد اهتمام، وقد صارت بالتقديم حالا.
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولا ل {نُسْقِيكُمْ}، وجعل {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} تبيينا لمصدره لا لمورده، فليس اللبن مما في البطون؛ ولذلك كان {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} متقدما في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل {نُسْقِيكُمْ} وليس وصفا للبن.
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لللبن قوله تعالى: {خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}. فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شربه، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهمه.
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذ أن يعرف دقائق تكوينه، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وصف به العالم الكبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمع.
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} مراعاة لكون اللفظ مفردا لأن اسم الجمع لفظ مفرد، إذ ليس من صيغ الجموع، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفردا، وقد يراعي معناه فيعامل معاملة الجموع، كما في آية سورة المؤمنين [21] {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا}.
والخالص: المجرد مما يكدر صفاءه، فهو الصافي. والسائغ: السهل المرور في الحلق.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {نَسْقِيكُمْ} - بفتح النون - مضارع سقى. وقراه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف - بضم النون - على أنه مضارع أسقى، وهما لغتان وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضا عن النون على أن الضمير للأنعام.
[67] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [سورة النحل:66].
(13/162)
ووجود {من} في صدر الكلام يدل على تقدير فعل يدل عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو {نُسْقِيكُمْ} [سورة النحل:66]. فالتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقا ب {تَتَّخِذُونَ}، كما دل على ذلك وجود "من" الثانية في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} المانع من اعتبار تعلق {مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ} بـ {تَتَّخِذُونَ} ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصح جعله متعلقا بـ {تَتَّخِذُونَ} مقدما عليه، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.
وهذا عطف منه على منة، لآن {نُسْقِيكُمْ} وقع بيانا لجملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}
ومفاد فعل {نُسْقِيكُمْ} مفاد الامتنان لآن السقي مزية. وكلتا العبرتين في السقي. والمناسبة أن كلتيها ماء وأن كلتيها يضغط باليد، وقد أطلق العرب الحلب على عصير الخمر والنبيذ، قال حسان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جعل التذييل بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} عقب ذكر السقيين دون أن يذيل سقي الألبان بكونه آية، فالعبرة في خلق الثمار صالحة للعصر والاختمار، ومشتملة على منافع للناس ولذات. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ} [النحل:11] الآية.
وجملة {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} الخ في موضع الحال.
و "من" في الموضعين ابتدائية، فالأولى متعلقة بفعل {نُسْقِيكُمْ} المقدر، والثانية متعلقة بفعل {تَتَّخِذُونَ}. وليست الثانية تبعيضية، لأن السكر ليس بعض الثمرات، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.
والسكر - بفتحتين -: الشراب المسكر.
وهذا امتنان بما فيه لذتهم المرغوبة لديهم والمتفشية فيهم "وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكية وتحريم الخمر نزل بالمدينة" فالامتنان حينئذ بمباح.
والرزق: الطعام، ووصف بـ {حسنا} لما فيه من المنافع، وذلك التمر والعنب
(13/163)
لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلا وربا.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة.
والقول في جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مثل قوله آنفا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [سورة النحل:65]. والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر.
واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبر فيما وصفته الآية هنا، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم.
[68،69] {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
عطف عبرة على عبرة ومنة على منة. وغير أسلوب الاعتبار لما في هذه العبرة من تنبيه على عظيم حكمة الله تعالى، إذ أودع في خلقة الحشرة الضعيفة هذه الصنعة العظيمة وجعل فيها هذه المنفعة كما أودع في الأنعام ألبانها وأودع في ثمرات النخيل والأعناب شرابا، وكان ما في بطون النحل وسطا بين ما في بطون الأنعام وما في قلب الثمار فإن النحل يمتص ما في الثمرات والأنوار من المواد السكرية العسلية ثم يخرجه عسلا كما يخرج اللبن من خلاصة المرعى.
وفيه عبرة أخرى وهي أن أودع الله في ذبابة النحل إدراكا لصنع محكم مضبوط منتج شرابا نافعا لا يحتاج إلى حلب الحالب.
فافتتحت الجملة بفعلَ {أَوْحَى} دون أن تفتتح باسم الجلالة مثل جملة {والله أنزل} [سورة النحل:65]، لما في {أَوْحَى} من الإيماء إلى إلهام تلك الحشرة الضعيفة تدبيرا عجيبا وعملا متقنا وهندسة في الجبلة.
فكان ذلك الإلهام في ذاته دليلا على عظيم حكمة الله تعالى فضلا على ما بعده من دلالة على قدرة الله تعالى ومنة منه.
والوحي: الكلام الخفي والإشارة الدالة على معنى كلامي. ومنه سمي ما يلقيه
(13/164)
الملك إلى الرسول وحيا لأنه خفي عن أسماع الناس.
وأطلق الوحي هنا على التكوين الخفي الذي أودعه الله في طبيعة النحل، بحيث تنساق إلى عمل منظم مرتب بعضه على بعض لا يختلف فيه آحادها تشبيها للإلهام بكلام خفي يتضمن ذلك الترتيب الشبيه بعمل المتعلم بتعليم المعلم، أو المؤتمر بإرشاد الآمر، الذي تلقاه سرا، فإطلاق الوحي استعارة تمثيلية.
و {النَّحْلِ}: اسم جنس جمعي، واحده نحلة، وهو ذباب له جرم بقدر ضعفي جرم الذباب المتعارف، وأربعة أجنحة، ولون بطنه أسمر إلى الحمرة، وفي خرطومه شوكة دقيقة كالشوكة التي في ثمرة التين البربري "المسمى بالهندي" مختفية تحت خرطومه يلسع بها ما يخافه من الحيوان، فتسم الموضع سما غير قوي، ولكن الذبابة إذا انفصلت شوكتها تموت. وهو ثلاثة أصناف ذكر وأنثى وخنثى، فالذكور هي التي تحرس بيوتها ولذلك تكون محومة بالطيران والدوي أمام البيت وهي تلقح الإناث لقاحا به تلد الإناث إناثا.
والإناث هي المسماة اليعاسيب، وهي أضخم جرما من الذكور. ولا تكون التي تلد في البيوت إلا أنثى واحدة، وهي قد تلد بدون لقاح ذكر؛ ولكنها في هذه الحالة لا تلد إلا ذكورا فليس في أفراخها فائدة لإنتاج الوالدات.
وأما الخنثى فهي التي تفرز العسل، وهي العواسل، وهي أصغر جرما من الذكور وهي معظم سكان بيت النحل.
و {أن} تفسيرية، وهي ترشيح للاستعارة التمثيلية، لأن {أن} التفسيرية من روادف الأفعال الدالة على معنى القول دون حروفه.
واتخاذ البيوت هو أول مراتب الصنع الدقيق الذي أودعه الله في طبائع النحل فإنها تبني بيوتا بنظام دقيق، ثم تقسم أجزاءها أقساما متساوية بأشكال مسدسة الأضلاع بحيث لا يتخلل بينها فراغ تنساب منه الحشرات، لأن خصائص الأشكال المسدسة إذا ضم بعضها إلى بعض أن تتصل فتصير كقطعة واحدة، وما عداها من الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم تتصل وحصلت بينها فرج، ثم تغشي على سطوح المسدسات بمادة الشمع، وهو مادة دهنية متميعة أقرب إلى الجمود، تتكون في كيس دقيق جدا تحت بطن النحلة العاملة فترفعه النحلة بأرجلها إلى فمها وتمضغه وتضع بعضه لصق بعض لبناء المسدس المسمى بالشهد لتمنع تسرب العسل منها.
(13/165)
ولما كانت بيوت النحل معروفة للمخاطبين اكتفى في الاعتبار بها بالتنبيه عليها والتذكير بها.
وأشير إلى أنها تتخذ في أحسن البقاع من الجبال أو الشجر أو العرش دون بيوت الحشرات الأخرى. وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع، وبما تشتمل عليه من دقائق الصنعة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى في ضدها: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41].
وتقدم الكلام على الجبال عند قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} في سورة البقرة [260].
و {من} الداخلة على {الْجِبَالِ} وما عطف عليها بمعنى "في"، وأصلها {من} الابتدائية، فالتعبير بها دون "في" الظرفية لأن النحل تبني لنفسها بيوتا ولا تجعل بيوتها جحور الجبال ولا أغصان الشجر ولا أعواد العريش وذلك كقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]. وليست مثل "من" التي في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} [النحل:81].
و"ما يعرشون" أي ما يجعلونه عروشا، جمع عريش، وهو مجلس مرتفع على الأرض في الحائط أو الحقل يتخذ من أعواد ويسقف أعلاه بورق ونحوه ليكون له ظل فيجلس فيه صاحبه مشرفا على ما حوله.
يقال: عرش، إذا بنى ورفع، ومنه سمي السرير الذي يرتفع عن الأرض ليجلس عليه العظماء عرشا.
وتقدم عند قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} في سورة الأنعام [141]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} في سورة الأعراف [137].
وقرأ جمهور القراء بكسر راء- {يعرشون}. وقرأه ابن عامر بضمها.
و {ثم} للترتيب الرتبي، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتب عليه تكون العسل في بطونها، وذلك أعلى رتبة من أتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت، ولأنه أعظم فائدة للإنسان، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها. وسمي امتصاصها أكلا لأنها تقتاته فليس هو بشرب.
(13/166)
و {الثَّمَرَاتِ}: جمع ثمرة. وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلة. مثل التمر والعنب، والنحل يمتص من الأزهار قبل أن تصير ثمرات، فأطلق {الثَّمَرَاتِ} في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول.
وعطفت جملة {فَاسْلُكِي} بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها.
وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غددا دقيقة تفرز سائلا سكريا تمتصه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجتر. فذلك هو العسل.
والعسل حين القذف به في خلايا الشهد يكون مانعا رقيا، ثم يأخذ في جفاف ما فيه من رطوبة مياه الأزهار بسبب حرارة الشمع المركب منه الشهد وحرارة بيت النحل حتى يصير خاثرا، ويكون أبيض في الربيع وأسمر في الصيف.
والسلوك: المرور وسط الشيء من طريق ونحوه. وتقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الحجر [12].
ويستعمل في الأكثر متعديا كما في آية الحجر بمعنى أسلكه، وقاصرا بمعنى مر كما هنا، لأن السبل لا تصلح لأن تكون مفعول "سلك" المتعدي، فانتصاب {سبل} هنا على نزع الخافض توسعا.
وإضافة السبل إلى {ربك} للإشارة إلى أن النحل مسخرة لسلوك تلك السبل لا يعدلها عنها شيء، لأنها لو لم تسلكها لاختل نظام إفراز العسل منها.
و {ذُلُلاً} جمع ذلول، أي مذللة مسخرة لذلك السلوك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} في سورة البقرة [71].
وجملة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين
(13/167)
العجيب، فيكون مضمون جملة {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} بيانا لما سأل عنه. وهو أيضا موضع المنة كما كان تمام العبرة.
وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد الخروج وتكرره.
وعبر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنة، وليرتب عليه جملة {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. وسمي شرابا لأنه مائع يشرب شربا ولا يمضغ. وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى: {لكم منه شراب} في أوائل هذه السورة [10].
ووصفه بـ {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} لأن له مدخلا في العبرة، كقوله تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ} [الرعد:4]، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة.
وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبينة في علم الطب.
وجعل الشفاء مظروفا في العسل على وجه الظرفية المجازية. وهي الملابسة للدلالة على تمكن ملابسة الشفاء إياه، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل. فالظرفية تصلح للدلالة على تخلف المظروف عن بعض أجزاء الظرف، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالبا. شبه تخلف المقارنة في بعض الأحوال بقلة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها، وبذلك يبقى تعريف"الناس"على عمومه، وإنما التخلف في بعض الأحوال العارضة، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل.
وتنكير {شِفَاءٌ} في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا يقتضي أنه شفاء من كل داء، كما أن مفاد "في" من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال.
وعموم التعريف في قوله تعالى: {لِلنَّاسِ} لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ "الناس" عمومه بدلي. والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء. وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: "اسقه عسلا". فذهب فسقاه عسلا. ثم جاء، فقال: يا رسول الله
(13/168)
سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا؛ قال: "اذهب فاسقه عسلا"، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء، فقال: يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: "صدق الله وكذب بطن أخيك؛ فذهب فسقاه عسلا فبرى".
إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر الله عنه بوجوده في العسل ثابت، وأن مزاج أخي السائل لم يحصل فيه معارض ذلك، كما دل عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه أن يسقيه العسل، فإن خبره يتضمن أن العسل بالنسبة إليه باق على ما جعل الله فيه من الشفاء.
ومن لطيف النوادر ما في"الكشاف": أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية علي وآله. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك أضحوكة من أضاحيكهم.
قلت: الرجل الذي أجاب الرافضي هو بشار بن برد. وهذه القصة مذكورة في أخبار بشار.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} مثل الجملتين المماثلتين لها. وهو تكرير لتعداد الاستدلال، واختير وصف التفكر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق، ونظر عميق.
[70] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرفه في الخلق التصرف الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعه، على انفراده بربوبيتهم، وعلى عظيم قدرته. كما دل عليه تذييلها بجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فهو خلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفاهم كرها عليهم أو يردهم إلى حالة يكرهونها فلا يستطيعون ردا لذلك ولا خلاصا منه، وبذلك يتحقق معنى العبودية بأوضح مظهر.
وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النحل:65]. وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدل - بفتح الدال - على إثبات صفاته تصريحا
(13/169)
واضحا.
وجيء بالمسند فعليا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات، نحو: أنا سعيت في حاجتك. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. فهذه عبرة وهي أيضا منة، لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية، وفي التوفي أيضا نعم على المتوفي لأن به تندفع آلم الهرم، ونعم على نوعه إذ به ينظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم، وهذا كله بحسب الغالب فردا ونوعا، والله يخص بنعمته وبمقدارها من يشاء.
ولما قوبل"ثم يتوفاكم" بقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} علم أن المعنى ثم يتوفاكم في إبان الوفاة، وهو السن المعتادة الغالبة لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر.
والأرذل: تفضيل في الرذالة، وهي الرداءة في صفات الاستياء.
و {الْعُمُرِ}: مدة البقاء في الحياة، لأنه مشتق من العمر، وهو شغل المكان، أي عمر الأرض، قال تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9] ,فإضافة {أَرْذَلِ} إلى {الْعُمُرِ} التي هي من إضافة الصفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي، لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفس العمر. فأرذل العمر هو حال هرم البدن وضعف العقل، وهو حال في مدة العمر. وأما نفس مدة العمر فهي هي لا توصف برذالة ولا شرف.
والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين، لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة، وهذه الرذالة رذالة في الصحة لا تعلق لها بحالة النفس، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمى أرذل العمر فيهما، وقد "استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر".
ولام التعليل الداخلة على "كي" المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة تشبيها للصيرورة بالعلة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضا بالناس، إذ يرغبون في طول الحياة؛ وتنبيها على وجوب الإقصار من تلك الرغبة، كأنه قيل: منكم من يرد إلى أرذل العمر ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه لأنه يبطئ قبوله للعلم. وربما لم يتصور ما يتلقاه ثم يسرع إليه النسيان. والإنسان يكره حالة انحطاط علمه
(13/170)
لأنه يصير شبيها بالعجماوات.
واستعارة حرف العلة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} في سورة آل عمران [178]. وقد تقدم القول قريبا في ذلك عند قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} في هذه السورة [55].
وتنكير {علم} تنكير الجنس. والمعنى: لكيلا يعلم شيئا بعد أن كان له علم، أي ليزول منه قبول العلم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} تذييل تنبيها على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه. وقدم وصف العليم لأن القدرة تتعلق على وفق العلم، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه لأن همته تدعوه إلى ما ليس بالنائل. كما قال أبو الطيب:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
[71] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
هذا من الاستدلال على أن التصرف القاهر لله تعالى. وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والأمانة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرزق.
ولما كان الرزق حاصلا لكل موجود بني الاستدلال على التفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}.
ووجه الاستدلال به على التصرف القاهر أن الرزق حاصل لجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقترا عليه في الرزق، وبضده ترى أجهل الناس وأقلهم تدبيرا موسعا عليه في الرزق، وكلا الرجلين قد حصل به ما حصل قهرا عليه، فالمقتر عليه لا يدري أسباب التقتير، والموسع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه. وذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها. ومما ينسب إلى الشافعي:
(13/171)
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر، والحكيم لا يستفزه ذلك بعكس قول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وهذا الحكم دل على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالتحريرية وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع.
فجملة {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} مقدمة للدليل ومنة من الممن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق.
وليست الجملة مناط الاستدلال. إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} الآية.
والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}. والمعنى: الله لا غيره رزقكم جميعا وفضل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له.
وقد تم الاستدلال عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} بطريقة الإيجاز، كما قيل: لمحة دالة.
وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سووا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فسادا في تفكيرهم. وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحج "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعض مخلوقاته بحالة أهل النعمة المرزوقين، لأنهم لا يرضون أن يشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهية.
ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبهتين والمشبه بهما حالتا مولى وعبد، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا
(13/172)
رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم:28].
والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما يرضونه لأنفسهم، كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} إلى قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:57-60].
وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام.
وقوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} نفي. و "ما" نافية. والباء في {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} الباء التي تزاد في خبر النفي ب "ما" و "ليس".
والراد: المعطي. كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والخمس مردود عليكم"، أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوونهم بهم، أي فما ذلك بواقع.
وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي، لأن اليمين سبب وهمي للملك، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفا، فهي سبب وهمي ناشئ عن العادة.
وفرعت جملة {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} على جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ}، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه، أي لا يقع ذلك فيقع هذا، فموقع هذه الجملة الاسمية شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي.
وأما جملة {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} فصالحة لأن تكون مفرعة على جمل {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} باعتبار ما تضمنته من الامتنان، أي تفضل الله عليكم جميعا بالرزق أفبنعمة الله تجحدون، استفهاما مستعملا في التوبيخ، بحيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظ لها في الإنعام عليهم. وذلك جحود النعمة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]. وتكون جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} إلى قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} معترضة بين الجملتين.
وعلى هذا الوجه يكون في {يَجْحَدُونَ} على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة. ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول:
(13/173)
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها
ثم صرح بما وقع التعريض به بقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب {يَجْحَدُونَ} بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ويكون الاستفهام مستعملا في التحذير.
وتصلح جملة {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أن تكون مفرعة على جملة {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ} ، فيكون التوبيخ متوجها إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السعة منهم وسادتهم وقد كانوا أشد كفرا بالدين وتألبا على للمسلمين، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذ أفاض عليهم النعمة فيكونوا أشد إشراكا به، كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى: {يَجْحَدُونَ} في قراءة الجمهور بالتحتية جاريا على مقتضى الظاهر. وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتا من الغيبة إلى خطابهم إقبالا عليهم بالخطاب لإدخال الروع في نفوسهم.
وقد عدي فعل {يَجْحَدُونَ} بالباء لتضمنه معنى يكفرون، وتكون الباء لتوكيد تعلق الفعل بالمفعول مثل {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]. وتقديم {بِنِعْمَةِ} على متعلقة وهو {يَجْحَدُونَ} للرعاية على الفاصلة.
[72] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}
عطف على التي قبلها، وهو استدلال ببديع الصنع في خلق النسل إذ جعل مقارنا للتأنس بين الزوجين، إذ جعل النسل منهما ولم يجعله مفارقا لأحد الأبوين أو كليهما.
وجعل النسل معروفا متصلا بأصوله بما ألهمه الإنسان من داعية حفظ النسب، فهي من الآيات على انفراده تعالى بالوحدانية كما قال تعالى في سورة الروم [21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. فجعلها آية تنطوي على آيات، ويتضمن ذلك الصنع نعما كثيرة، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}.
(13/174)
والقول في جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في نظيرتيها المتقدمتين. واللام في {جَعَلَ لَكُمْ} لتعدية فعل {جَعَلَ} إلى ثان.
ومعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من نوعكم، كقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي على الناس الذين بالبيوت،وقوله: {رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:85].
والخطاب بضمير الجماعة المخاطبين موجه إلى الناس كلهم، وغلب ضمير التذكير.
وهذه نعمة إذ جعل قرين الإنسان متكونا من نوعه. ولو لم يجعل له ذلك لاضطر الإنسان إلى طلب التأنس بنوع آخر فلم يحصل التأنس بذلك للزوجين. وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان فهي نعمة يدركها الإنسان ولا يدركها غيره من الأنواع. وليس من قوام ماهية النعمة أن ينفرد بها المنعم عليه.
والأزواج: جمع زوج، وهو الشيء الذي يصير مع شيء آخر أثنين، فلذا وصف بزوج المرادف لشان. وقد مضى الكلام عليه في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
والوصف بالزوج يؤذن بملازمته لآخر، فلذا سمي بالزوج قرين المرأة وقرينة الرجل. وهذه نعمة اختص بها الإنسان إذ ألهمه الله جعل قرين له وجبله على نظام محبة وغيره لا يسمحان له بإهمال زوجه كما تهمل العجماوات إناثها وتنصرف إناثها عن ذكورها.
و {من} الداخلة على {أنفسكم} للتبعيض.
وجعل البنين للإنسان نعمة، وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى، لأن بها تحقق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر ودوام اتصالهم به بالنسبة، ووجود المشارك له في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم.
و {من} الداخلة على {أزواجكم} للابتداء، أي جعل لكم بنين منحدرين من أزواجكم.
والحفدة: جمع حافد، مثل كملة جمع كامل. والحافد أصله المسرع في الخدمة. وأطلق على ابن الابن لأنه يكثر أن يخدم جده لضعف الجد بسبب الكبر، فأنعم الله على
(13/175)
الإنسان بحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها، وهي كون أبنائه من زوجه ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام المحكم البديع. وغير الإنسان من الحيوان لا يشعر بحفدته أصلا ولا يشعر بالبنوة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبة من الإرضاع. والحفدة للإنسان زيادة في مسرة العائلة،قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. وقد عملت {مِنْ} الابتدائية في {حفدة} بواسطة حرف العطف لأن الابتداء يكون مباشرة وبواسطة.
وجملة {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} معطوفة على جملة {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وما بعدها، لمناسبة ما في الجمل المعطوف عليها من تضمن المنة بنعمة أفراد العائلة، فإن مكملاتها واسعة الرزق، كما قال تعالى في آل عمران [15] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} الآية. وقال طرفة:
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنون كرام سادة لمسود
فالمال والعائلة لا يروق أحدهما الآخر.
ثم الرزق يجوز أن يكون مرادا منه المال كما في قوله تعالى في قصة قارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]. وهذا هو الظاهر وهو الموافق لما في الآية المذكورة آنفا. ويجوز أن يكون المراد منه إعطاء المأكولات الطيبة، كما في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
و {من} تبعيضية.
و {الطَّيِّبَاتِ}: صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل رزقكم، أي الأرزاق الطيبات. والتأنيث لأجل الجمع. والطيب: فيعل صفة مبالغة في الوصف بالطيب. والطيب: أصله النزاهة وحسن الرائحة، ثم استعمل في الملائم الخالص من النكد، قال تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. واستعمل في الصالح من نوعه كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، في سورة الأعراف [58]. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل:32] وقد تقدم آنفا.
فالطيبات هنا الأرزاق الواسعة المحبوبة كما ذكر في الآية في سورة
(13/176)
آل عمران، أو المطعومات والمشروبات اللذيذة الصالحة. وقد تقدم ذكر الطيبات عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} في سورة العقود [5]، وذكر الطيب في قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} في سورة البقرة [168].
وفرع على هذه الحجة والمنة استفهام توبيخ على إيمانهم بالباطل البين، فتفريع التوبيخ عليه واضح الاتجاه.
والباطل: ضد الحق لأن ما لا يحق لا يعبد بحق. وتقديم المجرور في قوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ} على متعلقه للاهتمام بالتعريف بباطلهم.
والالتفات عن الخطاب السابق إلى الغيبية في قوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ} يجري الكلام فيه على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
وقوله تعالى: {وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} عطف على جملة التوبيخ، وهو توبيخ متوجه على ما تضمنه قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} إلى قوله تعالى: {ورزقكم من الطيبات} من الامتنان بذلك الخلق والرزق بعد كونهما دليلا على انفراد الله بالإلهية.
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} على عامله للاهتمام.
وضمير الغيبة في قوله تعالى: {هُمْ يَكْفُرُونَ} ضمير فصل لتأكيد الحكم بكفرانهم النعمة لأن كفران النعمة أخفى من الإيمان بالباطل، لأن الكفران يتعلق بحالات القلب، فاجتمع في الجملة تأكيدان: التأكيد الذي أفاده التقديم، والتأكيد الذي أفاده ضمير الفصل.
والإتيان بالمضارع في {يؤمنون} و {يَكْفُرُونَ} للدلالة على التجدد والتكرير.
وفي الجمع بين {يؤمنون} و {يَكْفُرُونَ} محسن بديع الطباق.
[73] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ}.
عطف على جملتي التوبيخ وهو مزيد من التوبيخ فإن الجملتين المعطوف عليها أفادتها توبيخا على إيمانهم بالآلهة الباطل وكفرانهم بنعمة المعبود الحق.
(13/177)
وهذه الجملة المعطوفة أفادت التوبيخ على شكر ما لا يستحق الشكر، فإن العبادة شكر، فهم عبدوا ما لا يستحق العبادة ولا بيده نعمة، وهو الأصنام، لأنها لا تملك ما يأتيهم من الرزق لاحتياجها، ولا تستطيع رزقهم لعجزها. فمفاد هذه الجملة مؤكد لمفاد ما قبلها مع اختلاف الاعتبار بموجب التوبيخ في كلتيهما.
وملك الرزق القدرة على إعطائه. والملك يطلق على القدرة، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. والرزق هنا مصدر منصوب على المفعولية، أي لا يملك أن يرزق.
و {مِنَ} في {مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ السماوات} ابتدائية، أي رزقا موصوفا بوروده من السماوات والأرض.
و {شَيْئاً} مبالغة في المنفي، أي ولا يملكون جزاء قليلا من الرزق، وهو منصوب على البدلية من {رِزْقاً}. فهو في معنى المفعول به كأنه قيل: لا يملك لهم شيئا من الرزق.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ} عطف على {يَمْلِكُ}، فهو من جملة صلة {مَا} فضمير الجمع عائد إلى {مَا} الموصولة باعتبار دلالتها جماعة الأصنام المعبودة لهم. وأجريت عليها صيغة جمع العقلاء مجاراة لاعتقادهم أنها تعقل وتشفع وتستجب.
وحذف مفعول {يَسْتَطِيعُونَ} لقصد التعميم، أي لا يستطيعون شيئا لأن تلك الأصنام حجارة لا تقدر على شيء. والاستطاعة: القدرة.
[74] {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}
تفريع على جميع ما سبق من الآيات والعبر والمنن، إذ قد استقام من جميعها انفراد الله تعالى بالإلهية، ونفي الشريك فيما خلق وأنعم، وبالأولى نفي أن يكون له ولد وأن يشبه بالحوادث، فلا جرم استتب للمقام أن يفرع على ذلك زجر المشركين عن تمثيلهم غير الله بالله في شيء من ذلك، وأن يمثلوه بالموجودات.
وهذا جاء على طريقة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: من الآية21] إلى قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22]،
(13/178)
وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس:78]
و {الْأَمْثَالَ} هنا جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل، كقولهم: شبه بمعنى مشابه. وضرب الأمثال شاع استعماله في تشبيه بحالة وهيئة بهيئة، وهو هنا استعمال آخر.
ومعنى الضرب في قولهم: ضرب كذا مثلا، بيناه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة. [26]
واللام ا في {لِلَّهِ} متعلقة بـ {الْأَمْثَالَ} لا بـ {تَضْرِبُوا} ، إذ ليس المراد أنهم يضربون مثل الأصنام بالله ضربا للناس كقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم: 28].
ووجه كون الإشراك ضرب مثل لله أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبهوها بالخالق، فإطلاق ضرب المثل عليه مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف: 58]. وقد كانوا يقولون عن الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والملائكة هن بنات الله من سروات الجن، فذلك ضرب مثل وتشبيه لله بالحوادث في التأثر بشفاعة الأكفاء والأعيان والأزهاء بالبنين.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} تعليل للنهي عن تشبيه الله تعالى بالحوادث، وتنبيه على أن جهلهم هو الذي أوقعهم في تلك السخافات من العقائد، وأن الله إذ نهاهم وزجرهم عن أن يشبهوه بما شبهوه إنما نهاهم لعلمه ببطلان اعتقادهم.
وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}
استدعاء لإعمال النظر الصحيح ليصلوا إلى العلم البريء من الأوهام.
[75] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]
أعقب زجرهم عن أن يشبهوا الله بخلقه أو أن يشبهوا الخلق بربهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبدا بسيده في الإنفاق، فجملة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً} الخ مستأنفة
(13/179)
استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73]
فشبه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرف في نفسه ولا يملك مالا، وشبه شأن الله تعالى في رزقه إياهم بحال الغني المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره. ومعرفة الحالين المشبهتين يدل عليها المقام، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتين، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية، ولذلك أعقب بجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ}.
وذيل هذا التمثيل بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} كما في سورة إبراهيم [26] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلى قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} الآية، فإن المقصود في المقامين متحد، والاختلاف في الأسلوب إنما يومئ إلى الفرق بين المقصود أولا والمقصود ثانيا كما أشرنا إليه هنالك.
والعبد: الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشراء أو بالإرث.
وقد وصف {عَبْداً} هنا بقوله {مَمْلُوكا} تأكيد للمعنى المقصود وإشعارا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرف في عمله تصرف الحرية.
وانتصب {عَبْداً} على البدلية من قوله تعالى: {مَثَلاً} وهو على تقدير مضاف، أي حال عبد، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصفات. وجملة {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} صفة {عَبْداً}، أي عاجزا عن كل ما يقدر عليه الناس، كأن يكون أعمى وزمنا وأصم، بحيث يكون أقل العبيد فائدة.
فهذا مثل لأصنامهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21-20]، وقوله تعالى: {نَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت:17].
و {مِنْ} موصولة ما صدقها حر، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرا وجهرا، أي كيف شاء. وهذا من تصرفات الأحرار. لأن العبيد لا يملكون رزقا في عرف العرب، وأما حكم تملك العبد مالا في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به.
(13/180)
والرزق: هنا اسم للشيء المرزوق به.
والحسن: الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قلة وجدان وقت الحاجة، أو إسراع فساد إليه كسوس البر، أو رداءة كالحشف. ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبه به من الحقارة وعدم أهلية التصرف والعجز عن كل عمل، ومن حال الحرية والغنى والتصرف كيف يشاء.
وجعلت جملة {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ} مفرعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصود لذاته كمال في موصوفه، فكونه صاحب رزق حسن كمال، وكونه يتصرف في رزقه بالإعطاء كمال آحر، وكلاهما بضد نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه.
وجعل المسند فعلا للدلالة على التقوي، أي ينفق إنفاقا ثابتا. وجعل الفعل مضارعا للدلالة على التجدد والتكرر، أي ينفق ويزيد.
{سِرّاً وَجَهْراً} حالان من ضمير {يُنْفِقُ} , وهما مصدران مؤولان بالصفة، أي مسرا وجاهرا بإنفاقه. والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق، كناية عن استقلال التصرف وعدم الوقاية من مانع إياه عن الإنفاق.
وهذا مثل لغنى الله تعالى وجوده على الناس.
وجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ} بيان لجملة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} فبين غرض التشبيه بأن المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدل به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصفة المشبهة بالحالة الثانية.
والاستفهام مستعمل في الإنكار.
وأما جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب بـ {بَلْ} الانتقالية. والمقصود من هذه الجملة أنه تبين من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختص بالشكر وأن أصنامهم لا تستحق أن تشكر.
ولما كان الحمد مظهرا من مظاهر الشكر في مظهر النطق جعل كناية عن الشكر هنا، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء
(13/181)
على الله وفي الحديث "الحمد رأس الشكر". 1
جيء بهذه الجملة البليغة الدلالة المفيدة انحصار الحمد في ملك الله تعالى، وهو إما حصر ادعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة، وإما قصر إضافي قصر إفراد للرد على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم.
ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدم قوله تعالى: {وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} [النحل:73]. فلما ضرب لهم المثل المبين لخطئهم وأعقب بجملة {هَلْ يَسْتَوُونَ} ثني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام.
وجملة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم.
وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحق ويكابر استبقاء للسيادة واستجلابا لطاعة دهمائهم، فهذا ذم لأكثرهم بالصراحة وهو ذم لأقلهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض.
وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر [29] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} لمراعاة أصحاب الهيئة المشبهة، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبه بعبد مملوك لا يقدر على شيء، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحق القادر المتصرف. وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليبا لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر.
[76] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
ـــــــ
1رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر مرفوعا وفي سنده انقطاع،وروى الديلمي ما يؤيد معنى هذا الحديث من حديث أنس بن مالك مرفوعا.
(13/182)
مُسْتَقِيمٍ}.
هذا تمثيل ثان للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبه. فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم، وهو العجز عن الإدراك، وعن العمل، وتعذر الفائدة منه في سائر أحواله؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنطق في إدراكه الخير وهديه إليه وإتقان عمله وعمل من يهديه ضربه الله مثلا لكماله وإرشاده الناس إلى الحق، ومثلا للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضر.
وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفننا في المخالفة بيبن أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} [النحل:75]. ومثل هذا التفنن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ.
والأبكم: الموصوف بالبكم بفتح الباء والكاف وهو الخرس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يفهم. وزيد في وصفه أنه زمن لا يقدر على شيء. وتقدم عند قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في أول سورة البقرة [18].
والكل - بفتح الكاف - العالة على الناس. وفي الحديث من ترك كلا فعلينا، أي من ترك عيالا فنحن نكلفهم. وأصل الكل: الثقل. ونشأت عنه معان مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة.
والمولى: الذي يلي أمر غيره. والمعنى: هو عالة على كافله لا يدبر أمر نفسه. وتقدم عند قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} في سورة آل عمران [56]، وقوله تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} في سورة يونس [30].
ثم زاد وصفه بقلة الجدوى بقوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأت بخير، أي لا يهتدي إلى ما وجه إليه لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه.
ودلت صلة {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصر فيه.
(13/183)
والعدل: الحق والصواب الموافق للواقع.
والصراط المستقيم: المحجة التي لا التواء فيها. وأطلق هنا على العمل الصالح، لأن العمل يشبه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحا كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشادا بل هو محتاج إلى من يكفله.
فالأول مثل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده.
[77] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
كان مما حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت، لأنهم توهموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده.
ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان وتفننت الأغراض بالمناسبات، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابة، ولكنه يمهلهم ويؤخرهم إلى أجل عينه في علمه لحكمته وحذرهم من مفاجأته، فثنى عنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج من قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرف الله ومشيئته متى شاءه. فذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بحيث لم يغادر شيئا مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بينه لهم استقصاء للأعذار لهم.
ومن مقتضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحة على تعليم وبإيمائه إلى تهديد وتحذير.
فاللام في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لام الملك. والغيب: مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي الأشياء الغائبة. وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفية والعوالم التي لا تصل
(13/184)
إلى مشاهدتها حواس المخلوقات الأرضية.
والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضا أنه عالم بها.
وتقديم المجرور أفاد الحصر، أي له لا لغيره. ولام الملك أفادت الحصر، فيكون التقديم مفيدا تأكيد الحصر أو هو للاهتمام.
و {أَمْرُ السَّاعَةِ}: شأنها العظيم فالأمر: الشأن المهم، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: "ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر"، أي شأن وخطب.
و {السَّاعَةِ}: علم الغلبة على وقت فناء العالم، وهي من جملة غيب الأرض.
ولمح البصر: توجهه إلى المرئي لأن اللمح هو النظر. ووجه الشبه هو كونه مقدورا بدون كلفة، لأن لمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد.
وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
ووجه الشبه يجوز أن يكون تحقق الوقوع بدون مشقة ولا أنظار عند إرادة الله تعالى ووقوعه، وبذلك يكون الكلام إثباتا لإمكان الوقوع وتحذيرا من الاغترار بتأخيره.
ويجوز أن يكون وجه الشبه السرعة، أي سرعة الحصول عند إرادة الله أي يحصل فجأة بدون أمارات كقوله تعالى: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [ألأعراف:187].
والمقصود: إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عما هم فيه من وقت الإنذار. ولا يتوهم أن يكون البصر تشبيها في سرعة الحصول إذ احتمال معطل لأن الواقع حارس منه.
و {أَوْ} في {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} للإضراب الانتقالي، إضرابا عن التشبيه الأول بأن المشبه أقوى في وجه الشبه من المشبه به، فالمتكلم يخيل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التشبيه ثم يعرض عن التشبيه بأن المشبه أقوى في وجه الشبه وأنه لا يجد له شبيها فيصرح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانيا.
ثم المراد بالقرب في قوله تعالى: {أَقْرَبُ} على الوجه الأول في تفسير لمح البصر
(13/185)
هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدورية بمنزلة الشيء القريب التناول كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ:16].
وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان، أي أقرب من لمح البصر حصة، أي أسرع حصولا.
والتذييل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} صالح لكلا التفسيرين.
[78] {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عود إلى إكثار الدلائل على انفراد الله بالتصرف وإلى تعداد النعم على البشر عطفا على جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:72] بعدما فصل بين تعداد النعم بما اقتضاه الحال من التذكير والإنذار.
وقد اعتبر في هذه النعم ما فيها من لطف الله تعالى بالناس ليكون من ذلك التخلص إلى الدعوة إلى الإسلام وبيان أصول دعوة الإسلام في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] إلى آخره.
والمعنى: أنه كما أخرجكم من عدم وجعل فيكم الإدراك وما يتوقف عليه الإدراك من الحياة فكذلك ينشئكم يوم البعث بعد العدم.
وإذ كان هذا الصنع دليلا على إمكان البعث فهو أيضا باعث على شكر الله بتوحيده ونبذ الإشراك فإن الإنعام يبعث العاقل على الشكر.
وافتتاح الكلام باسم الجلالة وجعل الخبر عنه فعلا تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النحل:65] والآيات بعده.
والإخراج: الإبراز من مكان إلى آخر.
والأمهات: جمع أم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} في سورة النساء [23].
والبطن: ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
وجملة {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} حال من الضمير في {أَخْرَجَكُمْ}. وذلك أن
(13/186)
الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسه تنقل الأشياء تدريجا فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكر.
فقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل، أي كونها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة، كما دلت عليه مقابلته بقوله تعالى: {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}، أي فعلمتم أشياء.
ووجه إفراد السمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} في سورة يونس [31]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام [46].
و {الْأَفْئِدَةَ} الأفئدة: جمع الفؤاد، وأصله القلب. ويطلق كثيرا على العقل وهو المراد هنا. فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيات، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية.
فالمراد بالسمع: الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصماخ، وبالإبصار: الإحساس المدرك للذوات الذي آلته الحدقة. واقتصر عليهما من بين الحواس لأنهما أهم، ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحق.
ثم ذكر بعدهما الأفئدة، أي العقل مقر الإدراك كله، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها، وهي العلم بالتصورات المفردة.
وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيات: ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان، وككون الكل أعظم من الجزء.
وإلى النظريات وتسمى الكسبيات، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التفريق، مثل أن يحضر في العقل: أن الجسم ما هو، وأن المحدث بفتح الدال ما هو. فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث بل لا بد فيه من علوم أخرى سابقة وهي ما يدل على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفة الحدوث.
فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية. وحصول هذه العلوم
(13/187)
البديهية إنما يحصل عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها. وحدوث هذه التصورات إنما هو بسبب إعانة الحواس على جزئياتها، فكانت الحواس الخمس هي السبب الأصلي لحدوث هذه العلوم، وكان السمع والبصر أول الحواس تحصيلا للتصورات وأهمها.
وهذه العلوم نعمة من الله تعالى ولطف، لأن بها إدراك الإنسان لما ينفعه وعمل عقله فيما يدله على الحقائق، ليسلم من الخطأ المفضي إلى الهلاك والأرزاء العظيمة، فهي نعمة كبرى. ولذلك قال تعالى عقب ذكرها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي هي سبب لرجاء شكرهم واهبها سبحانه.
والكلام على معنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} مضى غير مرة في نظيره ومماثله.
[79] {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
موقع هذه الجملة موقع التعليل والتدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه وعلى لطفه بالمخلوقات، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ودفع الأضرار نبه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلى مشاهدة لأضعف الحيوان، بأن تسخير الجو للطير وخلقها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنياتها، إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدواب.
فلأجل هذا الموقع لم تعطف الجملة على التي قبلها لأنها ليس في مضمونها نعمة على البشر، ولكنها آية على قدرة الله تعالى وعلمه، بخلاف نظيرتها في سورة الملك [19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} فإنها عطفت على آيات دالة على قدرة الله تعالى من قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6] ثم قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك:16] ثم قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} الآية. ولذلك المعنى عقبت هذه وحدها بجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
والتسخير: التذليل للعمل. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف [54].
(13/188)
والجو: الفضاء الذي بين الأرض والسماء. وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء في ما يخال الناظر.
والإمساك: الشد عن التفلت. وتقدم في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} في سورة البقرة [229].
والمراد هنا: ما يمسكهن عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها، وإمساك الله إياها خلقه الأجتحة لها والأذناب، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط، وخلق عظامها أخف من عظام الدواب بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفت خفة شديدة فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوست أعصاب أصلابها عند إرادتها النزول إلى الأرض أو الانخفاض في الهواء. فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت. فلولا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت، فسمي ذلك إمساكا على وجه الاستعارة، وهو لطف بها.
والرؤية: بصرية. وفعلها يتعدى بنفسه، فتعديته بحرف {إلى} لتضمين الفعل معنى "ينظروا".
و {مُسَخَّرَاتٍ}. وجملة {ما يمسكهن إلا الله} حال ثانية.
وقرأ الجمهور {أَلَمْ يَرَوْا} بياء الغائب على طريقة الالتفات عن خطاب المشركين في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل:78].
وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف {أَلَمْ تَرَوْا} بتاء الخطاب تبعا للخطاب المذكور.
والاستفهام إنكاري. معناه: إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخرات في الجو بتنزيل رؤيتهم إياها منزلة عدم الرؤية، لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدل عليه المرئي من انفراد الله تعالى بالإلهية.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن الإنكار على المشركين عدم الانتفاع بما يرونه من الدلائل يثير سؤالا في نفس السامع: أكان عدم الانتفاع بدلالة رؤية الطير عاما في البشر، فيجاب بان المؤمنين يستدلون من ذلك بدلالات كثيرة.
(13/189)
والتأكيد بـ {إِنَّ} مناسب لاستفهام الإنكار على الذين لم يروا تلك الآيات، فأكدت الجملة الدالة على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة، لأن الكلام موجه للذين لم يهتدوا بتلك الدلالة، فهم بمنزلة من ينكر أن في ذلك دلالة للمؤمنين لأن المشركين ينظرون بمرآة أنفسهم.
وبين الإنكار عليهم عدم رؤيتهم تسخير الطير وبين إثبات رؤية المؤمنين محسن الطباق. وبين نفي عدم رؤية المشركين وتأكيد إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسن الطباق أيضا. وبين ضمير {يروا} وقوله: "قوم يؤمنون" التضاد أيضا، فحصل الطباق ثلاث مرات. وهذا أبلغ طباق جاء محويا للبيان.
وجمع الآيات لأن في الطير دلائل مختلفة: من خلقة الهواء، وخلقة أجساد الطير مناسبة للطيران في الهواء، وخلق الإلهام للطير بان يسبح في الجو، وبأن لا يسقط إلى الأرض إلا بإرادته. وخصت الآيات بالمؤمنين لأنهم بخلق الإيمان قد ألفوا إعمال تفكيرهم في الاستدلال على حقائق الأشياء، بخلاف أهل الكفر فإن خلق الكفر مطبوع على النفرة من الاقتداء بالناصحين وعلى مكابرة الحق.
[80] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}
هذا من تعداد النعم التي ألهم الله إليها الإنسان، وهي نعمة الفكر بصنع المنازل الواقية والمرفهة وما يشبهها من الثياب والأثاث عطفا على جملة {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]. وكلها من الألطاف التي أعد الله لها عقل الإنسان وهيأ له وسائلها.
وهذه نعمة الإلهام إلى اتخاذ المساكن وذلك أصل حفظ النوع من غوائل حوادث الجو من شدة برد أو حر ومن غوائل السباع والهوام. وهي أيضا أصل الحضارة والتمدن لأن البلدان ومنازل القبائل تتقوم من اجتماع البيوت. وأيضا تتقوم من مجتمع الحلل والخيام.
والقول في نظم جملة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في التي قبلها.
(13/190)
وبيوت: يجوز فيه ضم الموحدة وكسرها، وهو جمع بيت. وضم الموحدة هو القياس لأنه على وزن فعول، وهو مطرد في جمع فعل - بفتح الفاء وسكون العين -. وأما لغة كسر الباء فلمناسبة وقوع الياء التحتية بعد الموحدة المضمونة، لأن الانتقال من حركة الضم إلى النطق بالياء ثقيل. وقال الزجاج: أكثر النحويين لا يعرفون الكسر "أي لا يعرفونه لغة" وبين أبو علي جوازه. وتقدم في سورة البقرة.
وبالكسر قرأ الجمهور. وقرأها بالضم أبو عمرو وورش عن نافع و حفص عن عاصم.
والبيت: مكان يجعل له بناء وفسطاط يحيط به يعين مكانه ليتخذه جاعله مفرا يأوي إليه ويستكن به من الحر و القر. وقد يكون محيطه من حجر وطين ويسمى جدارا، أو من أخشاب أو قصب أو غير ذلك وتسمى أيضا الأخصاص. ويوضع فوق محيطه غطاء ساتر من أعلاه يسمى السقف، يتخذ من أعواد ويطين عليها، وهذه بيوت أهل المدن والقرى.
وقد يكون المحيط بالبيت متخذا من أديم مدبوغ ويسمى القبة، أو من أثواب تنسج من وبر أو شعر أو صوف ويسمى الخيمة أو الخباء، وكلها يكون بشكل قريب من الهرمي تلتقي شقتاه أو شققه من أعلاه معتمدة على عمود وتنحدر منه متسعة على شكل مخروط. وهذه بيوت الأعراب في البوادي أهل الإبل والغنم يتخذونها لأنها أسعد لهم في انتجاعهم، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبعون مواقع الكلأ لإنعامهم والكمأة لعيشهم. وقد تقدم ذكر البيت عند قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} في سورة البقرة [125].
و {جَعَلَ} هنا بمعنى أوجد، فتتعدى إلى مفعول واحد.
والسكن: اسم بمعنى المسكون. والسكنى: مصدر سكن فلان البيت. إذا جعله مقرا له، وهو مشتق من السكون، أي القرار.
وانتصب قوله تعالى: {سَكَناً} على المفعولية لـ {جَعَلَ}.
وقوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} بيان للسكن، فتكون {مِنْ} بيانية، أو تجعل ابتدائية ويكون الكلام من قبيل التجريد بتنزيل البيوت منزلة شيء آخر غير السكن، كقولهم: لئن لقيت فلانا لتقين منه بحرا. وأصل التركيب: والله جعل لكم بيوتكم سكنا.
وقيل: إن {سَكَناً} مصدر وهو قول ضعيف، وعليه فيكون الامتنان بالإلهام الذي
(13/191)
دل عليه السكون، وتكون {مِنْ} ابتدائية، لأن أول السكون يقع في البيوت.
وشمل البيوت هنا جميع أصنافها.
وخص بالذكر القباب والخيام في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} لأن القباب من أدم والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار، وهي ناشئة من الجلد، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه، فإذا دبغ وأزيل منه الشعر فهو الأديم.
وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال والبشر كلهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلا.
والسين والتاء في {تَسْتَخِفُّونَهَا} للوجدان، أي تجدونها خفيفة، أي خفيفة المجمل حين ترحلون، إذ يسهل نقضها من مواضعها وطيها وحملها على الرواحل، وحين تنيخون إناخة الإقامة في الموضع المنتقل إليه فيسهل ضربها وتوثيقها في الأرض.
والظعن - بفتح الظاء والعين وتسكن العين -. وقد قرأه بالأول نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب، وبالثاني الباقون، وهو السفر.
وأطلق اليوم على الحين والزمن، أي وقت سفركم.
والأثاث - بفتح الهمزة - اسم جمع للأشياء التي تفرش في البيوت من وسائد وبسط وزرابي، وكلها تنسج أو تحشى بالأصواف والأشعار والأوبار.
والمتاع أعم من الأثاث، فيشمل الأعدال و الخطم و الرحائل و اللبود والعقل.
فالمتاع: ما يتمتع به وينتفع، وهو مشتق من المتع، وهو الذهاب بالشيء، ولملاحظة استقاقه تعلق به إلى حين. والمقصود من هذا المتعلق الوعظ بأنها أو أنهم صائرون إلى زوال يحول دون الانتفاع بها ليكون الناس على أهبة واستعداد للآخرة فيتبعوا ما يرضي الله تعالى، كما قال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف:20].
[81] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}
(13/192)
عطف على أخواتها.
والقول في نظم {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} كالقول في نظائره المتقدمة.
وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقي من أضرار الحر والقر في حالة الانتقال، أعقبت به المنة بذلك في حال الإقامة والسكنى، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقي باستعمال الموجود وصنع ما يحتاج إليه الإنسان من اللباس، إذ خلق الله الظلال صالحة للتوقي من حر الشمس، وخلق الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها، وخلق الحديد لاتخاذ الدروع للقتال.
و "من" في {مِمَّا خَلَقَ} ابتدائية.
والظلال تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل:48] آنفا، لأن الظلال آثار حجب الأجسام ضوء الشمس من الوقوع على الأرض.
والأكنان: جمع كن - بكسر الكاف - وهو فعل بمعنى مفعول، أي مكنون فيه، وهي الغيران والكهوف.
و "من" في قوله تعالى: {مِمَّا خَلَقَ}، و {مِنَ الْجِبَالِ} ، للتبعيض. كانوا يأوون إلى الكهوف في شدة حر الهجير أو عند اشتداد المطر، كما ورد في حديث الثلاثة الذين سألوا الله بأفضل أعمالهم في"صحيح البخاري".
والسرابيل:جمع سربال، وهو القميص يقي الجسد حر الشمس، كما يقيه البرد.
وخص الحر هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها.على أنه لما ذكر الدفء في قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] ذكر ضده هنا.
والسرابيل التي تقي البأس: هي دروع الحديد. ولها من أسماء القميص الدرع، والسربال، والبدن.
والبأس: الشدة في الحرب. وإضافة إلى الضمير على معنى التوزيع، أي تقي بعضكم بأس بعض، كما فسر به قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، وهو
(13/193)
بأس السيوف، وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الانبياء: 80].
وجملة {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} تذييل لما ذكر من النعم، والمشار إليه هو ما في النعم المذكورة من الإتمام، أو إلى الإتمام المأخوذ من {يُتِمُّ}.
و "لعل" للرجاء، استعملت في معنى الرغبة، أي رغبة في أن تسلموا، أي تتبعوا دين الإسلام الذي يدعوكم إلى ما مآله شكر نعم الله تعالى.
وتقدم تأويل معنى الرجاء في كلام الله تعالى من سورة البقرة.
[82] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
تفريع على جملة {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} وقع اعتراضا بين جملة {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [النحل:81] وجملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل:84].
وقد حول الخطاب عنهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو نوع من الالتفات من أسلوب إلى أسلوب والتفات عمن كان الكلام موجها إليه بتوجيه الكلام إلى شخص آخر.
والمعنى: كذلك يتم نعمته عليكم لتسلموا فإن لم يسلموا فإنما عليك البلاغ.
والمقصود: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على عدم استجابتهم.
والتولي: الإعراض. وفعل {تَوَلَّوْا} هنا بصيغة المضي، أي فإن أعرضوا عن الدعوة فلا تقصير منك ولا غضاضة عليك فإنك قد بلغت البلاغ المبين للمحجة.
والقصر إضافي، أي ما عليك إلا البلاغ لا تقليب قلوبهم إلى الإسلام، أو لا تولي جزاءهم على الإعراض، بل علينا جزاؤهم كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
وجعل هذا جوابا لجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} من إقامة السبب والعلة مقام المسبب والمعلول: وتقدير الكلام: فإن تولوا فلا تقصير ولا مؤاخذة عليك لأنك ما عليك إلا البلاغ. ونظير هذه قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
(13/194)
[83] {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}
استئناف بياني لأن توليهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتباعه يثير سؤالا في نفس السامع: كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام. فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة. ويجوز أن تجعلها حالا من ضمير {تَوَلَّوْا}. ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة {تَوَلَّوْا}.
وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها. والمعنى: هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها، ومع تحققهم أنها نعمة من الله ينكرونها، أي ينكرون شكرها فإن النعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه، فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها، فقد أطلق فعل" ينكرون "بمعنى إنكار حق النعمة، فإسناد إنكار النعمة إليهم مجاز لغوي، أو هو مجاز عقلي، أي ينكرون ملابسها وهو الشكر.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل، فهو عطف على جملة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}، وكأنه قيل: وينكرونها، لأن {ثُمَّ} لما كانت للعطف اقتضت التشريك في الحكم، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له فبقي لها معنى التشريك وصارت المهلة مهلة رتبية لأن إنكار نعمة الله أمر غريب.
وإنكار النعمة يستوي فيه جميع المشركين أيمتهم ودهماؤهم، ففريق من المشركين وهم أيمة الكفر شانهم التعقل والتأمل فإنهم عرفوا النعمة بإقرارهم بالمنعم وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى ترددوا وشكوا في دين الشرك ثم ركبوا رؤوسهم وصمموا على الشرك. ولهذا عبر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار.
وأما قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} فظاهر كلمة "أكثر" وكلمة {الْكَافِرُونَ} أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين، فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النظر فهم لا يشعرون بنعمة الله، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة، فكان إشراكهم راسخا، بخلاف عقلائهم وأهل النظر فإن لهم ترددا في نفوسهم ولكن يحملهم على الكفر حب السيادة في قومهم. وقد تقدم قوله تعالى فيهم {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103]. وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
(13/195)
[84] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
الواو عاطفة جملة {يَوْمَ نَبْعَثُ} الخ على جملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:82] بتقدير: واذكر يوم نبعث من كل أمة شهيدا. فالتذكير بذلك اليوم من البلاغ المبين. والمعنى: فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين، وسنجازي يوم نبعث من كل أمة شهيدا عليها. ذلك أن وصف شهيد يقتضي أنه شاهد على المؤمنين به وعلى الكافرين، أي شهيد لأنه بلغهم رسالة الله.
وبعث شهيد من كل أمة يفيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم شهيد على هؤلاء الكافرين كما سيجيء عقبه قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89]، وبذلك انتظم أمر العطف والتخلص إلى وصف يوم الحساب وإلى التنويه بشأنه.
وانتصب {يَوْمَ نَبْعَثُ} على المفعول به للفعل المقدر. ولك أن تجعل {يَوْمَ} منصوبا على الظرفية لعامل محذوف يدل عليه الكلام المذكور يقدر بما يسمح به المعنى، مثل: نحاسبهم حسابا لا يستعتبون منه، أو وقعوا فيما وقعوا من الخطب العظيم.
والذي دعا إلى هذا الحذف هو أن ما حقه أن يكون عاملا في الظرف وهو {لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قد حول إلى جعله معطوفا على جملة الظرف بحرف {ثُمَّ} الدال على التراخي الرتبي، إذ الأصل: ويوم نبعث من كل أمة شهيدا لا يؤذن للذين كفروا... إلى آخره، فبقي الظرف بدون متعلق فلم يكن للسامع بد من تقديره بما تذهب إليه نفسه. وذلك يفيد التهويل والتفظيع وهو من بديع الإيجار.
والشهيد: الشاهد. وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} في سورة النساء [41].
والبعث: إحضاره في الموقف.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن إلجامهم عن الكلام مع تعذر الاستعتاب أشد هولا من الإتيان بالشهيد عليهم. وليست {ثُمَّ} للتراخي في الزمن، لأن عدم الإذن لهم مقارن لبعث الشهيد عليهم. والمعنى: لا يؤذن لهم بالمجادلة عن أنفسهم، فحذف متعلق {يُؤْذَنُ} لظهوره من قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
(13/196)
ويجوز أن يكون نفي الإذن كناية عن الطرد كما كان الإذن كناية عن الإكرام، كما في حديث جرير بن عبد الله: "ما استأذنت رسول الله منذ أسلمت إلا أذن لي" . وحينئذ لا يقدر له متعلق، أو لا يؤذن لهم في الخروج من جهنم حين يسألونه بقولهم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] فهو كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35].
و الاستعتاب: أصله طلب العتبى، والعتبى: الرضى بعد الغضب. يقال: استعتب فلان فلانا فأعتبه، إذا أرضاه، قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24].
وإذا بني للمجهول فالأصل أن يكون نائب فاعله هو المطلوب منه الرضى، تقول: استعتب فلان فلم يعتب. وأما ما وقع في القرآن منه مبنيا للمجهول فقد وقع نائب فاعله ضمير المستعتبين كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى في سورة الروم [57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، وفي سورة الجاثية [35] {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. ففسره الراغب فقال: الاستعتاب أن يطلب من الإنسان أن يطلب العتبى اه.
وعليه فقال: استعتب فلم يستعتب، ويقال: على الأصل استعتب فلان فلم يعتب. وهذا استعمال نشأ عن الحذف. وأصله: استعتب له، أي طلب منه أن يستعتب، فكثر في الاستعمال حتى قل استعمال استعتب مبنيا للمجهول في غير هذا المعنى.
وعطف {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} على {لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وإن كان أخص منه، فهو عطف خاص على عام، للاهتمام بخصوصه للدلالة على أنهم مأيوس من الرضى عنهم عند سائر أهل الموقف بحيث يعلمون أن لا طائل في استعتابهم، فلذلك لا يشير أحد عليهم بأن يستعتبوا. فإن جعلت {لا يُؤْذَنُ} كناية عن الطرد فالمعنى: أنهم يطردون ولا يجدون من يشير عليهم بأن يستعتبوا.
[85] {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
عطف على جملة {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:84] و {إِذَا} شرطية ظرفية.
وجملة {فَلا يُخَفَّفُ} جواب {إِذَا} وقرن بالفاء لتأكيد معنى الشرطية والجوابية
(13/197)
لدفع احتمال الاستئناف.
وصاحب"الكشاف" جعل {إِذَا} ظرفا مجردا عن معنى الشرطية منصوبا بفعل محذوف لقصد التهويل يقتضي تقديره عدم وجود متعلق للظرف فيقدر له متعلق بما يناسب، كما قدر في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} [النحل:84]. والتقدير: إذا رأى الذين ظلموا العذاب ثقل عليهم وبغتهم، وعلى هذا فالفاء في قوله: {فَلا يُخَفَّفُ} فصيحة وليست رابطة للجواب.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم الذين كفروا، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبسين بها عليهم. والمعنى: فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفف عنهم، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك.
وأطلق العذاب على آلاته ومكانه.
وجاء المسند إليه مخبرا عنه بالجملة الفعلية، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوي الحكم، فأريد تقوي حكم النفي، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقق الوقوع لا طماعية في إخلافه، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب.
[86, 87] {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
{الَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم الذين ظلموا الذين يرون العذاب، وهم الذين كفروا والذين لا يؤذن لهم. وإجراء هذه الصلات الثلاث عليهم لزيادة التسجيل عليهم بأنواع إجرامهم الراجعة إلى تكذيب ما دعاهم الله إليه، وهو نكتة الإظهار في مقام الإضمار هنا، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} [النحل:85].
فالإشراك المقصود هنا هو إشراكهم الأصنام في صفة الإلهية مع الله تعالى، فيتعين أن يكون المراد بالشركاء الأصنام، أي الشركاء لله حسب اعتقادهم. وبهذا الاعتبار أضيف لفظ "شركاء" إلى ضمير {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في قوله تعالى: {شُرَكَاءَهُمْ}، كقول خالد بن
(13/198)
الصقعب النهدي لعمرو بن معد يكرب وقد تحدث عمرو في مجلس قوم بأنه أغار على بني نهد وقتل خالدا، وكان خالد حاضرا في ذلك المجلس فناداه: مهلا أبا ثور قتيلك يسمع، أي قتيلك المزعوم، فالإضافة للتهكم. والمعنى: إذا رأى الذين أشركوا الشركاء عندهم، أي في ظنهم.
ولك أن تجعل لفظ "شركاء" لقبا زال منه معنى الوصف بالشركة وصار لقبا للأصنام، فتكون الإضافة على أصلها.
والمعنى: أنهم يرون الأصنام حين تقذف معهم في النار، قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وقولهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا} إما من قبيل الاعتراف عن غير إرادة فضحا لهم، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، وإما من قبيل التنصل وإلقاء التبعة على المعبودات كأنهم يقولون هؤلاء أغرونا بعبادتهم من قبيل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167].
والفاء في {فَأَلْقَوْا} للتعقيب للدلالة على المبادرة بتكذيب ما تضمنه مقالهم، أنطق الله تلك الأصنام فكذبت ما تضمنه مقالهم من كون الأصنام شركاء لله، أو من كون عبادتهم بإغراء منها تفضيحا لهم وحسرة عليهم.
والجمع في اسم الإشارة واسم الموصول جمع العقلاء جريا على اعتقادهم إلهية الأصنام.
ولما كان نطق الأصنام غير جار على المتعارف عبر عنه بالإلقاء المؤذن بكون القول أجراه الله على أفواه الأصنام من دون أن يكونوا ناطقين فكأنه سقط منها.
وإسناد الإلقاء إلى ضمير الشركاء مجاز عقلي لأنها مظهره.
وأجرى عليهم ضمير جمع العقلاء في فعل"ألقوا"مشاكلة لاسم الإشارة واسم الموصول للعقلاء.
ووصفهم بالكذب متعلق بما تضمنه كلامهم أن أولئك آلهة يدعون من دون الله على نحو ما وقع في الحديث: "فيقال للنصارى:ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من ولد".
(13/199)
وأما صريح كلامهم وهو قولهم: {هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} فهم صادقون فيه.
وجملة {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} بدل من {القول}. وأعيد فعل {أَلْقَوْا} في قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} لاختلاف فاعل الإلقاء، فضمير القول الثاني عائد إلى {الَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
ولك أن تجعل فعل {أَلْقَوْا} الثاني مماثلا لفعل {أَلْقَوْا} السابق. ولك أن تجعل الإلقاء تمثيلا لحالهم بحال المحارب إذا غلب إذ يلقي سلاحه بين يدي غالبه، ففي قوله: {أَلْقَوْا} مكنية تمثيلية مع ما في لفظ {أَلْقَوْا} من المشاكلة.
والسلم - بفتح اللام -: الاستسلام، أي الطاعة وترك العناد.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم وزايلهم ما كانوا بفترونه في الدنيا من الاختلافات للأصنام من أنها تسمع لهم ونحو ذلك.
[88] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}
لما ذكر العذاب الذين هم لاقوه على كفرهم استأنف هنا بذكر زيادة العذاب لهم على الزيادة في كفرهم بأنهم يصدون الناس عن اتباع الإسلام، وهو المراد بالصد عن سبيل الله، أي السبيل الموصلة إلى الله، أي إلى الكون في أوليائه وحزبه. والمقصود: تنبيه المسلمين إلى كيدهم وإفسادهم، والتعريض بالتحذير من الوقوع في شراكهم.
وزيادة العذاب: مضاعفته.
والتعريف في قوله تعالى: {فَوْقَ الْعَذَابِ} تعريف الجنس المعهود حيث تقدم ذكره في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} [النحل:85]، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوما بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود، وأما عذاب صدهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولا فناسبه التنكير.
والباء في {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} للسببية. والمراد: إفسادهم الراغبين في الإسلام بتسويل البقاء على الكفر، كما فعلوا مع الأعشى حين جاء مكة راغبا في الإسلام مادحا الرسول صلى الله عليه وسلم بقصيدة:
هل اغتمضت عيناك ليلة أرمدا
(13/200)
وقصته في كتب السيرة والأدب. وكما فعلوا مع عامر بن الطفيل الدوسي فإنه قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه. وقد ذكر في قصة إسلام أبي ذر كيف تعرضوا له بالأذى في المسجد الحرام حين علموا إسلامه.
[89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ}
تكرير لجملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [النحل:84]
ليبنى عليه عطف جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} على جملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ}.
ولما كان تكريرا أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكدة مقترنة بالواو، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضا.
ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:84،85]، فهو كالإعادة في قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنانها
مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول.
وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل.
وعدي فعل {نَبْعَثُ} هنا بحرف {فِي} ، وعدي نظيره في الجملة السابقة بحرف {من} ليحصل التفنن بين المكررين تجديدا لنشاط السامعين.
وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها
(13/201)
مساغا للطعن.
ولم تخل أيضا بعد التعريض بالتحذير من صد الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيدا يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضر أعدائهم.
والقول في بقية هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها.
ولما بعث الشهداء للأمم الماضية مرادا به بعثهم يوم القيامة عبر عنه بالمضارع.
وجملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} كلها. فالمعنى: وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمتك شهيدا عليهم، أي مقدرا أن تكون شهيدا عليهم يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان حيا في آن نزول هذه الآية كان شهيدا في الحال والاستقبال، فاختير لفظ الماضي في {جِئْنَا} للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته.
ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقية إخوانه الشهداء على الأمم، إذ المقصود من ذلك كله تهديد قومه وتحذيرهم. وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النحل:89] الآية.
وقد علمت من هذا أن جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً} ليست معطوفة على {نَبْعَثُ} بحيث تدخل في حيز الظرف وهو {يوم}، بل معطوفة على مجموع جملة {يَوْمَ نَبْعَثُ}، لأن المقصود: وجئنا بك شهيدا من وقت إرسالك. وعلى هذا يكون الكلام تم عند قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فيحسن الوقف عليه لذلك.
ويجوز أن تعطف على جملة {نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} فتدخل في حيز الظرف ويكون الماضي مستعملا في معنى الاستقبال مجازا لتحقق وقوعه، فشابه به ما حصل ومضى، فيكون الوقف على قوله: {شَهِيداً}. ويتحصل من تغيير صيغة الفعل المضارع إلى الماضي تهيئ عطف {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}.
ولم يوصف الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم وشهيد عليهم جميعا، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} في سورة التوبة [128] فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضموا الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم.
(13/202)
وليس في قوله: {عَلَى هَؤُلاءِ} ما يقتضي تخصيص شهادته بكونها شهادة على المتحدث عنهم من أهل الشرك، ولكن اقتصر عليهم لأن الكلام جار في تهديدهم وتحذيرهم.
و {هَؤُلاءِ} إشارة إلى حاضر في الذهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم. وقد تتبعت مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يعني به المشركون من أهل مكة. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء [41]، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في سورة الأنعام [89].
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
عطف على جملة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً} أي أرسلناك شهيدا على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على المكذبين ومرشد للمؤمنين.
وهذا تخلص للشروع في تعداد النعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الأمثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزل لهم.
وتعريف الكتاب للعهد، وهو القرآن.
و {تِبْيَاناً} مفعول لأجله. والتبيان مصدر دال على المبالغة غي المصدرية، ثم أريد به اسم الفاعل فحصلت مبالغتان، وهو - بكسر التاء -، ولا يوجد مصدر بوزن تفعال - بكسر التاء - إلا تبيان بمعنى البيان كما هنا. وتلقاء بمعنى اللقاء لا بمعنى المكان، وما سوى ذلك من المصادر الواردة على هذا الزنة - بفتح التاء -.
وأما أسماء الذوات والصفات الواردة على هذه الزنة فهي - بكسر التاء - وهي قليلة، عد منها: تمثال، و تنبال، للقصير. وأنهاها ابن مالك في نظم الفوائد1 إلى أربع عشر كلمة2 و"كل شيء" يفيد العموم، إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدني، وتبين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما
ـــــــ
1منظومة ليست على روي واحد كذا في "كشف الظنون"
2انظرها في تفسير الألوسي
(13/203)
يأتي من خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كله أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى الله عليه وسلم وما قفاه به أصحابه وعلماء أمته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعد للطائعين وما أعد للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة. ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصر في هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه. وهذا من أبدع الإعجاز.
وخص بالذكر الهدى والرحمة والبشرى لأهميتها، فالهدى ما يرجع من التبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال. والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى، والبشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية.
وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لما أعرضوا عنه حرموا أنفسهم الانتفاع بخواصه كلها.
فاللام في {لِكُلِّ شَيْءٍ} متعلق بالتبيان، وهي لام التقوية، لأن"كل شيء" في معنى المفعول به لـ {تِبْيَاناً}. واللام في {للمسلمين} لام العلة بتنازع تعلقها"تبيان وهدى ورحمة وبشرى"وهذا هو الوجه.
[90] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي، إذ الشريعة كلها أمر ونهي والتقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب. فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانا لكل شيء، فهي جامعة أصول التشريع.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بشأن ما حوته. وتصديرها باسم الجلالة للتشريف، وذكر {يَأْمُرُ} و {يَنْهَى} دون أن يقال: اعدلوا واجتنبوا الفحشاء، للتشويق.
(13/204)
ونظيره ما في الحديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا" الحديث.
والعدل: إعطاء الحق إلى صاحبه. وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته، قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، ومأمور بالعدل في المعاملة وهي معاملة، مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه؛ ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقد تقدم في سورة النساء [58].
ومن هذا تفرعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب، وحقوق وأقضية، وشهادات، ومعاملة مع الأمم، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة. فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة وفهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكة، فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية.
وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها. والحسن: ما كان محبوبا عند المعامل به ولم يكن لازما لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ودون ذلك التقرب إلى الله بالنوافل. ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حرم الإحسان بحكم الشرع".
ومن أدنى مراتب الإحسان ما في حديث "الموطأ": "أن امرأة بغيا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثرى فنزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها".
وفي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
(13/205)
ذبحتم فأحسنوا الذبحة".
ومن الإحسان أن يجازي المحسن إليه المحسن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب.
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة. والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. وتقدم عند قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} في سورة الأنعام [151].
وخص الله بالذكر من جنس أنواع العدل والإحسان نوعا مهما يكثر أن يغفل الناس عنه ويتهاونوا بحقه أو بفضله، وهو إيتاء ذي القربى فقد تقرر في نفوس الناس الاعتناء باجتلاب الأبعد واتقاء شره، كما تقرر في نفوسهم الغفلة عن القريب والاطمئنان من جانبه وتعود التساهل في حقوقه. ولأجل ذلك كثر أن يأخذوا أموال الأيتام من مواليهم، قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الاسراء:26]، وقال: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء:127] الآية. ولأجل ذلك صرفوا معظم إحسانهم إلى الأبعدين لاجتلاب المحمدة وحسن الذكر بين الناس. ولم يزل هذا الخلق متفشيا في الناس حتى في الإسلام إلى الآن ولا يكترثون بالأقربين.
وقد كانوا في الجاهلية يقصدون بوصايا أموالهم أصحابهم من وجوه القوم، ولذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180].
فخص الله بالذكر من بين جنس العدل وجنس الإحسان إيتاء المال إلى ذي القربى تنبيها للمؤمنين يومئذ بأن القريب أحق بالإنصاف من غيره وأحق بالإحسان من غيره لأنه محل الغفلة ولأن مصلحته أجدى من مصلحة أنواع كثيرة.
وهذا راجع إلى تقويم نظام العائلة والقبيلة تهيئة بنفوس الناس إلى أحكام المواريث التي شرعت فيما بعد.
وعطف الخاص على العام اهتماما به كثير في الكلام، فإيتاء ذي القربى ذو حكمين: وجوب لبعضه. وفضيلة لبعضه، وذلك قبل فرض الوصية، ثم فرض المواريث.
وذو القربى: هو صاحب القرابة، أي من المؤتي. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} في سورة الأنعام [152].
(13/206)
والإيتاء: الإعطاء. والمراد: إعطاء المال، قال تعالى: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177].
ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أصول المفاسد.
فأما الفحشاء: فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء: من اعتقاد باطل أو عمل مفسد للخلق، والتي تضر بأفراد الناس بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال، أو تضر بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنى أو تقامر أو شرب خمر. فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري، وقد سماها الله الفواحش. وتقدم ذكر الفحشاء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة [169]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} في سورة الأعراف [33] وهي مكية.
وأما المنكر فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة وتكرهه الشريعة من فعل أو قول، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2]، وقال: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} [العنكبوت:]. والاستنكار مراتب، منها مرتبة الحرام، ومنها مرتبة المكروه فإنه منهي عنه. وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسبة الحاجي، وكذلك ما يعطل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضر.
وخص الله بالذكر نوعا من الفحشاء والمنكر، وهو البغي اهتماما بالنهي عنه وسدا لذريعة وقوعه، لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسب فشوه بين الناس؛ وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء، فكانوا يكثر فيهم البغي على الغير إذا لقي المعجب بنفسه من أحد شيئا يكرهه أو معاملة يعدها هضمية وتقصيرا في تعظيمه. وبذلك كان يختلط على مريد البغي حسن الذب عما يسميه الشرف وقبح مجاوزة حد الجزاء.
فالبغي هو الاعتداء في المعاملة، إما بدون مقابلة ذنب كالغارة التي كانت وسيلة كسب في الجاهلية، وإما بمجاوزة الحد في مقابلة الذنب كالإفراط في المؤاخذة، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في سورة
(13/207)
الأعراف [33].
فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة، والنهي عن ثلاثة، بل في الأمر بشيئين وتكملة، والنهي عن شيئين وتكملة.
روى أحمد بن حنبل:أن هذه كانت السبب في تمكن الإيمان من عثمان ابن مظعون، فإنها لما نزلت كان عثمان بن مظعون بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حديث الإسلام، وكان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وقراها النبي عليه. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي. وعن عثمان بن أبي العاص: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال: "أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع" {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} الآية اه. وهذا يقتضي أن هذه الآية لم تنزل متصلة بالآيات التي قبلها فكان وضعها في هذا الموضع صالحا لأن يكون بيانا لآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] الخ، ولأن تكون مقدمة لما بعدها {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] الآية.
وعن ابن مسعود: أن هذه الآية أجمع آية في القرآن.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية، وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
وروى ابن ماجه عن علي قال: أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم. فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه، فقال مفروق بن عمرو منهم: إلام تدعونا أخا قريش، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية. فقال: "دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك".
وقد روي أن الفقرات الشهيرة التي شهد بها الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بكلام بشر" قالها عند سماع هذه الآية.
وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما استخلف سنة 99 كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم
(13/208)
الجمعة وتجعل تلاوتها عوضا عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وفي تلاوة هذه الآية عوضا عن ذلك السب دقيقة أنها تقتضي النهي عن ذلك السب إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي.
ولم أقف على تعيين الوقت التي ابتدع فيه هذا السب ولكنه لم يكن في خلافة معاوية - رضي الله عنه -.
وفي"السيرة الحلبية"أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألف كتابا سماه"الشجرة"بين فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية وسماه السبكي في الطبقات"شجرة المعارف".
وجملة {يَعِظُكُمْ} في موضع الحال من اسم الجلالة.
والوعظ: كلام يقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد وتحريضه على الصلاح. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63].
والخطاب للمسلمين لأن الموعظة من شأن من هو محتاج للكمال النفساني، ولذلك قارنها بالرجاء بـ {لعلكم تذكرون}.
والتذكر: مراجعة المنشي المغفول عنه، أي رجاء أن تتذكروا، أي تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه فإنها جامعة باقية في نفوسكم.
[91] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}
لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبين لكل شيء. ولا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا. وهو ما بايعوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه: أن لا يعصوه في معروف. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكة.
وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية.
(13/209)
والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة. وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]. والمقصود: تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله.
و {إذا} لمجرد الظرفية، لأن المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء. فالمعنى: أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد. والقرينة على ذلك قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91].
والعهد: الحلف. وتقدم في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}. وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان: إبطال ما كانت لأجله. فالنقض إبطال المحلوف عليه لا إبطال القسم، فجعل إبطال المحلوف عليه نقضا لليمين في قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} تهويلا وتغليظا للنقض لأنه نقض لحرمة اليمين.
و {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} زيادة في التحذير، وليس قيدا للنهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية.
و {بعد} هنا بمعنى "مع"، إذ البعدية والمعية أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
أي لا تذكروا أنكم شعراء وأن لكم شعرا، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغمير1،وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات:11]، وقوله: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
و التوكيد: التوثيق وتكرير الفتل. وليس هو توكيد اللفظ كما توهمه بعضهم فهو ضد النقض. وإضافته إلى ضمير {الأيمان} ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختص بها.والمعنى: بعد ما فيها من التوكيد، وبينه قوله: {وَقَدْ
ـــــــ
1وهذا كناية عن ترك قول الشعر لأن أهم أغراض الشعر قد تعطل فيهم.
(13/210)
جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}.
والمعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها. وليس في الآية إشعار بان من اليمين ما لا حرج في نقضه، وهو ما سموه يمين اللغو، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني.
ويؤيد ما فسرناه قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الواقع موقع الحال من ضمير {لا تنقضوا} ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلا على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم: فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد. ولذلك سمي الحلف شهادة في مواضع كثيرة، كقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]. والمعنى: أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النهي عنها.
والكفيل: الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه.
والمعنى: أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به. وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ، قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز وماقدم فيه العهود والكفلاء
و {عَلَيْكُمْ} متعلق بـ {جَعَلْتُمُ} لا بـ {كَفِيلاً} أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم: أنت الخصم والحكم، وقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118]
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} معترضة. وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطلع على ما يفعلونه، فالتوكيد بـ {إِنَّ} للاهتمام بالخبر.
وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال: إن الله عليم. ولا: قد يعلم الله.
واختير الفعل المضارع في {يَعْلَمُ} وفي {تَفْعَلُونَ} لدلالته على التجدد، أي كلما فعلوا فعلا فالله يعلمه.
والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان، وعدم الارتداد إلى الكفر، وسد مداخل فتنة المشركين إلى نفوس
(13/211)
المسلمين، إذ يصدونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصد، كقولهم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام [53].
ولم يذكر المفسرون سببا لنزول هذه الآية، وليست بحاجة إلى سبب. وذكروا في الآية الآتية وهي قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل:106] أن آية {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهدتم} إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي، فجعلوا بين الآيتين اتصالا.
قال في"الكشاف": كأن قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذانهم لهم، ولما كانوا يعهدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله اه. يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل:92] تنبئ عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبأهم الله بها وحذرهم منها فسلموا.
[92] {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
تشنيع لحال الذين ينقضون العهد.
وعطف على جملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}. واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}. نهوا عن أن يكونوا مضرب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تنقض غزلها بعد شد فتله. فالتي نقضت غزلها امرأة اسمها ريطة بنت سعد التميمية من بني تميم من قريش. وعبر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون من بني تيم من قريش. وعبر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصلة ولأن مضمون الصلة هو الحالة المشبه بها في هذا التمثيل، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون.
وقد ذكر من قصتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلة العقل، ولها جوار، وقد اتخذت
(13/212)
مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة1 عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، فكان حالها إفساد ما كان نافعا محكما من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشبه الرجوع إلى فساد بعد التلبس بصلاح.
والغزل: هنا مصدر بمعنى المفعول، أي المغزول، لأنه الذي يقبل النقض. والغزل: فتل نتف من الصوف أو الشعر لتجعل خيوطا محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغزل بحيث تلتف النتف المفتولة باليد فتصير خيطا غليظا طويلا بقدر الحاجة ليكون سدى أو لحمة للنسج.
والقوة: إحكام الغزل، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذر لنقضه.
والأنكاث - بفتح الهمزة -: جمع نكث بكسر النون وسكون الكاف أي منكوث، أي منقوض، ونظيره نقض وأنقاض. والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلا واحدا جعلته منقوضا، أي خيوطا عديدة. وذلك بأن صيرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطا ذات عدد.
وانتصب {أَنْكَاثاً} على الحال من {غَزْلَهَا}، أي نقضته فإذا هو أنكاث.
وجملة {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ} حال من ضمير {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}.
والدخل - بفتحتين -: الفساد، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها.. والدخل أيضا: الشيء الفاسد. ومن كلام العرب: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل "سكن الخاء لغة أو للضرورة إن كان نظما، أو للسجع إن كان نثرا"، أي ما يدريك ما فيهم من فساد. والمعنى: تجعلون أيمانكم الحقيقة بان تكون معظمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة، فيكون وصف الأيمان بالدخل حقيقة عقلية؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدخل مجازا عقليا.
ـــــــ
1فلكة بفتح الفاء وسكون اللام عود بأعلاه دائرة منه يلف عليه الغزل.
(13/213)
ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبب في الخصام والحقد. وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين، وليس بمقتض أن نقضا حدث فيهم.
و {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ} معمول للام جر محذوفة كما هو غالب حالها مع {أن}. والمعنى التعليل، وهو علة لنقض الأيمان المنهي عنه، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمة أربى من أمة، أي أقوى وأكثر.
والأمة: الطائفة والقبيلة. والمقصود طائفة المشركين وأحلافهم.
و {أَرْبَى}: أزيد، وهو اسم تفضيل من الربو بوزن العلو، أي الزيادة، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد. والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش. وكلمة {أَرْبَى} تعطي هذه المعاني كلها فلا تعدلها كلمة أخرى تصلح لجميع هذه المعاني، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز. والمعنى: لا يبعثكم على نقض الأيمان كون أمة أحسن من أمة.
ومعلوم أن الأمة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمة المفضولة هي المنفصل عنها، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عددا وأموالا من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفعال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفار.
وجملة {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا للتعليل بما يقتضي الحكمة. وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165].
والقصر المستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} قصر موصوف على صفة. والتقدير: ما ذلك الربو إلا بلوى لكم.
والبلو: الاختبار. ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين. وله نظائر في القرآن. وضمير {به} يعود إلى المصدر المنسبك من قوله: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}.
ثم عطف عليه تأكيد أنه سيبين لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشاة بزخارف الشهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها، فيومئذ تعلمون أن الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شر محض.
(13/214)
وأكد هذا الوعد بمؤكدين القسم الذي دلت عليه اللام ونون التوكيد. ثم يظهر ذلك أيضا في ترتب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا.
[93] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلاما بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبين لهم الحق من هذه الدار فيجعلهم أمة واحدة، ولكنه أضل من شاء، أي خلق فيه داعية الضلال، وهدى من شاء، أي خلق فيه داعية الهدى. وأحال الأمر هنا على المشيئة أجمالا، لتعذر نشر مطاوي الحكمة من ذلك.
ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول، وذلك يتولد من تطورات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6]
وهذه المشيئة لا يطلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين.
ولما كان قوله: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قد يغتر به قصار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقب ذلك بقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مؤكدا بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفا، أي عما تعملون من عمل ضلال أو عمل هدى.
والسؤال: كناية عن المحاسبة، لأنه سؤال حكيم تترتب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع.
[94] {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
لما حذرهم من النقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلا فيهم، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم، أعاد الكرة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد
(13/215)
التصريح بالنهي عن ذلك، وتأكيد التحذير، وتفصيل الفساد في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، فكان قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا} تصريحا بالنهي، وقوله تعالى: {تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} تأكيد لقوله قبله: {تَتَّخِذُون أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل:92]، وكان تفريع قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} إلى قوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تفصيلا لما أجمل في معنى الدخل.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة. وبهذا التصدير وهذا التفريع الناشئ عن جملة {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} فارقت هذه نظيرتها السابقة بالتفصيل والزيادة فحق أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شان الجملة المؤكدة أن لا تعطف.
والزلل: تزلق الرجل وتنقلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} في سورة البقرة [36].
وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرض للضر، لأنه يترتب عليه السقوط أو الكسر، كما أن ثبوت القدم تمكن الرجل من الأرض، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير.
ولما كان المقصود تمثيل ما يجره نقض الأيمان من الدخل شبهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلت به فصرع. فالمشبه بها حال رجل واحد، ولذلك نكرت {قَدَمٌ} وأفردت، إذ ليس المقصود قدما معنية ولا عددا من الأقدام، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر: أراكم تقدمون رجلا وتؤخرون أخرى، تمثيلا لحالهم بحال الشخص المتردد في المشي إلى الشيء.
وزيادة {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مع أن الزلل لا يتصور إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين، وأنه انحطاط مع حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة.
والثبوت: مصدر ثبت كالثبات، وهو الرسوخ وعدم التنقل، وخص المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصوا الثبات الذي بالألف بالمعني الحقيقي وهي تفرقة حسنة.
والذوق: مستعار للإحساس القوي كقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}. وتقدم في
(13/216)
سورة العقود [95].
والسوء: ما يؤلم. والمراد به: ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم.
و {صَدَدْتُمْ} هنا قاصر، أي بكونهم معرضين عن سبيل الله. وتقدم آنفا. ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه، أي على التمسك بالإسلام.
فسبيل الله: هو دين الإسلام.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدر العهد.
وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وما ارتد أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى الله عليه وسلم.
[95] {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش.
وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشرك. وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] وعلى جملة {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} [النحل:94] لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النقض.
والثمن: العوض الذي ياخذه المعاوض. وتقدم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} في سورة البقرة [41]. وذكرنا هناك أن {قَلِيلاً} صفة كاشفة وليست مقيدة، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات.
وجملة {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تعليل للنهي باعتبار وصف عوض الاشتراء
(13/217)
المنهي عنه بالقلة، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره.
و"ما عند الله"هو ما ادخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة، كما سننبه عليه عند قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] الآية؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون، وخير الآخرة أعظم من الكل، فالعندية هنا بمعنى الادخار لهم، كما تقول: لك عندي كذا، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}.
و {وإنما} هذه مركبة من "إن" و "ما" الموصولة، فحقها أن تكتب مفصولة "ما" عن "إن" لأنها ليست "ما" الكافة، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتبارا لحالة النطق ولم يكن وصل أمثالها مطردا في جميع المواضع من المصحف.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغركم العاجل. وفيه حث لهم على التأمل والعلم.
وجملة {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} تذييل وتعليل لمضمون جملة {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بأن ما عند الله لهم خير متجدد لا نفاد له، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافذ لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية.
والنفاد: الانقراض. والبقاء: عدم الفناء.
أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفد رزقهم ولو كثر.
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعم، ولذلك كان ضمير {عِنْدَكُمْ} عائدا إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل، وبقرينة المقابلة بما عند لله، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد، لأن المنهيين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء.
ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حمل لهم على حرمان أنفسهم من ذلك النفع العاجل وعدوا الجزاء على صبرهم بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ}.
(13/218)
قرأه الجمهور {وليجزين} بياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى: {بِعَهْدِ اللَّهِ} وما بعده، فهو الناهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه.
وقرأه أبن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عامر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفر بنون العظمة فهو التفات.
و {أَجْرَهُمْ} منصوب على المفعولية الثانية ل"يجزين"بتضمينه معنى الإعطاء المتعدي إلى مفعولين.
والباء للسببية. و"أحسن"صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن. كما في قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرع ألم الفتنة من المشركين. وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد.
[97] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] خاصا بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمنا قليلا عقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها، والبيان لما تضمنته من مجمل الأجر. وكلا الاعتبارين يوجب فصلهما عما قبلها.
وقوله تعالى: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} تبيين للعموم الذي دلت عليه {من} الموصولة. وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين. وأكد هذا الوعد كما أكد المبين به.
وذكر "لنحيينه" ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى: {حَيَاةً طَيِّبَةً}. وذلك المصدر هو المقصود، أي لنجعلن له حياة طيبة. وابتدئ الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفا له كأنه قيل: فله حياة طيبة منا. ولما كانت حياة الذات لها مدة معينة كثر إطلاق الحياة على مدتها، فوصفها بالطيب بهذا الاعتبار، أي طيب ما يحصل فيها، فهذا
(13/219)
الوصف مجاز عقلي، أي طيبا ما فيها. ويقارنها من الأحوال العارضة للمرء في مدة حياته، فمن مات من المسلمين الذين علموا صالحا عوضه الله عن عمله ما فاته من وعده.
ويفسر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال: "هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه؛ ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها".
والطيب: ما يطيب ويحسن. وضد الطيب: الخبيث والسيء. وهذا وعد بخيرات الدنيا. وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحة والعافية وعزة الإسلام في نفوسهم. وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس، ويعطي الله فيه عباده المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم. ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا.
وقد عقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،
فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدم آنفا فإنه عام في الجزاءين.
[98-100] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}
موقع فاء التفريع هنا خفي ودقيق، ولذلك تصدي بعض حذاق المفسرين إلى البحث عنه. فقال في "الكشاف": "لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إيذانا بأن الاستعاذة من جملة الأعمال التي يجزل عليها الثواب"اه.
وهو إبداء مناسبة ضعيفة لا تقتضي تمكن ارتباط أجزاء النظم.
وقال فخر الدين:"لما قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أرشد إلى العمل الذي تخلص به الأعمال من الوسواس"اه.
وهو أمكن من كلام "الكشاف". وزاد أبو السعود: "لما كان مدار الجزاء هو حسن العمل رتب عليه الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح بأن يخلص من شوب الفساد".
(13/220)
وفي كلاميهما من الوهن أنه لا وجه لتخصيص الاستعاذة بإرادة قراءة القرآن.
وقول ابن عطية: "الفاء في {فَإِذَا} واصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا، فتكون الفاء على هذا لمجرد وصل كلام بكلام واستشهد له بالاستعمال والعهدة عليه.
وقال شرف الدين الطيبي: "قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} متصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. وذلك لأنه تعالى لما من على النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال وأنه تبيان لكل شئ، ونبه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] الآية، وعطف عليه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وأكده ذلك التأكيد، قال بعد ذلك: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ}، أي إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نبهت على بعض ما اشتمل عليه، ونازعك فيه الشيطان بهمزة ونفثه فاستعذ بالله منه والمقصود إرشاد الأمة" اه.
وهذا أحسن الوجوه وقد انقدح في فكري قبل مطالعة كلامه ثم وجدته في كلامه فحمدت الله وترحمته عليه. وعليه فما بين جملة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً} الخ، وجملة {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} جملة معترضة.والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن.
وإظهار اسم {الْقُرْآنَ} دون أن يضمر للكتاب لأجل بعد المعاد.
والأظهر أن {قَرَأْتَ} مستعمل في إرادة الفعل، مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الاسراء:35] وقوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [سورة المجادلة:3] أي يريدون العود إلى أزواجهم بقرينة قوله بعده: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} في سورة المجادلة [3]، وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} في سورة النساء [9]، أي أوشكوا أن يتركوا بعد موتهم، وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، أي إذا أردتم أن تسألوهن، وفي الحديث: "إذا بايعت فقل: لا خلابة".
وحمله قليل من العلماء على الظاهر من وقوع الفعل فجعلوا إيقاع الاستعاذة بعد
(13/221)
القراءة. ونسب إلى مالك في المجموعة. والصحيح من مالك خلافه، ونسب إلى النخعي وابن سيرين وداود الظاهري وروي عن أبي هريرة.
والباء في {بِاللَّهِ} لتعدية فعل الاستعاذة يقال: عاذ بحصن، وعاد بالحرم.
والسين في {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} للطلب، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان. والعوذ: اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضر.
ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به. ولا يتصور ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه. ومن أحسن الامتثال محاكاة صيغة الأمر فيما هو من قبيل الأقوال بحيث لا يغير إلا التغيير الذي لا مناص منه فتكون محاكاة لفظ "استعذ" بما يدل على طلب العوذ بأن يقال: أستعيذ، أو: أعوذ، فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء، ففيه إنشاء الطلب لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب، على اقتداء بما في الآية الأخرى {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] وأبقى ما عدا ذلك من ألفاظ آية الاستعاذة على حاله. وهذا أبدع الامثال، فقد ورد في عمل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر أنه كان يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" يحاكي لفظ هذه الآية ولم يقل في الاستعاذة: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} لأن ذلك في غير قراءة القرآن، ولم يحاكه النبي صلى الله عليه وسلم في استعاذته للقراءة.
قال ابن عطية: لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ. وما يروي من الزيادات لم يصح منه شيء. وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله إذا قام من الليل يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه الخ". فتلك استعاذة تعوذ وليست الاستعاذة لأجل قراءة القرآن.
واسم الشيطان تقدم عند قوله تعالى: {إلى شيطانهم} في سورة البقرة [14]. والرجيم تقدم عند قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} في سورة الحجر [17].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد عمومه لأمته بقرينة قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذانا بنفاسة القرآن ونزاهته، إذ هو نازل من العالم القدسي الملكي، فجعل افتتاح قراءته بالتجرد عن النقائص النفسانية التي هي من
(13/222)
عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائض عن نفسه إلا بأن يسأل الله أن يبعد الشيطان عنه بأن يعوذ بالله، لأن جانب الله قدسي لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك وضمن له أن يعيذه منه، وأن يعيذ أمته عوذا مناسبا، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة.
وإنما لم تشرع لذلك كلمة "باسم الله" لأن المقام مقام تخل عن النقائض لا مقام استجلاب التيمن والبركة، لأن القرآن نفسه يمن وبركة وكمال تام، فالتيمن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاته فيدخل فيها ما ينقصها، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتفهم لمعانيه و كلاهما معرض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلق بألفاظه مثل الإنساء،لأن الإنساء يضيع على القارئ ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد، ووسوسة تتعلق بمعانيه مثل أن يخطئ فهما أو يقلب عليه مرادا وذلك أشد من وسوسة الإنساء. وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة.
فأما الذين حملوا تعلق الأمر بالاستعاذة أنها بعد الفراغ من القراءة، فقالوا لأن القارئ كان في عبادة فربما دخله عجب أو رياء وهما من الشيطان فأمر بالتعوذ منه للسلامة من تسويله ذلك.
ومحمل الأمر في هذه الآية عند الجمهور على الندب لانتفاء أمارات الإيجاب فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بينه. فمن العلماء من ندبه مطلقا في الصلاة وغيرها عند كل قراءة. وجعل بعضهم جميع قراءة الصلاة قراءة واحدة تكفي استعاذة واحدة في أولها، وهو قول جمهور هولاء. ومنهم من جعل قراءة كل ركعة قراءة مستقلة.
ومن العلماء من جعله مندوبا للقراءة في غير الصلاة، وهو قول مالك، وكرهها في قراءة صلاة الفريضة وأباحها بلا ندب في قراءة صلاة النافلة.
ولعله رأى أن في الصلاة كفاية في الحفظ من الشيطان.
وقيل: الأمر للوجوب، فقيل في قراءة الصلاة خاصة ونسب إلى عطاء. وقد أطلق القرآن على قرآن الصلاة في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء:78]
وقال: الثوري بالوجوب في قراءة الصلاة وغيرها. وعن ابن سيرين تجب الاستعاذة عند القراءة مرة في العمر، وقال قوم: الوجوب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والندب لبقية أمته.
ومدارك هذه الأقوال ترجع إلى تأويل الفعل في قوله تعالى: {قرأت}، وتأويل
(13/223)
الأمر في قوله تعالى: {فاستعذ} ، وتأويل القرآن مع ما حف بذلك من السنة فعلا وتركا.
وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة للشروع في القراءة أو لإرادته وليست مشروعة عند كل تلفظ بألفاظ القرآن كالنطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما، خلافا لما يفعله بعض المتحذقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية.
وجملة {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة.
فأما كونها تعليلا فلزيادة الحث على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلط على الذين آمنوا المتوكلين، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكل على الله لأن اللجأ إليه توكل عليه. وفي الإعلام بالعلة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالما بالحكمة وأما كونها بيانا فلما تضمنته من ذكر التوكل على الله ليبين أن الاستعاذة إعراب عن التوكل على الله تعالى لدفع الشيطان ليعقد المستعيذ نيته على ذلك. وليست الاستعاذة مجرد قول بدون استحضار نية العوذ بالله.
فجملة {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} صفة ثانية للموصول. وقدم المجرور على الفعل للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم. وجعل فعلها مضارعا لإفادة تجدد التوكل واستمراره. فنفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين: الإيمان، والتوكل. ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر:42]
والسلطان: مصدر بوزن الغفران، وهو التسلط والتصرف المكين.
فالمعنى أن الإيمان مبدأ لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انظم إليه التوكل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكل.
وجملة {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن مضمون الجملة قبلها يثير سؤال سائل يقول: فسلطانه على من?.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر إضافي بقرينة المقابلة، أي بدون الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فحصل به تأكيد جملة {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} لزيادة الاهتمام بتقرير مضمونها، فلا يفهم من القصر أنه لا سلطان له على غير هذين الفريقين
(13/224)
وهم المؤمنون الذين أهملوا التوكل والذين اتخذوا لبعض وسوسة الشيطان.
ومعنى {يتولونه} يتخذونه وليا لهم، وهم الملازمون للملل المؤسسة على ما يخالف الهدي الإلهي عن رغبة فيها. ولا شك أن الذين يتولونه فريق غير المشركين لأن العطف يقتضي بظاهره المغايرة، وهم أصناف كثيرة من أهل المتاب.وإعادة اسم الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} لأن ولايتهم للشيطان أقوى.
وعبر بالمضارع للدلالة على تجدد التولي، أي الذين يجددون توليه، للتنبيه على أنهم كلما تولوه بالميل إلى طاعته تمكن منهم سلطانه، وأنه إذا انقطع التولي بالإقلاع أو التوبة انسلخ سلطانه عليهم.وإنما عطف {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد لأن المقصود اجتماع الصلتين.
والباء في {بِهِ مُشْرِكُونَ} للسببية، والضمير المجرور عائد إلى الشيطان، أي صاروا مشركين بسبه. وليست هي كالباء في قوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [سورة الأعراف:33].
وجعلت الصلة جملة اسمية لدلالتها على الدوام والثبات، لأن الإشراك صفة مستمرة لأن قرارها القلب؛ بخلاف المعاصي لأن مظاهرها الجوارح، للإشارة إلى أن سلطان الشيطان على المشركين أشد أدوم لأن سببه ثابت ودائم.
وتقديم المجرور في {بِهِ مُشْرِكُونَ} لإفادة الحصر، أي ما أشركوا إلا بسببه، ردا عليهم إذ يقولون {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [سورة الأنعام: 148] وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل:35] وقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [سورة الأعراف: 28].
[101] {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
استمر الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصد عن متابعته.
ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله وبيان فضله وهديه فابتدئ فيها بآية {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل: 2]، ثم
(13/225)
قفيت بما اختلفه المشركون من الطعن فيه بعد تنقلات جاء فيها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل:64] ثم قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89]. وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل:90]، فلما استقر ما يقتضي تقرر فضل القرآن في النفوس نبه على نفاسته ويمنه بقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل:98]، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلافهم على القرآن اختلافا مموها بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النحل:24]. ذلك الاختلاق هو تعمدهم التمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفا لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلق بها، فيتخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محامله مغامز يتشدقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطرابا من القول ويزعمونه شاهدا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسمو معانيه، وبعضه ناشئ عن تعمد للتجاهل تعلقا بظواهر الكلام يلبسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
روي عن ابن عباس أنه قال: "كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه" اه.
وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ {بَدَّلْنَا} مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.
والمراد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}.
فيشمل التبديل نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
(13/226)
بِهَا} [سورة الاسراء: 110] بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الحجر:94]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكونت الجامعة الإسلامية. وأما نسخ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكة فمن فسر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.
ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسر بعضه ويؤول بعضه بعضا، كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} في سورة الشورى: [5] مع قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} في سورة المؤمن: [7]، فيأخذون بعموم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [سورة الشورى: 5] فيجعلونه مكذبا لخصوص {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [سورة غافر:7] فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [سورة المزمل:10]
يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [سورة الاحقاف:9] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الاسراء:15] مع قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة النحل: 25]
ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة فصلت:11] مع قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [سورة النازعات:30]، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل {بعد ذلك} من جعل "بعد" بمعنى "مع" وهو استعمال كثير، فهم يتوهمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثمانية المقررة في المنطق.
فالتبديل في قوله تعالى: {بدلنا} هو التعويض ببدل، أي عوض، والتعويض لا يقتضي إبطال المعوض بفتح الواو بل يقتضي أن يجعل شئ عوضا عن شئ. وقد
(13/227)
يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوض بفتح الواو جعل عوضا عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابا لأن مثله قد كان بدل ولا يتاملون في اختلاف الأغراض. وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} في سورة يونس: [15]. و {مكان آية} منصوب على الظرفية المكانية: بأن تأتي آية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة، فالمكان هنا مكان مجازي وهو حالة الكلام والخطاب، كما يسمى ذلك مقاما، فيقال: هذا مقام الغضب، فلا تأت فيه بالمزح. وليس المراد مكانها من ألواح المصحف ولا بإبدالها محوها منه.
وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} معترضة بين شرط {إذا} وجوابها. والمقصود منها تعليم المسلمين لا الرد على المشركين، لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان. والمعنى: أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمل كلتيهما، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار.
وقرأ الجمهور {بما ينزل} بفتح النون وتشديد الزاي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي.
وحكاية طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة قصر الموصوف على الصفة، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء، وهو قصر إضافي، أي لست بمرسل من الله. وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصورا على كونه مفتريا لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء.
وأصل الافتراء: الاختراع، وغلب على اختراع الخبر، أي اختلافه، فساوى الكذب في المعنى، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا وقد يطلق مقترفا بالكذب كقوله الآتي: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل: 105] إرجاعا به إلى أصل الاختراع فيجعل له مفعول هو آيل إلى معناه فصار في معنى المفعول المطلق. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [في سورة العقود:103].
و {بل} للإضراب الإبطالي على كلامهم، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة.
(13/228)
وضمير {أكثرهم} للذين قالوا إنما أنت مفتر، أي ليس كما قالوا ولكن أكثر القائلين ذلك لا يعلمون، أي لايفهمون وضع الكلام مواضعه وحمله محامله.
وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلا منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء ولكنهم يقولون ذلك تلبيسا وبهتانا ولا يعلمون أن التنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرفق.
ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدم في هذه السورة.
[102] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
جواب عن قولهم {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [سورة النحل: 101] فلذلك فصل فعل {قل} لوقوعه في المحاورة، أي قل لهم: لست بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزله روح القدس من الله. وفي أمره بان يقول لهم ذلك شد لعزمه لكيلا يكون تجاوزهم الحد في البهتان صارفا إياه عن محاورتهم.
فيعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النقض أمر رسوله أن يبين لهم ماهية القرآن. وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى: {من ربك} الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بان يقوله لأن مقتضى الظاهر أن يقول: من ربي، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم بزيادة توغل الكلام معه في طريقة الخطاب.
واختير اسم الرب لما فيه من معنى العناية والتدبير.
و {رُوحُ الْقُدُسِ}: جبريل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة: [87]. والروح: الملك، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [سورة مريم: 17]، أي ملكا من ملائكتنا.
و {الْقُدُسِ}: الطهر. وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر.
وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: حاتم الجود. وزيد الخير. والمراد: حاتم الجواد. وزيد الخير. فالمعنى: الملك المقدس.
والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير
(13/229)
المنصوب في {نَزَّلَهُ} مثل {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: من الآية20]، أي ملابسا للحق لا شائبة للباطل فيه.
وذكرت علة من علل إنزال القرآن على الوصف المذكور، أي تبديل آية مكان آية، بأن في ذلك تثبيتا للذين آمنوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهتدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر.
ففي قوله تعالى: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} إبطال لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}، وفي قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} إيقاظ للناس بان ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حق.
وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبشرى بيان لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدى وبشرى لهم.
وفي تعلق الموصول وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم، فيفيد تعريضا بأن غير المؤمنين تقتصر مداركهم عن إدراك ذلك الحق فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفرا ويضلون ويكون نذارة لهم.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وهدى وبشرى لهم، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف.
وقوله تعالى: {وَهُدىً وَبُشْرَى} عطف على الجار والمجرور من قوله: {لِيُثَبِّتَ}، فيكون {هُدىً وَبُشْرَى} مصدرين في محل نصب على المفعول لأجله، لأن قوله: {لِيُثَبِّتَ} وإن كان مجرور اللفظ باللام إذ لا يسوغ نصبه على المفعول لأجله لأنه ليس مصدرا صريحا.
وأما {هُدىً وَبُشْرَى} فلما كانا مصدرين كانا حقيقين بالنصب على المفعول لأجله بحيث لو ظهر إعرابهما لكانا منصوبين كما في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8].
[103] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]
عطف على جملة {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: من الآية101]. وهذا إبطال
(13/230)
لتلبيس آخر مما يلبسون به على عامتهم، وذلك أن يقولوا: إن محمدا يتلقى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره، قال عنه تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 -25]، أي لا يلقنه ملك بل يعلمه إنسان، وقد عينوه بما دل عليه قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}.
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و" قد "يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامتهم ولا يجرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف وأن الله أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكة غلام رومي كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جبر كان يصنع السيوف بمكة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامة النصارى من دعوات الصلوت، فاتخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة، فإن معظم أهل مكة كانوا أميين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرفة أو يكتب حروفا يتعلمها يحسبونه على علم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا ما يقوله.
وقيل: كان غلام رومي اسمه بلعام كان عبدا بمكة لرجل من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا: إن محمدا يتعلم منه، وكان هذا العبد يقول: إنما يقف علي يعلمني الإسلام.
وظاهر الإفراد في {إِلَيْهِ} أن المقصود رجل واحد. وقد قيل: المراد عبدان هما جبر ويسار كانا قنين، فيكون المراد ب {بَشَرٌ} الجنس، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
وقد كشف القرآن هذا اللبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولا فصلا دون طول جدال {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، أي كيف يعلمه وهو أعجمي لا يكاد يبين وهذا القرآن فصيح عربي معجز.
والجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} يتضمن أنه ليس منزلا من عند الله فيسأل سائل: ماذا جواب قولهم? فيقال: {لِسَانُ الَّذِي... } الخ، وهذا النظم نظير نظم قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: من الآية124].
وألحد: مثل لحد، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى
(13/231)
المجرد، كقولهم: أبان بمعنى بان. فمعنى {يُلْحِدُونَ} يميلون عن الحق لأن ذلك اختلاق معاذير، فهم يتركون الحق القويم من أنه كلام منزل من الله إلى أن يقولوا {يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فذلك ميل عن الحق وهو إلحاد.
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين لأنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعنى بالبشر قالوا له: هو جبر أو بلعام، وإذا توسموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا: هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق المسيل على الاختيار.
وقرأ نافع والجمهور {يُلْحِدُونَ} بضم الياء مضارع ألحد. وقرأ حمزة والكسائي {يلْحِدُونَ} بفتح الياء من لحد مرادف ألحد. وقد تقدم الإلحاد في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} في سورة الأعراف: [180]. وليست هذه الهمزة كقولهم: ألحد الميت لأن تلك للجعل ذا لحد.
واللسان: الكلام. سمي الكلام باسم آلته. والأعجمي: المنسوب إلى الأعجم، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده. ولذلك سموا الدواب العجماوات. فالياء فيه ياء النسب. ولما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف.
و المبين: اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة، فحصل تمام التضاد بينه وبين {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ}.
[104] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل104]
جملة معترضة. وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومئ إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفا. وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وبالتصلب في التصدي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من المفر غاية ما وراءها غاية، فحقت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معين يومئذ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم.
(13/232)
فقد كان من الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وأبو سفيان. وكان أبو سفيان أطول مدة في الكفر من أبي جهل؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذى النبي صلى الله عليه وسلم والحنق عليه. وكان أبو سفيان مقتصرا على الانتصار لدينه ولقومه ودفع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافرا، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين. وتشرف بصهر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتباع الإسلام ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علنا دون اختلاق فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب. فتبين الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأن عمر ليس منهم، وقد كانا معا كافرين في زمن ما. ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [سورة الزمر: 3] فوصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر.
فتبين أن معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} من كان الإيمان منافيا لجبلة طبعه لا لأميال هواه. وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرضا للإيمان فلذلك لا يهديه الله، أي لا يكون الهداية في قلبه.
وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96]، وكل يرمي إلى معنى عظيم.
فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكية والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف.
وعطف {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} للدلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشر لأنهم إذا حرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة وماذا بعد الحق إلا الضلال، وهذا كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]. ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك.
[105] {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
(13/233)
هذا رد لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [ سورة النحل: 101] بقلب ما زعموه عليهم، كما كان قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل:103]
جوابا عن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}. فيعد أن نزه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزل عليه عن أن يكون مفتريا ثني العنان لبيان من هو المفتري. وهذا من طريقة القلب في الحال.
ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في أن ما جاء به منزل إليه من عند الله، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكدون بمضمونه قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} يؤكد أحد القولين القول الآخر فلما رد قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 101-102]. وردت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ورد مضمونها هنا بقوله {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، حاصلا به رد نظيرها أعني قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بكلام أبلغ من كلامهم، لأنهم أتوا في قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه، لأن قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدوام، فرد عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرر المتجدد، إذ المضارع يدل على التجدد.
وأكد فعل الافتراء بمفعولية الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آيلا إليه المعنى.
وعرف {الْكَذِبَ} بأداة تعريف الجنس الدالة على تميز ماهية الجنس واستحضارها، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره، كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وعبر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم فيقال: إنما يفتري الكذب أنتم، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصلة، ولأن للصلة أثرا في افترائهم، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج نكذيبه بالدلائل الواضحة. وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة.
ثم أردفت جملة القصر بجملة قصر أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف
(13/234)
المسند وهي جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
وافتتحت باسم الإشارة، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات الله عنهم، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة، وهو قصرهم على الكذب، لأن من لا يؤمن بآيات الله يتخذ الكذب ديدنا له متجددا.
وجعل المسند في هذه الجملة معرفا باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتحد بهم وصار منحصرا فيهم، أي الذين تعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء. وهذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه، فيحصل قصران في هذه الجملة: قصر موصوف على صفة، وقصر تلك الصفة على ذلك الموصوف. والقصران الأولان الحاصلان من قوله {إِنَّمَا يَفْتَرِي} وقوله {وَأُولَئِكَ هُمُ} إضافيان، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء وهو محاشى منه. والثالث {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} قصر حقيقي ادعائي للمبالغة. إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغا قويا منزلة انحصاره فيهم.
واختير في الصلة صيغة {لا يُؤْمِنُونَ} دون: لم يؤمنوا. لتكون على وزان ما عرفوا به سابقا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ}، ولما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضد ذلك.
[106] {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] لما سبق التحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرهم ما لأمة المشركين من السعة والربو، والتحذير من زلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرهم شبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي.
ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا. فلذلك رد عليهم بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} إلى قوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} [النحل:102]، وكانوا يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فرد عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: من الآية103].
وكان الغلام الذي عنوه بقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} قد أسلم ثم فتنه المشركون فكفر، وهو جبر مولى
(13/235)
عامر بن الحضرمي. وكانوا راودوا نفرا من المسلمين على الارتداد، منهم: بلال، وخباب بن الأرت، وياسر، وسمية أبوا عمار بن ياسر، وعمار ابنهما، فثبتوا على الإسلام. وفتنوا عمارا فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفتنوا نفرا آخرين فكفروا، وذكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج. وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} في سورة العنكبوت [10]، فكان من هذه المناسبة رد لعجز الكلام على صدره.
على أن مضمون {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} مقابل لمضمون {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل:97]، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدئ بالتحذير تحفظا على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.
واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفر كفروا بعد إسلامهم كانت {مَنْ} موصولة وهي مبتدأ والخبر {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}. وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدأ شبها بأداة الشرط. وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في عير موضع. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة براءة [34]. وقيل: إن فريقا كفروا بعد إسلامهم، كما روي في شأن جبر غلام ابن الحضرمي. وهذا الوجه أليق بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل:108] الآية.
وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون {من} شرطية، والشرط غير مراد به معين بل هو تحذير، أي من يكفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} جوابا.
والتحذير حاصل على كلا المعنيين.
وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فهو ترخيص ومعذرة لما من عمار بن ياسر وأمثاله إذا اشتد عليهم عذاب من فتنوهم.
(13/236)
وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} استثناء من عموم {مَنْ كَفَرَ} لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده. وهذا فريق رخص الله لهم ذلك كما سيأتي.
ومصحح الاستثناء هو الذي قال قول قد كفر بلفظه.
والاستدراك بقوله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} استدرك على الاستثناء، وهو احتراس من أن يفهم أن المكره مرخص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.
و {مَنْ شَرَحَ} معطوف بـ {لَكِنْ} على {مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف {لَكِنْ} عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق.
واختير {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} دون نحو: فقد غضب الله عليهم، لما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي غضب لا مغفرة معه.
وتقديم الخبر المجرور على المبتدأ للاهتمام بأمرهم، فقدم ما يدل عليهم، ولتصحيح الإتيان بالمبتدأ نكرة حين قصد بالتنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفى بالتنكير عن الصفة.
وأما تقديم {لَهُمْ} على {عَذَابٌ عَظِيمٌ} فللاهتمام.
والإكراه: الإلجاء إلى فعل ما يكره فعله. وغنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.
وقد رخصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفرت في عرف الناس من قول أو فعل.
وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا: فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلما. وقد رخص الله ذلك رفقا بعباده واعتبارا للأشياء بغاياتها ومقاصدها.
وفي الحديث: أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوبه وقال له: "وإن عادوا لك فعد".
واجمع على ذلك العلماء. وشذ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر
(13/237)
حكم الكفار في الظاهر كالمرتد فيستتاب عن المكنة منه.
وسوى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم. وقالت طائفة: إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها. ونسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري، وهي تفرقة غير واضحة. وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سول القلب.
وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع.
وأما في الاعتداء على الناس من ترتب الغرم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكروه عليه تفاوت، وأعلاها الإكراه على قتل نفس. وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل.
على أن أنواعا من الاعتداء قد يجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطئ بين المكره والمكره. ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه.
وهذه الآية لم تتعرض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد.
والخلاف في طلاق المكره معلوم، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير.
[107] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
وضمير {بِأَنَّهُمُ} عائد إلى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل:106] سواء كان ما صدق {مَنْ} معينا أو مفروضا على أحد الوجهين السابقين.
والباء للسببية، فمدخولها سبب.
(13/238)
و {اسْتَحَبُّوا} مبالغة في "أحبوا" مثل استأخر واستكان. وضمن "استحبوا" معنى "فضلوا" بحرف "على"، أي لأنهم قدموا نفع الدنيا على نفع الآخرة، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوف الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش، فيكون كفرهم اشد من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة.
{وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سبب ثان للغضب والعذاب، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر. وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} [النحل:104].
وهو تذييل لما في صيغة {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} من العموم الشامل للمتحدث عنهم وغيرهم، فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص.
وإقحام لفظ "قوم" للدلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكن منهم وصار سجية حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصف.
وقد تقدم أن جريان وصف أو خبر على لفظ "قوم" يؤذن بأنه من مقومات قوميتهم كما في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة [164]، وقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يونس [101].
[108] {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
جملة مبينة لجملة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها: من النظر الصادق في دلائل الوحدانية، ومن الوعي لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن المنزل عليه. ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبسوا به.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم تمييزا تبيينا لمعنى الصلة المتقدمة، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد.
وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة. وهو مضمون جملة {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
(13/239)
والطبع: مستعار لمنع وصول الإيمان وأدلته، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد تقدم مفصلا عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7].
وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} تكملة للبيان، أي الغافلون الأكملون في الغفلة، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء.
والقصر قصر موصوف على صفة، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة، اعدم الاعتداء بالغافلين غيرهم، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عد كل غافل غيرهم كمن ليس بغافل. ومن هنا جاء معنى الكمال في الغفلة لا من لام التعريف.
وجملة {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} واقعة موقع النتيجة لما قبلها، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشك.
فإن {لا جَرَمَ} بمعنى "لا محالة" أو "لا بد". وقد تقدم آنفا في هذه السورة عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} في سورة هود [22].
والمعنى: أن خسارتهم هي الخسارة، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية.
ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدمين في ما صدق "من" من قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ} [النحل:106] الآية.
ووقع في سورة هود [22] {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ووقع هنا {هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأن آية سورة هود [21] تقدمها {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
فكان المقصود بيان خسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا.
[110] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]
عطف على جملة {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل:106-109].
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل. وذلك أن مضمون هذه الجملة المعطوفة أعظم رتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال
(13/240)
تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
والمراد بـ"الذين هاجروا"المهاجرون إلى الحبشة الذين أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة.
قال ابن إسحاق:"فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم"اه.
فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى الذين اتقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقا آخر فازوا بفرار من الفتن، لئلا يتوهم متوهم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدة يوهن جامعة المسلمين فاستوفي ذكر فرق المسلمين كلها. وقد أومأ إلى حظهم من الفضل بقوله: {هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} فسمى عملهم هجرة.
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم - عليه السلام - {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]. وقال في الأنصار يحبون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكة.
وسمى ما لقوه من المشركين فتنة. والفتنة: العذاب والأذى الشديد المتكرر الذي لا يترك لمن يقع لمن يقع به صبرا ولا رأيا، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات:13] ,وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]. وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191]. أي فقد نالهم الأذى في الله.
والمجاهدة: المقاومة بالجهد، أي الطاقة.
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردوهم إلى الكفر.
وهاتان الآيتان مكيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين.
(13/241)
والصبر: الثبات على تحمل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة: [45].
وأكد الخبر بحرف التوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.
ويدل على ذلك ما في صحيح البخاري: أن أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليها فقال لها:سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيت حفصة قالت: أسماء: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: "فما قلت له?" قالت: قلت له كذا وكذا، قال: "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان".
واللام في قوله {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} متعلق بـ "غفور" مقدم عليه للاهتمام. وأعيد {إِنَّ رَبَّكَ} ثانيا لطول الفصل بين اسم {إن} وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللفظي.
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم {إن} بطريق الإضافة دون العلمية لما يومئ إليه إضافة لفظ "رب" إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم حاصلا أسلوب يدل على الذات العلية وعلى الذات المحمدية.
وهذا من أدق لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} عائد إلى الهجرة المستفادة من {هَاجَرُوا} ، أو إلى المذكورات: من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من {فُتِنُوا}. وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلها.
وقرأ ابن عامر {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن،
(13/242)
بمعنى وقع في الفتنة.
[111] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
يجوز أن يكون هذا استئنافا وتذييلا بتقدير: اذكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقع عقب التحذير والوعيد وعيدا للذين أنذروا ووعدا للذين بشروا.
ويجوز أن يكون متصلا بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل:110]، فيكون انتصاب {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} على الظرفية {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثرا لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذ. فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف.
والمجادلة: دفاع بالقول للتخلص من تبعة فعل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
والنفس الأول: بمعنى الذات والشخص كقوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} سورة المائدة: [45] والنفس الثانية ما به الشخص شخص، فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قتل أخوه ابنا له "من الحماسة":
أقول للنفس تأساء وتسلية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
وتقدم في قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة [44].
وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركبة من جسد وروح فيسمنها النفس، أي الذات وهي ما يعبر عنه المتكلم بضمير "أنا"، ويستشعرون للإنسان قوة باطنية بها إدراكه ويسمونها نفسا أيضا. ومنه أخذ علماء المنطق اسم النفس الناطقة.
والمعنى: يأتي كل أحد يدافع عن ذاته، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله. ففاعل المجادلة وما هو في قوة مفعوله شيء واحد. وهذا قريب من نوع وقوع الفاعل والمفعول شيئا واحد في أفعال الظن والدعاء، بكثرة مثل: أراني فاعلا كذا، وقولهم: عد متني وفقدتني، وبقلة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرئ القيس:
قد بت أحرسني وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام
و {تُوَفَّى} تعطي شيء وافيا، أي كاملا غير منقوص، و {مَا عَمِلَتْ} مفعول ثان
(13/243)
لـ {تُوَفَّى} ، وهو على حذف مضاف تقديره: جزاء ما علمت، أي من ثواب أو عقاب، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل.
والظلم: الاعتدال على الحق. وأطلق هنا على مجاوزة الحد المعين للجزاء في الشر والإجحاف عنه الخير، لأن الله لما عين الجزاء على الشر ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحق لكل فريق. والعلم بمراتب هذا التحديد مفوض لله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف: 49].
وضميرا {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى. لأن {كُلُّ نَفْسٍ} يدل على جمع من النفوس.
وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ}، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلا، فصرح بهذا اللازم بطريقة نفي ضده وهو نفي الظلم عنهم، وللتنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى. وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول.
[112] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
عطف عظة على عظه. والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم في قوله:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وما اتصل بها إلى قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]. فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [سورة النحل:84].
فبعد أن توعدهم بقوارع الوعيد بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل: 104] وقوله:
{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النحل: 106] إلى قوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة النحل:109]. عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثلا وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله.
ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} [سورة النحل: 111]
(13/244)
الخ. على اعتبار تقدير "اذكر"، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل الخ. وضرب الله مثلا لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة الخ.
وَ {ضَرَبَ}: بمعنى جعل، أي جعل المركب الدال عليه كون نظمه، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقال: أرسل فلان مثلا قوله: كيت وكيت.
والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة المضي للتشويق إلى الإصغاء إليه، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه، مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال، مثل: قد قامت الصلاة.
ويجوز أن يكون {ضرب} مستعملا في معنى الطلب والأمر، أي اضرب يا محمد لقومك مثلا قرية إلى آخره، كما سيجيء عند قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاء} [الزمر: 29]. وإنما صيغ في صيغة الخبر توسلا إلى إسناده إلى الله تشريفا له وتنويها به. ويفرق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [الزمر:13] بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه. وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة [26]، وقوله في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [ابراهيم:24].
وجعل المثل قرية موصوفة بصفات تبين حالها المقصود من التمثيل، فاستغنى عن تعيين القرية.
والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلا للناس من بعدهم. ويقوى هذا الاحتمال إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهل مكة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11،10]. وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا قوله بعد {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة النحل:113].
ولعل المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فتنوا، أي أصحاب هجرة الحبشة تسلية لهم مفرقة بلدهم، وبعثا لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم.
(13/245)
وتقدم معنى القرية عند قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} في سورة البقرة [259].
والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. والأمن: السلامة من تسلط العدو.
والاطمئنان: الدعة وهدوء البال. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة النساء [103].
وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه، كما أن الخوف بسبب الانزعاج والقلق.
وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} [النحل: 112] تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش، وقد كانت مكة كذلك. قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة القصص: 57]. والرزق: الأقوات. وقد تقدم عند قوله: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف:37].
والرغد: الوافر الهنيء. وتقدم عند قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} في سورة البقرة [35].
و {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} بمعنى من أمكنة كثيرة. و {كل} تستعمل في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورة الأنعام [25].
والأنعم: جمع نعمة على غير قياس.
ومعنى الكفر بأنعم الله: الكفر بالمنعم، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحق. وهذا يشير إلى قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83].
واقتران فعل كفرت بفاء التعقيب بعد {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر، وذلك عند بعثة الرسول إليهم.
وأما قرن {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} بفاء التعقيب فهو تعقيب عرفي في مثل ذلك
(13/246)
المعقب لأنه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرون على كفرهم والرسول يكرر الدعوة وإنذارهم به، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاء على كفرهم جعل كالشيء المعقب به كفرهم.
والإذاقة: حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم. وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساسا مكينا كتمكن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعا، وقد تقدم في قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [سورة المائدة:95].
واللباس: حقيقته الشيء الذي يلبس. وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشى من حالة إنسان ملازمة له كملازمة اللباس لابسه، كقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] بجامع الإحاطة والملازمة.
ومن قبيلها استعارة "البلى" لزوال صفة الشخص تشبيها للزوال بعد التمكن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي:
ولا تبلى بالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين
واستعارة سل الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي عن ثيابك تنسل
ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزارا ودرعا.
ولما كان اللباس مستعارا لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمته أريد إفادة أن ذلك متمكن منهم ومستقر في إدراكهم استقرار الطعام في البطن إذ يذاق في اللسان والحلق ويحس في الجوف والأمعاء.
فاستعير له فعل الإذاقة تمليحا وجمعا بين الطعام واللباس، لأن غاية القرى والإكرام أن يؤدب للضيف ويخلع عليه خلعة من إزار وبرد، فكانت استعارتان تهكميتان.
فحصل في الآية استعارتان: الأولى: استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة، والثانية: اللباس وهي أصلية مصرحة.
ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرعة على الأولى ومركبة عليها بجعل لفظها مفعولا للفظ الأولى. وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر
(13/247)
أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغا أليما.
وأجمل {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} اعتمادا على سبق ما يبينه من قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّه}.
[113] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}.
لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكان إنما ذكر من صنعهم أنهم كفروا بأنعم الله. زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عام لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمة الله، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم. وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرفق بهم. وما من قرية أهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59].
والأخذ: الإهلاك. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة الأعراف: 95].
وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيها للسامعين المعرض بهم لأنه محل الإنذار.
وتعريف {الْعَذَابُ} للجنس، أي فأخذهم عذاب كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة الأعراف:95]
[114] {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. تفريع على الموعظة وضرب المثل، وخوطب به فريق من المسلمين كما دل عليه قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [سورة النحل:115،114] إلى آخره.
(13/248)
ولعل هذا موجه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يجدون فيه رزقا حلالا وهو ما يضافون به وما يكسبونه بكدهم، أي إذا علمتم حال القرية الممثل بها أو المعرض بها فاشكروا الله الذي نجاكم من مثل ما أصاب القرية، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية. فقوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} مقابل قوله في المثل
{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان.
وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلة بدلالتها بحيث تصح أن تجرى مجرى المثل.
وقيل: هذه الآية نزلت بالمدينة "والمعنى واحد" وهو قول بعيد.
والأمر في قوله: {فَكُلُوا} للامتنان. وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتفريع. والمقصود: فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحل بكم ما حل بأهل القرية المضروبة مثلا.
والحلال: المأذون فيه شرعا. والطيب: ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قوته.
[115] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه الجملة بيان لمضمون جملة {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} [سورة النحل:114] لتمييز الطيب من الخبيث فإن المذكورات في المحرمات هي خبائث خبثا فطريا لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرة. وتلك هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وبعضها مناف للفطرة وهو ما أهل به لغير الله لأنه مناف لشكر المنعم بها، فالله خلق الأنعام والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها.
ولإفادة بيان الحلال الطيب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر، أي ما حرم عليكم إلا الأربع المذكورات فبقي ما عداها طيبا.
وهذا بالنظر إلى الطيب والخبث بالذات. وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضا.
(13/249)
ومناسبة هذا التحديد في المحرمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهل به لغير الله. وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام.
[117،116] {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله: {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ}. فالجملة معطوفة على جملة {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} [النحل: 112] الآية.
وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية فربما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعففون عن أكله في الجاهلية.
وعلق النهي بقولهم: {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}. ولم يعلق بالأمر بأكل ما عدا ما حرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراما والحرام حلالا لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهية أو عيف هو عمل قاصر على ذاته. وأما قول: {وَهَذَا حَرَامٌ} فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله.
واللام في قوله: {لِمَا تَصِفُ} هي إحدى اللامين اللتين يتعدى بهما فعل القول وهي التي بمعنى "عن" الداخلة على المتحدث عنه فهي كاللام في قوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا} [سورة آل عمران:168]، أي قالوا عن أخواتهم. وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول.
و {تَصِفُ} معناه تذكر وصفا وحالا، كما في قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [سورة النحل: 62]. وقد تقدم ذلك في هذه السورة، أي لا تقولوا ذلك وصفا كذبا لأنه تقول لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو الله تعالى.
وانتصب {الْكَذِبَ} على المفعول المطلق لـ {تَصِفُ} ، أي وصفا كذبا، لأنه مخالف للواقع لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دليلا عليه.
(13/250)
وجملة {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} هي مقول {تقولوا}، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحل وأشياء بالتحريم.
و {لِتَفْتَرُوا} علة لـ {تقولوا} باعتبار كون الافتراء حاصلا لا باعتبار كونه مقصودا للقائلين، فهي لام العاقبة وليست لام العلة. وقد تقدم قريبا أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقق حصوله بعد الفعل منزلة الغرض المقصود من الفعل.
وافتراء الكذب تقدم آنفا. والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء.
وجملة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} استئناف بياني في صورة جواب عما يجيش بخاطر سائل يسأل عن عدم فلاحهم مع مشاهدة كثير منهم في حالة من الفلاح، فأجيب بان ذلك متاع، أي نفع موقت زائل ولهم بعده عذاب أليم.
والآية تحذر المسلمين من أن يتقولوا على الله ما لم يقله بنص صريح أو بإيجاد معان وأوصاف للأفعال قد جعل لأمثالها أحكاما، فمن أثبت حلالا وحراما بدليل من معان ترجع إلى مماثلة أفعال تشتمل على تلك المعاني فقد قال بما نصب الله عليه دليلا.
وقدم {لهم} للاهتمام زيادة في التحذير. وجيء بلام الاستحقاق للتنبيه على أن العذاب حقهم لأجل افترائهم.
[118] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
لما شنع على المشركين أنهم حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله، وحذر المسلمين من تحريم أشياء على أنفسهم جريا على ما اعتاده قومهم من تحريم ما احل لهم، نظر أولئك وحذر هؤلاء. فهذا وجه تعقيب الآية السالفة بآية {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ}.
والمراد منه ما ذكر في سورة الأنعام، كما روي عن الحسن وعكرمة وقتادة. وقد أشار إلى تلك المناسبة قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أي وما ظلمناهم بما حرمنا عليهم ولكنهم كفروا النعمة فحرموا من نعم عظيمة. وغير أسلوب الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأن جانب التحذير فيه أهم من جانب التنظير.
وتقديم المجرور في {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} للاهتمام، وللإشارة إلى أن ذلك حرم
(13/251)
عليهم ابتداء ولم يكن محرما من شريعة إبراهيم عليه السلام التي كان عليها سلفهم، كما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران:93]، أي عليهم دون غيرهم فلا تحسبوا أن ذلك من الحنيفية.
[119] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل:110]. فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرموه على أنفسهم، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك ووردت قوارع الذم لما صنعوا، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد ان أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة.
ووقع الإقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى إن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به.
وذكر اسم الرب مضافا إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفا في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا}.
والجهالة: انتفاء العلم بما يجب. والمراد: جهالتهم بأدلة الإسلام.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن الجملة المعطوفة بـ {ثُمَّ} تضمنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدل على فساد ما علموه. وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدة تأخرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه.
ويدخل في هذا الحكم من عمل حراما من المسلمين جاهلا بأنه حرام وكان غير مقصر في جهله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
(13/252)
بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء [17].
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} تأكيد لفظي لقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء. ويتصل خبر {إن} باسمها لبعد ما بينهما.
ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إياهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين.
والباء في {بِجَهَالَةٍ} للملابسة، وهي في موضع الحال من ضمير {عَمِلُوا}.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة.
[120-122] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله: {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النحل:19] المقصود به أنهم كانوا في الجاهلية ثم اتبعوا الإسلام، فيعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلا ببيان فضل الدين الذي اتبعوه.
وجعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدمة لذلك لبيان أن فضل الإسلام فضل زائد على جميع الأديان بان مبدأه برسول ومنتهاه برسول. وهذا فضل لم يحظ به دين آخر.
فالمقصود بعد هذا التمهيد و هاته المقدمة هو الإفضاء إلى قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123]، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78].
والأصل الأصيل الذي تفرع عنه وعن فروعه هذا الانتقال ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيرا مما أنعم الله به على الناس.
ونظرهم باليهود إذ حرم الله عليهم أشياء، تشديدا عليهم، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها، وأن الحنيفة هي ما
(13/253)
جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعا من الطيبات إلا ما بين الله تحريمه في آية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] الآية.
وقد وصف إبراهيم - عليه السلام - بأنه كان أمة. والأمة: الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة. وتقدم في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة [213]. ووصف إبراهيم - عليه السلام - بذلك وصف بديع لمعنيين:
أحدهما: أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمة كاملة. وهذا كقولهم: أنت الرجل كل الرجل، وقول البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " معاذ أمة قانت لله".
والثاني: أنه كان أمة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته، موحد لله غيره. فهو الذي أحيا الله به التوحيد، وبثه في الأمم والأقطار، وبنى له معلما عظيما، وهو الكعبة، ودعا الناس إلى حجه لإشاعة ذكره بين الأمم، ولم يزل باقيا على العصور. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بن مالك الكاهن: "وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده"، رواه السهيلي في الروض الأنف. ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عمرو بن نفيل.
والقانت: المطيع. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة البقرة [238].
واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل.
والحنيف: المجانب للباطل. وقد تقدم عند قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة البقرة [135]، والأسماء الثلاثة أخبار {كان} وهي فضائل.
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم - عليه السلام -. وقد صوروا إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة، كما جاء في حديث غزوة الفتح، فليس قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} مسوقا مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عما اختلقه عليه المبطلون. فوزانه وزان قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وهو
(13/254)
كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضده مثل {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79].
ونفي كونه من المشركين بحرف {لَمْ} لأن {لَمْ} تقلب زمن الفعل المضارع إلى المضي، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي، وتفيد تجدد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان: انتفاء مدلول الفعل بمادته، وتجدد الانتفاء بصيغته، فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبس بالإشراك قط؛ فإن إبراهيم - عليه السلام - لم يشرك بالله منذ صار مميزا وأنه لا يتلبس بالإشراك أبدا.
و {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ} خبر رابع عن {كان}. وهو مدح لإبراهيم - عليه السلام - وتعريض بذريته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مقابل قوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112]. وتقدم قريبا الكلام على أنعم الله.
وجملة {اجْتَبَاهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن الثناء المتقدم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد، فيجاب بان الله اجتباه، كقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتَهُ} [الأنعام:124].
والاجتباء: الاختيار، وهو افتعال من جبى إذا جمع. وتقدم في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في سورة الأنعام [87].
والهداية إلى الصراط المستقيم: الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية.
وضمير {آتَيْنَاهُ} التفات من الغيبة إلى التكلم تفننا في الأسلوب لتوالي ثلاثة ضمائر غيبة.
والحسنة في الدنيا: كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين، والصحة، والسلامة، وطول العمر، وسعة الرزق الكافي، وحسن الذكر بين الناس. وقد تقدم في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201].
والصلاح: تمام الاستقامة في دين الحق. واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته، إذ حكى عنه أنه قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
[123] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
(13/255)
{ثُمَّ} للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها تنويها جليلا بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبشريعة الإسلام، وزيادة في التنويه بإبراهيم - عليه السلام -، أي جعلناك متبعا ملة إبراهيم، وذلك أجل ما أوليناكما من الكرامة. وقد بينت آنفا أن هذه الجملة هي المقصود، وأن جملة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الخ. تمهيد لها.
وزيد {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للتنبيه على أن اتباع محمد ملة إبراهيم كان بوحي من الله وإرشاد صادق، تعريضا بان الذين زعموا اتباعهم ملة إبراهيم من العرب من قبل قد أخطأوها بشبهة مثل أمية بن أبي الصلت، وزيد ابن عمرو بن نفيل، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم.
و {أن} تفسيرية فعل {أَوْحَيْنَا} لأن فيه معنى القول دون حروفه، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير.
والاتباع: اقتفاء السير على سير آخر. وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر.
وانتصب {حَنِيفاً} على الحال من {إِبْرَاهِيمَ} فيكون زيادة تأكيد لمماثلة قبله أو حالا من ضمير {إِلَيْكَ} أو من ضمير {اتَّبِعْ} ، أي كن يا محمد حنيفا كما كان إبراهيم حنيفا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وتفسير فعل {أَوْحَيْنَا} بجملة {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} تفسير بكلام جامع لما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملذة إبراهيم. وليس المراد أوحينا إليك كلمة {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنيفاً} لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم تفاصيل ملة إبراهيم، فتعين أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم - عليه السلام -.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم المحكي بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وهو عطف على {حَنيفاً} على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال؛ فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيها لشريعة الإسلام المتبعة لملة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك.
ونفي كونه من المشركين هنا بحرف {ما} النافية لأن {ما} إذا نفت فعل {كان}
(13/256)
أفادت قوة النفي ومباعدة المنفي. وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو: ما كان ليفعل كذا.
فحصل من قوله السابق: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ومن قوله هنا: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثلاث فوائد: نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي، وتجدد نفي الإشراك تجددا مستمرا، وبراءته من الإشراك براءة تامة.
وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزه عن أن تتعلق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلنا توحيدا لله بالإلهية ومجتثا لوشيج الشرك. والشرائع الإلهية كلها وإن كانت تحذر من الإشراك فقد امتاز القرآن من بينها بسد المنافذ التي يتسلل منها الإشراك بصراحة أقواله وفصاحة بيانه، وأنه لم يترك في ذلك كلاما متشابها كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله، وما في الأناجيل من موهم بنوة - عيسى عليه السلام - لله سبحانه عما يصفون.
وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه (أي أرض الإسلام) أبدا، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم".
ومعنى اتباع محمد ملة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بني على أصول ملة إبراهيم، وهي أصول الفطرة، والتوسط بين الشدة واللين، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام -، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي. ولذلك قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]
فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة. ولذلك قال المحققون من علمائنا: إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله وإن كان لا يصح أن يقال: قاله الله. وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم - عليه السلام - إذ لا يخطر ذلك بالبال، فإن الإسلام شريعة قانونية
(13/257)
سلطانية وشرع إبراهيم شريعة قبائلية خاصة بقوم، ولا أن المراد أن الله أمر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم ابتداء قبل أن يوحي إليه بشرائع دين الإسلام، لأن ذلك وإن كان صحيحا من جهة المعنى وتحتمله ألفاظ الآية لكنه لا يستقيم إذ لم يرد في شيء من التشريع الإسلامي ما يشير إلى أنه نسخ لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل.
فاتباع النبي ملة إبراهيم كان بالقول والعمل في أصول الشريعة من إثبات التوحيد والمحاجة له واتباع ما تقتضيه الفطرة. وفي فروعها مما أوحى الله إليه من الحنيفية مثل الختان وخصال الفطرة والإحسان.
[124] {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
موقع هذه الآية ينادي على أنها تضمنت معنى يرتبط بملة إبراهيم وبمجيء الإسلام على أساسها.
فلما نفت الآية قبل هذه أن يكون إبراهيم - عليه السلام - من المشركين ردا على مزاعم العرب المشركين أنهم على ملة إبراهيم انتقل بهذه المناسبة إلى إبطال ما يشبه تلك المزاعم. وهي مزاعم اليهود أن ملة اليهودية هي ملة إبراهيم زعما ابتدعوه حين ظهور الإسلام جحدا لفضيلة فاتتهم، وهي فضيلة بناء دينهم على أول دين للفطرة الكاملة حسدا من عند أنفسهم. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} في سورة آل عمران [65].
فهذه الآية مثل آية آل عمران {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فذلك دال على أن هؤلاء الفرق الثلاث اختلفوا في إبراهيم، فكل واحدة من هؤلاء تدعي أنها على ملته، إلا أنه اقتصر في هذه الآية على إبطال مزاعم المشركين بأعظم دليل وهو أن دينهم الإشراك وإبراهيم - عليه السلام - ما كان من المشركين. وعقب ذلك بإبطال مزاعم اليهود لأنها قد تكون أكثر زواجا، لأن اليهود كانوا مخالطين العرب في بلادهم، فأهل مكة كانوا يتصلون باليهود في أسفارهم وأسواقهم بخلاف النصارى.
(13/258)
ولما كانت هذه السورة مكية لم يتعرض فيها للنصارى الذين تعرض لهم في سورة آل عمران.
ولهذا تكون جملة {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} استئنافا بيانيا نشأ عن قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] إذ يثير سؤالا من المخالفين: كيف يكون الإسلام من ملة إبراهيم? وفيه جعل يوم الجمعة اليوم المقدس. وقد جعلت التوراة لليهود يوم التقديس يوم السبت. ولعل اليهود شغبوا بذلك على المسلمين، فكان قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} بيانا لجواب هذا السؤال.
وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين جملة {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] وجملة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] الخ.
ولذلك افتتحت الجملة بأداة الحصر إشعارا بأنها لقلب ما ظنه السائلون المشغبون.
وهذا أسلوب معروف في كثير من الأجوبة الموردة لرد رأي موهوم، فالضمير في قوله:
{فيه} عائد إلى إبراهيم على تقدير مضاف، أي اختلفوا في ملته، وليس عائدا على السبت، إذ لا طائل من المعنى في ذلك. والذين اختلفوا في إبراهيم، أي في ملته هم اليهود لأنهم أصحاب السبت.
ومعنى {جُعِلَ السَّبْتُ} فرض وعين عليهم، أي فرضت عليهم أحكام السبت: من تحريم العمل فيه، وتحريم استخدام الخدم والدواب في يوم السبت.
وعدل عن ذكر اسم اليهود أو بني إسرائيل مع كونه أوجز إلى التعبير عنهم بالموصول لأن اشتهارهم بالصلة كاف في تعريفهم مع ما في الموصول وصلته من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وذلك الإيماء هو المقصود هنا لأن المقصود إثبات أن اليهود لم يكونوا على الحنيفية كما علمت آنفا.
وليس معنى فعل {اخْتَلَفُوا} وقوع خلاف بينهم بأمر السبت بل فعل {اخْتَلَفُوا} مراد به خالفوا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهم على أنبياؤهم، أي عملهم خلاف ما أمر به أنبياؤهم. فحاصل المعنى هكذا: ما فرض السبت على أهل السبت إلا لأنهم لم يكونوا على ملة إبراهيم، إذ مما لا شك فيه عندهم أن ملة إبراهيم ليس منها حرمة السبت ولا هو من شرائعها.
(13/259)
ولم يقع التعرض لليوم المقدس عند النصارى لعدم الداعي إلى ذلك حين نزول هذه السورة كما علمت.
ولا يؤخذ من هذا أن ملة إبراهيم كان اليوم المقدس فيها يوم الجمعة لعدم ما يدل على ذلك، والكافي في نفي أن يكون اليهود على ملة إبراهيم أن يوم حرمة السبت لم تكن من ملة إبراهيم.
ثم الأظهر أن حرمة يوم الجمعة ادخرت للملة الإسلامية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد". فقوله: "فهدانا الله إليه" يدل على أنه لم يسبق ذلك في ملة أخرى.
فهذا وجه تفسير هذه الآية، ومحمل الفعل والضمير المجرور في قوله: {اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
وما ذكره المفسرون من وجوه لا يخلو من تكلف وعدم طائل. وقد جعلوا ضمير {فيه} عائدا إلى {السبت}. وتأولوا معنى الاختلاف فيه بوجوه. ولا مناسبة بين الخبر وبين ما توهم أنه تعليل له على معنى جعل السبت عليهم لأنهم اختلفوا على نبيهم موسى عليه السلام لأجل السبت، لأن نبيهم أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة فأبوا، وطلبوا أن يكون السبت هو المفضل من الأسبوع بعلة أن الله قضى خلق السماوات والأرضين قبل يوم السبت ولم يكن في يوم السبت خلق، فعاقبهم الله بالتشديد عليهم في حرمة السبت. كذا نقل عن ابن عباس. وهو لا يصح عنه. وكيف وقد قال الله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء:154]. وكيف يستقيم أن يعدل موسى - عليه السلام - عن اليوم الذي أمر الله بتعظيمه إلى يوم آخر لشهوة قومه وقد عرف بالصلابة في الدين.
ومن المفسرين من زعم أن التوراة أمرتهم بيوم غير معين فعينوه السبت. وهذا لا يستقيم لأن موسى - عليه السلام - عاش بينهم ثمانين سنة فكيف يصح أن يكونوا فعلوا ذلك لسوء فهمهم في التوراة. ولعلك تلوح لك حيرة المفسرين في التئام معاني هذه الآية.
و {إنما} للحصر، وهو قصر قلب مقصود به الرد على اليهود بالاستدلال عليهم بأنهم ليسوا على ملة إبراهيم، لأن السبت جعله الله لهم شرعا جديدا بصريح كتابهم إذ لم يكن عليه يلفهم. وتركيب الاستدلال: إن حرمة السبت لم تكن من ملة إبراهيم فأصحاب تلك الحرمة ليسوا على ملة إبراهيم.
(13/260)
ومعنى {جُعِلَ السَّبْتُ} أنه جعل يوما معظما لا عمل فيه، أي جعل الله السبت معظما، فحذف المفعول الثاني لفعل الجعل لأنه نزل منزلة اللازم إيجازا ليشمل كل أحوال السبت المحكية في قوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [النساء: 154] وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163].
وضمن فعل {جُعِلَ} معنى فرض فعدي بحرف {على}.
وقد ادخر الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الوارث لأصول إبراهيم، فجعل لليهود والنصارى دينا مخالفا لملة إبراهيم، ونصب على ذلك شعارا وهو اليوم الذي يعرف به أصل ذلك الدين وتغيير ذلك اليوم عند بعثة - المسيح عليه السلام - إشارة إلى ذلك، لئلا يكون يوم السبت مسترسلا في بني إسرائيل، تنبيها على أنهم عرضة لنسخ دينهم بدين عيسى - عليه السلام - وإعدادا لهم لتلقي نسخ آخر بعد ذلك بدين آخر يكون شعاره يوما آخر غير السبت وغير الأحد. فهذا هو التفسير الذي به يظهر انتساق الآي بعضها مع بعض.
و {بينهم} ظرف للحكم المستفاد من" يحكم، أي حكما بين ظهرانيهم. وليست {بينهم} لتعدية"يحكم"إذ ليس ثمة ذكر الاختلاف بين فريقين هنا.
[125] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقوله: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل:123] فإن المراد بما أوحي إليه من اتباع ملة إبراهيم هو دين الإسلام، ودين الإسلام مبني على قواعد الحنيفية، فلا جرم كان الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته الناس إلى الإسلام داعيا إلى اتباع ملة إبراهيم.
ومخاطبة الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر في حين أنه داع إلى الإسلام وموافق لأصول ملة إبراهيم دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدوام على الدعوة الإسلامية مع ما انضم إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين.
فتضمنت هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الدعوة وأن لا يؤيسه قول المشركين له
(13/261)
{إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:101] وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103]؛ وأن لا يصده عن الدعوة أنه تعالى لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله. ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبط النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته إلا ألقوا بها إليه من: تصريح بالتكذيب، واستسخار، وتهديد، وبذاءة، واختلاق، وبهتان، كما ذلك محكي في تضاعيف القرآن وفي هذه السورة، لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم، فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطا له وموشكا لأن يصرفه عن دعوتهم.
وسبيل الرب: طريقة. وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلغ عامله إلى رضى الله تعالى، لأن العمل الذي يحصل لعامله غرض ما يشبه الطريق الموصل إلى مكان مقصود، فلذلك يستعار اسم السبيل لسبب الشيء.
قال القرطبي: إن هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش أي في مدة صلح الحديبية.
وحكى الواحدي عن ابن عباس: أنها نزلت عقب غزوة أحد لما أحزن النبي صلى الله عليه وسلم منظر المثلة بحمزة ت رضي الله عنه - وقال:لأقتلن مكانه سبعين رجلا منهم.وهذا يقتضي أن الآية مدنية.
ولا أحسب ما ذكراه صحيحا. ولعل الذي غر من رواه قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] كما سيأتي، بل موقع الآية متصل بما قبله غير محتاج إلى إيجاد سبب نزول.
وإضافة {سَبِيلِ} إلى {رَبِّكَ} باعتبار أن الله أرشد إليه وأمر بالتزامه. وهذه الإضافة تجريد للاستعارة. وصار هذا المركب علما بالغلبة على دين الإسلام، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، وهو المراد هنا، وفي قوله عقبه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل:125].
ويطلق سبيل الله علما بالغلبة أيضا على نصرة الدين بالقتال كما في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41].
والباء في قوله: {بِالْحِكْمَةِ} للملابسة، كالباء في قول العرب للمعرس: بالرفاء
(13/262)
والبنين، بتقدير: أعرست، يدل عليه المقام، وهي إما متعلقه ب {ادع} ، أو في موضع الحال من ضمير {ادع}.
وحذف مفعول {ادع} لقصد التعميم. أو لأن الفعل نزل منزلة اللازم، لأن المقصود الدوام على الدعوة لا بيان المدعوين، لأن ذلك أمر معلوم من حال الدعوة.
ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين: الحكمة، والموعظة الحسنة.
فالحكمة: هي المعرفة المحكمة، أي الصائبة المجردة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم. ولذلك عرفوا الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ولا تخطئ في العلل والأسباب. وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحا مستمرا لا يتغير. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في سورة البقرة [269] مفصلا فانظره. وتطلق الحكمة على العلوم الحاصلة للأنبياء، ويرادفها الحكم.
و {الموعظة}: القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير. وهي أخص من الحكمة لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها. وتقدمت عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63]. وعند قوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف [145].
ووصفها بالحسن تحريض على أن تكون لينة مقبولة عند الناس، أي حسنة في جنسها، وإنما تتفاضل الأجناس بتفاضل الصفات المقصودة منها.
وعطف {الموعظة} على "الحكمة" لأنها تغاير الحكمة بالعموم والخصوص الوجهي، فإنه قد يسلك بالموعظة مسلك الإقناع، فمن الموعظة حكمة، ومنها خطابة، ومنها جدل.
وهي من حيث ماهيتها وبين الحكمة العموم والخصوص من وجه، ولكن المقصود بها ما لا يخرج عن الحكمة والموعظة الحسنة بقرينة تغيير الأسلوب، إذ لم يعطف مصدر المجادلة على الحكمة والموعظة بأن يقال: والمجادلة بالتي هي أحسن، بل
(13/263)
جيء بفعلها، على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون كالتي هي أحسن، كما قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
والمجادلة: الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك. ولما كان ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن. وتقدمت قريبا عند قوله: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]. وتقدمت من قبل عند قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107]. والمعنى: إذا ألجأت الدعوة إلى محاجة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن.
والمفضل عليه المحاجة الصادرة منهم، فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجة الصادرة منه أشد حسنا من الحاجة الصادرة منهم، كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]
ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم، فمنهم من يحاج بلين، مثل ما في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له: " هل ترى بما أقول بأسا" قال: لا والدماء. وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على عبد الله بن أبي بن سلول في مجلس قومه، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إن كان ما تقول حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدث إياه ومن لم يأتك فلا تغته ولا تأته في مجلسه بما يكره منه.
وتصدى المشركون لمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم تكرر غير مرة. ومن ذلك ما روي عن ابن عباس: أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] الآية، قال عبد الله الزبعري: لأخصمن محمدا، فجاءه فقال: يا محمد قد عبد عيسى، وعبدت الملائكة فهل هم حصب لجهنم? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ ما بعد {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}" [الأنبياء:101]. أخرجه ابن المنذر وابن مردويه والطبراني، وأبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ".
وقيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالبا ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقع ذلك منه، كانت مظنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخى في
(13/264)
الموعظة أن تكون حسنة، أي بإلانة القول وترغيب الموعوظ في الخير، قال تعالى خطابا لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْيَخْشَى} [طه43].
وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون" الحديث.
وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبية على أن تكون حسنة.
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحق فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة، ولكنها جعلت قسيما لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها.
وإذ قد كانت مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم لهم من ذيول الدعوة وصفت بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة.
وقد كان المشركون يجادلون النبي قصدا لإفحامه وتمويها لتغليطه نبه الله على أسلوب مجادلة النبي إياهم استكمالا لآداب وسائل الدعوة كلها. فالضمير في {وَجَادِلْهُمْ} عائد إلى المشركين بقرينة المقام لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يتلقون منه تلقي المستفيد والمسترشد. وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة إذ لم يقل: والمجادلة الحسنة، بل قال: {وَجَادِلْهُمْ}، وقال تعالى أيضا: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: من الآية46].
ويندرج في {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} رد تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: من الآية24]، وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69].
والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة. وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصة وعامة.
(13/265)
وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملا على هذه الأحوال الثلاثة؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملا على غلظة ووعيد وخاليا عن المجادلة. وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لتأكل المرباع وهو حرام في دينك "، قاله لعدي بن حاتم وهو نصراني قبل إسلامه.
ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحق، وهي البرهان والخطابة والجدل المعبر عنها في علم المنطق بالصناعات وهي المقبولة من الصناعات. وأما السفسطة والشعر فيربأ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين.
قال فخر الدين:" إن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد من أن تكون مبنية على حجة. والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين، وإما إلزام الخصم وإفحامه.
أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية مبراة من احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظنا ظاهرا وإقناعا، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة:
أولها: الحجة المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمى بالحكمة.
وثانيها: الأمارات الظنية وهي الموعظة الحسنة.
وثالثها: الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم وذلك هو الجدل.
وهو على قسمين، لأنه: إما أن يكون مركبا من مقدمات مسلمة عند الجمهور وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن، وإما أن يكون مركبا من مقدمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة. وهذا لا يليق بأهل الفضل"، اه.
وهذا هو المدعو فيا لمنطق بالسفسطة، ومنه المقدمات الشعرية وهي سفسطة مزوقة.
(13/266)
والآية جامعة لأقسام الحجة الحق جمعا لمواقع أنواعها في طرق الدعوة ولكن على وجه التداخل لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض فالنسبة بينها التباين. أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي. وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل، وذهنك في تفكيكها غير كليل.
فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان لأنه يتألف من المقدمات اليقينية وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه.
وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة لأن الخطابة تتألف من مقدمات ظنية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة. وكفى بالمقبولات العادية موعظة. ومثالها من القرآن قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:22] فقوله: {وَمَقْتاً} أشار إلى أنهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يسمونه نكاح المقت، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مقنع بأنه فاحشة، فهو استدلال خطابي.
وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلة المسلمة بين المتحاجين أو من الأدلة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة. وقد يكون مما يقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة. وسماه حكماء الإسلام جدلا تقريبا للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}
هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدعوة بعد الإعلام بان الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم.
فلما كان التحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجا لبيان الحكمة في ذلك بينت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس وليس ذلك لغير الله من الناس فما عليك إلا البلاغ، أي فلا تيأس من هدايتهم ولا تتجاوز إلى حد الحزن على عدم اهتدائهم لأن العلم بمن يهتدي ومن يضل موكول إلى الله وإنما عليك التبليغ في كل حال. وهذا قول فصل بين فريق الحق وفريق الباطل.
وقدم العلم بمن ضل لأنه المقصود من التعليل لأن دعوتهم أوكد والإرشاد إلى اللين
(13/267)
في جانبهم بالموعظة الحسنة والمجادلة الحسنى أهم، ثم أتبع ذلك بالعلم بالمهتدين على وجه التكميل.
وفيه إيماء إلى أنه لا يدري أن يكون بعض من أيس من إيمانه قد شرح الله صدره للإسلام بعد اليأس منه.
وتأكيد الخبر بضمير الفصل للاهتمام به. وأما {إِنَّ} فهي في مقام التعليل ليست إلا لمجرد الاهتمام، وهي قائمة مقام فاء التفريع على ما أوضحه عبد القاهر في دلائل الإعجاز، فإن إفادتها التأكيد هنا مستغنى عنها يوجود ضمير الفصل في الجملة المفيدة لقصر الصفة على الموصوف، فإن القصر تأكيد على تأكيد.
وإعادة ضمير الفصل في قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} للتنصيص على تقوية هذا الخبر لأنه لو قيل: وأعلم بالمهتدين، لاحتمل أن يكون معطوفا على جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ} هو أعلم بمن ضل على أنه خبر "لإن" غير داخل في حيز التقوية بضمير الفصل، فأعيد ضمير الفصل لدفع هذا الاحتمال.
ولم يقل: وبالمهتدين، تصريحا بالعلم في جانبهم ليكون صريحا في تعلق العلم به. وهذان القصران إضافيان، أي ربك أعلم بالضالين والمهتدين لا هؤلاء الذين يظنون أنهم مهتدون وأنكم ضالون.
والتفضيل في قوله {هُوَ أَعْلَمُ} تفضيل على علم غيره بذلك. فإنه علم متفاوت بحسب تفاوت العالمين في معرفة الحقائق.
وفي هذا التفضيل إيماء إلى وجوب طلب كمال العلم بالهدى، وتمييز الحق من الباطل، وغوص النظر في ذلك، وتجنب التسرع في الحكم دون قوة ظن بالحق، والحذر من تغلب تيارات الأهواء حتى لا تنعكس الحقائق ولا تسير العقول في بنيات الطرائق، فإن الحق باق على الزمان والباطل تكذبه الحجة والبرهان.
والتخلق بهذه الآية هو أن كل من يقوم مقاما من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين أو سياستهم يجب عليه أن يكون سالكا للطرائق الثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وإلا كان منصرفا عن الآداب الإسلامية وغير خليق بما هو فيه من سياسة الأمة، وأن يخشى أن يعرض مصالح الأمة للتلف، فإصلاح الأمة يتطلب إبلاغ الحق إليها بهذه الوسائل الثلاث. والمجتمع الإسلامي لا يخو عن متعنت أو
(13/268)
ملبس وكلاهما يلقي في طريق المصلحين شوك الشبه بقصد أو بغير قصد. فسبيل تقويمه هو المجادلة، فتلك أدنى لإقناعه وكشف قناعه.
في "الموطأ" أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال في خطبة خطبها في آخر عمره: "أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا" وضرب بإحدى يديه على الأخرى. "لعله ضرب بيده اليسرى على يده اليمنى الممسكة السيف أو العصا في حال الخطبة". وهذا الضرب علامة على أنه ليس وراء ما ذكر مطلب للناس في حكم لم يسبق له بيان في الشريعة.
وقدم ذكر علمه {بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} على ذكر علمه {بِالْمُهْتَدِينَ} لأن المقام تعريض بالوعيد للضالين ولأن التخلية مقدمة على التحلية، فالوعيد مقدم على الوعد.
[126] {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}.
عطف على جملة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125]، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إياهم كما وصفنا، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين المشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بتجاوز حد ما لقيتم منهم.
فهذه الآية متصلة بما قبلها أتم اتصال، وحسبك وجود العاطف فيها. وهذا تدرج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم. وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام.
وهذا مختار النحاس وابن عطية وفخر الدين، وبذلك يترجح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين، وهو قول جابر بن زيد، كما تقدم في أول السورة. واختار ابن عطية أن هذه الآية مكية.
ويجوز أن تكون نزلت في قصة التمثيل بحمزة يوم أحد، وهو مروي بحديث ضعيف للطبراني. ولعله اشتبه على الرواة تذكر النبي صلى الله عليه وسلم الآية حين توعد المشركين بأن يمثل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم.
والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعاقبة: الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء.
(13/269)
فقوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} مشاكلة لـ {عاقبتم}. استعمل {عوقبتم} في معنى عوملتم به، لوقوعه بعد فعل {عاقبتم}، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة. ويجوز أن يكون {عوقبتم} حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آباءهم.
والأمر في قوله: {فعاقبوا} للوجوب باعتبار متعلقه، وهو قوله: {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب.
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم، فلعل بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحنق على الإفراط في العقاب. فهي ناظرة إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110].
ورغبهم في الصبر على الأذى، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه، لأنه أجلب لقلوب الأعداء، فوصف بأنه خير، أي خير من الأخذ بالعقوبة، كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فصلت: [34] وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: [40]
وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل {صَبَرْتُمْ}، كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
وأكد كون الصبر خيرا بلام القسم زيادة في الحث عليه.
وعبر عنهم بالصابرين إظهار في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين، أي الصبر خبر لجنس الصابرين.
[127] {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر للإشارة إلى أن مقامه أعلى، فهو بالتزام الصبر أولى أخذا بالعزيمة بعد أن رخص لهم في المعاقبة.
وجملة {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} معترضة بين المتعاطفات، أي وما يحصل صبرك إلا بتوفيق الله إياك. وفي هذا إشارة إلى أن صبر النبي صلى الله عليه وسلم عظيم لأنه لقي من أذى المشركين أشد
(13/270)
مما لقيه عموم المسلمين. فصبره ليس كالمعتاد، لذلك كان حصوله بإعانة من الله.
وحذره من الحزن عليهم إن لم يؤمنوا كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [الشعراء:3].
ثم أعقبه بأن لا يضيق صدره من مكرهم. وهذه أحوال مختلفة تحصل في النفس باختلاف الحوادث المسببة لها، فإنهم كانوا يعاملون النبي مرة بالأذى علنا، ومرة بالإعراض عن الاستماع إليه وإظهار أنهم يغيظونه بعدم متابعته، وآونة بالكيد والمكر له وهو تدبير الأذى في خفاء.
والضيق بفتح الضاد وسكون الياء مصدر ضاق، مثل السير والقول. وبها قرأ الجمهور.
ويقال: الضيق بكسر الضاد مثل: الفيل. وبها قرأ ابن كثير.
وتقدم عند قوله: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12]. والمراد ضيق النفس، وهو مستعار للجزع والكدر، كما استعير ضده وهو السعة والاتساع للاحتمال والصبر. يقال: فلان ضيق الصدر، قال تعالى في آخر الحجر {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [سورة الحجر:97]. ويقال: سعة الصدر.
والظرفية في {ضَيْقٍ} مجازية، أي لا يلابسك ضيق ملابسة الظرف للحال فيه.
و {مَا} مصدرية، أي من مكرهم. واختير الفعل المنسبك إلى مصدر لما يؤذن به الفعل المضارع من التجدد والتكرر.
[128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
تعليل للأمر بالاقتصار على قدر الجرم في العقوبة، وللترغيب في الصبر على الأذى، والعفو عن المعتدين، ولتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر، والاستعانة على تحصيله بمعونة الله تعالى، ولصرف الكدر عن نفسه من جراء أعمال الذين لم يؤمنوا به.
علل ذلك كله بأن الله مع الذين يتقونه فيقفون عندما حد لهم، ومع المحسنين. والمعية هنا مجاز في التأييد والنصر.
وأتي في جانب التقوى بصلة فعلية ماضية للإشارة إلى لزوم حصولها وتقررها من قبل
(13/271)
لأنها من لوازم الإيمان، لأن التقوى آيلة إلى أداء الواجب وهو حق على المكلف. ولذلك أمر فيها بالاقتصار على قدر الذنب.
وأتي في جانب الإحسان بالجملة الاسمية للإشارة إلى كون الإحسان ثابتا لهم دائما معهم، لأن الإحسان فضيلة، فبصاحبه حاجة إلى رسوخه من نفسه وتمكنه.
(13/272)
المجلد الرابع عشر
سورة الإسراء
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء
سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء. وصرح الآلوسي بأنها سميت بذلك، إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصت بذكره.
وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل. ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم:"إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي". وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير ، والترمذي في أبواب التفسير. ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها. وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم.
وتسمى أيضا سورة"سبحان"، لأنها افتتحت بهذه الكلمة. قاله في بصائر ذوي التمييز .
وهي مكية عند الجمهور. قيل: إلا آيتين منها، وهما {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {قَلِيلاً} [الإسراء:73]. وقيل: إلا أربعا، هاتين الآيتين، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق} [الإسراء:80]. وقيل: إلا خمسا، هاته الأربع، وقوله :{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِه} [الإسراء:107]إلى آخر السورة. وقيل: إلا خمس آيات غير ما تقدم، وهي المبتدأة بقوله :{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الإسراء:33]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} الآية [الإسراء:32]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية
(14/5)
[الإسراء:57]، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاة} الآيةَ[الإسراء:78]، وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه} الآيةُ[الإسراء: 26]. وقيل إلا ثمانيا من قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:73ـ80].
وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية. وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها.
ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله : {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:23ـ38].
وقد اختلف في وقت الإسراء. والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة.
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء. بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة.
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته.
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس.
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن.
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة، ومكة، والشام، والبصرة. ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
أغراضها
العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وإثبات أن القرآن وحي من الله.
وإثبات فضله وفضل من أنزل عليه.
(14/6)
وذكر أنه معجز.
ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه .
وإبطال إحالتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى. فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله.
وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت. فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية، ورمز أطوار تاريخ بني إسرائيل وأسلافهم، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى :{ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده.
وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى. وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته.
ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية.
والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له.
وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه، ومعاملة بعضهم مع بعض، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم.
وعن ابن عباس أنه قال:"التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل". وفي رواية عنه:"ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى" أي من قوله تعالى: {لَا
(14/7)
تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} إلى قوله: { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراًْ} [الإسراء:22ـ39].
ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة.
على أن كلام ابن عباس معناه: أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي، ولا يريد أنهما سواء، لأن تلك الآيات تزيد بأحكام، منها قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} إلى قوله: {لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء: 25ـ27)، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلى قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء:34ـ39]، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح.
وإثبات البعث والجزاء.
والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها.
والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته، وقصة إبايته من السجود.
والإنذار بعذاب الآخرة.
وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك.
وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم.
وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين واستعانتهم باليهود. واقتراحهم الآيات، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق.
وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة.
[1] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]
الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام متضمن ما يجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن
(14/8)
خبرا عجيبا يستقبله السامعون دالا على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه.
فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيها أو تنقيصا لا يلقيان بجلال الله تعالى مثل {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنويه، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله:ُ {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، وقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادرا منه كان المعنى تعجيب السامعين، لأن التعجيب مستحيلة حقيقته على الله، لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم: أتعجب من قول فلان كيت و كيت.
ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى. ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلا للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن ينطق المتأمل بتسبيح الله تعالى، أي تنزيهه عن العجز.
وأصل صيغ التسبيح هو كلمة"سبحان الله" التي نحت منها السبحلة. ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو: سبحانك وسبحانه، وبالموصول نحو {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يّس:36]ومنه هذه الآية.
والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى. ويفيد أن حديث الإسراء أمر فشا بين القوم، فقد آمن به المسلمون وأكبره المشركون.
وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات أنه رسول من الله، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قبل لهم بإنكاره، فقد كان إسراؤه إطلاعا له على غائب من الأرض، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام.
و {أسرى} لغة في سرى، بمعنى سار في الليل، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن
(14/9)
التعدية حاصلة بالباء، بل أسرى فعل مفتتح بالهمزة مرادف سرى، وهو مثل أبان المرادف بان، ومثل أنهج الثوب بمعنى نهج أي بلي، فـ {أسرى بعبده} بمنزلة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17]
وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء: بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعول في الفعل، فأصل "ذهب به" أنه استصحبه، كما قال تعالى: { وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29]. وقالت العرب: أشبعهم شتما، وراحوا بالإبل. وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال: {أسرى بعبده} دون سرى بعبده، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايته وتوفيقه، كما قال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
فالمعنى: الذي جعل عبده مسريا، أي ساريا، وهو كقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} (هود: 81].
وإذ قد كان السري خاصا بسير الليل كان قوله: {ليلاً} إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جزء ليلة، و إلا لم يكن ذكره إلا تأكيدا، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة.
وفي ذلك إيماء إلى أنه إسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضا ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم.
فتنكير {ليلا} للتعظيم، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل {أسرى} ، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمنا لذلك السري العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم. ألا ترى كيف احتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى :{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1ـ2] إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة1.
و {عبد} المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد صلى الله عليه وسلمكما هو مصطلح القرآن،
فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافا إلى ضمير الغيبة الراجع إلى تعالى إلا مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم،
ـــــــ
1واما قوله {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} فذلك توكيد لأن المتحدث عنهم ينكرونه ولا يعبؤون فيه من الهوال.
(14/10)
ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين، فصار المراد {بعبده} معلوما.
والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفا.
والمسجد الحرام هو الكعبة والفناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة.
وأصل المسجد: أنه اسم مكان السجود. وأصل الحرام: الأمر الممنوع، ولأنه مشتق من الحرم بفتح فسكون وهو المنع، وهو يرادف الحرم. فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالا يناسبه، نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي أكل الميتة، وقول عنترة:
حرمت علي وليتها لم تحرم
أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم.
ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما. ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به. وقد لا يذكر متعلقة إذا دل عليه العرف، ومنه قولهم: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} [البقرة:194] أي الحرام فيه القتال في عرفهم. وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير، فهو من الحذف للتعميم فيرجع إلى العموم العرفي، ففي نحو {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] يراد الممنوع من عدوان المعتدين، وغزو الملوك والفاتحين، وعمل الظلم والسوء فيه.
والحرام: فعال بمعنى مفعول، كقولهم: امرأة حصان، أي ممنوعة بعفافها عن الناس.
فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود، أي للصلاة، وهو الكعبة والفناء المجعول حرما لها. وهو يختلف سعة وضيقا باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة.
وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام. وجعل قصي بقربه دار النوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش. وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاوزة. ومجموع البيوت يسمى شعبا ـ بكسر
(14/11)
الشين. وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دورها، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يحفظ به. وكانت المسالك التي بين دور العشائر تسمى أبوابا لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام، مثل باب بني شيبة، وباب بني هاشم، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا، وباب بني سهم، وباب بني تيم. وربما عرف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل باب الصفا ويسمى باب بني مخزوم. وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحزورة. ولا أدري هل كانت أبوابا تغلف أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين.
وأول من جعل للمسجد الحرام جدارا يحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة.
ولقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 37]. ولما انقرضت الحنفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفه بالمسجد الحرام فصاروا يقولون: البيت الحرام. وأما قول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام.
فغلب عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علما بالغلبة في اصطلاح القرآن. ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بني إسرائيل. وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في[البقرة:144]، وعند قوله تعالى: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في أول العقود [المائدة:2].
وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معرف باللام، فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعيق، فحصل التعريف بمجموعهما. ولم يعد النحاة هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة. ولعلهم اعتبروه راجعا إلى المعرف باللام. ولابد من عده لأن علميته صارت بالأمرين.
والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيت المقدس الكائن بإيلياء، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام .
والأقصى، أي الأبعد. والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من
(14/12)
المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقا للعادة لكونه قطع مسافة طويلة في بعض ليلة.
وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علما بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علما بالغلبة على مسجد مكة. وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء. ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذ.
وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزة خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قصي عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذ.
فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بينها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي".
وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] أمران:
أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظيمة في جزء ليلة، لأن كلا من الظرف وهو {لَيلاً} ومن المجرورين {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] قد تعلق بفعل {أسرى} ، فهو تعلق يقتضي المقارنة، ليعلم أنه من قبيل المعجزات.
وثانيهما:الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضا، فقد قدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى. ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سرى يعقبه تأويب. وبذلك حصل رد العجز على الصدر.
ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجتماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، ففيها {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
(14/13)
إِلَّا بِالْحَقِّ} {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء:23ـ35]
إيماء إلى أن هذا الدين سيكون دينا يحكم في الناس وتنفذ أحكامه.
والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. ففي الصحيحين عن أبي ذر قال:"قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول? قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي? قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما? قال: أربعون سنة".
فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام . وقد قرن ذكره بذكر المسجد الحرام.
وهذا مما أهمل أهل الكتاب ذكره. وهو مما خص الله نبيه بمعرفته. والتوراة تشهد له، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر: أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان (وهي بلاد فلسطين )نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل ( بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلا من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين (لوزا) فسماه يعقوب: بيت إيل، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين )وغربي بلاد عاي (مدينة عبرانية تعرف الآن "الطيبة") وبنى هنالك مذبحا للرب.
وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم. قال عمر بن أبي ربيعة:
دمية عند راهب قسيس ... صوروها في مذبح المحراب
أي ما كان المذبح من المسجد، لأن المحراب هو محل التعبد، قال تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39].
ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى إليه الله بذلك، وهو الذي أوصى ابنه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجد، أي الهيكل. وقد ذكر مؤرخو العبرانبين ومنهم (يوسيفسوس) أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه (نابو) وأنه الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة.
وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة.
(14/14)
وقد انتابه التخريب ثلاث مرات:
أولاها :حين خربه بختنصر ملك بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفرس.
الثانية : خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه، فأكمل تخريبه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال.
الثالثة : لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأمبراطور قسطنطين ملك الروم بيزنطة وصارت متصلبة في النصرانية، وأشرب قلبها بغض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقى من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر (والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يدعى أن المسيح دفن فيه) وأن تسميها كنيسة القيامة، وأمرت بأن يجعل موضع المسجد الأقصى مرمى أزبال البلد وقماماته فصار موضع الصخرة مزبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها.
ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيليا1، وهي المعروفة من قبل(أورشليم) وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين. وإيلياء اسم نبي من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح. قال الفرزدق:
وبيتان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرف
انعقد الصلح بين عمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى. قال عمر لبطريق لهم اسمه"صفرونيوس":"دلني على مسجد داود"، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على درج الباب فتجشم عمر حتى دخل ونظر فقال: "الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إليه". ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ومضى عمر إلى جهة محراب داود فصلى فيه، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين.
ـــــــ
1أنظر" الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل "في ذكر خراب المسجد الأقصى.ولم أقف على وجه تسمية أورشيلم باسم إيلياء المذكور, ولعله هو, سمي باسم المدينة المقدسة عندهم.
(14/15)
ولم يبن هنالك مسجدا إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى. ووكل على بنائها رجاء بن حيوة الكندي أحد علماء الإسلام، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين.
كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد.
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل، لأن حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد. فالتسمية باعتبار ما كان، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجدا بأكمل حقيقة المساجد.
واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهرا. ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية.
وقد رأيت أن سائحا نصرانيا اسمه(اركولف) زار القدس سنة 670م، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة، وزعم أنه رأى مسجدا بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف1.
والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناء. وإذا صدق (اركولف) فيما ذكر من أنه رأى مكانا مربعا من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئا أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان.
وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} صفة للمسجد الأقصى. وجئ في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين. والمقصود: إفادة أنه مبارك حوله.
وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل، مثل: عافاك الله.
والبركة: نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه بإجابة دعاء الداعين فيه. وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى: {مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} في[آل عمران:96]
ـــــــ
1 مقال حرره عارف عارف في الجملة المسماة رسالة العلم بالمملكة الأردنية في عدد2 من السنة12 كانون الأول سنة1968
(14/16)
وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96].
ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب، وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم، فاحتيج إلى الإعلام ببركته.
و(حول) يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف (حول) إليه.
وكون البركة حوله كناية عن حصول البركة فيه بالأولى، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه؛ ففيه لطيفة التلازم، ولطيفة فحوى الخطاب، ولطيفة المبالغة بالتكثير. وقريب منه قول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
ولكلمة {حوله} في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة (في) في ببيت زياد، ذلك أن ظرفية(في) أعم. فقوله:(في قبة) كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله.
وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة {حوله} . منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام ، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أن قبري داود وسليمان حول المسجد الأقصى. وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم.
وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليل ببعض الحكم التي لأجلها منح الله نبيه منحة الإسراء، فإن للإسراء حكما جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في "الصحيح". وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى.
ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها.
وإنما اقتصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المسرى به
(14/17)
والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة:260]. ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل: أو لم يطمئن قلبك، لأن اطمئنان القلب متسع المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة، وقد بادر محمدا صلى الله عليه وسلم بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيرا في الفضل.
قال علي بن حزم الظاهري وأجاد:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقا بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة.
وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله: {باركنا... ولنريه من آياتنا} سلوك لطريقة الالتفات المتبعة كثيرا في كلام البلغاء. وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ} في[الفاتحة:5].
والالتفات هنا امتاز بالطائف: منها أنه لما استحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم.
ومنها الإيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة.
ومنها التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير {نريه} لأن الشأن تناسق الضمائر، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن.
فقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الأظهر أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقاله
(14/18)
بعض المفسرين، واستقربه الطيبي، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى. ولعل احتماله للمعنيين مقصود.
وقد تجيء الآيات محتملة عدة معان. واحتمالها مقصود تكثيرا لمعاني القرآن، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة. وأياما كان فموقع (إن) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها.
وهي إما تعليل لإسناد فعل {نريه} إلى فاعله؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهي من إيتاء الحكمة من هو أهلها.
والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم. وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له زمن يحسبون أنه لا يطيقها مثله.
على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصرا موكدا، وهو قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا للقلب، أي هو المدرك لما يمعه وأبصره لا الكاذب ولا المتوهم كما زعم المشركون. وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المناسب للرد. ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المسمع والمبصر لرسوله الذي كذبتموه، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم.
ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبي صلى الله عليه وسلم هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة، على حد قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]
وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12].
وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره. كما في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع.
وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس
(14/19)
أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة روحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق. والجمهور قالوا: هو إسراء بالجسد في اليقظة، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
واستدل الجمهور بان الامتنان في الآية وتكذيب قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد. واتفق الجميع على أن قريشا استوصفوا من النبي صلى الله عليه وسلم علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي، ووصف لهم عيرا لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم.
ففي "صحيح البخاري" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل..." إلى آخر الحديث. وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب.
والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية. فالنبي صلى الله عليه وسلم كرامتان: أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث الصحيحين مطولا وأحاديث غيره. وقد قيل: إنه هو المشار إليه في سورة النجم.
[2] {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء:2] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: من الآية1]
عطف على جملة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [ الإسراء:1]الخ فهي ابتدائية. والتقدير: الله أسرى بعبده محمد وآتى موسى الكتاب. فهما مئتان عظيمتان على جزء عظيم من البشر. وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة ذكر المسجد الأقصى، فإن أطوار المسجد الأقصى تمثل ما تطور به حال بني إسرائيل في جامعتهم من أطوار الصلاح والفساد، والنهوض والركود، ليعتبر بذلك المسلمون فيقتدوا أو يحذروا.
ولمناسبة قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]ولمناسبة قوله فإن من آيات الله التي أوتيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم آية القرآن، فكان ذلك في قوة أن يقال: وآتيناه القرآن وآتينا موسى الكتاب أي التوراة ، كما يشهد به قوله بعد ذلك {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]أي للطريقة التي هي أقوم من طريقة التوراة وإن كان كلاهما هدى، على ما في حالة
(14/20)
الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام ليلا ليرى من آيات الله تعالى من المناسبة لحالة موسى عليه السلام حين أوتي النبوة، فقد أوتي النبوة ليلا وهو سار بأهله من أرض مدين إذ آنس من جانب الطور نارا، ولحاله أيضا حين أسرى إلى مناجاة ربه بآيات الكتاب.
والكتاب: هو المعهود إيتاؤه موسى عليه السلام وهو التوراة. وضمير الغائب في {جعلناه} للكتاب، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة لأن الهدى بسبب العمل بما فيه فجعل كأنه نفس الهدى، كقوله تعالى في القرآن: { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]
وخص بني إسرائيل لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم، فالجعل الذي في قوله: {جعلناه} هو جعل التكليف. وهم المراد ب"الناس" في قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} [الأنعام:91] لأن الناس قد يطلق على بعضهم، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن ينتفع بهديه من لم يكن مخاطبا بكتاب آخر، ولذلك قال تعالى: {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44].
وقرأ الجمهور {ألا تتخذوا} بتاء الخطاب على الأصل في حكاية ما يحكى من الأقوال المتضمنة نهيا، فتكون (أن) تفسيرية لما تضمنه لفظ (الكتاب) من معنى الأقوال، ويكون التفسير لبعض ما تضمنه الكتاب اقتصارا على الأهم منه وهو التوحيد. وقرأ أبو عمرو وحده بياء الغيبة على اعتبار حكاية القول بالمعنى، أو تكون (أن) مصدرية مجرورة بلام محذوفة حذفا مطردا، والتقدير: آتيناهم الكتاب لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.
والوكيل: الذي تفوض إليه الأمور. والمراد به الرب، لأنه ينكل عليه العباد في شؤونهم، أي أن لا تتخذوا شريكا تلجؤون إليه. وقد عرف إطلاق الوكيل على الله في لغة بني إسرائيل كما حكي الله عن يعقوب وأبنائه {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66].
[3] {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3]
يجوز أن يكون اعتراضا في آخر الحكاية ليس داخلا في الجملة التفسيرية. فانتصاب {ذُرِّيَّة} على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بيانا مقصودا به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة. ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية، أي حال كونهم ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام ، أو ينتصب على النداء بتقدير النداء، أي يا ذرية من
(14/21)
حملنا مع نوح؛ مقصودا به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه.
والحمل: وضع شيء على آخر لنقله، والمراد الحمل في السفينة كما قال: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]
أي ذرية من أنجيناهم من الطوفان مع نوح عليه السلام .
وجملة {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلا، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبدا شكورا والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل، ويحتمل أنها مذيلة لجملة {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فيكون خطابا لأهل القرآن.
واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح عليه السلام معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة.
وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصدا لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق.
وفيه تذكير بان الله أنجى نوحا ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضا على الائتساء بأولئك.
وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال، كما في قوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48].
وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع، وهم الذين حملهم معه في السفينة، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق، فكان نوح عليه السلام مثلا لأبي فريقين. وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار، فإن اقتدوا به نجوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا. وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام ، لفوات هذا المعنى في أولئك. وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض
(14/22)
وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء أحمالهم وعد الله نوحا عليه السلام حينما نجاه.
وتأكيد كون نوح {كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] بحرف (إن) تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطابا لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم، فيكون التأكيد منظورا فيه إلى المعنى التعريضي.
ومعنى كون نوح {عَبْداً} أنه معترف لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك، وكونه { شَكُوراً} ،أي شديدا لشكر الله بامتثال أوامره. وروي أنه كان يكثر حمد الله.
والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس ومحل تنافس عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب.
وكان نوح عليه السلام مثلا في كمال النفس وكانت العرب تعرف ذلك وتنبعث على الاقتداء به. قال النابغة:
فألفيت الأمانة لم تحنها ... كذلك كان نوح لا يخون
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً [4]فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً[5]}
عطف على جملة {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2], أي آتينا موسى الكتاب هدى، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاما لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشادا ونصحا، فالمناسبة ظاهرة.
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير، ومعنى كونه في الكتاب: أن القضاء ذكر في الكتاب. وتعدية {وَقَضَيْنَا} بحرف (إلى) لتضمين {وَقَضَيْنَا} معنى (أبلغنا)، أي قضينا وأنهينا،كقوله تعالى :{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْر} في سورة الحجر[66]. فيجوز أن يكون المراد بـ (الكتاب) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفا، ويوجد في مواضع، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال( انظر الإصحاح 26 والإصحاح
(14/23)
28 والإصحاح 30 )، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ(الكتاب) لمجرد الاهتمام.
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية. فتعريف (الكتاب)تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري، إذ ليس هو الكتاب المذكور آنفا في قوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء: أشعياء، وأرميا، وحزقيال، ودانيال، وهي في الدرجة الثانية من التوراة. وكذلك كتاب النبي ملاخي.
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء.
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر. وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما. وليس المراد بلفظ الكتاب كتابا واحدا فإن المفرد المعرف ـ بلام الجنس ـ يراد به المتعدد. وعن ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضا وقع بالإظهار دون الإضمار.
وجملة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} إلى قوله:{ حَصِيراً} مبنية لجملة {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} وأياما كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الكتَِابِ} اللوح المحفوظ أو كتاب الله، أي علمه.
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين. فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين: نوع منهما تندرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم.
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات (بختنصر) ملك بابل وأشور بلاد أورشليم. والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول. ثم غزاهم أيضا غزوا يسمى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 508 قبل المسيح، وأسر ملك يهوذا وجمعا غفيرا من الإسرائيلين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية
(14/24)
النفيسة.
والأسر الثالث المبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم (بختنصر) وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خرابا يبابا. ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} [الإسراء:6].
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلاد أورشليم. وسيأتي بيانها عند قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ } [الإسراء:6] الآية.
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلها مفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين.
والعلو في قوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} مجاز في الطغيان والعصيان كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص :4]وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31]
وقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]
تشبيها للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس.
وأصل {وَلَتَعْلُنَّ} لتعلوونن. وأصل {لَتُفْسِدُنَّ} لتفسدونن.
والوعد: مصدر بمعنى المفعول، أي موعود أولى المرتين، أي الزمان المقدر لحصول المرة الأولى من الإفساد والعلو، كقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } [الكهف:98].
ومثل ذلك قوله: {وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} الإسراء:5) أي معمولا ومنفذا.
وإضافة {وعد} إلى {أولاهما} بيانية، أي الموعود الذي هو أولى المرتين من الإفساد والعلو.
والبعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتهيئة أسبابه حتى كأن ذلك أمر بالمسير إليهم كما مر في قوله: {ليَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} في سورة الأعراف[167]، وهو بعث تكوين وتسخير لا بعث بوحي وأمر.
وتعدية {بعثنا} بحرف الاستعلاء لتضمينه معنى التسليط كقوله: {ليَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
والعباد: المملوكون، وهؤلاء عباد مخلوقية، وأكثر ما يقال: عباد الله. ويقال: عبيد، بدون إضافة، نحو { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فإذا قصد المملوكون
(14/25)
بالرق قيل: عبيا، لا غير. والمقصود بعبادة الله هنا الأشوريون أهل بابل وهم جنود بختنصر.
والبأس: الشوكة والشدة في الحرب. ووصفه بالشديد لقوته في نوعه كما في آية سورة سليمان[النمل:33] {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيد} .
وجملة {فجاسوا} عطف على {بعثنا} فهو من المقتضى في الكتاب. والجوس: التخلل في البلاد وطرقها ذهابا وإيابا لتتبع ما فيها. وأريد به هنا تتبع المقاتلة فهو جوس مضرة وإساءة بقرينة السياق.
و {خِلَال} اسم جاء على وزن الجموع ولا مفردا له، وهو وسط الشيء الذي يتخلل منه. قال تعالى :{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48].
والتعريف في {الدٍيَار} تعريف العهد، أي دياركم، وذلك أصل جعل(ال) عوضا عن المضاف إليه. وهي ديار بلد أورشليم فقد دخلها جيش بختنصر وقتل الرجال وسبى، وهدم الديار، وأحرق المدينة وهيكل سليمان بالنار. ولفظ(الديار) يشمل هيكل سليمان لأنه بيت عبادتهم، وأسر كل بني إسرائيل وبذلك خلت بلاد اليهود منهم. ويدل لذلك قوله في الآية الآتية: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7].
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}
عطف جملة {فجاسوا} [الإسراء:5] فهو من تمام جواب {إذا} من قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:5]. ومن بقية المقضي في الكتاب، وهو ماض لفظا مستقبل معنى، لأن (إذا) ظرف لما يستقبل. وجيء به في صيغة الماضي لتحقيق وقوع ذلك. والمعنى: نبعث عليكم عبادا لنا فيجوسون ونرد لكم الكرة عليهم ونمددكم بأموال وبنين ونجعلكم أكثر نفيرا.
(14/26)
و(ثم) تفيد التراخي الرتبي والتراخي الزمني معا.
والرد: الإرجاع. وجيء بفعل {رددنا} ماضيا جريا على الغالب في جواب(إذا) كما جاء شرطها فعلا ماضيا في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا} [الإسراء:5] أي إذا يجيء يبعث.
والكرة: الرجعة إلى المكان الذي ذهب منه.
فقوله: {عليهم} ظرف مستقر هو حال من {الكرة} ، لأن رجوع بني إسرائيل إلى أورشليم كان يتغلب ملك فارس على ملك بابل.
وذلك أن بني إسرائيل بعد أن قضوا نيفا وأربعين سنة في أسر البابليين وتابوا إلى الله وندموا على ما فرط منهم سلط الله ملوك فارس على ملوك بابل الأشورين، فإن الملك كورش ملك فارس حارب البابليين وهزمهم فضعف سلطانهم، ثم نزل بهم داريوس ملك فارس وفتح بابل سنة 538 قبل المسيح، وأذن لليهود في سنة 530 قبل المسيح أن يرجعوا إلى أورشليم ويجددوا دولتهم. وذلك نصر انتصروه على البابليين إذ كانوا أعوانا للفرس عليهم.
والوعد بهذا النصر ورد أيضا في كتاب أشعيا في الإصحاحات: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، وغيرها، وفي كتاب أرميا في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين.
وقوله: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}
هو من جملة المقضي الموعود به. ووقع في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا"هكذا قال الرب إله إسرائيل لكل الذي سبيته من أورشليم إلى بابل: ابنوا بيوتا واسكنوا، واغرسوا جنات، وكلوا ثمرها، خذوا نساء ولدوا بنين وبنات، وأكثروا هناك ولا تقلوا".
و {نَفِيراً} تمييز (لأكثر) فهو تبيين لجهة الأكثرية، والنفير. اسم جمع للجماعة التي تنفر مع المرء من قومه وعشيرته، ومنه قول أبي جهل:"لا في العير ولا في النفير".
والتفضيل في(أكثر) تفضيل على أنفسهم، أي جعلناكم أكثر مما كنتم قبل الجلاء، وهو المناسب لمقام الامتنان. وقال جمع من المفسرين: أكثر نفيرا من أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم، أي أفنى معظم البابليين في الحروب مع الفرس حتى صار عدد بني إسرائيل في بلاد الأسر أكثر من عدد البابليين.
(14/27)
وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} من جملة المقضي في الكتاب مما خوطب به بنو إسرائيل، وهو حكاية لما في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا"وصلوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام". وفي الإصحاح الحادي والثلاثين"يقول الرب أزرع بيت إسرائيل وبيت يهوذا ويكون كما سهرت عليهم للاقتلاع والهدم والقرض والإهلاك، كذلك أسهر عليهم للبناء والغرس في تلك الأيام لا يقولون: الآباء أكلوا حصرما وأسنان الأبناء ضرست بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه".
ومعنى {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمة، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسنا وإن أسأتم لأنفسكم، فكما أهلكنا من قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير من قبلكم.
وإعادة فعل{أحسنتم}تنويه فلم يقل: إن أحسنتم فلأنفسكم. وذلك مثل قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
قال أبو الفتح ابن جني في شرح بيت الأحوص في الحماسة: إنما جاز أن يقول(فإذا تزول تزول)لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة. ومثله قول الله تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63],ولو قال: هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا كقولك: الذي ضربته ضربته. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه في الأصل أجزناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك"اه.
والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جواز أن تكون {أَغْوَيْنَاهُمْ} تأكيدا {لأغوينا} وقوله: {كما غوينا} استئنافا بيانيا، لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك، بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني: الذي ضربته ضربته، فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعينه في بيت الأحوص.
وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام
(14/28)
بذلك الفعل. وقد تكرر في القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130]
وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
وقوله :{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} جاء على طيقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها.
فاللام لتعدية فعل {أحسنتم} ، يقال: أحسنت لفلان.
وكذلك قوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} فقوله {فلها} متعلق بفعل محذوف بعد فار الجواب، تقديره: أسأتم لها. وليس المجرور بظرف مستقر خبرا عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل {أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال: فعليها، كقوله في سورة فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].
ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليها، فلما كان المقدر اسما كان المجرور بعده مستقرا غير حرف تعدية. فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبر عنه نافعا فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضارا يخبر عنه بمجرور بـ(إلى)، وأما آية الإسراء ففعل"أحسنتم وأسأتم"الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}
تفريع على قوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعد المرة الآخرة.
وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاء لحق التقسيم الأول في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا}[ الإسراء:5], ولحق إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع.
و {الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله: {مرتين} . أي وعد المرة الآخرة.
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء.
والآخرة ضد الأولى.
ولامات"ليسوءوا، وليدخلوا، وليتبروا" للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات
(14/29)
المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامي أمر لكانا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر1 لا لام جر. والتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم الخ.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب {لِيَسُوءُوا} بضمير الجمع مثل أخواته الأفعال الأربعة. والضمائر راجعة إلى محذوف دل عليه لام التعليل في قوله: {لِيَسُوءُوا} إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في {وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء:5], فالتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم. وليست عائدة إلى قوله {عبادا لنا} المصرح به في قوله :{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]. لأن الذين أساءوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف {ليسوء} بالإفراد والضمير لله تعالى. وقرأ الكسائي {لنسوء} بنون العظمة. وتوجيه هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة.
وضميرا(ليسوءوا وليدخلوا) عائدان إلى {عِبَاداً لَنَا} [الإسراء:5] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز.
وضمير {كَمَا دَخَلُوه} [الإسراء:7] عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]، وقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
فالسياق دال على معاد (أحرزوا)ومعاد (جمعوا).
ـــــــ
1 انظر أول الفقرة وما يجيء بعد في الفقرة الموالية (الناشر).
(14/30)
وسوء الوجوه: جعل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى:
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق أراد إذا ما تفرق
الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم.
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } المراد منه قوله: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَار} [الإسراء:5].
والتتبير: الإهلاك والإفساد.
و {مَا عَلَوْا} موصول هو مفعول(يتبروا)، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير: ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب.
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا ملك لهم بعد هذه المرة. وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه، وقد أنذرهم النبي ملاخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى1 فلم يرعوا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان.
وبيان ذلك: أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن(داريوس) وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه (ميثيا)وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح. دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم(هيرودس) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسل قيصر رومية القائد(سيسيانوس ) مع ابنه القائد(طيطوس) بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح
ـــــــ
انظر الإصحاح الثالث من انجيل مرقس الحواري.
(14/31)
فخربت أورشليم واحترق المسجد، وأسر(طيطوس) نيفا وتسعين ألفا من اليهود، وقتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني(أدريانوس)فهدمها وخربها ورمى قناطير الملح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للمسيح. وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحتها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 صلحا مع أهلها وهي تسمى يومئذ (أيلياء).
وقوله:{ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} عطف الترهيب على الترغيب.
ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية. والمعنى: بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلجأون إليها، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا.
وجملة {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} عطف على جملة {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة.
وفيه معنى التذييل لأن التعريف في {لِلْكَافِرِين} يعم المخاطبين وغيرهم. ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورا على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة. وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء، وأرمياء، وقتل الأنبياء كفر.
والحصير: المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه، فهو إما فعيل بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق، أي محصور فيه.
[9][10] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء:10]
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الغرض الأهم من هذه السورة وهو تأييد
(14/32)
النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات، وإيتاؤه الآيات التي أعظمها آية القرآن كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2]. وأعقب ذلك بذكر ما أنزل على بني إسرائيل من الكتب للهدى والتحذير، وما نالهم من جزاء مخالفتهم ما أمرهم الله به، ومن عدولهم عن سنن أسلافهم من عهد نوح. وفي ذلك فائدة التحذير من وقوع المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل، وهي الفائدة العظمى من ذكر قصص القرآن، وهي فائدة التاريخ.
وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه، وحال المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام، ولا تعارض بين الاعتبارين.
وقوله: {هذا القرآن} إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية.
وبينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويها بشأن القرآن.
وقد جاءت هذه الآية تنفيسا على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة. وفي التعبير بـ {التي هي أقوم} نكتة لطيفة ستأتي. وتلك عادة القرآن في تعقيب الرهبة بالرغبة وعكسه.
و {التي هي أقوم} صفة لمحذوف دل عليه {يهدي} ، أي للطريق التي هي أقوم، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق، أو للملة الأقوم، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر.
والأقوم: تفصيل القويم. والمعنى: أنه يهدي للتي هي أقوم من هدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله: { وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ} [الإسراء:2].ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم، لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضا أو تحذيرا، بحيث لا يعدم
(14/33)
المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقوم من الطرائق الأخرى وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة.
وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم لو أريد تفصيله لاقتضى أسفارا، وحسبك مثالا لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي. فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال: إن الحق لا يتفاوت.
والأجر الكبير فسر بالجنة، والعذاب الأليم بجهنم، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب، فيشمل أجر الدنيا وعذابها، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين.
{وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
عطف على {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} لأنه من جملة البشارة، إذ المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة مشركو قريش وهم أعداء المؤمنين، فلا جرم أن عذاب العدو بشارة لمن عاداه.
والاقتصار على هذين الفريقين هو مقتضى المقام لمناسبة تكذيب المشركين بالإسراء فلا غرض في الإعلام بحال أهل الكتاب.
[11] {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً}
موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضا، ولم يأت فيها المفسرون بما يثلج له الصدر، والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يّس:48]
عطف هذا الكلام على ما سبق تنبيها على أن لذلك الوعد أجلا مسمى. فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} و {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم67:66]
وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن.
وفعل {يدعو} مستعمل في معنى يطلب ويبتغي، كقول لبيد:
(14/34)
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها
وقوله: {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} مصدر يفيد تشبيها، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير، يعني يستبطئ حلول الوعيد كما يستبطئ أحد تأخر خبر وعد به.
وقوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولا} تذييل، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن (كان) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافا متمكنا كقوله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
والمقصود من قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولا} الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [ يونس:11]، ولكنه درج لهم وصول الخير والشر لطفا بهم في الحالين.
والباء في قوله: {بالشر وبالخير} لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال، فيكون كقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى:18].
وعجول: صيغة مبالغة في عاجل، يقال: عجل فهو عاجل وعجول.
وكتب في المصحف{ويدع} بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة} [العلق:18] ونظائرها. قال الفراء: لو كتبت بالواو لكان صوابا.
[12] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] عطف على {ويدع الإنسان بالشر} [الإسراء:11] إلخ. والمناسبة أن جملة {ويدع الإنسان} تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلا، ولماذا كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملا على ليل ونهار متقضيين. وهذا شائع عند الناس في أن الزمان منقض وإن طال.
فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة، وكونهما منتين على الناس، وكون الناس ربما كرهوا
(14/35)
الليل لظلمته، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار. واكتفى بعدها عن عد نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمة أو كله نورا لم يحصل التمييز بين أجزائه.
وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكفر والأيمان، وللضلال والهدى، فلذلك عقب به قوله :{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2] الآية،وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم} ُإلى قوله: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء:9ـ10]، ولذلك عقب بقوله بعده :{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} الآية[الإسراء:15]. وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شان بلاغه القرآن وإيجازه.
وتفريع جملة {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} اعتراض وقع بالفاء بين جملة {وجعلنا الليل والنهار} وبين متعلقه وه {لِتَبْتَغُوا} .
وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار. ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر، وآية النهار الشمس، فتكون إعادة لفظ (آية) فيهما تنبيها على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقية، ويصير دليلا آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيرا بنعمة تكوين هاذين الخلقين العظيمين. ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كرته، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوءها سبب إبصار الناس الأشياء، فـ {مُبْصِرَةً} اسم فاعل(أبصر) المتعدي. أي جعل غيره باصرا. وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلما فإن هذه حقيقة من علم الهيئة. وما أعيد لفظ (آية)إلا لأجلها.
والمحو: الطمس. وأطلق على انعدام النور، لأن النور يظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياء، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} ، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية. وأطلق وصف {مُبْصِرَةً} على النهار على سبيل المجاز العقلي إسنادا للسبب.
وقوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} علة لخصوص آية النهار من قوله {آيتين
(14/36)
وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصة دون ما يقابلها من حكمة الليل لأن المنة بها أوضح، ولأن من التنبيه إليها يحصل التنبه إلى ضدها وهو حكمة السكون في الليل، كما قال {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} كما تقدم في سورة [يونس:67]
يونس.
ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين. وهي حكمة حساب السنين، وهي في آية الليل أظهر لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي، أي حساب القمر.
والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على {عَدَدَ السِّنِينَ} من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماما به.
وجملة {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} تذييل لقوله : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} باعتبار ما سبق له من الإشارة إلى أن للشر والخير الموعود بهما أجلا ينتهيان إليه. والمعنى: أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه، فلا يقربه استعجال ولا يؤخره استبطاء لأن الله قد جعل لكل شيء قدرا لا إبهام فيه ولا شك عنده.
أن للخير وللشر مدى1 ... ...............................
فلا تحسبوا ذلك وعدا سدى.
والتفصيل: التبيين والتمييز. وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره. وقد تقدم في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: من الآية1] .
والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها، ونظامها، وعلم الله بها، وإعلامه بها. فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء وهو مقتضى العموم هنا. وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء، ومنه قوله تعالى: {يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (الرعد: من الآية2) وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: من الآية97]. وذلك بالتبليغ على ألسنة الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول، ومن جملة ما فصله للناس والإرشاد إلى التوحيد وصالح الأعمال والإنذار على العصيان. وفي هذا تعريض بالتهديد.
ـــــــ
1 صدر بيت وتمامه :(وكلا ذلك وجه وقبل) وهو لعبد الله بن الزبعرى
(14/37)
وانتصب {كُلَّ شَيْءٍ} بفعل مضمر يفسره {فَصَّلْنَاهُ} لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف.
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً, اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}
صفحة : 2436
لما كان سياق الكلام جاريا في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} الإسراء: من الآية10) وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلا، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلا لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة، فعطف قوله : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ} الخ على قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَ0اهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: من الآية12] ( عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص. والمعنى: وكل إنسان قدرنا له عمله في عملنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا.
والطائر: أطلق على السهم، أو القرطاس الذي يعين فيه صاحب الحظ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر، يقال: اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا، ومنه قول أم العلاء الأنصارية في حديث الهجرة: " أقتسم الأنصار المهاجرين فطار لنا عثمان بين مظعون... " وذكرت قصة وفاته.
وأصل إطلاق الطائر على هذا: إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع. فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذه. وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشا في قذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما.
وإما من زجر الطير لمعرفة بخت أو شؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر.
والإلزام: جعله لازما له، أي غير مفارق، يقال: لزمه إذا لم يفارقه.
(14/38)
وقوله : {فِي عُنُقِهِ } يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب، أي عمله لازم له لزوم القلادة. ومنه قول العرب تقلدها طوق الحمامة، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة. ومنه قول الأعشى:
والشعر قلدته سلامة ذا فا ... ئش والشيء حيثما جعلا (1)
ويحتمل أن يكون تمثيلا لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعينون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة، كما قال بشار:
كتب الحب لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم
ويجوز أن يكون {فِي عُنُقِهِ} تمثيلا بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه.
والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا ينقص له منه شيء. وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله : {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً} .
وعطف جملة {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً} إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها.
وقرأ الجمهور {وَنُخْرِجُ } بنون العظمة وبكسر الرار، وقرأه يعقوب بياء الغيبة وكسر الراء، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام، وهو التفات. وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنيا للنائب على أن {لَهُ} نائب فاعل و {كِتَاباً } منصوبا على المفعولية وذلك جائز.
والكتاب: ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها. والنشر: ضد الطي.
ومعنى { يَلْقَاهُ} يجده. استعير فعل يلقى لمعنى يجد تشبيها لوجدان النسبة بلقاء الشخص. والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من
ـــــــ
كذا في تفسير ابن عطية ' والذى في ديوان الأعشى:
فلدتك الشعر يا سلامة ذا ... التفضال والشيء حيثما جعلا
(14/39)
قبل وصول صاحبه مفتوحا للمطالعة.
وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر {يُلَقًاه} بضم الياء وتشديد القاف مبنيا للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفا للتعدية، أي يجعله لاقيا كقوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:11]. وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقيا. كقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } [فصلت:35] وقوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:75].
ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ، قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10]
وجملة {اقْرَأْ كِتَابَكَ} مقول قول محذوف دل عليه السياق.
والأمر في {اقْرَأْ} مستعمل في التسخير ومكنى به عن الإعذار لهم والاحتجاج عليهم كما دل عليه قوله: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ,
ولذلك كان معرفة تلك الأعمال من ذلك الكتاب حاصلة للقارئ.
والقراءة: مستعملة في معرفة ما أثبت للإنسان من الأعمال أو في فهم النقوش المخصوصة إن كانت هنالك نقوش وهي خوارق عادات.
والباء في قوله: { بِنَفْسِكَ} مزيدة للتأكيد داخلة على فاعل {كَفََى} كما تقدم في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} في سورة النساء [79].
وانتصب {حَسِيباً} على التمييز لنسبة الكفاية إلى النفس، أي من جهة حسيب. والحسيب: فعيل بمعنى فاعل مثل ضريب القداح بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم، أي الحاسب والضابط. وكثر ورود التمييز بعد(كفى بكذا) وعدي بـ(على) لتضمينه معنى الشهيد. وما صدق النفس هو الإنسان في قوله: {وكل إنسان ألزمناه طائره} فلذلك جاء {حسيبا} بصيغة التذكير.
[15] {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء:15)
{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} مع توابعها. وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار،فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر
(14/40)
الضلال ضر لصاحبه. ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها.
وجملة {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} واقعة موقع التعليل لمضمون جملة{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما في هذه من عموم الحكم فإن عمل أحد لا يلحق نفعه ولا ضره بغيره.
ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفا للسامع، فلذلك عطفت الجملة ولم تفصل. وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم. وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أئمة الكفر كان يقول لقريش:"اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم"، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة. ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمدا على حق، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذا لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. فكانت هذه الآية أصلا عظيما في الشريعة، وتفرع عنها أحكام كثيرة.
ولما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه قالت عائشة رضي الله عنها:"يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما قال رسول الله ذلك والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ".
ولما مر برسول الله جنازة يهودية يبكي عليها أهلها فقال:"إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب".
والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوزر حمل عليه وزر غيره لأنه متسبب فيه، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار. وقد قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ,
وكذلك وزر من يسن للناس وزرا لم يكونوا يعملونه من قبل. وفي"الصحيح" "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل".
وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه
(14/41)
لأنه لا يوقع في غرور، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه. وقد جاء في القرآن ما يومي إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وفي الحديث:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير".
ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة مناف لهذه الآية، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات.
و {تزر} تحمل الوزر، وهو الثقل. والوازرة: الحاملة، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].
وأطلق عليها{وازرة} على معنى الفرض والتقدير، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأولى.
والوزر: الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة، كما أطلق عليه الثقل، قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
عطف على آية {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} الآية.
وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم، ولهذا اقتصر على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} دون أن يقال: ولا مثيبين. لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد.
والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]الآية. ودلت على ذلك آيات كثيرة، قال الله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209]
وقال: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:47].
على أن معنى {حتى} يؤذن بان بعثة الرسول متصلة بالعذاب شان الغاية، وهذا اتصال عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدة للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها.
(14/42)
على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة.
ووقوع فعل {معذبين} في سياق النفي يفيد العموم، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال.
ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم. وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قومه، فهي حجة للأشعري ناهضة على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله، وهو ما صرح به صدر الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع. فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل ولا عذر له بعد بعثة رسول.
وتأويل المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوح عن استعمال اللغة وإغماض عن كونه مفعولا لفعل {نبعث} إذ لا يقال بعث عقلا بمعنى جعل. وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } في سورة النساء[165].
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]
هذا تفصيل للحكم المتقدم قصد به تهديد قادة للمشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أصلوهم. وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل.
فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين.
والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمرا بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول.
ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته. وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد
(14/43)
عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله :{أمرنا مترفيها} إلى آخره.
ومتعلق {أمرنا} محذوف، أي أمرناهم بما نأمرهم به، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم.
واعلم أن تصدير هذه الجملة ب(إذا) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط (إذا) وجملة جوابه، لأن شأن(إذا)أن تكون ظرفا للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها. فاقتضى ظاهر موقع{إذا}أن قوله:{أمرنا مترفيها} هو جواب (إذا) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سبق الشرط لجوابه، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم. وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس. وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سببا لإهلاكهم.
وقرينة السياق واضحة في هذا، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل: {أمرنا مترفيها} على {نَبْعَثَ رَسُولاً} فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء أتحدت في اللوازم أم اختلفت، فيكون أصل نظم الكلام هكذا: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم.
فكان {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَة} شريطة لحصول الإهلاك، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له، كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [ آل عمران:127ـ128]
وقوله: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف:100] وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} [الإنسان:28] وقوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]. فذكر شريطة المشيئة مرتين.
وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله.
(14/44)
وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة، وهي متفاوتة، وأقربها قول من جعل جملة {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}
وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة، وهي متفاوتة، وأقربها قول من جعل جملة {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} إلخ صفة لـ{قرية}وجعل جواب(إذا)محذوفا.
والمترف: اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه الترفة بضم التاء وسكون الراء أي النعمة. والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش، وهم معظم أهل الشرك بمكة. وكان معظم المؤمنين يومئذ ضعفاء قال الله تعالى :{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس، لأن عصيانهم الأمر الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومه إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك.
وقرأ الجمهور {أَمَرْنَا} بهمزة واحدة وتخفيف الميم، وقرأ يعقوب {آمرنا} بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل، أي جعلناهم آمرين، أي داعين قومهم إلى الضلالة، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفا تخفيفا، أو الألف ألف المفاعلة، والمفاعلة مستعملة في المبالغة، مثل: عافاه الله.
والفسق: الخروج عن المقر وعن الطريق. والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به، وتقدم عند قوله تعالى :{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] في سورة البقرة[26].
و {القَولُ} هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31].
والتدمير: هدم البناء وإزالة أثره، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]. وتقدم التدمير عند قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَومَهُ} في سورةالأعراف[137]. وتأكيد {دمرناها} بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز.
[17] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
إلخ صفة لـ{قرية}وجعل جواب(إذا)محذوفا.
والمترف: اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه الترفة بضم التاء وسكون الراء أي النعمة. والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش، وهم معظم أهل الشرك بمكة. وكان معظم المؤمنين يومئذ ضعفاء قال الله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس، لأن عصيانهم الأمر الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومه إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك.
وقرأ الجمهور {أَمَرْنَا} بهمزة واحدة وتخفيف الميم، وقرأ يعقوب {آمرنا} بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل، أي جعلناهم آمرين، أي داعين قومهم إلى الضلالة، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفا تخفيفا، أو الألف ألف المفاعلة، والمفاعلة مستعملة في المبالغة، مثل: عافاه الله.
والفسق: الخروج عن المقر وعن الطريق. والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] في سورة البقرة[26].
و {القَولُ} هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31].
والتدمير: هدم البناء وإزالة أثره، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]. وتقدم التدمير عند قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَومَهُ} في سورةالأعراف[137]. وتأكيد {دمرناها} بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز.
[17] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
(14/45)
ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفية في الآية السابقة، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود. وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدما بإرسال الرسول إلى أهل القرية، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها. وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وقال لهم نوح عليه السلام: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} [هود:31].
فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهار لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تحريجا على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب.
و(كم) في الأصل استفهام عن العدد، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مبهم النوع، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظرا لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام. و {من القرون} تمييز للإبهام الذي اقتضته {كم} .
والقرون: جمع قرن، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا، وفي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، أراد أهل قرني، أي أهل القرن الذي أنا فيه، وقال الله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38].
وتخصيص {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} إيجاز، كأنه قيل: من قوم نوح فمن بعدهم، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول، واعتبر القصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم.
ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول.
وجملة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (الإسراء:17)
إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق
(14/46)
محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب، فلا جرم ختم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم. وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنبوهم بما يناسب فظاعتها، ولذلك جاء بفعل {كَفَى} وبوصفي {خَبِيراً بَصِيراً} المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم.
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح. وفي الحديث:"ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب".
وفي ذكر فعل كفى إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافية وحسبه، قال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]؛أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم.
وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار.
[18] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً[19]وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}
هذا بيان لجملة{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} [الإسراء:15] وهو راجع أيضا إلى جملة {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] تدريجا في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم، فابتدئوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ثم وكل أمرهم إليهم، وأن المسي لا يضر بإساءته غيره ولا يحملها عنه غيره فقال: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} الآية[الإسراء:15]. ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله: {وما كنا معذبين} إلى قوله: {خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:15ـ17]. ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم، وأنهم قسمان:
قسم لم يرد إلا الدنيا فكانت أعماله لمرضاة شهواته معتقدا أن الدنيا هي قصارى مراتع النفوس لا حظ لها إلا ما حصل لها في مدة الحياة لأنه لا يؤمن بالبعث فيقصر عمله على ذلك.
(14/47)
وقسم علم أن الفوز الحق هو فيما بعد هذه الحياة فعمل للآخرة مقتفيا ما هداه الله إليه من الأعمال بواسطة رسله؛ وأن الله عامل كل فريق بمقدار همته.
فمعنى {كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} أنه لا يريد إلا العاجلة، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين لإثبات لشيء ونفي لخلافه. والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه، ولذلك جعل خبر(كان) فعلا مضارعا لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك.
و {الْعَاجِلَةَ} صفة موصوف محذوف يعلم من السياق، أي الحياة العاجلة،كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15].
والمراد من التعجيل التعجيل العرفي وهو المبادرة المتعارفة، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، وقرينة ذلك قوله: {فيها} . وإنما زاد قيدي {مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [(الإسراء:18] لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها.
والمشيئة: الطواعية وانتفاء الإكراه.
وقوله: {لِمَنْ نُرِيدُ} بدل من قوله:{له}بدل بعض من كل بإعادة العامل، فضمير {له} عائد إلى(من) باعتبار لفظه، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه، أي عجلنا لمن نريد منكم. ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ماسبقه، أي لمن نريد التعجيل له، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق. وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام. ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به.
والإرادة: مرادف المشيئة، فالتعبير بها بعد قوله: {ما نشاء} تفنن. وإعادة حرف الجر العامل في البدل منه لتأكيد معنى التبعية وللاستغناء عن الربط بضمير المبدل منهم بان يقال: من نريد منهم.
والمعنى: أن هذا الفريق الذي يريد الحياة الدنيا فقط قد نعطي بعضهم بعض ما يريد على حسب مشيئتنا وإرادتنا لأسباب مختلفة. ولا يخلو أحد في الدنيا من أن يكون قد عجل له بعض ما يرغبه من لذات الدنيا.
وعطف جملة {جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} [الإسراء:18] بحرف(ثم) لإفادة التراخي الرتبي. و {له} ظرف
(14/48)
مستقر هو المفعول الثاني لـ {جَعَلْنَا} ، قدم على المفعول الأول للاهتمام.
وجملة {يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] بيان أو بدل اشتمال لجملة {جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} .
و {مَذْمُوماً مَدْحُوراً} حالان من ضمير الرفع في {يَصْلاهَا} يقال: صلى النار إذا أصابه حرقها.
والذم: الوصف بالمعائب التي في الموصوف.
والمدحور: المطرود. يقال: دحره، والمصدر: الدحور، وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُورا} في سورة الأعراف[18].
والاختلاف بين جملة {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} وجملة {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} يجعل الفعل مضارعا في الأولى وماضيا في الثانية للإيماء إلى أن إرادة الناس العاجلة متكرره متجددة. وفيه تنبيه على أن أمور العاجلة متقضية زائلة. وجعل فعل إرادة الآخرة ماضيا لدلالة المضي على الرسوخ تنبيها على أن خير الآخرة أولى بالإرادة، ولذلك جردت الجملة من(كان) ومن المضارع، وما شرط في ذلك إلا أن يسعى للآخرة سعيها وأن يكون مؤمنا.
وحقيقة السعي المشي دون العدو، فسعي الآخرة هو الأعمال الصالحة لأنها سبب الحصول على نعيم الآخرة، فالعامل للصالحات كأنه يسير سيرا سريعا إلى الآخرة ليصل إلى مرغوبه منها. وإضافته إلى ضمير الآخرة من إضافة المصدر إلى مفعوله في المعنى، أي السعي لها، وهو مفعول مطلق لبيان النوع.
وفي الآية تنبيه على أن إرادة خير الآخرة من غير سعي غرور وأن إرادة كل شيء لا بد لنجاحها من السعي في أسباب حصوله. قال عبد الله بن المبارك:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وجملة {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حال من ضمير {وَسَعَى} وجيء بجملة {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} اسمية لدلالتها على الثبات والدوام، أي وقد كان راسخ الإيمان، وهو في معنى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17]لما في (كان) من الدلالة على كون الإيمان ملكة له.
والإتيان باسم الإشارة في {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وصفوا به قبل ذكر اسم الإشارة.
(14/49)
والسعي المشكور هو المشكور ساعيه، فوصفه به مجاز عقلي، إذ المشكور المرضي عنه. وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه.
والتعبير ب(كان)في {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلا والواب آجلا. وقد جمع كونه مشكورا خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله.
[20] {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}
تذييل لآية {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} إلى آخرها[الإسراء]18.
وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالىلم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة. وذلك مصداق قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] وقوله فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم"إن رحمتني سبقت غضبي".
وتنوين {كُلّا} ًتنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل الفريقين، وهو منصوب على المفعولية لفعل {نُمِدُّ} .
وقوله: {هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} بدل من قوله: {كُلّا} بدل مفصل من مجمل.
ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" . والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى.
والإشارة ب {هَؤُلاءِ} في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة. والأصل أن يكون المذكور أول عائدا إلى الأول إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده. وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرئي له أحد
والإمداد: استرسال العطاء وتعاقبه. وجعل الجديد منه مددا للسالف بحيث لا
(14/50)
ينقطع.
وجملة {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} اعتراض أو تذييل، وعطاء ربك جنس العطاء، والمحظور: الممنوع، أي ما كان ممنوعا بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه.
[21] {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}
لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه عليه الصلاة والسلام لفت اعتبار وتدبر، ثم ذكره بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء، وقد فضل الله به المؤمنين.
والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترفيعا في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره.
والنظر حقيقته توجه آلة الحس البصري إلى المبصر. وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن، وهو هنا كذلك. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى :{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في النساء[50].
و(كيف) اسم استفهام مستعمل في التنبيه، وهو معلق فعل (انظر) عن العمل في المفعولين. والمراد: التفضيل في عطاء الدنيا، لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} .
والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد، وقد يفضل المسلم فيه الكافر، ويفضل الكافر المسلم، ويفضل بعض المسلمين بعضا، وبعض الكفرة بعضا، وكفاك بذلك هاديا إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة.
ونصب {دَرَجَاتٍ} و {تَفْضِيلاً} على التمييز لنسبة أكبر في الموضعين، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا.
(14/51)
والدرجات مستعارة لعظمة الشرف، والتفضيل: إعطاء الفضل، وهو الجدة والنعمة. وفي الحديث: "ويتصدقون بفضول أموالهم". والمعنى: النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا.
[22] {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}
تذييل هو فذلكة لاختلاف أحوال المسلمين والمشركين، فإن خلاصة أسباب الفوز ترك الشرك لأن الشرك لأن ذلك هو مبدأ الإقبال على العمل الصالح فهو أول خطوات السعي لمريد الآخرة، لأن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين{وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تبع لخطاب قوله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:21]، والمقصود إسماع الخطاب غيره بقرينة تحقق أن النبي قائم بنبذ الشرك ومنح على الذين يعبدون مع الله إلها آخر.
و {تقعد} مستعار لمعنى المكث والدوام. أريد بهذه الاستعارة تجريد معنى النهي إلى أنه نهي تعريض بالمشركين لأنهم متلبسون بالذم والخذلان. فإن لم يقلعوا عن الشرك داموا في الذم والخذلان.
والمذموم: المذكور بالسوء والعيب.
والمخذول: الذي أسلمه ناصره.
فأما ذمه فمن ذوي العقول، إذ أعظم شخرية أن يتخذ المرء حجرا أو عودا ربا له ويعبده، كما قال إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95], وذمه من الله على لسان الشرائع.
وأما خذلانه فلأنه اتخذ لنفسه وليا لا يغني عنه شيئا {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14], وقال إبراهيم عليه السلام {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42], وخذلانه من الله لأنه لا يتولى من لا يتولاه قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]وقال: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].
[24,23] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ
(14/52)
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . عطف على الكلام السابق عطف غرض على غرض تخلصا إلى أعمدة من شريعة الإسلام بمناسبة الفذلكة المتقدمة تنبيها على أن إصلاح الأعمال متفرع على نبذ الشرك كما قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:13ـ17].
وقد ابتدئ تشريع للمسلمين أحكاما عظيمة لإصلاح جامعتهم وبناء أركانها ليزدادوا يقينا بارتفاعهم على أهل الشرك وبانحطاط هؤلاء عنهم، وفي جميعها تعريض بالمشركين الذين كانوا منغمسين في المنهيات. وهذه الآيات أول تفصيب للشريعة للمسلمين وقع بمكة، وأن ما ذكر في هذه الآيات مقصود به تعليم المسلمين. ولذلك اختلق أسلوبه عن أسلوب نظيره في سورة الأنعام الذي وجه فيه الخطاب إلى المشركين لنوقيفهم على قواعد ضلالتهم.
فمن الاختلاف بين الأسلوبين أن هذه الآية افتتحت بفعل القضاء المقتضي الإلزام، وهو مناسب لخطاب أمة تمتثل أمر ربها، وافتتح خطاب سورة الأنعام[151]ب {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} كما تقدم هنالك.
ومنها أن هذه الآية جعلت المقضي هو توحيد الله بالعبادة، لأنه المناسب لحال المسلمين فحذرهم من عبادة غير الله. وآية الأنعام جعلت المحرم فيها هو الإشراك بالله في الإلهية المناسب لما كانوا عليه من الشرك إذ لا عبادة لهم.
وأن هذه الآية فصل فيها حكم البر بالوالدين وحكم القتل وحكم الإنفاق ولم يفصل ما في آية الأنعام.
وكان ما ذكر في هذه الآيات خمسة عشر تشريعا هي أصول التشريع الراجع إلى نظام المجتمع.
وأحسب أن هذه الآيات اشتهرت بين الناس في مكة وتناقلها العرب في الآفاق، فلذلك ألم الأعشى ببعضها في قصيدته المروية التي أعدها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء يريد الإيمان فصدته قريش عن ذلك، وهي القصيدة الدالية التي يقول فيها:
(14/53)
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبئ الإله حين أوصى وأشهدا
فإياك والميتات لا تأكلنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتفصدا
وذا النصب المنصوب لا تسكنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لفاقته ولا الأسير المقيدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة ... ولا تحسن المال للمرء مخلدا
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فأنكحن أو تأبدا1
وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماما به وأنه مما أمر الله به أمرا جازما وحكما لازما، وليس هو بمعنى التقدير كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء:4] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع.
و(أن) يجوز أن تكون تفسيرية لما في(قضى}من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة، أي قضى بأن لا تعبدوا. وابتدئ هذا التشريع بذكر أصل التشريعة كلها وهو توحيد الله، فلذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام.
وجيء بخطاب الجماعة في قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين.
والخطاب في قوله: {ربك} للنبي صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل {من عطاء ربك} [الإسراء:20],والقرينة ظاهرة. ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد. وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذ كان صالحا. وفي الحديث:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى"أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
[23] [24] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}
ـــــــ
1 التأبد: التعزب
(14/54)
هذا أصل ثان من أصول الشريعة وهو بر الوالدين.
وانتصب {إِحْسَاناً} على المفعولية المطلقة مصدر نائبا عن فعله. والتقدير: وأحسنوا إحسانا بالوالدين كما يقتضيه العطف على {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي وقضى إحسانا بالوالدين.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ} متعلق بقوله: {إِحْسَاناً} ، والباء فيه للتعدية يقال: أحسن بفلان كما يقال: أحسن إليه، وقد تقدم قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} في سورة يوسف[ 100]. وتقديمه على متعلقة للاهتمام به، والتعريف في {الْوَالِدَيْنِ} للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في {أَلَّا تَعْبُدُوا} .
وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس. ولما جعل الله الأبوين مظهر إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة، وسبب الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة، ولأنه ليس بموجد حقيقي، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة.
وجملة {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} بيان لجملة {إِحْسَاناً} , و {إما} مركبة من(إن)الشرطية و(ما) الزائدة المهيئة لنون الوكيد، وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها )ما( ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالبا، أي إن يبلغ أحد الوالدين أو كلاهما حد الكبر وهما عندك، أي في كفالتك فوطئ لهما خلقك ولين جانبك.
والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وليس خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذ. وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب
(14/55)
غير المعين يساوي خطاب الجمع.
وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمه من مشقة القيام بشؤونهما ومن سوء الخلق منهما.
ووجه تعدد فاعل {يبلغن} مظهرا دون جعله بضمير التثنية بأن يقال: إما يبلغان عندك الكبر، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حبا له دون ما لو كان أحدهما منفردا عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له. وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما، فالاحتياج إلى {أو كلاهما} في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرج عليه، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء، فكانت جملة {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} بتمامها جوابا ل(إما).
وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود. وقرأ الجمهور {إما يبلغن} على أن {أحدهما} فاعل {يبلغن} فلا تلحق الفعل علامة لأن فاعله اسم ظاهر.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {يبلغان} بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} , فيكون {أحدهما أو كلاهما} بدلا من ألف المثنى تنبيها على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع.
والخطاب ب {عندك} لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ,وقوله اللاحق {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} .
{أُفٍّ} اسم فعل مضارع معناه أتضخر. وفيه كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء، والخلاف في حركة الفاء، فقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم بكسر الفاء منونة . وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب بفتح الفاء غير منونة . وقرأ الباقون بكسر الفاء غير منونة.
(14/56)
وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما {أُفٍّ} خاصة، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة، وبأنها غير دالة على أكثر من حصول الضجر لقائها دون شتم أو ذم، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأولى.
ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى. والنهر: الزجر، يقال: نهره وانتهزه.
ثم أمر بإكرام القول لهما. والكريم من كل شيء: الرفيع في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [لأنفال:4].
وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذره مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع.
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما. والقصد من ذلك التخلق بشكره على إنعامهما السابقة عليه.
وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللا. ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة الأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب:
وإذا المنية أنثبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وبمنزلة تخييل اليد للشمال بفتح الشين والزمام للقرة في قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ومجموع هذه الاستعارة تمثيل. وقد تقدم في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} في سورة الحجر[88].
والتعريف في {الرحمة} عوض عن المضاف إليه، أي من رحمتك إياهما. و(من)ابتدائية، أي الذل الناشئ عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة. والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقا، كما قيل:
(14/57)
إن التخلق يأتي دونه الخلق
وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين، ولا يطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت.
ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معا في ذلك، لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه وذلك قابل للتسوية. ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر. ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أحق الناس بحسن صحابتي? قال: أمك. قال: ثم من? قال: ثم أمك. قال: ثم من? قال: ثم أمك. قال: ثم من? قال:ثم أبوك". .
وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه.
وللعلماء أقوال:
أحدها: ترجيح الأم على الأب وإلى هذا ذهب الليث بن سعد، والمحاسبي، وأبو حنيفة. وهو ظاهر قول مالك، فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلا سأل مالكا فقال: إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك? فقال مالك: أطع أباك ولا تعص أمك. وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكا أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم.
الثاني: قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر. وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين.
وحكى القرطبي عن المحاسبي في"كتاب الرعاية" أنه قال: لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع. وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال: ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة.
(14/58)
والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال.
ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى.
وهذا قد انتقل إليه انتقالا بديعا من قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله، وتنبيها على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما. وفي الحديث"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير".
وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه. والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملا لأبويه.
وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِين} [التوبة:113] الآية.
والكاف في قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا} للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف، ومثاله قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198], أي ارحمهما رحمة تكافئ ما ربياني صغيرا.
و {صَغِيرا} حال من ياء المتكلم.
والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الوالد، وصغر الولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولدا فصار قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا} قائما مقام قوله: كما ربياني ورحماني بتربيتهما. فالتربية تكملة للوجود، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها. والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.
والأمر يقتضي الوجوب. وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرئ في أوقات ابتهاله. وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.
ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين:
(14/59)
أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه، وهو الشكر، تخلقا بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة. وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها.
والمقصد الثاني عمراني، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساس بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن. ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس.
جاء في الحديث:"أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال الله: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك".وفي الحديث: "إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم" .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضا، وفي اتحاد بعضهم مع بعض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
وزاده الإسلام توثيقا بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف. وقد بينا ذلك في بابه من كتاب"مقاصد الشريعة الإسلامية".
[25] {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}
تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به، وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه، ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال، ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة.
ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل
(14/60)
على ذلك الخلوص كاملا لا تكلف فيه ولا تكاسل، فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا، فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافيا كاملا. وهو مما يشمله الصلاح في قوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} أي ممتثلين لما أمرتم به. وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به.
ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله، أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه، ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة. والتقدير: إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسنا وللأوابين غفورا. وهذا يعم المخاطبين وغيرهم، وبهذا العموم كان تذييلا.
وهذا الأوب يكون مطردا، ويكون معرضا للتقصير والتفريط، فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالجوع إلى الحالة المرضية، وكل ذلك أوب وصاحبه آيب، فصيغ له مثال المبالغة (أواب) لصلوحه الميالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته. فالملازم للأمثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله، والمغلوب بالتفريط يؤوب كلما راجع نفسه وذكر ربه، فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه، وكل من الصالحين.
وفي قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة. وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه.
وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيرا بعد تعسير مشوبا بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيبا.
[26ـ27] {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}
القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة.
(14/61)
وللقرابة حقان: حق الصلة، وحق المواساة. وقد جمعهما جنس الحق في قوله: {حقه} والحوالة فيه ما هو معروف وعلى أدلة أخرى.
والخطاب لغير معين مثل قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء:23].
والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء:25]الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع. والجملة معطوفة على جملة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] لأنها من جملة ما قضى الله به.
والإيتاء: الإعطاء وهو حقيقة في إعطاء الأشياء، ومجاز شائع في التمكن من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها" الحديث.
وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ.
وقد بينت أدلة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها: من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء، ومن غير واجبة مثل الإحسان.
وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها. ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس. وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {الْقُرْبَى} تعريف الجنس، أي القربى منك، وهو الذي يعبر عنه بأن(ال)عوض عن المضاف إليه. وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة.
وحق المسكين هو الصدقة. قال تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18]
وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:14ـ16].
وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها.
(14/62)
{وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافر يمر بحي من الأحياء، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته.
وحقوق الأضياف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة" .
وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنه إبراهيم عليه السلام قال الحريري: وحرمة الشيخ الذي سن القرى .
وقد جعل لابن السبيل نصيب الزكاة.
وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا أوصى الله به بقوله: {وقضى ربك} الآيات[الإسراء:23]
فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعيا لاتحاد المنبت القريب وشدا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة. وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذنبها عن حوزتها.
وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء، على أن ذلك المسكين لا يعدوا أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية.
وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع، لأن المار به من غير بنية بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلا ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص، وإلى الطعام والدفء أو التظلل من إضرار الجوع والفقر أو الحر.
[27ـ28] {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}
لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفا عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة.
ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه، فهذا وإن كان غرضا مهما من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه، وكون مقصودا بالوصاية أيضا لذاته. ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الآية,[الإسراء:28] ثم يعود الكلام إلى ما بين أحكام التبذير
(14/63)
بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29].
وليس قوله: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} متعلقا بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الخ.. لأن التبذير لا يوصف به بذل المال في حقه ولو كان أكثر من حاجة المعطى(بالفتح).
فجملة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} معطوفة على جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} لأنها من جملة ما قضى الله به، وهي معترضة بين جملة {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الآية وجملة {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الآية,[الإسراء:28] فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به.
والتبذير: تفريق المال في غير وجهه، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير، ولو كان المقدار قليلا، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير. وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير: لا خير في السرف، فأجابه المنفق: لا سرف في الخير، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس.
ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جعل عوضا لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات. وكان نظام القصد في إنفاقه ضامن كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجا، وتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيرا بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظا لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة.
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41], واكتساب المحمدة بين قومه. وقديما قال المثل العربي"نعم العون على المروءة الجدة"(. قال... "اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال" .
والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ
(14/64)
على مكانتها حتى تكون مرهونه الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نير سلطانه.
ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء، لقوله بعده{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} [النساء:6]فأضافها إليهم حين صاروا رشداء.
وما منع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير. ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى.
وذكر المفعول المطلق { تَبْذِيراً} بعد {وَلا تُبَذِّرْ} لتأكيد النهي كأنه قيل: لا تبذر، لا تبذر، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضارا لما تتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد.
وجملة {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ المبذرين} تعليل للمبالغة في النهي عن التبذير.
والتعريف في {الْمُبَذِّرِينَ} تعريف الجنس، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
والإخوان جمع أخ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق لأن ذلك شأن الأخ، كقولهم: أخو العلم، أي ملازمه والمتصف به، وأخو السفر لمن يكثر الأسفار. وقول عدي بن زيد:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ ... ـلة تجبي إليه والخابور
يريد صاحب قصر الحضر، وهو ملك بلد الحضر المسمى الضيزن بن معاوية القضاعي الملقب السيطرون.
والمعنى: أنهم من أتباع الشياطين وحلفائهم كما يتابع الأخ أخاه.
وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ {كَانُوا} المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحا.
ومعنى ذلك: أن التبذير يدعو إليه الشيطان لأنه إما إنفاق في الفساد وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان
(14/65)
فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه.
وهذا تحذير من التبذير، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقا لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس كما ورد في الحديث إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذابا(، فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين، أي المعروفين بهذا الوصف، والمبذرون إخوان الشياطين، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين. وبهذا يتبين أن في الكلام إيجاز حذف تقديره: ولا تبذر تبذيرا فتصير من المبذرين إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين. والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عندما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين.
ثم أكد التحذير بجملة {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} .وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجا بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية، فيذهب بتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير، لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال. فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم.
وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة، إذ كان المبذر مؤاخيا للشيطان وكان الشيطان كفورا، فكان المبذر كفورا بالمآل أو بالدرجة القريبة.
وقد كان التبذير من خلق أهل الجاهلية، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمهلك المال، فكان عندهم الميسر من أسباب الإتلاف، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر، وهي من المذام، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال.
[28] {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} عطف على قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} [الإسراء:26] لأنه من تمامه.
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب. والمقصود بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه على وزان نظم قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]فإن المواجهة
(14/66)
بـ {رَبُّكَ} في القرآن جاءت غالبا لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ويعدله ما روي أن النبي كان إذا سأله أحد مالا ولم يكن عنده ما يعطيه يعرض عنه حياء فنبهه الله إلى أدب أكمل من الذي تعهده من قبل ويحصل من ذلك تعليم لسائر الأمة.
وضمير {عنهم} عائد إلى ذي القربى والمسكين وابن السبيل.
والإعراض: أصله ضد الإقبال مشتق من العرض بضم العين أي الجانب، فأعرض بمعنى أعطى جانبه {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83]وهو هنا مجاز في عدم الإيتاء أو كناية عنه لأن الإمساك يلازمه الإعراض، أي إن سألك أحدهم عطاء فلم تجبه إليه أو إن لم تفتقدهم بالعطاء المعروف فتبائنت عن لقائهم حياء منهم أن تلاقيهم بيد فارغة فقل لهم قولا ميسورا.
والميسور: مفعول من اليسر، وهو السهولة، وفعله مبني للمجهول. يقال: يسر الأمر بضم الياء وكسر السين كما يقال: سعد الرجل ونحس، والمعنى جعل يسيرا غير عسير، وكذلك يقال: عسير. والقول الميسور: اللين الحسن المقبول عندهم، شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير. أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة يقول لين حسن بالاعتذار والوعد عند الموجدة، لئلا يحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح.
وقد شرط الإعراض بشرطين: أن يكون إعراضا لابتغاء رزق من الله، أي إعراضا لعدم الجدة لا اعتراضا لبخل عنهم، وأن يكون معه قول لين في الاعتذار وعلم من قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أنه اعتذار صادق وليس تعللا كما قال بشار:
وللبخيل على أمواله علل ... رزق العيون عليها أوجه سود
فقوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} حال من ضمير {تُعْرِضَنَّ} مصدر بالوصف، أي مبتغيا رحمة من ربك. و {تَرْجُوهَا} صفة لـ {رَحْمَةٍ} . والرحمة هنا هي الرزق الذي يتأتى منه العطاء بقرينة السياق. وفيه إشارة إلى أن الرزق سبب للرحمة لأنه إذا أعطاه مستحقه أثيب عليه، وهذا إدماج.
وفي ضمن هذا الشرط تأديب للمؤمن إن كان فاقدا ما يبلغ به إلى فعل الخير أن يرجو من الله تيسير أسبابه، وأن لا يحمله الشح على السرور بفقد الرزق للراحة من البذل بحيث لا يعدم البذل الآن وهو راج أن يسهل له في المستقبل حرصا على فضيلته،
(14/67)
وأنه لا ينبغي أن يعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل إلا في حال رجاء حصول نعمة فإن حصلت أعطاهم.
[29] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}
عود إلى بيان التبذير والشح، فالجملة عطف على جملة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء:26].ولولا تخلل الفصل بينهما بقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء:28] الآية لكانت جملة {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} غير مقترنة بواو العطف لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين، وأيضا على أن في عطفها اهتماما بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير.
وقد أتت هذه الآية تعليما بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة. وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة .
فأما الحكمة فإذا بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، وهذه الأوساط المحامدة بين المذام من كل حقيقة لها طرفان. وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطا، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد، وأن الوسط هو العدل، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهيته إياهم. والطرف الآخر التبذير والإسراف، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين (لا) و(لا).
وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العنق، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدرا للبذل والعطاء، وتخيل بسطها وغلها شحا، وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ثم قال {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]وقال الأعشى:
يداك يدا صدق فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضين بالمال تنفق
ومن ثم قالوا: له يد على فلان، أي نعمة وفضل، فجاء التمثيل في الآية مبنيا على
(14/68)
التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غلت يده إلى عنقه، أي شدت بالغل، وهو القيد من السير يشد به الأسير، فإذا غلت اليد إلى العنق تعدر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلا فيه، وبضده مثل المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد من قوله: {كُلَّ الْبَسْطِ} أي البسط كله الذي لا بسط بعده، وهو معنى النهاية. وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} إلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} في سورة العقود [المائدة:64]. وهذا قالب البلاغة المصوغة في تلك الحكمة.
وقوله: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير، فإن الشحيح ملوم مدموم. وقد قيل:
إن البخيل ملوم حيثما كانا
وقال زهير:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
والمحسور: المنهوك القوى. يقال: بعير حسير، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة، ومنه قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير} ٌ[الملك:4],والمعنى: غير قادر على إقامة شؤونك. والخطاب لغير معين. وقد مضي الكلام على{تقعد} آنفا.
[30] {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
موقع هذه الجملة موقع اعتراض بالتعليل لما تقدم من الأمر بإيتاء ذي القربى والمساكين، والنهي عن التبذير، وعن الإمساك المفيد الأمر بالقصد، بأن هذا واجب الناس في أموالهم وواجبهم نحو قرابتهم وضعفاء عشائرهم، فعليهم أن يمتثلوا ما أمرهم الله من ذلك. وليس الشح بمبق مال الشحيح لنفسه، ولا التبذير بمغن من يبذر فيهم المال فإن الله قدر لكل نفس رزقها.
فيجوز أن يكون الكلام جاريا على سنن الخطاب السابق لغير معين. ويجوز أن يكون قد حول الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فوجه بالخطاب إلى النبي لأنه الأولى بعلم هذه الحقائق العالية، وإن كانت أمته مقصودة بالخطاب تبعا له، فتكون هذه الوصايا مخللة بالإقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(14/69)
{وَيَقْدِرُ} ضد {يَبْسُطُ} وقد تقدم عند قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} في سورة الرعد[26].
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} تعليل لجملة {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} إلى آخرها، أي هو يفعل ذا لك لأنه عليم بأحوال عباده وما يليق بكل منهم بحسب ما جلبت عليه نفوسهم، وما يحف بهم من أحوال النظم العالمية التي اقتضتها الحكمة الإلهية المودعة في هذا العالم.
والخبير: العالم بالأخبار. والبصير: العالم بالمبصرات. وهذان الاسمان الجليلان يرجعان إلى معنى بعض تعلق العلم الإلهي.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله. وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية {وَقَضَى رَبُّكَ} (الإسراء: من الآية23). وغير أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية زجرا لهم عن هذه الخطيئة الذميمة. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام، ولكن بين الآيتين فرقا في النظم من وجهين: الأول: أنه قيل هنا {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وقيل في آية الأنعام {مِنْ إِمْلاقٍ }( الأنعام: من الآية151) (. ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين: إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك، فذلك مورد قوله في الأنعام {مِنْ إِمْلاقٍ} (الأنعام: من الآية151) فإن (من) التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل.
وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب ولكن خشية عروض الفقر له أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق، كما قال إسحاق بن خلف، شاعر إسلامي قديم:
إذا تذكرت بنتي حين تندبني فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوما أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم
(14/70)
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحوم
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه. وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة. ومن فقرات أهل الجاهلية: دفن البنات. من المكرمات. وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادئ ذي بدء.
الوجه الثاني : فمن أجل هذا الاعتبار في الفرق للوجه الأول قيل هنالك {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بان الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم.
وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه. والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات، فلذلك قدم الإعلام بان الله رازق الأبناء وكمل بأنه رازق آبائهم. وهذا من نكت القرآن.
والإملاق: الافتقار. وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (الأنعام: من الآية137) ))(الإسراء: من الآية31)
وجملة {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ} ( معترضة بين المتعاطفات. وجملة {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي، وفعل كَانَ تتأكيد للجملة.
والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأدا، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها: ولد. وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله: {نَرْزُقُهُمْ}
والخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مصدر خطئ بوزن فرح، إذا أصاب إثما، ولا يكون الإثم إلا عن عمد، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: من الآية8) وقال (العلق:16)
وأما الخطأ بفتح الخاء والطاء فهو ضد العمد. وفعله: أخطأ واسم ال {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فاعل مخطئ، قال تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: من الآية5) وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أيمتها.
(14/71)
وقرأ الجمهور {خِطْئاً} بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة ، أي إثما. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر {خطأ} بفتح الخاء وفتح الطاء . والخطأ ضد الصواب، أي أن قتلهم محض خطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله.
وقراه ابن كثير {خطاء} بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدودا . وهو فعال من خطئ إذا أجرم، وهو لغة في خطأ، وكأن الفعال فيها للمبالغة. وأكد ب {إِنَّ} لتحقيقه ردا على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد، ويقولون: دفن البنات من المكرمات. وأكد أيضا بفعل )كان( لإشعار كان بأن كونه إثما أمرا استقر.
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات إيماء إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشئ عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي الآية وهو يشبه الوأد في الإضاعة.
وجرى الإضمار فيه بصيغة الجمع كما جرى في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} (الإسراء الآية31) لمثل ما وجه به تغيير الأسلوب هنالك فإن المنهي عنه هنا كان من غالب أحوال أهل الجاهلية.
وهذه الوصية الثامنة من الوصايا الإلهية بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الإسراء: من الآية23).
والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة. وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا، وقريب من هذا المعنى قولهم: ما كاد يفعل.
والزنى في اصطلاح الإسلام مجامعة الرجل امرأة غير زوجته له ولا مملوكة غير ذات الزوج. وغي الجاهلية الزنى: مجامعة الرجل امرأة حرة غير زوج له وأما مجامعة الأمة غير المملوكة للرجل فهو البغاء.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} تعليل للنهي عن ملابسته تعليلا مبالغا فيه من جهات بوصفه بالفاحشة الدال على فعلة بالغة الحد الأقصى في القبح، وبتأكيد ذلك بحرف
(14/72)
التوكيد، وبإقحام فعل كان المؤذن بأن خبره وصف راسخ مستقر، كما تقدم فيقوله {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } (الإسراء: من الآية27)
والمراد: أن ذلك وصف ثابت له في نفسه سواء علمه الناس من قبل أم لم يعلموه إلا بعد نزول الآية.
وأتبع ذلك بفعل الذم وهو {وَسَاءَ سَبِيلاً} والسبيل: الطريق. وهو مستعار هنا للفعل الذي يلازمه المرء ويطون له دأبا استعارة مبنية على استعارة السير للعمل كقوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: من الآية21) فبني على استعارة السير للعمل استعارة السبيل له بعلاقة الملازمة. وقد تقدم نظيرها في قوله: {ِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلا} (النساء: من الآية22)
وعناية الإسلام بتحريم الزنى لأن فيه إضاعة النسب وتعريض النسل للإهمال إن كان الزنى بغير متزوجة وهو خلل عظيم في المجتمع، ولأن فيه إفساد النساء على أزواجهن والأبكار على أوليائهن، ولأن فيه تعريض المرأة إلى الإهمال بإعراض الناس عن تزوجها، وطلاق زوجها إياها، ولما ينشأ عن الغيرة من الهرج والتقاتل، قال امرؤ القيس:
علي حراصا لو يسرون مقتلي
فا لزنى مئنة لإضاعة الانساب ومظنة للتقاتل فكان جديرابالتحريم. ومن تأمل ونظر جزم بما يشتمل عليه الزنى من المفاسد ولو كان المتأمل ممن يفعله في الجاهلية فقبحه ثابت لذاته، ولكن العقلاء متفاوتون في إدراكه وفي مقدار إدراكه، فلما أيقظهم التحريم لم يبق للناس عذر. وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة ولا وجه لذلك الزعم. وقد أشرنا إلى إبطال ذلك في أول السورة.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء:33)
معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية. ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة. وهذه هي الوصية التاسعة.
(14/73)
والنفس هنا الذات كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: من الآية29 {لا تقتلوا أنفسكم} وقوله: {َنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (لمائدة: من الآية32 )وقوله: {َمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: من الآية34 {ما تدري نفس بأي أرض تموت} . وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة.
والقتل: الأمانة بفعل فاعل، أي إزالة الحياة عن الذات.
وقوله: {حرَّمَ اللَّهُ} حذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير. والتقدير: حرمها الله. وعلق التحريم بعين النفس، والمقصود تحريم قتلها.
ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهورا من قبل هذا النهي، إما لأنه تقرر من قبل بآيات أخرى نزلت قبل هذه الآية وقبل آية الأنعام حكما مفرقا وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضا بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه، تنويها بهذا الحكم. وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمر به الأرض، كما قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: من الآية61) فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله، أي عرفت بمضمون هذه الصلة.
واستثنى من عموم النهي القتل المصاحب للحق، أي الذي يشهد الحق أن نفسا معينة استحقت الإعدام من المجتمع، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القود على وجه الإجمال.
ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعارا بأن سيكون في الأمة قضاء وحكم فيما يستقبل أبقي مجملا حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد، مثل آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} (النساء: من الآية92) إلى قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: من الآية93).
فالباء في قوله: {بِالْحَقِّ} (الإسراء: من الآية33) ( للمصاحبة، وهي متعلقة بمعنى الاستثناء، أي إلا قتلا
(14/74)
ملابسا للحق.
والحق بمعنى العدل، أو بمعنى الاستحقاق، أي حق القتل، كما في الحديث: "إذا قالوها أي لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " .
ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعييم الحق المبيح لقتل النفس موكولا إلى من لهم تعيين الحقوق.
ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} الآية .
حين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلا للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلما أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلم، فقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } (الإسراء: من الآية33) أي قد جعل لولي المقتول تصرفا في القاتل بالقود أو الدية.
والسلطان: مصدر من السلطة كالغفران، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود.
وكونه حقا لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أو يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجن يداه قتلا. وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضا.
فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهل الجاهلية من عادة القود.
والقود من جملة المستثنى بقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} ، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق. وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية، فأمر الله المسلمين بقبول القود. وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره، وتلك عادة جاهلية. قال الشميذر الحارثي:
فلسنا كمن كنتم تصيبون سلة فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا
ولكن حكم السيف فينا مسلط فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
(14/75)
فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالا سيئا يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود، ولذلك قال : {فلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}
والسرف: الزيادة على ما يقتضيه الحق، وليس خاصا بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة. فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب:
كل قتيل في كليب غرة ... حتى يعم القتل آل مرة
وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل. وكانوا يتكايلون الدماء، أي يجعلون كيلها متفاوتا بحسب شرف القتيل، كما قالت كبشة بنت معد يكرب:
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم
البواء: الكفء في الدم. تريد فيقتل القاتل وهو المسمى جبرا، وإن لم يكن كفؤا لعبد الله أخيها، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم.
وضمير {يُسْرِفْ} بياء الغيبة، في قراءة الجمهور، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي.
وجملة {ِإِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} استئناف، أي أن ولي المقتول كان منصورا بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل. حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطانا على القاتل.
وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام كان الدال على أن الخير مستقر الثوبت. وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر.
ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ
سلطانهنا الظاهر في معنى المصدر، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة. ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان.
(14/76)
وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة، وهو الجهاد، فله أحكام أخرى. وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} وما عطف عليه من الضمائر.
واعلم أن جملة {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} معطوفة ى جملة {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} عطف قصة على قصة اهتماما بهذا الحكم بحيث جعل مستقلا، فعطف على حكم آخر، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة، إما استئنافا لبيان حكم حالة تكثر، وإما بدل بعض من جملة {إِلَّا بِالْحَقِّ } و
(من)موصولة مبتدأ مراد بها العموم، أي وكل الذي يقتل مظلوما. وأدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره.
وقوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يطمئن نفس ولي المقتول. والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، فكان تقديم قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } تمهيدا لقبول النهي عن السرف في القتل، لأنه إذا كان قد جعل له سلطانا فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاء لغليله.
ومن دلالة الإشارة أن قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتل القاتل دون حكم من السلطان، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة، فضمير {فَلا يُسْرِفْ} عائد إلى وليه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} تعليل للكف عن الإسراف في القتل. والضمير عائد إلى (وليه).
و(في) من قوله: { فِي الْقَتْلِ} للظرفية المجازية، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه.
ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن يكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية، وقد بينا وجه
(14/77)
مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة.
[34] {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الإسراء:34)
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية. وقد تقدم القول في نظير هذه الآية في سورة الأنعام. وهذه الوصية العاشرة.
والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية.
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}
أمروا بالوفاء بالعهد. والتعريف في {الْعَهْدَ} للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي. وهو البيعة على الإيمان والنصر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} في سورة النحل[91] وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} في سورة الأنعام[151].
وهذا التشريع من أصول حرمة الأمة في نظر الأمم والثقة بها للانزواء تحت سلطانها. وقد مضى القول فيه في سورة الأنعام. والجملة معطوفة على التي قبلها. وهي من عداد ما وقع بعد(أن)التفسيرية من قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} الآيات[الإسراء:23]. وهي الوصية الحادية عشرة.
وجملة {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} تعليل للأمر، أي للإيجاب الذي اقتضاه، وإعادة لفظ {الْعَهْدَ} في مقام إضماره للاهتمام به، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل.
وحذف متعلق {مَسْؤُولاً} لظهوره، أي مسئولا عنه، أي يسألكم الله عنه يوم القيامة.
(14/78)
[35] {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}
هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها. وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام.
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو { إِذَا كِلْتُمْ} دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في(إذا)من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط إذا الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له. ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع.
وفعل(كال)يدل على أن فاعله مباشر الكيل، فهو الذي يدفع الشيء المكيل، وهو بمنزلة البائع، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل: مكتال. وهو من أخوات باع وابتاع، وشرى واشترى، ورهن وارتهن، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2ـ3]
و(القسطاس)بضم القاف في قراءة الجمهور. وقرأه بالكسر حفص، وحمزة، والكسائي، وخلف. وهما لغتان فيه، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل، قيل: هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط، أي عدل، وطاس وهو كفة الميزان. وفي"صحيح البخاري" "وقال مجاهد:القسطاس: العدل بالرومية". ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين. وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية. ومن أمثالهم"أعجمي فالعب به ما شئت".
ومعنى العدل والميزان صالحان هنا، لكن التي في الأنعام جاء فيها {بِالْقِسْطِ} فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم. والباء هنالك للملابسة. وهذه الآية جاءت خطابا للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومئ إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه. فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة، ومفيدة للملابسة أيضا.
والمستقيم: السوي، مشتق من القوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات. يقال:
(14/79)
قومته فاستقام. ووصف الميزان به ظاهر. وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة.
وجملة {ذَلِكَ خَيْرٌ} مستأنفة. والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي {كِلْتُمْ} و {زِنُوا} .
و {خَيْرٌ} تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم، فضل على التطفيف تفضيلا لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف، وهو أيضا أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال.
والتأويل: تفعيل من الأول. وهو الرجوع. يقال: أوله إذا أرجعه، أي أحسن إرجاعا، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعة وعواقبه، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحا استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح. فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها، فأطلق على استقرار الرأي بعد الأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة.
ومعنى كون ذلك أحسن تأويلا: أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحت في ماله مع احتقار نفسه في نفسه، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله. فهو أحسن تأويلا. وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
[36] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
القفو: الاتباع، يقال: قفاه يقفوه إذا اتبعه، وهو مشتق من اسم القفا، وهو ما وراء العنق. واستعير هذا الفعل هنا للعمل. والمراد بـ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به.
(14/80)
ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة. منها خلة من خلال الجاهلية، وهي الطعن في أنساب الناس، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتانا، أو سوء ظن إذا راوا بعدا في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شبهه برجل آخر من الحي أو رأوا لونا مخالفا للون الأب أو الأم، تخرصا وجهلا بأسباب التشكل، فإن النسل بنزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنين أو الأبعدين، وجهلا بالشبه الناشئ عن الرحم. وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت ولدا أسود يريد أن ينتفي منه فقال له النبي هل لك من إبل? قال: نعم. قال: ما ألوانهن? قال: ورق. قال: وهل فيها من جمل أسود? قال: نعم. قال: فمن أين ذلك? قال: لعله عرق نزعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك نزعه عرق ، ونهاه عن الانتفاء منه. فهذا كان شائعا في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك.
ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك. وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مسن امرأة شابة أو نصفا فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة. ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما سلوني أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: من أبي? فيقول: أبوك فلان. وكان العرب في الجاهلية يطعنون فينسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة. فهذا خلق باطل كان متفشيا في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره.
ومنها تجنب الكذب. قال قتادة: لا تقف: لا تقل: رأيت وأنت لم تر، ولا سمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم.
ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد ابن الحنفية وجماعة.
وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات.
وهذا أدب خلقي عظيم، وهو أيضا إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم. ثم هو أيضا إصلاح
(14/81)
اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة.
وقد صيغت جملة {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} على هذا النظم بتقديم(كل)الدالة على الإحاطة من أول الأمر. وأتى باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال: كلها كان عنه مسئولا، لما في الإشارة من زيادة التمييز. وأقحم فعل كان لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة.
و {عَنْه} ُجار ومجرور في موضع النائب عن الفاعل لاسم المفعول، كقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
وقدم عليه للاهتمام، وللرعي على الفاصلة. والتقدير: كان مسئولا عنه، كما تقول: كان مسؤولا زيد. ولا ضير في تقديم المجرور الذي هو في زتبة نائب الفاعل وإن كان تقديم نائب الفاعل ممنوعا لتوسع العرب في الظروف والمجرورات، ولأن تقديم نائب الفاعل الصريح بصيرة مبتدأ ولا يصلح أن يكون المجرور مبتدأ فاندفع مانع التقديم.
والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولا عن نفسه، ومحقوقا بأن يبين مستند صاحبه من حسه.
والسؤال: كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كقول كعب:
وقيل إنك منسوب ومسؤول
أي مؤاخذ بما اقترفت من هجو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وهو في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه. وليس هو بمجاز عقلي لمنافة اعتباره هنا تأكيد الإسناد ب(إن) و ب(كل) وملاحظة اسم الإشارة و(كان). وهذا المعنى كقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]
أي يسأل السمع: هل سمعت? فيقول: لم أسمع، فيؤاخذ صاحبه بأن أسند إليه ما لم يبلغه إياه وهكذا.
والاسم الإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} يعود إلى السمع والبصر والفؤاد وهو من استعمال اسم الإشارة الغالب استعماله للعامل في غير العاقل تنزيلا لتلك الحواس منزلة العقلاء لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق العقل والعقل نفسه. على أن استعمال {أولئك} لغير العقلاء استعمال مشهور قيل هو استعمال حقيقي أو لأن هذا المجاز غلب حتى ساوى
(14/82)
الحقيقة، قال تعالى: {مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 102] وقال:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وفيه تجريد لإسناد {مَسْؤُولاً} إلى تلك الأشياء بان المقصود سؤال أصحابها، وهو من نكت بلاغة القرآن.
[37] {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}
نهي عن خصلة من خصال الجاهلية، وهي خصلة الكبرياء، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها. وهذه الوصية الخامسة عشرة.
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بعده.
والمرح بفتح الميم وفتح الراء : شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق. و {مَرَحاً} مصدر وقع حالا من ضمير {تَمْشِ} . ومجيء المصدر حالا كمجيئه صفة يراد منه المبالغة في الاتصاف. وتأويله باسم الفاعل، أي لا تمش مارحا، أي مشية المارح، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختر. ويجوز أن يكون {مَرَحاً} مفعولا مطلقا مبينا لفعل {تَمْشِ} لأن للمشي أنواعا، منها: ما يدل على أن صاحبه ذو مرح. فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي. والمشي مرحا أن يكون في المشي شدة وطء على الأرض وتطاول في بدن الماشي.
وجملة {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} استئناف ناشئ عن النهي بتوجيه خطاب ثان في هذا المعنى على سبيل التهكم، أي أنك أيها الماشي مرحا لا تخرق بمشيك أديم الأرض، ولا تبلغ بتطاولك في مشيك طول الجبال، فماذا يغريك بهذه المشية.
والخرق: قطع الشيء والفصل بين الأديم، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب. والكرم مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطئ الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال.
والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل. فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بالإظهار الشفوق عليهم وإرهابهم بقوته.
(14/83)
وعن عمر بن الخطاب: أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له:"إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله"يعني لأنها يرهب بها العدو إظهار للقوة على أعداء الدين في الجهاد.
وإظهار اسم {الْأَرْضَ} في قوله: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلا عن غيره جاريا مجرى المثل.
[38] {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}
تذييل للجمل المتقدمة ابتداء من قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] باعتبار ما اشتملت عليه من التحذيرات والنواهي. فكل جملة فيها أمر هي مقتضية نهيا عن ضده، وكل جملة فيها نهي هي مقتضية شيئا منهيا عنه، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} يقتضي عبادة مذمومة منهيا عنها، وقوله {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] يقتضي إساءة منهيا عنها، وعلى هذا القياس.
وقرأ الجمهور{سيئة}بفتح الهمزة بعد المثناة التحتية وبهاء تأنيث في آخره، وهي ضد الحسنة.
فالذي وصف بالسيئة وبأنه مكروه لا يكون إلا منهيا عنه أو مأمورا بضده إذ لا يكون المأمور به مكروها للآمر به، وبهذا يظهر للسامع معاد اسم الإشارة في قوله: {كُلُّ ذَلِكَ} .
وإنما اعتبر ما في المذكورات من معاني النهي لأن الأهم هو الإقلاع عما يقتضيه جميعها من المفاسد بالصراحة أو بالالتزام، لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح في الاعتبار وإن كانا متلازمين في مثل هذا.
وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} متعلق ب {مَكْرُوهاً} أي هو مذموم عند الله. وتقديم هذا الظرف على متعلقه للاهتمام بالظرف إذ هو مضاف لاسم الجلالة، فزيادة {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} لتشنيع الحالة، أي مكروها فعله من فاعله. وفيه تعريض بأن فاعله مكروه عند الله.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {كَانَ سَيِّئُهُ} بضم الهمزة وبهاء ضمير في آخره . والضمير عائد إلى {كُلُّ ذَلِكَ} ,و {كُلُّ ذَلِكَ} .هو نفس السيء فإضافة(سيء) إلى ضميره إضافة بيانية تفيد قوة صفة السيء حتى كأنه شيئان يضاف
(14/84)
أحدهما إلى الآخر. وهذه نكتة الإضافة البيانية كلما وقعت، أي كان ما نهى عنه من ذلك مكروها عند الله.
وينبغي أن يكون {مَكْرُوهاً} خبرا ثانيا ل(كان)لأنه المناسب للقراءتين.
[39] {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}
عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطب غير المعين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ردا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ} الخ[الإسراء:23]. وهو تذييل معترض بين جمل النهي. والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحة من قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23].
وفي هذا التذييل تنبيه على أن ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرة هو من الحكمة، تحريضا على اتباع ما فيها وأنه خير كثير. وفيه امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أوحى إليه، فذلك وجه قوله: {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ} تنبيها على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لولا الوحي من الله، وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس.
والحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه، وتطلق على الكلام الدال عليها، وتقدم في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (البقرة:269].
{وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}
عطف على جمل النهي المتقدمة، وهذا تأكيد لمضمون جملة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، أعيد لقصد الاهتمام بأمر التوحيد بتكرير مضمونه وبما رتب عليه من الوعيد بان يجازى بالخلود في النار مهانا.
والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله، وبقرينة قوله عقبه :{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} الآية [.الإسراء:40]
والإلقاء: رمي الجسم من أعلى إلى أسفل، وهو يؤذن بالإهانة.
والملوم: الذي ينكر عليه ما فعله.
(14/85)
والمدحور: المطرود، أي المطرود من جانب الله، أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة.
و {تلقى} منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه، أي فيتسبب على جعلك مع الله إلها آخر إلقاؤك في جهنم.
[40] {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}
تفريع على مقدر يدل على تقديره المفرع عليه. والتقدير: أفضلكم الله فأعطاكم البنين وجعل لنفسه البنات. ومناسبته لما قبله أن نسبة البنات إلى الله ادعاء آلهة تنتسب إلى الله بالبنوة. إذ عبد فريق من العرب الملائكة كما عبدوا الأصنام، واعتلوا لعبادتهم بان الملائكة بنات الله تعالى كما حكى عنهم في قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} إلى قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:19ـ20]. فلما نهوا عن أن يجعلوا مع الله إلها آخر خصص بالتحذير عبادة الملائكة لئلا يتوهموا أن عبادة الملائكة ليست كعبادة الأصنام لأن الملائكة بنات الله ليتوهموا أن الله يرضى بان يعبدوا أبناءه.
وقد جاء إبطال عبادة الملائكة بإبطال أصلها في معتقدهم، وهو أنهم بنات الله، فإذا تبين بطلان ذلك علموا أن جعلهم الملائكة آلهة يساوي جعلهم الأصنام آلهة.
فجملة {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} إلى آخرها متفرعة على جملة {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:39] تفريعا على النهي كما بيناه باعتبار أن المنهي عنه مشتمل عمومه على هذا النوع الخاص الجدير بتخصيصه بالإنكار وهو شبيه ببدل البعض. فالفاء للتفريع وحقها أن تقع في أول جملتها ولكن أخرها أن للاستفهام الصدر في أسلوب الكلام العربي، وهذا هو الوجه الحسن في موقع حروف العطف مع همزة الاستفهام.
وبعض الأيمة يجعل الاستفهام في مثل هذا استفهاما على المعطوف والعاطف، والاستفهام إنكار وتهكم.
والإصفاء: جعل الشيء صفوا، أي خالصا. وتعدية أصفى إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال. وأصله: أفأصفى لكم. وقوله: {بِالْبَنِينَ} الباء فيه إما
(14/86)
مزيدة لتوكيد لصوق فعل(أصفى) بمفعوله. وأصله: أفأصفى لكم ربكم البنين، كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]؛ أو ضمن أصفى معنى آثر فتكون الباء للتعدية دالة على معنى الاختصاص بمجرورها,فصار(أصفى)مع متعلقة بمنزلة فعلين، أي قصر البنين عليكم دونه، أي جعل لكم البنين خالصة لا يساويكم هو بأمثالهم. وجعل لنفسه الإناث التي تكرهونها. وفساد ذلك ظاهر بأدنى نظر فإذا تبين فساده على هذا الوضع فقد تبين انتفاء وقوعه إذ هو غير لائق بجلال الله تعالى. وقد تقدم هذا عند قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} في سورة النحل [57].وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} في[النساء:117].
وجملة {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} تقرير لمعنى الإنكار وبيان له، أي تقولون: اتخذ الله الملائكة بنات. وأكد فعل"تقولون"بمصدره تأكيدا لمعنى الإنكار. وجعله مجرد قول لأنه لا يعدو أن يكون كلاما صدر عن غير روية، لأنه لو تأمله قائله أدنى تأمل لوجده غير داخل تحت قضايا المقبول عقلا.
والعظيم: القوي. والمراد هنا أنه عظيم في الفساد والبطلان بقرينة سياق الإنكار. ولا أبلغ في تقبيح قولهم من وصفه بالعظيم، لأنه قول مدخول من جوانبه لاقتضائه إيثار الله بأدون صنفي البنوة مع تخويلهم الصنف الأشرف. ثم ما يقتضيه ذلك من نسبته خصائص الأجسام لله تعالى من تركيب وتولد واحتياج إلى الأبناء للإعانة وليخلفوا الأصل بعد زواله، فأي فساد أعظم من هذا.
وفي قوله {اتخذ} إيماء إلى فساد آخر، وهو أنهم يقولون: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116]. والاتخاذ يقتضي أنه خلقه ليتخذه، وذلك ينافي التولد فكيف يلتئم ذلك مع قولهم: الملائكة بنات الله من سروات الجن، وكيف يخلق الشيء ثم يكون ابنا له فذلك في البطلان ضغث على إبالة.
[41] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً}
لما ذكر فظاعة قولهم بان الملائكة بنات الله أعقب ذلك بان في القرآن هديا كافيا، ولكنهم يزدادون نفورا من تدبره.
فجملة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} معترضة مقترنة بواو الاعتراض.
والضمير عائد إلى الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله.
(14/87)
والتصريف: أصله تعدد الصرف، وهو النقل من جهة إلى أخرى. ومنه تصريف الرياح، وهو هنا كناية عن التبيين بمختلف البيان و متنوعه. وتقدم في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} في سورة الأنعام[ 46].
وحذف مفعول {صرفنا} لأن الفعل نزل منزلة اللازم فلم يقدر له مفعول، أي، بينا البيان، أي ليذكروا ببيانه. ويذكروا: أصله يتذكروا، فأدغم التاء في الذال لتقارب مخرجيهما، وقد تقدم في أول سورة يونس، وهو من الذكر المضمون الذال الذي هو ضد النسيان.
وضمير {ليذكروا} عائد إلى معلوم من المقام دل عليه قوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الإسراء:40] أي ليذكر الذين خوطبوا بالتوبيخ في قوله : {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ } [الإسراء:40]، فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، أو من خطاب المشركين إلى خطاب المؤمنين.
وقوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} تعجب من حالهم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف {ليذكروا} بسكون الذال وضم الكاف مخففة مضارع ذكر الذي مصدره الذكر بضم الذال .
وجملة {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} في موضع الحال، وهو حال مقصود منه التعجيب من حال ضلالتهم، إذ كانوا يزدادون نفورا من كلام فصل وبين لتذكيرهم. وشأن التفصيل أن يفيد الطمأنينة للمقصود. والنفور: هروب الوحشي والدابة بجزع وخشية من الأذى. واستعير هنا لإعراضهم تنزيلا لهم منزلة الدواب والأنعام.
[42] {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}
عود إلى إبطال تعدد الآلهة زيادة في استئصال عقائد المشركين من عروقها، فالجملة استئناف ابتدائي بعد جملة {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39]. والمخاطب بالأمر بالقول هو النبي صلى الله عليه وسلم لدمغهم بالحجة المقنعة بفساد قولهم.وللاهتمام بها افتتحت بـ {قُلْ} تخصيصا لهذا بالتبليغ وإن كان جميع القرآن مأموا بتبليغه.
وجملة {كَمَا تَقُولُونَ} معترضة للتنبيه على أن تعدد الآلهة لا تحقق له وإنما هو
(14/88)
مجرد قول عار عن المطابقة لما في نفس الأمر.
وابتغاء السبيل: طلب طريق الوصول إلى الشيء، أي توخيه والاجتهاد لإصابته، وهو هنا مجاز في توخي وسيلة الشيء. وقد جاء في حديث موسى والخضر عليهما السلام أن موسى سأل السبيل إلى لقيا الخضر.
و(إذن)دالة على الجواب والجزاء فهي مؤكدة لمعنى الجواب الذي تدل عليه اللام المقترنة بجواب(لو) الامتناعية الدالة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها، وزائدة بأنها تفيد أن الجواب جزاء عن الكلام المجاب. فالمقصود الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهة.
وهذا الاستدلال يحتمل معنيين مآلهما واحد:
والمعنى الأول: أن يكون المراد بالسبيل سبيل السعي إلى الغلبة والقهر، أي لطلبوا مغالبة ذي العرش وهو الله تعالى. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]. ووجه الملازمة التي بني عليها الدليل أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو ويتألبوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بعضه، وقديما ما ثارت الأمراء والسلاطين على ملك الملوك وسلبوه ملكه فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم.
وتمام الدليل محذوف للإيجاز يدل عليه ما يستلزمه ابتغاء السبيل على هذا المعنى من التدافع والتغالب اللازمين عرفا لحالة طلب سبيل النزول بالقرية أو الحي لقصد الغزو. وذلك المفضي إلى اختلال العالم لاستغال مدبريه بالمقاتلة والمدافعة على نحو ما يوجد في ميثلوجيا اليونان من تغالب الأرباب وكيد بعضهم لبعض، فيكون هذا في معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء:22]. وهو الدليل المسمى ببرهان التمانع في علم أصول الدين، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التمكن والظفر بالمطلوب. والابتغاء على هذا ابتغاء عن عداوة وكراهة.
وقوله: {كَمَا تَقُولُونَ} على هذا الوجه تنبيه على خطئهم، وهو من استعمال الموصول في التنبيه على الخطأ.
والمعنى الثاني: أن يكون المراد بالسبيل سبيل الوصول إلى ذي العرش، وهو الله
(14/89)
تعالى، وصول الخضوع والاستعطاف والتقرب، أي لطلبوا ما يوصلهم إلى مرضاته كقوله: {َيبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57].
ووجه الاستدلال أنكم جعلتموهم آلهة وقلتم ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاءنا عند الله، فلو كانوا آلهة كما وصفتم إلهيتهم لكانوا لا غنى لهم عن الخضوع إلى الله، وذلك كاف لكم بفساد قولكم، إذ الإلهية تقتضي عدم الاحتياج فكان مآل قولكم إنهم عباد لله مكرمون عنده، وهذا كاف في تفطنكم لفساد القول بإلهيتهم.
والابتغاء على هذا ابتغاء محبة ورغبة، كقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19]. وقريب من معناه قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26],
فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التوسل إليه والسعي إلى مرضاته.
وقوله: {كَمَا تَقُولُونَ} على هذا المعنى تفيد للكون في قوله: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} أي لو كان معه آلهة حال كونهم كما تقولون، أي كما تصفون إلهيتهم من قولكم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]
واستحضار الذات العلية بوصف {ذِي الْعَرْشِ} دون اسمه العلم لما تتضمنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه على المعنى الأول، أو الذي هو مطمع الآلهة الابتغاء من سعة ما عنده على المعنى الثاني.
وقرأ الجمهور{كَمَا تَقُولُونَ}بتاء الخطاب على الغالب في حكاية القول المأمور بتبليغه أن يحكى كما يقول المبلغ حين إبلاغه. وقراه ابن كثير وحفص بياء الغيبة على الوجه الآخر في حكاية القول المأمور بإبلاغه للغير أن يحكى بالمعنى، لأن في حال خطاب الآمر المأمور بالتبليغ يكون المبلغ له غائبا وإنما يصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لوحظ حاله هذا عبر عنه بطريق الغيبة كما قرئ قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران:12] ـ بالتاء وبالياء ـ أو على أن قوله: {كَمَا يَقُولُونَ} اعتراض بين شرط(لو) وجوابه.
[43] {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43]
إنشاء تنزيه لله تعالى عما ادعوه من وجود شركاء له في الإلهية.
(14/90)
وهذا من المقول اعتراض بين أجزاء المقول، وهو مستأنف لأنه نتيجة لبطلان قولهم: إن مع الله آلهة، بما نهضت به الحجة عليهم من قوله: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42]. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} في سورة الأنعام[100].
والمراد بما يقولون ما يقولونه مما ذكر آنفا كقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80].
و{عُلُوّاً}مفعول مطلق عامله {تَعَالَى} . جيء به على غير قياس فعله للدلالة على أن التعالي هو الاتصاف بالعلو بحق لا بمجرد الادعاء كقول سعدة أم الكميت بن معر:
تعاليت فوق الحق عن آل فقعس ... ولم تخش فيهم ردة اليوم أو غد
وقوله سبحانه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:24],أي يدعي الفضل ولا فضل له . وهو منصوب على المفعولية المطلقة المبينة للنوع.
والمراد بالكبير الكامل في نوعه. وأصل الكبير صفة مشبهة: الموصوف بالكبر. والكبر: ضخامة جسم الشيء في متناول الناس، أي تعالى أكمل علو لا يشوبه شيء من جنس ما نسبوه إليه، لأن المنافاة بين استحقاق ذاته وبين نسبة الشريك له والصاحبة والولد بلغت في قوة الظهور إلى حيث لا تحتاج إلى زيادة لأن وجوب الوجود والبقاء ينافي آثار الاحتياج والعجز.
وقرأ الجمهور {عَمَّا يَقُولُونَ} بياء الغيبة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بتاء الخطاب على أنه التفات، أو هو من جملة المقول من قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} [الإسراء:42]على هذه القراءة.
[44] {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
جملة{يسبح له}الخ. حال من الضمير في{سبحانه}أي نسبحه في حال أنه {يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} الخ، أي {يسبح له} العوالم وما فيها وتنزيهه عن النقائص.
واللام في قوله: {له} لام تعدية {يسبح} المضمن معنى يشهد بتنزيهه، أو هي اللام المسماة لام التبيين كالتي في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]
وفي قولهم: حمدت الله لك.
(14/91)
ولما أسند التسبيح إلى كثير من الأشياء التي لا تنطق دل على أنه مستعمل في الدلالة على التنزيه بدلالة الحال، وهو معنى قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} حيث أعرضوا عن النظر فيها فلم يهتدوا إلى ما يحف بها من الدلالة على تنزيهه عن كل ما نسبوه من الأحوال المنافية للإلهية.
والخطاب في {تَفْقَهُونَ} يجوز أن يكون للمشركين جريا على أسلوب الخطاب السابق في قوله: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء:40]وقوله: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ} [الإسراء:42] لأن الذين لم يفقهوا دلالة الموجودات على تنزيه الله تعالى هم الذين لم يثبتوا له التنزيه عن النقائص التي شهدت الموجودات حيثما توجه إليها النظر بتنزيهه عنها فلم يحرم من الاهتداء إلى شهادتها إلا الذين لم يقلعوا عن اعتقاد أضدادها. فأما المسلمون فقد اهتدوا إلى ذلك التسبيح بما أرشدهم إليه القرآن من النظر في الموجودات وإن تفاوتت مقادير الاهتداء على تفاوت القرائح والفهوم.
ويجوز أن يكون لجميع الناس باعتبار انتفاء تمام العلم بذلك التسبيح.
وقد مثل الإمام فخر الدين ذلك فقال: إنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ أي (جواهر فردة)، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة. واختصاص ذلك الجواهر الفرد بتلك الصفة المعينة هو من الجائزات فلا يجعل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم، فكل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
ولعل إيثار فعل {لا تَفْقَهُونَ} دون أن يقول: لا تعلمون، للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق فيؤيد ما نحاه فخر الدين.
وقرأ الجمهور {يسبح} بياء الغائب وقرأه عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف بتاء جماعة مؤنث والوجهان جائزان في جموع غير العاقل وغير حقيقي التأنيث.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} استئناف يفيد التعريض بأن مقالتهم تقتضي تعجيل
(14/92)
العقاب لهم في الدنيا لولا أن الله عاملهم بالحلم والإمهال. وفي ذلك تعريض بالحث على الإقلاع عن مقالتهم ليغفر الله لهم.
وزيادة (كان) للدلالة على أن الحلم والغفران صفتان له محققتان.
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} عطف جملة على جملة وقصة على قصة، فإنه لما نوه بالقرآن في قوله : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء: من الآية9) ثم أعقب بما اقتضاه السياق من الإشارة إلى ما جاء به القرآن من أصول العقيدة وجوامع الأعمال وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر عاد هنا إلى التنبيه على عدم انتفاع المشركين بهدي القرآن لمناسبة الإخبار عن عدم فقههم دلالة الكائنات على تنزيه الله تعالى عن النقائض، وتنبيها للمشركين على وجوب إقلاعهم عن بعثهم وعنادهم، وتأمينا للنبي صلى الله عليه وسلم من مكرهم به وإضمارهم إضراره، وقد كانت قراءته القرآن تغيظهم وتثير في نفوسهم الانتقام.
وحقيقة الحجاب: الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه. وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي صلى الله عليه وسلم عن الإضرار به وللإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه. وجعل الله الحجاب المذكور إيجاد ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون، من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون. وذلك خلق يسري إلى النفوس تدريجيا تغرسه في النفوس بادئ الأمر شهوة الإعراض وكراهية المسموع منه ثم لا يلبث أن يصير ملكا في النفس لا تقدر على خلعه ولا تغيره.
وإطلاق الحجاب على ما يصلح للمعنيين إما على حقيقة اللفظ، وإما للحمل على ما له نظير في القرآن. وقد جاء في الآية الأخرى {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فصلت: من الآية5)
ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حتى زعموا أنه يقول محالا إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } (سبأ: من الآية8)
(14/93)
استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال : {وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الإسراء: من الآية45)
ووصف الحجاب بالمستور مبالغة في حقيقة جنسه، أي حجابا بالغا الغاية في حجب ما يحجبه هو حتى كأنه مستور بساتر آخر، فذلك في قوة أن يقال: جعلنا حجابا فوق حجاب. ونظيره قوله تعالى {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} (الفرقان: من الآية22)
أو أريد أنه حجاب من غير جنس الحجب المعروفة فهو حجاب لا تراه الأعين ولكنها ترى آثار أمثاله. وقد ثبت في أخبار كثيرة أن نفرا هموا الإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم فما منهم إلا وقد حدث له ما حال بينه وبين همه وكفى الله نبيه شرهم، قال تعالى : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } (البقرة: من الآية137)وهي معروفة في أخبار السيرة.
وفي الجميع بين {حِجَاباً} (الإسراء: من الآية45) و {مَسْتُوراً} من البديع الطباق.
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} عطف جعل على جعل.
والتصريح بإعادة فعل الجعل يؤذن بأن هذا جعل آخر فيرجح أن يكون جعل الحجاب المستور جعل الصرفة عن الإضرار، ويكون هذا جعل عدم التدبر في القرآن خلقة في نفوسهم. والقول في نظم هذه الآية ومعانيها تقدم في نظيرها في سورة الأنعام.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} لما كان الإخبار عنهم قبل هذا يقتضي أنهم لا يفقهون معاني القرآن أتبع ذلك بأنهم يعرضون عن فهم ما فيه خير لهم، فإذا سمعوا ما يبطل إلهية أصنامهم فهموا ذلك فولوا على أدبارهم نفورا، أي زادهم ذلك الفهم ضلالا كما حرمهم عدم الفهم هديا، فحالهم متناقض. فهم لا يسمعون ما يحق أن يسمع، ويسمعون ما يهوون أن يسمعوه ليردادوا به كفرا.
ومعنى (ذكرت ربك وحده) ظاهره أنك ذكرته مقتصرا على ذكره ولم تذكر آلهتهم لأن
(14/94)
{وَحْدَهُ} حال من {رَبَّكَ} الذي هو مفعول {ذَكَرْتَ} . ومعنى الحال الدلالة على وجود الوصف في الخارج ونفس الأمر، أي كان ذكرك له، وهو موصوف بأنه وحده في وجود الذكر. فيكون تولي المشركين على أدبارهم حينئذ من أجل الغضب من السكوت عن آلهتهم وعدم الاكتراث بها بناء على أنهم يعلمون أنه ما سكت عن ذكر آلهتهم إلا لعدم الاعتراف بها. ولولا هذا التقدير لما كان لتوليهم على أدبارهم سبب، لأن ذكر شيء لا يدل على إنكار غيره فإنهم قد يذكرون العزى أو اللات مثلا ولا يذكرون غيرها من الأصنام فلا يظن أن الذاكر للعزى منكر مناة، وفي هذا المعنى قوله تعالى : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } (الزمر: من الآية45)
ويحتمل أن المعنى: إذا ذكرت ربك بتوحيده بالإلهية وهو المناسب لنفورهم وتوليهم، لأنهم إنما ينكرون انفراد الله تعالى بالإلهية، فتكون دلالة {وَحْدَهُ} على هذا المعنى بمعونة المقام وفعل {ذَكَرْتَ} .
ولعل الحال الجائية من معمول أفعال القول والذكر ونحوهما تحتمل أن يكون وجودها في الخارج. وأن يكون في القول واللسان. فيكون معنى ذكرت ربك وحده أنه موحد في ذكرك وكلامك، أي ذكرته موصوفا بالوحدانية.
وتخصيص الذكر بالكون في القرآن لمناسبته الكلام على أحوال المشركين في استماع القرآن، أو لأن القرآن مقصود منه التعليم والدعوة إلى الدين، فخلو آياته عن ذكر ألهتهم مع ذكر اسم الله يفهم منه التعريض بأنها ليست بآلهة فمن ثم يغضبون كلما ورد ذكر الله ولم تذكر آلهتهم، فكونه في القرآن هو القرينة على أنه أراد إنكار آلهتهم.
وقوله {وَحْدَهُ} تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} (لأعراف: من الآية70)
والتولية: الرجوع من حيث أتى. و {عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} تقدم القول فيه في قوله تعالى : {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} في سورة العقود. (المائدة:21)
و {نُفُوراً} يجوز أن يكون جمع نافر مثل سجود وشهود. ووزن فعول يطرد في جمع فاعل فيكون اسم الفاعل على صيغة المصدر فيكون نفورا على هذا منصوبا على الحال من ضمير {ولوا} , ويجوز جعله مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله، أي ولوا بسبب نفورهم من القرآن.
(14/95)
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً }
كان المشركون يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه، مثل توحيد الله، وإثبات البعث بعد الموت، فيعجب بعضهم بعضا من ذلك، فكان الإخبار عنهم بأنهم جعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفورا إذا ذكر الله وحده، ويثير في نفس السامع سؤالا عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الآية جوابا عن ذلك السؤال. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.
وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونهما. والمعنى: أن الله يعلم علما حقا داعي استماعهم، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب.
و)أعلم( اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله. وليس المراد أن الله أشد علما من غيره إذ لا يقتضيه المقام.
والباء في قوله: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنه قاصر عن التعدية إلى المفعول. واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام، يقال: هو أعطى للدراهم.
والباء في {يَسْتَمِعُونَ بِهِ} للملابسة. والضمير المجرور بالباء عائد إلى ما الموصولة، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك، وهي ظرف مستقر في موقع الحال. والتقدير: متلبس به.
وبيان إبهام ما حاصل بقوله: {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}
و(إذ)ظرف ل {يَسْتَمِعُونَ بِهِ}
والنجوى: اسم مصدر المناجاة، وهي المحادثة سرا. وتقدم في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} (النساء: من الآية114)
وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغلا عنه.
و {َإِذْ هُمْ نَجْوَى} عطف على {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ، أي نحن أعلم بالذي يستمعونه، ونحن أعلم بنجواهم.
(14/96)
و {إِذْ يَقُول} بدل من {َإِذْ هُمْ نَجْوَى} بدل بعض من كل، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القول. وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشد غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى الله عليه وسلم وبين حال المسحور.
ووقع إظهار في مقام الإضمار في {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} دون: إذ يقولون، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم، أي الشرك فإن الشرك ظلم، أي ولولا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور. ويجوز أن يراد الظلم أيضا الاعتداء، أي الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم كذبا.
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ونظائرها كثيرة في القرآن.
والتعبير بفعل النظر إشارة إلى أنه بلغ من الوضوح أن يكون منظورا.
والاستفهام بكيف للتعجيب من حالة تمثيلهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور ونحوه.
وأصل ضرب وضع الشيء وتثبيته يقال: ضرب خيمة، ويطلق على صوغ الشيء على حجم مخصوص، يقال: ضرب دنانير، وهو هنا مستعار للإبراز والبيان تشبيها للشيء الميز المبين بالشيء المثبت. وتقدم عند قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} (البقرة: من الآية26).
واللام في {لَكَ} للتعليل والأجل، أي ضربوا الأمثال لأجلك، أي لأجل تمثيلك، أي مثلوك. يقال: ضربت لك مثلا بكذا. وأصله مثلتك بكذا، أي أجد كذا مثلا لك، قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (النحل: من الآية74 وقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي اجعلهم مثلا لحالهم.
وجمع {الْأَمْثَال} هنا، وإن كان المحكي عنهم أنهم مثلوه بالمسحور، وهو مثل واحد، لأن المقصود التعجيب من هذا المثل ومن غيره فيما يصدر عنهم من قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو ساحر، هو مسحور، وسميت أمثالا باعتبار حالهم لأنهم تحيروا فيما يصفونه به للناس لئلا يعتقدوه نبيا، فجعلوا يتطلبون أشبه الأحوال بحاله في خيالهم فيلحقون به، كمن يدرج فردا غريبا في أشبه الأجناس به، كمن يقول في
(14/97)
الزرافة: إنها من الأفراس أو الإبل أو من البقر.
وفرع ضلالهم على ضرب أمثالهم لأن ما ضربوه من الأمثال كله باطل وضلال وقوة في الكفر. فالمراد تفريع ضلالهم الخاص ببطلان تلك الأمثال، أي فظهر ضلالهم في ذلك كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} القمر: من الآية9)
ويجوز أن يراد بالضلال هنا أصل معناه، وهو الحيرة في الطريق وعدم الاهتداء، أي ضربوا لك أشباها كثيرة لأنهم تحيروا فيما يعتذرون به عن شأنك العظيم.
وتفريع {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} على {َفَضَلُّوا} تفريع لتوغلهم في الحيرة على ضلالهم في ضرب تلك الأمثال.
والسبيل: الطريق، واستطاعته استطاعة الظفر به، فيجوز أن يراد بالسبيل سبيل الهدى على الوجه الأول في تفسير الضلال، ويجوز أن يكون تمثيلا لحال ضلالهم بحال الذي وقف في فيفاء لا يدري من أية جهة يسلك إلى المقصود، على الوجه الثاني في تفسير الضلال.
والمعنى على هذا: أنهم تحيروا كيف يصفون حالك للناس لتوقعهم أن الناس يكذبونهم، فلذلك جعلوا ينتقلون في وصفه من صفة إلى صفة لاستشعارهم أن ما يصفونه به باطل لا يطابقه الواقع.
{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} يجوز أن يكون جملة {وَقَالُوا} معطوفة على جملة {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} باعتبار ما تشتمل عليه من قوله {كَمَا يَقُولُونَ} لقصد استئصال ضلالة أخرى من ضلالاتهم بالحجة الدامغة، بعد استئصال التي قبلها بالحجة القاطعة بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} (الإسراء: من الآية42)قل لو كان معه آلهة كما تقولون الآية وما بينهما بمنزلة الاعتراض.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} التي مضمونها مظروف للنجوى، فيكون هذا القول مما تناجوا به بينهم، ثم يجهرون بإعلانه ويعدونه حجتهم على التكذيب.
والاستفهام إنكاري.
وتقديم الظرف من قوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} للاهتمام به لأن مضمونه هو دليل
(14/98)
الاستحالة في ظنهم، فالإنكار متسلط على جملة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .وقوة إنكار ذلك مقيد بحالة الكون عظاما ورفاتا، وأصل تركيب الجملة: أإنا لمبعوثون إذا كنا عظاما ورفاتا.
وليس المقصود من الظرف التقييد، لأن الكون عظاما ورفاتا ثابت لكل من يموت فيبعث.
والبعث: الإرسال. وأطلق هنا على إحياء الموتى، لأن الميت يشبه الماكث في عدم مبارحة مكانه.
والعظام: جمع عظم، وهو ما منه تركيب الجسد للإنسان والدواب. ومعنى {كُنَّا عِظَاماً } أنهم عظام لا لحم عليها.
والرفات: الأشياء المرفوتة، أي المفتتة. يقال: رفت الشيء إذا كسره كسرا دقيقة. ووزن فعال يدل على مفعول أفعال التجزئة مثل الدقاق والحطام والجذاذ والفتات.
و {خَلْقاً جَدِيداً} حال من ضمير (مبعوثون) وذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء لأن البعث هو الإحياء، فإحياء العظام والرفات محال عندهم، وكونهم خلقا جديدا أدخل في الاستحالة.
والخلق: مصدر بمعنى المفعول، ولكونه مصدرا لم يتبع موصوفه في الجمع.
{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً }
جواب عن قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بذلك.
وقرينة ذلك مقابلة فعل {كُنَّا} في مقالهم بقوله: {كُونُوا} ، ومقابلة {عِظَاماً وَرُفَاتاً} في مقالهم بقوله: {حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} الخ، مقابلة أجسام واهية بأجسام صلبة. ومعنى الجواب أن وهن الجسم مساو لصلابته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى على تكييفه كيف يشاء.
(14/99)
لهذا كانت جملة {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} الخ غير معطوفة، جريا على طريقة المحاورات التي بينتها عند قوله تعالى: {ًقَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورةالبقرة:[30].
وإن كان قوله: {قُلْ} ليس مبدأ محاورة بل المحاورة بالمقول الذي بعده؛ ولكن الأمر بالجواب أعطي حكم الجواب فلذلك فصلت جملة {قُلْ} .
واعلم أن ارتباط رد مقالتهم بقوله: {كُونُوا حِجَارَةً} الخ غامض، لأنهم إنما استعبدوا أو أحالوا إرجاع الحياة إلى أجسام تفرقت أجزاؤها وانخرم هيكلها، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجساما ضعيفة، فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة.
فبنا أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة، وفي ذلك ثلاثة وجوه:
أحدها: أن تكون صيغة الأمر في قوله: {كونوا} مستعملة في معنى التسوية، ويكون دليلا على جواب محذوف تقديره: إنكم مبعوثون سواء كنتم عظاما و رفاتا أو كنتم حجارة أو حديدا، تنبيها على أن قدرة الله تعالى لا يتعاصى عليها شيء. وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل.
الوجه الثاني: أن تكون صيغة الأمر في قوله: {كُونُوا} مستعملة في الفرض، أي لو فرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم: إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك واستبعدتم إعادة الحياة فيها. وعلى كلا الوجهين يكون قوله: {مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} نهاية الكلام، ويكون قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} مفرعا على جملة {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا} [الإسراء:49] الخ تفريعا على الاستئناف، وتكون الفاء للاستئناف وهي بمعنى الواو على خلاف في مجيئها للاستئناف، والكلام انتقال لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم.
الوجه الثالث:أن يكون قوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} كلاما مستأنفا ليس جوابا على قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} [الإسراء:49]الخ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية. وفي هذا الوجه يكون قوله: { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} متصلا بقوله: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} الخ، ومفرعا على كلام محذوف بدل عليه قوله: {كُونُوا حِجَارَةً} ،
(14/100)
أي فلو كانوا كذلك لقالوا: من يعيدنا، أي لانتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم لصلابة أجسادهم.
وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية وينكشف ما فيه من غموض.
والحديد: تراب معدني، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ مختلف الغلظ، ثقيل أدكن اللون، وهو إما محتت الأجزاء وإما مورقها، أي مثل الورق.
وأصنافه ثمانية عشر باعتبار اختلاف تركيب أجزائه، وتتفاوت ألوان هذه الأصناف، وأشرف أصنافه الخالص، وهو السالم في جميع أجزائه من المواد الغريبة. وهذا نادر الوجود وأشهر ألوانه الأحمر، ويقسم باعتبار صلابته إلى صنفين أصليين يسميان الذكر والأنثى، فالصلب هو الذكر واللين الأنثى. وكان العرب يصفون السيف الصلب القاطع بالذكر. وإذا صهر الحديد بالنار تمازجت أجزاؤه وتميع وصار كالحلواء فمنه ما يكون حديد صب ومنه ما يكون حديد تطريق، ومنه فولاذ. وكل صنف من أصنافه صالح لما يناسب سبكه منه على اختلاف الحاجة فيها إلى شدة الصلابة مثل السيوف والدروع. ومن خصائص الحديد أن يعلوه الصدأ، وهو كالوسخ أخضر ثم يستحيل تدريجا إلى أكسيدكلمة كيمياوية تدل على تعلق أجزاء الأكسجين بجسم فتفسده)وإذا لم يتعهد الحديد بالصقل والزيت أخذ الصدأ في نخر سطحه، وهذا المعدن يوجد في غالب البلاد. وأكثر وجوده في بلاد الحبشة وفي صحراء مصر. ووجدت في البلاد التونسية معادن من الحديد. وكان استعمال الحديد من العصور القديمة، فإن الطور الثاني من أطور التاريخ يعرف بالعصر الحديدي، أي الذي كان البشر يستعمل فيه آلت متخذة من الحديد، وذلك من أثر صنعة الحديد، وذلك قبل عصر تدوين التاريخ. والعصر الذي قبله يعرف بالعصر الحجري.
وقد اتصلت بتعيين الزمن الذي ابتدئ فيه صنع الحديد أساطير واهية لا ينضبط بها تاريخه. والمقطوع به أن الحديد مستعمل عند البشر قبل ابتداء كتابة التاريخ ولكونه بأكله الصدأ عند تعرضه للهواء والرطوبة لم يبق من آلاته القديمة إلا شيء قليل.
وقد وجدت في(طيبة)ومدافن الفراعنة في(منفيس)بمصر صور على الآثار مرسوم عليها: صور خزائن شاحذين مداهم وقد صبغوها في الصور باللون الأزرق لون الفولاذ، وذلك في القرن الحادي والعشرين قبل التاريخ المسيحي. وقد ذكر في التوراة وفي الحديث قصة الذبيح، وقصة اختتان إبراهيم بالقدوم. ولم يذكر أن السكين ولا القدوم كانتا
(14/101)
من حجر الصوان، فالأظهر أنه بآلة الحديد. ومن الحديد تتخذ السلاسل للقيد، والمقامع للضرب، وسيأتي قوله تعالى :{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} في سورة الحج[21].
والخلق: بمعنى المخلوق، أي أو خلقا آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس.
وقوله: {مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} صفة {خَلقاً} .
ومعنى { يَكْبُرُ} يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته، والصدور: العقول، أي مما تعدونه عظيما لا يتغير.
وفي الكلام حذف دل عليه الكلام المردود وهو قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء:49]. والتقدير: كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات.
والمعنى: لو كنتم حجارة أو حديدا لأحياكم الله، لأنهم جعلوا كونهم عظاما حجة لاستحالة الإعادة، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديدا، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام.
والتفريع في {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} على جملة {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} أي قل لهم ذلك فسيقولون لك: من يعيدنا.
وجعل سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى، في معارضة الدعوى، من المنع.
والاستفهام في {مَنْ يُعِيدُنَا} تهكمي. ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يحييهم عندما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالا للازم التعكم، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة، كقوله في محاجة موسى لفرعون {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:25ـ26].
(14/102)
وجيء بالمسند إليه موصولا لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية.
والانغاض: التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس. فإنغاض الرأس تحريكه كذلك، وهو تحريك الاستهزاء.
واستفهموا عن وقته بقولهم: {مَتَى هُوَ} استفهام تهكم أيضا؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جوابا حقا إبطالا للازم التهكم، كما تقدم في نظيره آنفا.
وضمير {مَتَى هُوَ} عائد إلى العود المأخوذ من قوله: {يُعِيدُنَا} كقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]
و(عسى)للرجاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: والمعنى لا يبعد أن يكون قريبا.
و {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} بدل من الضمير المستتر في {َيكُونَ} من قوله: {أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} . وفتحته فتحة بناء لأنه أضيف إلى الجملة الفعلية.
ويجوز أن يكون ظرفا ل {َيكُونَ} ، أي يكون يوم يدعوكم، وفتحته فتحة نصب على الظرفية.
والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر.
ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب.
والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى {يَدْعُوكُمْ} ، أي فتحيون وتمثلون للحساب، أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات. وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعوا الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطئ في زمانه.
(14/103)
وضمائر الخطاب على هذا خطاب للكفار القائلين {مَنْ يُعِيدُنَا} والقائلين {مَتَى هُوَ} .
والباء في {بحمده} للملابسة، فهي في معنى الحال، أي حامدين فهم إذا بعثوا خلق فيهم إدراك الحقائق فعلموا أن الحق لله.
ويجوز أن يكون {بحمده} متعلقا بمحذوف على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. والتقدير: انطق بحمده، كما يقال: باسم الله، أي ابتدئ، وكما يقال للمعرس: باليمن والبركة، أي احمد الله على ظهور صدق ما أنبأتكم به، ويكون اعتراضا بين المتعاطفات.
وقيل: إن قوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} استئناف كلام خطاب للمؤمنين فيكون {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} متعلقا بفعل محذوف، أي اذكروا يوم يدعوكم. والحمد على هذا الوجه محمول على حقيقته، أي تستجيبون حامدين الله على ما منحكم من الإيمان وعلى ما أعد لكم مما تشاهدون حين انبعاثكم من دلائل الكرامة والإقبال.
وأما جملة {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} فهي عطف على {تستجيبون} ، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلا. والمراد: التعجيب من هذه الحالة، ولذلك جاء في بعض آيات أخرى سؤال المولى حين يبعثون عن مدة لبثهم تعجيبا من حالهم، قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112ـ114]،
وقال: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259].وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين. والمراد هنا: أنهم ظنوا ظنا خاطئا، وهو محل التعجيب. وأما قوله في الآية الأخرى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فمعناه: أنه وإن طال فهو قليل بالنسبة لأيام الله.
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}
لما أعقب ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى المشركين من أقوال تعظهم وتنهنههم من قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ} [الإسراء:42]وقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء:50]وقوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51]ثني العنان إلى بإبلاغ المؤمنين تأديبا ينفعهم في هذا المقام على عادة القرآن في
(14/104)
تلوين الأغراض وتقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس.
ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبئ عن ضلال اعتقاد نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالا تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية. وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} صفة لمحذوف يدل عليه فعل {يَقُولُوا} . تقديره: بالتي هي أحسن. وليس المراد مقالة واحدة.
واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن. ونظيره قوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة.
فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها. وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه. وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأعمال تدخله الجنة ثم قال له:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله? قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قال: قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به? فقال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم".
والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضا بحسن المعاملة وإلانة القول. لأن القول ينم عن المقاصد،بقرينة قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} . ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتنابا لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم فذلك من نزغ الشيطان بينهم وبين عدوهم. قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. والمسلمون في مكة يومئذ طائفة قليلة وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه ليكونوا آمنين. فأمرهم أن لا يكونوا سببا في إفساد تلك الحالة.
والمراد بقوله: {لِعِبَادِي} المؤمنون كما هو المعروف من اصطلاح القرآن في هذا العنوان. وروي أن قول التي هي أحسن أن يقولوا للمشركين: يهديكم الله. يرحمكم الله. أي بالإيمان. وعن الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل،
(14/105)
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
وجزم {يَقُولُوا} على حذف لام الأمر وهو وارد كثيرا بعد الأمر بالقول. ولك أن تجعل {يَقُولُوا} جوابا منصوبا في جواب الأمر مع حذف مفعول القول لدلالة الجواب عليه. والتقدير: قل لهم: قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك. فيكون كناية على أن الامتثال بأنهم فإذا أمروا امتثلوا. وقد تقدم نظيره في قوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة إبراهيم[31].
والنزغ: أصله الطعن السريع. واستعمل هنا في الإفساد السريع الأثر. وتقدم في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} في سورة يوسف[100].
وجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} تعليل للأمر بقول التي هي أحسن. والمقصود من التعليل أن لا يستخفوا بفاسد الأقوال فإنها تثير مفاسد من عمل الشيطان.
ولما كان ضمير {بَيْنَهُمْ} عائدا إلى عبادي كان المعنى التحذير من إلقاء الشيطان العداوة بين المؤمنين تحقيقا لمقصد الشريعة من بث الأخوة الإسلامية.
روى الواحدي: أن عمر بن الخطاب شتمه أعرابي من المشركين فشتمه عمر وهم بقتله فكاد أن يثير فتنة فنزلت هذه الآية. وأياما كان سبب النزول فهو لا يقيد إطلاق صيغة الأمر للمسلمين بأن يقولوا التي أحسن في كل حال.
وجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} تعليل لجملة {يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} .وعلة العلة علة.
وذكر(كان)للدلالة على أن صفة العداوة أمر مستقر في خلقته قد جبل عليه. وعداوته للإنسان متقررة من وقت نشأة آدم عليه الصلاة والسلام وأنه يسول للمسلمين أن يغلظوا على الكفار بوهمهم أن ذلك نصر للدين ليوقعهم في الفتنة، فإن أعظم كيد الشيطان أن يوقع المؤمن في الشر وهو يوهمه أنه يعمل خيرا.
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}
هذا الكلام متصل بقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} إلى قوله : {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:48]. فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على
(14/106)
العناد والإصرار على الكفر. وذلك يسوء النبي صلى الله عليه وسلم ويحزنه أن لا يهتدوا. فوجه هذا الكلام إليه تسلية له. ويدل لذلك تعقيبه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} .
ومعنى {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} على هذا الكناية عن مشيئة هديه إياهم الذي هو سبب الرحمة. أو مشيئة تركهم وشأنهم. وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها، وما قيل غيره أراه لا يلتئم.
وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيرا بان الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله: {أَعْلَمُ بِكُمْ} وقع بديع، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء.
وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما يعدها وهي جملة {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} الآية، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب.
ومعنى {أَعْلَمُ بِكُمْ} أعلم بحالكم، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم.
فجملة {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} مبينة للمقصود من جملة {أَعْلَمُ بِكُمْ} .
والرحمة والتعذيب مكنى بهما عن الاهتداء والضلال، بقرينة مقارنته لقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} الذي هو كالمقدمة. وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين: صريحهما وكنايتهما، ولإظهار أنه لا يسأل عما يفعل، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته. فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذاب بأسبابه، بحكمته وعدله، علم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما، وفعل الشرط محذوف. والتقدير: إن يشأ رحمتكم يرحمكم أو إن يشأ تعذيبكم يعذبكم، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال.
وجيء بالعطف بحرف(أو)الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف(أو)للتقسيم.
وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار.
(14/107)
وإعادة شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين.
وجملة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى، وأن النبي غير مسؤول عن استمرار من استمر في الضلالة. إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعيا.
والوكيل على الشيء: هو المسؤول به. والمعنى: أرسلناك نذيرا وداعيا لهم وما أرسلناك عليهم وكيلا، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعيا ونذيرا معلوم بالمشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلا وملجئا آل إلى معنى: ما أنت إلا نذير.
وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى المشركين، كما عادت إليهم ضمائر {عَلَى قُلُوبِهِمْ} الإسراء:46]وما بعده من الضمائر اللائقة بهم.
و {عَلَيْهِمْ} متعلق ب {وَكِيلاً} .وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.
[55] {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}
تماثل القرينتين في فاصلتي هذه الآية من كلمة {وَالْأَرْضِ} وكلمة {عَلَى بَعْضٍ}. يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض، وأن ليس قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تكملة لآية {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء:54]الآية.
وتغيير أسلوب الخطاب في قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ} بعد قوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء:54]إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي لها مزيد اختصاص به، بتقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية. بإبطال أقوالهم في أحوال النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم، وقالوا: أبعث الله يتيم أبي طالب رسولا، أبعث الله بشرا رسولا. فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله : {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} فهو العالم حيث يجعل رسالته.
وكان قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كالمقدمة لقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ} الآية. أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمتساهل للرسالة بحسب
(14/108)
ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك، كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} في سورة الأنعام[124].
وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ كل حكم لجزيئلتها، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم، لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسولا من البشر. وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه السلام . وذلك يثير أحوالا جمة من العصور والرجال والأمم أحياء وأمواتا. فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله: {بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهو أيضا كالمقدمة لجملة {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، مشيرا إلى أن تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل. وهذا إيجاز تضمن إثبات النبوة وتقررهما فيما مضى مما لا يقبل لهم بإنكاره، وتعدد الأنبياء مما يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وإثبات التفاصيل بين الأفراد من البشر. فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم، وإثبات التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل. وتقرر ذلك فيما مضى تقررا لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنة إلهية مقررة لا نكران لها.
فعلم أن طعنهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد.
كما قال تعالى في شأن اليهود {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} في سورة النساء[54].
وتخصيص داود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهة صاحب"الكشاف" ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون. وهذا حسن. وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيرا من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها، وأن التفضيل بالنبوة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقتا، فإن داود عليه السلام كان راعيا من رعاة الغنم في بني إسرائيل. وكان ذا قوة في الرمي بالحجر، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داود لمحاربة جالود الكنعاني، فلما قتل داود جالود آتاه الله النبوة وصيره ملكا بإسرائيل، فهو النبي الذي تجلا فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة.
(14/109)
وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفا. وقد أوتي داود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتابا بعد موسى عليه السلام
وذكر داود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء.
وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في آخر سورة النساء[163].
والزبور: اسم لجموع أقوال داود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ [56] فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}
لم أر لهذه الآية تفسيرا يثلج له الصدر، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها، ولا حاجة إلى استقراء كلماتهم. ومرجعها إلى طريقتين في محمل {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} إحداهما في"تفسير الطبري" وابن عطية عن ابن مسعود والحسن. وثانيتهما"في تفسير القرطبي" والفخر غير معزوة لقائل.
والذي أرى في تفسيرها أن جملة {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} إلى {تَحْوِيلاً} معترضة بين جملة {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} وجملة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء:57]. وذلك أنه لما جرى ذكر الأفضلين من الأنبياء في أثناء آية الرد على المشركين مقالتهم في اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة واصطفاه أتباعه لولايته ودينه.وهي آية {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء:55] إلى آخرها، جاءت المناسبة لرد مقالة أخرى من مقالاتهم الباطلة وهي اعتذارهم عن عبادة الأصنام بأنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، فجعلوهم عبادا مقربين ووسائل لهم إلى الله. فلما جرى ذكر المقربين حقا انتهزت مناسبة ذكرهم لتكون مخلصا إلى إبطال ما ادعوه من وسيلة أصنامهم على عادة إرشاد القرآن من اغتنام مناسبات الموعظة. وذلك من أسلوب الخطباء. فهذه الآية متصلة المعنى بآية {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42].
فبعد أن أبطل أن يكون مع الله آلهة ببرهان العقل عاد
(14/110)
إلى إبطال إلهيتهم المزعومة ببرهان الحس، وهو مشاهدة أنها لا تغني عنهم كشف الضر.
فأصل ارتباط الكلام هكذا: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا أولئك الذين يدعون يبتغون الآية. فبمناسبة الثناء عليهم بابتهالهم إلى ربهم ذكر ضد ذلك من دعاء المشركين آلهتهم. وقدم ذلك. على الكلام الذي أثار المناسبة، اهتماما بإبطال فعلهم ليكون إبطاله كالغرض المقصود ويكون ذكر مقابله كالاستدلال على ذلك الغرض. ولعل هذه الآية نزلت في مدة إصابة القحط قريشا بمكة. وهي السبع السنون التي هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف". وتسلسل الجدال وأخذ بعضه بحجز بعض حتى انتهى إلى هذه المناسبة.
والملك بمعنى الاستطاعة والقدرة كما في قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 17]، وقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة العقود[76].
والمقصود من ذلك بيان البون بين الدعاء الحق والدعاء الباطل. ومن نظائر هذا المعنى في القرآن قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} في سورة الأعراف[196ـ197].
والكشف: مستعار للإزالة.
والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى مكان، أي لا يستطيعون إزالة الضر عن الجميع ولا إزالته عن واحد إلى غيره.
[57] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} والإشارة ب {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} إلى النبيين لزيادة تمييزهم.
والمعنى: أولئك الذين إن دعوا يستجب لهم ويكسف عنهم الضر، وليسوا كالذين تدعونهم فلا يسلكون كشف الضر عنكم بأنفسهم ولا بشفاعتهم عند الله كما رأيتم من أنهم لم يغنوا عنكم من الضر كشفا ولا صرفا.
وجملة {يَبْتَغُونَ} حال من ضمير {يَدْعُونَ} أو بيان لجملة {يَدْعُونَ} .
والوسيلة: المرتبة العالية القريبة من عظيم كالملك.
(14/111)
و {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} يجوز أن يكون بدلا من ضمير {يَبْتَغُونَ} بدل بعض، وتكون(أي)موصولة.والمعنى: الذي هو أقرب من رضى الله يبتغي زيادة الوسيلة إليه، أي يزداد عملا للازدياد من رضى الله عنه واصطفائه.
ويجوز أن يكون بدلا من جملة {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ،و(أي)استفهامية، أي يبتغون معرفة جواب: أيهم أقرب عند الله.
وأقرب: اسم تفضيل، ومتعلقة محذوف دل عليه السياق. والتقدير: أيهم أقرب إلى ربهم.
وذكر خوف بعد رجاء الرحمة للإشارة إلى أنهم في موقف الأدب مع ربهم فلا يزيدهم القرب من رضاه لألا إجلالا له وخوفا من غضبه. وهو تعريض بالمشركين الذين ركبوا رؤوسهم وتوغلوا في الغرور فزعموا أن شركاءهم شفعاؤهم عند الله.
وجملة {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} تذييل. ومعنى {كَانَ مَحْذُوراً} أن حقيقته تقتضي حذر الموفقين إذ هو جدير بذلك.
[58] {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً}
ولما عرض بالتهديد للمشركين في قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} ،وتحداهم بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]
جاء بصريح التهديد على مسمع منهم بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستيصال وهو يأتي على القرية وأهلها، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع وهو يأتي على أهل القرية مثل صرعى بدر، كل ذلك في الدنيا. فالمراد: القرى الكافر أهلها لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} في سورة هود[117]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} في سورة القصص[59].
وحذف الصفة في مثل هذا معروف كقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] أي كل سفينة صالحة، بقرينة قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79].
وليس المقصود شمول ذلك القرى المؤمنة، على معنى أن لا بد للقرى من زوال
(14/112)
وفناء في سنة الله في هذا العالم، لأن ذلك معارض لآيات أخرى، ولأنه مناف لغرض تحذير المشركين من الاستمرار على الشرك.
فلوا سلمنا أن هذا الحكم لا تنفلت منه قرية من القرى بحكم سنة الله في مصير كل حادث إلى الفناء لما سلمنا أن في ذكر ذلك هنا فائدة.
والتقييد بكونه {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} زيادة في الإنذار والوعيد،كقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127].
و(من)مزيدة بعد(إن)النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهل مكة عدم شمولهم.
والكتاب: مستعار لعلم الله وسابق تقديره، فتعريفه للعهد، أو أريد به الكتب المنزلة على الأنبياء، فتعريفه للجنس فيشمل القرآن وغيره.
والمسطور: المكتوب، يقال: سطر الكتاب إذا كتبه سطورا، قال تعالى: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}
هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم إذ كانوا يسألون النبي أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم، ويقولون: لو كان صادقا وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه. غرورا بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم.
والجملة معطوفة على جملة {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} الآية[الإسراء:59]الآية، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات.
وحقيقة المنع: كف الفاعل عن فعل يريد فعلته أو يسعى في فعله. وهذا محال عن الله تعالى إذ لا مكره للقادر المختار. فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل وعدم إيقاعه
(14/113)
دون محاولة إتيانه.
والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول {أَنْ نُرْسِلَ} محذوفا دل عليه فعل {نُرْسِلَ} . والتقدير: أن نرسل رسولنا. فالباء في قوله: {بالآيات} للمصاحبة، أي مصاحبا للآيات التي اقترحها المشركون. ويجوز أن يكون الإرسال مستعارا لإظهار الآيات وإيجادها، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل {نُرْسِلَ بِالْآياتِ} ،وتكون{بِالْآياتِ}،مفعولا في المعنى كقوله تعال: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6].
والتعريف في {بِالْآياتِ} على كلا الوجهين للعهد، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعا} [الإسراء:90]،و {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48]و {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] على أحد التأويلين.
و(أن)الأولى مفيدة مصدرا منصوبا على نزع الخافض، وهو(من)التي يتعدى بها فعل المنع، وهذا الحذف مطرد مع(أن).
و(أن)الثانية مصدرها فاعل {مَنَعَنَا} على الاستثناء المفرغ.
وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي لأن التكذيب سبب الصرف.
والمعنى: أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات. فعلم الناس أن الإضرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات، فلو آمن الأولون عندما أظهرت لهم الآيات لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفا على إيجاد الآيات التي سألوها. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس:96ـ97].
والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين لئلا يفتنهم الشيطان، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان قومه فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ولحزنه من أن يظنوه كاذبا.
وجملة {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} في محل الحال من ضمير الجلالة في {مَنَعَنَا} ، أي وقد أتينا ثمودا آية كما سألوا فزادوا كفرا بسببها حتى عجل لهم العذاب.
ومعنى {مُبْصِرَةً} واضحة الدلالة، فهو اسم فاعل أبصر المتعدي إلى مفعول، أي
(14/114)
جعل غيره مبصرا وذا بصيرة. فالمعنى: أنها مفيدة البصيرة، أي اليقين. أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيده أنها آية. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13]
وخص بالذكر ثمود وآيتها لشهرة أمرهم بين العرب، ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من أهل مكة يبصرها صادرهم وواردهم في رحلاتهم بين مكة والشام.
وقوله: {فَظَلَمُوا بِهَا} يجوز أن يكون استعمل الظلم بمعنى الكفر لأنه ظلم النفس، وتكون الباء للتعدية لأن فعل الكفر يعدى إلى المكفور بالباء. ويجوز أن يكون الظلم مضمنا معنى الجحد، أي كابروا في كونها آية، كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].ويجوز بقاء الظلم على حقيقته، وهي الاعتداء بدون حق، والباء صلة لتوكيد التعدية مثل الباء في: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، أي ظلموا الناقة حين عقروها وهي لم تجن عليهم، فكان عقرها ظلما. والاعتداء على العجماوات ظلم إذا كان غير مأذون فيه شرعا كالصيد.
{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}
هذا بيان لحكمة أخرى في ترك إرسال الآيات إلى قريش، تشير إلى أن الله تعالى أراد الإبقاء عليهم ليدخل منهم في الإسلام كثير ويكون نشر الإسلام على يد كثير منهم.
وتلك مكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم فلو أرسل الله لهم الآيات كما سألوا مع أن جبلتهم العناد لأصروا على الكفر فحقت عليهم سنة الله التي قد خلت في عباده وهي الاستئصال عقب إظهار الآيات، لأن إظهار الآيات تخويف من العذاب والله أراد الإبقاء على هذه الأمة قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] الآية، فعوضنا تخويفهم بدلا عن إرسال الآيات التي اقترحوها.
والقول في تعدية {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ} كالقول في {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} معنى وتقديرا على الوجهين.
والتخويف: جعل المرء خائفا.
والقصر في قوله: {إِلَّا تَخْوِيفاً} لقصر الإرسال بالآيات على علة التخويف، وهو قصر إضافي، أي لا مباراة بين الرسل وأقوامهم أو لا طمعا في إيمان الأقوام فقد علمنا
(14/115)
أنهم لا يؤمنون.
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً}
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين، فذكره الله بوعده نصره.
وقد أومأ جعل المسند إليه لفظ الرب مضافا إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبي وتصبيره، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره، قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].
فجملة {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} ويجوز أن تكون معترضة.
و(إذا)متعلقة بفعل محذوف، أي اذكر إذ قلنا لك كلاما هو وعد بالصبر، أي اذكر لهم ذلك وأعده على أسماعهم، أو هو فعل"اذكر"على أنه مشتق من الذكر ـ بضم الذال ـ وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة.
والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلأى ذات الناس لا إلأى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة، كما في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} في سورة يونس[22]. وعبر بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب. ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41].
والمعنى: فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم.
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} عطف على جملة {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} وما بينهما معترضات.
والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن
(14/116)
ابن عباس في هذه الآية، قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، رواه الترمذي وقال: إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين، سماهم الترمذي. وتأويلها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين، ورأى عيرهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف. ويؤيد هذا الوجه قوله: {الَّتِي أَرَيْنَاكَ} فإنه وصف للرؤيا ليعلم أنها رؤية عين. وقيل: رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها.
وقيل: هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة. وعلى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي.
والفتنة: اضطراب الرأي واختلال نظام العيش، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]، وقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذريات:13]. فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم.
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} {وَالشَّجَرَةَ} عطف على الرؤيا، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونه في القرآن إلا فتنة للناس.وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} في سورة الصافات[64ـ66]. وقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} الآية في سورة الدخان[43ـ44]،وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} في سورة الواقعة[51ـ52] .
روي أن أبا جهل قال:"زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر، ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار".وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار. وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في "أسباب النزول"للواحدي و"تفسير الطبري". وروي أن ابن الزبعري قال: الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تمزقوا. فعلى هذا التأويل فالمعنى: أن شجرة الزقوم سبب فتنة كفرهم وانصرافهم عن الإيمان. ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزقوم فتنة على
(14/117)
هذا الوجه أن ذكرها كان سبب فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله:{الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعن لها.
ويجوز أن يكون المعنى: أن إيجادها فتنة. أي عذاب مكرر، كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63].
والملعونة أي المذمومة في القرآن في قوله: {طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:44]وقوله:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]وقوله: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:45ـ46].
وقيل معنى الملعونة: أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة، لأنها مخلوقة في موضع العذاب. وفي "الكشاف": قيل تقول العرب لكل طعام ضار: ملعون.
{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} .
عطف على جملة {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون. وهذه زيادة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حريص على إيمانهم. كما قال موسى عليه السلام: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88].
ويوجد في بعض التفاسير أن ابن العباس قال: في الشجرة الملعونة بنو أمية. وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت. ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات:11].
وجئ بصيغة المضارع في {نُخَوِّفُهُمْ} للإشارة إلى تخويف حاضر، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغيانا. فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات.
وقد اختير الفعل المضارع في {نُخَوِّفُهُمْ} و {يزيدهم} لاقتضائه تكرر التخويف
(14/118)
وتجدده، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم.
والكبير: مستعار لمعنى الشديد القوي في نوع الطغيان. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} في سورة البقرة[217].
[61] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}
عطف على جملة {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60] أي واذكر إذ قلنا للملائكة. والمقصود من هذا تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله. وأنهم لا يعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم عليه السلام ، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمت إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون. كما أومأ إليه قوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الإسراء:63]الآية، ففي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. فأمر الله نبيه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به، وذكر النبي ذلك موعظة للناس بحال الفريقين لينظر العاقل أين يضع نفسه.
وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها.
والاستفهام في {أَأَسْجُدُ} إنكار، أي لا يكون.
وجملة {قَالَ أَأَسْجُدُ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود. وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشئ عن جهله وغروره.
وقوله: {طِيناً} حال من اسم الموصول، أي الذي خلقته في حال كونه طينا، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين. وإنما جعل جنس الطين حالا منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس.
وجملة {قَالَ أَرَأَيْتَكَ} بدل اشتمال من جملة {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} باعتبار ما
(14/119)
تشتمل عليه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله. فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله: {أَرَأَيْتَكَ} المفيد الإنكار. وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته، ولذلك فصلت جملة {قَالَ أَرَأَيْتَكَ} عن جملة {قَالَ أَأَسْجُدُ} كما وقع في قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120].
و {أَرَأَيْتَكَ} تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به. ومعناه: أخبرني عما رأيت، وهو مركب من همزة استفهام، و(رأى)التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع، ثم يزاد على ضمير الخطاب كاف خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحدا أو متعددا. يقال: أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ }في سورة الأنعام[40]. وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع، وهو يشبه التوكيد اللفظي. وقال الفراء: الكاف ضمير نصب، والتركيب: أرأيت نفسك. وهذا أقرب للاستعمال، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضمير فاعلها نحو قول طرفة:
فما لي أراني وابن عمي مالكا
... متى أدن منه ينأ عني ويبعد
أي أرى نفسي.
واسم الإشارة مستعمل في التحقير،كقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الانبياء:36].والمعنى: أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته علي بلا وجه.
وجملة {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا، وهي جملة قسمية، واللام موطنة للقسم المحذوف مع الشرط، والخبر مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [صّ:79].
وهذا الكلام صدر من إبليس إعرابا عما في ضميره. وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه.
وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يغوي كثيرا من البشر ويسلم منه قليل منهم.
وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواء آدم وهو أولى بالذكر ـ إذ آدم هو
(14/120)
أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفصيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أغوى آدم وأخرج من الجنة فقد شفى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]
والاحتناك: وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيره، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفرس على حب ما يريد راكبه.
[63][64] {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً}
جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة، ولذلك فصلت جملة {قَالَ} على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة:30].
والذهاب ليس مرادا به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل، أي امض لشأنك الذي نويته. وصيغة الأمر مستعملة في التسوية وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة:
فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
وقوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه: 97].
والجزاء: مصدر جزاه على عمل، أي أعطاه عن عمله عوضا. وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
والموفور: اسم مفعول من وفره إذا كثره.
وأعيد {جَزَاءً} للتأكيد، اهتماما وفصاحة، كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف:2], ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل. وأصل الكلام: فإن جهنم جزاؤكم موفورا. فانتصاب {جَزَاءً} على الحال الموطئة،و {مَوْفُوراً} صفة له، وهو الحال في المعنى، أي جزاء غير منقوص.
والاستفزاز: طلب الفز، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل.والسين والتاء فيه
(14/121)
للجعل الناشئ عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء، أي استخفهم وأزعجهم.
والصوت: يطلق على الكلام كثيرا، لأن الكلام صوت من الفم، واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس. ويجوز أن يكون مستعملا هنا تمثيلا لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلا بقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} كما سيأتي.
والإجلاب: جمع الجيش وسوقه، مشتق من الجلبة بفتحتين، وهي الصياح، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم.
والخيل: اسم جمع الفرس. والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. "يا خيل الله اركبي" .وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته.
ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64]من جملة هذا التمثيل.
والرجل: اسم جمع الرجال كصحب. وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعا. قالأنيف بن زبان النبهاني:
وتحت نحور الخيل حرشف رجلة ... تتاح لحبات القلوب نبالها
ثم قال:
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
والمعنى: أجمع لمن اتبعك من درية آدم وسائل الفتنة والوسوسة لإضلالهم. فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوما بجيش عظيم من فرسان ورجالة.
وقرأ حفص عن عاصم {وَرَجِلِكَ} ـ بكسر الجيم ـ ، وهو لغة في رجل مضموم الجيم، وهو الواحد من الرجال. والمراد الجنس. والمعنى: بخيلك ورجالك، أي الفرسان والمشاة.
(14/122)
والباء في {بِخَيْلِكَ} إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد. ومجرورها مفعول في المعنى لفعل {َأَجْلِبْ} مثل {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]؛ وإما لتضمين فعل {َأَجْلِبْ} معنى(اغزهم)فيكون الفعل مضمنا معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة.
والمشاركة في الأموال: أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي إنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيبا في النتاج والحرث للأصنام. وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها،قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136].
وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى، وأن يسموهم بعبدة الأصنام، كقولهم: عبد العزى، وعبد اللات، وزيد مناة، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم.
ومعنى {عِدْهُمْ} أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلم الآباء من الثكل والأولاد من الأمراض، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء، كما قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل . ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذابا بعد الموت لإنكار البعث، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة.
وحذف مفعول {وَعِدْهُمْ} للتعميم في الموعود به. والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب وسماه وعدا لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل.
ولذلك اعترض بجملة {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} .
والغرور: إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن. وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران[196]، وقوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام[112]. والمعنى: أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غرورا لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود
(14/123)
بالعاقبة، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلا إليه بالإضرار. وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب"إحياء علوم الدين".
وإظهار اسم الشيطان في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملة أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها.
[65] {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}
وجملة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} من تمام الكلام المحكي بـ {قَالَ اذْهَبْ} [الإسراء:63]. وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الإسراء:63] وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء:64]،فإن مفهوم {فَمَنْ تَبِعَكَ} و {مَنِ اسْتَطَعْتَ} ذرية من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقا من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه. وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان، وذلك يثير سؤالا في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علما إجماليا أن فريقا لا يحتنكه لقوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:62]. فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب.
فأما الوصف ففي قوله: {عِبَادِي} المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك.
وأما السبب ففي قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه.
وفي هذا التوكل مراتب من الانقلاب عن احتناك الشيطان، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنة.
فالسلطان المنفي في قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده. وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله، وتصديقهم رسوله، واعتبارهم أنفسهم
(14/124)
عبادا لله متطلبين شكر نعمته، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدة أهل الاعتزال. وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} في سورة النحل[99ـ100].
فالمؤمن لا يتولى الشيطان أبدا ولكنه قد ينخدع لوسواسه، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم" .
فجملة {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلا عليه بأنه عبد الله، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريبا للنبي بالإضافة إلى ضمير الله. ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار.
[66] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}
استئناف ابتدائي وهو عود إلى تقرير أدلة الانفراد بالتصريف في العالم المشوبة بما فيها من نعم على الحلق، والدالة بذلك الشوب على إتقان الصنع ومحكم التدبير لنظام هذا العالم وسيادة الإنسان فيه وعليه. ويشبه أن يكون هذا الكلام عودا إلى قوله: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء:11]كما تقدم هنالك فراجعه. فلما جرى الكلام على الإنذار والتحذير أعقب هنا بالاستدلال على صحة الإنذار والتحذير.
والخطاب لجماعة المشركين كما يقتضيه قوله عقبه: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67]، أي أعرضتم عن دعائه ودعوتم الأصنام، وقوله: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67].
وافتتحت الجملة بالمسند إليه معرفا بالإضافة ومستحضرا بصفة الربوبية لاستدعاء إقبال السامعين على الخبر المؤذن بأهميته حيث افتتح بما يترقب منه خبر عظيم لكونه من شؤون الإله الحق وخالق الخلق ومدبر شؤونهم تدبير اللطيف الرحيم، فيوجب إقبال السامع بشراشره إن مؤمنا متذكرا أو مشركا ناظرا متدبرا.
(14/125)
وجيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الدوام والثبات.
وبتعريف طرفيها للدلالة على الانحصار، أي ربكم هو الذي يزجي لكم الفلك لا غيره ممن تعبدونه باطلا وهو الذي لا يزال يفعل ذلك لكم.
وجيء بالصلة فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك وتحدده. فحصلت في هذه الجملة على إيجازها معان جمة خصوصية. وفي ذلك حد الإعجاز.
ويزجي: يسوق سوقا بطيئا. شبه تسخير الفلك للسير في الماء بإزجاء الدابة المثقلة بالحمل.
والفلك هنا جمع لا مفرد. والبحر: الماء الكثير فيشمل الأنهار كالفرات والدجلة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} في سورة البقرة[164].
والابتغاء: الطلب. والفضل: الرزق، أي للتجارة. وتقدم عند قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة[198]. وهذا امتنان على الناس كلهم مناسب لعموم الدعوة، لأن أهل مكة ما كانوا ينتفعون بركوب البحر وإنما ينتفع بذلك عرب اليمن وعرب العراق والناس غيرهم.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} تعليل وتنبيه لموقع الامتنان ليرفضوا عبادة غيره مما لا أثر له في هذه المنة.
[67] {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً}
بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم.
فجملة {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخبارا حقيقيا.
وجملة {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ.
وضر البحر: هو الإشراف على الغرق، لأنه يزعج النفوس خوفا، فهو ضر لها.
(14/126)
و {ضَلَّ} بضاد ساقطة فعل من الضلال، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ.
والعدول إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتي الإيجاز، أي من يتكرر رداؤكم إياهم، كما يدل عليه المضارع. فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقه اللسان، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم، وهذا إيجاز بديع.
والاستثناء من عموم الموصول، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام، فالاستثناء متصل.
ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله: {مَنْ تَدْعُونَ} خاصا بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]. ويكون الاستثناء منقطعا. ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جريا على اللغة الفصحى. ولعل هذا الوجه أرجح لأنه أنسب بقوله: {أَعْرَضْتُمْ} .
والإعراض: الترك، أي تركتم دعاء الله، بقرينة الجمع بين مقتضى المضارع من إعادة التجدد وبين مقتضى الاستثناء من انحصار الدعاء في الكون باسمه تعالى.
وقوله: {إِلَى الْبَرِّ} عدي بحرف(إلى)لتضمين {نَجَّاكُمْ} معنى أبلغكم وأوصلكم.
وجملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} اعتراض وتذييل لزيادة التعجب منهم ومن أمثالهم. و)المفور( صيغة مبالغة. أي كثير الكفر. والكفر ضد الشكر.
والتعريف في {الْأِنْسَانُ} تعريف الجنس وهو مفيد للاستغراق. فهذا الاستغراق يجوز أن يكون استغراقا عرفيا بحمله على غالب نوع الإنسان، وهم أهل الإشراك وهم أكثر الناس يومئذ، فتكون صيغة المبالغة من قوله: {كَفُوراً} راجعة إلى قوة صفة الكفران أو عدم الشكر فإن أعلاه إشراك غير المنعم مع المنعم في نعمة لا حظ له فيها.
ويجوز أن يكون الاستغراق حقيقيا، أي كان نوع الإنسان كفورا، أي غير خال من الكفران، فتكون صيغة المبالغة راجعة إلى كثرة أحوال الكفران مع تفاوتها. وكثرة كفران الإنسان هي تكرر إعراضه عن الشكر في موضع الشكر ضلالا أو سهوا أو غفلة لإسناده النعم إلى أسبابها المقارنة دون منعمها ولفرضه منعمين وهميين لا حظ لهم في الإنعام.
(14/127)
وذكر فعل(كان)إشارة إلى أن الكفران مستقر في جبلة هذا الإنسان. لأن الإنسان قلما يشعر بما وراء عالم الحس فإن الحواس تشغله بمدركاتها عن التفكر فيما عدا ذلك من المعاني المستقرة في الحافظة والمستنبطة بالفكر.
ولما كان الشكر على النعمة متوقفا على تذكر النعمة كانت شواغله عن تذكر النعم الماضية مغطية عليها، ولأن مدركات الحواس منها الملائم للنفس وهو الغالب، ومنها المنافر لها. فالإنسان إذا أدرك الملائم لم يشعر بقدرة عنده لكثرة تكرره حتى صار عادة فذهل عما فيه من نفع، فإذا أدرك المنافر استذكر فقدان الملائم فضج وضجر. وهو معنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51]. ولهذا قال الحكماء: العافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. فهذا الاعتبار هو الذي أشارت له هذه الآية مع التي بعدها وهي {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ} [الإسراء:68]الآية. ومن أجل ذلك كان من آداب النفس في الشريعة تذكيرها بنعم الله، قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم:5]ليقوم ذكر النعمة مقام معاهدتها.
[68][69] {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:69].
تفريع على جملة {أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67]، وما بينهما اعتراض. وفرع الاستفهام التوبيخي على إعراضهم عن الشكر وعودهم إلى الكفر.
والخسف: انقلاب ظاهر الأرض في باطنها من الزلزال. وتقدم في قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} في سورة النحل[45].
وفي هذا تنبيه على أن السلامة في البر نعمة عظيمة تنسونها فلو حدث لكم خسف لهلكتم هلاكا لا نجاة لكم منه بخلاف هول البحر. ولكن لما كانت السلامة في البر غير مدرك قدرها قل أن تشعر النفوس بنعمتها وتشعر بخطر هول البحر فينبغي التدرب على تذكر نعمة السلامة من الضر ثم إن محل السلامة معرض إلى الأخطار.
والاستفهام بقوله: {أَفَأَمِنْتُمْ} إنكاري وتوبيخي.
(14/128)
والجانب: هو الشق. وجعل البر جانبا لإرادة الشق الذي ينجيهم إليه، وهو الشاطئ الذي يرسون عليه، إشارة إلى إمكان حصول الخوف لهم بمجرد حلولهم بالبر بحيث يخسف بهم ذلك الشاطئ، أي أن البر والبحر في قدرة الله تعالى سيان، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في البر والبحر. وإضافة الجانب إلى البر إضافة بيانية.
والباء في {يَخْسِفَ بِكُمْ} لتعدية {يَخْسِفَ} بمعنى المصاحبة.
والحاصب: الرامي بالحصباء، وهي الحجارة. يقال: حصبه، وهو هنا صفة، أي يرسل عليكم عارضا حاصبا، تشبيها له بالذي يرمي الحصباء، أي مطر حجارة، أي برد يشبه الحجارة، وقيل: الحاصب هنا بمعنى ذي الحصباء، فصوغ اسم فاعل له من باب فاعل الذي هو بمعنى النسب مثل لابن وتامر.
والوكيل: الموكل إليه القيام بمهم موكله، والمدافع عن حق موكله، أي لا تجدوا لأنفسكم من يجادلنا عنكم أو يطالبنا بما ألحقناه بكم من الخسف أو الإهلاك بالحاصب، أي لا تجدوا من قومكم وأوليائكم من يثأر لكم كشأن من يلحقه ضر في قومه أن يدافع عنه ويطالب بدمه أولياؤه وعصابته. وهذا المعنى مناسب لما يقع في البر من الحدثان.
و(أم)عاطفة الاستفهام، وهي للإضراب الانتقالي، أي بل أ أمنتم، فالاستفهام مقدر مع أم لأنها خاصة به. أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح.
والتارة: المرة المتكررة، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال. وقيل: هي واو. والأول أظهر لوجوده مهموزا وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل: فأس وفاس، وكأس وكاس.
ومعنى {أَنْ يُعِيدَكُمْ} أن يوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم. كما يدل عليه السياق وتفريع {فَيُرْسِلَ} عليه.
والقاصف: التي تقصف، أي تكسر. وأصل القصف: الكسر. وغلب وصف الريح به، فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث، مثل {عَاصِفٌ} في قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} في سورة يونس[22]. والمعنى: فيرسل عليكم ريحا قاصفا، أي تقصف الفلك، أي تعطبه بحيث يغرق، ولذلك قال: {فَيُغْرِقَكُمْ} .
قرأ الجمهور {مِنَ الرِّيحِ} بالإفراد.وقرأ أبو جعفر {من الرياح} بصيغة الجمع.
(14/129)
والباء في {بما كفرتم} للسببية. و(ما)مصدرية، أي بكفركم، أي شرككم.
و(ثم)للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل. وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود منقذ لهم، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجد منقذا.
والتبيع: مبالغة في التابع، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه. أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر.
ووصف(تبيع) يناسب حال الضر الذي يلحقهم في البحر، لأن البحر لا يصل إليه رجال قبيلة القوم وأولياؤهم، فلو راموا الثأر لهم لركبوا البحر ليتابعوا آثار من ألحق بهم ضرا. فلذلك قيل هنا {تَبِيعاً} وقيل في التي قبلها {وكيلا} كما تقدم.
وضمير(به)عائد إما إلى الإغراق المفهوم من {يُغْرِقَكُمْ} ،وإما إلى المذكور من إرسال القاصف وغيره.
وقرأ الجمهور ألفاظ {يخسف} و {يرسل} و {يعيدكم} و {فيرسل} و {فيغرقكم} خمستها بالياء التحتية. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ـ بنون العظمة ـ على الالتفات من ضمير الغيبة الذي في قوله: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ} إلى ضمير التكلم. وقرأ أبو جعفر ورويس عن يعقوب{فتغرقكم}بمثناة فوقية. والضمير عائد إلى {الريح} على اعتبار التأنيث، أو {على الرياح} على قراءة أبي جعفر.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
اعتراض جاء بمناسبة العبرة والمنة على المشركين، فاعترض بذكر نعمته على جميع الناس فأشبه التذييل لأنه ذكر به ما يشمل ما تقدم.
والمراد ببني آدم جميع النوع، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو كما هو شأن الأحكام التي تسند إلى الجماعات.
وقد جمعت الآية خمس منن: التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات.
فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بني سائر المخلوقات الأرضية.
(14/130)
والتكريم: جعله كريما، أي نفيسا غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته. وقد مثل ابن عباس للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه بل يرفعه إلى فيه بيده ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده، فإن رفع الطعام بمغرفة والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم وهو تناول باليد.
والحمل: الوضع على المركب من الرواحل. فالراكب محمول على المركوب. وأصله في ركوب البر، وذلك بان سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها.
وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة. وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة،قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11].ومعنى حمل الله الناس في البحر: إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف، فجعل تيسير ذلك كالحمل.
وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعم ما يشاء مما يروق له، وجعل في الطعوم أمارات على النفع، وجعل ما يتناوله الإنسان من الطعومات أكثر جدا مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعا في تناول الطعوم.
وأما التفضيل على كثير من المخلوقات، فالمراد به التفضيل المشاهد لأنه موضع الامتنان. وذلك الذي جماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته، وكفى بذلك تفضيلا على البقية.
والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شؤونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم. هذا هو التفضيل المراد.
وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان وأنواع من الموجودات الخفي عنا كالملائكة والجن فليست هنا وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قبل الشريعة.فلا تفرض هنا
(14/131)
مسألة التفضيل بين البشر والملائكة المختلف في تفاصيلها بيننا وبين المعتزلة. وقد فرضها الزمخشري هنا على عادته من التحكك على أهل السنة والتعسف لإرغام القرآن على تأييد مذهبه، وقد تجاوز حد الأدب في هذه المسألة في هذا المقام، فاستوجب الغضاضة والملام.
ولا شك أن إقحام لفظ {كَثِيرٍ} في قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} مراد منه التقيد والاحتراز والتعليم الذي لا غرور فيه، فيعلم منه أن ثم مخلوقات غير مفضل عليها بنو آدم تكون مساوية أو أفضل إجمالا أو تفضيلا، وتبيينه يتلقى من الشريعة فيما بيته من ذلك، وما سكتت فلا نبحث عنه.
والإتيان بالمفعول المطلق في قوله: {تَفْضِيلاً} لإفادة ما في التنكير من التعظيم أي تفضيلا كبيرا.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} إلى قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:66ـ69]إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيرا وإنذارا، فالكلام استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمت. ولا يحسن لفظ(يوم)للتعلق بما قبله من قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]على أن يكون تخلصا من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافا ابتدائيا، ففتحه {يَوْمَ} إما فتحه إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرانية وهو فعل"اذكر"فيكون {يَوْمَ} هنا اسم زمان مفعولا للفعل المقدر وليس ظرفا.
والفاء في قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ} للتفريع لأن فعل(اذكر)المقدر يقتضي أمرا عظيما مجملا فوقع تفضيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل ينفرع على الإجمال.
وإما أن تكون فتحته بناء الإضافة اسم الزمان إلى الفعل، وهو إما في محل رفع بالابتداء، وخبره وجملة.وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش، وقد حكي ابن هشام عن ابن برهان أن الفاء تزداد في الخبر عند جميع البصريين
(14/132)
ما عدا سيبويه، وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده، أعني قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلى قوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وتقدير المحذوف: تتفاوت الناس وتتغابن. وبين تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} الخ.
والإمام: ما يؤتم به، أي يعمل على مثل عمله أو سيرته. والمراد به هنا مبين ألين من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة.
ومعنى دعاء الناس أن يدعى يا أمة فلان ويا أتباع فلان، مثل: يا أمة محمد، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، ومثل: يا أمة زرادشت، ويا أمة برهما، ويا أمة بوذا، ومثل: يا عبدة العزي، يا عبدة بعل ، يا عبدة نسر.
والباء للتعدية فعل {نَدْعُو} لأنه يتعدى بالباء، يقال: دعوته بكنيته وتداعوا بشعارهم.
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجل بالمسرة لاتباع الهداة وبالمساءة لاتباع الغواة، لأنهم إذا دعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم.
وفرع على هذا قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} تفريع التفصيل لما أجمله قوله: {نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي الناس من يؤتى كتابه، أي كتاب أعماله بيمينه.
وقوله: {فَمَنْ أُوتِيَ} عطف على مقدر يقتضيه قوله: {نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي فيؤتون كتبهم، أي صحائف أعمالهم.
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين. وتلك علامة عناية بالمأخوذ، لأن اليمين يأخذ بها من يعزم عملا عظيما قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45]،وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تصدق بصدقة من كسب طيبا ولا يقبل الله طيبا تلقاها الرحمان بيمينه وكلتا يديه يمين..."الخ، وقال الشماخ:
إذا ما رأية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وأما أهل الشقاوة فيؤتون كتبهم بشمائلهم،كما في آية الحاقة[25] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } [الحاقة:25]
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب (أما) للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرؤون كتابهم، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخير والجزاء عليه مسرة لهم ونعيما بتذكير
(14/133)
(أفعل) ليتأتى ذكر السبيل. لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق فيحال السير أشد وقعا في الأضرار منه وهو قابع بمكانه، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع. وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل. ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره. فالمعنى: وأضل سبيلا منه في الدنيا.
ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خليا عن لحاق الألم به. وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاص منه وهو مقارن للعذاب الدائم. فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}
حكاية فن من أفنين ضلالهم وعماهم في الدنيا، فالجملة عطف على جملة {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: من الآية72]ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم، وهي حال طمعهم في أن يستنزلوا النبي صلى الله عليه وسلم لأن يقول قولا فيه حسن ذكر لألهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه.
وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش، أي متولو تدبير أمورهم.
وغير الأسلوب من خطابهم في آيات {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [لاسراء: من الآية66]ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى الإقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان.
والفتن والفتون: معاملة يلحق منها ضر واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها، من تغلب على القوة وعلى الفكر، وتقدم في قوله تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل} [البقرة: من الآية191]
وعدي {يَفْتِنُونَكَ} بحرف عن لتضمينه معنى فعل كان الفتن لأجله، وهو ما فيه
(14/135)
معنى(يصرفونك).
والذي أوحي إليه هو القرآن.
هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون.
وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف. ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعدونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل: بلال، وعمار بن ياسر، وخباب، وصهيب، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم، وأن رسول الله هم بأن يظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون، فيكون المراد من {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} بعض الذي أوحينا إليك، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: من الآية52] أو ما فيه تنقيض الأصنام.
وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاق ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار. وإذ قد مائت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول: إن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو أنظارهم، أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين، وليس فيه فوات شيء على المسلمين، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه.
فالموصول في قوله {الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للعهد لما هو معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته. فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد، ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها. وفي ذلك تثبيت للنبي وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن
(14/136)
يكون.
وقوله {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} متعلق ب {يَفْتِنُونَكَ} ، واللام للعلة، أي يفعلون ذلك إضمارا منهم وطمعا في أن يفتري علينا غيره، أي غير مما أوحي إليك. وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر، فهو راجع إلى نياتهم. وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بذلك كما فهمه بعض المفسرين. إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه.
و(إن) من قوله : {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} مخففة من (إن) المشددة واسمها ضمير شان محذوف، واللام في {لَيَفْتِنُونَكَ} هي اللام الفارقة بين (إن) المخففة من الثقيلة وبين (إن) النافية فلا تقتضي تأكيدا للجملة.
وجملة {وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} . و(َإِذاً) حرف جزاء والنون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل {َيَفْتِنُونَكَ} بما معه من المتعلقات مقحما بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع (إذا) مفيدة معنى فاء التفريع.
ووجه عطفها بالوا دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي صلى الله عليه وسلم فيها وألحوا عليه ناسب أن يعطف على جملة أحوالهم. والتقدير: فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلا. واللام في قوله {لَاتَّخَذُوكَ} اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلا.
واللام في قوله {لَاتَّخَذُوكَ} لام جواب ( لو ) إذ كان فعلا ماضيا مثبتا.
والخليل: الصديق. وتقدم عند قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: من الآية125] الله
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء:75] يجوز أن يكون هذا كلاما مستقلا غير متصل بقوله {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}
(14/137)
[الإسراء:73]
بناء على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة. وهذه منة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه المشركين. ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركونا فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة.
و(لولا) حرف امتناع لوجود، أي يقتضي امتناعا لوجود، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه، أي بسبب وجود شرطه.
والتثبيت: جعل الشيء ثابتا، أي متمكنا من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع. وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير. وتقدم عند قوله تعالى {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: من الآية265]
وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته. والمراد تثبيت فهمه ورأيه. وهذا من الحكم على الذات. والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: من الآية23]. فالمعنى: ولولا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم.
واللام في {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} يجوز أن تكون لام جواب لولا ، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط.
والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية: أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركون منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.
والمعنى على الوجه الثاني: ولولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافا للمشركين، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم، أي فلا فائدة من ذلك. ولولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلا، أي تميل إليهم، أي توعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استنادا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغترارا بخفة بعض ما سألوه في جانب عظم ما وعدوا به من إيمانهم.
(14/138)
والركون: الميل بالركن، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب. وتقدم في قوله {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة هود الآية[113 ]ما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى {وإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } في هذه السورة.
وانتصب {تَرْكَنُ} على المفعول المطلق ل {تَرْكَنُ} أي شيئا من الركون. ووجه العدول عن مصدر )تركن( طلب الخفة لأن مصدر { تَرْكَنُ: وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح، وإنما لم يقتصر على {قلِيلاً} لأن تنكير {شَيْئاً} مفيد التقليل، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل، فإن كلمة شيء لتوغلها في إيهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقا مفيدة للتقليل غالبا كقوله تعالى {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء من لآية20]
و)إذن( الثانية )جزاء ل {كِدْتَ تَرْكَنُ} ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له. فركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي: لولا الامتناعية. وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من {شَيْئاً} ، والتقليل المستفاد من {قَلِيلاً} .
أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع. ودخلت قد في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوما، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.
وجملة {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} جزاء لجملة {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} والمعنى: لو تركن إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. ولما في إذن من معنى الجزاء استغني عن ربط الجملة بحرف التفريع. والمعنى: لقد كدت تركن فلأذقناك.
والضعف بكسر الضاد : مماثل مقدار شيء ذي مقدار، فهو لا يكون إلا مبينا بجنسه لفظا أو تقديرا مثل قوله تعالى {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [لأحزاب من الأية30 ] أي ضعفي ما اعد لتلك الفاحشة. ولما كان كذلك ساغ إطلاقه دون بيان اعتمادا على بيان السياق كما هنا، فإن ذكر الإذاقة في مقام التحذير ينبئ بأنها إذاقة عذاب موصوف بأنه ضعف.
ثم إن الضعف أطلق هنا على القوي الشديد لعدم حمل الضعف على حقيقته إذ ليس ثم علم بمقدار العذاب يراد تضعيفه كقوله {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} وتقدم ذلك في
(14/139)
سورة الأعراف.
وإضافة الضعف إلى الحياة وإلى الممات على معنى (في)، فإن تقدير معنى (في) بين المتضايفين لا يختص بإضافة ما يضاف إلى الأوقات. فالتقدير: لأذقناك ضعفا في الحياة وضعفا في الممات، فضعف عذاب الحياة هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.
ويشبه أن يكون قوله {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} في استمرار ضعف الحياة، فيكون المعنى: لأذقناك ضعف الحياة حتى الممات.
فليس المراد من ضعف الممات عذاب الآخرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ركن إليهم شيئا قليلا لكان ذلك عن اجتهاد واجتلابا لمصلحة الدين في نظره، فلا يكون على الاجتهاد عقاب في الآخرة إذ العقاب الأخروي لا يكون إلا على مخالفة في التكليف، وقد سوغ الله لنبيه الاجتهاد وجعل للمخطئ في اجتهاده أجرا كما قرر في تفسير قوله تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في سورة ألأنفال[68 ].
وأما مصائب الدنيا وأرزاؤها فهي مسببة على أسباب من الأغلاط والأخطاء فلا يؤثر في التفادي منها حسن النية إن كان صاحبها قد أخطأ وجه الصواب، فتدبر في هذه المعاني تدبر ذوي الألباب، ولهذا خولف التعبير المعتاد استعماله لعذاب الآخرة. وعبر هنا ب {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}
وجملة {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} معطوفة على جملة {لَأَذَقْنَاكَ} .
وموقعها تحقيق عدم الخلاص من تلك الإذاقة. و)ثم( للترتيب الرتبي لأن عدم الخلاص من العذاب أهم من إذاقته، فرتبته في الأهمية أرقى. والنصير: الناصر المخلص من الغلبة أو الذي يثأر للمغلوب، أي لا تجد لنفسك من ينتصر لك فيصدنا عن إلحاق ذلك بك أو يثأر لك منا.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}
(14/140)
عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:3]تعدادا لسيئات أعمالهم. والضمائر متحدة.
والاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فز بمعنى بارح المكان، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازا، أي خارجا من مكة. وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} في هذه السورة [الإسراء:64].والمعنى: كادوا أن يخرجوك من بلدك. وذلك بأن هموا بأن يخرجوه كرها ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرا عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يبقوه بينهم حتى يقتلوه.
والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف للعهد،أي من أرضك وهي مكة.
وقوله: {لِيُخْرِجُوكَ} تعليل للاستفزاز، أي استفزازا لقصد الإخراج.
والمراد بالإخراج: مفارقة المكان دون رجوع. وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج.
وجملة {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خَلفَكَ} عطف على جملة {وَإِنْ كَادُوا} . أو هي اعتراض في آخر الكلام، فتكون الواو للاعتراض و(ذا)ظرفا لقوله {لا يَلْبَثُونَ} وهي(إذا)الملازمة الإضافة إلى الجملة.
ويجوز أن يكون(إذا)حرف جواب وجزاء لكلام سابق، وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون. والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوبا ب(أن) مضمرة، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه.
ويجوز أن تكون(إذا) ظرفا للزمان، وتنونيها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة. وهو غير بعيد. ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادرا لانتفاء معنى التسبب، ولأنها حينئذ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء.
والتقير: وإذا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلا.
وقرأ الجمهور {خَلفَكَ} .
و {خَلفَكَ} أريد به بعدك. وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازا في البعدية، أي لا
(14/141)
يلبثون بعدك.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف {خِلافَكَ} وهو لغة في خلف. وتقدم عند قوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81)].
واللبث: الاستقرار في المكان، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مهاجرا وكانوا السبب في خروجه فكأنهم أخرجوه، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} في سورة البقرة[91]، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلا ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك.
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه، أي المتسببين في خروجه، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلا.
والسنة: العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها. وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران:136]، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده، خرج هود من ديار عاد إلى مكة، وخرج صالح من ديار ثمود، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم، فإضافة {سُنَّةَ} إلى {مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} لأدنى ملابسة، أي سنتنا فيهم بدليل قوله: {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقية.
وانتصب {سُنَّةَ} من {مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} على المفعولية المطلقة. فإن كانت {سُنَّةَ} اسم مصدر فهو بدل من فعله. والتقدير: سننا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا، أي لأجلهم. فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع؛ وإن كانت {سُنَّةَ} اسما جامدا فانتصابه على الحال لتأويله بمعنى اشتقاقي.
وجملة {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلا. وإنما سن الله هذه السنة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حكمة الله تعالى لأن تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب.
(14/142)
وجملة {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} اعتراض لتكملة البيان.
والمعنى: أن ذلك كائن لا محالة لأننا أجريناه على الأمم السالفة ولأن عادتنا لا تتحول.
والتعبير ب {لا تَجِدُ} مبالغة في الانتفاء كما في قوله: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} في سورة الأعراف[117].
والتحويل: تغيير الحال وهو التبديل. ومن غريب التفسير أن المراد: أن اليهود قالوا للنبي الحق بأرض الشام فإنها أرض الأنبياء فصدق النبي قولهم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية، وهي رواية باطلة. وسبب غزوة تبوك معروف في كتب الحديث والسير ومن أجل هذه الرواية قال فريق: إن الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة.
[117] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}
كان شرع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين. وأيضا فقد عينت الآية أوقاتا للصلوات بعد تقرر فرضها، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعا للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذ المبتدأ بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآيات[الإسراء:23].
فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبي صلى الله عليه وسلم بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بان أمره بأعظم عبادة يعبده بها، وبالزيادة منها طلبا لازدياد النعمة عليه، كما دل عليه قوله في آخر الآية {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
فالخطاب بالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريع تدخل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم، وقد علم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عند اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال
(14/143)
القوي، كمن سأله: ألنا هذه أم للأبد? فقال: بل للأبد.
والإقامة: مجاز في المواظبة والإدامة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة[3].
واللام في {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لام التوقيت. وهي بمعنى(عند).
والدلوك: من أحوال الشمس. فورد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي. وورد بمعنى: ميل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر. وورد بمعنى غروبها. فصار لفظ الدلوك مشتركا في المعاني الثلاثة.
والغسق: الظلمة، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق. وذلك وقت العشاء. ويسمى العتمة،أي الظلمة.
وقد جمعت الآية أوقاتا أربعة، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه. والقرينة واضحة. وفهم من حرف(إلى)الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل {أَقِمِ الصَّلاةَ} فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة. وليس المراد غاية الصلاة واحدة جعل وقتها متسعا. لأن هذا فهم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل. وقد زاد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بيانا للآية.
وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء. فكلمة"دلوك"لا تعادلها كلمة أخرى.
وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في"الموطأ":أن أول الوقت هو المقصود. وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلا في"الموطأ"وموصولا عن أنس ابن مالك عند ابن عبد البر وغيره: أن للصبح وقتا له ابتداء ونهاية. وهو أيضا ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عدا المغرب فقد سكت عنها الأثر. فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها. وهذا الثاني أرجح، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين.
وجعل الغسق نهاية للأوقات، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشان المتعارف في الغاية بحرف(إلى) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة، وهذا جمع بديع.
(14/144)
ثم عطف {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} على {الصَّلاةَ} .والتقدير: وأقم قرآن الفجر، أي الصلاة به. كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآنا كقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]،أي صلوا به نافلة الليل.
وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضا.
ويجوز أن يكون عطف {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} عطف جملة والكلام على الإغراء، والتقدير: والزم قرآن الفجر، قاله الزجاج. فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم.
وهذا مجمل في كيفية الصلوات. ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل.
وجملة {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا} استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بان صلاة الفجر مشهودة، أي محضورة. وفسر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد في الحديث:"وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح". وذلك زيادة في فضلها وبركتها. وأيضا فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذ.
[79] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}
عطف على {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]فإنه في تقدير جملة لكونه معمولا لفعل:{أَقِمِ} [الإسراء:78].
وقدم المجرور المتعلق ب"تهجد"على متعلقه اهتماما به وتحريضا عليه. وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء. وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها. وهو استعمال فصيح. ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ففيهما فجاهد"،وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} في سورة براءة[7].
وجعل الزجاج والزمخشري قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ} في معنى الإغراء بناء على أن نصب
(14/145)
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]على الإغراء فيكون {فَتَهَجَّدْ} تفريعا على الإغراء تفريع مفصل على مجمل، وتكون(من)اسما بمعنى(بعض)كالتي في قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [النساء:46]وهو أيضا حسن.
وضمير {بِهِ} به للقرآن المذكور في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]وإن كان المعاد مقيدا بكونه في الفجر والمذكور هنا مرادا مطلقه، كقولك. عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك.
والباء للسببية.
والتهجد: الصلاة في أثناء الليل. وهو اسم مشتق من الهجود. وهو النوم فنادة التفعل فيه للإزالة مثل التحرج والتأثم.
والنافلة: الزيادة من الأمر المحبوب.
واللام في {لَكَ} متعلقة ب {نَافِلَةً} وهي لام العلة. أي نافلة لأجلك. وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب. وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة. وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة المزمل[20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} إلى قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} .وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له. ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاما محمودا. فجملة {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ} تعليل لتخصيصه بإيجاب لتهجد عليه. والرجاء من الله تعالى وعد. فالمعنى: ليبعثك ربك مقاما محمودا.
والمقام: محل القيام. والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا. وإلا فهو المجلس.
وانتصب {مَقَاماً} على الظرفية ل {يَبْعَثَكَ} .
ووصف المقام بالمحمود وصف مجازي. والمحمود من يقوم فيه. أي يحمد أثره فيه. وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام. ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى.
وفي"صحيح البخاري"عن ابن عمر" أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم
(14/146)
الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع!حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود".وفي"جامع الترمذي"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: هي الشفاعة. قال: هذا حديث حسن صحيح" .
وقد ورد وصف الشفاعة في"صحيح البخاري"مفصلا. وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر.
[80] {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}
لما أمره الله تعالى بالشكر الفعلي عطف عليه الأمر بالشكر اللساني بأن يبتهل الله بسؤال التوفيق في الخروج من مكان والدخول إلى مكان كيلا يضره أن يستفزه أعداؤه من الأرض ليخرجوه منها، مع ما فيه من المناسبة لقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79]،فلما وعده بأن يقيمه مقاما محمودا ناسب أن يسأل أن يكون ذلك حالة في كل مقام يقومه. وفي هذا التلقين إشارة إلهية أن الله تعالى مخرجه من مكة إلى مهاجر. والظاهر أن هذه الآية نزلت قبيل العقبة الأولى التي كانت مقدمة للهجرة إلى المدينة.
والمدخل والمخرج بضم الميم وبفتح الحرف الثالث أصله اسم مكان الإدخال والإخراج. اختير هنا الاسم المشتق من الفعل المتعدى للإشارة إلى أن المطلوب دخول وخروج ميسران من الله تعالى وواقعان بإذنه. وذلك دعاء بكل دخول وخروج مباركين لتتم بين المسؤول وبين الموعود به وهو المقام المحمود. وهذا السؤال يعم كل مكان يدخل إليه ومكان يخرج منه.
والصدق: هنا المكان وما يحمد في نوعه، لأن ما ليس بمحمود فهو كالكاذب لأنه يخلف ظن المتلبس به.
وقد عمت هذه الدعوة جميع الدعوة جميع المداخل إلى ما يقدر له الدخول إليه وجميع المخارج التي يخرج منها حقيقة أو مجازا. وعطف عليه سؤال التأييد والنصر في تلك المداخل والمخارج وغيرها من الأقطار النائية والأعمال القائم بها غيره من أتباعه وأعدائه بنصر أتباعه وخذل أعدائه.
(14/147)
فالسلطان: اسم مصدر يطلق على السلطة وعلى الحجة وعلى الملك. وهو في هذا المقام كلمة جامعة، على طريقة استعمال المشترك في معانيه أو هو من عموم المشترك، تشمل أن يجعل له الله تأييدا وحجة وغلبة وملكا عظيما، وقد آتاه الله ذلك كله، فنصره على أعدائه، وسخر له من لم ينوه بنهوض الحجة وظهور دلائل الصدق، ونصره بالرعب.
ومنهم من فسر المدخل بأن المخرج الإخراج إلى فتح مكة والمدخل الإدخال إلى بلد مكة فاتحا، وجعل الآية نازلة قبيل الفتح، فبنى عليه أنها مدنية، وهو مدخول من جهات. وقد تقدم أن السورة كلها مكية على الصحيح.
والنصير: مبالغة في الناصر، أي سلطانا ينصرني. وإذا قد كان العمل القائم به النبي هو الدعوة إلى الإسلام كان نصره تأييدا له فيما هو قائم به، فصار هذا الوصف تقييدا للسلطان بأنه لم يسأل سلطانا للاستعلاء على الناس، وإنما سأل سلطانا لنصره فيما يطلب النصرة وهو التبليغ وبث الإسلام في الناس.
[81] {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}
أعقب تلقينه الدعاء بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبئ بحصول إجابة الدعوة الملهمة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى.
ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطال الباطل كان الوعد بظهور الحق وعدا بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها.
ومجيء الحق مستعمل في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيها للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايبا فورد جائيا.
و {زَهَقَ} اضمحل بعد وجوده.ومصدره الزهوق والزهق. وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيما بينهم ففارقهم. والمعنى: استقر وشاع الحق الذي يدعوا إليه النبي وانقض الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.
(14/148)
وجملة {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق.
وبهذا كانت الجملة تذييلا لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها. والمعنى: ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له.
ودل فعل{كان}على أن الزهوق شنشنة الباطل، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل، كما تقدم في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} في صدر سورة يونس[2].
[82] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}
عطف على جملة {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [لإسراء:81]على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73]. فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريبا إلى هلاك وأن دينهم صائر إلىالاضمحلال، أعلن له ولهم في هذه الآية: أن ما منه غيظهم وحنقهم، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء، أنه لا يزال متجددا مستمرا، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة للظالمين، ولأن القرآن مصدر الحق ومدحض الباطل أعقب قوله: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [لإسراء:81]بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} الآية. ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فعل المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمنا طويلا.
و {مَا هُوَ شِفَاءٌ} مفعول {َنُنَزِّلُ} .و {مِنَ الْقُرْآنِ} بيان لما في(ما)من الإبهام كالتي في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]،أي الرجس الذي هو الأوثان. وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} إلخ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه
(14/149)
بحيث يعرف به. والمعنى: ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن. وليست(من)للتبعيض ولا للابتداء.
والشفاء حقيقته زوال الداء، ويستعمل مجازا في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيها له ببرء السقم، كقول عنترة:
ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها
قيل الفوارس: ويك عنتر اقدم
والمعنى: أن القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده، كل آية من ذلك مشتملة على هدي وصلاح حال للمؤمنين المتبعينه.
ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم. أي الشرك. فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خسارا بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبعد ما بينهم وبين الإيمان. وهذا كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124ـ125].
وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه. وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في"صحيح البخاري"وجامع الترمذي"وغيرهما. وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكبا فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا، فلدغ سيد الحي فأتونا، فقالوا: أفيكم أحد يرقي من العقرب? قال: قلت: نعم ولكن لا أفعل حتى يعطونا، فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ" الحديث. وفيه:"حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال: وما يدريك أنها رقية، قلت: يا رسول الله شيء ألقي في روعي(أي إلهام ألهمه الله)،قال: كلوا وأطعمونا من الغنم".فهذا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه .
[83] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُساً}
(14/150)
لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس، وكان إعراض المشركين عنه حرمانا عظيما لهم من خيرات كثيرة، ولم يكن من شان أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خسارا مستغربا من شانه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان، وذلك بعد الاستغال بما هو فيه من نعمة هويها وأولع بها. وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لولا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصارى المطلوب، وما هي إلا إلى زوال قريب، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]وقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196ـ197].
فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها.
والتعريف في{الْأِنْسَانِ}تعريف الجنس، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذ كفار وأكثر العرب مشركون. فالمعنى: إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا. وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاء لأنفسهم وشكر النعمة من شيمهم والصبر على الضر من خلقهم.
والمراد بالإنعام: إعطاء النعمة. وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق، كما في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69].
والإعراض: الصد. وضد الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63].وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام[68].
والنأي: البعد. وتقدم في قوله تعالى: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} في سورة الأنعام[26].
والجانب: الجنب. وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد. وهما جانبان: يمين ويسار.
والباء في قوله: {بِجَانِبِهِ} للمصاحبة، أي بعد مصاحبا لجانبه، أي مبعدا جانبه. والبعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء. قال عنترة:
(14/151)
وكأنما ينأى بجانب دفها الـ ... وحشي من هزج العشي مؤوم1
فالمفاد من قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} صد عن العبادة والشكر. وهذا غير المفاد من معنى {أَعْرَضَ} فليس تأكيدا له. فالمعنى: أعرض وتباعد.
وحذف متعلق {أَعْرَضَ وَنَأَى} لدلالة المقام عليه من قوله {أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ} ،أي أعرض عنا وأجفل منا، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا.
وقرأ الجمهور {وَنَأَى} بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة.
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر {وناء} بألف بعد النون ثم همزة. وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف. من ذلك قولهم: راء في رأى، وقولهم: آرام في أرام، جمع رئم، وقيل: ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل، أي عن الشكر، أي في معنى قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [لأعراف: 176].
وجملة {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا} أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييأس من الخير ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة فصلت[51] {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} كما سيأتي هنالك.
ودل قوله: {كَانَ يَؤُوساً} على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة. وأقحم معه فعل (كان) الدال على رسوخ الفعل، تعجيبا من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة.
[84] {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}
(1) أراد أنها مجفلة في سيرها نشطة،فهي حين تسير تميل إلى جانبها كان هراً يخدش جانبها الأيسر فتميل إلى جهة اليمين،أي لاتسير على استقامة،وذلك من نشاط الدواب.
??
??
??
??
(14/152)
هذا تذييل،وهو تنهية للغرض الذي ابتدئ من قوله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء:66]الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد، وإلى التحذير من عواقب كفران النعم. وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الآية[الإسراء:71]،وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
ولما في كلمة(كل)من العموم كانت الجملة تذييلا.
وتنوين(كل)تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أحد مما شمله عموم قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء:72] وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82] وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإسراء:83].
والشاكلة: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه. قال النابغة يذكر ثوبا يشبه به بنيات الطريق:
له خلج تهوي فرادى وترعوي ... إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل
وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا. وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
وفرع عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} .وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً} الآية[سبأ:24].
[85] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير {يَسْأَلونَكَ} هو مرجع الضمائر المتقدمة، فالسائلون عن الروح هم قريش. وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل عنه، فقالوا: سلوه عن الروح، قال: فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم. وحينئذ فلا3
(14/153)
إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية. وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسببا على نزولها بين نزول تلك الآيات.
واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة. وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده، كما كان بين أمية بن خلف وسعد بن معاذ. وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من"صحيح البخاري".
روى ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاثة. وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف. فسألته قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة.
وهذه الرواية تثير إشكالا في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف. ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفردا أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة.
ويجوز أن تكون آية سؤال مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف. والجمهور على أن الجميع نزل بمكة، قال الطبري عن عطاء ابن يسار نزل قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} بمكة.
وأما ما روي في"صحيح البخاري"عن ابن مسعود أنه قال:"بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح. فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشا، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير.
هذا، والذي يترجح عندي: أن فيما ذكره أهل السير تخليطا، وأن قريشا استقوا من
(14/154)
اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى. بناء على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الاسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتأريخ بلاد الروم، فتعين أن اليهود ما لقنوا قريشا إلا السؤال عن الروح. وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف، على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شان الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس.
وسؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوه عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالة فيه.
والروح: يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوما وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [صّ:72]. وهذا يسمى أيضا بالنفس كقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً} [الشورى:52] وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171].
ويطلق لفظ(الروح)على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193ـ194].
واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا: المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالا عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه . وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم.
(14/155)
وعن قتادة والحسن: أنهم سألوا عن جبريل، والأصح القول الأول. وفي الروض الأنف أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة، فقال لهم: هو جبريل عليه السلام . وقد أوضحناه في سورة الكهف.
وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم، به يكون الإنسان مدركا وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة.
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله. أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعمله. فلفظ {أمر} يحتمل أن يكون مرادف الشيء. فالمعنى: الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله. فإضافة{أمر}إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علم.
و(من)للتبعيض، فيكون هذا الإطلاق كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً} [الشورى:52]. ويحتمل أن يكون الأمر أمر التكوين. فإما أن يراد نفس المصدر وتكون(من) ابتدائية كما في قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و(من) تبعيضية، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المراد بالروح جبريل عليه السلام . أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جوابا عن سؤالهم.
وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال:"لم يأته في ذلك جواب"اهـ. أي أن قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ليس جوابا ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بان هذا من العلم الذي لم يؤتوه. والاحتمالات كلها مرادة، وهي كلمة جامعة. وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفا بالجنس وهو رسم.
وجملة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} يجوز أن تكون مما أمر الله رسوله أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم، ويجوز أن يكون تذييلا أو اعتراضا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب، والمخاطبون متفاوتون في القليل
(14/156)
المستثنى من المؤتى من العلم. وأن يكون خطابا للمسلمين.
والمراد بالعلم هنا المعلوم، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله. ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق.
وفي"جامع الترمذي"قالوا(أي اليهود): "أوتينا علما كثيرا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فأنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} الآية[الكهف:109].
وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}، أفعنيتنا أم قومك? قال: كلا قد عنيت. قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء. فقال رسول الله: هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
هذا، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم. وكلها لا تعدو أن تكون رسوما خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان.
وإذ قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعدادا لتجلي بعض ماهية الروح، فلذلك لا نجاري الذين قالوا: إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة. فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في"العواصم"،والنووي في"شرح مسلم": أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون. فقال جمهور
(14/157)
المتكلمين: إنها من الجواهر المجردة. وهو غير بعيد عن قول بعضهم: هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس. وقال قدماء الفلاسفة: هي قديمة. وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم. ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى. فقيل: الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها. وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين، وقيل: تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب.
[86] [87] {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [الإسراء:87]
هذا متصل بقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82]الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]تلقين كلمة علم جامعة، وتضمن أن الأمة أوتيت علما ومنعت علما. وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته، أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعا لغرور النفس، لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجابا بتميزها عمن دونها فيه. فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه، وخوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه أعظم علم، فإذا كان وجود علمه خاضعا لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره، تعريضا لبقية العلماء. فالكلام صريحة تحذير، وهو كناية عن الامتنان كما دل عليه قوله بعده {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} وتعريض بتحذير أهل العلم.
واللام موطئة للقسم المحذوف قبل الشرط.
وجملة {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} جواب القسم. وهو دليل جواب الشرط ومغن عنه.
و {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا} بمعنى لنذهبنه، أي عنك، وهو أبلغ من نذهبه كما تقدم في قوله: {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]
وما صدق الموصول القرآن.
و(ثم)للترتيب الرتبي، لأن نفي الطمع في استرجاع المسلوب أشد على النفس من
(14/158)
سلبه، فذكره أدخل في التنبيه على الشكر والتحذير من الغرور.
والوكيل: من يوكل إليه المهم. والمراد به هنا المدافع عنك والشفيع لك. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب(على). ولما فيه من معنى التعهد والمطالبة عدي إلى المردود بالباء. أي متعهدا بالذي أوحينا إليك. ومعنى التعهد: به التعهد باسترجاعه، لأنه في مقابلة قوله: {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ولأن التعهد لا يكون بذات شيء بل بحال من أحواله فجرى، الكلام على الإيجاز.
وذكر هنا {وَكِيلاً} وفي الآية قبلها {نَصِيرًا} لأن معنى هذه على فرض سلب نعمة الاصطفاء، فالمطالبة بإرجاع النعمة شفاعة ووكالة عنه، وأما الآية قبلها فهي في فرض إلحاق عقوبة به. فمدافعة تلك العقوبة أو الثأر بها نصر.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} منقطع فحرف الاستثناء فيه بمعنى الاستدراك. وهو استدراك على ما اقتضاه فعل الشرط من توقع ذلك، أي لكن رحمة من ربك نفت مشيئة الذهاب بالذي أوحينا إليك فهو باق غير مذهوب به.
وهذا إيماء إلى بقاء القرآن وحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وموقع {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} موقع التعليل للاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك منعت تعلق المشيئة بإذهاب الذي أوحينا إليك، لأن فضله كان عليك كبيرا فلا يحرمك فضل الذي أوحاه إليك. وزيادة فعل(كان)لتوكيد الجملة زيادة على توكيدها بحرف التوكيد المستعمل في معنى التعليل والتفريع.
[88] {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}
استئناف للزيادة في الامتنان. وهو استئناف بياني لمضمون جملة {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [الإسراء]. وافتتاحه ب(قل)للاهتمام به. وهذا تنويه يشرف القرآن فكان هذا التنويه امتنانا على الذين آمنوا به وهم الذين كان لهم شفاء ورحمة، وتحديا بالعجز على الإتيان بمثله للذين أعرضوا عنه وهم الذين لا يزيدهم إلا خسارا.
واللام موطئة للقسم.
(14/159)
وجملة {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب القسم المحذوف.
وجرد الجواب من اللام الغالب اقترانها بجواب القسم كراهية اجتماع لامين: لام القسم، ولام النافية.
ومعنى الاجتماع: الاتفاق واتحاد الرأي، أي لو تواردت عقول الإنس والجن على أن يأتي كل واحد منهم بمثل هذا القرآن لما أتوا بمثله. فهو اجتماع الرأي لا اجتماع التعاون، كما تدل عليه المبالغة في قوله بعده: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
وذكر الجن مع الإنس لقصد التعميم، كما يقال:"لو اجتمع أهل السماوات والأرض". وأيضا لأن المتحدين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجن يقدرون على الأعمال العظيمة.
والمراد بالمماثلة للقرآن: المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع. وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي.
وجملة {لا يَأْتُونَ} جواب القسم الموطأ له باللام. وجواب(إن)الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم.
وجملة{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}في موقع الحال من ضمير {لا يَأْتُونَ} .
و(لو)وصلية، وهي تفيد أن ما بعدها مظنة أن لا يشمله ما قبلها. وقد تقدم معناها عند قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
والظهير: المعين. والمعنى: ولو تعاون الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله فكيف بهم إذا حاولوا ذلك متفرقين.
وفائدة هذه الجملة تأكيد معنى الاجتماع المدلول بقوله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} أنه اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد.
وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن.
[89] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}
لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما
(14/160)
سواه من الكلام، مدمجا في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثل. وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال.وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة[126]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال، أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه.
فجملة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} معطوفة على جملة {قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ} مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز.
وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله، فمورد التأكيد هو فعل {صَرَّفْنَا} الدال على أنه من عند الله.
والتصريف تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء:41].
وزيد في هذه الآية قيد{للناس}دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز، فكان الناس مقصودين به قصدا أصليا مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم.
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل {صَرَّفْنَا} على الآخر: أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقا لتحديهم والحجة عليهم، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة، إلا أن الاعتبارات الطارئة تقدم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية، لأن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالا. ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. والأظهر كون التعريف في {الناس} للعموم كما يقتضيه قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} .
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} بخلاف الآية السابقة، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزا لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بين من جهتين، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة[23] {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فإن(من)للتبعيض وتنوين(مثل)للتعظيم
(14/161)
والتشريف، أي من كل مثل شريف. والمراد: شرفه في المقصود من التمثيل.
و(من)في قوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} .للتبعيض، و(كل)تفيد العموم، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل.
وحذف مفعول {أبى} للقرينة، أي أبى العمل به.
وفي قوله: {إِلَّا كُفُوراً} تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي تأكيد في صورة النقص، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة، ثم يأتي المستثنى مؤكدا لمعنى المستثنى منه، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة. وهو استثناء مفرع لما في فعل{أبى}من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93].
والكفور ـ بضم الكاف ـ المحجود، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا.
[90ـ93] {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً}
عطف جملة {وَقَالُوا} على جملة {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:99]. أي كفروا بالقرآن وطلبوا بمعجزات أخرى.
وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفورا، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلا جميعه أو بعضهم قائلا بعضه.
ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات. وقد ذكر ابن إسحاق: أن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وناسا
(14/162)
معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم. فأسرع إليهم حرصا على هداهم، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم، وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد.وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا ينبغي غير نصحهم، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية.
وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93]إلى آخره، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي.
وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف(لن)المفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه.
والمراد بالأرض: أرض مكة، فالتعريف للعهد، ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات.
والتفجير: مصدر فجر بالتشديد مبالغة غي الفجر، وهو الشق باتساع. ومنه سمي فجر الصباح فجرا لأن الضوء يشق الظلمة شقا طويلا عريضا، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه. ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف:33]وقوله: {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ} .
وقرأه الجمهور ـ بضم التاء وتشديد الجيم ـ على أنه مضارع(فجر)المضاعف. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ـ بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة ـ على أنه مضارع فجر كنصر، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع.
ومعنى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك أنك رسول الله إلينا.
والإيمان: التصديق. يقال: آمنه، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]وقال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]. وهذه اللام من قبيل ما سماه في"مغني اللبيب"لام التبيين. وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها، فإن مجرور اللام بعد فعل {نُؤْمِنَ} مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد. وقد يقال: إنها لدفع التباس مفعول فعل"آمن" بمعنى صدق بمفعول فعل(آمن)إذا جعله أمينا. وتقدم قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة يونس:83].
والينبوع: اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها. وصيغة يفعول صيغة مبالغة
(14/163)
غير قياسية. والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فيعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري. وقيل: اشتق من العب المجازي. ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل: يكسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر. وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف العجم. وقال السيوطي في"المزهر": إن ابن دريد عقد له في"الجمهرة"بابا.
والجنة، والنخيل، والعنب، والأنهار تقدمت في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة[266].
وخصوا هذه الجنة بأن تكون له، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه. والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة. وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيدا لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا: حتى تفجر لنا ينبوعا يسقي الناس كلهم، أو تفجر أنهارا تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك. فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه. وهذا كقولهم: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93].
وذكر المفعول المطلق بقوله: {تَفْجِيراً} للدلالة على التكثير لأن {تفجر} قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفجر، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106]،وهو المناسب لقوله: {خلالها} ، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار. فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة. ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة {فَتُفَجِّرَ} هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله. وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن.
وقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم، يريدون بذلك التوسيع عليه، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم. وهذا حكاية لقولهم كما قالوا. ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء. وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي {كَمَا زَعَمْتَ} إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد. وعنوا به قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] وبقوله: {وَإِنْ
(14/164)
يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب. وجعلوا(من)في قوله تعالى: {كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ} [الطور:44]تبعيضية، أي قطعة من الأجرام السماوية، فلذلك أبوا تعدية فعل {تُسْقِطَ} إلى ذات السماء. واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد.
و"الكسف"ـ بكسر الكاف وفتح السين ـ جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء مثل سدرة وسدر. وكذلك قرأه نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وقرأه الباقون بسكون السين بمعنى المفعول، أي المكسوف بمعنى المقطوع.
والزعم: القول المستبعد أو المحال.
والقبيل: الجماعة من جنس واحد. وهو منصوب على الحال من الملائكة، أي هم قبيل خاص غير معروف، كأنهم قالوا: أو تأتي بفريق من جنس الملائكة.
والزخرف: الذهب.
وإنما عدي {تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} بحرف(في) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم.
ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرءونه، فيه شهادة بأنه بلغ السماء. قيل: قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية، قال: حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك.
ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتابا كاملا دفعة واحدة، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن، توهما بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلا من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه. ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه.
واللام في قوله: {لِرُقِيِّكَ} يجوز أن تكون لام التبيين. على أن"رقيك"مفعول {نُؤْمِنَ} مثل قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} فيكون ادعاء الرقي منفيا عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب. ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول {نُؤْمِنَ} محذوفا دل عليه قوله قبله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} . والتقدير: لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتابا. والمعنى: أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتابا يرونه نازلا من السماء.
وهذا تورك منهم وتهكم.
(14/165)
ولما كان اقتراحهم اقتراح ملاجة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كرمهم بكلمة {سُبْحَانَ رَبِّي} التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة، ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا، أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها.
وقرأ الجمهور {قل} بصيغة فعل الأمر. وقرأه ابن كثير، وابن عامر {قال} بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} على طريقة الالتفات.
[94،95] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}
بعد أن عدت أشكال عنادهم ومظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشرا مثلهم. فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير. فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، وما قصدهم من مختلف المقترحات إلا إرضاء أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا: إن ذلك سحر، أو قلوبنا غلف، أو نحو ذلك. ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضا رد بالخصوص لقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء:92]ورد لقولهم: {تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} إلى آخره.
وقوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه. ولذلك جعل قولهم ذلك مانعا من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم.
وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلا لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم.
فالظاهر حمل التعريف في {الناس} على الاستغراق. أي ما منع جميع الناس أن
(14/166)
يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]. وحكي مثله عن هود {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33ـ34].وعن قوم صالح {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:154]،وعن قوم شعيب {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:186]،وحكي عن قوم فرعون: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47]. وقال في قوم محمد صلى الله عليه وسلم: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [قّ:2].
وإذا شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذا الشبهة بقوله: {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} [الإسراء:95]الآية، فاختص الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصا لم يلقنه من سبق من الرسل، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوالهم فقال عن نوح {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:117ـ118].
وقال مثله عن هود وصالح، وقال عن موسى وهارون، {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48]،
فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الظلال بما يناسب كونه خاتم الرسل، ولهذا قال في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم" .
ومعنى قوله: {لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} الخ: أن الله يرسل الرسول للقوم من نوعهم للتمكن من المخالطة لأن اتحاد النوع هو قوام تيسير المعاشرة، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام:9]،أي في صورة رجل ليمكن التخاطب بينه وبين الناس.
وجملة {يَمْشُونَ} وصف ل {مَلائِكَةٌ} .
و {مُطْمَئِنِّينَ} حال. والمطمئن: الساكن. وأريد به هنا المتمكن غير المضطرب، أي مشي قرار في الأرض، أي لو كان في الأرض ملائكة قاطنون على الأرض غير نازلين برسالة للرسل أنزلنا عليهم ملكا.
(14/167)
ولما كان المشي والاطمئنان في الأرض من صفة الإنسان آل المعنى إلى: لو كنتم ملائكة لنزلنا عليكم من السماء ملكا فلما كنتم بشرا أرسلنا إليكم بشرا مثلكم.
ومجيء الهدى هو دعوة الرسل إلى الهدى.
[96] {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}
بعد أن خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتلقين الحجة القاطعة للضلالة أردف ذلك بتلقينه أيضا ما لقنه الرسل السابقين من تفويض الأمر إلى الله وتحكيمه في أعدائه. فأمره ب {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} تسلية له وتثبيتا لنفسه وتعهدا له بالفصل بينه وبينهم كما قال نوح وهود {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]،وغيرهما من الرسل قال قريبا من ذلك.
وفي هذا رد لمجموع مقترحاتهم المتقدمة على وجه الإجمال.
ومفعول {كَفَى} محذوف، تقديره: كفاني. والشهيد: الشاهد، وهو المخبر بالأمر الواقع كما وقع.
وأريد بالشهيد هنا الشهيد للمحق على المبطل، فهو كناية عن النصير والحاكم لأن الشهادة سبب الحكم. والقرينة قوله: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لأن ظرف(بين)يناسب معنى الحكم. وهذا بمعنى قوله تعالى: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87] وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].
والباء الداخلة على اسم الجلالة زائدة لتأكيد لصوق فعل {كَفَى} بفاعله. وأصله: كفى الله شهيدا.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} تعليل للاكتفاء به تعالى، والخبير: العليم. وأريد به العليم بالنوايا والحقائق، والبصير: العليم بالذوات والمشاهدات من أحوالها. والمقصود من اتباعه به إحاطة العلم وشموله.
[97] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}
يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ
(14/168)
الْهُدَى} [الإسراء:94] جمعا بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى. فمن أصر على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه. وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يلقي عقله لتلقي الحق ويتخذ هواه رائدا له في مواقف الجد.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الإسراء:96]ارتقاء في التسلية، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.
والمراد بالهدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {الْمُهْتَدِ} تعريف العهد الذهني، فالمعرف مساو للنكرة، فكأنه قيل: فهو مهتد. وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ} .كما يقال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فلان.
ويجوز أن تجعل التعريف في قوله: {الْمُهْتَدِ} تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصرا إضافيا، أي دون من تريد أنت هداه وأضله الله. ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان.
وحذفت ياء {الْمُهْتَدِ} في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غير المنون بحذف الياء، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة. ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف. وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتاب المصحف. والباقون حذفوا الياء في النطق في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف. وذلك وإن كان نادرا في غير الشعر إلا أن الفصحاء يجرون الفواصل مجرى القوافي. واعتبروا الفاصلة كل جملة تم بها الكلام، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابة الفاصلة بقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] وقوله: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64]. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} في سورة الرعد:9].
(14/169)
والخطاب في {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} لنبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له. فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم.
والأولياء: الأنصار، أي لن تجد لهم أنصارا يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب. ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شانهم، أي لن تجد لهم من يصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ البقرة: من الآية257]
وجمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع، أي لن تجد لكل واحد وليا ولا لجماعته وليا، كما يقال: ركب القوم دوابهم.
و {مِنْ دُونِهِ} أي غيره.
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} ذكر المقصود من نفي الولي أو المئال له بذكر صورة عقابهم بقوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} الآية.
والحشر: جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد. ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف )على( لتضمينه معنى )يمشون(. وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم? فقال:" إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم". والمقصود من ذلك الجمع بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملا لصلابة الأرض من الرجل.
وهذا جزاء مناسب للجرم، لأنهم روجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاء مشي عوضا عن الأرجل. ثم كانوا {عُمْياً وَبُكْماً} جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن، و {صما} جزاء امتناعهم من سماع الحق، كما قال تعالى عنهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: من الآية 5]. وقال عنهم {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراًقَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [ طه: 125_126],
(14/170)
وقال عنهم {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء: من الآية72] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروما من متعة النظر. وهذه حالتهم عند الحشر.
والمأوى محل الأوي، أي النزول بالمأوى، أي المنزل والمقر.
وخبت النار خبوا وخبوا: نقص لهيبها.
والسعير: لهب النار، وهو مشتق من سعر النار إذا هيج وقودها. وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعا لتذكير اللهب. والمعنى: زدناهم لهبا فيها.
وفي قوله {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} إشكال لأن نار جهنم لا تخبو. وقد قال تعالى {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة: من الآية86]
فعن ابن عباس:" أن الكفرة وقود للنار" قال تعالى {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: من الآية4] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعدا من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم.
فالخبو وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم. ولهذه النكتة سلط فعل {زِدْنَاهُمْ} على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم، فكأنه قيل: كلما خبت فيهم زدناهم سعيرا، ولم يقل: زدناها سعيرا.
وعندي: أن معنى الآية جار على طريق التهكم وبادئ الإطماع المسفر عن خيبة، لأنه جعل ازدياد السعير مقترنا بكل زمان من أزمنة الخبو، كما تفيده كلمة (ما)التي هي بمعنى كل زمان. وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها. فهذا الكلام من قبيل التمليح، وهو من قبيل قوله تعالى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [ا لأعراف: من الآية40] وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله: على من قضيت? فقال: على ابن أخت خالك.
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة، فالجواب بأن ذلك بسبب الكفر بالآيات
(14/171)
وإنكار المعاد.
فالإشارة إلى ما تقدم من قوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [ الإسراء: من الآية97] إلى آخر الآية بتأويل: المذكور.
والجزاء: العوض عن عمل.
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} للسببية.
والظاهر أن جملة {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} الخ. عطف على جملة {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} ، فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم. وذكر سببان:
أحدهما: الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلا وجمعا تناسبها العقوبة التي في قوله {نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم} .
وثانيهما: إنكارهم البعث بقولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} المناسب له أن يعاقبوا عقابا يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتا، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالا من رفات العظام في التراب.
والاستفهام في حكاية قولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً} وقوله {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} إنكاري. وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله {أَإِذَا} وفي إثباتها في قوله {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} في نظير هذه الآية من هذه السورة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً}
جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} عطف على جملة {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ} باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوف عليها من الردع عن قولهم {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} [الإسراء: من الآية98]. فبعد زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالة كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري. وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاما ورفاتا، أي بتعذر خلق امتثال تلك الجزاء، ولم يستدلوا بدليل آخر، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من
(14/172)
عدم أوغل في الفناء دليلا يقطع دعواهم.
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري مثوب بتعجب من انتفاء علمهم لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر.
والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادرا. وذلك ليس من المبصرات. والمعنى: أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم.
وضمير {مِثْلَهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يَرَوْا} وهو {النَّاس} في قوله {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} [اسراء: من الآية94] أي المشركين.
والمثل: المماثل، أي قادر على أن يخلق ناسا أمثالهم، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقا آخر. ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له.
ويجوز أن يكون لفظ )مثل( هنا كناية عن نفس ما أضيف أليه، كقول العرب: مثلك لا يبخل، وقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ} [لشورى: من الآية11]ٌعلى أحد تأويلين فيه، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ (ثله)ير زائدة. والمعنى: قادر على أن يخلقهم، أي أن يعيد خلقهم، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض.
ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل: تكون الإعادة عن عدم، وقيل تكون عن جميع ما تفرق من الأجسام. وقيل: ينبت من عجب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرة تلك النواة.
ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو الإنكار عليهم، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه.
وجملة {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ} معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} لتأويلها بمعنى قد رأو ذلك لو كان
لهم عقول،أي تحققو أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلا لا ريب فيه.
(14/173)
والأجل: الزمان المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال. وشاع إطلاقه على امتداد الحياة، وهو المدة المقدرة لكل حي بحسب ما أودع الله فيه من سلامة آلات الجسم، وما علمه الله من العوارض التي تعرض له فتخرم بعض تلك السلامة أو تقويها.
والأجل هنا محتمل لإرادة الوقت الذي جعل لوقوع البعث في علم الله تعالى.
ووجه كون هذا الجعل لهم أنهم داخلون في ذلك الأجل لأنهم من جملة من يبعث حينئذ، فتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين أنكروا البعث، والمعنى: وجعل لهم ولغيرهم أجلا.
ومعنى كون الأجل لا ريب فيه: أنه لا ينبغي فيه: ريب، وأن ريب المرتابين فيه مكابرة أو إعراض عن النظر، فهو من باب قوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2].
ويجوز أن يكون الأجل أجل الحياة، أي وجعل لحياتهم أجلا، فيكون استدلالا ثانيا على البعث، أي ألم يروا أنه جعل لهم أجلا لحياتهم، فما أوجدهم وأحياهم وجعل لحياتهم أجلا إلا لأنه سيعيدهم إلى حياة أخرى، وإلا لما أفناهم بعد أن أحياهم، لأن الحكمة تقتضي أن ما يوجده الحكيم يحرص على بقائه وعدم فنائه، فما كان هذا الفناء الذي لا ريب فيه إلا فناء عارضا لاستقبال وجود أعظم من هذا الوجود وأبقى.
وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر لأن الآجال آجالهم. وكونه لا ريب فيه أيضا ظاهر لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالا. وقد تضمن قوله {لَهُمْ أجَلاً} [الإسراء: من الآية99] تعريضا بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين وتعريضا بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيرا بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها.
وجملة {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} [لاسراء: من الآية99] تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب. أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام ومع علمهم أبوا إلا كفورا. فالتفريع من تمام الإنكار عليهم والتعجيب من حالهم.
واستثناء المفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده.
والكفور: جحود النعمة، وتقدم آنفا. واختير (لكفور)ا تنبيها على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده، وكفروا نعمة المنعم عليهم فعبدوا غير المنعم.
(14/174)
{قُلْ لَوْْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} اعتراض ناشئ عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلا على انتفاء إرسال بشير، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم. وهذا رد لما تضمنه قولهم {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله {تَفْجِيراً} [الإسراء: من الآية91) وقولهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: من الآية93] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته.
ومعنى الرد: أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم.
وأدمج في هذا الرد بيان ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير. وأدمج في ذلك أيضا تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها. ويصلح لأن يكون هذا خطابا للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه.
وشأن (و)أن يليها الفعل ماضيا في الأكثر أو مضارعا في اعتبارات، فهي مختصة بالدخول على الأفعال، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصد بليغ: إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرة ثانية تأكيد وتقوية؛ مثل قوله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: من الآية6] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص، بناء على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لقصد طريق غير مطروق. وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ، ومنه قول عمر لأبي عبيدة "لو غيرك قالها" .
والمعنى: لو أنتم أخصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لما أنفقتم على الفقراء شيئا. وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم.
وكلا الاعتبارين لا يناكد اختصاص لو بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حيزها غير موال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي، ولكن لا يجوز أن يقال: لو أنت عالم لبذذت الأقران.
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل.
و {لَأَمْسَكْتُمْ} هنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، لأن المقصود: إذن لاتصفتم
(14/175)
بالإمساك، أي البخل. يقال: فلان ممسك، أي بخيل. ولا يراد أنه ممسك شيئا معينا.
وأكد جواب(لو)بزيادة حرف(إذن)فيه لتقويه معنى الجوابية، ولأن في(إذن)معنى الجزاء كما تقدم آنفا عند قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42].ومنه قول بشر بن عوانة:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لقى الهزبر أخاك بسرا
إذن لرأيت ليثا أم ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
وجملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} حالية أو اعتراضية في آخر الكلام، وهي تفيد تذييلا لأنها عامة الحكم. فالواو فيها ليست عاطفة.
والقتور: الشديد البخل، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق.
[101،102] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً}
بقي قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء:92]غير مردود عليهم، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عذاب ورعب، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع. فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيرا لما سأله المشركون.
والمقصود: أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بينات الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحرا، ففي ذلك مثل للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم. ففي هذا مثل للمعاندين وتسلية للرسول. والآيات التسع هي: بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجها، وانقلاب العصا حية، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والرجز وهو الدمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف. وجمعها الفيروز آبادي في قوله:
عصا، سنة، بحر، جراد، وقمل ... يد، ودم، بعد الضفادع طوفان
فقد حصلت بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات.
(14/176)
ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامة للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جو العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حسابا.
فالمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته.
وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2]الآيات، ثم قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
فتكون هذه الجملة عطفا على جملة {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] أو على جملة {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} الآية[الإسراء:100].
ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهادا بهم على المشركين، وإدماجا للتعريض بهم بأنهم ساووا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيرا لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} .
والخطاب في قوله: {فَاسْأَلْ} للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد: سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين.
وقوله: {مَسْحُوراً} ظاهره أن معناه متأثرا بالسحر، أي سحرك السحرة وأفسدوا عقلك فصرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل مثل(الميمون والمشؤوم).وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء:35]، والذي قال فيه {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، فيكون إعراضا عن الاشتغال بالآيات وإقبالا على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم. ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25].وكل تلك الأقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها.
(14/177)
و(إذا) ظرف متعلق ب {آتينا} . والضمير المنصوب في {جَاءَهُمْ} عائد إلى بني إسرائيل. وأصل الكلام: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل، فسألهم.
وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر، أو تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر، لأن الظن دون اليقين، قال تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين.
ومعنى {ولَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غير الله، وأنه إنما قال: {وإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} .عنادا ومكابرة وكبرياء.
وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقا لحصول علم فرعون بذلك. وإنما أيقن موسى بان فرعون قد علم بذلك: إما بوحي من الله أعلمه به، وإما برأي مصيب، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروي حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم.
وقرأ الكسائي وحده {لقد علمتُ} ـ بضم التاء ـ ، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمت كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر.
والإشارة ب {هَؤُلاءِ} إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل، وهو استعمال مشهور. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]،وقول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
والأكثر أن يشار ب(أولاء) إلى العاقل.
والبصائر: الحجج المفيدة للبصيرة، أي العلم، فكأنها نفس البصيرة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} في آخر الأعراف[203]
وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيرا بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق.
والمثبور: الذي أصابه الثبور وهو الهلاك. وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه.
(14/178)
وإنما جعله موسى ظنا تأدبا مع الله تعالى، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالا ضعيفا، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظنا. ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملا بمعنى اليقين كما تقدم آنفا.
وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام .
وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} مقارعة له وإظهار لكونه لا يخافه وأنه يعامله المثل قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
[103،104] {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً}
أكملت قصة المثل بما فيه تعريض بتمثيل الحالين إنذارا للمشركين بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم صائرة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده، ففرع على تمثيل حالي الرسالتين وحالي المرسل إليهما ذكر عاقبة الحال الممثل بها إنذارا للممثلين المصير.
فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون إخراج موسى وبني إسرائيل من مصر، قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76].
والاستفزاز: الاستخفاف، وهو كناية عن الإبعاد وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} في هذه السورة[الإسراء:76].
والمراد بمن معه جنده الذين خرجوا معه يتبعون بني إسرائيل.
والأرض الأولى هي المعهودة وهي أرض مصر، والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيم إياها.
ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر.
واللفيف: الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى: حكمنا بينهم في الدنيا
(14/179)
بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة.
ومعنى {جِئْنَا بِكُمْ} أحضرناكم لدينا. والتقدير: جئنا بكم إلينا.
[105] {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
عود إلى التنويه بشأن القرآن متصل بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الإسراء:89]. فلما عطف عليه {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء:90] الآيات إلى هنا وسمحت مناسبة ذكر تكذيب فرعون موسى عليه السلام عاد الكلام إلى التنويه بالقرآن لتلك المناسبة.
وقد وصف القرآن بصفتين عظيمتين كل واحدة منهما تحتوي على ثناء عظيم وتنبيه للتدبر فيهما.
وقد ذكر فعل النزول مرتين، وذكر له في كل مرة متعلق متماثل اللفظ لكنه مختلف المعنى، فعلق إنزال الله إياه بأنه بالحق فكان معنى الحق الثابت الذي لا ريب فيه ولا كذب، فهو كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وهو رد لتكذيب المشركين أن يكون القرآن وحيا من عند الله.
وعلق نزول القرآن، أي بلوغه للناس بأنه بالحق فكان معنى الحق الثاني مقابل الباطل، أي مشتملا على الحق الذي به قوام صلاح الناس وفوزهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]،وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105].
وضمائر الغيبة عائدة إلى القرآن المعروف من المقام.
والباء في الموضعين للمصاحبة لأنه مشتمل على الحق والهدى، والمصاحبة تشبه الظرفية. ولولا اختلاف معنى الباءين في الآية لكان قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} مجرد تأكيد لقوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} لأنه إذا أنزل بالحق نزل به ولا ينبغي المصير إليه ما لم يتعين.
وتقديم المجرور في الموضعين على عامله للقصر ردا على المنكرين الذين ادعوا أنه أساطير الأولين أو سحر مبين أو نحو ذلك.
(14/180)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} جملة معترضة بين جملة {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} وجملة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:106] أي وفي ذلك الحق نفع وضر فأنت به مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين.
والقصر للرد على الذين سألوه أشياء من تصرفات الله تعالى والذين ظنوا أن لا يكون الرسول بشرا.
[106] {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}
عطف على جملة {أَنْزَلْنَاهُ} .
وانتصب {وَقُرْآناً} على الحال من الضمير المنصوب في {فَرَقْنَاهُ} مقدمة على صاحبها تنويها الكون قرآنا، أي كونه كتابا مقروءا. فإن اسم القرآن مشتق من القراءة، وهي التلاوة، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى، كما أشار إليه قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]،
وقد تقدم بيانه. فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب، وقرآن، وفرقان، وذكر، وتنزيل، وتجري عليه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء:78] وقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقا، وإلى قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]
في مقام كونه فارقا بين الحق والباطل، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غير الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {فَرَقْنَاهُ} جعلناه فرقا، أي أنزلناه منجما مفرقا غير مجتمع صبره واحد. يقال: فرق الأشياء إذا باعد بيتها، وفرق الصبرة إذا جزأها. ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة، فيكون {فَرَقْنَاهُ} محتملا معنى بيناه وفصلناه،وإذ قد كان قوله: {وَقُرْآناً} حالا من ضمير {فَرَقْنَاهُ} آل المعنى إلى: أنا فرقناه وأقرأناه.
وقد علل بقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} .فهما علتان: أن يقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآنا، وأن يقرأ على مكث، أي مهل وبطء وهي علة لتفريقه.
والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين.
(14/181)
وجملة {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} معطوفة على جملة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} . وفي {َنَزَّلْنَاه} فعل نزلناه المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} [الإسراء:105].
وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} من اتحاد الحكمة. وهي ما صرح به قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
ويجوز أن يراد: فرقنا إنزاله رعيا للأسباب والحوادث. وفي كلا الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].
[107ـ109] {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}
استئناف خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلا من عند الله من قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] فعجزوا عن الإتيان بمثله، ثم بيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:89]، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر، ثم يكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة البشر، وبين لهم غلطهم أو مغالطتهم، ثم بالأمر بإقامة الله شهيدا بينه وبينهم، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن، أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى. فالأمر في قوله: {آمِنُوا بِهِ} للتسوية، أي إن شئتم.
وجزم {لا تُؤْمِنُوا} بالعطف على المجزوم. ومثله قوله في سورة الطور[16] {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]،فحرف {لا} حرف نفي وليس حرف نهي، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك، وهو كناية عن الإعراض عنهم واحتقارهم وقلة
(14/182)
المبالاة بهم، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل {قل} ، أو لكليهما، شأن العلل التي ترد بعد جمل متعددة. ولذلك فصلت. وموقع (إن) فيها موقع فاء التفريع، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله. فهم أرجح منكم أحلاما وأفضل مقاما، وهم الذين أوتوا العلم، فإنهم يسمعونه ويؤمنون به ويزيدهم إيمانا بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه.
وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية.
والمراد بالذين أوتوا العلم أمثال: ورقة بن نوفل، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مثل: عبد الله بن سلام، ومعيقيب، وسلمان الفارسي.
ففي هذه الآية إخبار بمغيب.
وضمائر"به، ومن قبله، ويتلى"عائدة إلى القرآن. والكلام على حذف مضافا معلوم من المقام معهود الحذف، أي آمنوا بصدقه ومن قبل نزوله.
والخرور: سقوط الجسم. قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26].
وقد تقدم في قوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} في سورة الأعراف[143].
واللام في {لِلْأَذْقَانِ} بمعنى(على)كما في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]،
وتله للجبين(،وقول تأبط شرا:
............... 1 ... صريعا لليدين وللجرذان
وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية. استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به.
(1)أوله:"فأضر بها بلاد دهش فخرت".وضمير الغائبة عائد على الغول.
??
??
??
??
(14/183)
والأذقان: جمع الذقن ـ بفتح الذال وفتح القاف ـ مجتمع اللحيين وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى.
و {سُجَّداً} جمع ساجد، وهو في موضع الحال من ضمير {يَخِرُّونَ} لبيان الغرض من هذا الخرور. وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده.
وعطفت {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} على {يَخِرُّونَ} للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع والقول الدال على التنزيه والتعظيم. ونظيره قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:15]. على أن في قولهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} دلالة على التعجب والبهجة من تحقق وعد الله في التوراة والإنجيل بمجيء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} من تمام مقولهم. وهو المقصود من القول. لأن تسبيحهم قبله تسبيح تعجب واعتبار بأنه الكتاب الموعود به وبرسوله في الكتب السابقة.
و(إن)مخففة من الثقيلة. وقد بطل عملها بسبب التخفيف. ووليها فعل من نواسخ المبتدأ جريا على الغالب في استعمال المخففة. وقرن خبر الناسخ فاللام الفارقة بين المخففة والنافية.
والوعد باق على أصله من المصدرية. وتحقيق الوعد يستلزم تحقيق الموعود به فحصل التصديق بالوعد والموعود به.
ومعنى {مَفْعُولاً} أن الله يفعل ما جاء في وعده، أي يكونه ويحققه. وهذا السجود سجود تعظيم لله إذ حقق وعده بعد سنين طويلة.
وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} تكرير للجملة باختلاف الحال المقترنة بها. أعيدت الجملة تمهيدا لذكر الحال. وقد يقع التكرير مع العطف لأجل اختلاف القيود. فتكون تلك المغايرة مصححة العطف، كقول مرة بن عداء الفقعسي:
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... إذا الخصم أبزى ماثل الرأس أنكب
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مثبوت شجاع وعقرب
(14/184)
فالخرور المحكي بالجملة الثانية هو الخرور الأول، وأنما خروا خرورا واجدا ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتماما بما صحبه من علامات الخشوع.
وذكر {يَبْكُونَ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة.
والبكاء بكاء فرح وبهجة. والبكاء: يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق.
ويزيدهم القرآن خشوعا على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم.
ومن السنة سجود القارئ والمستمع له بقصد هذه الآية اقتداء بأولئك الساجدين بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع القرآن إلا وهو يرى أجدر بالسجود عند تلاوة القرآن.
[110] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
لا شك أن لنزول هذه الآية سببا خاصا إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العلم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل: الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى.
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة.
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء، أي أو الرحيم.
وفي"الكشاف": عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمان. فقال أبو جهل: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر. وأخرجه ابن مردويه. وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان.
(14/185)
وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدث حين نزول الآية التي قبلها.
والكلام رد وتعليم بان تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء.
و(أي)اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترنت بها(ما)الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها(ما)الزائدة. ولذلك جزم الفعل بعدها وهو {تَدْعُوا} شرطا، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء، وهو {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
والتحقيق أن {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} علة الجواب. والتقدير: أي اسم من أسمائه تعالى تدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد.
ومعنى {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا، فالمسمى واحد. وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل {ادْعُوا} مستعملا في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في معنى سموا، وهو حينئذ يتعدى إلى مفعولين. والتقدير: سموا ربكم الله أو سموه الرحمان، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام.
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} لا شك أن لهذه الجملة اتصالا بجملة {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} بالآيات التي قبله، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان.
والصلاة: تحتمل الدعاء، وتحتمل العبادة المعروفة. وقد فسرها السلف هنا بالمعنيين. ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة.
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان، فقال فريق من المشركين: ما الرحمان? وقالوا: إن محمدا يدعو إلهين، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به، أو يسب الرحمان ظنا أنه رب آخر غير الله تعالى وغير آلهتهم، فأمر الله رسوله أن لا يجهر
(14/186)
بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية.
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجردا عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا. فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنبا لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم.
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر.
وأما قوله تعالى: {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سرا أو صلاته كلها سرا فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يتوهم منه الكفار تحككا أو تطاولا كما قلنا.
والجهر: قوة صوت الناطق بالكلام.
والمخافتة مفاعلة: من حفت بكلامه، إذا أسر به. وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة، أي لا تسرها.
وقوله: {ذَلِكَ} إشارة إلى المذكور، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي تجهر(و)وتخافت(أي اطلب سبيلا بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم.
[111] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}
لما كان النهي عن الجهر بالدعاء أو قراءة الصلاة سدا لذريعة زيادة تصميمهم على الكفر أعقب ذلك بأمره بإعلان التوحيد لقطع دابر توهم من توهموا أن الرحمان اسم لمسمى غير مسمى اسم الله، فيعضهم توهمه إلها شريكا، ويعضهم توهمه معينا وناصرا، أمر النبي بان يقول ما يقلع ذلك كله وأن يعظمه بأنواع من التعظيم.
وجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تقتضي تخصيصه تعالى بالحمد، أي قصر جنس الحمد عليه تعالى لأنه أعظم مستحق لأن يحمد. فالتخصيص ادعائي بادعاء أن دواعي حمد غير الله تعالى في جانب دواعي حمد الله بمنزلة العدم،كما تقدم في سورة الفاتحة.
و(من)في قوله: {مِنَ الذُّلِّ} بمعنى لام التعليل.
(14/187)
والذل: العجز والافتقار، وهو ضد العز، أي ليس له ناصر من أجل الذل. والمراد: نفي الناصر له على وجه مؤكد، فإن الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس. ويجوز تضمين(الولي) معنى(المانع)فتكون(من)لتعدية الاسم المضمن معناه.
ومعنى {كَبِّرْهُ} اعتقد أنه كبير، أي عظيم العظم المعنوي الشامل لوجوب الوجود والغنى المطلق، وصفات الكمال كلها الكاملة التعلقات. لأن الاتصاف بذلك كله كمال، والاتصاف بأضداد ذلك نقص وصغار معنوي.
وإجراء هذه الصلات الثلاث على اسم الجلالة الذي هو متعلق الحمد لأن في هذه الصلات إيماء إلى وجه تخصيصه بالحمد.
والإتيان بالمفعول المطلق بعد {كَبِّرْهُ} للتوكيد، ولما في التنوين من التعظيم. ولأن من هذه صفاته هو الذي يقدر على إعطاء النعم التي يعجز غيره عن إسدائها.
(14/188)
المجلد الخامس عشر
سورة الكهف
...
بسم الله الرحمن الرحيم
18- سورة الكهف
سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الكهف.
روى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف" وفي رواية لمسلم: "من آخر الكهف، عصم من فتنة الدجال" . ورواه الترمذي عن أبي الدرداء بلفظ "من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال" . قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وكذلك وردت تسميتها عن البراء بن عازب في "صحيح البخاري" . قال: "كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة تنزلت بالقرآن" .
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سماها سورة أصحاب الكهف".
وهي مكية بالاتفاق كما حكاه ابن عطية. قال: "وروي عن فرقد أن أول السورة إلى قوله: {جُرُزاً} نزل بالمدينة"، قال: "والأول أصح".
وقيل قوله: {وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] نزلتا بالمدينة، وقيل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] إلى آخر السورة نزل بالمدينة. وكل ذلك ضعيف كما سيأتي التنبيه عليه في مواضعه.
نزلت بعد سورة الغاشية وقبل سورة الشورى.
وهي الثامنة والستون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد.
(15/5)
وقد ورد في فضلها أحاديث متفاوتة أصحها الأحاديث المتقدمة.
وهي من السور التي نزلت جملة واحدة. روى الديلمي في سند الفردوس عن أنس قال: نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة. وقد أغفل هذا صاحب "الإتقان" .
وعدت آيها في عدد قراء المدينة ومكة مائة وخمسا، وفي عدد قراء الشام مائة وستا، وفي عدد قراء البصرة مائة وإحدى عشرة، وفي عد قراء الكوفة مائة وعشرا، بناء على اختلافهم في تقسيم بعض الآيات إلى آيتين.
وسبب نزولها ما ذكره كثير من المفسرين، وبسطه ابن إسحاق في سيرته بدون سند، وأسنده الطبري إلى ابن عباس بسند فيه رجل مجهول: "أن المشركين لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وازدياد المسلمين معه وكثر تساؤل الوافدين إلى مكة من قبائل العرب عن أمر دعوته، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة يثرب يسألونهم رأيهم في دعوته، وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يوجهون به تكذيبهم إياه. قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء أي صفاتهم وعلاماتهم علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة إلى المدينة ووصفا لليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراهم ببعض قوله. فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث? فإن أخبركم بهن فهو نبئ وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي. فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود، فجاء جمع من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن هذه الثلاثة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا وهو ينتظر وقت نزول الوحي عليه بحسب عادة يعلمها. ولم يقل: إن شاء الله. فمكث رسول الله ثلاثة أيام لا يوحى إليه، وقال ابن إسحاق: خمسة عشر يوما، فأرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا اليوم عدة أيام لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه، ثم جاءه جبريل عليه السلام بسورة الكهف وفيها جوابهم عن الفتية وهم أهل الكهف، وعن الرجل الطواف وهو ذو القرنين. وأنزل عليه فيما سألوه من أمر الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] في سورة الإسراء. قال السهيلي: وفي رواية عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي "أي زياد ابن عبد الله البكائي الذي يروي عنه ابن هشام" أنه
(15/6)
قال في هذا الخبر: "فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أي الروح جبريل. وهذا خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش: سلوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبئ وإن لم يخبركم به فهو نبي" ا هـ.
وأقول: قد يجمع بين الروايتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابهم عن أمر الروح بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] بحسب ما عنوه بالروح عدل بهم إلى الجواب عن أمر كان أولى لهم العلم به وهو الروح الذي تكرر ذكره في القرآن مثل قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] وقوله {وَالرُّوحُ فيهَا} [القدر: 4] وهو من ألقاب جبريل على طريقة الأسلوب الحكيم مع ما فيه من الإغاظة لليهود، لأنهم أعداء جبريل كما أشار إليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية. ووضحه حديث عبد الله ابن سلام في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر جبريل عليه السلام ذاك عدو اليهود من الملائكة فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم لهم منفذا قد يلقون منه التشكيك على قريش إلا سده عليهم.
وقد يعترضك هنا: أن الآية التي نزلت في أمر الروح هي من سورة الإسراء فلم تكن مقارنة للآية النازلة في شان الفنية وشأن الرجل الطواف فماذا فرق بين الآيتين، وأن سورة الإسراء يروي أنها نزلت قبل سورة الكهف فإنها معدودة سادسة وخمسين في عداد نزول السور، وسورة الكهف معدودة ثامنة وستين في النزول. وقد يجاب عن هذا بأن آية الروح قد تكون نزلت على أن تلحق بسورة الإسراء فإنها نزلت في أسلوب سورة الإسراء وعلى مثل فواصلها، ولأن الجواب فيها جواب بتفويض العلم إلى الله، وهو مقام يقتضي الإيجاز، بخلاف الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين فإنه يستدعي بسطا وإطنابا ففرقت آية الروح عن القصتين.
على أنه يجوز أن يكون نزول سورة الإسراء مستمرا إلى وقت نزول سورة الكهف، فأنزل قرآن موزع عليها وعلى سورة الكهف. وهذا على أحد تأويلين في معنى كون الروح من أمر ربي كما تقدم في سورة الإسراء. والذي عليه جمهور الرواة أن آية {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الاسراء: 85] مكية إلا ما روي عن ابن مسعود. وقد علمت تأويله في سورة الإسراء.
فاتضح من هذا أن أهم غرض نزلت فيه سورة الكهف هو بيان قصة أصحاب
(15/7)
الكهف، وقصة ذي القرنين. وقد ذكرت أولاهما في أول السورة وذكرت الأخرى في آخرها.
كرامة قرآنية:
لوضع هذه السورة على هذا الترتيب في المصحف مناسبة حسنة ألهم الله إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رتبوا المصحف فإنها تقارب نصف المصحف إذ كان في أوائلها موضع قيل هو نصف حروف القرآن وهو التاء من قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] وقيل نصف حروف القرآن وهو"النون" من قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] في أثنائها، وهو نهاية خمسة عشر جزءا من أجزاء القرآن وذلك نصف أجزائه، وهو قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75]، فجعلت هذه السورة في مكان قرابة نصف المصحف.
وهي مفتتحة بالحمد حتى يكون افتتاح النصف الثاني من القرآن بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما كان افتتاح النف الأول بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . وكما كان أول الربع الرابع منه تقريبا بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
أغراض السورة
افتتحت بالتحميد على إنزال الكتاب للتنويه بالقرآن تطاولا من الله تعالى على المشركين وملقنيهم من أهل الكتاب.
وأدمج فيه إنذار المعاندين الذين نسبوا لله ولدا، وبشارة للمؤمنين، وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أقوالهم حين تريث الوحي لما اقتضته سنة الله مع أوليائه من إظهار عتبه على الغفلة عن مراعاة الآداب الكاملة.
وذكر افتتان المشركين بالحياة الدنيا وزينتها وأنها لا تكسب النفوس تزكية.
وانتقل إلى خبر أصحاب الكهف المسؤول عنه.
وحذرهم من الشيطان وعداوته لبني آدم ليكونوا على حذر من كيده.
وقدم لقصة ذي القرنين قصة أهم منها وهي قصة موسى والخضر عليهما السلام، لأن كلتا القصتين تشابهتا في السفر لغرض شريف. فذو القرنين خرج لبسط سلطانه على الأرض، وموسى عليه السلام خرج في طلب العلم.
(15/8)
وفي ذكر قصة موسى تعريض بأحبار بني إسرائيل إذ تهمموا بخبر ملك من غير قومهم ولا من أهل دينهم ونسوا خبرا من سيرة نبيهم.
وتخلل ذلك مستطردات من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته. وأن الحق فيما أخبر به، وأن أصحابه الملازمين له خير من صناديد المشركين، ومن الوعد والوعيد، وتمثيل المؤمن والكافر، وتمثيل الحياة الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم الدنيا وانقضائها، وما يعقبها من البعث والحشر، والتذكير بعواقب الأمم المكذبة للرسل، وما ختمت به من إبطال الشرك ووعيد أهله؛ ووعد المؤمنين بضدهم، والتمثيل لسعة علم الله تعالى. وختمت بتقرير أن القرآن وحي من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان في هذا الختام محسن رد العجز على الصدر.
[1-3] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فيهِ أَبَداً} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} .
موقع الافتتاح بهذا لتحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم.
ولما كان إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أجزل نعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس، ونعمة على النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله واسطة ذلك ومبلغه ومبينه؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخبارا وإنشاء. وقد تقدم إفادة جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة.
وهي هنا جملة خبرية. أخبر الله نبيه والمسلمين بان مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره. فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويها بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]
والكتاب: القرآن. فكل مقدار منزل من القرآن فهو {الكتاب} . فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة، ويلحق به ما ينزل
(15/9)
بعد هذه الآية ويزاد به مقداره.
وجملة {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} معترضة بين {الكتاب} وبين الحال منه وهو {قيما} . والواو اعتراضية. ويجوز كون الجملة حالا والواو حالية.
والعوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته: انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم، فهو ضد الاستقامة. ويطلق مجازا على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة.
والذي عليه المحققون من أئمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي. وقيل: المكسور العين يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في "الكشاف" . ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال {فيَذَرُهَا قَاعاً صَفصَفاً لا تَرَى فيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه: 106- 107] حيث اتفق القراء على قراءته - بكسر العين -. وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي.
والمراد بالعوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد.
والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم افتراه، وأساطير الأولين، وقول كاهن، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج. قال تعالى: {أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]
وضمير {له} عائد إلى {الكتاب} .
وإنما عدي الجعل باللام دون في لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام، وأما معنى الاختصاص فهو أعم.
فالمعنى: أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف. وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به، فهذا كوصفه ب {أنه لا رَيْبَ فيهِ} [البقرة: 2]في سورة البقرة.
و {قيما} حال من {الكتاب} أو من ضميره المجرور باللام، لأنه إذا جعل حالا
(15/10)
من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب.
والقيم: صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] في سورة البقرة.
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعد بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] في سورة البقرة.
والجمع بين قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وقوله: {قيما} كالجمع بين {لا رَيْبَ فيهِ} وبين {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وليس هو تأكيدا لنفي العوج.
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ}
{لينذر} متعلق بـ {أنزل} . والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأسا شديدا من لدنه، والمفعول الأول لـ {ينذر} محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلا للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذر به وهو البأس الشديد تهويلا له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله.
والبأس: الشدة في الألم. ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو. وقد تقدم في قوله تعالى
{وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] من سورة البقرة. والمراد هنا: شدة الحال في الحياة الدنيا، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن. وعليه درج الطبري. وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه، فاستعمال {لدن} هنا في معنييه الحقيقي والمجازي.
وليس جعل الإنذار ببأس الدنيا علة لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار علل إنزاله على ذلك، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضها ويترك بعض.
وإنما آثرت الحمل على جعل البأس الشديد بأس الدنيا للتفضي مما يرد على إعادة فعل {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4] كما سيأتي.
ويجوز أن يراد بالبأس عذاب الآخرة فإنه بأس شديد، ويكون قوله: {مِنْ لَدُنْهُ} .
(15/11)
مستعملا في حقيقته. وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين.
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي، ويكون استعمال من {لدنه} في معنييه الحقيقي والمجازي. أما في عذاب الآخرة فظاهر، وأما عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه.
وحذف مفعول {ينذر} لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه، ولدلالة مقابلة عليه في قوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فيهِ أَبَداً}
عطف على قوله: {لينذر بأسا} ، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجها غيرهم.
وقوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} متعلق بـ {يبشر} بحذف حرف الجر مع أن أي بأن لهم أجرا حسنا. وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين. ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثير أو قليل، ولحكمه أدلة كثيرة.
والمكث: الاستقرار في المكان، شبه ما لهم من اللذات والملائمات بالظرف الذي يستقر فيه حاله للدلالة على أن الأجر الحسن كالمحيط بهم لا يفارقهم طرفة عين، فليس قوله: {أبدا} بتأكيد لمعنى {ماكثين} بل أفيد بمجموعها الإحاطة والدوام.
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تاليا لقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بشر به المؤمنين. وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جريت على تخصيص البأس في قوله: {بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايرا لما
(15/12)
قبله، وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل {ينذر} تأكيدا، فكان عطفه باعتبار إن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فعل {ينذر} السابق يعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين. وهو يومئ إلى المنذرين المحذوف في قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساًشَدِيداً} [الكهف: 2] ويغني عن ذكره. وهذه العلة أثارتها مناسبة ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتمادا على مقابله المبشر به.
والمراد بـ {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب.
والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعا عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد.
والولد: اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع. وتقدم في قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} في سورة يونس [68].
وجملة {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من {الَّذِينَ قَالُوا} . والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من {قالوا} .
و {من} لتوكيد النفي. وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذبا ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117].
وضمير {به} عائد على مصدر مأخوذ من فعل {قالوا} ، أي ما لهم بذلك القول من علم.
وعطف {ولا لآبائهم} لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يقلدوهم.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}
استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع.
(15/13)
ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية.
وفعل {كبرت} بضم الباء. أصله: الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازا في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجب من كبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام. ودل على قصد التعجب منها انتصاب {كلمة} على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فعل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نعم وبئس بحسب المقام.
والضمير في قوله: {كبرت} يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز.
وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وجملة {تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ} صفة لـ {كلمة} مقصود بها من جرأتهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها.
والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخيلا لفظاعتها. وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه، لأنه لاستحالة تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل.
والأفواه: جمع فم بوزن أفعال، لأن أصل فم فوه بفتحتين بوزن جمل، أو فيه بوزن ريح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفا يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار (فا) ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار فم ولما جمعوه ردوه إلى أصله.
وجملة {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} مؤكدة لمضمون جملة {تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ} لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفس الأمر هو الكذب، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب، فما قولهم ذلك إلا كذب، أي ليست له صفة إلا صفة
(15/14)
الكذب.
هذا إذا جعل القول المأخوذ من {يقولون} خصوص قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4]. ولك أن تحمل {يقولون} على العموم في سياق النذفي، أي يصدر منهم قول إلا الكذب، فيكون قصرا إضافيا، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن {يقولون} تذييلا.
[6] { تَخْرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
تفريع على جملة {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين يهم في قوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 2] ثم قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4].
و {لعل} حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لازمان الأمر المكروه.
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه. وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم.
والباخع: قاتل نفسه، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جبير. وفسره البخاري بمهلك. وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة.
وفي اشتقاقه خلاف، فقيل مشتق البخاع بالباء الموحدة بوزن كتاب وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابح البخاع فذلك أعمق الذبح، قاله الزمخشري في قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ} في سورة الشعراء [3]. وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في "الكشاف" و "الفائق" و "الأساس" . قال ابن الأثير في "النهاية" : بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البخاع بالموحدة يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسما لهذا العرق. قلت: كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته. وقد تبعه عليه المطرزي في "المغرب" وصاحب "القاموس" . فالبخع: أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ.
والآثارة: جمع أثر وهو ما يؤثره، أي يبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطئ أقدامه وأخفاف راحلته. والأثر أيضا ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من
(15/15)
تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد.
وحرف {على} للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى: لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يعرض السائر عن المكان الذي كان فيه. فتكون {على} للتعليل.
ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم. وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبته فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم. ويكون حرف {على} مستقرا في موضع الحال من ضمير الخطاب، ومعنى {على} الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان.
وكأن هذا الكلام سبق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان، وتهيئة لنفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه، ولذلك قال {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل، أي إن استمر عدم إيمانهم.
واسم الإشارة وبيانه مراد به القرآن، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار. وبين بأنه الحديث.
والحديث: الخبر. وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخبارا وقصصا. سمي الحديث حديثا باعتبار اشتماله على الأمر الحديث، أي الذي حدث وجد، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب، فالحديث فعيل بمعنى مفعول. وانظر ما يأتي عند قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} في سورة الزمر[23].
و {أسفا} مفعول له من {بَاخِعٌ نَفسَكَ} أي قاتلها لأجل شدة الحزن، والشرط معترض بين المفعولين، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قبل الشرط.
[8,7] {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}
مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية أعوز المفسرين بيانها، منهم ساكت عنها، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت.
والذي يبدوا: أنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم
(15/16)
زينة الدنيا لعلهم يشكرونه، وأنهم بطروا النعمة، فأن الله يسلب عنه النعمة فتصير بلادهم قاحلة. وهذا تعريض بأن سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل الله رسول الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف عليه السلام.
ولهذا اتصال بقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2].
وموقع {إن} صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى {فلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 2].
ويحصل من ذلك تذكير بعضهم قدرة الله تعالى، وخاصة ما كان منها إيجادا للأشياء وأضدادها من حياة الأرض وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر، ونعمة ونقمة، كلها عبر لمن يعتبر بالتغير ويأخذ إلى الانتقال من حال إلى حال فلا يثق بقوته وبطشه، ليقيس الأشياء بأشباهها نفسه على معيار الفضائل وحسنى العواقب.
وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس لأنها أقرب إلى حسهم وتعلقهم، كما قال تعالى: {أَفلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْف خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْف رُفعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْف نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْف سُطِحَتْ} [لغاشية: 17-20] وقال: {وَفي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذريات:20]
وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معان كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأعراض المقصودة، فإن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينة يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف. والامتنان بمثل هذا كثير، مثل قوله: {وَلَكُمْ فيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]
ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها. وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان، واستمرارها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها. فيتضمن هذا امتنانا ببث الحياة في الموجودات الأرضية.
(15/17)
ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها وتسبر غور النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم، فمن موف بحق الشكر، ومقصر فيه وجاحد كافر بنعمة هذا المنعم ناسب إياها إلى غير موجدها. ومن لوازمها أيضا أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستشار من ذلك مختلف الكيفيات في تناولها وتعارض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض. وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع لتضبط لهم أحوال معاملاتهم، ولذلك علل جعل ما على الأرض زينة بقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، أي أفوت في حسن من عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر، وعمل الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحيدة عنه.
فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل. ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تعلم بطريق الفحوى درجة انعدام الحسن من أصله وهي حالة الكفر وسوء العمل، كما جاء في حديث "مثل المنافق الذي يقرأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن..." .
والبلو: الاختبار والتجربة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفسٍ مَا أَسْلَفتْ} في سورة يونس[30]. وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغن عن الاختبار والتجربة. وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده. وهو كقول قيس بن الخطيم:
واقبلت والخطى يخطر بيننا
لأعلم من جبانها من شجاعها
وقوله {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم. فقوله: {جاعلون} اسم فاعل مراد به االمستقبل، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوما فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [ابراهيم: 48]
والصعيد: التراب. والجرز: القاحل الأجود. وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله: {فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] في هذه السورة.
[9] {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْف وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً}
{أم} للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض. ولما كان هذا من المقاصد التي
(15/18)
أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضابا بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود.
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى: {فلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالا لإمكان البعث.
و {أم} هذه هي {أم} المنقطعة بمعنى {بل}، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها. يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهرا بعدها كقول أفنون التغلبي:
أني جزوا عامرا سوءا بضعته
أم كيف يجزونني السوأى عن الحسن
والاستفهام المقدر بعد {أم} تعجيبي مثل الذي في البيت.
والتقدير هنا: أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجبا من بين آياتنا،أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم من عجب إنامة أهل الكهف، لأن في إنامتهم إبقاء للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم. وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَاوَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باق.
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العبر والأسباب وآثارها. ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله: {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ إِلَى الْكَهْف فقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف:10]، فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقوله: {إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13] الآيات.. الدال على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضا بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد: قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها. ويظهر أن الذين لقنوا قريشا السؤال عن أهل الكهف
(15/19)
هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة؛ من التجار الواردين إلى مكة، أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف. ومحل التعجب هو قوله: {مِنْ آيَاتِنَا} ، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق، فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها.
فمعنى {من} في قوله: {مِنْ آيَاتِنَا} التبعيض، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى، كما تقول: سأل فلانا فهو العالم منا، أي المنفرد بالعلم من بيننا.
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية، أي كانوا عجبا في آياتنا، أي وبقية الآيات ليست عجبا. وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام.
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم، فثم مضاف محذوف يدل عليه الكلام.
وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة، والمراد عجيب.
والكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعا فهو غار.
والرقيم: فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة. فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم. قيل: كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل: هو كتاب دينهم، دين كان قبل عيسى عليه السلام، وقيل: هو دين عيسى، وقيل: كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فرارا من كفر قومهم.
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منها، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم.
وقد أشارت الآية إلى قصة نفر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنبا لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فرارا من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقى عليهم نوما بقوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم. وبعد أن أيقنوا بذلك
(15/20)
أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البلى كرامة لهم.
وقد عرف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها.
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف. وقد ذكر ابن عطية ملخصا في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقصاص.
والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له"أبسس" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلدا من ثغور طرطوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية.
وليست هي "أفسس" بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بولس رسالته المشهور. وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين. وهي قريبة من مرعش من بلاد أرمينية، وكانت الديانة النرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين، فكان من أهل أبسس نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام. وكانوا في زمن الامبراطور دوقيوس ويقال دقيانوس الذي ملك في حدود سنة 237. وكان ملكه سنة واحدة. وكان متعصبا للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانية، فأظهر كراهية الديانة الرومانية. وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له بنجلوس فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله. ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومة فظنهم أتباع الملك أمواتا. وقد قيل:"إنه أمر أن تسد فوهة كهفهم بحائط، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم"،ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة، وكان انبعاثهم في مدة ملك ثاوذ وسيوس قيصر الصغير، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة.
ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فيبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم
(15/21)
وأرسلوا أحدهم إلى المدينة. وهي أبسس. بدراهم ليشتري لهم طعاما. تعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال. وتسامع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفة وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم. وكانت آية تأيد بها دين المسيح.
والذي في "كتاب الطبري" أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة أريوس و أطيوس ومن معهما من أهل المدينة، وقيل لما شاهدهم الناس كتب واليا المدينة إلى ملك الروم. فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد. ولم يذكروا هل نفذ بناء المسجد أو لم ينفذ. ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك. ولعله قد انسد بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه. وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين من أقطار الأرض كثيرة. وفي جنوب القطر التونسي موضع يدعى أنه الكهف. وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقادا بأن أهل الكهف كانوا سبعة. وستعلم مثار هذه التوهمات.
وفي "تفسير الآلوسي" عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:"غزونا مع معاوية غزو المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف. فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك من هو خير منك، فقال: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا} فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا. فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة: أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام. فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة".
وفي "تفسير الفخر" عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم: "أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال: وعرفت أنه تمويه واحتيال، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره" ا هـ.
(15/22)
وقوله: "فسافر إلى الروم" مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة أفسوس بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفا، فإن بلد أفسس في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية، ولذلك قال بعض المؤرخين:"إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه. أما مدينة أبسس بالباء الموحدة فقد كانت حينئذ من جملة مملكة الإسلام".
قال ابن عطية: "وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إثارة، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة، وبأعلى حضرة أغرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها اه.
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض".
وللكهوف ذكر شائع في اللوذ إليها والدفن بها.
وقد كان المتنصرون يضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك. وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها. ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيرا ما يستصحبون معهم كلبا ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها. وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية. فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف. ويوجد مكان بأرض سكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من
(15/23)
اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبرا عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته. وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم.
قال السهيلي في "الروض الأنف" : وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا هـ. وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} في سورة الإسراء [85].
[10] {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}
{إذ} ظرف مضاف إلى الجملة بعده. وهو متعلق بـ {كانوا} فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها.
ويجوز كون الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره: اذكر، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا للجملة التي قبلها. وأيا ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيها على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله. مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدا لهم لأجل إيمانهم. فلذلك عطف عليه قوله: {فقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} .
وأوى أويا إلى المكان: جعله مسكنا له، فالمكان: المأوى. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 8] في سورة يونس.
والفتنة: جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل. وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف. والمراد بالفتية: أصحاب الكهف. وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابا متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: أذ أووا إلى الكهف.
ودلت الفاء في جملة {فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله.
(15/24)
ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {مِنْ لَدُنْكَ} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في من معنى الابتداء وفي {لدن} معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين.
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشي.
و {من} في قوله: {مِنْ أَمْرِنَا} ابتدائية.
والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم. فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم. وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا. وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث.
والرشد بفتحتين: الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني. والرشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرشد. وغلب في حسن تدبير المال. ولم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256], في البقرة. وقوله: {فإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] في سورة النساء فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء .
ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف: 24]: أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل. ألا ترى أن الجمهور قرأوا قوله في هذه السورة: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66] بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي {مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] - {مَعِيَ صَبْراً}
(15/25)
[الكهف: 67]- {مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] - {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف: 69] إلى آخره. ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب.
[11-12] {فضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْف سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}
دتفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم. بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم. وأيد بذلك أنهم على الحق. وأرة الناس ذلك بعد زمن طويل.
وإما على جملة {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ} [الكهف: 10] الخ فيؤذن بأن الله عجل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم.
والضرب: هنا بمعنى الوضع، كما يقال: ضرب عليه حجابا، ومنه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61]، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26].
وحذف مفعول {ضربنا} لظهوره. أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائر عن السمع، كما يقال: بنى على امرأته، تقديره: بنى بيتا. والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان.
وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز.
و {عددا} نعت {سنين} . والعدد: مستعمل في الكثرة، أي سنين ذات عدد كثير. ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد تريد الكثيرة. وقد أجمل العدد هنا تبعا لإجمال القصة.
والبعث: هنا الإيقاظ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع. كما يبعث البعير من مبركه. وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلا على إمكان البهث وكيفيته.
والحزب: الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد. فالحزبان فريقان: أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم. فقيل: هما فريقان من أهل
(15/26)
الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]. وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحدا والآخرون شاكين، وبعيد أيضا من فعل {أحصى} لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمنا قليلا. فالوجه: أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم. أحد الفريقين مصيب والآخر مخطيء، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ. فهما فريقان في جانبي صواب وخطإ كما دل عليه قوله {أحصى} .
ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم: { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} الآية [الكهف: 19].
وجعل حصول علم الله بحال الحزبين علة لبعثه إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم علم الواقعات، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} في أول السورة الكهف [7].
و {أحصى} يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، أن يكون اسم تفضيل مصوغا من الرباعي على خلاف القياس. واختار الزمخشري في "الكشاف" تبعا لأبي علي الفارسي الأول تجنبا لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته. واختار الزجاج الثاني. ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياسا فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن.
فالوجه، أن {أحصى} اسم تفضيل، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة. والمعنى: لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاء. أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريبا ورجما بالغيب وذلك هو ما فصله قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} [الكهف: 22] الآية.
فـ {أي} اسم استفهام مبتدأ وهو معلق لفعل {لنعلم} عن العمل، {وأحصى} خبر عن {أي} و {أمدا} تمييز لاسم التفصيل تمييز نسبة، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله {أنا أكثر منك مالا} [الكهف: 34]. ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولا عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول: أفضل أمده. إذ التحويل أمر تقديري
(15/27)
يقصد منه التقريب.
والمعنى: ليظهر اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال حرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة.
[13-14] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}
لما اقتضى قوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجما بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يشك في صدق خبره كانت جملة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } استئنافا بيانيا لجملة {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12].
وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها. وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يفيد الاختصاص، أي نحن لا غيرنا يقص قصصهم بالحق.
والحق: هنا الصدق. والصدق من أنواع الحق، ومنه قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة الأعراف [105].
والباء للملابسة، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات.
والقصص: سرد خبر طويل فالإخبار بمخاطبة مفرقة ليس بقصص وتقدم في طالع سورة يوسف.
والنبأ: الخبر الذي فيه أهمية وله شأن.
وجملة {إِنَّهُمْ فتْيَةٌ} مبينة للقصص والنبأ. وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار.
(15/28)
وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هدى الإيمان المعلوم من قوله: {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} بفتح بصائرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان.
ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
والزيادة: وفرة مقدار شيء مخصوص، مثل وفرة عدد المعدود، ووزن الموزون، ووفرة سكان المدينة.
وفعل {زاد} يكون قاصرا مثل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147],
ويكون متعديا كقوله: {فزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]. وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا.
والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه. فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده. كما قال تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]. ومنه قولهم: هو رابط الجأش. وفي ضده يقال: اضطرب قلبه. وقال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء.
وتعدية فعل {ربطنا} بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل.
و {إذ قاموا} ظرف للربط، أي كان الربط في وقت في قيامهم. أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارنا لربط الله على قلوبهم، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول.
والقيام يحتمل أن يكون حقيقيا، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك. ويحتمل أن يكون القيام مستعارا للإقدام والجسر على عمل عظيم، وللاهتمام بالعمل أو القول، تشبيها للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما، كقول النابغة:
بأن حصنا وحيا من بني أسد
قاموا فقالوا حمانا غير مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود.
(15/29)
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم: إما لأنهم عرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات، وإما لأن الله لم يكن معروفا باسم علم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو جوبتير الممثل في كوكب المشتري، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة. وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى: {قَالَ فرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24-25]
وهذا إن كان القول مسوقا إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهار عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهة خطابهم استنزالا لطائرهم على طريقة التعريض من باب إياك أعني فاسمعي يا جارة. واستقصاء لتبليغ الحق إليهم. وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته، ولأن القول نسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم. بخلاف الإسناد في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم} تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقا آخر، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم. ويكون قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خبر المبتدأ إعلاما لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة {لن ندعو} استئنافا. وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيدا لقوله: {وإذ اعتزلتموهم} [الكهف: 16] الخ. فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم، ولأنها تتضمن تشريفا لأنفسهم. ويكون قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفة كاشفة، وجملة {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} خبر المبتدأ.
وذكروا الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال.
وجملة {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي ب لن. وإن وجود حرف الجواب في خلال الجملة بنادي على كونها متفرعة على التي قبلها. واللام للقسم.
والشطط: الإفراط في مخالفة الحق والصواب. وهو مشتق من الشط، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في شيء مكروه، أي لقد قلنا قولا شططا، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله.
(15/30)
[15] {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}
استئناف بياني لما اقتضته جملة {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنويل غير السائل منزلة السائل.
وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله: {دونه} العائد إلى {ربنا} [الكهف: 14] .
والإشارة إلى قومهم بـ {هؤلاء} لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم. وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم. وهو من لوازم قصد التمييز.
وجملة {اتخذوا} خبر عن اسم الإشارة، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر.
ومعنى {مِنْ دُونِهِ} من غيره، و {من} ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله، وكان قومهم يومئذ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله.
وجملة {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم.
و {لولا} حرف تحضيض. حقيقته: الحث على تحصيل مدخولها. ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذرا بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم.
ومعنى {عليهم} على آلهتهم، بقرينة قوله: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} .
والسلطان: الحجة والبرهان.
والبين: الواضح الدلالة. ومعنى الكلام: إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ، ولذلك فرع عليه جملة {فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .
(15/31)
و {من} استفهامية، وهو إنكار، أي لا أظلم ممن افترى. والمعنى: أنه أظلم من غيره. وليس المراد المساواة بينه وبين غيره، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] والمعنى: أن هؤلاء افتروا على الله كذبا، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفرُوا يَفتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] في سورة العقود.
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطابا لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم {هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة، وإن كان الكلام من مبدئه دائرا بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإِنْ يَكْفرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة.
[16] {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فأْوُوا إِلَى الْكَهْف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفقاً}
يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة. وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر. ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضا، وهو ضرب من الالتفات. فعلى الوجه الأول يكون فعل {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} مستعملا في إرادة الفعل مثل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]،وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضا. وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك مما لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص.
و {إذ} للظرفية المجازية بمعنى التعليل.
والاعتزال: التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء، فمعنى اعتزال القوم ترك
(15/32)
مخالطتهم. ومعنى اعتزال ما يعبدون: التباعد عن عبادة الأصنام.
والاستثناء في قوله {إلا الله} منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم.
والفاء للتفريع على جملة {وَإذِاعْتَزَلْتُمُوهُمْ} باعتبار إفادتها معنى: اعتزلتم دينهم اعتزالا اعتقاديا، فيقدر بعدها جملة نحو: اعتزلوهم اعتزال مفارقة فأووا إلى الكهف، أو يقدر: وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف. وجوز الفراء أن تضمن {إذ} معنى الشرط ويكون {فأووا} جوابها. وعلى الشرط يتعين أن يكون {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} مستعملا في إرادة الاعتزال.
والأوي تقدم آنفا، أي فاسكنوا الكهف.
والتعريف في {الكهف} يجوز أن يكون تعريف العهد، بأن كان الكهف معهودا عندهم يتعبدون فيه من قبل. ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل {وَأَخَاف أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13]، أي فأووا إلى كهف من الكهوف. وعلى هذا الاحتمال يكون إشارة منهم إلى سنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك.
ونشر الرحمة: توفر تعلقها بالمرحومين. سبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في انه لا يبقي من الثوب شيئا مخفيا، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطي وبالقبض.
والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء: ما يرتفق به وينتفع. وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون.
وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية، تشبيها بتهيئة القرى للضيف المعتنى به. وجزم {ينشر} في جواب الأمر. وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء. وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين.
[17] {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ في فجْوَةٍ منه}
(15/33)
عطف بعض أحوالهم على بعض، انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفقاً} . وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم.
والخطاب لغير معين. والمعنى: يرى من تمكنه الرؤية. وهذا كثير في الاستعمال، ومنه قول النابغة:
ترى عافيات الطير قد وثقت لها
بشبع من السخل العتاق الأكايل
وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض {فأْوُوا إِلَى الْكَهْف} أنهم أووا إليه. والتقدير: فأخذوا بتصيحته فأووا إلى الكهف. ودل عليه قوله في صدر القصة {إِذْ أَوَى الْفتْيَةُ إِلَى الْكَهْف} فرد عجز الكلام على صدره.
و {تزاور} مضارع مشتق من الزور بفتح الزاي، وهو الميل. وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو. وأصله: تتزاور بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفا .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الزاي على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة. وقرأه ابن عامر ويعقوب {تزور} بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء بوزن تحمر. وكلها أبنية مشتقة من الزور بالتحريك، وهو الميل عن المكان، قال عنتره:
فازور من وقع القنا بلبانه
أي مال بعض بدنه إلى بعض وانقبض.
والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم.
و {تقرضهم} أي تنصرف عنهم. وأصل القرض القطع، أي أنها لا تطلع في كهفهم.
و {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} بمعنى صاحبة، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام، أي الجهة صاحبة اليمين. وتقدم الكلام على {ذات} عند قوله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} في سورة الأنفال [1].
(15/34)
والتعريف في {اليمين} ، و {الشمال} عوض عن المضاف إليه، أي يمين الكهف وشماله، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحا إلى الشمال الشرقي، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتها، وإذا غربت كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حين طلوعها.
وهذا وضع عجيب يسره الله لهم بحكمته ليكون داخل الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البلى أجسادهم، وذلك من آيات قدرة الله.
والفجوة: المتسع من داخل الكهف، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف. وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو.
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله}
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور من قوله: { وَتَرَى الشَّمْسَ} .
وآيات الله: دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق.
والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها.
والإشارة للتعظيم.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}
استئناف بياني لما اقتضاه اسم الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابها.
وعموم {من} الشرطية يشمل المتحدث عنهم بقرينة المقام. والمعنى: أنهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى، تنبيها على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهدى، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم. ورزقهم أفهاما تؤمن بالحق. وقد تقدم الكلام على نظير {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فهُوَ الْمُهْتَدِ} ، وعلى كتابة {المهتد} بدون ياء في سورة الإسراء.
والمرشد: الذي يبين للحيران وجه الرشد، وهو إصابة المطلوب من الخير.
[18] {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} .
(15/35)
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}
عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ} [الكهف: 17]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبوة لمن لو رآهم من الناس مدمج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شانهم، وهو تعجيب من حالهم لمن رآه من الناس.
ومعنى حسبانهم أيقاظا: أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل: كانت أعينهم مفتوحة.
وصيغ فعل {تحسبهم} مضارعا للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة.
والأيقاظ: جمع يقظ. بوزن كتف، وبضم القاف بوزن عضد.
والرقود: جمع راقد.
والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى: {فأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفيْهِ} [الكهف: 42].
و {ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى: أن الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس. وذلك لحكمة لعل لها أثرا في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطا ذراعيه شأن جلسة الكلب.
والوصيد: مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال: إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففنى وصار رمة مبسوطة عظام ذراعيه.
(15/36)
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}
الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.
والمعنى: لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصا قطاعا للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق، كما قال تأبط شرا:
أقول للحيان وقد صفرت لهم
وطابي ويومي ضيق الجحر معور
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم، كقوله تعالى: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفةً} [هود: 70]. وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتا إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} .
والاطلاع: الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طلع إذا ارتقى جبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي بـ {على}، ثم استعمل مجازا مشهورا في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} في سورة مريم [78], فضلا عن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي "الكشاف" عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح.
وانتصب {فرارا} على المفعول المطلق المبين لنوع {وليت} .
و {ملئت} مبني للمجهول، أي ملاك الرعب وملا بتشديد اللام مضاعف ملا وقرئ بهما.
والملء: كون المظروف حالا في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله {ملئت} استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فؤَادُ أُمِّ مُوسَى فارِغاً} [القصص: 10].
وانتصب {رعبا} على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يملأ. فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإحمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلا تمييزا. وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال، وليس تمييزا محولا
(15/37)
عن المفعول كما قد يلوح بادئ الرأي.
والرعب تقدم في قوله تعالى: {سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفرُوا الرُّعْبَ} في سورة آل عمران [151].
وقرأ نافع وابن كثير {ولملئت} بتشديد اللام على المبالغة في الملء. وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل.
وقرأ الجمهور {رعبا} بسكون العين.وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين.
[19-20] {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفلِحُوا إِذاً أَبَداً}
عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260].
والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قرونا بعثناهم. ووجه الشبه: أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة.
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجب كما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].
وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله: {ليتساءلوا} عند قوله {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف:12]. والمعنى: بعثناهم فتساءلوا بينهم.
وجملة {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} بيان لجملة {ليتساءلوا} . وسميت هذه المحاورة تساؤلا لأنهما تحاور عن تطلب كل رأي الآخر للوصول إلى تحقيق المدة. والذين قالوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} هم من عدا الذي قال {كَمْ لَبِثْتُمْ} .
(15/38)
واسند الجواب إلى ضمير جماعتهم: إما لأنهم تواطأوا عليه، وإما على إرادة التوزسع، أي منهم من قال: لبثنا يوما، ومنهم من قال: لبثنا بعض يوم. وعلى هذا يجوز أن تكون {أو} للتقسيم في القول بدليل قوله بعد: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ،أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم. فالقائلون {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر، ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صوابا.
وتفريع قولهم: {فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} على قولهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} لأنه في معنى فدعوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم. وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} لكان قولهم: {فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} عين الأسلوب الحكيم.
والورق بفتح الواو وكسر الراء: الفضة. وكذلك قرأه الجمهور. ويقال ورق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وخلف. والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة، وهي الدراهم. قيل: كانت من دراهم دقيوس سلطان الروم.
والإشارة بهذه إلى دراهم معينة عندهم، والمدينة هي أبسس بالباء الموحدة. وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة.
و {أيها} ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاما، أي أزكى طعامه من طعام غيره.
والنصب {طعاما} على التمييز لنسبة {أزكى} إلى {أي}.
والأزكى: الأطيب والأحسن، لأن الزكو الزيادة في الخير والنفع.
والرزق: القوت. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} سورة يوسف[37], في سورة يوسف، والفاء لتفريع أمرهم من يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف.
وصيغة الأمر في قوله {فليأتكم} و {ليتلطف} أمر لأحد غير معين سيوكلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معينا بينهم وإنما الإجمال في حكاية
(15/39)
كلامهم لا في الكلام المحكي. وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك.
قيل التاء من كلمة {وَلْيَتَلَطَّف} هي نصف حروف القرآن عدا. وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] هي نصف حروف القرآن.
والإشعار: الإعلام، وهو إفعال منشعر من باب نصر وكرم شعورا، أي علم. فالهمزة للتعدية مثل همزة {أعلم} من علم الذي هو عليم العرفان يتعدى إلى واحد.
وقوله: {بكم} متعلق بـ {يشعرن} . فمدخول الباء هو المشعور، أي المعلوم. والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني ما علق الضمير المجرور بفعل {يشعرن} من قبيل تعليق الحكم بالذات. والمراد بعض أحوالها. والتقدير: ولا يخبرن بوجودكم أحدا. فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك. والنون لتوكيد النهي تحذيرا من عواقبه المضمنة في جملة {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20] الواقعة تعليلا للنهي، وبيانا لوجه توكيد النهي بالنون. فهي واقعة موقع العلة والبيان، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها.
وجملة {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم.
وضمير {إنهم} عائد إلى ما أفاده العموم في قوله {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} ،فصار {أحدا} في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي.
والظهور أصله: البروز دون سائر. ويطلق على الظفر بالشيء، وعلى الغلبة على الغير، وهو المراد هنا.
قال تعالى: {أَوِ الطِّفلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وقال {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] وقال {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85].
والرجم: القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب.
وجملة {يَرْجُمُوكُمْ} جواب شرط {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا} .ومجموع جملتي الشرط
(15/40)
وجوابه دليل على خبر {إن} المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه.
ومعنى {يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} يرجعلوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم.
والملة. الدين. وقد تقدم في سورة يوسف [37] عند قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل، لما دلت عليه حرف {إذا} من الجزائية.
و {أبدا} ظرف للمستقبل كله. وهو تأكيد لما دل عليه النفي بـ{لن} من التأييد أو ما يقاربه.
[21] {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} .
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فيهَا}
انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرة أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم وباطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطريقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره.
وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان.
فالكلام عطف على قوله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف: 19] الآية.
والقول في التشبيه والإشارة في {وَكَذَلِكَ} نظير القول في الذي قبله آنفا.
والعثور على الشيء: الاطلاع عليه والظفر به بعد الطلب. وقد كان الحدث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حق} الآية.
ومفعول {أعثرنا} محذوف دل عليه عموم {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:
(15/41)
20].تقديره: أعثرنا أهل المدينة عليهم.
وضمير {ليعلموا} عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور.
ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث. وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها. أي ساعة الحشر، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}
الظرف متعلق بـ {أعثرنا} ، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم. وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم. وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى: {أمرهم} فضمير {يتنازعون} و {بينهم} عائدان إلى ما عاد الله ضمير {ليعلموا} .
وضمير {أمرهم} يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف. والأمر هنا بمعنى الشأن.
والتنازع: الجدال القوي، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف، مثل: أكانوا نياما أم أمواتا، وأيبقون أحياء أم يموتون، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة، وفي مدة مكثهم.
ويجوز أن يكون ضمير {أمرهم} عائدا إلى ما عاد عليه ضمير {يتنازعون} . أي شأنهم فيما يفعلونه بهم.
والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع.
[21] {فقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
طوي هنا وصف العثور عليهم، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي.
وتفريع {فقالوا} على {يتنازعون} .
(15/42)
وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنيانا لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناء يمكن غلق بابه وحراسته.
وجملة {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا، ابنوا عليهم بنيانا. والمعنى: ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم. ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه.
والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة، فضمير {أمرهم} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {فقالوا} ،أي الين غلبوا على أمر القائلين: ابنوا عليهم بنيانا.
وإنما رأوا أن يكون البناء مسجدا ليكون إكراما لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم. وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة.
واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها منهي عنه، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيه بفعل من يعبدون صالحي ملتهم. وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميت. وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية، فإن كان شرعا لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر.
[22] {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}
لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت
(15/43)
مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصا، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل علم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.
وضمير {يقولون} عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نبهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه. ومعنى سين الاستقبال سار إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.
وقد أعلم الله أن قليلا من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك. وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم. وروي أن ابن عباس قال: أنا من القليل.
وكأن أقوال الناس تمالأت عل أن عدتهم فردية تيمنا بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجما بالغيب.
والرجم حقيقته: الرمي بحجر ونحوه. واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، قال زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجم.
والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به.
وكل جملة {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وجملة {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف.
وجملة {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} الواو فيها واو الحال، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ، وهو إن كان نكرة فإن وقوعه خبر على معرفة أكسبه تعريفا. على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة. ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في "الكشاف" لأنه غير معروف في فصيح الكلام: وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد.
(15/44)
ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم: إن هذه الواو. واو الثمانية، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعفه النحاة ولم يعين مبتكره. وقد عد ابن هشام في "مغني اللبيب" من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين.
قلت: أقدم هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة370 فهو المقصود ببعض ضعفه النحاة. وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في "الانتصاف على الكشاف" من سورة التحريم إذ روي عن ابن الحاجب: أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] في سورة التحريم هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية. وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة، أحدها: التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] في سورة براءة. والثانية: في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . والثالثة: في قوله: {وَفتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] في الزمر. قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري، فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد آخره.
وقال في "المغنى" : سبق الثعلبي الفاضل إلى عدها من المواضع في تفسيره. وأقول: لعل الفاضل لم يطلع عليه. وزاد الثعلبي قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7] في سورة الحاقة حيث قرن اسم عدد ثمانية بحرف الواو.
ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظة كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدودا بعدد الثمانية كما في آية الزمر. ولقد بعد الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعرف. وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضل منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة من صفات الموصوفين، وكذلك لعد آية سورة الحاقة، ومثل هذه اللطائف كالزهرة تشم ولا تحك.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} في سورة براءة [112].
(15/45)
وجملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لما تثيره جملة {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ} إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم. فأجيب بأن بحال العلم بذلك على علام الغيوب. وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.
وجملة {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} كذلك مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا: هل يكون بعض الناس عالما بعدتهم علما غير كامل. فأجيب بأن قليلا من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كل حال فهم لا يوصفون بالأغلبية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.
{فلا تُمَارِ فيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفتِ فيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}
تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى. وهذا التفريع وما عطف عليه معترض في أثناء القصة.
والتماري: تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك. واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة. والمراد بالمراء فيهم: المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.
والمراء الظاهر: هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه. وذلك مثل قوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} وقوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنماره وإبايته لوضوح حجته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.
والاستفتاء: طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد. ومعنى {فيهم} أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف. والمراد من النهي عن استفنائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير {منهم} عائد إلى عاد إليه ضمير {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} ،
(15/46)
وهم أهل مكة الدين سألوا عن أمر أهل الكهف.
أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون (من) تعليلية، والضمير المجرور بها عائدا إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه. وفي التقييد بـ {منهم} محترز ولا يستقيم جعل ضمير {منهم} عائدا إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.
[23-24] {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
عطف على الاعتراض. ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم: أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يقل: (إن شاء الله)، فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشر يوما. وقيل: بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابا رمزيا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري: أن سليمان قال: لأطوفن الليلة على مائدة امرأة تلد كل واحدة ولدا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شق غلام. ثم كان هذا عتابا صريحا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول: (إن شاء الله)كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يعد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله. وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي، أي هو استثناء من حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل الخ... إلا أن يشاء الله أن تقوله. ومشيئة الله تعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن بأذن الله لك بأن تقوله. وعليه فالمصدر المسبك من {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى. ومفعول {يَشَاءَ اللَّهُ}
(15/47)
محذوف دل عليه ما قبله كما هو شأن فعل المشيئة. والتقدير: إلا قولا شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله.
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة {إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه. أي إلا قولا مقترنا ب(إن شاء الله) فيكون المصدر المنسبك من أن والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة. والتقدير: إلا ب(إن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله، لأن ملابسة القول حقيقة المشيئة محال. فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ(إن شاء الله) ونحوه. فالمراد بالمشيئة إذن الله له.
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:
الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علما عظيما من أدب النبوة.
الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم. ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: " سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذة بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا" . فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سؤله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم: أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئا. ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئا.
فنظم الآية أن اللام في قوله: {لشي} ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تعد به، فاللام بمنزلة في.
و {شيء} اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي الشيء تريد أن تفعله.
(15/48)
والإشارة بقوله: {ذلك} عائدة إلى {شيء} ، أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.
و {غدا} مستعمل في المستقبل مجازا. وليست كلمة {غدا} مرادا بها اليوم الذي يلي يومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال، والأمس بمعنى زمن الماضي. وقد جمعها قول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاء مثل اإيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} حلا لعقد اليمين يسقط وجوب الكفارة. ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} الخ: بحيث إذا أعقبت اليمين بقول: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ونحوه لم يلزم البر في اليمين. وروي ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك أن قوله {ولا تقولن لشيء إني فاعل} الخ.. إنما قصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء. يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنة. ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين، وهي قول (إن شاء الله). وهذا قول ابن حنيفة والشافعي.
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
عطف على النهي، أي لا تعد بوعد فإن نسيت فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه. والمراد بالتذكير التدارك وهو هنا مشتق من الذكر بضم الذال وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العلم من كمال الملاطفة ما لا يخفى.
وحذف مفعول {نسيت} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل. وبعض الذين أعملوا به آية {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ترخيصا في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة. وعن ابن عباس: لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا.
(15/49)
والجمهور على أن قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا، واستدلوا بأن السنة وردت بخلافة.
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً}
لما أبر الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمره أن يذكر نهي ربه. ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجوا أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم. والمعنى: وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا.
فجملة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} الخ.. معطوفة على جملة {فلاَ تُمَارِ فيهِمْ} . ويجوز أن تكون جملة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ} عطفا على جملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا، أي ادع الله بهذا.
وانتصب {رشدا} على تمييز نسبة التفضيل من قوله: {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا} ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل {أَنْ يَهْدِيَنِ} لأن الرشد نوع من الهداية.
فـ {عسى} مستعملة في الرجاء تأدبا، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضا في أثنائها.
ويجوز أن يكون المعنى: وارج من الله أن يهديك فيذكرك أن لا تعيد وعدا ببيان شيء دون إذن الله.
والرشد بفتحتين الهدى والخير. وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السور {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10].
(15/50)
[25] {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}
رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله {فلاَ تُمَارِ فيهِمْ} إلى قوله {رشدا} [الكهف: 22-24].
فيجوز أن تكون جملة {وَلَبِثُوا} عطفا على مقولهم في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. أي ويقولون: لبثوا في كهفهم، ليكون موقع قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] كموقع قوله السابق: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22]، وعليه فلا يكون هذا إخبار عن مدة ليثهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ {وقالوا لَبِثُوا في كَهْفهِمْ} إلى آخره، فذلك تفسير لهذا العطف.
ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها. والتقدير: وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين.
وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] كما سيأتي. ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم، وأن المراد لبثهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]، وقد قدما عند قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْف وَالرَّقِيمِ} [الكهف: 9] الخ... أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة. وقيل: المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية.
والمعنى: أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين. فعبر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع. ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم. قال السهيلي في "الروض الأنف" : النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به. وأقول: واليهود الذين لقنوا قريشا السؤال عنهم يؤرخون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية. فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسية بثلاث سنين زائدة قمرية. كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر. وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد. وهذا من علم القرآن
(15/51)
وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.
وقرأ الجمهور {ثلاثمائة} بالتنوين. وانتصب {سنين} على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوبا، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة. وقد جاء تمييز المائة جمعا، وهو نادر لكنه فصيح.
[26] {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً}
إن كان قوله تعالى: {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ} [الكهف: 25] إخبارا من الله عن مدة لبثهم يكون قوله {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ} قطعا للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم.
وإن كان قوله: {ولبثوا} حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} تفويضا إلى الله في علم ذلك كقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22].
وغيب السماوات والأرض ما غاب علمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم. واللام في {لله} للملك. وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص، أي لله لا لغيره، ردا على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم.
و {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد.
وضمير الجمع في قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم. وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول {من} الزائدة على النكرة المنفية.
وكذلك قوله: {وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً} هو رد على زعمهم بأن الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه.
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ} . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجزم و {يشرك}
(15/52)
على أن {لا} ناهية. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه.
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها.
[27] {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}
عطف على جملة {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] بما فيها من قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26].
والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ كانوا أيامئذ لا يبين لهم شيء إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر فسألوا عن أهل الكهف وعن ذي القرنين، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم، ونحو ذلك، كما تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الاسراء: 73].
والمعنى: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض ما أوحى إليك واتل جميع ما أوحى إليك فإنه لا مبدل له. فلما وعدهم الجواب عن الروح وعن أهل الكهف وأبر الله وعده إياهم قطعا لمعذرتهم ببيان إحدى المسألتين ذيل ذلك بأن أمر نبيه أن يقرأ القرآن كما أنزل عليه وأنه لا مبدل لكلمات الله، ولكي لا يطمعهم الإجابة عن بعض ما سألوه بالطمع في أن يجيبهم عن كل ما طلبوه.
وأصل النفي بـ {لا} النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه. والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله.
والتبديل: التغيير بالزيادة والنقص. أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم. وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ} وقوله: {وَلَبِثُوا في كَهْفهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25].
وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} في سورة الأنعام [34].
فالأمر في قوله: {واتل} كناية عن الاستمرار. و {مَا أُوحِيَ} مفيد للعموم، أي كل
(15/53)
ما أوحي إليك، ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه. وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطرا من التصويب.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة [102] وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في الأنفال [2].
والملتحد: اسم مكان ميمي يجيء على زنة اسم المفعول من فعله. والملتحد: مكان الالتحاد، والالتحاد: الميل إلى جانب. وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تكلف الميل. ويفهم من صيغة التكلف أنه مفر من مكروه يتكلف الخائف أن يأوي إليه. فلذلك كان الملتحد بمعنى الملجأ. والمعنى: لن تجد شيئا ينجيك من عقابه. والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه.
[28] {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
{وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف. فهو مشارك لقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27].الآية. وتقدم في سورة الأنعام [52] عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناسا أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتوا إلى مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عيهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة.
وما هنا آكد إذ أمره بملازمتهم بقوله: {وَاصْبِرْ نَفسَكَ} ، أي احبسها معهم حبس ملازمة.
والصبر: الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المصبورة وهي الدابة تشد لتجعل غرضا للرمي. ولتضمين فعل {اصبر} معنى الملازمة علق به ظرف {مع}.
(15/54)
و {الغداة} قرأه الجمهور بألف بعد الدال: اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعشي: المساء والمقصود أنهم يدعون الله دعاء متخللا سائر اليوم والليلة. والدعاء: المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات.
والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة. وقرأ ابن عامر {بالغدوة} بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة وهو مرادف الغداة.
وجملة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في موضع الحال. ووجه الله: مجاز في إقباله على العبد.
ثم أكد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم.
وظاهر {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} نهي العينين عن أن تعدوا عن الذين يدعون ربهم. أي أن تجاوزاهم، أي تبعدا عنهم. والمقصود: الإعراض، ولذلك ضمن فعل العدو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول بـ {عن} وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال: عداه، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى: ولا تعدي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع.
وجملة {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت.
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الرجحة والقلوب النيرة وجعلوا همهم الصور الظاهرة.
[28] {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فرُطاًْ}
هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وما صدق {من} كل من اتصف بالصلة. وقيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة
(15/55)
قريش.
والمراد بإغفال القلب جعله غافلا عن التفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك، فإن ذلك ناشئ عن خلقه عقول ضيقة التبصر مسوقة بالهوى والإلف.
وأصل الإغفال: إيجاد الغفلة، وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة خاصة، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خلقه تلك القلوب. وما بالطبع لا يتخلف.
وقد اعتضد هذا المعنى بجملة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول، فالغفلة خلقة في قلوبهم، واتباع الهوى كسب من قدرتهم.
والفرط بضمتين: الظلم والاعتداء. وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأن الظلم سبق في الشر.
والأمر: الشأن والحال.
وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق.
[29] {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فمَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فلْيَكْفرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفقاً}
بعد أن أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يقتلونه من مقترحاتهم وتعريض بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله، وأنه مبلغه بدون هوادة، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض. ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه.
و {الحق} خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام، أي هذا الحق. والتعبير بـ {ربكم} للتذكير بوجوب توحيده.
والأمر في قوله: {فليؤمن} وقوله: {فليكفر} للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد.
(15/56)
وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه.
وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى من الموصولة في الموضعين.
وفعل {يؤمن، ويكفر} مستعملان للمستقبل، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه.
وجملة {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل: فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم.
والمراد بالظالمين: المشركون قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
وتنوين {نارا} للتهويل والتعظيم.
والسرادق بضم السين قيل: هو الفسطاط، أي الخيمة. وقيل: السرادق: الحجزة بضم الحاء وسكون الزاي، أي الحاجز الذي يكون محيطا بالخيمة يمنع الوصول إليها، فقد يكون من جنس الفسطاط أديما أو ثوبا وقد يكون غير ذلك كالخندق. وهو كلمة معربة من الفارسية. أصلها سراطاق قالوا: ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان. والسرادق: هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار، وأثبت لها سرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم. وشمل {يستغيثوا} الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئا يبرد عليهم، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلا، كما في آية الأعراف {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [لأعراف: 50]. والاستغاثة من شدة العطش الناشئ عن الحر فيسألون الشراب. وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} .
والإغاثة: مستعارة للزيادة مما استغيث من أجله على سبيل التهكم، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
والمهل بضم الميم له معان كثيرة أشبهها هنا أنه دردي الزيت فإنه يريدها التهابا
(15/57)
قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]
والتشبيه في سواد اللون وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة، ولذلك عقب بقوله: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} وهو استئناف ابتدائي.
والوجه أشد الأعضاء تألما من حر النار قال تعالى: {تَلْفحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104]
وجملة {بِئْسَ الشَّرَابُ} مستأنفة ابتدائية أيضا لتشنيع ذلك الماء مشروبا كما شنع مغتسلا. وفي عكسه الماء الممدوح في قوله تعالى {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [صّ: 42]
والمخصوص بذم {بئس} محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: بئس الشراب ذلك الماء.
وجملة {وساءت مرتفقا} معطوفة على جملة {يَشْوِي الْوُجُوهَ} ، فهي مستأنفة أيضا لإنشاء ذم تلك النار بما فيها.
والمرتفق: محل الاتفاق، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المرفق وهو مجمع العضد والذراع. سمي مرفقا لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكئ عليه. فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد، ثم اشتق منه المرتفق. فالمرتفق هو المتكأ، وتقدم في سورة يوسف.
وشأن المرتفق أن يكون مكان استراحة، فإطلاق ذلك على النار تهكم، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة، وكما أطلق على مكانهم السرادق.
وفعل {ساء} يستعمل {بئس} فيعمل عمل {بئس}، فقوله: {مرتفقا} تمييز. والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله: {بئس الشراب} .
[30] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا مراعي فيه حال السامعين من المؤمنين، فإنهم حين يسمعون ما أعد للمشركين تتشوف نفوسهم إلى معرفة ما أعد للذين آمنوا ونبذوا الشرك فأعلموا أن عملهم مرعي عند ربهم. وجريا على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد
(15/58)
والترهيب بالترغيب.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد {إن} لتحقيق مضمونها. وإعادة حرف {إن} في الجملة المخبر بها عن المبتدأ الواقع في الجملة الأولى لمزيد العناية والتحقيق كقوله تعالى في سورة الحج [17] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفرُّونَ مِنْهُ فإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ومثله قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به تزجى الخواتيم
وموقع {إن} الثانية في هذه الآية أبلغ منه في بيت جرير لأن الجملة التي وقعت فيها في هذه الآية لها استقلال بمضمونها من حيث هي مفيدة حكما يعم ما وقعت خبرا عنه وغيره من كل من يماثل الخبر عنهم في عملهم، فذلك العموم في ذاته حكم جدير بالتأكيد لتحقيق حصوله لأربابه بخرف بيت جرير.
وأما آية سورة الحج فقد اقتضى طول الفصل حرف التأكيد حرصا على إفادة التأكيد.
والإضاعة: جعل الشيء ضائعا. وحقيقته الضيعة: تلف الشيء من مظنة وجوده. وتطلق مجازا على انعدام الانتفاع بشيء موجود فكأنه قد ضاع وتلف، قال تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} في سورة آل عمران [195]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في البقرة. ويطلق على منع التمكين من شيء والانتفاع به تشبيها للممنوع بالضائع في اليأس من التمكن منه كما في هذه الآية، أي أنا لا نحرم من أحسن عملا أجر عمله. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
[31] {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفقاً}
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما بين هذا الأجر.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، وهي كونهم آمنوا وعملوا
(15/59)
الصالحات.
واللام في {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي} لام الملك. و {من} للابتداء، جعلت جهة تحتهم منشئا لجري الأنهار. وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة براءة [72].
و {عدن} تقدم في قوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ} في سورة براءة [72].
و {مِنْ تَحْتِهمُ} بمنزلة {مِنْ تَحْتِها} ، لأن تحت جناتهم هو تحت لهم.
ووجه إيثار إضافة {تحت} إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقررات لمضمونه، وهي: التأكيد مرتين، وذكر اسم الإشارة. ولام الملك، وجر اسم الجهة بـ {من}، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم، والمقصود من ذلك: التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتم تقرر.
وجملة {يحلون} في موضع الصفة لـ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
والتحلية: التزيين، والحلية: الزينة.
وأسند الفعل إلى المجهول، لأنهم يجدون أنفسهم محلين بتكوين الله تعالى.
والأساور: جمع سوار على غير قياس. وقيل: جمع أسورة الذي هو جمع سوار. فصيغة جمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت.
و {من} في قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش. وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات.
والسوار: حلي من ذهب أو فضة يحيط بموضع الذراع، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية دستوراه بهاء في آخره كما في كتاب الراغب، وكتب بدون هاء في "تاج العروس" .
وأما قوله: {مِنْ ذَهَبٍ} فإن {من} فيه للبيان، وفي الكلام اكتفاء، أي من ذهب وفضة كما اكتفى في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقوله {وَحُلُّوا أَسَاوِر
(15/60)
مِنْ فضَّةٍ} [الانسان: 21]، ولكل من المعدنين جمالة الخاص.
واللباس: ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل.
والثياب: جمع ثوب، وهو الشقة من النسيج.
واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر، وكان من شعار الملوك. قال النابغة:
يصونون أجسادا قديما نعيمها
بخالصة الأردان خضر المناكب
والسندس: صنف من الثياب، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشرا للجلد ليقيه غلظ الإستبرق.
والإستبرق: الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب، يلبس فوق الثياب مباشرة للجلد.
وكلا اللفظين معرب. فأما لفظ {سندس} فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله، فقال جماعة: أصله فارسي، وقال المحققون: أصله هندي وهو في اللغة الهندية سندون بنون في آخره. كان قوم من وجوه الهند وفدوا على الإسكندر يحملون هدية من هذا الديباج، وأن الروم غيروا اسمه إلى سندوس، والعرب نقلوه عنهم فقالوا سندس فيكون معربا عن الرومية وأصله الأصيل هندي.
وأما الإستبرق فهو معرب عن الفارسية. وأصله في الفارسية إستبره أو إستبر بدون هاء أو استقره أو إستفره. وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وأصله إستروه وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب، ولذلك فهمزته همزة قطع عند الجميع، وذكره بعض علماء اللغة في باب الهمزة وهو الأصوب، ويجمع على أبارق قياسا، على أنهم صغروه على أبريق فعاملوا السين والتاء معاملة الزوائد.
وفي "الإتقان" للسيوطي عن ابن النقيب: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذا اللفظ يقوم مقامه في الفصاحة لعجزوا.
وذلك: أن الله تعالى إذا حث عبادة على الطاعة بالوعد والوعيد. والوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في: الأماكن، والمآكل، والمشارب، والملابس، ونحوها مما
(15/61)
تتحد فيه الطباع أو تختلف فيه. وأرفع الملابس في الدنيا الحرير، والحرير كلما كان ثوبه أثقل كان أرفع فإذا أريد ذكر هذا فالأحسن أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، وذلك ليس إلا الإستبرق ولا يوجد في العربية لفظ واحد يدل على ما يدل عليه لفظ إستبرق. هذه خلاصة كلامه على تطويل فيه.
و {من} في قوله: {مِنْ سُنْدُسٍ} للبيان.
وقدم ذكر الحلي على اللباس هنا لأن ذلك وقع صفة للجنات ابتداء، وكانت مظاهر الحلي أبهج للجنات، فقدم ذكر الحلي وأخر اللباس لأن اللباس أشد اتصالا بأصحاب الجنة لا بمظاهر الجنة، وعكس ذلك في سورة الإنسان في قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} [الانسان: 21] لأن الكلام هنالك جرى على صفات أصحاب الجنة.
وجملة {مُتَّكِئِينَ فيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} في موضع الحال من ضمير {يلبسون} .
والاتكاء: جلسة الراحة والترف. وتقدم عند قوله تعالى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} سورة يوسف [31].
والأرائك: جمع أريكة. وهي اسم لمجموع سرير وحجلة. والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها. ولذلك يقال للنساء: ربات الحجال، فإذا وضع فيها سرير للاتكاء أو الاضطجاع فهي أريكة. ويجلس فيها الرجل وينام مع المرأة، وذلك من شعار أهل الترف.
وجملة {نعم الثواب} استئناف مدح، ومخصوص فعل المدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه. والتقدير: نعم الثواب الجنات الموصوفة.
وعطف عليه فعل إنشاء ثان وهو {وَحَسُنَتْ مُرْتَفقاً} لأن {حسن} و {ساء} مستعملان استعمال {نعم} و {بئس} فعملا عملهما. ولذلك كان التقدير: وحسنت الجنات مرتفقا. وهذا مقابل قوله في حكاية حال أهل النار {وَسَاءَتْ مُرْتَفقاً} .
والمرتفق: هنا مستعمل في معناه الحقيقي بخلاف مقابله المتقدم.
[32-36] { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَففنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفرا وَدَخَلَ
(15/62)
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}
عطف على جملة {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} الآيات، فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا صرب مثلا لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر، فكان لذلك المثل شبه بمثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين من عصر أهل الكهف، فضرب مثلا للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبا مؤنقا وحال الآخر بخلاف ذلك؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تباتا وخسارة، وكانت عاقبة الآخر نجاحا، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضا للصلاح والنجاح.
واللام في قوله: {لهم} يجوز أن يتعلق بفعل {واضرب} كقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفسِكُمْ} [الروم: 28]. ويجوز أن يتعلق بقوله: {مثلا} تعلق الحال بصاحبها، أي شبها لهم، أي للفريقين كما في قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74]، والوجه أن يكون متنازعا فيه بين {ضرب، ومثلا}.
والضمير في قوله: {لهم} يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني.
ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالا معروفا فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس. فقال الكلبي: المعني بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود ابن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد ياليل، والآخر مسلم وهو أخوه: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل. ووقع في "الإصابة" : بن هلال، وكان زوج أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان، ولعلهما كانت بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة.
وعن ابن عباس: هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالا فاشترى أحدهما أرضا وجعل فيها جنتين، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه
(15/63)
الله تعالى في هذه السورة، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات [50-52] في قوله: {فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌقرين يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} الآيات. فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف.
وإن كان حال الرجلين حالا مفروضا كما جوزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة. قال ابن عطية: فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] الآيات.
والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف: 37] الخ فقد جاء {قال} غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة، ومثل قوله {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية.
ومعنى {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا} قدرنا له أسباب ذلك.
وذكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} في سورة البقرة [266].
ومعنى {حففناهما} أحطناهما، يقال: حفه بكذا، إذا جعله حافا به، أي محيطا، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]، لأن "حف" يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثان عدي إليه بالباء، مثل: غشيه وغشاه بكذا. ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة.
ومعنى {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} ألهمناه أن يجعل بينهما. وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلا بين الجنتين: كانت الجنتان تكتنفان حقل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة. وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد.
و {كلتا} اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه، فهو اسم مفرد دال
(15/64)
على شيئين نظير زوج. ومذكره {كلا}. قال سيبويه: أصل كلا كلو واصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث. ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتبارا للفظه وهو أفصح كما في هذه الآية. ويجوز تثنيته اعتبارا لمعناه كما في قول الفرزدق:
كلاهما حين جد الجري بينهما
قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
و {أكلها} قرأه الجمهور بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الهمزة وضم الكاف وهو الثمر، وتقدم.
وجملة {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} معترضة بين الجمل المتعاطفة. والمعنى: أثمرت الجنتان إثمارا كثيرا حتى أشبهت المعطي من عنده.
ومعنى {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} لم تنقص منه، أي من أكلها شيئا، أي لم تنقصه عن مقدار ما تعطيه الأشجار في حال الخصب. ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف. والتقدير: ولم تظلم من مقدار أمثاله. واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خبرهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبهتا من حرم ذا حق حقه فظلمه، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار.
والتفجير تقدم عند قوله تعالى: {حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} في سورة الإسراء [90].
والنهر بتحريك الهاء لغة في النهر بسكونها. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} في سورة البقرة [249].
وجملة {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} في موضع الحال من {لأحدهما} . والثمر بضم الثاء والميم: المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع. وهو مأخوذ من ثمر ماله بتشديد الميم بالبناء للنائب، يقال: ثمر الله ماله إذا كثر. قال النابغة:
فلما رأى أن ثمر الله ماله
وأثل موجودا وسد مفاقره
مشتقا من اسم الثمرة على سبيل المجاز أو الاستعارة لأن الأرباح وعفو المال يشبهان ثمر الشجر. وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة. قال النابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن ولد
(15/65)
وقرأ الجمهور {ثمر} بضم المثلثة وضم الميم. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بضم المثلثة وسكون الميم. وقرأه عاصم بفتح المثلثة وفتح الميم .
فقالوا: إنه جمع ثمار الذي هو جمع ثمر، مثل كتب جمع كتاب فيكون دالا على أنواع كثيرة مما تنتجه المكاسب، كما تقدم آنفا في جمع أساور من قوله: {أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} . وعن النحاس بسنده إلى ثعلب عن الأعمش: أن الحجاج قال: "لو سمعت أحدا يقرأ {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي بضم الثاء لقطعت لسانه. قال تعلب: فقلت للأعمش: أنأخذ بذلك. قال: لا ولا نعمة عين، وكان يقرأ: ثمر"، أي بضمتين.
والمعنى: وكان لصاحب الجنتين مال، أي غير الجنتين. والفاء لتفريع جملة {قال} على الجمل السابقة، لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس ينطق ربه عن مثل ذلك القول.
والصاحب هنا بمعنى المقارن في الذكر حيث انتظمهما خبر المثل، أو أريد به الملابس المخاصم، كما في قول الحجاج يخاطب الخوارج ألستم أصحابي بالأهواز .
والمراد بالصاحب هنا الرجل الآخر من الرجلين، أي فقال: من ليس له جنات في حوار بينهما. ولم يتعلق الغرض بذكر مكان هذا القول ولا سببه لعدم الاحتياج إليه في الموعظة.
وجملة {وَهُوَ يُحَاِورُه} حال من ضمير {قال} .
والمحاورة: مراجعة الكلام بين متكلمين.
وضمير الغيبة المنفصل عائد على ذي الجنتين. والضمير المنصوب في {يحاوره} عائد على صاحب ذي الجنتين، ورب الجنتين يحاور صاحبه. دل فعل المحاورة على أن صاحبه قد وعظه في الإيمان والعمل الصالح، فراجعه الكلام بالفخر عليه والتطاول شأن أهل الغطرسة والنقائض أن يعدلوا عن المجادلة بالتي هي أحسن إلى إظهار العظمة والكبرياء.
و {أعز} أشد عزة. والعزة: ضد الذل. وهي كثرة عدد عشيرة الرجل وشجاعته.
والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه. وأراد بهم هنا ولده، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39]. وانتصب
(15/66)
{نفرا} على تمييز نسبة {أعز} إلى ضمير المتكلم.
وجملة {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} في موضع الحال من ضمير {قال} ، أي قال ذلك وقد دخل جنته مرافقا لصاحبه. أي دخل جنته بصاحبه، كما يدل عليه قوله {قال مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} ، لأن القول لا يكون إلا خطابا لآخر، أي قال له، ويدل عليه أيضا قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 37]. ووقوع جواب قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفراً} في خلال الحوار الجاري بينهما في تلك الجنة.
ومعنى {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِهِ} وهو مشرك مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه.
وإنما أفرد الجنة هنا وهما جنتان لأن الدخول إنما يكون لإحداها لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى، فما دخل إلا إحدى الجنتين.
والظن بمعنى: الاعتقاد، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده.
وتبيد: تهلك وتفنى.
والإشارة بهذا إلى الجنة التي هما فيها، أي لا أعتقد أنها تنتفض وتضمحل.
والأبد: مراد منه طول المدة، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها. وهذا اغترار منه بغناه واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر وقوته وثبوته واجتماع أسباب نمائه ودوامه حوله، من مياه وظلال.
وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوام تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة.
ولا تلازم بين المعتقدين. ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه، ولذلك عقب ذلك بقوله {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} تهكما بصاحبه. وقرينة التهكم قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . وهذا كقول العاصي ابن وائل السهمي لخباب بن الأرت ليكونن لي مال هنالك فأقضيك دينك منه.
وأكد كلامه بلام القسم ونون التوكيد مبالغة في التهكم.
وانتصب {منقلبا} على تمييز نسبة الخبر. والمنقلب: المكان الذي ينقلب إليه، أي يرجع.
وضمير {منهما} للجنتين عودا إلى أول الكلام تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور {منهما} بالتثنية، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف
(15/67)
{منها} بالإفراد جريا على قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وقوله: {أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ} .
[37-41] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} .
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} .
حكي كلام صاحبه بفعل القول بدون عطف للدلالة على أنه واقع موقع المحاورة والمجاوبة، كما قدمناه غير مرة.
والاستفهام في قوله: {أَكَفرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} مستعمل في التعجيب والإنكار، وليس على حقيقته، لأن الصاحب كان يعلم أن صاحبه مشرك بدليل قوله له: {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} . فالمراد بالكفر هنا الإشراك الذي من جملة معتقداته إنكار البعث، ولذلك عرف بطريق الموصولية لأن مضمون الصلة من شأنه أن يصرف من يدركه عن الإشراك به، فإنهم يعترفون بأن الله هو الذي خلق الناس فما كان غير الله مستحقا للعبادة.
ثم إن العلم بالخلق الأول من شأنه أن يصرف الإنسان عن إنكار الخلق الثاني، كما قال تعالى: {أَفعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: 15] ،وقال {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ} [الروم: 27]، فكان مضمون الصلة تعريضا بجهل المخاطب.
وقوله: {مِنْ تُرَابٍ} إشارة إلى الأجزاء التي تتكون منها النطفة وهي أجزاء الأغذية المستخلصة من تراب الأرض، كما قال تعالى: في الآية الأخرى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [يّس: 36].
والنطفة: ماء الرجل، مشتقة من النطف وهو السيلان. و {سواك} عدل خلقك، أي جعله متناسبا في الشكل والعمل.
و {من} في قوله: { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ } ابتدائية، وقوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}
(15/68)
كتب في المصحف بألف بعد النون. واتفق القراء العشرة على إثبات الألف في النطق في حال الوقف، وأما في حال الوصل فقرأه الجمهور بدون نطق بالألف، وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بإثبات النطق بالألف في حال الوصل، ورسم المصحف يسمح بكلتا الروايتين.
ولفظ {لكنا} مركب من لكن بسكون النون الذي هو حرف استدراك، ومن ضمير المتكلم أنا. وأصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة تخفيفا كما قال الزجاج، أي على غير قياس لا لعلة تصريفية، ولذلك لم يكن للهمزة حكم الثابت فلم تمنع من الإدغام الذي يمنع منه ما هو محذوف لعلة بناء على أن المحذوف لعلة بمنزلة الثابت، ونقلت حركتها إلى نون {لكن} الساكنة دليلا على المحذوف فالتقى نونان متحركتان فلزم إدغامهما فصار {لكنا}. ولا يجوز أن تكون لكن المشددة النون المفتوحتها أشبعت فتحتها، لأن لكن المشددة من أخوات إن تقتضي أن يكون الاسم بعدها منصوبا وليس هنا ما هو ضمير نصب، ولا يجوز اعتبار ضمير {أنا} ضمير نصب اسم {لكن} لأن ضمير المتكلم المنصوب يجب أن يكون بياء المتكلم، ولا اعتباره ضمير المتكلم المشارك لمنافاته لإفراد ضمائره بعده في قوله: {هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا} .
{فأنا} مبتدأ، وجملة {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ضمير شأن وخبره. وهي خبر {أنا}، أي شأني هو الله ربي. والخبر في قوله: {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} مستعمل في الإقرار، أي أعترف بأنه ربي خلافا لك.
وموقع الاستدراك مضادة ما بعد {لكن} لما قبلها، ولا سيما إذا كان الرجلان أخوين أو خليلين كما قيل فإنه قد يتوهم أن اعتقادهما سواء.
وأكد إثبات اعترافه بالخالق الواحد بمؤكدات أربعة، وهي: الجملتان الاسميتان، وضمير الشأن في قوله {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ، وتعريف المسند والمسند إليه في قول: {اللَّهُ رَبِّي} المفيد قصر صفة ربوبية الله على نفس المتكلم قصرا إضافيا بالنسبة لمخاطبه، أي دونك إذ تعبد آلهة غير الله، وما القصر إلا توكيد مضاعف، ثم بالتوكيد اللفظي للجملة بقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} .
وعطف جملة {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ} على جملة {أَكَفرْتَ} عطف إنكار على إنكار. و {لولا} للتوبيخ، كشأنها إذا دخلت على الفعل الماضي، نحو {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
(15/69)
شُهَدَاءَ} [النور: 13], أي كان الشأن أن نقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} عوض قولك: { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} . والمعنى: أكفرت بالله وكفرت نعمته.
و {ما} من قوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ} أحسن ما قالوا فيها إنها موصولة، وهي خبر عن مبتدأ محذوف يدل عليه ملابسة حال دخول الجنة، أي هذه الجنة ما شاء الله، أي الأمر الذي شاء الله إعطاءه إياي.
وأحسن منه عندي: أن تكون {ما} نكرة موصوفة. والتقدير: هذه شيء شاء الله، أي لي.
وجملة {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} تعليل لكون تلك الجنة من مشيئة الله، أي لا قوة لي على إنشائها، أو لا قوة لمن أنشأها إلا بالله، فإن القوى كلها موهبة من الله تعالى لا تؤثر إلا بإعانته بسلامة الأسباب والآلات المفكرة والصانعة. فما في جملة {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} من العموم جعلها كالعلة والدليل لكون تلك الجنة جزئيا من جزئيات منشئات القوى البشرية الموهوبة للناس بفضل الله.
{إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً فعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
جملة ابتدائية رجع بها إلى مجاوبة صاحبه عن قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفراً} [الكهف: 37]، وعظه فيها بأنه لا يدري أن تصير كثرة ماله إلى قلة أو إلى اضمحلال وأن يصير القليل ماله ذا مال كثير.
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا وهو كثير.
و {أنا} ضمير فصل، فلذلك كان {أقل} منصوبا على أنه مفعول ثان ل {ترن} ولا اعتداد بالضمير. و {عسى} للرجاء، وهو طلب الأمر القريب الحصول. ولعله أراد به الدعاء لنفسه وعلى صاحبه.
والحسبان: مصدر حسب كالغفران. وهو هنا صفة لموصوف محذوف، أي هلاكا حسبانا، أي مقدرا من الله، كقوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36]. وقيل: الحسبان اسم جمع لسهام قصار يرمى بها في طلق واحد وليس له مفرد. وقيل: اسم جمع حسبانة وهي الصاعقة. وقيل: اسم للجراد. والمعاني الأربعة صالحة هنا، والسماء: الجو
(15/70)
المرتفع فوق الأرض.
والصعيد: وجه الأرض. وتقدم عند قوله تعالى: {فتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]. وفسروه هنا بذلك فيكون ذكره هنا توطئة لإجراء الصفة عليه وهي {زلقا} .
وفي "اللسان" عن الليث يقال للحديقة، إذا خربت وذهب شجراؤها: قد صارت صعيدا، أي أرضا مستوية لا شجر فيها اه. وهذا إذا صح أحسن هنا، ويكون وصفه بـ {زلقا} مبالغة في انعدام النفع به بالمرة. لكني أظن أن الليث ابتكر هذا المعنى من هذه الآية وهو تفسير معنى الكلام وليس تبيينا لمدلول لفظ. صعيد. ونظيره قوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} [الكهف: 8] في أول هذه السورة.
والزلق: مصدر زلقت الرجل، إذا اضطربت وزلت على الأرض فلم تستقر. ووصف الأرض بذلك مبالغة، أي ذات زلق، أي هي مزلقة.
والغور: مصدر غار الماء، إذا ساخ الماء في الأرض. ووصفه بالمصدر للمبالغة، ولذلك فرع عليه {فلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} . وجاء بحرف توكيد النفي زيادة في التحقيق لهذا الرجاء الصادر مصدر الدعاء.
[43,42] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفيْهِ عَلَى مَا أَنْفقَ فيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}
كان صاحبه المؤمن رجلا صالحا فحقق الله رجاءه، أو كان رجلا محدثا من محدثي هذه الأمة، أو من محدثي الأمم الماضية على الخلاف في المعني بالرجلين في الآية، ألهمه الله معرفة ما قدره في الغيب من عقاب في الدنيا للرجل الكافر المتجبر.
وإنما لم تعطف جملة {وَأُحِيطَ} بفاء التفريع على رجاء صاحبه المؤمن إذ لم يتعلق الغرض في هذا المقام بالإشارة إلى الرجل المؤمن، وإنما المهم التنبيه على أن ذلك حادث حل بالكافر عقابا له على كفره ليعلم السامعون أن ذلك جزاء أمثاله وأن ليس بخصوصية لدعوة الرجل المؤمن.
والإحاطة: الأخذ من كل جانب، مأخوذة من إحاطة العدو بالقوم إذا غزاهم. وقد تقدمت في قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} في سورة يوسف [66] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ
(15/71)
أَحَاطَ بِالنَّاسِ} في سورة الإسراء [60].
والمعنى: أتلف ماله كله بأن أرسل على الجنة والزرع حسبان من السماء فأصبحت صعيدا زلقا وهلكت أنعامه وسلبت أمواله، أو خسف بها بزلزال أو نحوه.
وتقدم اختلاف القراء في لفظ {ثمر} آنفا عند قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34].
وتقليب الكفين: حركة يفعلها المتحسر، وذلك أن يقلبهما إلى أعلى ثم إلى قبالته تحسرا على ما صرفه من المال في إحداث تلك الجنة. فهو كناية عن التحسر، ومثله قولهم: قرع السن من ندم، وقوله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119]
والخاوية: الخالية، أي وهي خالية من الشجر والزرع، والعروش: السقف. و {على} للاستعلاء. وجلسة {عَلَى عُرُوشِهَا} في موضع الحال من ضمير {خاوية} .
وهذا التركيب أرسله القرآن مثلا للخراب التام الذي هو سقوط سقوف البناء وجدرانه. وتقدم في قوله: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة البقرة [259]، على أن الضمير مراد به جدران القرية بقرينة مقابلته بعروشها، إذ القرية هي المنازل المركبة من جدران وسقف، ثم جعل ذلك مثلا لكل هلاك تام لا يبقي معه من الشيء الهالك.
وجملة {ويقول} حكاية لتندمه على ما فرط منه حين لا ينفعه الندم بعد حلول العذاب.
والمضارع للدلالة على تكرر ذلك القول منه.
وحرف النداء مستعمل في التلهف. و {ليتني} تمن مراد به التندم. وأصل قولهم: "يا ليتني" أنه تنزيل للكلمة منزلة من يعقل، كأنه يخاطب كلمة {ليت} يقول: احضري فهذا أوانك، ومثله قوله تعالى {أَنْ تَقُولَ نَفسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
وهذا ندم على الإشراك فيما مضى وهو يؤذن بأنه آمن بالله وحده حينئذ.
وقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} موعظة وتنبيه على جزاء قوله:
(15/72)
{وَأَعَزُّ نَفراً} [الكهف: 34].
والفتنة: الجماعة. وجملة {ينصرونه} صفة، أي لم تكن له فئة هذه صفتها، فإن فتنة لم تغن عنه من عذاب الله.
وقوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي ولا يكون له انتصار وتخلص من العذاب.
وقرأه الجمهور {ولم تكن} بمثناة فوقية اعتدادا بتأنيث {فئة} في اللفظ. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يكن} بالياء التحتية. والوجهان جائزان في العمل إذا رفع ما ليس بحقيقي التأنيث.
وأحاط به هذا العقاب لا لمجرد الكفر، لأن الله قد يمتع كافرين كثيرين طوال حياتهم ويملي لهم ويستدرجهم. وإنما أحاط به هذا العقاب جزاء على طغيانه وجعله ثروته وماله وسيلة إلى احتقار المؤمن الفقير، فإنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى التكذيب بوعد الله استحق عقاب الله بسلب تلك النعم عنه كما سلبت النعمة عن قارون حين قال {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. وبهذا كان هذا المثل موضع العبرة للمشركين الذين جعلوا النعمة وسيلة للترفع عن مجالس الدعوة لأنها تجمع قوما يرونهم أحط منهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم عن مجلسه كما تقدم.
[44] {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} .
تذييل للجمل قبلها لما في هذه الجملة من العموم الحاصل من قصر الولاية على الله تعالى المقتضي تحقيق جملة {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ، وجملة {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف: 34]، وجملة {وَمَا كَاَن مُنْتَصِراً} [الكهف: 34]، لأن الولاية من شانها أن تبعث على نصر المولى وأن تطمع المولى في أن وليه ينصره. ولذلك لما رأى الكافر ما دهاه من جراء كفره التجأ إلى أن يقول {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 42]، إذ علم أن الآلهة الأخرى لم تغن ولايتهم عنه شيئا، كما قال أبو سفيان يوم أسلم "لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا". فاسم الإشارة مبتدأ و {الولاية لله} جملة خبر عن اسم الإشارة.
واسم إشارة المكان البعيد مستعار للإشارة إلى الحال العجيبة بتشبيه الحالة بالمكان لإحاطتها بصاحبها، وتشبيه غرابتها بالبعد لندرة حصولها. والمعنى: أن في مثل تلك الحالة تقصر الولاية على الله. فالولاية: جنس معرف بلام الجنس يفيد أن هذا الجنس
(15/73)
مختص باللام على نحو ما قرر في قوله تعالى: {الحَمْدُ لِله} [الفاتحة: 2].
والولاية بفتح الواو مصدر ولي، إذا ثبت له الولاء. وتقدمت عند قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} في سورة الأنفال [72].
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {الولاية} بكسر الواو وهي اسم للمصدر أو اسم بمعنى السلطان والملك.
و {الحق} قرأه الجمهور بالجر، على أنه وصف الله تعالى، كما وصف بذلك في قوله تعالى {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} في سورة يونس [30]. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف {الحق} بالرفع صفة للولاية، ف {الحق} بمعنى الصدق لأن ولاية غيره كذب وباطل.
قال حجة الإسلام: والواجب بذاته هو الحق مطلقا، إذ هو الذي يستبين بالعقل أنه موجود حقا، فهو من حيث ذاته يسمى موجودا ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه يسمى حقا اه.
وبهذا يظهر وجه وصفه هنا بالحق دون وصف آخر، لأنه قد ظهر في مثل تلك الحال أن غير الله لا حقيقة له أو لا دوام له.
{وخير} يجوز أن يكون بمعنى أخير، فيكون التفضيل في الخيرية على ثواب غيره وعقب غيره، فإن ما يأتي من ثواب من غيره ومن عقبى إما زائف مفض إلى ضر وإما زائل، وثواب الله خالص دائم وكذلك عقباه.
ويجوز أن يكون {خير} اسما ضد الشر، أي هو الذي ثوابه وعقبه خير وما سواه فهو شر.
والتمييز تمييز نسبة الخير إلى الله. و {العقب} بضمتين وبسكون القاف بمعنى العاقبة، أي آخرة الأمر. وهي ما يرجوه المرء من سعيه وعمله.
وقرأ الجمهور {عقبا} بضمتين وبالتنوين. وقرأه عاصم وحمزة وخلف بإسكان القاف وبالتنوين.
فكان ناله ذلك الشرك الجبار من عطاء إنما ناله بمساع وأسباب ظاهرية ولم ينله بعناية من الله تعالى وكرامة فلم يكن خيرا وكانت عاقبته شرا عليه.
(15/74)
[45] { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11]، وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14-15].
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وما كان أحد الرجلين الذين تقدمت قصتهما إلا واحدا من المشركين إذ قال: {وَمَا أَظُنّ السَّاعةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36].
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها.
والحياة الدنيا: تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها. فإطلاق اسم {الحَيَاةِ الدُّنْيَا} على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها، فهي دنيا.
وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد، أي حياة كل أحد. ووصفها بـ {الدنيا} بمعنى القريبة، أي الحاضرة غير المستنظرة، كنى عن الحضور بالقرب، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت.
والكاف في قوله: {كماء} في محل الحال من الحياة المضاف إليه {مثل}. أي اضرب لهم مثلا لها حال أنها كماء أنزلناه.
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها. فهما مرادان منه. وضمير {لهم} عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله {وَحَشَرْنَاهُمْ فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ} - {وَعُرِضُوا }-{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} [الكهف: 47-48].
واختلاط النبات: وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخصب والازدهار.
والباء في قوله: {به} باء السببية. والضمير عائد إلى {ماء} أي فاختلط النبات بسبب الماء، أي اختلط بعض النبات ببع. وليست الباء لتعدية فعل {اختلط} إلى المفعول
(15/75)
لعدم وضوح المعنى عليه، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق.
و {أصبح} مستعملة بمعنى صار، وهو استعمال شائع.
والهشيم: اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول، أي مهشوما محطما. والهشم: الكسر والتفتيت.
و {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه في الهواء. والذرو: الرمي في الهواء. شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زمانا بهجة خضرة ثم يصير نبتها بعد حين إلى اضمحلال. ووجه الشبه: المصير من حال حسن إلى حال شيء. وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تقلص بهجة الحياة. وأيضا شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجدة وزخرف العيش لأهله. ثم تقلص ذلك وزوال نفعه ثم انقراضه أشتاتا بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأته عنه ونضارته ووفرته ثم أخذه في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطايره أشتاتا في الهواء، تشبيها لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} جملة معترضة في آخر الكلام. موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء، وذلك اقتدار عجيب. وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله: {على كل شيء} وهو بذلك العموم أشبه التذييل. والمقتدر: القوي القدرة.
[46] {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال، كقوله تعالى {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفرُوا في الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملا. والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب، قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي
بنون كرام سادة لمسود
(15/76)
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} صفتان جرتا على موصوف محذوف، أي الأعمال الصالحات البقيات، أي التي لا زوال لها، أي لا زوال لخيرها، وهو ثوابها الخالد، فهي خير من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية.
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم {الصالحات} على {الباقيات} لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفيه ذلك المحذوف هو الصالحات. لأنه قد شاع أن يقال: الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال البقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيرا في الكلام حتى صار لفظ {الصالحات} بمنزلة الاسم الدال على عمل خير، وذلك كثير في القرآن قال تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 36]، وفي كلامهم قال جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة
من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم {الباقيات} للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولا لأنه ليس بباق، وهو المال والبنون، كقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، فكان هذا التقديم قاضيا لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] مفيدا للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله: {والباقيات} مفيدا زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاما مؤكدا موجزا.
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [مريم: 76] فإنه وقع إثر قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: 73-74] الآية.
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطورا لأذهان الناس، لأنه يرغب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضا قدم في بيت طرفة المذكور آنفا.
(15/77)
ومعنى {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته. وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد. ويأمل شيئا تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. فلا جرم كان قوله: {وَخَيْرٌ أَمَلاً} بالتحقق والعموم تذييلا لما قبله.
[47-48] {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} .
عطف على جملة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45] فلفظ {يوم} منصوب بفعل مضمر. تقديره: اذكر. كما هو متعارف في أمثاله. فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به، وذلك مقابلة لضده المذكور في قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} .
ويجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف غير فعل {أذكر} يدل عليه مقام الوعيد مثل: يرون أمرا مفظعا أو عظيما أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع. ويقدر المحذوف متأخرا عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه.
ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقا القول المقدر عند قوله: {لََقَدْ جِئْتُمونَا} إذ لا يناسب موقع عطف هذه الجملة على التي قبلها. ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله.
وتسيير الجبال: نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم، وهو مثل قوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] وقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]. وقيل: أطلق التسيير على تناثر أجزائها. فالمراد ويوم نسير كل جبل من الجبال، فيكون كقوله {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفوشِ} [القارعة: 5] وقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة: 5-6] وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20]. والسبب واحد، والكيفيتان متلازمتنا. وهو من أحوال
(15/78)
انقراض نظام هذا العالم، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث.
وقرأ الجمهور {نسير} بنون العظمة. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمروويوم تسير الجبال بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع {الجبال} .
والخطاب في قوله: {وترى الأرض بارزة} لغير معين. والمعنى: ويرى الرائي، كقول طرفة:
ترى جشوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
وهو نظير قوله: {فتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفقِينَ مِمَّا فيهِ} [الكهف: 49].
والبارزة: الظاهرة، أي الظاهر سطحها، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان، كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14].
وجملة {وحشرناهم} في موضع الحال من ضمير {تسير} على قراءة من قرأ بنون العظمة، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ {تسير الجبال} بالبناء للنائب.
ويجوز أن نجعل جملة {وحشرناهم} معطوفة على جملة {نسير الجبال} على تأويله بـ {نحشرهم} بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه.
والمغادرة: إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به. وضمائر الغيبة في {حشرناهم} و {منهم} و {عرضوا} عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45].
وعرض الشيء: إحضاره ليرى حاله وما يحتاجه. ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم. وفي الحديث عرضت علي الأمم وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم.
والصف: جماعة يقفون واحدا حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحدا. وأصله مصدر صفهم إذا أوقفهم، أطلق على المصفوف. وانتصب {صفا} على الحال من واو {عرضوا} . وتلك الحالة إيذان بأنهم أخضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعا للرعب في قلوبهم.
وجملة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} معطوفة على جملة {وحشرناهم} ، فهي في موضع
(15/79)
الحال من الضمير المنصوب في {حشرناهم} ، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيها على سرعة عرضهم في حين حشرهم.
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله: {عَلَى رَبِّكَ} دون أن يقال علينا لتضمن الإضافة تنويها بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث.
وجملة {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} مقول لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتهين تقدير القول. وهذه الجملة في محل الحال. والتقدير: قائلين لهم لقد جئتمونا. وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى. والخطاب في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} موجه إلى معاد ضمير {عرضوا} .
والخبر في قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث. والمجيء: مجاز في الحضور، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب.
وقوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة، أي جئتمونا مجيئا كخلقكم أول مرة. فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول، أي فهذا خلق ثان. و {ما} مصدرية، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى، قال تعالى: {أَفعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15]. والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث.
والإضراب في قوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازا وليس مستعملا في إفادة مدلوله الأصلي.
والزعم: الاعتقاد المخطئ، أو الخبر المعرض للكذب. والموعد أصله: وقت الوعد بشئ أو مكان الوعد. وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت.
والمعنى: أنكم اعتقدتم باطلا أن لا يكون لكم موعد للبعث بعد الموت أبدا.
[49] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفقِينَ مِمَّا فيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
(15/80)
جملة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} معطوفة على جملة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} [الكهف: 48]، فهي في موضع الحال، أي وقد وضع الكتاب.
والكتاب مراد به الجنس، أي وضعت كتب أعمال البشر، لأن لكل أحد كتابا، كما دلت عليه آيات أخرى منها قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الاسراء: 13-14] الآية. وإفراد الضمير في قوله {مما فيه} لمراعاة إفراد لفظ {الكتاب}. وعن الغزالي: أنه قال: يكون كتاب جامع لجميع ما هو متفرق في الكتب الخاصة بكل أحد. ولعله انتزعه من هذه الآية. وتفرع على وضع الكتاب بيان حال المجرمين عند وضعه.
والخطاب بقوله {فترى} لغير معين. وليس للنبي صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذ في مقامات عالية عن ذلك الموضع.
والإشفاق: الخوف من أمر يحصل في المستقبل.
والتعبير بالمضارع في {يقولون} لاستحضار الحالة الفظيعة، أو لإفادة تكرر قولهم ذلك وإعادته شأن الفزعين الخائفين.
ونداء الويل: ندبة للتوجع من الويل. وأصله نداء استعمل مجازا بتنزيل ما لا ينادى منزلة ما ينادى لقصد حضورة، كأنه يقول: هذا وقتك فاحضري، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه.
والويلة: تأنيث الويل للمبالغة، وهو سوء الحال والهلاك. كما أنثت الدار على دارة، للدلالة على سعة المكان. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال يا وليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} في سورة العقود المائدة [31].
والاستفهام في قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} مستعمل في التعجيب. فما اسم استفهام، ومعناها: أي شيء، و {هَذَا الْكِتَابِ} صفة لـ {ما} الاستفهامية لما فيها من التنكير، أي ما ثبت لهذا الكتاب.
واللام للاختصاص مثل قوله: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُف} [يوسف: 11].
وجملة {لا يغادر} في موضع الحال، هي مثار التعجيب، وقد جرى الاستعمال بملازمة الحال لنحوما لك فيقولون: {ما لك} لا تفعل وما لك فاعلا.
(15/81)
والمغادرة: الترك، وتقدم آنفا في قوله: {فلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47].
والصغيرة والكبيرة: وصفان لموصوف محذوف لدلالة المقام، أي فعلة أو هنة. والمراد بالصغر والكبر هنا الأفعال العظيمة والأفعال الحقيرة. والعظم والحقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف.
وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها. وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضا مما يثير التعجب. فقد عجبوا من إحاطة كاتب الكتاب بجميع الأعمال.
والاستثناء من عموم أحوال الصغيرة والكبيرة، أي لا يبقي صغيرة ولا كبيرة في جميع أحوالهما إلا في حال إحصائه إياها، أي لا يغادره غير محصي. فالاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنه إذا أحصاه فهو لم يغادره، فآل إلى معنى أنه لا يغادر شيئا، وانتفت حقيقة الاستثناء.
فجملة {أحصاها} في موضع الحال. والرابط بينها وبين ذي الحال حرف الاستثناء. والإحصاء: العد، أي كانت أفعالهم معدودة مفصلة.
وجملة {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} في موضع الحال من ضمير {يقولون} . أي إنما قالوا ذلك حين عرضت عليهم أعمالهم كلها عند وضع ذلك الكتاب عرضا سريعا حصل به علم كل بما في كتابه على وجه خارق للعادة.
وجملة {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} عطف على جملة {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} لما أفهمته الصلة من أنهم لم يجدوا غير ما عملوا، أي لم يحمل عليهم شيء لم يعملوه، لأن الله لا يظلم أحدا فيؤاخذه بما لم يقترفه، وقد حدد لهم من قبل ذلك ما ليس لهم أن يفعلوه وما أمروا بفعله، وتوعدهم ووعدهم، فلم يكن في مؤاخذتهم بما عملوه من المنهيات بعد ذلك ظلم لهم. والمقصود: إفادة هذا الشان من شؤون الله تعالى، فلذلك عطفت الجملة لتكون مقصودة أصالة. وهي مع ذلك مفيدة معنى التذييل لما فيها من الاستدلال على مضمون الجملة قبلها، ومن العموم الشامل لمضمون الجملة قبلها وغيره، فكانت من هذا الوجه صالحة للفصل بدون عطف لتكون تذييلا.
[50] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ففسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}
(15/82)
عطف على جملة {يوَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47] بتقدير: واذكر إذ قلنا للملائكة، تفننا لغرض الموعظة الذي سبقت له هذه الجمل، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراض عن الصالحات، وبمداحض الكبرياء والعجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالا نفسيا. وكما وعظوا بآخر أيام الدنيا ذكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم، وهذا أيضا تمهيد وتوطئة لقوله {يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف: 52] الآية، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم.
ولها أيضا مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28]، فكان في قصة إبليس نحو آدم مثل لهم، ولأن في هذه القصة تذكيرا بأن الشيطان هو أصل الضلال، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خطوات الشيطان وأوليائه. ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى {أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر، ولها في كل موضع ذكرت فيه عبرة تخالف عبرة غيره، فذكرها في سورة البقرة مثلا إعلام بمبادئ الأمور، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ، وقس على ذلك.
وفسق: تجاوز عن طاعته. وأصله قولهم: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازا في التجاوز. قال أبو عبيدة. والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة. قال أبو عبيدة: "لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن"، أي في هذه الآية ونحوها. ووافقه المبرد وابن الأعرابي. وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم، وتقدم في سورة البقرة [26] عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} .
والأمر في قوله: {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} بمعنى المأمور، أي ترك وابتعد عما أمره لله به.
والعدول في قوله: {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه.
(15/83)
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلا لأن يتبع.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين، إذ كانوا يعبدون الجن، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100]ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
والذرية: النسل، وذرية الشيطان الشياطين والجن.
والعدو: اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] وقال: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والولوع، وهما مصدران. وتقدم عند قوله تعالى: {فإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
والولي: من يتولى، أي يتخذ ذا ولاية بفتح الواو وهي القرب. والمراد به القرب المعنوي، وهو الصداقة والنسب والحلف. و {من} زائدة للتوكيد، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي. وذلك هو إشراكهم في العبادة، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذ لهم أولياء من دون الله.
والخطاب في {أَفتَتَّخِذُونَهُ} وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه وليا. وتحذير للمسلمين من ذلك.
وجملة {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء. أي بئس البدل للمشركين الشيطان وذريته، فقوله: {بدلا} تمييز مفسر لاسم {بئس} المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل.
والظالمون هم المشركون. وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم. ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم.
[51] {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ
(15/84)
الْمُضِلِّينَ عَضُداً}
تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما {أَفتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} إلى قوله {بدلا} [الكهف: 50]، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بان يعبدوا. وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات.
والإشهاد: جعل الغير شاهدا، أي حاضرا، وهو هنا كناية عن إحضار خاص، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه. ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي، بالأولى، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم. وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القدم، والقدم من لوازم الإلهية. وضمائر الغيبة في قوله: {أشهدتم} وقوله: {أنفسهم} عائدة إلى المتحدث عنه، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله {وَهُمْ لَكُمْ عَدُو} .
ومعنى {أنفسهم} ، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى: {فإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فسَلِّمُوا عَلَى أَنْفسِكُمْ} [النور: 61] وفي قوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، أي أنفس بعضكم. فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود.
واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فوْقِهَا وَبَارَكَ فيهَا وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:9-12]
وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنا متصرفين فكانوا إذا نزلوا واديا مخوفا قالوا: أعوذ بعزيز هذا الوادي، ليكونوا في أمن من ضره.
وقرأ أبو جعفر {ما أشهدناهم} بنون العظمة، وقرأ {وَمَا كُنْتُ} بفتح التاء على الخطاب، والخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في النهي.
(15/85)
والمراد ب {المضلين} الشياطين، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وجملة {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} تذييل لجملة {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
والعدول عن الإضمار بأن يقال: وما كنت متخذهم إلى {المضلين} لإفادة الذم، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاما مستقلا.
والعضد بفتح العين وضم الضاد المعجمة في الأفصح، و بالفتح وسكون الضاد في لغة تميم. وفيه لغات أخرى أضعف. ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قراه بضم العين وضم الضاد على أنها لغة في عضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة. وهو: العظم الذي بين المرفق والكتف. وهو يطلق مجازا على المعين على العمل، يقال: فلان عضدي واعتضدت به.
والمعنى: لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعوانا فأشركهم في تصرفي في الإنشاء، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصادر الضلالة، أي لا يعين المعين إلا على عمل أمثاله، ولا يكون إلا قرينا لأشكاله.
[52] {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فدَعَوْهُمْ فلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}
عطف على جملة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فيقدر: واذكر يوم يقول نادوا شركائي، أو على جملة {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 51] فالتقدير: ولا أشهدت شركاءهم جميعا ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذ. وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة.
(15/86)
وقرأه الجمهور {يقول} بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه، وقرأ حمزة {نقول} بنون العظمة.
واليوم الذي يقع فيه يوم الحشر. والمعنى: يقول للمشركين، كما دل عليه قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ، أي زعمتموهم شركائي. وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكما بالمخاطبين وتوبيخا لهم، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الدال على اعتقاد باطل.
والنداء: طلب الإقبال للنصرة والشفاعة.
والاستجابة: الكلام الدال على سماع النداء والأخذ في الإقبال على المنادي بنحو قول: لبيكم.
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمة وهو إظهار باطلهم بقرينة الزعم. ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال: {فدعوهم} لطمعهم، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم. ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب. وأتى به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذ حتى كأنه قد انقضى.
والموبق: مكان الوبوق، أي الهلاك. يقال: وبق مثل وعد ووجل وورث. والموبق هنا أريد به جهنم، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كون الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فوهات جهنم، ويجوز أن تكون جملة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} جملة حال، أي وقد جعلنا بينهم موبقا تمهيدا لما من قوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53].
[53] {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}
عطف على جملة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} [الكهف: 52]، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيد المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار. وكذلك بـ {النار} في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن الموبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان.
والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته. ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم، بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك.
والمواقعة: مفاعلة من الوقوع، وهو الحصول لقصد المبالغة، أي واقعون فيها وقوع
(15/87)
الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه.
والمصرف: مكان الصرف، أي التخلص والمجاوزة. وفي الكلام إيجاز، تقديره: وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفا، أي مخلصا.
[54] {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} .
عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32] وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 45]. ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظرا إلى قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27]وقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فمَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فلْيَكْفرْ} [الكهف: 29]، فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هي من جملة هدي القرآن الذي تبرموا منه. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله {وَلَقَدْ صَرَّفنَا لِلنَّاسِ في هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفوراً} في سورة الإسراء [89]، سوى أنه يتجه هنا أن يسال لم قدم في هذه الآية أحد متعلقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله: {في هَذَا الْقُرْآنِ} على قوله: {للناس} عكس آية سورة الإسراء. وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضى للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس.
والناس: اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون. كما دل عليه جملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ، فوزانه وزان قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا لِلنَّاسِ في هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفوراً} [الاسراء:89]. وسيجيء قوله: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة.
وجملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير: فجادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلا، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم. وحرف {ال} فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموما من لفظ الناس. والمعنى: أنهم جادلوا. والجدال: خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين.
(15/88)
ومنه محمود كما في قوله تعالى { فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 74،75], فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} الآية، فقوله هنا: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} تمهيد لقوله بعده {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: 56].
و {شيء} اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما ترك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به.
وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجدل. فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شعب النطق الذي هو فصل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم: {أَتَجْعَلُ فيهَا مَنْ يُفسِدُ فيهَا} إلى قوله: {ونُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. وأما الشياطين فهم أكثر جدلا من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل.
و {جدلا} تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان. والمعنى: وكان الإنسان كثيرا من جهة الجدل، أي كثيرا جدله. ويدل لهذا المعنى ما ثبت في الصحيح عن علي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان? فقال علي: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، قال: فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} . يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يسر بما في الكلام رسول الله من ملام، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه.
ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يراد أن الإنسان أكثر جدلا من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا. ومن
(15/89)
أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل?.
والجدل: المنازعة بمعاوضة القول، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه: بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]،وقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، وقال {يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، وقال: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفسَهُمْ} [النساء: 107] وقال {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6].
والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله. وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل.
[55] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً}
عطف على جملة {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ} [الكهف: 54] الخ. ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر. وتعتبر جملة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] معترضة بينهما أولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماما بمضمونها في ذاته، بحيث يعد تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس. ولهذه الخصوصية فيما أرى عدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} وبقوله: {إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} دون أن يقول: وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصدا لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها، فتكون فائدة مستقلة تستأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها.
على أن عموم {الناس} هنا أشتمل من عموم لفظ {الناس} في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ} [الكهف: 54] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله.
وكذلك عموم لفظ {الهدى} يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال
(15/90)
الأنبياء كلها، فكانت هذه الجملة قياسا تمثيليا بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم.
فالمعنى: ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يمنع مثله، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير.
والمراد بـ {الأولين} السابقون من الأمم في الضلال والعناد. ويجوز أن يراد بهم الآباء، أي سنة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم. ولكل أمة أمة سبقتها.
و {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} استثناء مفرغ هو فاعل {وما منع} . {أن يؤمنوا} منصوب على نزع الخافض، أي من أن يؤمنوا.
ومعنى {تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} تحل فيهم وتعتريهم. أي تلقى في نفوسهم وتسول إليهم. والمعنى: أنهم يشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم، كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53]
وسنة الأولين: طريقتهم في الكفر. وإضافة {سنة} إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله. أي السنة التي سنها الأولون. وإسناد منعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة.
والمعنى: ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم.
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته.
و {أو} هي التي بمعنى إلى، وانتصاب فعل {يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ} بـ {أن} مضمرة بعد {أو}. و {أو} متصلة المعنى بفعل {منع}، أي منعهم تقليد سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين.
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها.
فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عين المراد بهم في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54]، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله. وجعلوا المراد بالهدى
(15/91)
عين المراد بالقرآن، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين، أي الأمم المكذبين الماضين، أي فإضافة {سنة} إلى {الأولين} مثل إضافة المصدر إلى مفعوله، وهي عادة الله فيهم، أي يعذبهم عذاب الاستئصال.
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين، بتقدير مضاف، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين، أي ويكون الكلام تهكما وتعريضا بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستئصال، أي على معنى قوله تعالى: {فهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فانْتَظِرُوا} [يونس: 102].
وجعلوا قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} قسيما لقوله: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} ،فحرف {أو} للتقسيم، وفعل {يأتيهم} منصوب بالعطف على فعل {أن تأتيهم سنة الأولين} بالاستئصال المفاجئ أو يأتيهم العذاب مواجها لهم. وجعلوا {قبلا} حالا من {العذاب} ، أي مقابلا. قال الكلبي: وهو عذاب السيف يوم بدر. ولعله يريد أنه عذاب مقابلة وجها لوجه، أي عذاب الجلاد بالسيوف. ومعناه: أن المشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة. وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل، وتقصر على معنى التهديد.
والإتيان: مجاز في الحصول في المستقبل، لوجود {أن} المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها.
والسنة: العادة المألوفة في حال من الأحوال.
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي. والمراد: ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب. وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال. وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين.
وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر. وهو في معنى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-97]
و {قبلا} حال من العذاب. وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور
(15/92)
بمعنى المقابل الظاهر. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف (قبلا) بضمتين وهو جمع قبيل، أي يأتيهم العذاب أنواعا.
[56] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً}
بعد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]. وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للمجادلة، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق.
والاستثناء من أحوال عامة محذوفة، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين. والمراد بالمرسلين جميع الرسل.
وجملة {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} عطف على جملة {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} . وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي {وَلَقَدْ صَرَّفنَا في هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]. وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشئ معناها على معنى التي قبلها، فكانت جملة {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفرُوا بِالْبَاطِلِ} مفيدة معنى الاستدراك، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر. واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة، أو لاستحضار صورة المجادلة.
والمجادلة تقدمت في قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا في قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] في سورة هود.
والإدحاض: الإزلاق، يقال: دحضت القدم، إذا زلت، وهو مجاز في الإزالة، لأن الرجل إذا زلقت زالت عن موضع تخطيها، قال تعالى: {فسَاهَمَ فكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]
وجملة {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} عطف على جملة {وَيُجَادِلُ } فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا.
(15/93)
والهزو: مصدر هزا، أي اتخذوا ذلك مستهزأ به. والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب.
وعطف {وَمَا أُنْذِرُوا} على {الآيات} عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم.
{وَمَا أُنْذِرُوا} مصدرية، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة.
وقرأ الجمهور {هزؤا} بضم الزاي. وقرأه حمزة {هزءا} بسكون الزاي.
[57] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفقَهُوهُ وَفي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعرض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم. وذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم. فالذين ذكروا ما هم في غفلة عند تذكير بواسطة آيات الله وأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة. وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش "إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غدا أكنتم مصدقي?: ما جربنا عليك كذبا فقال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" .
و {من} المجرورة موصولة، وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} . والمراد بها المشركين من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه.
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل.
ومعنى نسيان ما قدمت يداه أنه لم يعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم: أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاح بين والفساد بين، ولذلك سني الأول معروفا والثاني منكرا، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالين أشد الناس ظلما، ولو تفكروا قليلا لعلموا أنهم غير مفلتين من لقاء جزاء أعمالهم.
(15/94)
فـ {من} استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم.
والنسيان: مستعمل في التغاضي عن العمل. وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} في سورة البقرة [106].
ومعنى {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ما أسلفه من الأعمال. وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جاريا مجرى المثل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]
والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول: منها مشركو أهل مكة.
وجملة {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} مستأنفة بيانية نشأت على جملة {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة. وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة التعليلية.
والقلوب مراد بها: مدارك العلم.
والأكنة: جمع كنان، وهو الغطاء، لأنه يكن الشيء، أي يحجبه.
و {أَنْ يَفقَهُوهُ} مجرور بحرف محذوف، أي من أن يفقهوه، لتضمين {أكنة} معنى الحائل أو المانع.
والوقر: ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ.
والضمير المفرد في {يفقهوه} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات.
وجملة {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} عطف على جملة { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل.
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو {لن}، وبلفظ {أبدا} المؤكد لمعنى {لن}، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط.
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق.
[58] {وَرَبُّكَ الْغَفورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ
(15/95)
لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} .
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب والترغيب والعكس، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجها الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فيهِمْ} [لأنفال: 33].
والوجه في نظم الآية أن يكون {الغفور} نعتا للمبتدأ ويكون {ذو الرحمة} هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ} ، فيكون ذكر {الغفور} إدماجا في خلال المقصود. فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم {الغفور} تعريضا بالترغيب في الاستغفار.
والغفور: اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ويغفر ذنوبا لا تحصى إن جاءه عبده تائبا منكسرا، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.
وأما قوله: {ذُو الرَّحْمَةِ} فهو المقصود تمهيدا لجملة {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة {وَرَبُّكَ الْغَفورُ ذُو الرَّحْمَةِ} باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.
والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة ولكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا.
فوصف {ذُو الرَّحْمَةِ} يساوي وصف {الرحيم} لأن {ذو} رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.
وإنما عدل عن وصف[الرحيم] إلى {ذو الرحمة} للتنبيه على أنه لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم {الرحيم} صار شبيها بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.
(15/96)
و {بل} للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب {لو}، أي لم يعجل لهم العذاب إذ لهم موعد للعذاب متأخر، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر.
والموئل: مفعل من وأل بمعنى لجأ، فهو اسم مكان بمعنى الملجأ.
وأكد النفي بـ {لن} ردا على إنكارهم، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدة طويلة، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وعده أو مكان وعده، فهو ملجؤهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي هم غير مفلتين منه.
[59] {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} .
بعد أن أزيل غرورهم بتأخر العذاب، وأبطل الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه. ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخرة، فالجملة معطوفة على جملة {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} [الكهف: 58].
والإشارة بـ {تلك} إلى مقدر في الذهن، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد بها مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة.
والظلم: الشرك وتكذيب الرسل. والمهلك بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي من {أهلك}، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتا معينا في علمنا إذا جاء حل بهم الهلاك. وهذه قراءة الجمهور. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام على أنه اسم زمان على وزن مفعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام على أنه مصدر ميمي لهلك.
[60] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}
لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلا بأسباب الفضائل ومكابرة في الاعتراف بها وحسدا في الشرف والفضل، فضرب بذلك مثلا لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد، أعقب
(15/97)
تلك القصة بقصة هي مثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال، اعترافا للفاضل بفضلته. وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخلقين ولإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى، وتربية للمتقين.
ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أملوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين. وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين. قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تطواف في الأرض لطلب نفع صالح. وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى. وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان.
فجملة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفتَاهُ} معطوفة على جملة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} [الكهف: 50] عطف القصة على القصة. والتقدير: واذكر إذ قال موسى لفتاه، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه. وناسبها تقدير فعل {اذكر} لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم.
فانتصب {إذ} على المفعولية به.
والفتى: الذكر الشاب، والأنثى فتاة، وهو مستعمل مجازا في التابع والخادم. وتقدم عند قوله تعالى: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} في سورة يوسف [30].
وفتى موسى: خادمه وتابعه، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص، كما يقال: غلامه. وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم. وقد قيل: إنه ابن أخت موسى، كان اسمه الأصلي هوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع. ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة يا أبا هر. وفي التوراة: أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهام.
ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخيل زيد الخير.
(15/98)
ويوشع أحد الرجال الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوما في التجسس. وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض طنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]
كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمر مائة وعشر سنين. وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذا وخادما، ومثل ذلك الاتخاذ يوسف صاحبه بمثل فتى أو غلام. ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحوي اللغوي غلام ثعلب، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب.
وكان يوشع أحد الرجلين الذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيا من يومئذ. ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعا وعشرين سنة. وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام.
وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميما على أن لا يزول عما هو فيه، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين، ابتداء عجيبا في باب الإيجاز، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عمل نهايته البلوغ إلى مكان، فعلم أن ذلك العمل هو سير سفر.
ويدل على أن فتاة استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها. أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه.
و {أبرح} مضارع برح بكسر الراء، بمعنى زال يزول. وتقدم في سورة يوسف عليه السلام. واستعير {لاَ أَبْرَحُ} لمعنى: لا أترك، أولا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين. ويجوز أن يكون مضارع برح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصا إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفا بقرينة الكلام، أي لا أبرح سائرا. وعن الرضي أن حذف خبرها قليل.
(15/99)
وحذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيذكر بعد، وهو حذف إيجاز وتشويق. له موقع عظيم في حكاية القصة، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحكم والأمثال قضاء لحق بلاغة الإعجاز.
وتفصيل هذه القصة وارد في صحيح البخاري من حديث: عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم? فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه: بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. قال: فأين هو? قال: بمجمع البحرين. قال موسى عليه السلام: يا رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال: تأخذ معك حوتا في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل وقال لفتاه يوشع بن نون: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال أي فتاه: ما كلفت كثيرا. ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وموسى نائم، فقال فتاه وكان لم ينم: لا أوقظه وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار الماء عليه مثل الطاق. فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجبا. قال: فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصا، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهى إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبا فسلم عليه موسى. فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام... الحديث.
قوله ]وأنى بأرضك السلام[ استفهام تعجب. والكاف خطاب للذي سلم عليه فكان الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام. إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولا بأمة ليست تحيتهم السلام.
وإنما أمسك الله عن الحوت جرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما. ولأن المكان لما كان ظرفا لظهور معجزات علم
(15/100)
النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراما لنزلاء ذلك المكان.
ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين. والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه. وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلا فعلمنا أنه لم يكن مكانا بعيدا جدا. وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتا له.
ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علوما من معاملة الناس لم يعلمها الله لموسى. فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم. وهو تفاوت نسبي.
والخضر: اسم رجل صالح. قيل: هو نبي من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام. فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر. فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام. وقيل: الخضر لقبه. وأما اسمه فهو بليا بموحدة أو إيليا بهمزة وتحتية.
واتفق الناس على أنه كان من المعمرين، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حيا اختلافا لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية. وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي.
وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس: وقيل: هو من ذرية عيسو بن إسحاق. وقيل: هو نبي بعث بعد شعيب.
وجرجس المعنى هو المعروف باسم مارجرجس. والعرب يسمونه: مار سرجس كما في كتاب سيبويه . وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء. وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام .
والخضر لقب له، أي الموصوف بالخضرة، وهي رمز البركة، قيل: لقب خضرا لأنه كان إذا جلس على الأرض أخضر ما حوله، أي أخضر بالنبات من أثر بركته. وفي دائرة المعارف الإسلامية ذكرت تخرصات تلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها
(15/101)
رومانية وما رائده في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها.
والمحقق أن قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم. ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نوفا البكالي على أن قال: إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في صحيح البخاري وأن ابن عباس كذب نوفا، وساق الحديث المتقدم.
وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهود إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85]
واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون، فقيل: نعم، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا أو منسه ابن يوسف بن يعقوب. وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعد من صحابته. وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين. وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس، فقيل: إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس.
ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفا بشريعة موسى وبقرة موسى على أفعال لا تبيحها شريعة. بل يتعين أن يكون نبيا موحى إليه بوحي خاص، وعلم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها. ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله: بلى عبدنا خضر هو أعلم منك. كما في حديث أبي بن كعب، لم يصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمة وحده. وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقا بموسى عليه السلام .
ومعنى {أَوَأَمْضِيَ} أو أسير. والمضي: الذهاب والسير.
والحقب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار، وجمعه أحقاب.
وعطف {أمضي} على {أبلغ} بـ {أو} فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمنا طويلا. ولما كان موسى لا يخامره الشك
(15/102)
في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلقاء طلبته عنده، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمنا يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين. فالمعنى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو سير أزمانا طويلة فإني بالغ مجمع البحرين، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما. كما دل عليه قوله بعد: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62]
أو أراد شحذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد.
[61-63] { فلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ سَرَباً فلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هَذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَباً}
الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين. وضمير {بينهما} عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين. وأضيف {مجمع} إلى {بين} على سبيل التوسع، فإن {بين} اسم لمكان.
متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفا للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافة كما هنا، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معموله، أو بدون إضافة توسعا كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94]في قراءة من قرأ برفع {بينكم} .
والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث. والنسيان في قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} في سورة البقرة [106].
ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباق هو في مكتله حينئذ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه هو الموضع الموقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعبا في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته. وهذا يدل على لأن صاحب العمل أو الحاجة إذا وكل إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده. ثم إن موسى عليه السلام نام وبقى فتاه يقظان فأضطرب الحوت وجعل
(15/103)
لنفسه طريقا في البحر.
والسرب: النفق. والاتخاذ: الجعل. وقد انتصب {سربا} على الحال من {سبيله} مرادا بالحال التشبيه، كقول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوع المسك منها
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سربا في الحديث السابق عن أبي بن كعب.
وحذف مفعول {جاوزا} للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين.
والغداء: طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يؤكل في وقت الغدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي. والنصب: التعب.
والصخرة: صخرة معهودة لهما. إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين. قيل: إن موضعها دون نهر يقال له: نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون.
وقوله: {نَسِيتُ الْحُوتَ} أي نسيت حفظه وافتقاده. أي فانقلب في البحر.
وقوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} . هذا نسيان آخر غير النسيان الأول. فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه.
وقرأ حفص عن عاصم {وَمَا أَنْسَانِيهُ} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة. والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف.
و {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل اشتمال من ضمير {أنسانيه} لا من الحوت، والمعنى: ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان. فالذكر هنا ذكر اللسان.
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيه به. ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان يسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعا في حدوث العوائق.
وجملة {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ} عطف على جملة {فإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} وهي بقية
(15/104)
كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتا زمنا طويلا.
وقوله {عجبا} جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجب له عجبا. فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله.
[64-70] {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً فوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْف تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قَالَ فإِنِ اتَّبَعْتَنِي فلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}
{قَالَ ذَلِكَ} الخ.. جواب عن كلامه، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة.
والإشارة بـ {ذلك} إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقد الحوت. ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى. وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت.
وكتب {نبغ} في المصحف بدون ياء في آخره، فقيل: أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها. وقيل: أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية. والعرب يميلون إلى التخفيف. فقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل. وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف. وقرأ ابن كثير، ويعقوب بإثباتها في الحالين، والنون نون المتكلم المشارك، أي ما أبغيه أنا وأنت، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح.
والارتداد: مطاوع الرد كأن رادا ردهما. وإنما ردتهما إرادتهما، أي رجعا على آثار سيرهما، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه.
والقصص: مصدر قص الأثر، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول.
والمراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفا له، كما تقدم عند قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الاسراء: 1] وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى
(15/105)
أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جعل مرحوما، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفا يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.
و {عند} و {لدن} كلاهما حقيقته اسم مكان قريب. ويستعملان مجازا في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.
و {من} ابتدائية،أي آتيناه رحمة صدرت من مكان القرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلما صدر منه أيضا. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يعطى إلا للمصطفين.
والمخالفة بين {مِنْ عِنْدِنَا} وبين {من لدنا} للتفنن تفاديا من إعادة الكلمة. وجملة {قَالَ لَهُ مُوسَى} ابتداء محاورة، فهو استئناف ابتدائي، ولذلك لم يقع التعبير بـ {قال} مجردة عن العاطف.
والاستفهام في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} مستعمل في العرض بقرينة أنه استفهام عن عمل نفس المستفهم. والاتباع: مجاز في المصاحبة كقوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [لنجم: 28]و {على} مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي. جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما. فصيغة: أفعل كذا على كذا. من صيغ الالتزام والتعاقد.
ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم. كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، فزوجها من رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن.
وفيه أنه التزام يجب الوفاء به. وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم.
(15/106)
وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك العلم من كتاب المدارك: أن رجلا خراسانيا جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم، فسأله أن يقرأ عليهم فأبى مالك، فاستدعى الخراساني قاضي المدينة. وقال: جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا. فحكم القاضي على مالك: أن يقرأ له، فقيل لمالك: أأصاب القاضي الحق? قال: نعم.
وفيه أيضا إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به.
وانتصب {رشدا} على المفعولية ل {تعلمني} أي ما به الرشد، أي الخير.
وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يأبرون النخل "أنتم أعلم بأمور دنياكم" . ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيش المسلمين بدر أول مرة ليس الأليق بالحرب.
وإنما رام موسى أن يعلم شيئا من العلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير. وقد قال الله تعالى تعليما لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعينين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة. فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة. ونظيره معرفة النبي صلى الله عليه وسلم أحوال بعض المشركين والمنافقين، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوما إلى الإيمان، وتحققه أن أولئك المنافقين غير مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بهم.
وقرأ الجمهور {رشدا} بضم الراء وسكون الشين. وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين، وهما لغتان كما تقدم.
وأكد جملة {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} بحرف {إن} وبحرف {لن} تحقيقا
(15/107)