الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
واختيار التعبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله: {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} لما تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب، فهم قد كذبوا قبل ان يختبروا، وهذا من شأن الحماقة والجهالة.
والإحاطة بالشيء: الكون حوله كالحائط، وقد تقدم آنفا في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]. ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه. ومنه قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] وقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] أي علمه، فمضى {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} بما لم يتقنوا علمه.
والباء للتعدية. وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المحاط به وهو المعلوم، وهو هنا القرآن. وعد عن أن يقال بما لم يحيطوا به علما أو بما لم يحط علمهم به إلى {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} للمبالغة إذ جعل العلم معلوما. فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا علمه أشد إتقان فلما نفي صار لم يحيطوا بعلمه، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقه يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر علم أدلته ثم إعادة التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم. وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل.
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه. وأنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا. ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت: فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب. ونظير هذه الآية في سورة النمل[84] {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وجملة: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} معطوفة على الصلة، أي كذبوا بما لما يأتهم تأويله. وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأناة والتثبت، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل.
والتأويل: مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء. وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرا يظهر المعنى، فيؤول واضحا بعد أن كان خفيا، ومنه قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]الآية. وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير. وقد مر في
(11/85)
سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير. ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة، كما في قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب. والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد، أي لما يأتهم تأويل ما يدعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها، مثل حكمة التشريع، ووقوع البعث، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين، وتنزيل القرآن منجما، ونحو ذلك. فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله. ولو آمنوا ولازموا النبيء صلى الله عليه وسلم لعلموها واحدة بعد واحدة. وأيضا لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلا على الكذب كما قالوا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ظنا أنهم إن استغضبوا الله عجل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلا على أن القرآن ليس حقا من عنده. وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق، كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآية. ولو أسلموا ولازموا النبيء صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضلال.
وعلى الوجهين فحرف {لَمَّا} موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقع الوقوع، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد، فهي بذلك وعد، وأنه سيحل بهم ما توعدهم به، كقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] الآية. فهي بهذا التفسير وعيد.
وجملة: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} استئناف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى منه السماع. والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى تكذيبهم المذكور، أي كان تكذيب الذين من قبلهم كتكذيبهم، والمراد بالذين من قبلهم الأمم المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به.
ومما يقصد من هذا التشبيه أمور:
أحدها: أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك.
الثاني: التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف
(11/86)
السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها.
الثالث: تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم.
ولذلك فرع على جملة التشبيه خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء.
والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب. والنظر هنا بصري.
و {كَيْفَ} يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية، كقولهم: كن كيف شئت. ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} في سورة آل عمران[6]. ف {كَيْفَ} مفعول به لفعل: {انْظُرْ} ، وجملة: {كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} صفة: {كَيْفَ} . والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين، وهي حالة خراب منازلهم خرابا نشأ من اضمحلال أهلها.
ويجوز أن تكون: {كَيْفَ} اسم استفهام، والمعنى فانظر هذا السؤال، أي جواب السؤال، أي تدبره وتفكر فيه. و {كَيْفَ} خبر {كَانَ} . وفعل النظر معلق عن العمل في مفعولية بما في {كَيْفَ} من معنى الاستفهام.
[40] {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}
عطف على جملة: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] لأن الإخبار عن تكذيبهم بأنه دون الإحاطة بعلم ما كذبوا به يقتضي أن تكذيبهم به ليس عن بصيرة وتأمل. وما كان بهاته المثابة كان حال المكذبين فيه متفتوتا حتى يبلغ إلى أن يكون تكذيبا مع اعتقاد نفي الكذب عنه، ولذلك جاء موقع هذه الآية عقب الأخرى موقع التخصيص للعام في الظاهر أو البيان للمجمل من عدم الإحاطة بعلمه، كما تقدم بيانه في قوله: {بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]. فكان حالهم في الإيماء بالقرآن كحالهم في اتباع الأصنام إذ قال فيهم: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36]، فأشعر لفظ {أَكْثَرُهُمْ} بأن منهم من يعلم بطلان عبادة الأصنام ولكنهم يتبعونها مشايعة لقومهم ومكابرة للحق، وكذلك حالهم في التكذيب بنسبة القرآن إلى الله، فمنهم من يؤمن به ويكتم إيمانه مكابرة وعداء،ومنهم
(11/87)
من لا يؤمنون به ويكذبون عن تقليد لكبرائهم. والفريقان مشتركان في التكذيب في الظاهر كما أنبأت عنه: "من" التبعيضية، وضمير الجمع عائد إلى ما عادت إليه ضمائر {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38] فمعنى يؤمن به يصدق بحقيته في نفسه ولكنه يظهر تكذيبه جمعا بين إسناد الإيمان إليهم وبين جعلهم بعضا من الذين يقولون: {افْتَرَاهُ} .
واختيار المضارع للدلالة على استمرار الإيمان به من بعضهم مع المعاندة، واستمرار عدم الإيمان به من بعضهم أيضا.
وجملة: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} معترضة في آخر الكلام على رأي المحققين من علماء المعاني، وهي تعريض بالوعيد والإنذار، وبأنهم من المفسدين، للعلم بأنه ما ذكر {الْمُفْسِدِينَ} هنا إلا لأن هؤلاء منهم وإلا لم يكن لذكر {الْمُفْسِدِينَ} مناسبة، فالمعنى: وربك أعلم بهم لأنه أعلم بالمفسدين الذين هم من زمرتهم.
[41] {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
لما كان العلم بتكذيبهم حاصلا مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل، أي الاستمرار على التكذيب. وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبت لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أتى به، أي إن أصروا على التكذيب بعد ما قارعتهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تبرؤوا منك.
ومعنى: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} المتاركة. وهو مما أجري مجرى المثل، ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى، فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب {عَمَلِي} و {عَمَلُكُمْ} ، ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون، كما عبر به بعد.
والبريء: الخلي عن التلبس بشيء وعن مخالطته. وهو فعيل من برأ المضاعف على غير قياس. وفعل برأ مشتق من بريء بكسر الراء من كذا، إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به.
(11/88)
وهذا التركيب لا يراد به صريحه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة. وقد جاء هذا المكنى به مصرحا به في قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، ولذلك فجملة {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ} إلى آخرها بيان لجملة {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} ولذلك فصلت.
وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدرا كما أتي به في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} إلى الإتيان به فعلا صلة لـ {مَا} الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه. ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد لأن جملة البيان من تمام المبين، ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم، لأن في "ما" في قوله: {مِمَّا أَعْمَلُ} من المد ما يجعله أسعد بمد النفس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله: {مِمَّا تَعْمَلُونَ} ، ولما في {تَعْمَلُونَ} من المد أيضا، ولأنه يراعي الفاصلة.
وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء.
[42, 43] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} .
لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين: من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه؛ كمل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبيء صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: قسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته. وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين؛ فإن سماع كلام النبيء وإرشاده ينير عقول القابلين للهداية، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبيء أو رؤية هديه مؤذنا ببلوغهم الغاية في الضلالة ميئوسا من نفوذ الحق إليهم، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها، فما عدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون
(11/89)
بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله: {وَمِنْهُمْ} في الموضعين، فطويت جملة ولا ينتفعون أو نحوها للإيجاز بدلالة التقسيم. وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر. والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب.
فجملة {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} تفريع على جملة: {مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} مع ما طوي فيها. وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبيء صلى الله عليه وسلم، وتسلية له وتعليم للمسلمين، فقربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صم لا يعقلون في أنهم حرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم.
وبني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صممهم عدم العقل وضموا إلى عماهم عدم التبصر. وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم ولا يعقلونها، وإذ ينظرون أعماله وسيرته ولا يهتدون بها، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبيء إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبو عن ذلك.
وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكارا، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع "لو" الوصلية هنا بعدما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها "لو" الوصلية، بل المعنى بالعكس.
وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقوى الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ} وقوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي} دون أن يقال: أتسمع الصم وأتهدي العمي، فكان هذا التعجيب مؤكدا مقوى.
و"لو" في قوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} ، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض.
ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة "لو" مضمونها ضد الجملة التي دخلت عليها "لو"، فيقال هنا: أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون.
(11/90)
ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم. فمعنى: {لا يَعْقِلُونَ} ليس لهم إدراك العقول، أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطبه واستدلال بملامحه.
وأما معنى: {لا يُبْصِرُونَ} فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها. وهو الذي فسر به "الكشاف" وهو الوجه، إذ بدونه يكون معنى: {لا يُبْصِرُونَ} مساويا لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب"لو" الوصيلة موقعها، إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عميا. ومقتضى كلام "الكشاف" أنه يقال: أبصر إذ استعمل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء. وكلام "الأساس" يحوم حوله. وأياما كان فالمراد بقوله: {لا يُبْصِرُونَ} معنى التأمل، أي ولو انضم إلى عمى العمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولا لفعل {يُبْصِرُونَ} بالوضع الحقيقي أو المجازي. فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق.
وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقابا لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صما وعميا. فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة.
وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالا عن وجه التفرقة بين قوله: {مَنْ يَسْتَمِعُونَ} وقوله: {مَنْ يَنْظُرُ} إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني. وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة. وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والأفراد هنا سواء لأن مفاد "من" الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصا واحدا.
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ "من" ومعناها، فلعل الابتداء بالجمع في صلة "من" الأولى الإشارة إلى أن المراد ب"من" غير واحد معين وأن العدول عن الجمع في صلة "من" الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد
(11/91)
أن حصل فهم المراد، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي "يستمع". "وينظر". ففعل "ينظر" لا تلائمه صيغة الجمع لآن حروفه أثقل من حروف "يَستمع" فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة.
[44] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
تذييل، وشمل عموم الناس المشركين الذين يستمعون ولا يهتدون وينظرون ولا يعتبرون. والمقصود من هذا التذييل التعريض بالوعيد بأن سينالهم ما نال جميع الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسل الله. وعموم {النَّاسَ} الأول على بابه وعموم {النَّاسَ} الثاني مراد به خصوص الناس الذين ظلموا أنفسهم بقرينة الخبر. وإنما حسن الإتيان في جانب هؤلاء العموم تنزيلا للكثرة منزلة الإحاطة لأن ذلك غالب حال الناس في ذلك الوقت.
وهذا الاستدراك أشعر بكلام مطوي بعد نفي الظلم عن الله، وهو أن الله لا يظلم الناس بعقابه من لم يستوجب العقاب ولكن الناس يظلمون فيستحقون العقاب، فصار المعنى أن الله لا يظلم الناس بالعقاب ولكنهم يظلمون أنفسهم بالاعتداء على ما أراد منهم فيعاقبهم عدلا لأنهم ظلموا فاستوجبوا العقاب.
وتقديم المفعول على عامله لإفادة تغليطهم بأنهم ما جنوا بكفرهم إلا على أنفسهم وما ظلموا الله ولا رسله فما أضروا بعملهم إلا أنفسهم.
وقرأ الجمهور بتشديد نون {لَكِنَّ} ونصب {النَّاسَ} وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف النون ورفع {النَّاسَ} .
[45] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .
عطف على {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] عطف القصة على القصة عودا إلى غرض من الكلام بعد تفصيله وتفريعه وذم المسوق إليهم وتقريعهم فإنه لما جاء فيما مضى ذكر يوم الحشر إذ هو حين افتضاح ضلال المشركين ببراءة شركائهم منهم أتبع ذلك بالتقريع على عبادتهم الأصنام مع وضوح براهين الوحدانية لله تعالى. وإذ كان القرآن قد أبلغهم ما كان يعصمهم من ذلك الموقف الذليل لو اهتدوا به
(11/92)
أتبع ذلك بالتنويه بالقرآن وإثبات أنه خارج عن طوق البشر وتسفيه الذين كذبوه وتفننوا في الإعراض عنه واستوفي الغرض حقه عاد الكلام إلى ذكر يوم الحشر مرة أخرى إذ هو حين خيبة أولئك الذين كذبوا بالبعث وهم الذين أشركوا وظهر افتضاح شركهم في يوم الحشر فكان مثل رد العجز على الصدر.
وانتصب {يَوْمَ} على الظرفية لفعل {خَسِرَ} . والتقدير: وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم، فارتباط الكلام هكذا: وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم. وتقديم الظرف على عامله للاهتمام لأن المقصود الأهم تذكيرهم بذلك اليوم وإثبات وقوعه مع تحذيرهم ووعيدهم بما يحصل لهم فيه.
ولذلك عدل عن الأظمار إلى الموصولية في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} دون قد خسروا، للإيماء إلى أن سبب خسرانهم هو تكذيبهم بلقاء الله وذلك التكذيب من آثار الشرك فارتبط بالجملة الأولى وهي جملة: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 28- 30].
وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ} بنون العظمة، وقرأه حفص عن عاصم بياء الغيبة، فالضمير يعود إلى اسم الجلالة في قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس: 44].
وجملة: {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} إما معترضة بين جملة: {نَحْشُرُهُمْ} وجملة: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وإما حال من الضمير المنصوب في {نَحْشُرُهُمْ} .
و {كَأَنْ} مخففة: "كأنَّ" المشددة النون التي هي إحدى أخوات "إن"، وهي حرف تشبيه، وإذا خففت يكون اسمها محذوفا غالبا، والتقدير هنا: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من النهار. وقد دل على الاسم المحذوف ما تقدم من ضمائرهم.
والمعنى تشبيه المحشورين بعد أزمان مضت عليهم في القبور بأنفسهم لو لم يلبثوا في القبور إلا ساعة من النهار.
و {مِنَ النَّهَارِ} "مِنَ" فيه تبعيضية صفة ل {سَاعَةً} وهو وصف غير مراد منه التقييد إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب لأن النهار هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في المتعارف، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان كقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46]. ومن
(11/93)
هذا ما وقع في الحديث وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، والمقصود ساعة من الزمان وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار.
والساعة: المقدار من الزمان، والأكثر أن تطلق على الزمن القصير إلا بقرينة، وتقدم عند قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} في سورة الأعراف[34].
ووجه الشبه بين حال زمن لبثهم في القبور وبين لبث ساعة من النهار وجوه: هي التحقق والحصول، بحيث لم يمنعهم طول الزمن من الحشر، وأنهم حشروا بصفاتهم التي عاشوا عليها في الدنيا فكأنهم لم يفنوا. وهذا اعتبار بعظيم قدرة الله على إرجاعهم.
والمقصود من التشبيه التعريض بإبطال دعوى المشركين إحالتهم البعث بشبهة أن طول اللبث وتغير الأجساد ينافي إحياءها: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات: 10, 11].
وجملة: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} حال من الضمير المنصوب في {نَحْشُرُهُمْ} .
والتعارف: تفاعل من عرف، أي يعرف كل واحد منهم يومئذ من كان يعرفه في الدنيا ويعرفه الآخر كذلك.
والمقصود من ذكر هذه الحال كالمقصود من ذكر حالة {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} لتصوير أنهم حشروا على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا في أجسامهم وإدراكهم زيادة في بيان إبطال إحالتهم البعث بشبهة أنه ينافي تمزق الأجسام في القبور وانطفاء العقول بالموت.
فظهر خسرانهم يومئذ بأنهم نفوا البعث فلم يستعدوا ليومه بقبول ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
[46] {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}
كان ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} ، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم، والإشارة إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} إلى قوله: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 11- 14] منذرا
(11/94)
بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم، وكان معلوما من خلق النبيء صلى الله عليه وسلم رأفته بالناس ورغبته أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه، فربما كان النبيء يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم. وكان قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11] تصريحا بإمكان استبقائهم وإيماء إلى إمهالهم. جاء هذا الكلام بيانا لذلك وإنذارا بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل.
وجاء الكلام على طريقة إبهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجا وإن كان المخاطب به النبيء صلى الله عليه وسلم.
والمراد ب {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} . فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيته أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال.
فمضمون {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قسيم لمضمون {نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} .
والجملتان معا جملتا شرط، وجواب الشرط قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} .
ولما جعل جواب الشرطين إرجاعهم إلى الله المكنى به عن العقاب الآجل، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة. وأما إرادة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إرائته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير.
وإنما كني عن التعجيل بأن يريه الله الرسول للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه، ولذلك بني على ضد ذلك ضد التعجيل فكني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذ كانت حكمة التعجيل هي الانتصاف للرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما جعل مضمون جملة: {نَتَوَفَّيَنَّكَ} قسيما لمضمون جملة: {نُرِيَنَّكَ} تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذاهم له انتصارا له حتى يكون أمره جاريا على سنة الله في المرسلين، كما قال نوح: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا
(11/95)
كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26]، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47] الآية وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 4]. وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة، وقتل صناديدهم، كما أشار إليه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [يونس: 10- 16].
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الارض. والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
وتأمل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} وقوله: {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} .
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضا إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة.
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازا محكما وصارت قوة الكلام هكذا: وإما نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا، أي مرجعهم ثابت إلينا دوما فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة.
وكلمة {إِمَّا} هي "إن" الشرطية و"ما" المؤكدة للتعليق الشرطي. وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة "ما" بعد "إن" الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب "الكشاف" في تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} في سورة غافر[77]، فلا يقولون إن: تكرمني أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون: إن تكرمني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال: إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول: إن تكرمني. وشذ قول الأعشى:
فإما تريني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها
(11/96)
ثم أكد التعليق الشرطي تأكيدا ثانيا بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو مرجعهم للاهتمام. وجملة: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} اسمية تفيد الدوام والثبات، أي ذلك أمر في تصرفنا دوما.
وجملة: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} معطوفة على جملة: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} . وحرف {ثُمَّ} للتراخي الرتبي كما هو شأن "ثم" في عطفها الجمل. والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة من المعطوفة عليها فإن جملة: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل، والتفصيل أهم من الإجمال. وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد. وأما كون عذاب الآخرة حاصلا بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره.
وقوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} خبر مستعمل في معناه الكنائي، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئا.
والشهيد: الشاهد، وحقيقته: المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق.
وعبر بالمضارع في قوله: {يَفْعَلُونَ} للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر.
[47] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
عطف على جملة: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46]، وهي بمنزلة السبب لمضمون الجملة التي قبلها. وهذه بينت أن مجيء الرسول للامة هو منتهى الإمهال، وأن الأمة إن كذبت رسولها استحقت العقاب على ذلك. فهذا إعلام بأن تكذيبهم الرسول هو الذي يجر عليهم الوعيد بالعقاب، فهي ناظرة إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
(11/97)
وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} الخ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمنا طويلا. وقد قال الله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]. فالمعنى: ولكل أمة من الأمم ذوات الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهود والكلدان. والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} .
والفاء للتفريع و"إذا" للظرفية مجردة عن الاستقبال، والمعنى: أن في زمن مجيء الرسول يكون القضاء بينهم بالقسط. وتقديم الظرف على عامله وهو "قضي" للتشويف إلى تلقي الخبر.
وكلمة "بين" تدل على توسط في شيئين أو أشياء، فتعين أن الضمير الذي أضيفت إليه هنا عائد إلى مجموع الأمة ورسولها، أي قضي بين الأمة ورسولها بالعدل، أي قضي الله بينهم بحسب عملهم مع رسولهم.
والمعنى: أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولا فإرساله أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مراد الله منهم فإن أطاعوه رضي الله عنهم وربحوا، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا.
وقد أشعر قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} بحدوث مشاقة بين الكافرين وبين المؤمنين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا تحذير من مشاقة النبيء صلى الله عليه وسلم وإنذار لأهل مكة بما نالهم. وقد كان من بركة النبيء صلى الله عليه وسلم ورغبته أن أبقى الله على العرب فلم يستأصلهم، ولكنه أراهم بطشته وأهلك قادتهم يوم بدر، ثم ساقهم بالتدريج إلى حظيرة الإسلام حتى عمهم وأصبحوا دعاته للأمم وحملة شريعته للعالم.
ولم أشعر قوله: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} بأن القضاء قضاء زجر لهم على مخالفة رسولهم وأنه عقاب شديد يكاد من يراه أو يسمعه أن يجول بخاطره أنه مبالغ فيه أتي بجملة {وَهُمْ
(11/98)
لا يُظْلَمُونَ} ، وهي حال مؤكدة لعاملها الذي هو {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} للإشعار بأن الذنب الذي قضي عليهم بسببه ذنب عظيم.
[48, 49] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46]، والمناسبة أنه لما بينت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد.
وحكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة، كقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] للدلالة على تكرر صدوره منهم، وأطلق الوعد على الموعود به، فالسؤال عنه باسم الزمان مؤول بتقدير يدل عليه المقام، أي متى ظهوره.
والسؤال مستعمل في الاستبطاء، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي أن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به. والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا.
والخطاب بقولهم: {إِنْ كُنْتُمْ} للرسول، فضمير التعظيم للتهكم كما في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7] وقول أبي بكر بن الأسود الكناني:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ} . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي وللمسلمين، جمعوهم في الخطاب لأن النبيء أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعا لتكذيب النبيء وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به. وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك.
ومعنى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} : لا أستطيع، كما تقدم في قوله تعالى:
(11/99)
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة العقود[76].
وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء.
والمقصود من جمع الأمرين الإحاطة بجنسي الأحوال. وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي. وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي، أي بطريق برهاني، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا فعدم استطاعته ما فيه ضر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه، فلو كان الله مقدرا إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته، لأن بعض أسبابها في مقدرته، فلا جرم كان الإنسان مسيرا في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه. فكان معنى الجواب: أن الوعد من الله لا مني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلا عند الله.
وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} من المقول المأمور به، وموقعها من جملة: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} موقع العلة لأن جملة: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد.
وجملة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم. ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله.
وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} قضية كلية تشمل كل أمة. ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم: أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله.
وجملة: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} صفة ل "أجل"، أي
(11/100)
أجل محدود لا يقبل التغير. وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف.
و {إِذَا} في هذه الآية مشربة معنى الشرط، فلذلك اقترنت جملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في "إذا" معاملة جواب الشرط.
[50, 51] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .
هذا جواب ثان عن قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 4] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به، كما حكي عنهم في الآية الأخرى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 90- 2]، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطئ بالإبطال. وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ماذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم. وهذا كما قال بعض الواعظين: نحن نريد أن لا نموت حتى نتوب ونحن لا نتوب حتى نموت.
ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} تخييلا يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلا قريبا أو أقل قربا، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلا ما لصورة وقوع العذاب استحضارا له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازا لفرصة الموعظة، كالتذكير به في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47].
والبيات: اسم مصدر التبييت، ليلا كالسلام للتسليم. وذلك مباغتة. وانتصب {بَيَاتاً} على الظرفية بتقدير مضاف، أي وقت بيات.
وجواب شرط {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} محذوف دل عليه قوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
(11/101)
الْمُجْرِمُونَ} الذي هو ساد مسد مفعولي "أَرَأَيْتُمْ" إذ علقه عن العمل الاستفهام ب"ماذا".
و {مَاذَا} كلمتان هما "ما" الاستفهامية و"ذا". أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده. واستعمل "ذا" مع "ما" الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفا. وقد يظهر كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 55]. وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله.
و"مِن" للتبعيض. والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب، أي لا شيء من العذاب بصالح لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله.
وفائدة الإشارة إليه تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة: 26]، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون، فجملة {يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} في موضع الحال من اسم الإشارة، أي أن مثله لا يستعجل بل شأنه أن يستأخر.
و"من" بيانية، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد.
واعلم أن النحاة يذكرون استعمال: "ماذا" بمعنى: "ما الذي" وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالا مطردا. وقد حقق ابن مالك في "الخلاصة" إذ زاد قيدا في هذا الاستعمال فقال:
ومثل ما، ذا بعد ما استفهام ... أو من إذا لم تلغ في الكلام
يريد إذا لم يكن مزيدا. وإنما عبر بالإلغاء فرارا من إيراد أن الأسماء لا تزاد. والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب "مغنى اللبيب" في فصل عقده ل"ماذا" وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض. وانظر ما تقدم عند قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] المتقدم آنفا، وقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة[].
والمجرمون: أصحاب الجرم وهو جرم الشرك. والمراد بهم الذين: {يَقُولُونَ مَتَى هَذَا
(11/102)
الْوَعْدُ} [يونس: 48]، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ماذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام، وللتنبيه على خطئهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلا شرا.
وعطفت جملة: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} بحرف المهلة للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأن "ثم" في عطفها الجمل، لأن إيمانهم بالعذاب الذي كانوا ينكرون وقوعه حين وقوعه بهم أغرب وأهم من استعجالهم به. وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير كما هو استعمالها مع حروف العطف المفيدة للتشريك. والتقدير: ثم أ إذا ما وقع، وليس المراد الاستفهام عن المهلة.
والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب، وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار بمعنى التغليط وإفساد رأيهم، فإنهم وعدوا بالإيمان عند نزول العذاب استهزاء منهم فوقع الجواب بمجاراة ظاهر حالهم وبيان أخطائهم، أي أتؤمنون بالوعد عند وقوعه على طريقة الأسلوب الحكيم، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وكلمة {آلْآنَ} استفهام إنكاري عن حصول إيمانهم عند حلول ما توعدهم، فعبر عن وقت وقوعه باسم الزمان الحاضر وهو "الآن" حكاية للسان حال منكر عليهم في ذلك الوقت استحضر حال حلول الوعد كأنه حاضر في زمن التكلم، وهذا الاستحضار من تخييل الحالة المستقبلة واقعة. ولذلك يحسن أن نجعل "الآن" استعارة مكنية بتشبيه الزمن المستقبل بزمن الحال، ووجه الشبه الاستحضار. ورمز إلى المشبه به بذكر لفظ من روادفه، وهو اسم الزمن الحاضر.
وجملة: {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ترشيح، وإما تقدير قول في الكلام، أي يقال لهم إذا آمنوا بعد نزول العذاب آلآن آمنتم، كما ذهب إليه أكثر المفسرين، فذلك تقدير معنى لا تقدير نظم وإعراب لأن نظم هذا الكلام أدق من ذلك.
ومعنى: {تَسْتَعْجِلُونَ} تكذبون، فعبر عن التكذيب بالاستعجال حكاية لحاصل قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] الذي هو في صورة الاستعجال، والمراد منه التكذيب.
(11/103)
وتقديم المجرور للاهتمام بالوعد الذي كذبوا به، وللرعاية على الفاصلة.
[52] {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
معطوفة على جملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 50] الآية. و"ثم" للتراخي الرتبي، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } [يونس: 50] فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا، فذلك موقع عطف جملته بحرف "ثم".
وصيغة المضي في قوله: {قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} مستعملة في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه مثل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
والذين ظلموا هم القائلون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48]. وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك. ومعنى ظلموا: أشركوا.
والذوق: مستعمل في الإحساس، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق.
والاستفهام في {هَلْ تُجْزَوْنَ} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء بعده الاستثناء {إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
وجملة: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} استئناف بياني لأن جملة: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} تثير سؤالا في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم.
[53] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .
هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافا به، ومرة يقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه: أهذا العذاب الخالد، أي عذاب الآخرة، حق.
فالجملة معطوفة على جملة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] ، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم، وضمير "هو" عائد إلى: {عَذَابَ الْخُلْدِ} [يونس: 52].
والحق: الثابت الواقع، فهو بمعنى حاق، أي ثابت، أي أن وقوعه ثابت، فأسند
(11/104)
الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت.
وجملة: {أَحَقٌّ هُوَ} استفهامية معلقة فعل {يَسْتَنْبِئُونَكَ} عن العمل في المفعول الثاني، والجملة بيان لجملة {يَسْتَنْبِئُونَكَ} لأن مضمونها هو الاستثناء.
والضمير يجوز كونه مبتدأ، و {أَحَقٌّ} خبر مقدم.
واستعملوا الاستفهام تبالها، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولا ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطا لهم واغتناما لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذ جمع بين حرف {إِي} وهو حرف جواب يحقق به المسؤول عنه، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب، وبالقسم، وإن، ولام الابتداء، وكلها مؤكدات.
والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . فجملة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقسم عليه. ولما كان المقسم عليه جوابا عن استفهامهم كان مضمون {مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} جوابا عن الاستفهام أيضا باعتبار ما أضمروه من التكذيب، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه. وليس فعل {يَسْتَنْبِئُونَكَ} مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64]، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام.
و {إِي} بكسر الهمزة: حرف جواب لتحقيق ما تضمنه سؤال سائل، فهو مرادف نعم ، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم.
والمعجزون: الغالبون، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم، أي بمفلتين. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام [134].
[54] {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ}
الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملة: {إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
(11/105)
[يونس: 53] إعلاما لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلق الثاني لفعل "افْتَدَتْ" لأنه يقتضي مفديا به ومفديا منه، أي لافتدت به من العذاب.
والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر: {كُلِّ نَفْسٍ} دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به.
وجملة: {أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ} واقعة موقع شرط "لو".
و{مَا فِي الْأَرْضِ} اسم "أن". و {لِكُلِّ نَفْسٍ} خبر "أن" وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك. وجملة: {ظَلَمَتْ} صفة ل {لِنَفْسٍ } . وجملة: {لافْتَدَتْ بِهِ} جواب "لو".
فعموم {كُلِّ نَفْسٍ} يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم.
ومعنى {ظَلَمَتْ} أشركت، وهو ظلم النفس: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
و {مَا فِي الْأَرْضِ} يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء.
و"افتدى" مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام. وضمير {أَسَرُّوا} عائد إلى {كُلِّ نَفْسٍ} باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد مضى، والمعنى: وسيسرون الندامة قطعا. وكذلك قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} .
والندامة: الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قول أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولا ولا فعلا فقد أسر الندامة، أي قصرها على سره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخا ولا عويلا.
(11/106)
وجملة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عطف على جملة: {وَأَسَرُّوا} مستأنفة.
ومعنى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 47] فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6, 7].
وجملة: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} حالية.
[55, 56] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
تذييل تنهية الكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين. وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه.
فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفا لا يشاركه فيه غيره؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس. ثم أعقب بتحقيق وعده، وأعقب بتجهيل منكريه، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث.
وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفا.
وتأكيد الخبر بحرف {إِنَّ} للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله. ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} لأن ذلك اضطراب وخبط.
وقدم خبر {إِنَّ} على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم
(11/107)
الشركة كما علمت.
وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر.
واللام في {اللَّهِ} للملك، و"ما" اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية.
ووعد الله: هو وعده بعذاب المشركين، وهو وعيد، ويجوز أن يكون وعده مرادا به البعث، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فسمى إعادة الخلق وعدا.
وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل والكلام الجامع.
ووقع الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما، فكأنه قيل: لا شك يحق في ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يشكون.
وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة، كما قال في الآية السابقة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} ، فضمير {أَكْثَرَهُمْ} للمتحدث عنهم فيما تقدم.
[57] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
استئناف أو اعتراض، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رسلها، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 37- 43]. فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به، ولذلك
(11/108)
كان الخطاب هنا عاما لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي وجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول. وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة.
ويجوز أن يكون خطابا للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدى ورحمة للمؤمنين إدماجا وتسجيلا على المشركين بأنهم حرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك.
وافتتاح الكلام ب {قَدْ} لتأكيده، لأن في المخاطبين كثيرا ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن.
والمجيء: مستعمل مجازا في الإعلام بالشيء، كما استعمل للبلوغ أيضا، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر، يقال: بلغني خبر كذا، ويقال أيضا: جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا. وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز.
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي: أنه موعظة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه هدى، وأنه رحمة للمؤمنين.
والموعظة: الوعظ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر. وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63]، وعند قوله تعالى: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف[145]. ووصفها ب {مِنْ رَبِّكُمْ} للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها.
والشفاء تقدم عند قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} في سورة براءة[14]. وحقيقته: زوال المرض والألم، ومجازه: زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا.
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال.
والهدى تقدم في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في طالع سورة البقرة[2]، وأصله:
(11/109)
الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود. ومجازه: بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة.
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة.
وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليما وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وصبا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها، فزواجر القرآن ومواعظه يشبه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية،وعبر عنها بالهدى، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية.
ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية. ثم إن ذلك يتضمن تشبيه باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع.
فالأوصاف الثلاثة الأول؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك من قبلها وعمل بها، ومن أعرض عنها ونبذها، إلا أن وصفه بكونه هدى لما كان وصفا بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع. والوصف الرابع وهو الرحمة خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأول فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة. وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82].
فقيد {لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق ب {رَحْمَةٌ} بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين. ومن
(11/110)
المحققين من جعله قيدا ل {هُدىً وَرَحْمَةً} ناظرا إلى قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون.
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له، لأن الموعظة هي الكلام المحذر من الضر ولهذا عقبت بقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} فكانت عامة لمن خوطب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} . وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء ولكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله.
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حصلت له حقيقتهما وأما لمن لم تحصل له آثارهما فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق. وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وصرح في آية البقرة[2] بأنه {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، فالأظهر أن قيد {لِلْمُؤْمِنِينَ} راجع إلى {هُدىً وَرَحْمَةً} معا على قاعدة القيد الوارد بعد مفردات، وأما رجوعه إلى {شِفَاءٌ} فمحتمل، لأن وصف {شِفَاءٌ} قد عقب بقيد {لِمَا فِي الصُّدُورِ} فانقطع عن الوصفين اللذين بعده، ولأن تعريف: {الصُّدُورِ} باللام يقتضي العموم، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله. وهو إطلاق كثير. وصدر به "اللسان" و"القاموس"، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69].
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ} فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة. ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم، كما دل عليه قوله بعده: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أي المؤمنون. وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 174, 175] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم.
[58] {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها
(11/111)
نعمة تفوق نعمة المال التي حرم منها أكثر المؤمنين ومنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع.
وجيء بالأمر بالقول معترضا بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويها بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمرا خاصا بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأمورا بأن يقوله.
وتقدير نظم الكلام: قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بذلك ليفرحوا.
فالفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} فاء التفريع، و {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} مجرور متعلق بفعل: {فَلْيَفْرَحُوا} قدم على متعلقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون مما سواه مما دل عليه قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعرض المال فقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا.
والإشارة في قوله: {فَبِذَلِكَ} للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار. ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيدا لفاء التفريع التي في: {فَلْيَفْرَحُوا} لأنه لما قدم على متعلقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل: "ليَفْرَحُوا" فصار مفيدا مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع. وتقدير معنى الكلام: قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه.
والفرح: شدة السرور.
ولك أن تجعل الكلام استئنافا ناشئا مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن. ولما قدم المجرور وهو: {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط. وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" . وقوله: "كما تكونوا يول عليكم" بجزم: "تكونوا" وجزم: "يول". فالفاء في قوله: {فَبِذَلِكَ} رابطة للجواب، والفاء في قوله: {فَلْيَفْرَحُوا} مؤكدة للربط.
ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث
(11/112)
عن أنس بن مالك عن النبيء صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله" "يعني أن هداكم إلى اتباعه". ومثله عن أبي سعيد الخدري والبراء موقوفا، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجملة: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} مبينة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين. وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة. والضمير عائد إلى اسم الاشارة، أي ذلك خير مما يجمعون.
و {مَا يَجْمَعُونَ} مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال. قال تعالى: {الذي جمع مالا وعدده} [الهمزة: 2]. ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه.
وضمير {يَجْمَعُونَ} عائد إلى: {النَّاسُ} في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} بقرينة السياق وليس عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {يَفْرَحُوا} فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
ضمير "أحرزوا" عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله: "جمعهم". وضمير "جمعوا" عائد إلى المسلمين، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم، ومنه قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم[9].
وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتم الظهور، وهو أيضا المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر. وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11] وقال: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 14, 15] وقال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196, 197]، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27]. وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52,
(11/113)
53] حين قال له المشركون: لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خير منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة. وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله: {يَجْمَعُونَ} المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة.
والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك.
وقرأ الجمهور: {تَجْمَعُونَ} - بياء الغيبة - فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {ممَِّا تَجْمَعُونَ} بتاء الخطاب - فيكون خطابا للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57]، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك. ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفا، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة.
وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي. وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافته الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل {يَجْمَعُونَ} إلى ضمير {النَّاسُ} [يونس: 57]. وهذا الفضل أخروي ودنيوي. أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة. قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27, 28] فجعل رضاها حالا لها وقت رجوعها إلى ربها. قال فخر الدين: "والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من
(11/114)
خوف فواتها أكثر وأشد".
ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية.
[59] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} .
استئناف أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين. وافتتاحه ب {قُلْ} لقصد توجه الأسماع إليه. ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته. فلما استوفى ذلك بأوضح حجة، وبانت لقاصد الاهتداء المحجة، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم، فإنه بعد أن كان تكذيبا بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها، فإنهم قد وضعوا دينا فجعلوا بعض أرزاقهم حلالا لهم وبعضها حراما عليهم فإن كان ذلك حقا بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبيء صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل.
ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن أخر الكلام المتقدم جملة: {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، أي من أموالهم. وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالا ومنها حراما وكفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة، وأبوابا من الخير في وجوههم مغلقة.
والاستفهام في: {أَرَأَيْتُمْ} و {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين: إما أن يكون الله أذن لهم، أو أن يكونوا مفترين على الله، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين.
والرؤية علمية، و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} هو المفعول الأول لـ "رأيتم"، وجملة:
(11/115)
{فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ} الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه. والاستفهام في: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} مفعول ثان لـ {رأيتم}، ورابط الجملة بالمفعول محذوف، تقديره: أذنكم بذلك، دل عليه قوله: {فجعلتم منه حراما وحلالا} .
و {قُلْ} الثاني تأكيد لـ {قُلْ} الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه. وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل: {أَرَأَيْتُمْ} . وفعل الرؤية معلق على العمل في المفعول الثاني لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني. وزعم الرضي أن الرؤية بصرية. وقد بسطت القول في ذلك عند قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} الآية في سورة الواقعة[58, 59].
و {أَمْ} متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين.
والرزق: ما ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سورة البقرة[3] وفي قوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} في الأعراف[50].
وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار، ومعظم أموالهم الأنعام، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24, 32]. وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] أي سبب رزقكم وهو المطر. وقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء. وهو على المجاز في كلمة "بني" لأن الابن يطلق مجازا على الملازم للشيء. وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] بهذا الاعتبار.
والمجعول حراما هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} وقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} في سورة الأنعام[138, 139].
ومحل الإنكار ابتداء هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراما عليهم. وأما عطف
(11/116)
{حَلالاً} على {حَرَاماً} فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراما وميزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضا حلالا، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراما وأبقوا بعض الحلال على الحل، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالا ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراما وبعضه حلالا، وإلا فانهم لم يجعلوا ما كان حراما حلالا إذ لم يكن تحريم في الجاهلية.
وقوله: {حَلالاً} عطف على {حَرَاماً} والتقدير: ومنه حلالا، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراما وحلالا، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم.
وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} لتقوية الحكم مع الاهتمام. وتقديم المجرور على عامله في قوله: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعا لتعليق الافتراء به. وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه.
وحذف متعلق: {أَذِنَ} لظهوره. والتقدير: الله أذن لكم بذلك الجعل.
[60] {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}
عطف على جملة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [يونس: 59]، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس. و {مَا} للاستفهام. والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم. والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم.
ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير "هم" مضافا إليه الظن إما ضمير خطاب أو غيبة. فيقال: وما ظنكم أو وما ظنهم، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم، فإذا تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم. وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة.
(11/117)
وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له، أي ما ظنهم بحاله وبجزائهم وبأنفسهم. وانتصب {الْكَذِبَ} على المفعول المطلق، واللام فيه لتعريف الجنس، كأنه قيل كذبا، ولكنه عرف لتفظيع أمره، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} منصوب على الظرفية وعامله الظن، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون، وهذا تهويل.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} تذييل للكلام المفتتح بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]. وفيه قطع لعذر المشركين، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة.
[61] {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
معطوفة على جملة: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 60] عطف غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعد بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه. وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبيء ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} . ويتضمن ذلك تنويها بالنبيء صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين.
و {مَا} الأولى و {مَا} الثانية نافيتان.
(11/118)
والشأن: العمل المهم والحال المهم. و"في" للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس.
وضمير "منه" إما عائد إلى " {شأن} "، أي وما تتلو من الشأن قرآنا فتكون "من" مبينة ل "ما" الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآنا. وعطف {وَمَا تَتْلُو} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول - عليه الصلاة السلام -.
وإما عائد إلى {قُرْآنٍ} ، أي وما تتلو من القرآن قرآنا، فتكون {مِنْهُ} للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع. وواو "تتلو" لام الكلمة، والفعل متحمل لضمير مفرد لخطاب النبيء صلى الله عليه وسلم.
فيكون الكلام قد ابتدئ بشؤون النبيء صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصه كقيام الليل، وثني بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثلث بما هو من شؤون الأمة في قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله: {تَعْمَلُونَ} فلا يبقى مرادا منه إلا ما يعمله بقية المسلمين.
ووقع النفي مرتين بحرف "ما" ومرة أخرى بحرف "لا" لأن حرف "ما" أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولا استحضار الحال العظيم من شأن النبيء صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها.
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواء، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز. وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة {تَكُونَ - تَتْلُو - وتَعْمَلُونَ} وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها {إِلَّا كُنَّا} للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباك كأنه قيل: وما كنتم وتكون وهكذا، إلا كنا ونكون عليكم شهودا.
و {مِنْ عَمَلِ} مفعول {تَعْمَلُونَ} فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه "من"
(11/119)
للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العمل، أي إلا في حالة علمنا بذلك، فجملة {كُنَّا عَلَيْكُمْ} في موضع الحال. ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف "قد" لأن الربط ظاهر بالاستثناء.
والشهود: جمع شاهد. وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعا لضمير الجمع المستعمل للتعظيم، ومثله قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]. ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن علبة الحارثي:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها.
والشاهد: الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف "على".
و {إِذْ} ظرف، أي حين تفيضون.
والإفاضة في العمل: الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين. وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماما بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل: ولا تعملون من عمل ما وعمل عظيم تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهودا حين تعملونه وحين تفيضون فيه.
وجملة: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} الخ عطف على جملة: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} ، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
والعزوب: البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفوات العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال: {عَنْ رَبِّكَ} .
وقرأ الجمهور: {يَعْزُبُ} - بضم الزاي -، وقرأه الكسائي - بكسر الزاي - وهما
(11/120)
وجهان في مضارع "عزب".
و"من" في قوله: {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في {مَا يَعْزُبُ} .
والمثقال: اسم آلة لما يعرف به مقدار ثقل الشيء فهو وزن مفعال من ثقل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل.
والذرة: النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبار دقيق جدا، والظاهر أن المراد في الآية الأول. وذكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن ما هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم.
والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي. والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة. وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة سبأ [3] {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ } فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.
وعطف {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} على {ذَرَّةٍ} تصريحا بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام.
و {أَصْغَرَ} بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعا من الصرف لأنه معطوف على {ذَرَّةٍ} المجرور على أن {لا} مقحمة لتأكيد النفي. وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون {لا} نافية للجنس {وأَصْغَرَ} اسمها مبنيا على الفتح فيكون ابتداء كلام.
وقرأ حمزة وخلف ويعقوب {وَلا أَصْغَرُ - وَلا أَكْبَرُ} برفعهما باعتبار عطف {أَصْغَرَ} على محل {مِثْقَالُ} لأنه فاعل {يَعْزُبُ} في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون {لا} نافية عاملة عمل ليس و {أَصْغَرَ} اسمها.
والاستثناء على الوجهين الأولين من قراءتي نصب {أَصْغَرَ} ورفعه استثناء منقطع بمعنى "لكن"، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلا من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغر منها وأكبر. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه
(11/121)
في كتاب مبين، أي إلا معلوما مكتوبا ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلا بطريق برهاني.
والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلا والمجرور ظرفا مستقلا في محل خبر "لا" النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
والكتاب: علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان. ومبين: اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بين لا احتمال فيه.
[62 - 64] {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرض به في قوله: {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} [يونس: 61] الآية، وبتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبي والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعدا لا يقبل التغيير ولا التخلف تطمينا لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} .
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} في سورة البقرة [12]، ولذلك أكدت الجملة ب {إِنَّ} بعد أداة التنبيه.
وفي التعبير ب {وْلِيَاءَ اللَّهِ} دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم.
وجملة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} خبر {إِنَّ} .
والخوف: توقع حصول المكروه للمتوقع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقع حصوله. فيقال: خاف الشيء، قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175]. وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقع: خاف عليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
(11/122)
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135].
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن "لا" إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصا وإذا لم يبن الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهرا مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحا لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم "لا" وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديث أم زرع "زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة" فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح.
فمعنى {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمن من أن يصيبهم مكروه يخاف من إصابة مثله، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجسا من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يعلم حالهم لا يخاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليما من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافا إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 25 , 26] ، وقال لموسى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه: 77]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} . وكان النبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض" . ثم خرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر [القمر: 45].
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} مع الابتداء به، وإيراد الفعل بعده مسندا مفيدا تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من اثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون" فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن
(11/123)
المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لأن جملة: {هُمْ يَحْزَنُونَ} يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصا منه.
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم. ولما كان ما يخاف منه من شأنه أن يحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكدا لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. وقد علمت ما يغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
والولي: الموالي، أي المحالف والناصر. وكلها ترجع إلى معنى الولي بسكون اللام ، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازى. وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام [14]. وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة. وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} خبر {إِنَّ} ويجعل اسم الموصول خبر مبتدأ محذوف حذفا جاريا على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه. وأياما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
ودل قوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} على أن التقوى ملازمة لهم أخذا من صيغة {كَانُوا} وأنها متجددة منهم أخذا من صيغة المضارع في قوله: {يَتَّقُونَ} . وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خلت في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعا وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب" .
وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
وتعريف {الْبُشْرَى} تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة.
(11/124)
و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} حال من {الْبُشْرَى} . والمعنى: أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها: في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25].
وروى الترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فقال: "ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" قال الترمذي: "وليس فيه عطاء بن يسار" أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء،
ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21] الآية ونحوها من الآيات.
وفي الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء، وتمكينهم من السلطان في الدنيا، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة. ومقابلة الحزن بالبشرى من محسنات الطباق.
وجملة: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ، تذكيرا لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل.
والتبديل: التغيير والإبطال، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه.
و {كَلِمَاتِ اللَّهِ} الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه، ويؤخذ من عموم {كَلِمَاتِ اللَّهِ} وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله.
(11/125)
روي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال: "إنه قد بدل كتاب الله".وكان ابن عمر حاضرا فقال له ابن عمر: لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} .
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مؤكدة لجملة {لَهُمُ الْبُشْرَى} ومقررة لمضمونها فلذلك فصلت.
والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذكر، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه. وذكر ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر، أي هو الفوز العظيم لا غيره مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنعة وقوة، لأن ذلك لا يعد فوزا إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعده العذاب الخالد في الآخرة، كما أشار إليه قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196, 197].
[65] {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
الجملة معطوفة على جملة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالا بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق. والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمدا صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم. ووجه الاقتصار على دحضه أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزنا إلا أذى القول البذئي.
وصيغة: {لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبيء صلى الله عليه وسلم كلام المشركين، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبيء عليه الصلاة والسلام عن أن يتأثر بما شأنه أن يحزن الناس من أقوالهم، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو
(11/126)
من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تحزنك، وهذا كما يقولون: لا أرينك تفعل كذا، ولا أعرفنك تفعل كذا، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلا كذا. والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. والمعنى: لا تفعلن كذا فأراك تفعله. ومعنى: {لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} لا تحزن لقولهم فيحزنك.
ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبيء هي أقوال التكذيب والاستهزاء، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم.
وجملة: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} تعليل لدفع الحزن عنه، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأن النبيء يقول: كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعة، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك. وهي أيضا في محل استئناف بياني. وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضا استئنافا بيانيا، فالاستئناف البياني أعم من التعليل. وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها، ولأنه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب.
ويحسن الوقف على كلمة: {قَوْلُهُمْ} لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة: { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} فيحسبه مقولا لقولهم فيتطلب لماذا يكون هذا القول سببا لحزن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكيف يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} وإن كان في المقام ما يهدي السامع سريعا إلى المقصود.
ونظير هذا الإيهام ما حكي أن ابن قتيبة "وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة" ذكر قراءة أبي حيوة: {أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} - بفتح همزة "أن" - وأعرب بدلا من "قولهم" فحكم أن هذه القراءة كفر. حكى ذلك عنه ابن عطية. وأشار إلى ذلك في "الكشاف" فقال: "ومن جعله بدلا من "قولهم" ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه".
ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملا لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل: {قَوْلُهُمْ} لأن شأن "إن" بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعين لأنه يحتمل أيضا أن تكون الجملة استئنافا، والسياق يعين الاحتمال الصحيح.
(11/127)
فأما إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حيوة فقد تعينت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ {قَوْلُهُمْ} ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك. منها بدل من كلمة {قَوْلُهُمْ} ، فيصير المعنى: أن الله نهى نبيه عن أن يحزن من قول المشركين { الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وكيف وهو أنما يدعوهم لذلك. وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهى عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبيء عليه الصلاة والسلام بالحزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم، ومقصده التشنيع على صاحب هذه القراءة.
وإنما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل "أنّ" لعله راعى أن التقدير خلاف الأصل أو أنه غير كاف في دفع الإيهام. فالوجه أن ابن قتيبة هول ما له تأويل، ورد العلماء عليه رد أصيل.
والتعريف في {الْعِزَّةَ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السياق.
واللام في قوله: {لِلَّهِ} للملك. وقد أفاد جعل جنس العزة ملكا لله أن جميع أنواعها ثابت لله، فيفيد أن له أقوى أنواعها وأقصاها. وبذلك يفيد أن غير الله لا يملك منها إلا أنواعا قليلة، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في ملك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى. فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله، فكل عزة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] وإذ قد كان النبيء عليه الصلاة والسلام يعلم أن الله أرسله وأمره بزجر المشركين عما هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده، ويعلم أن ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم.
و {جَمِيعاً} حال من {الْعِزَّةَ} موكدة مضمون الجملة قبلها المفيد لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس.
وجملة {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركنا في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلا آخر أو تكملة للتعليل الأول، لأنه إذا تذكر المخاطب أن صاحب العزة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحزن من أقوالهم عن نفسه لأن الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم. فهو إذا نهاك عن الحزن من
(11/128)
أقوالهم ما نهاك الا وقد ضمن لك السلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم.
والمراد ب {السَّمِيعُ} العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع، وبـ {الْعَلِيمُ} ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم "السميع".
[66] {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
المقصود بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأسيسهم من كل احتمال لانتصارهم على النبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فإن كثيرا منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السابقة من قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] إلى هنا من التصريح بهوان، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأن ما توعدهم به حق، ثم يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنه إن تحقق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم: لمثل هذا عبدناهم، وللشفاعة عند الله أعدناهم, فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنهم دون ما يظن بهم.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ومناسبة وقوعها عقب جملة: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة. وأما وقوعها عقب جملة: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] فلأنها حجة على أن العزة لله لأن الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزة الحق.
وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهمية العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد، وزيد ذلك تأكيدا بتقديم الخبر في قوله: {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وباجتلاب لام الملك.
و {مَنْ} الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأول إثبات أن آلهتهم لله تعالى، وهي جمادات غير عاقلة، تغليبا ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجة عليه حتى على لازم اعتقاده. والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكا لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف
(11/129)
فإن من العرب من عبد الملائكة، ومنهم من عبدوا المسيح، وهم نصارى العرب.
وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل: ألا إن لله جميع الموجودات.
وجملة: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} الخ معطوفة على جملة: {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} . وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله، واتباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل.
و"ما" نافية لا محالة، بقرينة تأكيدها ب "إنْ" النافية، وإيراد الاستثناء بعدهما.
و {شُرَكَاءَ} مفعول {يَدْعُونَ} الذي هو صلة {الَّذِينَ} .
وجملة: {إِنْ َتَّبِعُونَ} توكيد لفظي لجملة {يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض.
و {الظَّنَّ} مفعول لكلا فعلي {يَتَّبِعُ ، و َيتْبِعُونَ} فانهما كفعل واحد.
وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملا لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير: وما يتبع المشركون الا الظن وإن هم إلا يخرصون.
والظن: هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين، أي شأنهم اتباع الظنون.
والمراد بالظن هنا العلم المخطئ.
وقد بينت الجملة التي بعدها أن ظنهم لا دليل عليه بقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .
والخرص: القول بالحزر والتخمين. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام[116] وهو قوله: [67] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} جملة معترضة بين جملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [يونس: 66] وجملة: {قَالُوا اتَّخَذَ
(11/130)
اللَّهُ وَلَداً} [يونس: 68] جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخرصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهد في كل يوم من العمر مرتين وهم في غفلة عن دلالته، وهو خلق نظام النهار والليل.
وكيف كان النهار وقتا ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل.
وكيف كان الليل وقتا تغشاه الظلمة فكان مناسبا للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار. فكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفطن والغافل.
ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار، والليل والنهار ضدان دل ذلك على أن علة السكون عدم الإبصار وأن الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك.
ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتى جعل النهار هو المبصر. والمراد: مبصرا فيه الناس.
ومن لطائف المناسبة أن النور الذي هو كيفية زمن النهار شيء وجودي فكان زمانه حقيقيا بأن يوصف بأوصاف العقلاء، بخلاف الليل فان ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه.
وفي قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه. وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافيا كما توهمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الالهية، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام. وهذا الامتنان مستفاد من قوله: {جَعَلَ لَكُمُ} ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه، وخلق النهار بعلة إبصار الناس، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك، فان في العمل بالنهار نعما جمة من تحصيل رغبات، ومشاهدة محبوبات، وتحصيل أموال وأقوات، وأن في السكون بالليل نعما جمة من
(11/131)
استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد، على أن في اختلاف الأحوال، ما يدفع عن المرء الملال.
وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما: وصمة مخالفة الحق، ووصمة كفران النعمة.
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} مستأنفة. والآيات: الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فان النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع.
فمن تلك الآيات: خلق الشمس، وخلق الأرض، وخلق النور في الشمس وخلق الظلمة في الأرض، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجها للشعاع ونصفها الآخر محجوبا عن الشعاع وخلق الإنسان، وجعل نظام مزاجه العصبي متأثرا بالشعاع نشاطا، وبالظلمة فتورا، وخلق حاسة البصر، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء؛ وجعل نظام العمل مرتبطا بحاسة البصر؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشملا على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعا إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي، ثم فاقدا بالعمل نصيبا من قواه محتاجا إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة. وأية آيات أعظم من هذه، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع لله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه.
ووصف {قَوْمٍ} بأنهم {يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها أو تفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون.
ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن. وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم، كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} .
[68] {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
(11/132)
الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
بيان لجملة {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض} [يونس: 66] إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء.
فضمير {قَالُوا} عائد إلى: {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] أي قال المشركون: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} . وليس المراد من الضمير غيرهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيرا منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سرورات نساء الجن، ولذلك عبدت فرق من العرب الجن قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41].
والاتخاذ: جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام[74]، وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} في الأعراف[146]، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به. وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم من يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم من يعتقد أن الله تبنى بعض مخلوقاته.
والولد: اسم مصوغ على وزن فعل مثل عمد وعرب. وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج. يقال: ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفرح. ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر. يقال: هؤلاء ولد فلان. وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم" والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} [النحل: 57].
وجملة: {سُبْحَانَهُ} إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها. وهو اسم مصدر ل"سبح" إذا نزه، نائب عن الفعل، أي نسبحه. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة، أي تنزيها لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بينت جملة التنزيه بجملة {هُوَ
(11/133)
الْغَنِيُّ} بيانا لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مكمل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصد التوليد وكونها نقصا غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خلف بعد الممات. وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال.
والغني: الموصوف بالغنى، فعيل للمبالغة في فعل "غني" عن كذا إذا كان غير محتاج، وغنى الله هو الغنى المطلق. وفسر في أصول الدين الغنى المطلق بأنه عدم الافتقار إلى المخصص وإلى المحل، فالمخصص هو الذي يعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضا عن الأخرى، فبذلك ثبت للإله الوجود الواجب، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد، فلا جرم أن كان الغني منزها عن الولد من جهة الانفصال، ثم هو أيضا لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولدا له بالتبني لأجل كونه غنيا عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلف، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101].
وجملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله، فلا يحتاج إلى إعانة ولد، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعا له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم. وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفا: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [يونس: 66] ودل قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} على أن صفة العبودية تنافي صفة البنوة وذلك مثل قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يسترق لأبيه ولا لأمه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عليا.
وجملة: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} جواب ثان لقولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} فلذلك
(11/134)
فصلت كما فصلت جملة {سُبْحَانَهُ} ، فبعد أن أستدل على إبطال قولهم، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك.
و {إِنْ} حرف نفي.
و {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويها وضعيفها، عقليها وشرعيها.
و"عند" هنا مستعملة مجازا. شبه وجود الحجة للمحتج بالكون في مكانه، والمعنى: لا حجة لكم.
و {سُلْطَانٍ} محله رفع بالابتداء، وخبره {عِنْدَكُمْ} واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة.
والسلطان: البرهان والحجة، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في سورة الأعراف[71].
والباء للملابسة، وهي في موضع صفة ل {سُلْطَانٍ} ، أي سلطان ملابس لهذا. والإشارة إلى المقول.
والمعنى: لا حجة لكم تصاحب مقولكم بأن الله اتخذ ولدا.
وجملة: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} جواب ثالث ناشئ عن الجوابين لأنهم لما أبطل قولهم بالحجة. ونفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون، أي بما لا يوقنون به، ولكونها جوابا فصلت.
فالاستفهام مستعمل في التوبيخ، لأن المذكور بعده شيء ذميم، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب.
[69, 70] {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .
استئناف افتتح بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الآمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه، وذلك أن المقول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا: اتخذ الله ولدا، على مقالتهم تلك، وعلى أمثالها كقولهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} وقولهم: ما كان لآلهتهم من الحرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم، وقولهم: {لَنْ
(11/135)
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] وأمثال ذلك. فذلك كله افتراء على الله، لأنهم يقولونه على أنه دين، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يفتري على الله ما لم يقله، فالمقول لهم ابتداءا هم المشركون.
والفلاح: حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء. وتقدم في طالع سورة البقرة[5]. فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وجملة: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} استئناف بياني، لأن القضاء عليه بعدم الفلاح يتوجه عليه أن يسأل سائل كيف نراهم في عزة وقدرة على أذى المسلمين وصد الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجاب السائل بأن ذلك تمتيع في الدنيا لا يعبأ به، وإنما عدم الفلاح مظهره الآخرة، ف: {مَتَاعٌ} خبر مبتدأ محذوف يعلم من الجملة السابقة، أي أمرهم متاع.
والمتاع: المنفعة القليلة في الدنيا إذ يقيمون بكذبهم سيادتهم وعزتهم بين قومهم ثم يزول ذلك.
ومادة "متاع" مؤذنة بأنه غير دائم كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في أوائل سورة الأعراف[24].
وتنكيره مؤذن بتقليله، وتقييده بأنه في الدنيا مؤكد للزوال وللتقليل، و"ثم" من قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} للتراخي الرتبي لأن مضمونه هو محقة أنهم لا يفلحون فهو أهم مرتبة من مضمون لا يفلحون.
والمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى وقت نفاذ حكمه المباشر فيهم.
وتقديم {إِلَيْنَا} على متعلقه وهو المرجع للاهتمام بالتذكير به واستحضاره كقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ويجوز أن يكون المرجع كناية عن الموت.
وجملة: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} بيان لجملة {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} . وحرف "ثم" هذا مؤكد لنظيره الذي في الجملة المبينة على أن المراد بالمرجع الحصول في نفاذ حكم الله.
(11/136)
والجمل الأربع هي من المقول المأمور به النبيء صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله تعالى.
وإذاقة العذاب إيصاله إلى الإحساس، أطلق عليه الإذاقة لتشبيهه بإحساس الذوق في التمكن من أقوى أعضاء الجسم حاسية لمس وهو اللسان.
والباء في {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للتعليل.
وقوله: {كَانُوا يَكْفُرُونَ} يؤذن بتكرر ذلك منهم وتجدده بأنواع الكفر.
[71] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}
انتقال من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحا عليه السلام مع قومه مثل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلا ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمنا طويلا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عظة للمشركين وملقيا بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قوله في نهاية هذه القصص {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] الآيات. وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] الآيات.
وبهذا يظهر حسن موقع "إذْ" من قوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} إلى آخره، فإن تقييد النبأ بزمن قوله: {لِقَوْمِهِ} إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءهم زمنا طويلا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم، والنبيء صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه، وكان هو
(11/137)
الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق.
و {إذ} اسم للزمن الماضي، وهو هنا بدل اشتمال من {نَبَأَ} أو من {نُوحٍ} . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 13].
وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى: {الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [يونس: 69].
والتلاوة: القراءة. وتقدمت في سورة الأنفال.
والنبأ: الخبر. وتقدم في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام[34].
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران.
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74].
وظرف: {إِذْ} وما أضيف إليه في موضع الحال من {نَبَأَ نُوحٍ} .
وافتتاح خطاب نوح قومه ب {يَا قَوْمِ} إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم، لأن النداء طلب الإقبال. ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازا في طلب الإقبال المجازي، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله.
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخير لهم، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرا. وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.
ومعنى {نْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} شق عليكم وأحرجكم.
والكبر: وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه، ويستعار الكبر لكون
(11/138)
وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه، فقد يكون مدحا كقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، ويكون ذما كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، ويستعار الكبر للمشقة والحرج، كقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] وقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] وكذلك هنا.
والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام. وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمان: 46], وقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً} [مريم: 73] أي خير حالة وشأنا. وهو استعمال من قبيل الكناية، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته، وفيهما مظاهر أحواله.
وخص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه، فعطفه من عطف الخاص على العام. فمعنى: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي} سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله.
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعا مر المذاق من نفوسهم، شديد الإيلام لقلوبهم، لما في منازعة الحق نفوسهم من صولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم، وتشمئز منها نفوسهم، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم. وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله.
والباء في: {بِآياتِ اللَّهِ} لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: تذكيري إياكم.
و {آياتِ اللَّهِ} مفعول ثان للتذكير. يقال: ذكرته أمرا نسيه، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] ، وقول مسور بن زيادة الحارثي:
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله.
وآيات الله: دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا
(11/139)
تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يبرمهم ويحرجهم.
وجملة: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} جواب شرط: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم، وهم في كثرة ومنعة وهو في قلة وضعف، لا يصده عن استمرار الدعوة، وأنه وإن كان بينهم وحيدا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله. ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي لا على غيره.
والتوكل: التعويل على من يدبره أمره. وقد مر عند قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والفاء في {فأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} للتفريع على جملة: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: إن كان كبر عليكم مقامي الخ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت، كما قال هود لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 55, 56].
وإجماع الأمر: العزم على الفعل بعد التردد بين فعله وفعل ضده. وهو مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جمع ما كان متفرقا. فالهمزة فيه للجعل، أي جعل أمره جمعا بعد أن كان متفرقا.
ويقولون: جاؤوا وأمرهم جميع، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف.
والأمر: هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله.
و {وَشُرَكَاءَكُمْ} منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه. والواو بمعنى "مع" أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم.
وقرأ يعقوب {وَشُرَكَاءَكُمْ} مرفوعا عطفا على ضمير {فَأَجْمِعُوا} ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول. والمعنى: وليجمع شركاؤكم أمرهم.
وصيغة الأمر في قوله: {فَأَجْمِعُوا} مستعملة في التسوية، أي أن عزمهم لا يضيره
(11/140)
بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته. وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشا من القوم، وذلك تهكم بهم، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195].
وعطف جملة: {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} ب {ثُمَّ} الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم. وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأن شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباسا عليهم، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك.
والغمة: اسم مصدر للغم. وهو الستر. والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي، وهو انبهام الحال، وعدم تبين السداد فيه، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل:
لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وإظهار لفظ الأمر في قوله: {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} مع أنه عين الذي في قوله: {فأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه.
و"ثم" في قوله: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} للتراخي في الرتبة، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاه أقوى من تدبير ذلك، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه، فعطف ب"ثم" التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل.
و {اقْضُوا} أمر من القضاء، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي. ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم، وهو قريب من الوجه الأول، أي أنفذوا حكمكم.
وعدي ب"إلى" دون "على" لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصا على معنى التنفيذ بالفعل، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو، ويكون بالفعل، فهو قضاء بتنفيذ، ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي.
وقوله: {وَلا تُنْظِرُونِ} تأكيد لمدلول التضمين المشار إليه بحرف "إلى". والإنظار
(11/141)
التأخير، وحذفت ياء المتكلم من {تُنْظِرُونِ} للتخفيف، وهو حذف كثير في فصيح الكلام، وبقاء نون الوقاية مشعر بها.
[72] {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
الفاء لتفريغ الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين، ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مراد به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضا. وإنما قصد إقرارهم به قطعا لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم. والمعنى: فأن توليتم فقد علمتم أني ما سألتكم أجرا فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شحا بأموالكم أو اتهاما بتكذيبي، وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه. وبذلك برأ نفسه من أن يكون سببا لتوليهم، وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوع جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط. وذلك مثل قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} في آخر سورة العقود[116]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في سورة الأعراف[87].
وجملة: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} تعميم لنفي تطلبه أجرا على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} مع زيادة التعميم. وطريق جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه.
وأتى بحرف "على" المفيد لكونه حقا له عند الله بناء على وعد الله إياه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده، فصار بالوعد حقا على الله التزم الله به.
والأجر: العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض.
وجملة: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} معطوفة على جملة الجواب، والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين، أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي. وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال.
(11/142)
وبني فعل {أُمِرْتُ} للمجهول في اللفظ للعلم به، إذ من المعلوم من سياق الكلام أن الذي أمره هو الله تعالى.
وقوله: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام، أي توحيد الله دون عبادة شريك، لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره. كما في قوله تعالى: { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20].
وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاما في مختلف العصور وسمي الله به سنن الرسل فحكاه عن نوح عليه السلام هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وعن إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وعن يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف: 101]، وعن موسى قال: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 8]، وعن سليمان {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [البقرة: 31]، وعن عيسى والحواريين {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]. وقد تقدم بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} في سورة البقرة[128].
وقوله: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من أن أكون مسلما، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} في سورة البقرة، وعند قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في سورة براءة[119].
[73] {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} .
الفاء للتفريع الذكري، أي تفريع ذكر هذه الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة، كقوله تعالى: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ، وإلا فان تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] الخ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته.
ولك أن تجعل معنى فعل: {كَذَّبُوهُ} الاستمرار على تكذيبه مثل فعل {آمَنُوا} في
(11/143)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136]، فتكون الفاء لتفريغ حصول ما بعدها على حصول ما قبلها.
وأما الفاء التي في جملة: {فَنَجَّيْنَاهُ} فهي للترتيب والتعقيب، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومن اتبعه. وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمنا بقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] الآية، فكان كرد العجز على الصدر. ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلة نوح الأخيرة قومه المنتهية بقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] فكان تفننا بديعا في النظم مع إيجاز بهيج.
وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة.
والفلك: السفينة. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} في سورة البقرة[164].
والخلائف: جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]. وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة.
وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق، وأنه التكذيب بآيات الله إنذارا للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار.
والنظر: هنا نظر عين، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد.
والخطاب ب {انْظُرْ} يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم فخص بالخطاب تعظيما لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به.
(11/144)
[74] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تلقوهم بمثل ما تلقى به نوحا قومه أععجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر. وليست "ثم" لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} .
وقد أبهم الرسل في هذه الآية. ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم: هود وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب. وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} [يونس: 75]. وفي الآية إشارة إلى أن نوحا أول الرسل.
والبينات: هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق. والفاء للتعقيب، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم. والباء للملابسة، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات.
وقد قوبل جمع الرسل بجمع "البينات" فكان صادقا ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين، فقد يكون لكل نبي من الأنبياء آيات كثيرة، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة.
والفاء في قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} للتفريع، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا.
وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء. حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه. ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة.
ودل قوله: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أن هنالك تكذيبا بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبر مخبر فقوله: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة. وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما
(11/145)
من شأنه أن يقلعه كان تكذيبا واحدا منسيا. وهذا من بلاغة معاني القرآن.
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.
وقد جعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلا لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} ، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به.
والطبع: الختم. وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم. وتقدم في قوله تعالى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة[7].
والاعتداء: افتعال من عدا عليه، إذا ظلمه، فالمعتدين مرادف الظالمين، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة الأعراف[101] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} 1 فهذا التحالف للتفنن في حكاية هذه العبرة في الموضعين.
[75] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} .
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت انقلابا عظيما وتطورا جديدا في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقلية والتشريعية فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسد في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لجميع ما يحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.
فأما بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمة، ووضع سياسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من
ـــــــ
(1) في المطبوعة (كذلك نطبع على قلوب الكافرين) وهو خطأ.
(11/146)
الأمم، ويمكنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أول مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوقه على جميع ما تقدمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصالح وإزالة الفاسد.
وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إن الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيدا ومعربا عن مقاصد موسى فكان بذلك مأمورا من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فبعث معينا له وناصرا، لأن تلك الرسالة كانت أول رسالة يصحبها تكوين أمة.
وفرعون ملك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف[103]، وعلى صفة إرسال موسى الى فرعون وملئه، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط. والمراد بالملأ خاصة الناس وسادتهم وذلك أن موسى بعث الى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل.
والسين والتاء في {اسْتَكْبَرُوا} للمبالغة في التكبر، والمراد أنهم تكبروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولا من الله وهو من قوم مستعبدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]. وتفريع: {اسْتَكْبَرُوا} على جملة: {بَعَثْنَا} يدل على أن كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبار.
وجملة: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم.
والإجرام: فعل الجرم، وهو الجناية والذنب العظيم.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأعراف[40].
وقد كان الفراعنة طغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم
(11/147)
قرونا فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، وكان القبط يعتقدون أوهاما ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} ، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى.
وعبر ب {قَوْماً مُجْرِمِينَ} دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة.
[76, 77] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى صادق فيما ادعاه، تدرجوا من مجرد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية.
والحق: يطلق اسما على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفا على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال: أنت الصديق الحق. ويلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به. والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازا لهم لقوله قبله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا} [الأعراف: 103] فكان جعل الحق جائيا بتلك الآيات صالحا لمعنيي الحق، لأن تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقا فمجيئها حصولها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائيا معها، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] وبهذا يظهر أن لكلمة: {الحق} هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد، ولكلمة: {مِنْ عِنْدِنَا} ما ليس لغيرهما في الإيجاز، وهذا من حد الإعجاز.
وبهذا تبين أن الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأن المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق.
واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي
(11/148)
قهرته الحجة وبهره سلطان الحق، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محك النقد.
"ولا بد للمغلوب من بارد العذر".
وإذ قد اشتهر بين الدهماء من ذوي الأوهام أن السحر يظهر الشيء في صورة ضده، ادعى هؤلاء أن ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحق بتخييل السحر.
ومعنى إدعاء الحق سحرا أن دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين، وقد حملهم استشعارهم وهن معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبت صاحبه فأكدوا الكلام بما دل عليه حرف التوكيد ولام الابتداء {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ، وزادوا ذلك ترويجا بأن وصفوا السحر بكونه مبينا، أي شديد الوضوح. والمبين اسم فاعل من أبان القاصر، مرادف بان: ظهر.
والإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا} إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء، أي أن هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين.
وجملة: {قَالَ مُوسَى} مجاوبة منه عن كلامهم ففصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال، كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، ونظائره الكثيرة. تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة، ولأن المعجزات ظهرت على يديه.
واستفهام {أَتَقُولُونَ } إنكاري. واللام في {لِلْحَقِّ} لام التعليل. وبعضهم يسميها لام البيان. وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى "عن".
وجملة: {أَسِحْرٌ هَذَا} مستأنفة للتوبيخ والإنكار، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر. والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء. ولذلك كان مفعول {أَتَقُولُونَ} محذوفا لدلالة الكلام عليه وهو {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} فالتقدير: أتقولون هذا القول للحق لما جاءكم. وقريب منه قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ
(11/149)
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران: 183] وقوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81].
ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحرا ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرا لهم، لأنهم كانوا ينوهون بشأن السحر. فجملة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} معطوفة على جملة: {أَسِحْرٌ هَذَا} .
فالمعنى: هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحرا لما شنع حال الساحرين، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها.
[78] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}
الكلام على جملة: {قَالُوا أَجِئْتَنَا} مثل الكلام على جملة: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ} [يونس: 77]
والاستفهام في {أَجِئْتَنَا} بنوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى. وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما.
و {تَلْفِتَنَا} مضارع لفت من باب ضرب متعديا: إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه. والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة. يقال: التفت. وهو هنا مستعمل مجازا في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلا لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة.
وقد جمعت صلة {مَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها.
واختير التعبير ب {وَجَدْنَا} لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشأوا عليها وعقلوها، وذلك مما يكسبهم تعلقا بها، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقا بها تبعا لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته.
وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. وقال عن قوم إبراهيم - عليه السلام -:
(11/150)
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفسادا {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127].
والإتيان بحرف "على" للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها.
وعطف {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ} على الفعل المعلل به، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئها إليهم بما جاءوا به، أي أنهما يحاولان نفعا لأنفسهما لا صلاحا للمدعوين، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة.
والكبرياء: العظمة وإظهار التفوق على الناس.
والأرض: هي المعهودة بينهم، وهي أرض مصر، كقوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110]. ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضرا فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين. وإنما شركوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظا لنفسه.
وجملة: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} عطف على جملة: {أَجِئْتَنَا} . وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين. وتقديم {لَكُمَا} على متعلقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما. فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم.
وصيغت جملة: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده.
[79 - 82] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}
(11/151)
جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} عطف على جملة: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس: 76]، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف "لما" حكي أولا ما تلقى به فرعون وملؤه دعوة موسى ومعجزته من منع أن يكون ما جاء به تأييدا من عند الله. ثم حكي ثانيا ما تلقى به فرعون خاصة تلك الدعوة من محاولة تأييد قولهم: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تحصيل أسبابه من خصائص فرعون، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه.
والمخاطب بقوله: {ائْتُونِي} هم ملأ فرعون وخاصته الذين بيدهم تنفيذ أمره.
وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظمره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجا لدعوة موسى بين دهماء الأمة.
والعموم في قوله: {بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} عموم عرفي، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به، أو أريد: {بِكُلِّ} معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة[45].
وجملة: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} عطف على جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} ، عطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة: {قَالَ فِرْعَوْنُ} بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمثل الشيء المأمور به، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقب قوله: {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ} هو إتيانهم بهم، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله: {جَاءَ السَّحَرَةُ} على طريقة الإيجاز. والتقدير: فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى. والتعريف في: {السَّحَرَةُ} تعريف العهد الذكري.
وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهارا لقوة حجته لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب، والتي يتطلب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خيروا موسى بين أن يبتدئ هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين.
(11/152)
وفعل الأمر في قوله: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} مستعمل في التسوية المراد منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين.
والإلقاء: رمي شيء في اليد إلى الأرض. وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض. وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، وأنها يخيل من سحرهم أنها تسعى، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حيا.
و {مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} قصد به التعميم البدلي، أي شيء تلقونه، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله.
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه "المواقف".
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء، ليكونوا مثلا للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرج بالذكر إلا على مقالة موسى - عليه السلام - حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربه ووعده، وبأن العاقبة للحق. وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام، ولأجل هذا لم يذكر مفعول {أَلْقُوا} لتنزيل فعل {أَلْقُوا} منزلة اللازم، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله.
ومعنى {جِئْتُمْ بِهِ} أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازا في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية. وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلهم قد أقبلوا من مدن عديدة، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو: جاء بكذا، فانه وإن استقام في نحو: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] لا يستقيم في نحو: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} [النور: 11].
(11/153)
ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجعل {مَا جِئْتُمْ بِهِ} مسندا إليه دون أن يجعل مفعولا لفعل {سَيُبْطِلُهُ} ، وبجعله اسما مبهما، ثم تفسيره بجملة {جِئْتُمْ بِهِ} ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر، وهو جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} ثم مجيء ضمير السحر مفعولا لفعل {سَيُبْطِلُهُ} ، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكن في أذهان السامعين فضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم.
وقوله: {السِّحْرُ} قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة "ال"، فتكون "{ما" في قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} اسم موصول، والسحر عطف بيان لاسم الموصول. وقرأه أبو عمرو، وأبو جعفر: {آلسِّحْرُ} بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية، فتكون "ما" في قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ} استفهامية ويكون "آلسحر" استفهاما مبينا ل "ما" الاستفهامية. وهو مستعمل في التحقير. والمعنى: أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون.
و {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} خبر "ما" الموصولة على قراءة الجمهور، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب "إن" زيادة في إلقاء الروع في نفوسهم.
وإبطاله: إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية، وهي مدلول {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} .
فجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} معترضة، وهي تعليل لمضمون جملة: {إن الله سيبطله} ، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح. وتعريف {الْمُفْسِدِينَ} بلام الجنس، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين، وإضافة {عَمَلَ} إلى: {الْمُفْسِدِينَ} يؤذن بأنه عمل فاسد، لأنه فعل من شأنهم الإفساد فيكون نسجا على منوالهم وسيرة على معتادهم، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده. وليس المراد نفي تصييره صالحا، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحا حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح، فإذا نفي الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنها، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.
ولما قدم قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} علم أن المراد من كفي إصلاحه تسليط أسباب
(11/154)
بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي يظهر بطلانه.
وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلا. أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات.
وجملة: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} معطوفة على جملة: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} أي سيبطله ويحق الحق، أي يثبت المعجزة.
والإحقاق: التثبيت. ومنه سمي الحق حقا لأنه الثابت.
وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم. والباء في {كَلِمَاتِهِ} للسببية.
والكلمات: مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه. وهي استعارة رشيقة، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم،وعلى علمه.
وجملة: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} في موضع الحال، و"لو" وصلية، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يظن فيه تخلف حكم ما قبلها، كما تقدم عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} في سورة آل عمران[91]، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه.وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم.
وأراد "بالمجرمين" فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضا بهم. وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول: وإن كرهتم أيها المجرمون عدولا عن مواجهتهم بالذم، وقوفا عند أمر الله تعالى إذ قال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه: 44] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك. وهذا بخلاف مقام النبيء محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال الله له: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم، وموسى - عليه السلام -
(11/155)
كان في ابتداء الدعوة. ولأن المشركين كانوا محاولين من النبيء أن يعبد آلهتهم، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم، وموسى كان محاولا فرعون وملأه أن يؤمنوا، فكان في مقام الترغيب باللين.
[83] {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} .
تفريع على ما تقدم من المحاورة، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازا. والتقدير: تفرع على ذلك تصميم على الإعراض.
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامها ما ألقوه من سحرهم، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة.
وفعل {آمَنَ} أصله أأمن بهمزتين: إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة، والثانية همزة مزيدة للتعدية، أي جعله ذا أمانة، أي غير كاذب فصار فعل {آمَنَ} بمعنى صدق، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين: "آمن" بمعنى صدق من الأمانة وبين "آمن" بمعنى جعله في أمن، أي لا خوف عليه منه.
وهذه اللام سماها ابن مالك لام التبيين وتبعه ابن هشام، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل "آمن" بمعنى صدق دفع أن يلتبس بفعل "آمنه" إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} في سورة الإسراء[90].
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدق كما في قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس: 90].
والذرية: الأبناء وتقدم في قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} في سورة آل عمران[34]. أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذ.
(11/156)
و"على" في قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} بمعنى "مع" مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من "ذرية"، أي في حال خوفهم المتمكن منهم. وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون.
والمعنى: أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار. أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فان عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يقال: الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43] فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر.
و"الملأ" تقدم آنفا في هذه القصة، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذنهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها.
و"الفتن" إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله، وتقدم في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة[191]. فهذا وجه تفسير الآية.
وجملة: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} في موضع الحال فهي عطف على قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد، فبعد أن أثنى عليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم، ومن ملئهم، أي قومهم، وهو خوف شديد، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسة قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفرا منهم، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور، ومن هذه حالته لا يزعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع.
وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام بتحقيق بطش فرعون.
(11/157)
والعلو: مستعار للغلبة والاستبداد، كقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31].
والإسراف: تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل، فهو تجاوز مذموم، وأشهر موارده في الإنفاق، ولم يذكر متعلق الإفراط فتعين أن يكون إسرافا فيما عرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة.
وقوله: {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال: وإنه لمسرف لما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في الأنعام[56].
[84 - 86] {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} [يونس: 79]، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} . والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم، وأمر من عداهم الذين خاف ذريتهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يجبنوا أبناءهم، وأن لا يخشوا فرعون، ولذلك قال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} .
والمعنى: إن كنتم آمنتم بالله حقا كما أظهرته أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له.
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهاب قلوبهم بجعل إيمانهم معلقا بالشرط محتمل الوقوع، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم، وإنما جعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتهم، فلا تغتفر فيها التقية حينئذ. وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال، وعمار، وأبي بكر، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106].
(11/158)
فتقديم المجرور على متعلقه في قوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} لإفادة القصر، وهو قصر إضافي يفسره قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون.
والتوكل: تقدم آنفا في قصة نوح.
وجملة: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} شرط ثان مؤكد لشرط {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام، ومبين أيضا للشرط الأول، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق، فحصل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر.
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط، والإيمان تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي، ولا يعتبر شرعا إلا مع الإسلام، والإسلام: النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعا إلا مع الإيمان، فالإيمان انفعال قلبي نفساني، والإسلام عمل جسماني، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة، وإذ لا يكون القول حقا إلا إذا وافق ما في النفس، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرلت: 14]. وقد ورد ذلك صريحا في حديث سؤال جبريل في "الصحيحين".
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين. ومن ثم كان قوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} جوابا للشرطين كليهما. أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول. هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام.
وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيهم مسرعا بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة، وإلى عقد العزم على التوكل على الله، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى.
وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافا للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير
(11/159)
معطوفة، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة.
ثم ذيلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم من أن يقيهم ضر فرعون، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامة الكفرة ويظنون أن دينهم الحق.
والفتنة: تقدم تفسيرها آنفا. وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر، والكفر فتنة.
والفتنة مصدر. فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة، فتعدية فعل {تَجْعَلْنَا} إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين.
ووصفوا الكفار ب {الظَّالِمِينَ} لأن الشرك ظلم، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم: ظلم أنفسهم، وظلم الخلائق، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين، أي من بطشهم وإضرارهم.
وزيادة {رَحْمَتِكَ} للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم، قال تعالى: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
وذكر لفظ القوم في قوله: {لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقوله: {مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة، وفي هذه السورة غير مرة.
[87] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ} ، ويجوز أن يكون عطف قصة على قصة، أي على مجموع الكلام السابق، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار موسى وقومه.
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومؤازره.
(11/160)
والتبوؤ: اتخاذ مكان يسكنه، وهو تفعل من البوء، أي الرجوع، كأن صاحب المسكن يكلف نفسه الرجوع إلى محل سكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك، وتقدم عند قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} في آل عمران[121]. فمعنى {تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} اجعلا قومكما متبوئين بيوتا.
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون - عليهما السلام - على طريقة المجاز العقلي، إذ كانا سبب تبوؤ قومهما للبيوت. والقرينة قوله: {لِقَوْمِكُمَا} إذ جعل التبوؤ لأجل القوم.
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به. وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن، وقد كانوا ساكنين أرض "جاسان" قرب مدينة "منفيس" قاعدة المملكة يومئذ في جنوب البلاد المصرية، كما بيناه في سورة البقرة، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذ. فقيل: أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها، وربما حمل على هذا التفسير من تأوله وقوع قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عقبه، وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريبا بإذنه. وقيل: البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت. وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضا لإطلاق البيوت، وكونها بمصر.
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في"جاسان" قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أول ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كل ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيدا بعد خروجهم.
وقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها
(11/161)
تجعلونها مفتوحة إلى القبلة. قاله ابن عطية عن ابن عباس.
والقبلة: اسم في العربية لجهة الكعبة. وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها، وهي قبلة إبراهيم، فيكون أمر بني إسرائيل يومئذ جاريا على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة: إما بمعنى متقابلة، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة، أي جهة الكعبة.
وعن ابن عباس: كانت الكعبة قبلة موسى. وعن الحسن: كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء. وهذا التفسير يلائم تركيب {اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه.
وأسند فعل {اجْعَلُوا} إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة.
وأمرهم بإقامة الصلاة، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعا لإبراهيم عليه السلام وأبنائه. والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم.
وعطف جملة: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ
(11/162)
البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وفي قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84, 85].
[88] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة. وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومن معه من أرض مصر. فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى عليه السلام على ربه بأن استجاب له دعاءه، وأنفذ برسالته مراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد.
ومهد موسى لدعائه تمهيدا يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلول العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان.
ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغريا لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحا لهم وتطلبا لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال.
وافتتح الدعاء بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء. ونودي الله بوصف الربوبية تذللا لإظهار العبودية.
وقوله: {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً} توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} . ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه.
(11/163)
فاقتران الخبر بحرف "إن" في قوله: {إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ} الخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار.
وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} . والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة. ونقل ذلك عن نحاة البصرة: الخليل وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما، على نحو اللام في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علة فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره، فالمعنى: إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فضلوا بذلك وأضلوا.
وللمفسرين وجوه خمسة أخرى:
أحدها: أن يكون للتعليل، وأن المعنى: إنك فعلت ذلك استدراجا لهم، ونسب إلى الفراء، وفسر به الطبري.
الثاني: أن الكلام على حذف حرف، والتقدير: لئلا يضلوا عن سبيلك أي فضلوا. حكاه الفخر.
الثالث: أن اللام لام الدعاء. روي هذا عن الحسن. واقتصر عليه في "الكشاف". وقاله ابن الأنباري. وهو أبعد الوجوه وأثقلها.
الرابع: أن يكون على حذف همزة الاستفهام. والتقدير: ليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالا تقريرا للشنعة عليهم، قاله ابن عطية. ويكون الاستفهام مستعملا في التعجب، قاله الفخر.
الخامس: تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك، قاله الفخر. وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها.
والزينة: ما يتزين به الناس، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6].
(11/164)
والأموال: ما به قوام المعاش، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ، وتعظم شأنهم في أنظار قومهم، والأموال يسخرون بها الرعية لطاعتهم، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاهية العيش ما سار ذكره في الآفاق. وظهرت مثل منه في أهرامهم ونواويسهم.
وأعيد النداء بين الجملة المعللة والجملة المعللة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قصد الاعتراض.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب {لِيُضِلُّوا} بفتح الياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بضم الياء على معنى سعيهم في تضليل الناس.
والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلا لغيرهم، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم. وقد علمت آنفا أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس.
وأعيد النداء ثالث مرة لزيادة تأكيد التوجه والتضرع.
وجملة: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} هي المقصود من هذا الكلام، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف.
والطمس: المحو والإزالة. وقد تقدم في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} في سورة النساء. وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء[47]، ويعدى بحرف "على" كما هنا. وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} في سورة يس[66]. ولعل تعديته ب "على" لإرادة تمكن الفعل من المفعول، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها.
وأما قوله: {وَاشْدُدْ} فأحسب أنه مشتق من الشد، وهو العسر. ومنه الشدة للمصيبة والتحرج، ولو أريد غير ذلك لقيل: واطبع، أو واختم، أو نحوهما، فيكون شد بمعنى أدخل الشد أو استعمله مثل جد في كلامه، أي استعمل الجد.
وحرف "على" مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة. والمعنى: أدخل الشدة في قلوبهم.
والقلوب: النفوس والعقول. والمعنى: أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي
(11/165)
تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر. وهذا حرص منه عليه السلام على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك، فعجلوا بالنوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر: 8].
ويجوز أن يكون {اشْدُدْ} من الشد، وهو الهجوم. يقال: شد عليه، إذا هجم، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه، تمثيلا لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يشد على عدوه ليقتله وهو معنى قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي طوعهم لحكمك وسخرهم.
وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء، أي افعل بهم ذلك ليؤمنوا. والفعل منصوب بأن مضمرة إضمارا واجبا بعد فاء السببية.
فقوله: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} في قوة أن يقال: فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قبل ذلك.
وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان، إلى إيراده بصيغة نفي مغيا بغاية هي رؤية العذاب سلوكا لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية، وكل ذلك علاج بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تجد فيهم وسائل الحجة، فقال: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي أن شأنهم ذلك، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيان علة الدعاء عليهم بذلك. وأصل الكلام: فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم.
والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى، فتلك هي مصب الجواب. وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال، ولا يعسر معه المنال، ويجوز أن يكون قوله: {فَلا يُؤْمِنُوا} الخ عطفا على قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وجملة الدعاء بينهما معترضة.
والمعنى: ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم. وهذا تأويل
(11/166)
المبرد والزجاج. والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس.
والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد.
[89] {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أن لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة.
وافتتاح الجملة ب {قَدْ} والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل، فشبه بالمضي.
وأضيفت الدعوة إلى ضمير التثنية المخاطب به موسى وهارون وإن كانت الدعوة إنما حكيت عن موسى عليه السلام وحده لأن موسى عليه السلام دعا لما كان هارون مواطئا له وقائلا بمثله لأن دعوتهما واحدة. وقيل: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون عليه السلام يؤمن.
ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم، ويوالي عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومة دعوة موسى وتنحط غلواؤهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف: 133].
وفرع على إجابة دعوتهما مرهما بالاستقامة، فعلم أن الاستقامة شكر على الكرامة فإن إجابة الله دعوة عبده إحسان للعبد وإكرام وتلك نعمة عظيمة تستحق الشكر عليها وأعظم الشكر طاعة المنعم.
وإذ قد كان موسى وهارون مستقيمين، وناهيك باستقامة النبوءة كان أمرهما بالاستقامة مستعملا في الأمر بالدوام عليها. وأعقب حثهما على الاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الذين لا يعلمون وإن كان ذلك مشمولا للاستقامة تنبيها على توخي السلامة من العدول عن طريق الحق اهتماما بالتحذير من الفساد.
والاستقامة: حقيقتها الاعتدال، وهي ضد الاعوجاج، وهي مستعملة كثيرا في معنى ملازمة الحق والرشد، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء. وقيل للحق:
(11/167)
طريق مستقيم. وقد تقدم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، فكان أمرهما بالاستقامة جامعا لجميع خصال الخير والصلاح.
وفي حديث أبي عمرة الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل: "آمنت بالله ثم استقم" . ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا.
والسبيل: الطريق، وهو هنا مستعمل للسيرة والعمل الغالب.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} قرأه الجمهور بتشديد النون مكسورة. وهما نونان: إحداهما نون المثنى والأخرى نون التوكيد. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} بنون خفيفة مكسورة. وهي نون رفع المثنى لا نون التوكيد، فتعين أن تكون "لا" على هاته القراءة نافية غير ناهية، والجملة في موضع الحال والواو واو الحال، لأن جملة الحال المضارعة المفتتحة بحرف نفي يجوز اقترانها بالواو وعدمه.
[90] {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
معطوفة على جملة: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} عطف الغرض على التمهيد، أي، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر.
وجاوزنا، أي قطعنا بهم البحر، والباء للتعدية، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر. وتقدم نظيره في سورة الأعراف[138]. ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمرون منها.
و {أَتْبَعَهُمْ} بمعنى لحقهم. يقال: تبعه فأتبعه إذا سار خلفه فأدركه. ومنه {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وقيل: أتبع مرادف تبع.
والبغي: الظلم، مصدر بغى. وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في الأعراف[33].
والعدو: مصدر عدا. وهو تجاوز الحد في الظلم، وهو مسوق لتأكيد البغي. وإنما
(11/168)
عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا.
والمعنى: أن فرعون دخل البحر يتقصى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنعهم من السفر، وإنما كان اتباعه إياهم ظلما وعدوانا إذ ليس له فيه شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء، فإن لذي الوطن حقا في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخلع في الجاهلية عقابا، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بالمكان عقابا، ومنه السجن، فليس الخروج من الوطن طوعا بعدوان. فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشد للحاق بهم لردهم كرها كان في ذلك ظالما معتديا، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم.
و {حَتَّى} ابتدائية لوقوع {إِذَا} الفجائية بعدها. وهي غاية للإتباع، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه، كل ذلك لا يفتأ يجد في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده، فغرقوا وهلك فرعون غريقا، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من "إذا"، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذف. والتقدير: حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع، وليست الغاية هي قوله: {آمَنْتُ} وإن كان الأمران متقارنين.
والإدراك: اللحاق وانتهاء السير. وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجيا بهول البحر ومصارعته الموج، وهو يأمل النجاة منه، وأنه لم يظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت، وذلك لتصلبه في الكفر.
وتركيب الجملة إيجاز، لأنها قامت مقام خمس جمل:
جملة تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق.
وجملة تفيد أنه لم يلحقهم.
وهاتان مستفادان من "حتى"، وهاتان منة على بني إسرائيل.
وجملة تفيد أنه غمره الماء فغرق، وهذه مستفادة من قوله: {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} وهي
(11/169)
عقوبة له وكرامة لموسى - عليه السلام -.
وجملة تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان. وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله: {إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} . وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية.
وجملة تفيد أنه ما آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله. وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى.
وقد بني نظم الكلام على جملة: {إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} ، وجعل ما معها كالوسيلة إليها، فجعلت "حتى" لبيان غاية الإتباع وجعلت الغاية أن قال: {آمَنْتُ} لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعا إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه، فكانت غايته إيمانه بحقهم. ولذلك قال: {الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هدوا إليه، فجعل الصلة طريقا لمعرفته بالله، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر، ولذلك احتاج أن يزيد {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لأنه كان يسمع من موسى دعوته لأن يكون مسلما فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف، ولذلك لم يقل: أسلمت، بل قال أنا من المسلمين، أي يلزمني ما التزموه. جاء بإيمانه مجملا لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله.
وسيأتي قريبا في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه.
وقرأ الجمهور: {آمَنْتُ أَنَّهُ} بفتح همزة "أنه" على تقدير باء الجر محذوفة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار "إن" واقعة في أول جملة، وأن جملتها بدل من جملة: {آمَنْتُ} بحذف متعلق فعل {آمَنْتُ} لأن جملة البدل تدل عليه.
[91, 92] {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره: قال الله. وهو جواب لقوله: {آمَنْتُ} لأنه قصد بقوله ذلك طلب الإنجاء من الغرق اعترافا لله بالربوبية، فكأنه وجه
(11/170)
إليه كلاما. فأجابه الله بكلام.
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملك الموكل بتعذيبه تأييسا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال: {آمَنْتُ} [يونس: 90] إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق. ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} كما سيأتي.
والاستفهام في: {الْآنَ} إنكاري. والآن: ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله: {آمَنْتُ} [يونس: 90] تقديره: الآن تؤمن، أي هذا الوقت. ويقدر الفعل مؤخرا، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف.
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي علق به الإنكار ليس وقتا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى: لا إيمان الآن.
والمنفي هو إيمان ينجي من حصل منه في الدنيا والآخرة. وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت. وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18].
و"الآن" اسم ظرف للزمان الحاضر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} في سورة الأنفال[66].
وجملة: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} في موضع الحال من معمول "تؤمن" المحذوف، وهي مؤكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكارا أن صاحبه كان عاصيا لله ومفسدا للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسدا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر.
وصيغة {كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أبلغ في الوصف بالإفساد من وكنت مفسدا، كما تقدم آنفا، وبمقدار ما قدمه من الآثام والفساد يشدد عليه العذاب.
والفاء التي في قوله: {فَالْيَوْمَ} فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق. والمعنى: فإن رمت بإيمانك بعد فوات وقته أن أنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر
(11/171)
استعارة تهكمية.
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكما، والمجرور في قوله: {بِبَدَنِكَ} حال.
والأظهر أن الباء من قوله: {بِبَدَنِكَ} مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله: "بدنك" في معنى البدل المطابق من الكاف في {نُنَجِّيكَ} كزيادة الباء في قول الحريري: "فاذا هو أبو زيد بعينه ومينه".
والبدن: الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق. والمعنى: ننجيك وأنت جسم. كما يقال: دخلت عليه فإذا هو جثة، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد، فإن كل زيادة في الكلام البليغ يقصد منها معنى زائد، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز.
و {لِمَنْ خَلْفَكَ} أي من وراءك. والوراء: هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي، أي من ليسوا معك. والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا. فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يغلب، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود. ولذلك كانوا يموهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده، فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تؤول بشيء من ذلك، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية.
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج، وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله.
(11/172)
وكلمة {فَالْيَوْمَ} مستعملة في الآن لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازا بعلاقة الكلية والجزئية.
وجملة: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} تذييل لموعظة المشركين، والواو اعتراضية، أو واو الحال.
والمراد منه: دفع توهم النقص عن آيات الله عند ما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم.
واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالة علة أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق. وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة.
وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له "مَيْرنْبَتَا" بباء فارسية أو "منفتاح"، أو "منيفتا" وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم "سَيْزُوستريس"، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة 1491قبل المسيح.
قال ابن جريج: كان فرعون هذا قصيرا أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقا في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدفن في وادي الملوك في صعيد مصر. فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبره هناك، وذلك يومئ إلى قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} . ووجود قبر له إن صح بوجه محقق، لا ينافي أن يكون مات غريقا، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة.
وخلفته في ملك مصر ابنته المسماة "طوسير" لأنه تركها وابنا صغيرا.
وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق.
ومن دقائق القرآن قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} وهي عبارة لم يأت فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي. والظاهر أن الأمواج ألقت جثته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقوا بعده بمدينة مصر
(11/173)
لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم.
[93] {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43].
فلما ضرب الله مثل السوء أتبعه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق، ليكون ذلك ترغيبا للمشركين في الإيمان، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة.
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بوأهم مبوأ صدق عقب مجاوزتهم البحر وغرق فرعون وجنوده، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شؤونهم، ورزقوا المن والسلوى، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة.
فما زالوا يتدرجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مبوأ الصدق.
والرزق: من الطيبات.
فمعنى {فَمَا اخْتَلَفُوا} أولئك ولا من خلفهم من أبنائهم وأخلافهم.
والتبوؤ تقدم آنفا، والمبوأ: مكان البوء، أي الرجوع، والمراد المسكن كما تقدم، وإضافته إلى "صدق" من إضافة الموصوف إلى الصفة، ويجوز أن يكون المبوأ مصدرا ميميا. والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]. والمراد بمبوأ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
وتفريع قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} على: {بَوَّأْنَا} وما عطف عليه تفريع ثناء عليهم بأنهم
(11/174)
شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوأهم الله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء، فجعلوا لله شركاء، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم. فوقع في الكلام إيجاز حذف. وتقدير معناه: فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم.
والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد. وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخلف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل "اكتسب" مبالغة في"كسب"، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أن ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوأهم الله مبوأ صدق. وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء. وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله: {جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19].
وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعلموا بما جاؤوهم به، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام -.
فعن ابن عباس: هم اليهود الذين كانوا في زمن النبيء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبي يأتي، فلما جاءهم العلم، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد - عليه الصلاة والسلام -، قال ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع.
ويجوز أن يكون العلم هو القرآن، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، وقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] فإن البينة هي محمد صلى الله عليه وسلم لأن قبل هذا قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة: 1, 2] الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
وهذا المحمل هو المناسب لحرف "حتى" في قوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} .
وتعقيب {فَمَا اخْتَلَفُوا} بالغاية يؤذن بأن ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر، أي فبقوا
(11/175)
في ذلك المبوأ، وفي تلك النعمة، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فان الله سلبهم أوطانهم.
وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تذييل وتوعد، والمقصود منه: أن أولئك قوم مضوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة.
و"بين" ظرف مكان للقضاء المأخوذ من فعل "يقضي" ففعل القضاء كأنه متخلل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل.
وضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى ما يفهم من قوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} من وجود مخالف بكسر اللام ومخالف "بفتحها".
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلا لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم. انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فالمراد من {مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص.
ثم إن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما؛ أولهما أن تبقى الظرفية التي دلت عليها "في" على حقيقتها، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال: دخل في الفتنة، أي في أهلها. ويكون معنى {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار. فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعا لمعذرتهم.
(11/176)
وثانيهما: أن تكون "في" للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة. وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أو كان في ذلك الإلقاء وفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص~.
وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها. وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، ويقتضي أن المخاطب النبيء صلى الله عليه وسلم لمكان قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} .
وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب، لأن قوله: {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يناكد ذلك إلا بتعسف.
وإنما تكون جملة: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} جوابا للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب، كما دلت عليه جملة: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} .
وقرأ الجمهور {فَاسْأَلِ} بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين. وقرأه ابن كثير والكسائي {فسل} بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سأل.
فجملة {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه، كأن السامع يقول: فإذا سألتهم ماذا يكون، فقيل:لقد جاءك الحق من ربك.
ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي
(11/177)
التأكيد، وهما: لام القسم وقد، لدفع إنكار المعرض بهم.
وبذلك كان تفريع: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} تعريضا أيضا بالمشركين بأنهم بحيث يحذر الكون منهم.
والامتراء: الشك فيما لا شبهة للشك فيه. فهو أخص من الشك.
وكذلك عطف {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} وهو أصرح في التعريض بهم: {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [م: 65]. وهذا يقتضي أنهم خاسرون. ونظيره: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وحاصل المعنى: فان كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين.
[96, 97] {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشاكين في صدق صلى الله عليه وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غير قابلة لحقائق الإيمان، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون، تلك أماراتهم. وهذا مسوق مساق التأييس من إيمانهم.
ومعنى "حقت" ثبتت. و"على" للاستعلاء المجازي، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به. والمراد بكلمات الله: أمر التكوين، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة.
وقرأ غير نافع، وابن عامر: {كَلِمَةُ رَبِّكَ} على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة، وهذا الكلام عظة للمشركين. قال غيرهم: وتحذير من أن يكونوا مظهرا لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم.
فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود، والجملة كلها مستأنفة، و"إن" للتوكيد
(11/178)
المقصود به التحقيق، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم.
ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون "إن" لمجرد الاهتمام بالخبر، فتفيد التعليل والربط، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
كما تقدم غير مرة ويكون في الآية تعريض آخر بالمشركين.
و"لو" وصلية للمبالغة، أي لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية فكيف إذا لم تجئهم إلا بعض الآيات.
و"كل" مستعملة في معنى الكثرة، وهو استعمال كثير في القرآن. كما سيأتي عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج[31] وقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} في سورة البقرة[27]، أي ولو جاءتهم آيات كثيرة تشبه في الكثرة استغراق جميع الآيات الممكن وقوعها. وقد تقدم نظير ذلك آنفا.
ورؤية العذاب، كناية عن حلوله بهم.
والمعنى: أنهم لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم الإيمان، لأن نزول العذاب هو ابتداء مجازاتهم على كفرهم، وليس بعد الشروع في المجازاة عفو.
ومن بركة هذا الدين أن الذين كفروا به قد هداهم الله قبل أن ينزل بهم عذابا.
[98] {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فان أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا. والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية.
(11/179)
و"لولا" حرف يرد لمعان منها التوبيخ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط، لأن أهل القرى قد انقضوا، وذلك أن أصل معنى "لولا" التحضيض، وهو طلب الفعل بحث، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [يونسالنور 16]. وإذا توجه الكلام الذي فيه "لولا" إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه، كقوله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43] وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود "كان" الدالة على المضي والانقضاء. والمقصود: التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنن أهل القرى. قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ، ونظير هذه الآية استعمالا ومعنى قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب.
والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس، توقعا لنزول العذاب، وقبل أن ينزل بهم العذاب، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى، وأن ليست لقوم يونس خصوصية، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناءا منقطعا.
وإذ كان الكلام تغليطا لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل، وتعريضا بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتا صريحا ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري: "يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا" أي كل ضر لا ضرا معينا، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} فهذا وجه تفسير الآية. وجرى عليه كلام العكبري في "إعراب القرآن"، والكواشي في "التخليص" وجمهور المفسرين جعلوا جملة: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} في قوة المنفية، وجعلوا الاستثناء منقطعا منصوبا ولا داعي إلى ذلك.
وجملة: {لَمَّا آمَنُوا} مستأنفة لتفصيل مجمل معنى الاستثناء. وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب. وذلك حالهم عندما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعدة، فيكاد يحل بهم عذاب
(11/180)
استئصال لولا أنهم عجلوا بالإيمان يوم الفتح. فقال لهم النبيء صلى الله عليه وسلم: "أنتم الطلقاء" .
وقوم يونس هم أهل قرية نينوى"1" من بلاد العراق. وهم خليط من الآشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر. وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرن الثامن قبل المسيح. وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام.
ولما كذبه أهل نينوى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوما، وخرج من المدينة غاضبا عليهم، فلما خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذبهم. والمذكور أنهم رأوا غيما أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوما من حين توعدهم يونس عليه السلام بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب. وسيجيء ذكر ما حل بيونس عليه السلام في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء.
والكشف: إزالة ما هو ساتر لشيء، وهو هنا مجاز في الرفع. والمراد: تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلا لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع.
والخزي: الإهانة والذل. وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقية للتخصيص، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله. وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجى قوم يونس.
و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفة ل {عَذَابَ الْخِزْيِ} للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد ادخر لها عذاب الآخرة.
والتمتيع: الإمهال.
ـــــــ
(1) بفتح النونين بينهما ياء تحتية ساكنة وبعد النون الثانية واو مفتوحة بعدها ألف, هي إحدى مدن بلاد أشور من العراق كائنة على الضفة اليسرى من الدجلة بناها الملك أشور سنة 2229 قبل الميلاد وكانت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.
(11/181)
وإبهام {حِينٍ} لأنه مختلف باختلاف آجال آحادهم، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا.
ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين:
أحدهما: أن الله علم أن تكذيبهم يونس - عليه السلام- في ابتداء دعوته لم يكن ناشئا عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله، ولكنه كان شكا في صدق يونس - عليه السلام- . ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى - عليه السلام - وإنما حرفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله، فإن في نينوى كثيرا من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الآشوريين كما علمت آنفا، فلما أوعدهم يونس - عليه السلام - بالعذاب بعد أربعين يوما ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوما اهتدوا وآمنوا إيمانا خالصا.
وثانيهما: أن يونس - عليه السلام - لما صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئا من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من توهم أن ما جرى ليونس - عليه السلام - من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها.
وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعوا في قبضة الأسر، ولذلك لم ينج منهم عبد الله بن خطل، لأنه لم يأت مؤمنا قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "إن الحرم لا يعيذ عاصيا" . وقد بينا في آخر سورة غافر[84] عند قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} إلى آخر السورة فانظره.
[99] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
عطف على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 97] لتسلية النبيء صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه. وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبيء صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس. وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها،
(11/182)
وهي جملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ} المفرعة على الجملة الأولى، وهي المقصود من التسلية.
والناس: العرب، أو أهل مكة منهم، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيناه عند قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71].
والتأكيد ب {كُلُّهُمْ} للتنصيص على العموم المستفاد من "من" الموصولة فإنها للعموم، والتأكيد ب {جَمِيعاً} لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي.
والمعنى: لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح.
و"لو" تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها. فالمعنى: لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق.
وجملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} الخ مفرعة على التي قبلها، لأنه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعا.
والاستفهام في {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} إنكاري، فنزل النبيء صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه.
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، فقيل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} دون أن يقال: أفتكره الناس، أو أفأنت مكره الناس، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبيء صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار. وهذا تعريض بالثناء على النبيء ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه، ومن بلغ المجهود حق له العذر.
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيدا للتخصيص، أي القصر، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر، إذ مجرد تنزيل النبيء صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه. فما وقع في "الكشاف" من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه، لأن قرينة التقوي واضحة كما
(11/183)
أشار إليه السكاكي.
والإكراه: الإلجاء والقسر.
[100] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99] لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبيء صلى الله عليه وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان.
والإذن: هنا إذن تكوين وتقدير. فهو خلق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يتبع وما لا ينبغي، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى.
ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابلة {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} فقابل هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون، فبينت آية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 99] أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه. وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول.
والرجس: حقيقته الخبث والفساد. وأطلق هنا على الكفر، لأنه خبث نفساني، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} إلى قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [يونس: 124, 125]. والمعنى: ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون. والمراد نفي العقل المستقيم، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن.
وقرأ الجمهور {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} بياء الغيبة، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله. وقرأه أبو بكر عن عاصم {وَنَجْعَلُ} بنون العظمة.
(11/184)
[101] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}
استئناف ناشئ عن قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} الخ. قسم الناس إلى قسمين: مؤمنين وكافرين، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية، مثل أجرام الكواكب، وتقادير مسيرها، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر، وكذلك البحار والجبال.
وافتتحت الجملة ب {قُلِ} للاهتمام بمضمونها. وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كل نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالا عليه لديها.
والنظر: هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فجيء بعده بالاستفهام المعلق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحا للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن.
و {مَاذَا} بمعنى ما الذي، و"ما" استفهام، و"ذا" أصله اسم إشارة، وهو إذا وقع بعد "ما" قام مقام اسم موصول. و {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قائم مقام صلة الموصول. وأصل وضع التركيب: ما هذا في السماوات والأرض، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض، فكثر استعماله حتى صار في معنى: ما الذي. والمقصود: انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين، نحو: انظروا الشمس طالعة، وانظروا السحاب ممطرا، وهكذا، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو: انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث. ف"ذا" لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته، وأخص ذلك التأمل في خلق النبيء صلى الله عليه وسلم ونشأة دعوته، والنظر فيما جاء به. فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه.
وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان، فالتقدير: انظروا تروا آيات موصلة إلى الإيمان.
(11/185)
وجملة: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ} معترضة ذيلت بها جملة: {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى. والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن، ولما كان قوله: {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مفيدا أن ذلك آيات كما تقدم حسن وقع التعبير عنها بالآيات هنا، فمعنى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ} : وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار. وزيدت "النذر" فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها، وذلك أن القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات.
ولفظ {قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم، لأن اجتلاب لفظ {قَوْمٍ} هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم، بخلاف ما لو قيل: عمن لا يؤمنون. ألا ترى إلى قول العنبري:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
... طاروا إليه زرافات ووحدانا
أي قوم هذه سجيتهم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفا. وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار. وهذا من بدائع الإعجاز هنا.
[102, 103] {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}
تفريع على جملة {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ} [يونس: 101] باعتبار ما اشتملت عليه من ذكر النذر. فهي خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أي يتفرع على انتفاء بالآيات والنذر وعلى إصرارهم أن يسأل عنهم: ماذا ينتظرون، ويجاب بأنهم ما ينتظرون إلا مثل ما حل بمن قبلهم ممن سيقت قصصهم في الآيات الماضية، ووقع الاستفهام ب {هَلْ}
(11/186)
لإفادتها تحقيق السؤال وهو باعتبار تحقيق المسؤول عنه وأنه جدير بالجواب بالتحقيق.
والاستفهام مجاز تهكمي إنكاري، نزلوا منزلة من ينتظرون شيئا يأتيهم ليؤمنوا، وليس ثمة شيء يصلح لأن ينتظروه إلا أن ينتظروا حلول مثل أيام الذين خلوا من قبلهم التي هلكوا فيها. وضمن الاستفهام معنى النفي بقرينة الاستثناء المفرغ. والتقدير: فهل ينتظرون شيئا ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم.وأطلقت الأيام على ما يقع فيها من الأحداث العظيمة. ومن هذا إطلاق: "أيام العرب" على الوقائع الواقعة فيها.
وجملة: {قُلْ فَانْتَظِرُوا} مفرعة على جملة: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} . وفصل بين المفرع والمفرع عليه ب {قُلْ} لزيادة الاهتمام. ولينتقل من مخاطبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وبذلك يصير التفريع بين كلامين مختلفي القائل شبيها بعطف التلقين الذي في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. على أن الاختلاف بين كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي والتبليغ اختلاف ضعيف لأنهما آئلان إلى كلام واحد. وهذا موقع غريب لفاء التفريع.
وبهذا النسج حصل إيجاز بديع لأنه بالتفريع اعتبر ناشئا عن كلام الله تعالى فكأن الله بلغه النبيء صلى الله عليه وسلم ثم أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه قومه فليس له إلا التبليغ، وهو يتضمن وعد الله نبيه بأنه يرى ما ينتظرهم من العذاب، فهو وعيد وهو يتضمن النصر عليهم. وسيصرح بذلك في قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} .
وجملة: {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} استئناف بياني ناشئ عن جملة: {انْتَظِرُوا} لأنها تثير سؤال سائل يقول: ها نحن أولاء ننتظر وأنت ماذا تفعل. وهذا مستعمل كناية عن ترقبه النصر إذ لا يظن به أنه ينتظر سوءا فتعين أنه ينتظر من ذلك ضد ما يحصل لهم، فالمعية في أصل الانتظار لا في الحاصل بالانتظار.و"مع" حال مؤكدة. و {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} خبر "إن" ومفاده مفاد "مع" إذ ما صدق المنتظرين هم المخاطبون المنتظرون.
و {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} عطف على جملة: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} لأن مثل تلك الأيام يوم عذاب. ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله.
وجملة: {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} تذييل. والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى
(11/187)
الإنجاء المستفاد من {ثُمَّ نُنَجِّي} .
و {حَقّاً عَلَيْنَا} جملة معترضة لأن المصدر يدل من الفعل، أي حق ذلك علينا حقا.
وجعله الله حقا عليه تحقيقا للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه.
وقرأ الجمهور {نُنَجّي المؤمنين} بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان {نُنَجِّي رُسُلَنَا} . وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم {نُنْجي المؤمنين} بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء. فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن، والمعنى واحد.
وكتب في المصحف: {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها لالتقاء الساكنين.
[104] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
هذه الجملة متصلة المعنى بجملة {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، إذ المقصود من النظر المأمور به هنالك النظر للاستدلال على إثبات الوحدانية، فإن جحودهم إياها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين. والمراد بـ"الناس" في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة، أو جميع أمة الدعوة الذين لما يستجيبوا للدعوة.
و"في" من قوله: {فِي شَكٍّ} للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيها لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة.
وعلق الظرف بذات الدين، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعنى حالة حقيته.
و"من" في قوله: {مِنْ دِينِي} للابتداء المجازي، أي شك آت من ديني. وهو ابتداء يؤول إلى معنى السببية، أي أن كنتم شاكين شكا سببه ديني، أي يتعلق بحقيته، لأن الشك يحمل في كل مقام على ما يناسبه، كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} . وقد تقدم آنفا. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23].
(11/188)
والشك في الدين هو الشك في كونه حقا، وكونه من عند الله. وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لما شكوا في حقيته.
وجملة: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى. فتقدير الجواب: فأنا على يقين من فساد دينكم، فلا أتبعه، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله.
ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام. فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده، فيكون في معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1, 2] ثم قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فيتأتى في هذه الآية غرضان. فيكون المراد بالناس في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جميع أمة الدعوة الذين لم يسلموا.
والذين يعبدونهم الأصنام. وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير. ونظير هذا في القرآن كثير.
واختيار صلة التوفي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تحيي وتميت. واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم معرضون للموت فيقصرون من طغيانهم.
والجمع بين نفي أن يعبد الأصنام وبين إثبات أنه يعبد الله يقوم مقام صيغة القصر لو قال: فلا أعبد إلا الله، فوجه العدول عن صيغة القصر: أن شأنها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالظرف المثبت لأنه المقصود. وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أولا عدل عن صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات. فهو إطناب اقتضاه المقام، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
(11/189)
{وَأُمِرْتُ} عطف على جملة: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
و {أَنْ أَكُونَ} متعلق ب {وَأُمِرْتُ} بحذف حرف الجر. وهو الباء التي هي لتعدية فعل "أمرت"، و"أن" مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية.
وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق. وفي جعل النبيء صلى الله عليه وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به.
[105] {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}
موقع هذه الجملة معضل لأن الواو عاطفة لا محالة، ووقعت بعدها "أن". فالأظهر أن تكون "أن" مصدرية، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة: {أن} أن تكون جملة خبرية. قال في "الكشاف": قد سوغ سيبويه أن توصل "أن" بالأمر والنهي، لأن الغرض وصل "أن" بما تكون معه في معنى المصدر، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال ا ه. يشير إلى ما في كتاب سيبويه "باب تكون: "أن" فيه بمنزلة: "أي"". فالمعنى: وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفا، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد.
وقيل الواو عطفت فعلا مقدرا يدل عليه فعل "أمرت". والتقدير: وأوحي إلي، وتكون "أن" مفسرة للفعل المقدر، لأنه فيه معنى القول دون حروفه.
وعندي: أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضى بلاغي، فلا بد من أن يكون لصيغة {أَقِمْ وَجْهَكَ} خصوصية في هذا المقام، فلنعرض عما وقع في "الكشاف" وعن جعل الآية مثالا لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعا في استعمالها بأن استعملت نائبة مناب الفعل الذي عطفت عليه، أي فعل {أُمِرْتُ} [يونس: 104] دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره. والتقدير: أمرت أن أقم وجهك فتكون "أن" تفسيرا لما في الواو من تقدير لفظ فعل "أمرت" لقصد حكاية اللفظ الذي أمره به بلفظه، وليتأتى عطف: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عليه. وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
(11/190)
أَنْزَلَ اللَّهُ} في سورة العقود [49]، وهو هنا أوعب.
والإقامة: جعل الشيء قائما. وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر. واللام للعلة، أي لأجل الدين، فيصير المعنى: محض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكا في توجهك. وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها. وقريب منه قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران [20].
و {حَنِيفاً} حال من {الدين} وهو دين التوحيد، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم حنيفا} في سورة البقرة [135].
{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحا بمعنى: {حَنِيفاً} . وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرؤ من الشرك.
وقد تقدم غير مرة أن قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونحوه أبلغ في الاتصاف من نحو: لا تكن مشركا، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك.
[106] {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}
عطف على: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105]. ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله: {مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} يومئ إلى وجه النهي عن دعائك، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} اعتراض بين فعل {تَدْعُ} ومفعوله، وهو إدماج للحث على دعائه الله.
وتفريع {فَإِنْ فَعَلْتَ} على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه.
(11/191)
وأكد الكون من الظالمين على ذلك التقدير ب"إنّ" لزيادة التحذير، وأتي ب"إذن" للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلا سأل: فإن فعلت فماذا يكون?.
وفي قوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} من تأكيد مثل ما تقدم في قوله: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105] ونظائره.
والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين، على حد قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
[107] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
عطف على جملة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله، فلما أبطلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل، عقبت جملة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة.
ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة، وبصيغتي العموم في قوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وفي قوله: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة، كما صرح به في قوله تعالى في سورة الزمر [38]: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} .
وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر. فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود.
والمس: حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه، وقد يطلق على الإصابة مجازا مرسلا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ}
(11/192)
في آخر سورة الأعراف [201].
والإرادة بالخير: تقديره والقصد إليه. ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئا فعله، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائنا من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله، فإن التعرض حينئذ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع، وأما آية سورة الأنعام[17] فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند.
والفضل: هو الخير، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء.
وتنكير "ضر" و"خير" للنوعية الصالحة للقلة والكثرة.
وكل من جملة؛ {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} وجملة: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} جواب للشرط المذكور معها، وليس الجواب بمحذوف.
وجملة: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له، فلذلك فصلت عنها.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير، فيكون امتنانا وحثا على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير، أو يعود إلى ما تقدم من الضر، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفا وتبشيرا وتحذيرا وترغيبا.
وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان.
والإصابة: اتصال شيء بآخر ووروده عليه، وهي في معنى المس المتقدم، فقوله: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} هو في معنى قوله في سورة الأنعام[17] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
والتذييل بجملة {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله
(11/193)
ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم.
ولولا غفرانه لما كانوا أهلا لإصابة الخير، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: "إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" .
ويشير أيضا إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] ، وأنه لولا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة.
[108] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}
استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاما جامعا وموادعة قاطعة.
وافتتاحها ب{قُلْ} للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي.
وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر، والمقصود منه ابتداء المشركون، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم. وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفا لهم.
وأكد الخبر بحرف {قَدْ} تسجيلا عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقا لكونه حقا.
والحق: هو الدين الذي جاء به القرآن، ووصفه ب {مِنْ رَبِّكُمْ} للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب، فهو معصوم من ذلك.
واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير {النَّاسُ} على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يرب، أي يسوس ويدبر.
وتفريع جملة: {فَمَنِ اهْتَدَى} على جملة: {قَدْ جَاءَكُمُ} للإشارة إلى أن مجيء
(11/194)
الحق الواضح يترتب عليه أن إتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه، ورتب عليها تبعة الإعراض.
واللام في قوله: {لِنَفْسِهِ} دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه.
ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} وفي {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} للرد على المشركين إذ كانوا يتمطون في الاقتراح فيقولون: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبيء صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيدا أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله: {لِنَفْسِهِ} أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي. وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي.
وجملة: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} معطوفة على جملة: {فَمَنِ اهْتَدَى} فهي داخلة في حيز التفريع، وإتمام للمفرع، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبيء صلى الله عليه وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطوا ويشترطوا، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضرهم.
والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال.
ومعنى الوكيل: الموكول إليه تحصيل الأمر. و {عَلَيْكُمْ} بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام.
[109] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}
عطف على {قُلْ} أي بلغ الناس ذلك القول: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} ، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك. و {اصْبِرْ} أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر.
ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلا على قرينة السياق، أي حتى
(11/195)
حكم الله بينك وبينهم.
وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} ثناء وتذييل لما فيه من العموم، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها، فالتعريف في {الْحَاكِمِينَ} للاستغراق بقرينة التذييل.
و {خَيْرُ} تفضيل، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفاء الإنصاف في إعطاء الحقوق. وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدى عليه، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا. وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع.
(11/196)
سورة الهود
...
بسم الله الرحمن الرحيم
11- سورة هود
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبيء صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال: "طيا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت" . رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله: {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب {ألر} .
وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وقتادة إلا آية واحدة وهي {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى قوله: {لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. وقال ابن عطية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12]، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قيل نزلت في عبد الله بن سلام، وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] الآية. قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة
(11/197)
يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا.
وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون.
وأغراضها: ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.
وباتلائها بالتنويه بالقرآن.
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.
وإثبات الحشر.
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.
وخلق العوالم بعد أن لم تكن.
وأن مرجع الناس إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12].
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونها.
(11/198)
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.
ثم عرض باستئناس النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة.
[1] {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
{الر}
تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
القول في الافتتاح بقوله: {كِتَابٌ} وتنكيره مماثل لما في قوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة الأعراف[2].
والمعنى أن القرآن كتاب من عند الله فلماذا يعجب المشركون من ذلك ويكذبون به. ف"كتاب" مبتدأ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية.
و {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} خبر و {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} صفة ل"كِتَابٌ"، ولك أن تجعل {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} صفة مخصصة، وهي مسوغ الابتداء. ولك أن تجعل "أُحْكِمَتْ" هو الخبر. وتجعل {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ظرفا لغوا متعلقا ب {أُحْكِمَتْ} و {فُصِّلَتْ} .
والإحكام: إتقان الصنع، مشتق من الحكمة بكسر الحاء وسكون الكاف. وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ. وتقدم عند قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} في أول سورة آل عمران [7]. وبهذا المعنى تنبي المقابلة
(11/199)
بقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} .
وآيات القرآن: الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل. وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في أوائل سورة البقرة [39] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
والتفصيل: التوضيح والبيان. وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام [55].
ونظيره: الفرق، كنى به عن البيان فسمي القرآن فرقانا. وعن الفصل فسمي يوم بدر يوم الفرقان، ومنه في ذكر ليلة القدر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
و"ثم" للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح.
و {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته، وإيضاح التبيين لقوة علمه. والخبير: العالم بخفايا الأشياء، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز، فالحكيم مقابل ل {أُحْكِمَتْ} ، والخبير مقابل ل {فُصِّلَتْ} . وهما وإن كانا متعلق العلم ومتعلق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم، إلا أنه روعي في المقابلة الفعل الذي هو أثر إحدى الصفتين أشد تبادرا فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة.
[2] {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}
"أن" تفسيرية لما في معنى {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] من الدلالة على أقوال محكمة ومفصلة فكأنه قيل: أوحي إليك في هذا الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله، فهذه الجملة تفسيرية لما أحكم من الآيات لأن النهي عن عبادة غير الله وإيجاب عبادة الله هو أصل الدين، وإليه مرجع جميع الصفات التي ثبتت لله تعالى بالدليل، وهو الذي يتفرع عنه جميع التفاصيل، ولذلك تكرر الأمر بالتوحيد والاستدلال عليه في القرآن، وأن أول آية نزلت كان فيها الأمر بملابسة اسم الله لأول قراءة القرآن في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].
(11/200)
والخطاب في {أَلَّا تَعْبُدُوا} وضمائر الخطاب التي بعده موجهة إلى الذين لم يؤمنوا وهم كل من يسمع هذا الكلام المأمور بإبلاغه إليهم.
وجملة: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} معترضة بين جملة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1] وجملة {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] الآية، وهو اعتراض للتحذير من مخالفة الني والتحريض على امتثاله.
ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعار بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسبا لما وقع بعده وناشئا منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع، ونذير لمن أعرض وعصى، وذلك أيضا جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية،وهذا عين الإحكام.
و"من" في قوله: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} ابتدائية، أي أني نذير وبشير لكم جائيا من عند الله.
والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني.
[3] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
عطف على جملة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2] وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى، ودلائل على ذلك وأمثال ونذر، فالمقصود: تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها.
والاستغفار: طلب المغفرة، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى، وذلك الندم.
(11/201)
والتوبة: الإقلاع عن عمل ذنب، والعزم على أن لا يعود إليه.
و"ثم" للترتيب الرتبي، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة، فأن تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة.
والمتاع: اسم مصدر التمتيع لما يتمتع به، أي ينتفع. ويطلق على منافع الدنيا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
والحسن: تقييد لنوع المتاع بأنه الحسن في نوعه، أي خالصا من المكدرات طويلا بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . والمراد بالمتاع: الإبقاء، أي الحياة، والمعنى أنه لا يستأصلهم. ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة.
و {إِلَى أَجَلٍ} متعلق ب {يُمَتِّعْكُمْ} وهو غاية للتمتيع، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية، فعلم أنه متاع الدنيا. والمقصود بالأجل: أجل كل واحد وهو نهاية حياته، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة.
وجملة: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} عطف على جملة: {يُمَتِّعْكُمْ} . والإيتاء: الإعطاء، وذلك يدل على أنه من المتاع الحسن، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة. والفضل: إعطاء الخير. سمي فضلا لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير.
والفضل الأول: العمل الصالح، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس.
والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا. والمعنى: ويؤت الله فضله كل ذي فضل في عمله.
ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المجزي عليه، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير. وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله، وهو سر بين العبد وربه. ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيان، قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
(11/202)
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
عطف على: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فهو من تمام ما جاء تفسيرا ل {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس.
وتولوا: أصله تتولوا، حذفت إحدى التائين تخفيفا.
وتأكيد حملة الجزاء ب {إِنْ} وبكون المسند إليه فيها اسما مخبرا عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب.
وتنكير {يَوْمٍ} للتهويل، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوما في الدنيا أو في الآخرة، لأنهم كانوا ينكرون الحشر، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوقع في نفوسهم. وبذلك يكون تنكير: {يَوْمٍ} صالحا لإيقاعه مقابلا للجزاءين في قوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ، فيقدر السامع: إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين.
ووصفه بالكبير لزيادة تهويله، والمراد بالكبر الكبر المعنوي، وهو شدة ما يقع فيه، أعني العذاب، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي.
[4] {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
جملة في موضع التعليل للخوف عليهم، فلذلك فصلت. والمعنى: أنكم صائرون إلى الله، أي إلى قدرته غير منفلتين منه فهو مجازيكم على توليكم عن أمره.
فالمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وهو مستعمل كناية عن لازمه العرفي وهو عدم الانفلات وإن طال الزمن، وذلك شامل للرجوع بعد الموت. وليس المراد إياه خاصة لأن قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنسب بالمصير الدنيوي لأنه المسلم عندهم، وأما المصير الأخروي فلو اعترفوا به لما كان هنالك قوي مقتض لزيادة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتقوي، وليس المراد منه الحصر إذ هم لا يحسبون أنهم مرجعون بعد الموت بله أن يرجعوا إلى غيره.
وجملة: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على جملة: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} ، أي
(11/203)
فما ظنكم برجوعكم إلى القادر على كل شيء وقد عصيتم أمره أليس يعذبكم عذابا كبيرا.
[5] {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
حول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبيء - عليه الصلاة والسلام - بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهم من أوهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى، فكان قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} إلخ تمهيدا لقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، جمعا بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله. وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفا بتمام القدرة على كل شيء هو أيضا موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم.
وافتتاح الكلام بحرف التنبيه {أَلا} للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى.
وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ إليهم في قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2] وليس بالتفات. وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} [هود: 4].
والثني: الطي، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين. يقال: ثناه بالتخفيف، إذا جعله ثانيا، يقال: هذا واحد فاثنه، أي كن ثانيا له، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانيا للذي قبله؛ فثني الصدور: إمالتها وحنيها تشبيها بالطي. ومعنى ذلك الطأطأة.
وهذا الكلام يحتمل الإجراء على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور. ويحتمل أن يكون تمثيلا لهيئة نفسية بهيئة حسية.
فعلى الاحتمال الأول يكون ذلك تعجيبا من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه
(11/204)
ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي? وذلك من جهلهم بعظمة الله.
ففي "البخاري" عن ابن مسعود: اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول? قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22, 23].
وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم، والأقيسة الفاسدة، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم، وقياس الغائب على المشاهد. وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لولا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع.
وعلى الاحتمال الثاني فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به. وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذ بمصانعين للنبي صلى الله عليه وسلم. وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية. وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين. وفي "أسباب النزول" للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان رجلا حلو المنطق، وكان يظهر المودة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو منطو على عداوته، أي عداوة الدين، فضرب الله ثني الصدور مثلا لإضماره بغض النبيء صلى الله عليه وسلم. فهو تمثيل وليس بحقيقة. وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] قيل فإنه هو الأخنس بن شريق.
ووقع في "صحيح البخاري" أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال: كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية. وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها. واعلم أن شأن
(11/205)
دعوة الحق أن لا تذهب باطلا حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها، فإنها تلفت عقولهم إلى فرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها، وكل ذلك يثير حقيقتها ويشيع دراستها. وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها. وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرت حين تقاضاه أجر سيف صنعه فقال له: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد. فقال خباب: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك. فقال العاصي له: إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه. فنزل فيهة قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال.
والاستخفاء: الاختفاء، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر.
وجملة: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} الخ يجوز أن تكون إتماما لجملة {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} متصلة بها فيكون حرف {أَلا} الثاني تأكيدا لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر، فيتعلق ظرف "حين" بفعل {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ويتنازعه مع فعل {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب.
والاستغشاء: التغشي بما يغشي، أي يستر، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] ، ومثل استجاب.
وزيادة {وَمَا يُعْلِنُونَ} تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر.
وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} نتيجة وتعليل للجملة قبله، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأولى.
فذات الصدور صفة لمحذوف يعلم من السياق من قوله: {عَلِيمٌ} أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور.
وكلمة "ذات" مؤنث "ذو" يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} في سورة الأنفال [1].
(11/206)
والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواس الباطنية بالصدر.
واختيار مثال للمبالغة وهو {عَلِيمٌ} لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود.
وذات الصدور: الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها. فأضيفت إليها.
[6] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
عطف على جملة: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5]. والتقدير: وما من دابة إلا يعلم مستقرها ومستودعها، وإنما نظم الكلام على هذا الأسلوب تفننا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب {من} ، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة، فلأجل ذلك آخر الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالا على أنه عليم بأحوالها، فإن كونه رازقا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلا على علمه بما تحتاجه.
والدابة في اللغة اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} تأكيد لمعنى {دَابَّةٍ} في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته.
والرزق: الطعام، وتقدم في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول علي بذكر رزقها الذي هو من أحوالها.
وتقديم {عَلَى اللَّهِ} قبل متعلقة وهو: {رِزْقُهَا} لإفادة القصر، أي على الله لا على غيره، ولإفادة تركيب {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} معنى أن الله تكفل برزقها ولم يهمله، لأن "على" تدل على اللزوم والمحقوقية، ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا، فما أفاد معنى اللزوم فإنما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} [الأنبياء: 104] وقوله: {حَقّاً عَلَيْنَا} [يونس: 103].
(11/207)
والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها، أي رزقها على الله لا على غيره، فالمستثنى هو الكون على الله والمستثنى منه مطلق الكون مما يتخيل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومقدره.
وجملة: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى، أي والله يعلم مستقر كل دابة ومستودعها. فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيز الحصر.
والمستقر: محل استقرارها. والمستودع: محل الإيداع، والإيداع: الوضع والدخر. والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} في سورة الأنعام [98].
وتنوين {كُلٌّ} تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار، أي كل رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين، أي كتابة، فالكتاب هنا مصدر كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]. وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانا ولا تخلفا. كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل. قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينق ... ض ما في المهارق الأهواء
والمبين: اسم فاعل أبان بمعنى أظهر، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير. وليس المراد أنه موضح لمن يطالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد.
[7] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
عطف على جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. والمناسبة أن خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع،
(11/208)
فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته، وقد تقدم القول في نظيرها في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف [54].
وجملة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يجوز أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا بين فعل "خَلَقَ" ولام التعليل. وأما كونها معطوفة على جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] المسوقة مساق الدليل على سعة علم الله وقدرته فغير رشيق لأن مضمون هذه الجملة ليس محسوسا ولا متقررا لدى المشركين إذ هو من المغيبات وبعضه طرأ عليه تغيير بخلق السماوات فلا يحسن جعله حجة على المشركين لإثبات سعة علم الله وقدرته المأخوذ من جملة: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [هود: 6] الخ. والمعنى أن العرش كان مخلوقا قبل السماوات وكان محيطا بالماء أو حاويا للماء. وحمل العرش على أنه ذات مخلوقه فوق السماوات هو ظاهر الآية. وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السماوات والأرض. وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به إذ التعبير عنه تقريب.
ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلا بعرش السلطان، أي كان ملك الله قبل خلق السماوات والأرض ملكا على الماء.
وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلق ب {خَلَقَ} واللام للتعليل. والبلو: الابتلاء، أي اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله، وهو مستعمل كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات، لأن حقيقة البلو مستحيلة على الله لأنه العليم بكل شيء، فلا يحتاج إلى اختباره على نحو قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في سورة البقرة [143].
وجعل البلو علة لخلق السماوات والأرض لكونه من حكمة خلق الأرض باعتبار كون الأرض من مجموع هذا الخلق، ثم إن خلق الأرض يستتبع خلق ما جعلت الأرض عامرة به، واختلاف أعمال المخاطبين من جملة الأحوال التي اقتضاها الخلق فكانت من حكمة خلق السماوات والأرض، وكان التعليل هنا بمراتب كثيرة، وعلة العلة علة.
و {أَيُّكُمْ} : اسم استفهام، فهو مبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر سادة مسد الحال اللازم ذكرها بعد ضمير الخطاب في {يَبْلُوَكُمْ} ، نظرا إلى أن الابتلاء لا يتعلق بالذوات، فتعدية فعل "يبلو" إلى ضمير الذوات ليس فيه تمام الفائدة فكان محتاجا إلى ذكر حال تقيد متعلق الابتلاء، وهذا ضرب من التعليق وليس عينه.
(11/209)
وفي الآية إشارة إلى أن من حكمة خلق الأرض صدور الأعمال الفاضلة من شرف المخلوقات فيها. ثم إن ذلك يقتضي الجزاء على الأعمال إكمالا لمقتضى الحكمة ولذلك أعقبت بقوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} الخ.
{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
يظهر أن الواو واو الحال والجملة حال من فاعل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} باعتبار ما تعلق بالفعل من قوله في {سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} ، والتقدير: فعل ذلك الخلق العجيب والحال أنهم ينكرون ما هو دون ذلك وهو إعادة خلق الناس. ويجهلون أنه لولا الجزاء لكان هذا الخلق عبثا كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38]. فإن حمل الخبر في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على ظاهر الإخبار كانت الحال مقدرة من فاعل {خَلَقَ} أي خلق ذلك مقدرا أنكم تنكرون عظيم قدرته، وإن حمل الخبر على أنه مستعمل في التنبيه والاعتبار بقدرة الله كانت الحال مقارنة.
ووجه جعلها جملة شرطية إفادة تجدد التكذيب عند كل إخبار بالبعث، واللام موطئة للقسم، وجواب القسم {لَيَقُولَنَّ} الخ، فاللام فيه لام جواب القسم. وجواب "إن" محذوف أغنى عنه جواب القسم كما هو الشأن عند اجتماع شرط وقسم أن يحذف جواب المتأخر منهما.
وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وما يتبعه من نون التوكيد لتنزيل السامع منزلة المتردد في صدور هذا القول منهم لغرابة صدوره من العاقل، فيكون التأكيد القوي والتنزيل مستعملا في لازم معناه وهو التعجيب من حال الذين كفروا أن يحيلوا إعادة الخلق وقد شاهدوا آثار بدء الخلق وهو أعظم وأبدع.
وقرأ الجمهور {إِلَّا سِحْرٌ} على أن {هَذَا} إشارة إلى المدلول عليه ب"قلت"، ومعنى الإخبار عن القول بأنه سحر أنهم يزعمون أنه كلام من قبيل الأقوال التي يقولها السحرة لخصائص تؤثر في النفوس.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف {إِلَّا سَاحِرٌ} فالإشارة بقوله: {هَذَا} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من ضمير {قُلْتَ} أي أنه يقول كلاما يسحرنا بذلك.
(11/210)
ووجه جعلهم هذا القول سحرا أن في معتقداتهم وخرافاتهم أن من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانية، والمعنى أنهم يكذبون بالبعث كلما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به.
و {مُبِينٌ} اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بان المجرد، أي بين واضح أنه سحر أو أنه ساحر.
[8] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}
مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فن من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية، فإذا خبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأن شركهم سبب لتعذيبهم جعلوا كلامه سحرا، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه، فإذا تأخر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربانية استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تهكم ظنا أن تأخره عجز.
واللام موطئة للقسم. وجملة {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} جواب القسم مغنية عن جواب الشرط.
والأمة: حقيقتها الجماعة الكثيرة من الناس الذين أمرهم واحد، وتطلق على المدة كأنهم راعوا أنها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة، أي بعد مدة.
و {مَعْدُودَةٍ} معناه مقدرة، أي مؤجلة. وفيه إيماء إلى أنها ليست مديدة لأنه شاع في كلام العرب إطلاق العد والحساب ونحوهما على التقليل، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد، ولذلك يقولون في عكسه: بغير حساب، مثل {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
والحبس: إلزام الشيء مكانا لا يتجاوزه. ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم.
{أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة. وهذا تهديد وتخويف بأنه لا يصرف عنهم ولكنه
(11/211)
مؤخر.
وافتتح الكلام بحرف التنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم.
وتقديم الظرف للإيماء بأن إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقت بوقت.
والصرف: الدفع والإقصاء.
والحوق: الإحاطة.
والمعنى أنه حال بهم حلولا لا مخلص منه بحال.
وجملة {وَحَاقَ بِهِمْ} في موضع الحال أو معطوفة على خبر: {لَيْسَ} .
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق، وهذا عذاب القتل يوم بدر.
وما صدق {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو العذاب، وباء: {بِهِ} سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سببا لاستهزائهم حين توعدهم به النبيء صلى الله عليه وسلم.
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من سباب غضب الله عليهم. وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصا.
[9] {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ}
عطف على جملة: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]. فإنه لما ذكر أن ما هم فيه متاع إلى أجل معلوم عند الله. وأنهم بطروا نعمة التمتيع فسخروا بتأخير العذاب، بينت هذه الآية أن أهل الضلالة راسخون في ذلك لأنهم لا يفكرون في غير اللذات الدنيوية فتجري انفعالاتهم على حسب ذلك دون رجاء لتغير الحال، ولا يتفكرون في أسباب النعيم والبؤس وتصرفات خالق الناس ومقدر أحوالهم، ولا يتعظون بتقلبات أحوال الأمم، فشأن أهل الضلالة أنهم إن حلت بهم الضراء بعد النعمة ملكهم اليأس من الخير ونسوا النعمة فجحدوها وكفروا منعمها، فإن تأخير العذاب رحمة وإتيان العذاب نزع لتلك الرحمة، وهذه الجملة في قوة التذييل. فتعريف "الإنسان" تعريف الجنس مراد به الاستغراق، وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل. فمعيار العموم الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] كما يأتي، فيكون الاستغراق عرفيا جاريا
(11/212)
على اصطلاح القرآن من إطلاق لفظ الإنسان أو الناس، ولأن وصفي {يَؤُوسٌ كَفُورٌ} يناسبان المشركين فيتخصص العام بهم.
وقيل التعريف في {الْأِنْسَانَ} للعهد مراد منه إنسان خاص، فروى الواحدي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعنه أنها نزلت في عبد الله بن أبي أمية المخزومي. ويجوز أن يكون المراد كل إنسان إذا حل به مثل ذلك على تفاوت في الناس في هذا اليأس.
واللام موطئة للقسم.
والإذاقة مستعملة في إيصال الإدراك على وجه المجاز، واختيرت مادة الإذاقة لما تشعر به من إدراك أمر محبوب لأن المرء لا يذوق إلا ما يشتهيه.
والرحمة أريد بها رحمة الدنيا. وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والأمن والعافية، والمراد النعمة السابقة قبل نزول الضر.
والنزع حقيقته خلع الثوب عن الجسد. واستعمل هنا في سلب النعمة على طريقة الاستعارة، ولذلك عدي بحرف "من" دون "عن" لأن المعنى على السلب والافتكاك، فذكر "من" تجريد للمجاز.
وجملة: {إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} جواب القسم، وجردت من الافتتاح باللام استغناء عنها بحرف التوكيد وبلام الابتداء في خبر "إن". واستغني بجواب القسم عن جواب الشرط المقارن له كما هو شأن الكلام المشتمل على شرط وقسم كما تقدم في قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [هود: 8] إلى آخره.
واليؤوس والكفور مثالا مبالغة في الآيس وكافر النعمة، أي جاحدها، والمراد بالكفور منكر نعمة الله لأنه تصدر منه أقوال وخواطر من السخط على ما انتابه كأنه لم ينعم عليه قط.
وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وبحرف التوكيد في جملة جواب القسم لقصد تحقيق مضمونها وأنه حقيقة ثابتة لا مبالغة فيها ولا تغليب.
[10] {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}.
(11/213)
هذه الجملة تتميم للتي قبلها لأنها حكت حالة ضد الحالة في التي قبلها، وهي جملة قسم وشرط وجواب قسم كما تقدم في نظائرها.
وضمير {أَذَقْنَاهُ} المنصوب عائد إلى الإنسان فتعريفه كتعريف معاده للاستغراق بالمعنى المتقدم.
والنعماء - بفتح النون - وبالمد النعمة واختير هذا اللفظ هنا وإن كان لفظ النعمة أشهر لمحسن رعي النظير في زنة اللفظين النعماء والضراء. والمراد هنا النعمة الحاصلة بعد الضراء.
والمس مستعمل في مطلق الإصابة على وجه المجاز. واختيار فعل الإذاقة لما تقدم، واختيار فعل المس بالنسبة إلى إدراك الضراء إيماء إلى أن إصابة الضراء أخف من إصابة النعماء، وأن لطف الله شامل لعباده في كل حال.
وأكدت الجملة باللام الموطئة للقسم وبنون التوكيد في جملة جواب القسم لمثل الغرض الذي بيناه في الجملة السابقة.
وجعل جواب القسم القول للإشارة إلى أنه تبجح وتفاخر، فالخبر في قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} مستعمل في لا ازدهاء والإعجاب، وذلك هو مقتضى زيادة {عَنِّي} متعلقا ب {ذَهَبَ} للإشارة إلى اعتقاد كل واحد أنه حقيق بأن تذهب عنه السيئات غرورا منه بنفسه، كما في قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50].
وجملة: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} استئناف ابتدائي للتعجيب من حاله، و {فَرِحٌ فَخُورٌ} مثالا مبالغة، أي لشديد الفرح شديد الفخر. وشدة الفرح: تجاوزه الحد وهو البطر والأشر، كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76].
والفخر: تباهي المرء على غيره بما له من الأشياء المحبوبة للناس.
والمعنى أنه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وما كان فيه من الضراء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وناقل الأحوال، والمخالف بين أسبابها. وفي معنى الآيتين قوله في سورة الشورى[48]: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} .
(11/214)
[11] {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
احتراس باستثناء من "الإنسان". والمراد بالذين صبروا المؤمنون بالله لأن الصبر من مقارنات الإيمان فكني بالذين صبروا عن المؤمنين فإن الإيمان يروض صاحبه على مفارقة الهوى ونبذ معتاد الضلالة. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [الع: 3].
ومن معاني الصبر انتظار الفرج ولذلك أوثر هنا وصف "صَبَرُوا" دون "آمَنُوا" لأن المراد مقابلة حالهم بحال الكفار في قوله: {إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]. ودل الاستثناء على أنهم متصفون بضد صفات المستثنى منهم. وفي هذا تحذير من الوقوع فيما يماثل صفات الكافرين على اختلاف مقادير. وقد نسجت الآية على هذا المنوال من الإجمال لتذهب نفوس السامعين من المؤمنين في طرق الحذر من صفتي اليأس وكفران النعمة، ومن صفتي الفرح والفخر كل مذهب ممكن.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} مستأنفة ابتدائية. والإتيان باسم الإشارة عقب وصفهم بما دل عليه الاستثناء وبالصبر وعمل الصالحات تنبيه على أنهم استحقوا ما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].
[12] {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
تفريع على قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} إلى قوله: {يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 7, 8] من ذكر تكذيبهم وعنادهم. يشير هذا التفريع إلى أن مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأن من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأسا قد يبعث على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع.
والتوقع المستفاد من "لعل" مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ. ويجوز أن يقدر استفهام حذفت أداته. والتقدير: ألعلك تارك. ويكون الاستفهام مستعملا في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حدا يوجب توقع الأمر المستفهم عنه حتى أن
(11/215)
المتكلم يستفهم عن حصوله. وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهاب همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النبيء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو ما فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 23]. والمعنى تحذيره من التأثر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييس المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه.
{وَضَائِقٌ} : اسم فاعل من ضاق. وإنما عدل عن أن يقال "ضيق" هنا إلى {ضَائِقٌ} لمراعاة النظير مع قوله: "تَارِكٌ" لأن ذلك أحسن فصاحة. ولأن {ضَائِقٌ} لا دلالة فيه على تمكن وصف الضيق من صدره بخلاف ضيق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، وإيماء إلى أن أقصى ما يتوهم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضيق قليل يعرض له.
والضيق مستعمل مجازا في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة.
و {ضَائِقٌ} عطف على {تَارِكٌ} فهو وفاعله جملة خبر عن "لعلك" فيتسلط عليه التفريع.
والباء في {بِهِ} للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو {أَنْ يَقُولُوا} . و {أَنْ يَقُولُوا} بدل من الضمير. ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، فيكون تحذيرا من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7]، ومن قولهم: ما يحبس العذاب عنا، بواسطة كون {ضَائِقٌ} داخلا في تفريع التحذير على قوليهم السابقين. وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكنا في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيها على الاهتمام بالمتعلق لأنه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعد لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصل الاهتمام وقوي الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.
(11/216)
ومعظم المفسرين جعلوا ضمير {بِهِ} عائدا إلى {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} . على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره، أي لا يضيق له صدرك، وجعلوا: {أَنْ يَقُولُوا} مجرورا بلام التعليل مقدرة. وعليه فالمضارع في قوله: {أَنْ يَقُولُوا} بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك. واللام متعلقة ب {ضَائِقٌ} وليس المعنى عليه بالمتين.
و {لَوْلا} : للتحضيض. والكنز: المال المكنوز أي المخبوء.
وإنزاله: إتيانه من مكان عال أي من السماء.
وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سببا في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل.
ومرادهم ب {جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} أن يجيء ملك من الملائكة شاهدا برسالته، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أن الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومدى التأييد الرباني.
وجملة {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} في موقع العلة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم. فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذير لا وكيل على تحصيل إيمانهم، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم ترك دعوتهم.
والقصر المستفاد من {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي أنت نذير لا موكل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو الله، كما دل عليه قوله قبله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} فهو قصر قلب. وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أن الرسول يأتي بما يسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سندا لتكذيبهم إياه ردا حاصلا من مستتبعات الخطاب، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الرد على المشركين والكافرين الذين سألوا الإيتان بمعجزات على وفق هواهم.
وجملة: {اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} تذييل لقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إلى هنا، وهي معطوفة على جملة: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلا على إلجائهم للإيمان. ومما شمله عموم: {كُلِّ شَيْءٍ} أن الله وكيل على قلوب
(11/217)
المكذبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلا وإتيانا للغرض بما هو كالدليل، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبيء جهده في التبليغ.
[13] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
{أَمْ} هذه منقطعة بمعنى "بل" التي للإضراب للانتقال من غرض إلى آخر، إلا أن "أم" مختصة بالاستفهام فتقدر بعدها همزة الاستفهام. والتقدير: بل أيقولون افتراه. والإضراب الانتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي، فللجملة حكم الاستئناف. والمناسبة ظاهرة، لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين، فإنهم قالوا: هذا كلام مفترى، وقرعهم بالحجة. والاستفهام إنكاري.
والافتراء: الكذب الذي لا شبهة لصاحبه، فهو الكذب عن عمد، كما تقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
وجملة {قُلْ فَأْتُوا} جواب لكلامهم فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة سواء كانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول أو كانت أمرا بالقول كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. والضمير المستتر في "افتراه" عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم المذكور في قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12]. وضمير الغائب البارز المنصوب عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12].
والإتيان بالشيء: جلبه، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسعة عليهم في التحدي.
وتحداهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحداهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله، كما في سورة البقرة وسورة يونس. فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان التحدي أول الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن. وهو ما وقع في سورة هود، ثم نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس. فتخطى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وهو الذي يعتمد عليه.
(11/218)
وقال المبرد: تحداهم أولا بسورة ثم تحداهم هنا بعشر سور لأنهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلما وسع عليهم في صفتها أكثر عليهم عددها. وما وقع من التحدي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني، وليس بالقوي.
ومعنى {مُفْتَرَيَاتٍ} أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم. وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي، فالمماثلة في قوله {مِثْلِهِ} هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علو معانيه وتصديق بعضه بعضا. وهو كذلك.
والدعاء: النداء لعمل. وهو مستعمل في الطلب مجازا ولو بدون نداء.
وحذف المتعلق لدلالة المقام، أي وادعوا لذلك. والأمر فيه للإباحة، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسمون فيه المقدرة على ذلك ومن ترجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونكم كقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وصف ل {مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} ، ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله، فلما عمم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكل من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في قولكم: {افْتَرَاهُ} ، وجواب الشرط هو قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} . ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم.
[14 ]{فإلم فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
تفريع على: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} [هود: 13] أي فإن لم يستجب لكم من تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلا حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعا في يأس الداعين من الإتيان بعشر سور.
(11/219)
والاستجابة: الإجابة، والسين والتاء فيه للتأكيد. وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه، وهي مجاز مرسل لأن المعاونة تنشأ عن النداء إلى الإعانة غالبا فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسميت استجابة.
والعلم: الاعتقاد اليقين، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلا بعلم الله، أي ملابسا لعلم الله. أي لأثر العلم، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه. وقد أفادت "أنما" الحصر، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله. {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} عطف على {مَا أُنْزِلَ} لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم. ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم.
والفاء في {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} للتفريع على {فَاعْلَمُوا} . والاستفهام مستعمل في الحث على الفعل وعدم تأخيره كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي عن شرب الخمر وفعل الميسر. والمعنى: فهل تسلمون بعد تحققكم أن هذا القرآن من عند الله.
وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته. ولم يقل فهل تسلمون لأن حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدل عليه الجملة الاسمية.
[15] [16] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] لأن تلك الجملة تفرعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتب لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم، وإن كانوا إنما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعا لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذروا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعلموا بأن وراء ذلك العذاب الدائم وأنهم على الباطل، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية، أعني جملة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} الخ... وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول.
ولما كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم
(11/220)
وبعدهم عن الإيمان، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا، وأن لا يحسبوا أيضا أن الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم، كما قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196, 197].
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود. ونظير هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 18, 19]. فالمعنى من كان لا يطلب إلا منافع الحياة وزينتها. وهذا لا يصدر إلا عن الكافرين لأن المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلا لذلك، فمورد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28, 29] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس، خلافا لما يقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترف وتلك الزينة.
وضمير {إِلَيْهِمْ} عائد إلى {مَنْ} الموصولة لأن المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة.
والتوفية: إعطاء الشيء وافيا، أي كاملا غير منقوص، أي نجعل أعمالهم في الدنيا وافية ومعنى وفائها أنها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس، فالمراد أنهم لا ينقصون من لذاتهم التي هيأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا، بخلاف المؤمنين فانهم تتهيأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيرا من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة.
وعدى فعل {نُوَفِّ} بحرف "إلى" لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين.
(11/221)
فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} ، فالتوفية: عدم النقص. وعلقت بالأعمال وهي المساعي. وإضافة الأعمال إلى ضمير {هُمْ} تفيد أنها الأعمال التي عنوا بها وأعدوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا ندخل عليهم نقصا في ذلك. وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوهم من كلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك.
وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجا لهم وإمهالا. فهذا كالتكملة لمعنى جملة: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ، إذ البخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلما. وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أن الكفر لا يمنع من نعمة الله.
وضمير {فِيهَا} يجوز أن يعود إلى {الْحَيَاةَ} وأن يعود إلى "الأعمال".
وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} مستأنفة، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة. وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله: { أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
و {إِلَّا النَّارُ} استثناء مفرغ من {لَيْسَ لَهُمْ} أي ليس لهم شيء مما يعطاه الناس في الآخرة إلا النار، وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا.
والحبط: البطلان أي الانعدام.
والمراد ب {مَا صَنَعُوا} ما عملوا، ومن الإحسان في الدنيا كإطعام العفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضا، ولذلك عبر هنا ب {صَنَعُوا} لأن الإحسان يسمى صنيعة.
وضمير {فِيهَا} يجوز أن يعود إلى {الدُّنْيَا} المتحدث عنها فيتعلق المجرور بفعل {صَنَعُوا} . ويجوز أن يعود إلى {الْآخِرَةِ} فيتعلق المجرور بفعل "بطل"، أي انعدم أثره. ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك. وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة "أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" .
(11/222)
والباطل: الشيء الذي يذهب ضياعا وخسرانا.
[17] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}
أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة، ومن جهة إجمال المراد من الموصول، وموقع الاستفهام، وموقع فاء التفريع. وقد حكى ابن عطية وجوها كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها. والاختلاف في ما صدق {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . وفي المراد من {بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ، وفي المعني ب {يَتْلُوهُ} . وفي المراد من {شَاهِدٌ} . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله: {يَتْلُوهُ} . وفي معنى "من" من قوله: {مِنْهُ} ، وفي معاد الضمير المجرور ب"من". وفي موقع قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} من قوله: {كِتَابُ مُوسَى} . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية.
والذي تخلص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجها وأقرب بالمعنى المقصود شبها: أن الفاء للتفريع على جملة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13, 14] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان، وهذا التفريع تفريع الضد على ضده في إثبات ضد حكمه له، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وصف فثم قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البينات والشواهد، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14]، أي كما أسلم من كانوا على بينة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب.
والهمزة للاستفهام التقريري، أي إن كفر به هؤلاء أفيؤمن به من كان على يبنة من ربه، وهذا على نحو نظم قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب.
و {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} لا يراد بها شخص معين. فكلمة "من" هنا تكون كالمعرف
(11/223)
بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر {كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} مراعاة للفظ "من" الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} مراعاة لمعنى "من" الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير: أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في سورة القتال [14].
والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله ابن سلام ممن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البينة، فأصحابها مؤمنون بها.
والمراد بالبينة حجة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم المبشر به في التوراة والإنجيل. فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذبوا رسولا صادقا. وكون اليهود على بينة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بينة. فالمراد على بينة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، ويعنيها اللاحق من قوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} أي بالقرآن.
و"من" في قوله: {مِنْ رَبِّهِ} ابتدائية ابتداء مجازيا. ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيءينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البينة المذكورة هنا من الإنجيل، ويقوي أن المراد ب {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} النصارى.
وفعل "يتلوه" مضارع التلو وهو الاتباع وليس من التلاوة، أي يتبعه. والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له. وضمير الغائب المنصوب في قوله: {يَتْلُوهُ} عائد إلى {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} .
والمراد ب {شَاهِدٌ مِنْهُ} شاهد من ربه، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه
(11/224)
المعاندين عن الإتيان يعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله.
و {مِنْ} ابتدائية. وضمير {مِنْهُ} عائد إلى {رَبِّهِ} . ويجوز أن يعود إلى {شَاهِدٌ} . أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان يمثله.
و {مِنْ قَبْلِهِ} حال من {كِتَابُ مُوسَى} . و {كِتَابُ مُوسَى} عطف على {شَاهِدٌ مِنْهُ} والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتوراة لأنها أصله وفيها بيانه، ولذلك لما عطف {كِتَابُ مُوسَى} على {شَاهِدٌ} الذي هو معمول {يَتْلُوهُ} قيد كتاب موسى بأنه من قبله، أي ويتلوه شاهد منه. ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبل الشاهد أي سابقا عليه في النزول. وإذا كان المراد ب {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} النصارى خاصة كان لذكر {كِتَابُ مُوسَى} إيماء إلى أن كتاب موسى - عليه السلام - شاهد على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بينة من ربهم كاملة من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام.
و {إماما ورحمة} حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للناس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله.
والإشارة ب {أُولَئِكَ} إلى {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ، أي أولئك الذين كانوا على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين، وذلك في معنى قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].
وإقحام {أُولَئِكَ} هنا يشبه إقحام ضمير الفصل، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الإنجيل والتوراة.
وجملة: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} خبر {مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} .
وضمير {به} عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 13].
وبه ينتظم الكلام مع قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 13, 14] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله.
(11/225)
والباء للتعدية لا للسببية، فتعدية فعل {يُؤْمِنُونَ} إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله.
وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بينة من ربهم مؤيدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قبل بينتهم.
وقريب من معنى الآية قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مما يخالف ما ذكرناه كلا أو بعضا فبصرك فيها حديد، وبيدك لفتح مغالقها مقاليد.
وجملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} عطف على جملة: {أفمن كان على بينة من ربه} لأنه لما حرض أهل مكة على الإسلام بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14]، وأراهم القدوة بقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال: {مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} ، وأعرض عما تبين له من بينة ربه وشواهد رسله فالنار موعده.
والأحزاب: هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمر يجتمعون عليه، فالمشركون حزب، واليهود حزب، والنصارى حزب، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} [ص: 12, 13].
والباء في {يَكْفُرْ بِهِ} كالباء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
والموعد: ظرف للوعد من مكان أو زمان. وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعين لعمل أن يعين به بوعد سابق.
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}
تفريع على جملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه. ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيطلب منه تركه ويكون النهي طلب تحصيل الحاصل، تعين أن يكون النهي
(11/226)
غير مراد به الكف والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملا في لازم ذلك بقرينة المقام، ومما يزيد ذلك وضوحا قوله تعالى في سورة آلم السجدة[23] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} فإنه لو كان المقصود تحذير النبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في اللوح لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى - عليه السلام - الكتاب ملازمة، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدم إليهم احتجاج سبق الوحي لموسى - عليه السلام -.
و {فِي} للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظرا لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن.
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير {افْتَرَاهُ} [هود: 13].
وجملة: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه. وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام.
والمرية: الشك. وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام. واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأولى، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذما وشناعة.
و {مِنْ} ابتدائية، أي في شك ناشئ عن القرآن، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكا في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته، وهذا مثل الضمير في قوله: {يؤمنون به} من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها.
وتعريف {الْحَقُّ} لإفادة قصر جنس الحق على القرآن. وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك: حاتم الجواد.
والاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} ناشئ على حكم الحصر، فإن الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين.
(11/227)
وحذف متعلق {يُؤْمِنُونَ} لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا.
[18, 19] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .
لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أن النبيء صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله. وتعجيزهم عن برهان لما زعموه، كر عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب، منها نفيهم أن يكون القرآن منزلا من عنده.
فعطفت جملة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} على جملة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير من أنزله، وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلم منهم سؤال إنكار يؤول إلى معنى النفي، أي لا أحد أظلم. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} في سورة البقرة[114]. وفي سورة الأعراف[37] في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} .
وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك، كقولهم: إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقولهم في كثير من أمور دينهم {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]. وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] أي إذ يقولون: أمرنا الله بذلك.
وجملة: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} استئناف. وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف، وهذا أشد الظلم كما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
ولما يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عرض زجر وانتقام.
(11/228)
والعرض إذا عدي بحرف "على" أفاد معنى الإحضار بإرادة.
واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم.
وعطف فعل "يقول" على فعل "يعرضون" الذي هو خبر، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عن اسم الإشارة.
والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحا لهم.
والأشهاد: جمع شاهد بمعنى حاضر،أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق. وهؤلاء الأشهاد من الملائكة.
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم.
والإتيان بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة. والمقصود من إعلان هذه الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} .
وجملة: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} من بقية قول الأشهاد. وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير. والخبر مستعمل في الدعاء خزيا وتحقيرا لهم، ومما يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة الأعراف[44] مصرحا فيه بذلك {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية.
وقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} تقدم نظيره في سورة الأعراف[45].
وضمير المؤنث في قوله: {يَبْغُونَهَا} عائد إلى سبيل الله لأن سبيل يجوز اعتباره مؤنثا.
والمعنى: أنهم يبغون أن تصير سبيل الله عوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيمة وأنهم
(11/229)
يحاولون أن يصيروها عوجاء لأنهم يريدون أن يتبع النبيء صلى الله عليه وسلم دينهم ويغضبون من مخالفته إياه. وهنا انتهى كلام الأشهاد لأن نظيره الذي في سورة الأعراف[44] في قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية انتهى بما يماثل آخر هذه الآية.
واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة "هم" في قوله: {هُمْ كَافِرُونَ} وهو توكيد يفيد تقوي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريره إشعارا بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا، وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد، وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية.
[20] {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}
استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإن ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل: هل هم سالمون من عذاب الدنيا. فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم.
وإعادة الإشارة إليهم بقوله: "أولئك " بعد أن أشير إليهم بقوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِم} لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق. والمعنى: أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم.
والمعجز هنا الذي أفلت ممن يروم إضراره. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة الأنعام[134].
والأرض: الدنيا. وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعا من الأرض يستعصمون به. فهذا نفي للملاجئ والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب. وعندي أن مقارنة "في الأرض" ب"معجزين" جرى مجرى المثل في القرآن
(11/230)
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32] ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس ابن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} .
يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله. فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه. و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق ب"أولياء" لما في الولي هنا ومن معاني الحائل والمباعد بقوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء: 119].
ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تولوها، أي أخلصوا لا المحبة والعبادة.
ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على هذا الوجه بمعنى من غير الله، ف"دون" اسم غير ظرف، و"من" الجارة ل"دون" زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة، و"من" الجارة ل"أولياء" زائدة لاستغراق الجنس المنفي، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء.
والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لا عن عجز.
{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}
خبر عن اسم الإشارة. ويجوز أن تكون جملة: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} خبرا أولا وجملة: {يُضَاعَفُ} خبرا ثانيا. ويجوز أن تكون جملة: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} حالا وجملة: {يُضَاعَفُ} خبرا أول.
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}
يجوز أن يكون هذا خبرا عن اسم الإشارة أو حالا منه فتكون استطاعة السمع
(11/231)
المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبيء صلى الله عليه وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى:
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبر هنا بالاستطاعة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنهم يكرهون أن يسمعوه. قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف فيحصول الاهتداء.
والإبصار المنفى هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية، أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق، ولذلك لم يقل هنا: وما كانوا يستطيعون أن يبصروا، لأنهم كانوا يبصرونها ولكن مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} .
ويجوز أن تكون الجملة حالا ل"أولياء"، وسوغ كونها حالا من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي. والمعنى: أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار.
وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تعقل، ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التهكم بهم.
والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} إلى قوله: {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} آكد من لا يعجزون وكذلك أخواته.
والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف "لم" له معنى المضي فليس المخالفة منها إلا تفننا.
[21] [22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لا
(11/232)
جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
استئناف، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
والموصول في {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة، أي أن بلغكم أن قوما خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبا، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء، فلما ضلوا فقد خسروها.
وتقدم الكلام على {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} عند قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الأنعام[12].
والضلال: خطأ الطريق المقصود.
و {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد، قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28].
وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها. شبهت أصنامهم بمن سلك طريقا ليلحق بمن استنجد به فضل في طريقه.
وجملة: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} لأن ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة.
و"لا جرم" كلمة جزم ويقين جرت مجرى المثل، وأحسب أن "جرم" مشتق مما تنوسي، وقد اختلف أئمة العربية في تركيبها، وأظهر أقوالهم أن تكون "لا" من أول الجملة و"جرم" اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بد أي لا بد. ثم يجيء بعدها أن واسمها وخبرها فتكون "أنّ" معمولة لحرف جر محذوف. والتقدير: لا جرم من أن الأمر كذا.ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو: لا جرم لأفعلن. قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر.
وعبر عما لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا
(11/233)
يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح.
وإنما كانوا أخسرين، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة. ولأنهم شقوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103, 104] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة.
وضمير {هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ضمير فصل يفيد القصر، وهو قصر ادعائي، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة، فكأنهم انفردوا بالأخسرية.
[23] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لما ذكر أحوال البالغين أقصى غايات الخسارة ذكر مقابلهم الذين بلغوا أعلى درجات السعادة. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن النفوس تشرئب عند سماع حكم الشيء إلى معرفة حكم ضده.
والإخبات: الخضوع والتواضع، أي أطاعوا ربهم أحسن طاعة.
وموقع {أُولَئِكَ} هنا مثل موقعه في الآية قبلها.
وجملة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في موقع البيان لجملة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} لأن الخلود في المكان هو أحق الأحوال بإطلاق وصف الصاحب على الحال بذلك المكان إذ الأمكنة لا تقصد إلا لأجل الحلول فيها فتكون الجملة مستأنفة لبيان ما قبلها فمنزلتها منزلة عطف البيان، ولا تعرب في موضع خبر ثان عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيرها في سورة البقرة[82] في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فعد إليه وزد إليه ما هنا.
[24] {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
بعد أن تبين الاختلاف بين حال المشركين المفترين على الله كذبا وبين حال الذين
(11/234)
آمنوا وعملوا الصالحات في منازل الآخرة أعقب ببيان التنظير بين حالي الفريقين المشركين والمؤمنين بطريقة تمثيل ما تستحقه من ذم ومدح.
فالجملة فذلكة للكلام وتحصيل له وللتحذير من مواقعة سببه.
والمثل، بالتحريك: الحالة والصفة كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} الآية من سورة الرعد[35]، أي حالة الفريقين المشركين والمؤمنين تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من الجهة الأخرى، فالكلام تشبيه وليس استعارة لوجود كاف التشبيه وهو أيضا تشبيه مفرد لا مركب.
والفريقان هما المعهودان في الذكر في هذا الكلام، وهما فريق المشركين وفريق المؤمنين، إذ قد سبق ما يؤذن بهذين الفريقين من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [هود: 18]. ثم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] الآية.
والفريق: الجماعة التي تفارق، أي يخالف حالها حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في سورة الأنعام[81].
شبه حال فريق الكفار في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى، وشبهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم.
وشبه حال فريق المؤمنين في ضد ذلك بحال من كان سليم البصر، سليم السمع فهو في هدى ويقين من مدركاته.
وترتيب الحالين المشبه بهما في الذكر على ترتيب ذكر الفريقين فيما تقدم ينبي بالمراد من كل فريق على طريقة النشر المرتب. والترتيب في اللف والنشر هو الأصل والغالب.
وقد علم أن المشبهين بالأعمى والأصم هم الفريق المقول فيهم: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20].
والواو في قوله: {وَالْأَصَمِّ} للعطف على {الْأَعْمَى} عطف أحد المشبهين على الآخر. وكذلك الواو في قوله: {وَالسَّمِيعِ} للعطف على {وَالْبَصِيرِ} .
(11/235)
وأما الواو في قوله: {وَالْبَصِيرِ} فهي لعطف التشبيه الثاني على الأول، وهو النشر بعد اللف. فهي لعطف أحد الفريقين على الآخر، والعطف بها للتقسيم والقرينة واضحة.
وقد يظن الناظر أن المناسب ترك عطف صفة {الْأَصَمِّ} على صفة {الْأَعْمَى} كما لم يعطف نظيراتهما في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في سورة البقرة[8] ظنا بأن مورد الآيتين سواء في أن المراد تشبيه من جمعوا بين الصفتين. وذلك أحد وجهين ذكرهما صاحب الكشاف. وقد أجاب أصحاب حواشي الكشاف بأن العطف مبني على تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات. ولم يذكروا لهذا التنزيل نكتة ولعلهم أرادوا أنه مجرد استمال في الكلام كقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارب ال ... صابح فالغانم فالآيب
والوجه عندي في الداعي إلى عطف صفة {الْأَصَمِّ} على صفة {الْأَعْمَى} أنه ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تينك الصفتين على حدة، فهم يشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر، ويشبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهمها السمع، فهم في حالتين كل حال منهما مشبه به، ففي قوله تعالى: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} تشبيهان مفرقان كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
... لدى وكرها العناب والحشف البالي
والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين، واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعهما، إذ المشبه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي.
وأما الداعي إلى العطف في صفتي {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} ، إذ الاهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان، فهما في قوة الإثبات؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف: {السَّمِيعِ} على {الْبَصِيرِ} في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام، والمزاوجة من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته.
(11/236)
وجملة {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما، ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام، أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم. والاستفهام إنكاري.
وانتصب {مَثَلاً} على التمييز، أي من جهة حالهما، والمثل: الحال.
والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملة {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم.
وقرأ الجمهور "تذكرون" بتشديد الذال. وأصله تتذكرون، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما وليتأتى الإدغام تخفيفا. وقرأه حفص، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين من أول الفعل.
وفي مقابلة {الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} ب {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} محسن الطباق.
[25] [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرسل عليهم السلام قبله من أقوامهم.
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية.
وأكدت الجملة بلام القسم و {قَدْ} لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة {إِنِّي} بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال، أي قائلا.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جر وهو الباء للملابسة، أي أرسلناه متلبسا بذلك، أي بمعنى
(11/237)
المصدر المنسبك من "أني نذير"، أي متلبسا بالنذارة البينة.
وتقدم الكلام على نوح - عليه السلام - وقومه عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في آل عمران[33]. وعند قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } في سورة الأعراف[59].
وجملة: {أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} مفسرة لجملة {أَرْسَلْنَا} لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز كونها تفسيرا ل {نَذِيرٌ} لما في {نَذِيرٌ} من معنى القول، كقوله في سورة نوح[2, 3] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} . وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة "أني" إذا اعتبرت "أن" تفسيرية. ويجوز جعل "أن" مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من {أَنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على قراءة -فتح الهمزة- واسمها ضمير شأن محذوفا، أي أنه لا تعبدوا إلا الله.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليل ل {نَذِيرٌ} لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه.
ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما، أي مؤلما.
وجملة {أَخَافُ عَلَيْكُمْ} ونحوها مثل أخشى عليك، تستعمل للتوقع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به، كقول لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا
... أخشى عليه الرياح والمطرا
فيتعدى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف على كما في الآية وبيت لبيد.
و"العذاب" هنا نكرة في المعنى، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة. ولذلك قال في كلامه الآتي: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هود: 33] على ما يأتي هنالك. وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر، وهو مقطوع به لأن الله يقرن الوعيد بالدعوة، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33]، وقد تبادر إلى أذهان
(11/238)
قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]. ولعل في كلام نوح - عليه السلام - ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان.
[27] {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} .
عطف قول الملأ من قومه بالفاء على فعل {أَرْسَلْنَا} [هود: 25] للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لما قال لهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود: 25] إلى آخره. ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه ب"قال" مجردا عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف.
والملأ: سادة القوم. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة الأعراف[60].
جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسبابا مادية جسدية، فيسودون أصحاب الأجسام البهجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات، ويسودون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسودون الأبطال لأنهم يعدونهم لدفاع أعدائهم. ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إما بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيد قوم ولم يعرفوه تعرفوا أتباعه وأنصاره، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني.
فلما دعاهم نوح - عليه السلام - دعوة علموا منها أنه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح - عليه السلام - ومن الذين اتعبوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادعاه من الرسالة بسيادة
(11/239)
للأمة وقيادة لها.
وهؤلاء لقصور عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة. وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولا، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صرف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك.
وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمها والطواويس، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو. وهذه أشبه بأن تعد في أسباب الكمال ولكنها مكملات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطاع الطريق والشطار، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين.
وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل، فهما السبب المطرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدين، على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلا إذا كان محفوفا بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة.
فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لما قصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحا عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر، وتأملوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميزهم عن الناس وربما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوها أو أطول أجساما.
من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} ، فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية. والرؤية هنا رؤية العين لأنهم جعلوا استدلالهم ضروريا من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للناس لا يزيد عليهم
(11/240)
جوارح أو قوائم زائدة.
والبشر -محركة -: الإنسان ذكرا أو أنثى، واحدا كان أو جمعا. قال الراغب: "عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر" أي والريش. والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر والمؤنث والمذكر. وقد يثنى كما في قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47].
وقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلا على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم. فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبعوه، ولذلك ورد بعده {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 29] الآية.
والأرذال: جمع أرذل المجعول اسما غير صفة كذلك على القياس، أو جمع رذيل على خلاف القياس. والرذيل: المحتقر. وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء. وإضافة أراذل إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة، أي أراذل قومنا. وعبر عنهم بالموصول والصلة دون أن يقال: إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح عليه السلام بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة، وكان أتباع نوح عليه السلام من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممن سبق لهم الهدى.
و {بَادِيَ} قرأه الجمهور بياء تحتية في آخره على أنه مشتق من بدا المقصور إذا ظهر، وألفه منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها، فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء. والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه.
وقرأه أبو عمرو وحده بهمزة في آخره على أنه مشتق من البداء، وهو أول الشيء.
والمعنى: فيما يقع أول الرأي، أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه، ومآل المعنيين واحد.
والرأي: نظر العقل، مشتق من فعل رأي، كما استعمل رأي بمعنى ظن وعلم.
(11/241)
يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع.
وانتصاب {بَادِيَ الرَّأْيِ} بالنيابة عن الظرف، أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيه، أو في الرأي الأول دون إعادة نظر.
وإضافة {بَادِيَ} إلى {الرَّأْيِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى كلامهم: لا يبلث أن يرجع إلى متبعيك رشدهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويكشف لهم خطؤهم.
ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جمعوا الوصف الشامل لهما. وهو المقصود من الوصفين المفرقين. وذلك قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فنفوا أن يكون لنوح عليه السلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيدا لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم.
والفضل: الزيادة في الشرف والكمال، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي ترى، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلا على انتفاء فضلهم، لأن الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتها دليلا على انتفائها إذ لو ثبتت لريئت.
وجملة {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} إبطال للمنفي كله الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنه إذا بطل الشيء ثبت ضده، فزعموا نوحا - عليه السلام - كاذبا في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح - عليه السلام -، بل ذلك منهم اعتقاد باطل، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم.
واستعمل الظن هنا في العلم كقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} وهو إطلاق شائع في الكلام.
[28] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} .
فصلت جملة: {قَالَ يَا قَوْمِ} عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدمناه عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]، فهذه لما وقعت مقابلا لكلام محكي يقال فصلت الجملة
(11/242)
ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفا في قوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [هود: 27].
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلا خيرا.
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدللا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلا، وما رأوا أتباعه إلا ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لرد أقوالهم، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به.
فقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى آخره. معناه إن كنت ذا برهان واضح، ومتصفا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها. وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملا بريئا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته.
و {أَرَأَيْتُمْ} ، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد. وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غير عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسد مفعولي "رأيتم"، ولذلك كان معناه آيلا إلى معنى أخبروني، ولكنه لا يستعمل إلا في طلب من حاله حال من يجحد الخبر، وقد تقدم معناه في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} في سورة الأنعام[47].
وجملة: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} إلى قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} معترضة بين فعل {أَرَأَيْتُمْ} وما سد مسد مفعوليه.
والاستفهام في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} إنكاري، أي لا نكرهكم على قبولها، فعلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة. والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة.
والبينة: الحجة الواضحة، وتطلق على المعجزة، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر، فإن بعثة الرسل - عليهم السلام - لا تخلو من معجزات.
(11/243)
والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه، مع ما صحبها من البينة لأنها من تمامها، فعطف "الرحمة" على "البينة" يقتضي المغايرة بينهما، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله: {فَعُمِّيَتْ} أعيد على "الرحمة" لأنها أعم.
و {عَلَيْكُمْ} متعلقة ب"عميت" وهو حرف تتعدى به الأفعال الدالة على معنى الخفاء، مثل: خفي عليك. ولما كان عمي في معنى خفي عدي ب"على"، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له.
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به.
ومعنى {فَعُمِّيَتْ} فخفيت، وهو استعارة، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه. ولما ضمن معنى: الخفاء عدي فعل "عميت" بحرف "على" تجريدا للاستعارة. وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [ الإسراء: 59]، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة، ولذلك سمي جحدهم إياها ظلما فقال: {فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59].
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقا لمقابلة قولهم في مجادلتهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ - وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27]. فقابل نوح - عليه السلام - كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى.
وعطف "عميت" بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم. وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل.
وجملة {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} سادة مسد مفعولي {أَرَأَيْتُمْ} لأن الفعل علق عن العمل بدخول همزة الاستفهام.
وجواب الشرط محذوف دل عليه فعل {أَرَأَيْتُمْ} وما سد مسد مفعوليه. وتقدير الكلام: قال يا قوم إن كنت على بينة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون.
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فرض وقوعه لكان له
(11/244)
أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يهيب بهم. والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم.
والاستفهام إنكاري، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضا عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم.
والكاره: المبغض لشيء. وعدي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبر فيها.
وتقديم المجرور على {كَارِهُونَ} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها. والمقصود من كلامه بعثهم على إعادة التأمل في الآيات، وتخفيض نفوسهم، واستنزالهم إلى الإنصاف. وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم.
[29] {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .
إعادة الخطاب ب {يَا قَوْمِ} تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني التي ذكرناها، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى كقول المعري:
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر
ثم قال:
ويا أسيرة حجليها أرى سفها ... حمل الحلي بمن أعيا عن النظر
فأما إذا اتحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة مريم [42- 45] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} - إلى قوله -: {وَلِيّاً} فقد تكرر النداء أربع مرات.
فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السلام لا من حكاية الله عنه. ثم يجوز أن يكون تنبيها على اتصال النداءات بعضها ببعض، وأن أحدها لا يغني عن الآخر، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي. ويجوز أن يكون ذلك تفننا عربيا في الكلام عند تكرر النداء استحسانا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد. ويسجئ نظير هذا قريبا في قصة هود - عليه السلام - وقصة
(11/245)
شعيب - عليه السلام -.
ومنه ما وقع في سورة المؤمن [30-33] في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ثم قال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 38-41]. فعطف "ويا قوم" تارة وترك العطف أخرى.
وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم، وقيل حاتم الطائي:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
فقوله:
"ويا بنة ذي البردين"
عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد.
لما أظهر لهم نوح عليه السلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به، وأنه لا يريد نفعا دنيويا بأنه لا يسألهم على ما جاء به ما لا يعطونه إياه فماذا يتهمونه حتى يقطعون بكذبه.
والضمير في قوله: {عَلَيْهِ} عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة.
وجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} احتراس لأنه لما نفى أن يسألهم مالا، والمال أجر، نشأ توهم أنه لا يسأل جزاء على الدعوة فجاء بجملة {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} احتراسا. والمخالفة بين العبارتين في قوله: {مَالاً} و {أَجْرِيَ} تفيد أنه لا يسأل من الله مالا ولكنه يسأل ثوابا. والأجر: العوض على عمل. ويسمى ثواب الله أجرا لأنه جزاء على العمل الصالح.
وعطف جملة: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} على جملة: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء. ولذلك عبر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله: {الَّذِينَ
(11/246)
آمَنُوا} لما يؤذن به الموصول من تغليط قومه في تعريضهم له بأن يطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبة فيهم فكيف يطردهم. وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته.
والطرد: الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} في سورة الأنعام [52].
وجملة: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسب من يطردهم، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأني أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إلي. وهذا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم، واستحيا أحدهم، وأعرض الثالث "أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه".
وتأكيد الخبر ب"إن" أن كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث، وإن كان اللقاء مجازا فالتأكيد للاهتمام بذلك اللقاء. وقد زيد هذا التأكيد تأكيدا بجملة {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .
وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم.
وحذف مفعول {تَجْهَلُونَ} للعلم به، أي تجهلون ذلك.
وزيادة قوله: {قَوْماً} يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
[30] {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
إعادة {وَيَا قَوْمِ} مثل إعادته في الآية قبلها.
(11/247)
والاستفهام إنكاري. والنصر: إعانة المقاوم لضد أو عدو، وضمن معنى الإنجاء فعدي ب"من" أي من يخلصني، أي ينجيني من الله، أي من عقابه، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله، والله لا يحب إهانة أوليائه.
وفرع على ذلك إنكارا على قومه في إهمالهم التذكر، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها، والأسباب ومسبباتها.
وقرأ الجمهور {تَذَكَّرُونَ} - بتشديد الذال -.
وأصل {تَذَكَّرُونَ} ، تتذكرون فأبدلت التاء ذالا وأدغمت في الذال. وقرأه حفص: "تذكرون" بتخفيف الذال وبحذف إحدى التاءين. والتذكر تقدم عند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} في آخر سورة الأعراف [201].
[31] {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
هذا تفصيل لما رد به مقالة قومه إجمالا، فهم استدلوا على نفي نبوته بأنهم لم يروا له فضلا عليهم، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجب أنه لم يدع فضلا غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السلام في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، ولذلك نفى أن يكون قد ادعى غير ذلك. واقتصر على بعض ما يتوهمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم، أو أن يعلم الأمور الغائبة. والقول بمعنى الدعوى، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدلالة على أنه منتف عنه ذلك في الحال، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله، أي لا تظنوا أني مضمر ادعاء ذلك وإن لم أقله.
والخزائن: جمع خزانة بكسر الخاء وهي بيت أو مشكاة كبيرة يجعل لها باب، وذلك لخزن المال أو الطعام، أي حفظه من الضياع. وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تدخر في الخزائن، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبه به وهو الخزائن. وإضافة {خَزَائِنُ} إلى {اللَّهِ} لاختصاص الله بها.
(11/248)
وأما قوله: {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} فنفي لشبهة قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا} ولذلك أعاد معه فعل القول، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به، وتأكيده ب {إن} لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكدا لشدة إنكاره لو ادعاه مدع، فلما نفاه نفى صيغة إثباته. ولما أراد إبطال قولهم: { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سببا لانتفاء فضلهم، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غير المراد منه فيما قيل، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمرون ذلك ويقدرونه.
والازدراء: من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب، فأصله: ازتراء، قلبت تاء الافتعال دالا بعد الزاي كما قلبت في الازدياد.
وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالبا، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر. ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى:
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
ونظيره قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين.
وجيء في النفي بحرف {لَنْ} الدالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضا بقومه لأنهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السلام وفقرهم دليلا على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء، فلسان حالهم يقول: لن ينالوا خيرا، فكان رده عليهم بأنه لا يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} .
وجملة: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} تعليل لنفي أن يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف، ومعنى {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم. وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل
(11/249)
والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي الله أعلم بها.
واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مقصود منه شدة العلم.
وجملة: {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} تعليل ثان لنفي أن يقول: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} . و {إذن} حرف جواب وجزاء مجازاة للقول، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق.
وقوله: {مِنَ الظَّالِمِينَ} أبلغ في إثبات الظلم من إني ظالم، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67].
وأكده بثلاث مؤكدات: إن ولام الابتداء وحرف الجزاء، تحقيقا لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك. وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح عليه السلام مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين.
[32, 33] {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فصلت هذه الجملة فصلا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة.
والمجادلة: المخاصمة بالقول وإيراد الحجة عليه، فتكون في الخير كقوله: { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، ويكون في الشر كقوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجه، وقد مضى عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادلها قومه، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذ فقالوا قولهم هذا، فكانت كلها مجادلات مضت. وكانت المجادلة الأخيرة هي التي استفزت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26].
(11/250)
وقولهم: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} خبر مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع أجابهم بالمبادرة لبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته.
والإتيان بالشيء: إحضاره. وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره.
و {مَا تَعِدُنَا} مصداقه {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26].
والقصر في قوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم، حملا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة، وإلا فإنهم جازمون بتعذر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبا وهم جازمون بأن الله لم يتوعدهم، ولعلهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله. وقوله: {إِنْ شَاءَ} احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا.
ومعنى {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد، يريد أن العذاب واقع لا محالة. ولعل نوحا عليه السلام لم يكن له وحي من الله بأن يحل بهم عذاب الدنيا، فلذلك فوضه إلى المشيئة؛ أو لعله كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق ب {إن شاء} منظورا فيه إلى كون العذاب معجلا أو مؤخرا.
[34] {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
عطف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيان حال مجادلته إياهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.
والنصح: قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله. وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار. ويكون بالعمل كقوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في سورة التوبة [91]. وفي الحديث "الدين النصيحة لله ولرسوله" أي الإخلاص في العمل لهما لأن الله لا ينبأ بشيء لا يعلمه. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} في سورة الأعراف [79]. فالمراد بالنصح هنا هو ما سماه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمى نصحا لأن الجدال يكون للخير
(11/251)
والشر كما تقدم.
وجملة الشرط في قوله: { إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} هي المقصود من الكلام، فجوابها في معنى قوله: {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} ، ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتماما بذلك فجعل معطوفا على ما قبله وأتي بالشرط قيدا له.
وأما قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} فهو شرط معترض بين الشرط وبين دليل جوابه لأنه ليس هو المقصود من التعليق ولكنه تعليق على تعليق، وغير مقصود به التقييد أصلا، فليس هذا من الشرط في الشروط المفروضة في مسائل الفقه وأصوله في نحو قول القائل: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، لأنها مفروضة في شرط مقيد لشرط آخر. على أن المقصود إذا اجتمع فعلا الشرطين حصل مضمون جوابهما. ومثلوه بقول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقل عز زانها كرم
فأما قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فكل من الشرطين مقصود التعليق به. وقد حذف جواب أحدهما لدلالة جواب الآخر عليه.
والتعليق بالشرط في قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك.
وأشار بقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح عليه السلام سببه خذلان الله إياهم ولولاه لنفعهم نصحه، ولكن نوحا عليه السلام لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر.
وتقدم الكلام على دخول اللام على مفعول "نصح" عند قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في براءة [91].
والإغواء: جعل الشخص ذا غواية، وهي الضلال عن الحق والرشد.
وجملة {هُوَ رَبُّكُمْ} ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا.
والتقديم في {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر، لأنهم لا
(11/252)
يؤمنون بالبعث أصلا بله أن يزعموا أنهم يحضرون إلى الله وإلى غيره.
وتمثلت فيما قصة الله من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه صورة واضحة من تفكير أهل العقول السخيفة التي ران عليها الضلال فقلب أفكارها إلى اعوجاج فظيع، وهي الصورة التي تتمثل في الأمم التي لم يثقف عقولها الإرشاد الديني فغلب عليها الانسياق وراء داعي لبهوى، وامتلكها الغرور بظن الخطأ صوابا، ومصانعة من تصأصئ عين بصيرته بلائح من النور، من يدعوه إلى إغماضها وعدمت الوازع النفساني فلم تعبأ إلا بالصور المحوسة ولم تهتم إلا باللذات وحب الذات ولا تزن بمعيار النقد الصحيح خلوص النفوس من دخل النقائص.
[35] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} .
جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة، ومن جعلها منها فقد أبعد، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة. ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره.
وكون ذلك مطابقا لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة به كتب بني إسرائيل يدل على صدق النبيء صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالاستفهام الذي يؤذن به حرف {أَمْ} المختص بعطف الاستفهام استفهام إنكاري. وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجة عليهم.
و {أَمْ} هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض.
وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق.
وجملة: {قُلْ} مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة.
وأمر النبيء صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئا، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت
(11/253)
تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء.
وتقديم "عليّ" مؤذن بالقصر، أي إجرامي علي لا عليكم فلماذا تكثرون ادعاء الافتراء كأنكم ستؤاخذون بتبعته. وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف.
ومعنى جعل الافتراء فعلا للشرط: أنه إن كان وقع الافتراء كقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116].
ولما كان الافتراء على الله إجراما عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنه المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير: فعلي إجرام افترائي.
وذكر حرف "على" مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تقتضيه مادة الإجرام.
والإجرام: اكتساب الجرم وهو الذنب، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة.
وجملة {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} معطوفة على جملة الشرط والجزاء، فهي ابتدائية. وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله، أي فإجرامي علي لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تبعة. ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله: {مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب، والشيء يؤكد بضده كقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2, 3].
وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتري القرآن فإن افتراء القرآن دعوى باطلة ادعوها عليه فهي إجرام منهم عليه، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه علي باطلا.
[36] {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
عطف على جملة {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} [هود: 32] أي بعد ذلك أوحي إلي نوح - عليه السلام -: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} .
واسم "أن" ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف {لَنْ} المفيد تأييد النفي في المستقبل، وذلك شديد عليه
(11/254)
ولذلك عقب بتسليته بجملة {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن.
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن، أي لا تحزن.
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور. {وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا. قال الله تعالى حكاية عنه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح: 6, 7].
وتأكيد الفعل ب {قَدْ} في قوله: {مَنْ قَدْ آمَنَ} للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقينا دون الذين ترددوا.
[37] {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذنا بأن الله ينتصر له أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد أمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه. كما حكى الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 10, 11] الآية. فجملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} عطف على جملة {فَلا تَبْتَئِسْ} [هود: 36] وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله: {وَوَحْيِنَا} ، ولذلك فنوح - عليه السلام - أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفا للبشر، وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلا الله تعالى، ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها.
والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة [164].
والباء في {بِأَعْيُنِنَا} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير "اصنع".
والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة. وصيغة الجمع في {أَعْيُنِنَا} بمعنى المثنى، أي بعينينا، كما في قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصنع.
(11/255)
والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع.
ودل النهي في قوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} . على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة. وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة. ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح عليه السلام سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألطف.
وجملة {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك. وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام مما يلوح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافا يشبه استشراف السائل عن عين الخبر.
[38] [39] {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
عطف على جملة {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود: 37]. أي أوحي إليه {اصْنَعِ الْفُلْكَ} ، وصنع الفلك. وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحا عليه السلام بصدد العمل، كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9] وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74].
وجملة {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} في موضع الحال من ضمير {يَصْنَعُ}.
و {كُلَّمَا} كلمة مركبة من "كل" و"ما" الظرفية المصدرية. وانتصبت "كل" على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف، وهو متعلق {سَخِرُوا} ، وهو جوابه من جهة أخرى. والمعنى: وسخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه.
و"لما" في "كلما" من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل "إذا" فاحتاجت إلى جواب وهو {سَخِرُوا مِنْهُ} .
وجملة {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} حكاية لما يجيب به سخريتهم، أجريت على طريقة
(11/256)
فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة، لأن جملة {سَخِرُوا} تتضمن أقوالا تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم.
وجمع الضمير في قوله: {مِنَّا} يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذ كانوا حوله واثقين بأنه يعمل عملا عظيما، وكذلك جمعه في قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} .
والسخرية: الاستهزاء. وهو تعجب باحتقار واستحماق. وتقدم عند قوله تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في أول سورة الأنعام [10]، وفعلها يتعدى ب"من".
وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه.
وسخرية نوح - عليه السلام - والمؤمنين. من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته. فالسخريتان مقترنتان في الزمن.
وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله: {كَمَا تَسْخَرُونَ} فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببين بون.
ويجوز أن تجعل كاف التشبيه مفيدة معنى التعليل كالتي في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] فيفيد التفاوت بين السخريتين، لأن السخرية المعللة أحق من الأخرى، فالكفار سخروا من نوح عليه السلام لعمل يجهلون غايته، ونوح عليه السلام وأتباعه سخروا من الكفار لعلمهم بأنهم جاهلون في غرور، كما دل عليه قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فهو تفريع على جملة {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} أي سيظهر من هو الأحق بأن يسخر منه.
وفي إسناد "العلم" إلى ضمير المخاطبين دون الضمير المشارك بأن يقال: فسوف نعلم، إيماء إلى أن المخاطبين هم الأحق بعلم ذلك. وهذا يفيد أدبا شريفا بأن الواثق بأنه على الحق لا يزعزع ثقته مقابلة السفهاء أعماله النافعة بالسخرية، وأن عليه وعلى أتباعه أن يسخروا من الساخرين.
والخزي: الإهانة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في آخر سورة آل عمران [192].
(11/257)
والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، أي من يأتيه عذاب الخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الخالد في الآخرة.
و {مَنْ} استفهامية معلقة لفعل العلم عن العمل، وحلول العذاب: حصوله؛ شبه الحصول بحلول القادم إلى المكان وهو إطلاق شائع حتى ساوى الحقيقة.
[40] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} .
{حَتَّى} غاية ل {يَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا، ف {إِذَا} ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب. وهو جملة: {قُلْنَا احْمِلْ} . وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء. وهو نظم بديع بإيجازه.
و {حَتَّى} ابتدائية.
والأمر هنا يحتمل أمر التكوين بالطوفان، ويحتمل الشأن وهو حادث الغرق، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنه فوق ما يعرفون.
ومجيء الأمر: حصوله.
والفوران: غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة، تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلي، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السلام مثل قوله: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر: 12]. ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور. فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز، فكثرت الأقوال في تفسير التنور بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قوله. ومنها ما له وجه وهو متفاوت.
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته، فجعل الفوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السلام إذ فار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركب الفلك وأركب من معه.
ومنهم من حمل التنور على المجاز المفرد ففسره بسطح الأرض. أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور.
ومنهم من فسره بأعلى الأرض.
(11/258)
ومنهم من حمل {فَارَ} و {التَّنُّورُ} على الحقيقة، وأخرج الكلام مخرج التمثيل لاشتداد الحال، كما يقال: حمي الوطيس. وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون: وأنشد الطبرسي قول الشاعر. وهو النابغة الجعدي:
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثأها عنا إذا قدرها غلى
يريد بالقدر الحرب، ونفثأها، أي نسكنها، يقال: فثأ القدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها. وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين.
والذي يظهر لي أن قوله: {وَفَارَ التَّنُّورُ} مثل لبلوغ الشيء إلى أقصى ما يتحمل مثله. كما يقال: بلغ السيل الزبى، وامتلأ الصاع، وفاضت الكأس وتفاقم.
والتنور: محفل الوادي، أي ضفته، فيكون مثل طما الوادي من قبيل بلغ السيل الزبى. والمعنى: بإن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغا لا يغتفر لهم بعد كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55].
والتنور: اسم لموقد النار للخبز،. وزعمه الليث مما اتفقت فيه اللغات، أي كالصابون والسمور. ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس. وقال أبو منصور: كلام الليث يدجل على أنه في الأصل أعجمي.
والدليل على ذلك أنه فعول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل، وقال غيره: ليس في كلام العرب نون قبل راء فإن نرجس معرب أيضا. وقد عد في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن. ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد. قال أبو علي الفارسي: وزنه فعول. وعن ثعلب أنه عربي، قال: وزنه تفعول من النور "أي فالتاء زايدة" وأصله تنوور بواوين، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف أي مثل قوله تقضى البازي بمعنى تقضض.
وقرأ الجمهور {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} بإضافة {كُلِّ} إلى {زَوْجَيْنِ} .
والزوج: شيء يكون ثانيا لآخر في حالة. وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجا له، وكل منهما زوج للآخر. والمراد ب {زَوْجَيْنِ} هنا الذكر والأنثى من النوع، كما يدل عليه إضافة {كُلِّ} إلى {زَوْجَيْنِ} ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع.
(11/259)
و {مِنْ} تبعيضية، و {اثْنَيْنِ} مفعول: {احْمِلْ} ، وهو بيان لئلا يتوهم أن يحمل كل زوجين واحدا منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين، كما تقدم في قوله تعالى: {ثمانية أزواج} في سورة الأنعام [143]. ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل.
وقرأه حفص: {مِنْ كُلٍّ} بتنوين {كُلٍّ} فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه، أي من كل المخلوقات، ويكون {زَوْجَيْنِ} مفعول {احْمِلْ} ، ويكون {اثْنَيْنِ} صفة ل {زَوْجَيْنِ} أي لا تزد على اثنين.
وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له. وزوجه أول من يبادر من اللفظ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29]، وقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] أي من عند عائشة -رضي الله عنها -.
و {مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي من مضى قول الله عليه، أي وعيده. فالتعريف في {الْقَوْلُ} للعهد، يعني إلا من كان من أهلك كافرا. وما صدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة. وكان لنوح - عليه السلام - امرأتان.
وعدي {سَبَقَ} بحرف {عَلَي} لتضمين {سَبَقَ} معنى: حكم، كما عدي باللام في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] لتضمينه معنى الالتزام النافع.
و {مَنْ آمَنَ} كل المؤمنين.
وجملة: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين. قيل: كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفا وسبعين بين رجال ونساء، فكان معظم حمولة السفينة من الحيوان.
[41] {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
عطف على جملة {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] أي قلنا له ذلك. وقال نوح عليه السلام لمن أمر بحمله {ارْكَبُوا} .
وضمير {فِيهَا} لمفهوم من المقام، أي السفينة كقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ
(11/260)
وَدُسُرٍ} [القمر: 13] أي سفينة.
وعدي فعل {ارْكَبُوا} ب"في" جريا على الفصيح فإنه يقال: ركب الدابة إذا علاها. وأما ركوب الفلك فيعدى ب"في" لأن إطلاق الركوب عليه مجاز، وإنما هو جلوس واستقرار فلا يقال: ركب السفينة، فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له، وهي تفرقة حسنة.
والباء في {بِسْمِ اللَّهِ} للملابسة مثل ما تقدم في تفسير البسملة، وهي في موضع الحال من ضمير {ارْكَبُوا} أي ملابسين لاسم الله، وهي ملابسة القول لقائله، أي قائلين: باسم الله.
و {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بضم الميمين فيهما في قراءة الجمهور. وهما مصدرا أجرى السفينة إذا جعلها جارية، أي سيرها بسرعة، وأرساها إذا جعلها راسية أي واقفة على الشاطئ. يقال: رسا إذا ثبت في المكان.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف "مَجراها " فقط بفتح الميم على أنه مفعل للمصدر أو الزمان أو المكان. وأما {مُرْسَاهَا} - فبضم الميم - مثل الجمهور، لأنه لا يقال: مرساها - بفتح الميم -. والعدول عن الفتح في {مُرْسَاهَا} في كلام العرب مع أنه في القياس مماثل "مَجراها" وجهة دفع اللبس لئلا يلتبس باسم المرسى الذي هو المكان المعد لرسو السفن.
ويجوز أن يكون {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} في محل نصب بالنيابة عن ظرف الزمان، أي وقت إجرائها ووقت إرسائها. ويجوز أن يكون في محل رفع على الفاعلية بالجار والمجرور لما فيه من معنى الفعل، وهو رأي نحاة الكوفة، وما هو ببعيد.
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى، ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعده بنجاتهم، وذلك من غفرانه ورحمته. وأكد ب {إِنَّ} ولام الابتداء تحقيقا لأتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق.
[42] [43] {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ, قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
(11/261)
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}
جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر "مجراها" إتماما للفائدة وصفا لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيسير نجاتهم.
وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم وتحقيقه.
وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
والموج: ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه، وتشبيهه بالجبال في ضخامته. وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأدوية الماء السابق لها، فإن حادث الطوفان ما كان إلا عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها، كما سيأتي.
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
عطفت جملة {وَنَادَى} على أعلق الجمل بها اتصالا وهي {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود: 41] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلهم كانوا مستقرين في جوف السفينة.
وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زوج ثانية لنوح كان اسمها "واعلة" غرقت، وأنها المذكورة في آخر سورة التحريم. قيل كان اسم ابنه "ياما" وقيل اسمه: "كنعان" وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين. وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزبا.
وجملة {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} حال من {ابْنَهُ} . والمعزل: مكان العزلة أي الانفراد، أي في معزل عن المؤمنين إما لأنه كان لم يؤمن بنوح - عليه السلام - فلم يصدق بوقوع الطوفان، وإما لأنه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول.
(11/262)
وجملة: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} بيان لجملة {نَادَى} وهي إرشاد له ورفق به.
وأما جملة {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} فهي معطوفة على جملة {ارْكَبْ مَعَنَا} لإعلامه بأن إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلا أثرا لتكذيبه بوقوع الطوفان. فقول -نوح - عليه السلام - له: {ارْكَبْ مَعَنَا} كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير. وقد زاد ابنه دلالة علة عدم تصديقه بالطوفان قوله متهكما: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} .
و"بني" تصغير "ابن" مضافا إلى ياء المتكلم. وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة. فأصله بنيو، لأن أصل ابن بنو، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقص عن ثلاثة أحرف فعوضوه همزة وصل في أوله، ومهما عادت له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل، ثم لما أريد إضافة المصغر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بنيوي، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنيي بياءين في آخره أولاهما مشددة، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبقاء الكسرة صار {بُنَيَّ} - بكسر الياء - مشددة في قراءة الجمهور. وقرأه عاصم {بُنَيَّ} بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء، وأصله يا بنيي بياءين أولاهما مكسورة مشددة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية.
وفصلت جملة {قَالَ سَآوي} وجملة: {قَالَ لا عَاصِمَ} لوقوعهما في سياق المحاورة.
وقوله: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ} قد كان قبل أن يبلغ الماء أعالي الجبال. و {آوي} : أنزل، ومصدره: الأوي - بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء -.
وجملة {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} إما صفة ل"جبل" أي جبل عال، وإما استئناف بياني، لأنه استشعر أن نوحا عليه السلام يسأل لماذا يأوي إلى جبل إذ ابنه قد سمعه حين ينذر الناس بطوفان عظيم فظن الابن أن أرفع الجبال لا يبلغه الماء، وأن أباه ما أراد إلا بلوغ الماء غالب المرتفعات دون الجبال الشامخات.
ولذلك أجابه نوح - عليه السلام - بأنه {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، أي مأموره
(11/263)
وهو الطوفان {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} .
واستثناء {مَنْ رَحِمَ} من مفعول يتضمنه "عاصم" إذ العاصم يقتضي معصوما وهو المستثنى منه. وأراد ب {مَنْ رَحِمَ} من قدر الله له النجاة من الغرق برحمته. وهذا التقدير مظهره الوحي بصنع الفلك والإرشاد إلى كيفية ركوبه.
والموج: اسم جمع موجة، وهي: مقادير من ماء البحر أو النهر تتصاعد على سطح الماء من اضطراب الماء بسبب شدة رياح، أو تزايد مياه تنصب فيه ويقال: ماج البحر إذا اضطرب ماؤه. وقالوا: ماج القوم، تشبيها لاختلاط الناس واضطرابهم باضطراب البحر.
وحيلولة الموج بينهما في آخر المحاورة يشير إلى سرعة فيضان الماء في حين المحاولة.
وأفاد قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أنه غرق وغرق معه من توعده بالغرق، فهو إيجاز بديع.
[44] {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
لما أقاد قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] وقوع الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمت انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان.
وبناء فعل {قِيلَ} للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول، لأن مثله لا يصدر إلا من الله. والقول هنا أمر التكوين. وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية. فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعية.
والبلع حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم. وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى: بلع الأرض ماءها دخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل، وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفا انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض.
(11/264)
وإضافة {الْمَاءُ} إلى "الأرض" لأدنى ملابسة لكونه على وجهها.
وإقلاع السماء مستعار لكف نزول المطر منها لأنه إذا كف نزول المطر لم يخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدم الأمر بالبلع لأنه السبب الأعظم لغيض الماء.
وفي قران الأرض والسماء محسن الطباق، وفي مقابلة "ابلعي" ب {أَقْلِعِي} محسن الجناس.
{وَغِيضَ الْمَاءُ} مغن عن التعرض إلى كون السماء أقلعت والأرض بلعت، وبني فعل {غِيضَ الْمَاءُ} للنائب لمثل ما بني فعل {وَقِيلَ} باعتبار سبب الغيض، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله مسبب عن سبب والغيض: نضوبه في الأرض. والمراد: الماء الذي نشأ بالطوفان زائدا على بحار الأرض وأوديتها. وقضاء الأمر: إتمامه. وبناء الفعل للنائب للعلم بأن فاعله ليس غير الله تعالى.
والاستواء: الاستقرار.
والجودي: اسم جبل بين العراق وأرمينا، يقال له اليوم أراراط . وحكمة إرسائها على جبل أن جانب الجبل أمكن لاستقرار السفينة عند نزول الراكبين لأنها تخف عند ما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى جانب الجبل.
و {بُعْداً} مصدر "بعد" على مثال كرم وفرح، منصوب على المفعولية المطلقة. وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه، كالمدح والذم مثل: تبا له، وسحقا، وسقيا، ورعيا، وشكرا. والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء، فلذلك يقال: بعد أو نحوه لمن فقد، إذا كان مكروها كما هنا. ويقال نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد، فيقال للميت العزيز كما قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
وقالت فاطمة بنت الأحجم:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
والأكثر أن يقال: "بعِد" بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت، و {بعُد} المضموم العين في البعد الحقيقي.
والقوم الظالمون هم الذين كفروا فغرقوا. والقائل: "بعداً" قد يكون من قول الله جريا
(11/265)
على طريقة قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} ، ويجوز أن يقوله المؤمنون تحقيرا للكفار وتشفيا منهم واستراحة، فبني فعل {وَقِيلَ} إلى المجهول لعدم الحاجة إلى معرفة قائله.
قال في "الكشاف" بعد أن ذكر نكتا مما أتينا على أكثره "ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين {ابْلَعِي} و {أَقْلِعِي} وإن كان لا يخلي الكلام من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور"اهـ.
وقد تصدى السكاكي في "المفتاح" في بحث البلاغة والفصاحة لبيان بعض خصائص البلاغة في هذه الآية، تقفية على الكلام "الكشاف" فيما نرى فقال:
"والنظر في هذه الآية من أربع جهات، من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني...1 ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية. أما النظر فيها من جهة علم البيان... فنقول: إنه عز وجل لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها.. وأن نقطع طوفان السماء.. وأن نغيض الماء.. وأن نقضي أمر نوح - عليه السلام - وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه.. وأن نسوي السفينة على الجودي.. وأبقينا الظلمة غرقى بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور... وتشبيه تكوين المراد بالأمر.. وأن السماوات والأرض... تابعة لإرادته... كأنها عقلاء مميزون... ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا {قِيلَ} على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد...فقال: {يا أَرْضُ - ويَا سَمَاءُ} ... ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع.. للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات... تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظه (ابلعي)... ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء، ثم قال: {مَاءَكِ} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا: {أَقْلِعِي} لمثل ما تقدم في {ابْلَعِي} ، ثم قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ
ـــــــ
(1) النكت مواضع كلام اختصرناه.
(11/266)
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}. {وقيل بُعْدًا} فلم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال: {بُعْدًا} ، كما لم يصرح بقائل: {يَا أَرْضُ} و {يَا سَمَاءُ} في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: {يَا أَرْضُ} و {يَا سَمَاءُ} ، ولا غائضا ما غاض، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنما كانت لظلمهم.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في إفادة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، لذلك أنه اختير {يَا} دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة.. وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به...
واختير {ابْلَعِي} على ابتلعي لكونه أخصر، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين {أَقْلِعِي} أوفر. وقيل: {مَاءَكِ} بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت.. وإنما لم يقل: {ابْلَعِي} بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام ولأ رود امر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.
ثم إذ بين المراد اختصر الكلام مع {أَقْلِعِي} احترازا عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت.. وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا عليه السلام من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
ثم قيل: {بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار وهو نزول {بُعْداً} منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى وهي استعمال اللام مع "بعدا" الدال على معنى أن البعد يحق لهم.
ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على
(11/267)
فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قد قدم النداء على الأمر، فقيل: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} دون أن يقال: ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} لاتصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها؛ ألا ترى أصل الكلام: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي أنجز الموعود.. ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، ثم ختمت القصة بما ختمت ...وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد. ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها .
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات...". هذه نهاية كلام المفتاح.
[45] [46- 47] {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
موقع الآية يقتضي أن نداء نوح عليه السلام هذا كان بعد استواء السفينة على الجودي نداء دعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدنيا، لأن الله أعلمه أنه لا نجاة إلا للذين يركبون السفينة، ولأن نوحا - عليه السلام - لما دعا ابنه إلى ركوب السفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنه لا وسيلة إلى نجاته فكيف
(11/268)
يسألها من الله فتعين أنه سأل له المغفرة ويدل لذلك قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كما سيأتي.
ويجوز أن يكون دعاء نوح - عليه السلام - هذا وقع قبل غرق الناس، أي نادى ربه أن ينجي ابنه من الغرق.
ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا، أي نادى ربه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة.
والنداء هنا نداء دعاء فكأنه قيل: ودعا نوح ربه، لأن الدعاء يصدر بالنداء غالبا، والتعبير عن الجلالة بوصف الرب مضافا إلى نوح - عليه السلام - تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهي عتاب.
وجملة {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} بيان للنداء، ومقتضى الظاهر أن لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 3, 4]، وخولف ذلك هنا. ووجه في "الكشاف" اقترانه بالفاء بأن فعل {نَادَى} مستعمل في إرادة النداء، أي مثل فعل "قمتم" في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإن وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل {نَادَى} مستعار لمعنى إرادة النداء، أي أراد نداء ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء، وهذا إشارة الى أنه أراد النداء فتردد في الإقدام عليه لما علم من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فلم يطل تردده لما غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه، ولذلك قدم الاعتذار بقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} . فقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنه يريد أن يسأل سؤالا لا يدري قبوله ولكنه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه. وتأكيد الخبر ب {إِنَّ} للاهتمام به.
وكذلك جملة {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أنه يعلم أن وعد الله حق.
والمراد بالوعد ما في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 37] إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنه لا يركب السفينة. وهذا الموصول متعين لكونه صادقا على ابنه إذ ليس غيره من أهله
(11/269)
طلب منه ركوب السفينة وأبى، وأن من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم، أي كافر، وأنه مغرق، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر. فالمعنى: أن نوحا - عليه السلام - لا يجهل أن ابنه كافر، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر، ولكنه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه.
وقرينة ذلك كله قوله: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} المفيد أنه لا راد لما حكم به وقضاه، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه، ولكنه مقام تضرع وسؤال ما ليس بمحال.
وقد كان نوح - عليه السلام - غير منهي عن ذلك، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين، فكان حال نوح عليه السلام كحال النبيء صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قبل أن ينزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية.
والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنه يقول: أسألك أم أترك، كقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك أن شيمتك الحياء
ومعنى {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أشدهم حكما. واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل، فيفيد أن حكمه لا يجوز وأنه لا يبطله أحد.
ومعنى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده، فليس ذلك إبطالا لقول نوح - عليه السلام -: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال.
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56].
(11/270)
وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته.
وجملة {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} تعليل لمضمون جملة {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ف"إن" فيه لمجرد الاهتمام.
و {عَمَلٌ} في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع {غَيْرُ} على أنه صفة "عمل". وقرأه الكسائي، ويعقوب {عَمِلَ} بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب {غَيْرَ} على المفعولية لفعل "عمل". ومعنى العمل غير الصالح الكفر، وأطلق على الكفر "عمل" لأنه عمل القلب، ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان.
وتفرع على ذلك نهيه أن يسأل ما ليس له به علم نهي عتاب، لأنه لما قيل له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح، سقط ما مهد به إجابة سؤاله، فكان حقيقا بأن لا يسأله وأن يتدبر ما أراد أن يسأله من الله.
وقرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر "فلا تسألنّي" - بتشديد النون - وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا. وأثبت ياء المتكلم من عدا ابن كثير من هؤلاء. أما ابن كثير فقرأ "فلا تسألن" - بنون مشددة مفتوحة -. وقرأه أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف "فلا تسألن" - بسكون اللام وكسر النون مخففة - على أنه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى الى ياء المتكلم.
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل. وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو.
ثم إن كان نوح - عليه السلام - لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم، نهي تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤلا لا يعلم إجابته. وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وقوله: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38]، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل، كما دل عليه قوله: {وإن وعدك الحق} . وكان سؤاله المغفرة لابنه طلبا تخصيصه من العموم. وكان نهيه نهي لوم وعتاب حيث لم يتبين من ربه جواز ذلك.
وكان قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} محتملا لظاهره، ومحتملا لأن يكون كناية عن العلم بضده، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع.
(11/271)
ثم إن كان قول نوح - عليه السلام -: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} إلى آخره تعريضا بالمسؤول كان النهي في قوله: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} نهيا عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله؛ وإن كان قول نوح - عليه السلام - مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِ} نهيا عن الإفضاء بالسؤال الذي مهد له بكلامه. والمقصود من النهي تنزيهه عن تعريض سؤاله للرد.
وعلى كل الوجوه فقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} موعظة على ترك التثبت قبل الإقدام.
والجهل فيه ضد العلم، وهو المناسب لمقابلته بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
فأجاب نوح عليه السلام كلام ربه بما يدل على التنصل مما سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم، فإن كان نوح - عليه السلام - أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل؛ وإن كان إنما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال.
وقوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة.
وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح عليه السلام سؤالا لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وعرة متنائية، ولقوا عناء في الاتصال بينها، والآية بمعزل عنها، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها.
[48] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح - عليه السلام - وربه، فإن نوحا عليه السلام لما أجاب بقوله: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] إلى آخره خاطبه ربه إتماما للمحاورة بما يسكن جأشه.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: قال يا نوح اهبط، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ
(11/272)
ابْلَعِي} ... وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: 44] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة.
ونداء نوح - عليه السلام - للتنويه به بين الملأ.
والهبوط: النزول. وتقدم في قوله: {اهْبِطُوا مِصْراً} في سورة البقرة[61]. والمراد: النزول من السفينة لأنها كانت أعلى من الأرض.
والسلام: التحية، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضا، يقولون: اذهب بسلام، ومنه قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وخطابه بالسلام حينئذ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلا له النجاة، كما قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13, 14].
وأصل السلام السلامة، فاستعمل عند اللقاء إيذانا بتأمين المرء ملاقيه وأنه لا يضمر له سوءا، ثم شاع فصار قولا عند اللقاء للإكرام. وبذلك نهى النبيء صلى الله عليه وسلم الذين قالوا: السلام على الله، فقوله هنا: {اهْبِطْ بِسَلامٍ} نظير قوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب"آمنين". ولو كان السلام مرادا به السلامة لكان التقييد ب"آمنين" توكيدا وهو خلاف الأصل.
و {مِنَّا} تأكيد لتوجيه السلام إليه لأن "من" ابتدائية، فالمعنى: بسلام ناشئ من عندنا، كقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]. وذلك كثير في كلامهم. وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشد مبالغة من الذي لا تذكر معه "من".
والباء للمصاحبة، أي اهبط مصحوبا بسلام منا. ومصاحبة السلام الذي هو التحية مصاحبة مجازية.
والبركات: الخيرات النامية، واحدتها بركة، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء.
ولما كان الداعون بلفظ التحية إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح - عليه السلام - ومن معه، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم.
(11/273)
و"عليك" يتعلق "بسلام" و"بركات" وكذلك {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} .
والأمم: جمع أمة. والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس التي يجمعها نسب إلى جد واحد. يقال: أمة العرب، أو لغة مثل أمة الترك، أو موطن مثل أمة أمريكا، أو دين مثل الأمة الإسلامية، ف {أُمَمٍ} دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السلام. وليس الذين ركبوا في السفينة أمما لقلة عددهم لقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. وتنكير {أُمَمٍ} لأنه لم يقصد به التعميم تمهيدا لقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} .
و"مِن" في {مِمَّنْ مَعَكَ} ابتدائية، و"مَن" الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة. ومنهم ابناؤه الثلاثة. فالكلام بشارة لنوح - عليه السلام - ومن معه بأن الله يجعل منهم أمما كثيرة يكونون محل كرامته وبركاته. وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمما بخلاف ذلك، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحا بالسلام والبركات وشرك معه فيهما أمما ناشئين ممن هم معه، وفيهم الناشئون من نوح - عليه السلام - لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده. فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عنون عنهم بوصف معية نوح - عليه السلام - تنبيها على سبب كرامتهم. وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح - عليه السلام -، فحصل تنويه نوح - عليه السلام - وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع.
وجملة {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} إلخ، عطف على جملة: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} إلى آخرها، وهي استئناف بياني لأنها تبيين لما أفاده التنكير في قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} من الاحتراز عن أمم آخرين. وهذه الواو تسمى استئنافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم، والمقصود: تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذرية نوح ولم يتبعوا سبيل جدهم، فأشعروا بأنهم من الأمم التي أنبأ الله نوحا بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم. ونظير هذا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة.
وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
(11/274)
فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} في الأنعام[17].
وذكر {مِنَّا} مع {يَمَسُّهُمْ} لمقابلة قوله في ضده {بِسَلامٍ مِنَّا} ليعلموا أن ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببات العادية على أسبابها، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألسنة الرسل، فإن الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها. ومثاله ما هنا فقد بين لهم على لسان نوح عليه السلام أنه يمتع أمما ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون.
[49] {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
استئناف أريد منه الامتنان على النبيء - صلى الله عليه وسلم - والموعظة والتسلية.
فالامتنان من قوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} .
والموعظة من قوله: {فَاصْبِرْ} إلخ.
والتسلية من قوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
والإشارة ب {تِلْكَ} إلى ما تقدم من خبر نوح عليه السلام، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر. وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم. فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبي يقال له: نوح عليه السلام أصاب قومه طوفان، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدعوا علمه. على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أباه وإصابته بالغرق، ومثل كلام الرب مع نوح - عليه السلام - عند هبوطه من السفينة، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك، وما دار بين نوح - عليه السلام - وقومه من المحاورة، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب.
(11/275)
وجملة {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ - و نُوحِيهَا - و مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} أخبار عن اسم الإشارة، أو بعضها خبر وبعضها حال. وضمير {أَنْتَ} تصريح بالضمير المستتر في قوله: {تَعْلَمُهَا} لتصحيح العطف عليه.
وعطف {وَلا قَوْمُكَ} من الترقي، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيرا مما أوحي إليه من هذه القصة.
والإشارة بقوله: {مِنْ قَبْلِ هَذَا} إما إلى القرآن، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها، وإما إلى {تِلْكَ} بتأويل النبأ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيها بالالتفات.
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حالة مع قومه على حال نوح عليه السلام مع قومه، فكما صبر نوح عليه السلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح - عليه السلام - مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر.
وجملة {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} علة للصبر المأمور به، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين، فستكون لك وللمؤمنين معك.
والعاقبة: الحالة التي تعقب حالة أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
والتعريف في {الْعَاقِبَةُ} للجنس.
واللام في {لِلْمُتَّقِينَ} للاختصاص والملك، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم.
[50- 52] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} .
عطف على {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]، فعطف {وَإِلَى عَادٍ} على {إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]. وعطف {أَخَاهُمْ} على {نُوحاً} [هود: 25]، والتقدير: وأرسلنا إلى
(11/276)
عاد أخاهم هودا. وهو من العطف على معمولي عامل واحد.
وتقديم المجرور للتنبيه على أن العطف من عطف المفردات لا من عطف الجمل لأن الجار لا بد له من متعلق، وقضاء لحق الإيجاز ليحضر ذكر عاد مرتين بلفظه ثم بضميره.
ووصف "هود" بأنه أخو عاد لأنه كان من نسبهم كما يقال: يا أخا العرب، أي يا عربي.
وتقدم ذكر عاد وهود في سورة الأعراف.
وجملة {قَالَ} مبينة للجملة المقدرة وهي {أَرْسَلْنَا} [هود: 25].
ووجه التصريح بفعل القول لأن فعل "أرسلنا" محذوف، فلو بين بجملة {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا} كما بين في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} لكان بيانا لمعدوم وهو غير جلي.
وافتتاح دعوته بنداء قومه لاسترعاء أسماعهم إشارة إلى أهمية ما سيلقى إليهم.
وجملة: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} حال من ضمير {اعْبُدُوا} أو من اسم الجلالة. والإتيان بالحال لاستقصاد إبطال شركهم بأنهم أشركوا غيره في عبادته في حال أنهم لا إله لهم غيره، أو في حال أنه لا إله لهم غيره. وذلك تشنيع للشرك.
وجملة: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} توبيخ وإنكار. فهي بيان لجملة {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء إلهية غير الله تعالى.
وجملة {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} إن كان قالها مع الجملة التي قبلها فإعادة النداء في أثناء الكلام تكرير للأهمية يقصد به تهويل الأمر واسترعاء السمع اهتماما بما يستسمعونه، والنداء هو الرابط بين الجملتين؛ وإن كانت مقولة في وقت غير الذي قيلت فيه الجملة الأولى، فكونها ابتداء كلام ظاهر.
وتقدم تفسير {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} في قصة نوح عليه السلام، أي لا أسألكم أجرا على ما قلته لكم.
والتعبير بالموصول {الَّذِي فَطَرَنِي} دون الاسم العلم لزيادة تحقيق أنه لا يسألهم على الإرشاد أجرا بأنه يعلم أن الذي خلقه يسوق إليه رزقه، لأن إظهار المتكلم علمه
(11/277)
بالأسباب يكسب كلامه على المسببات قوة وتحقيقا.
ولذلك عطف على ذلك قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بفاء التفريع عاطفة استفهاما إنكاريا عن عدم تعقلهم، أي تأملهم في دلالة حاله على صدقه فيما يبلغ ونصحه لهم فيما يأمرهم. والعقل: العلم.
وعطف جملة {وَيَا قَوْمِ} مثل نظيرها في قصة نوح - عليه السلام - آنفا.
والاستغفار: طلب المغفرة للذنب، أي طلب عدم المؤاخذة بما مضى منهم من الشرك، وهو هنا مكنى به عن ترك عقيدة الشرك لأن استغفار الله يستلزم الاعتراف بوجوده ويستلزم اعتراف المستغفر بذنب في جانبه ولم يكن لهم ذنب قبل مجيء هود عليه السلام إليهم غير ذنب الإشراك إذ لم يكن له شرع من قبل. وأما ذنب الإشراك فهو متقرر من الشرائع السابقة جميعها فكان معلوما بالضرورة فكان الأمر بالاستغفار جامعا لجميع هذه المعاني تصريحا وتكنية.
والتوبة: الإقلاع عن الذنب في المستقبل والندم على ما سلف منه. وفي ماهية التوبة العزم على عدم العود إلى الذنب فيؤول إلى الأمر بالدوام على التوحيد ونفي الإشراك.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، لأن الدوام على الإقلاع أهم من طلب العفو عما سلف.
و {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ} جواب الأمر من {اسْتَغْفِرُوا} .
والإرسال: بعث من مكان بعيد فأطلق الإرسال على نزول المطر لأنه حاصل بتقدير الله فشبه بإرسال شيء من مكان المرسل إلى المبعوث إليه.
والسماء من أسماء المطر تسمية للشيء باسم مصدره. وفي الحديث "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثر سماء" .
و {مِدْرَاراً} حال من السماء صيغة مبالغة من الدرور وهو الصب، أي غزيرا. جعل جزاءهم على الاستغفار والتوبة إمدادهم بالمطر لأن ذلك من أعظم النعم عليهم في الدنيا إذ كانت عاد أهل زرع وكروم فكانوا بحاجة إلى الماء، وكانوا يجعلون السداد لخزن الماء. والأظهر أن الله أمسك عنهم المطر سنين فتناقص نسلهم ورزقهم جزاء على الشرك بعد أن أرسل إليهم هودا - عليه السلام -؛ فيكون قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ} وعدا وتنبيها على غضب الله عليهم، وقد كانت ديارهم من حضرموت إلى الأحقاف مدنا وحللا وقبابا.
(11/278)
وكانوا أيضا معجبين بقوة أمتهم وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فلذلك جعل الله لهم جزاء على ترك الشرك زيادة قوتهم بكثرة العدد وصحة الأجسام وسعة الأرزاق، لأن كل ذلك قوة للأمة يجعلها في غنى عن الأمم الأخرى وقادرة على حفظ استقلالها ويجعل أمما كثيرة تحتاج إليها.
و {إِلَى قُوَّتِكُمْ} متعلق ب {يَزِدْكُمْ} . وإنما عدي ب {إِلَى} لتضمينه معنى يضم. وهذا وعد لهم بصلاح الحال في الدنيا - رضي الله عنهم -.
وعطف عليه {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} تحذيرا من الرجوع إلى الشرك.
والتولي: الانصراف. وهو هنا مجاز عن الإعراض.
و {مُجْرِمِينَ} حال من ضمير {تَتَوَلَّوْا} أي متصفين بالإجرام، وهو الإعراض عن قبول أمر الله تعالى.
[53-56] {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
محاورة منهم لهود - عليه السلام - بجواب عن دعوته، ولذلك جردت الجملة عن العاطف.
وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه، فهو مستعمل في معناه الكنائي أيضا. وقد يكون مرادا منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية، أو استعمال النداء في حقيقته ومجازه.
وقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليه السلام. ولعل آيته أنه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم، كما يشير إليه
(11/279)
قوله تعالى: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر" الحديث.
وإنما أرادوا أن البينات التي جاءهم بها هود عليه السلام لم تكن طبقا لمقترحاتهم. وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا: { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} . ولم يجعلوا {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي} مفرعا على قولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} .
و {عن} في {عَنْ قَوْلِكَ} للمجاوزة، أي لا نتركها تركا صادرا عن قولك، كقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم.
وجملة: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} استئناف بياني لأن قولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} من شأنه أن يثير للسامع ومن معه في أنفسهم أن يقولوا إن لم تؤمنوا بما جاء به أنه من عند الله فماذا تعدون دعوته فيكم، أي نقول إنك ممسوس من بعض آلهتنا، وجعلوا ذلك من فعل بعض الآلهة تهديدا للناس بأنه لو تصدى له جميع الآلهة لدكوه دكا.
والاعتراء: النزول والإصابة. والباء للملابسة، أي أصابك بسوء. ولا شك أنهم يعنون أن آلهتهم أصابته بمس من قبل أن يقوم بدعوة رفض عبادتها لسبب آخر، وهو كلام غير جار على انتظام الحجة، لأنه كلام ملفق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين، فجعلوه مجنونا وجعلوا سبب جنونه مسا من آلهتهم، ولم يتفطنوا إلى دخل كلامهم وهو أن الآلهة كيف تكون سببا في إثارة ثائر عليها.
والقول مستعمل في المقول اللساني، وهو يقتضي اعتقادهم ما يقولونه.
{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
لما جاءوا في كلامهم برفض ما دعاهم إليه وبجحد آياته وبتصميمهم على ملازمة عبادة أصنامهم وبالتنويه بتصرف آلهتهم أجابهم هود عليه السلام بأنه يشهد الله عليهم أنه أبلغهم وأنهم كابروا وجحدوا آياته.
وجملة {أُشْهِدُ اللَّهَ} إنشاء لإشهاد الله بصيغة الإخبار لأن كل إنشاء لا يظهر أثره في
(11/280)
الخلق من شأنه أن يقع بصيغة الخبر لما في الخبر من قصد إعلام السامع بما يضمره المتكلم، ولذلك كان معنى صيغ العقود إنشاء بلفظ الخبر. ثم حملهم شهادة له بأنه بريء من شركائهم مبادرة بإنكار المنكر وإن كان ذلك قد أتوا به استطرادا، فلذلك كان تعرضه لإبطاله كالاعتراض بين جملة {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ } وجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [هود: 57] بناء على أن جملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} إلى آخرها من كلام هود - عليه السلام -، وسيأتي. ومعنى إشهاده فيراد من شركائهم تحقيق ذلك وأنه لا يتردد على أمر جازم قد أوجبه المشهود عليه على نفسه. وأتى في إشهادهم بصيغة الأمر لأنه أراد مزاجة إنشاء الإشهاد دون رائحة معنى الإخبار.
و"ما" في قوله: {مِمَّا تُشْرِكُونَ} موصولة. والعائد محذوف. والتقدير: مما يشركونه.
وما صدق الموصول الأصنام، كما دل عليه ضمير الجمع المؤكد في قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} . ولما كانت البراءة من الشركاء تقتضي اعتقاد عجزها عن إلحاق إضرار به فرع على البراءة جملة: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} . وجعل الخطاب لقومه لئلا يكون خطابه لما لا يعقل ولا يسمع، فأمر قومه بأن يكيدوه. وأدخل في ضمير الكائدين أصنامهم مجاراة لاعتقادهم واستقصاء لتعجيزهم، أي أنتم وأصنامكم، كما دل عليه التفريع على البراءة من أصنامهم.
والأمر ب"كيدوني" مستعمل في الإباحة كناية عن التعجيز بالنسبة للأصنام وبالنسبة لقومه، كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39]. وهذا إبطال لقولهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي؛ تحداهم بأن يكيدوه ثم ارتقى في رتبة التعجيز والاحتقار فنهاهم عن التأخير بكيدهم إياه، وذلك نهاية الاستخفاف بأصنامهم وبهم وكناية عن كونهم لا يصلون إلى ذلك.
وجملة {إِنِّي تَوَكَّلْتُ} تعليل لمضمون {فَكِيدُونِي} وهو التعجيز والاحتقار. يعني: أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله. فهذا معنى ديني قديم.
وأجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالا على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه، لأنه مالكهم جميعا يدفع ظلم بعضهم بعضا.
وجملة {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} في محل صفة لاسم الجلالة، أو حال
(11/281)
منه، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية.
والأخذ: الإمساك.
والناصية: ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس. والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكن، تشبيها بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتا. وإنما كان تمثيلا لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم {مَا مِنْ دَابَّةٍ} ، ولكنه لما صار مثلا صار بمنزلة: ما من دابة إلا هو متصرف فيها. ومن بديع هذا المثل أنه أشد اختصاصا بالنوع المقصود من بين عموم الدواب، وهو نوع الإنسان. والمقصود من ذلك المالك القاهر لجميع ما يدب على الأرض، فكونه مالك للكل يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهرا لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم.
وجملة {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تعليل لجملة {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} ، أي توكلت عليه لأنه أهل لتوكلي عليه، لأنه متصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} مستعارة للتمكن المعنوي، وهو الاتصاف الراسخ الذي لا يتغير.
والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأن العدل يشبه بالاستقامة والسواء. قال تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43]. فلا جرم لا يسلم المتوكل عليه للظالمين.
[57] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} .
تفريع على جملة {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [هود: 54]. وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأن مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} بناء على أن هذا من كلام هود - عليه السلام -.
وعلى هذا الوجه يكون أصل {تَوَلَّوْا} تتولوا فحذفت إحدى التاءين اختصارا، فهو مضارع، وهو خطاب هود عليه السلام لقومه، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة.
(11/282)
ويجوز أن تكون فعلا ماضيا، والواو لأهل مكة فيكون كالاعتراض في أجزاء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصة نوح عليه السلام بقوله: [ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} هود: 35] الآية. خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم: {قَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} . والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم مقول قول مأمور به محذوف يدل عليه السياق. والتقدير: فقل قد أبلغتكم. وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجه المحتمل معنيين غير متخالفين، وهو من بديع أساليب الإعجاز، ولأجله جاء فعل: {تَوَلَّوْا} بتاء واحدة بخلاف ما في قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38].
والتولي: الإعراض. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ، في سورة النساء [80].
وجعل جواب شرط التولي قوله: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} مع أن الإبلاغ سابق على التولي المجعول شرطا لأن المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ، وهو انتفاء تبعة توليهم عنه وبراءته من جرمهم لأنه أدى ما وجب عليه من الإبلاغ، فإن كان من كلام هود عليه السلام ف{مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} هو ما تقدم، وإن كان من كلام النبيء صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصة قوم هود - عليه السلام -.
وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولي عليهم ونزول العقاب بهم، ولذلك عطف {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وارتفاع {يَسْتَخْلِفُ} في قراءة الكافة لأنه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم. وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصودا بذاته لا تبعا للجواب، فبذلك يكون مقصودا به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال.
وكذلك جملة: {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} والمراد لا تضرون الله بتوليكم شيئا. و {شَيْئاً} مصدر مؤكد لفعل {تَضُرُّونَهُ} المنفي.
وتنكيره للتقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالبا. والمقصود من التأكيد التنصيص على العموم بنفي الضر لأنه نكرة في حيز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو
(11/283)
أعظم الضر، ولا تضرونه أقل ضر؛ فإن المعروف في المقارعات والخصومات أن الغالب المضر بعدوه لا يخلو من أن يلحقه بعض الضر من جراء المقارعة والمحاربة.
وجملة {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} تعليل لجملة {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} فموقع {إِنَّ} فيها موقع فاء التفريع.
والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ في حيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر.
[58] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
استعمال الماضي في قوله: {جَاءَ أَمْرُنَا} بمعنى اقتراب المجيء لأن الإنجاء كان قبل حلول العذاب.
والأمر أطلق على أثر الأمر، وهو ما أمر الله به أمر تكوين، أي لما اقترب مجيء أثر أمرنا، وهو العذاب، أي الربح العظيم.
ومتعلق {نَجَّيْنَا} الأول محذوف، أي من العذاب الدال عليه قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} . وكيفية إنجاء هود - عليه السلام - ومن معه تقدم ذكرها في تفسير سورة الأعراف.
والباء في {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} للسببية، فكانت رحمة الله بهم سببا في نجاتهم. والمراد بالرحمة فضل الله عليهم لأنه لو لم يرحمهم لشملهم الاستئصال فكان نقمة للكافرين وبلوى للمؤمنين.
وجملة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} معطوفة على جملة {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} . والتقدير وأيضا نجيناهم من عذاب شديد وهو الإنجاء من عذاب الآخرة وهو العذاب الغليظ. ففي هذا منة ثانية على إنجاء ثان، أي نجيناهم من عذاب الدنيا برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ في الآخرة، ولذلك عطف فعل {نَجَّيْنَاهُمْ} على {نَجَّيْنَا} ، وهذان الإنجاءان يقابلان جمع العذابين لعاد في قوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60]. وقد ذكر هنا متعلق الإنجاء وحذف السبب عكس ما في الجملة الأولى لظهور أن الإنجاء من عذاب الآخرة كان بسبب الإيمان وطاعة الله كما دل عليه مقابلته بقوله: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود: 59].
(11/284)
والغليظ حقيقته: الخشن ضد الرقيق، وهو مستعار للشديد. واستعمل الماضي في {وَنَجَّيْنَاهُمْ} في معنى المستقبل لتحقق الوعد بوقوعه.
[59- 60] {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} .
الإشارة ب {تِلْكَ} إلى حاضر في الذهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنه حاضر في الحس والمشاهدة. كقوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] وكقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، وهو أيضا مثله في أن الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدمة.
وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمة.
و {عَادٌ} بيان من اسم الإشارة.
وجملة {جَحَدُوا} خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} لزيادة تسجيل التمهيد بالأجرام السابقة، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدم، لأن جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم.
والجحد: الإنكار الشديد، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدل على أن هودا أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي {جَحَدُوا} بالباء مع أنه متعد بنفسه لتأكيد التعدية، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل: جحدوا آيات ربهم وكفروا بها، كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وجمع الرسل في قوله: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} وإنما عصوا رسولا واحدا، وهو هود عليه السلام لأن المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هودا لم يكن خاصا بشخصه لأنهم قالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123].
ومعنى اتباع الآمر: طاعة ما يأمرهم به، فالاتباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع،
(11/285)
لأن الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق، والممتثل يشبه المتبع للسائر.
والجبار: المتكبر. والعنيد: مبالغة في المعاندة، يقال: عند مثلث النون إذا طغى، ومن كان خلقه التجبر، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلا إلى باطل، فدل اتباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم.
و {كُلِّ} من صيغ العموم، فإن أريد كل جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي، وإن أريد جنس الجبابرة ف {كُلِّ} مستعملة في الكثرة كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي
ومنه قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج [27].
وإتباع اللعنة إياهم مستعار لإصابتها إياهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. ومما يزيد هذه الاستعارة حسنا ما فيها من المشاكلة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنهم اتبعوا الملعونين فأتبعوا باللعنة.
وبني فعل {أُتْبِعُوا} للمجهول إذ لا غرض في بيان الفاعل، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أن إتباعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنها تبعتهم عقابا من الله لا مجرد مصادفة.
واللعنة: الطرد بإهانة وتحقير.
وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنسبة إلى لعنة الآخرة، كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
أومأ إلى أنه لا يكترث بالموت ولا يهابه.
وجملة {أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لتهويل الخبر ومؤكدة بحرف {إن} لإفادة التعليل بجملة {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } تعريضا بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عادا.
وعدي {كَفَرُوا رَبَّهُمْ} بدون حرف الجر لتضمينه معنى عصوا في مقابلة {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، أو لأن المراد تقدير مضاف، أي نعمة ربهم لأن مادة الكفر لا تتعدى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي.
(11/286)
وجملة {أَلا بُعْداً لِعَادٍ} ابتدائية لإنشاء ذم لهم. وتقدم الكلام على {بُعْداً} عند قوله في قصة نوح - عليه السلام -: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
و {قَوْمِ هُودٍ} بيان ل"عاد" أو وصف ل"عاد" باعتبار ما في لفظ {قَوْمِ} من معنى الوصفية. وفائدة ذكره الإيماء إلى أن له أثرا في الذم بإعراضهم عن طاعة رسولهم، فيكون تعريضا بالمشركين من العرب، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرم كما جوزه صاحب "الكشاف" لأنه لا يعرف في العرب عاد غير قوم هود وهم إرم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6, 7].
[61] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} .
قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} الكلام فيه كالذي في قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [هود: 50] الخ.
وذكر ثمود وصالح - عليه السلام - تقدم في سورة الأعراف.
وثمود اسم جد سميت به القبيلة، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة.
وجملة {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} في موضع التعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدعون لأصنامهم خلقا ولا رزقا، فلذلك كانت الحجة عليهم ناهضة واضحة.
والإنشاء: الإيجاد والإحداث، وتقدم في قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} في الأنعام [6].
وجعل الخبرين عن الضمير فعلين دون: هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القصر، أي لم ينشئكم من الأرض إلا هو ولم يستعمركم فيها غيره.
والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأن إنشاءه إنشاء لنسله، وإنما ذكر تعلق خلقهم بالأرض لأنهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال في سورة الشعراء [146 - 148]: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} ولأنهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتا ويبنون في الأرض قصورا، كما قال في الآية الأخرى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [الأعراف: 74]،
(11/287)
فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيدت نعمة الخلق بأنها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} .
والاستعمار: الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأن ذلك يعد تعميرا للأرض حتى سمي الحرث عمارة لأن المقصود منه عمر الأرض.
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتوبة إليه، أي طلب مغفرة إجرامهم، والإقلاع عما لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التعليل، وجعلت علة أيضا للأمر بالاستغفار والتوبة بطريق التفريع.
وعطف الأمر بالتوبة بحرف التراخي للوجه المتقدم في قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 51] في الآية المتقدمة.
وجملة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} استئناف بياني كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم مما يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأن الله قريب مجيب، وبذلك ظهر أن الجملة ليست بتعليل. وحرف {إِنَّ} فيها للتأكيد تنزيلا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشك في قبول استغفاره.
والقرب: هنا مستعار للرأفة والإكرام، لأن البعد يستعار للجفاء والإعراض. قال جبير بن الأضبط.
تباعد عني مطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
فكذلك يستعار ضده لضده. وتقدم في قوله: {إِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} في سورة البقرة [186]. والمجيب هنا: مجيب الدعاء، وهو الاستغفار. وإجابة الدعاء: إعطاء السائل مسؤوله.
[62] {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة الملأى إرشادا وهديا. وهو جواب ملئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة.
(11/288)
وافتتاح الكلام بالنداء لقصد التوبيخ أو الملام والتنبيه، كما تقدم في قوله: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53]. وقرينة التوبيخ هنا أظهر، وهي قولهم: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} فإنه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف.
و {قَدْ} لتأكيد الخبر.
وحذف متعلق {مَرْجُوّاً} لدلالة فعل الرجاء على أنه ترقب الخير، أي مرجوا للخير. أي والآن وقع اليأس من خيرك. وهذا يفهم منه أنهم يعدون ما دعاهم إليه شرا، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنه بعث فيهم وهو شاب "كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف" أي كنت مرجوا لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم.
والإشارة في {قَبْلَ هَذَا} إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.
وجملة {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} بيان لجملة {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} باعتبار دلالتها على التعنيف، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبينه أيضا جملة {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} .
والاستفهام: إنكار وتوبيخ.
وعبروا عن أصنامهم بالموصول لما في الصلة من الدلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداء بآبائهم لأنهم أسوة لهم، وذلك مما يزيد الإنكار اتجاها في اعتقادهم.
وجملة {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} معطوفة على جملة {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيدا بحرف التأكيد. ومن محاسن النكت هنا إثبات نون "إن" مع نون ضمير الجمع لأن ذلك زيادة إظهار لحرف التوكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم [9] من قول الأمم لرسلهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا} لأن الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التكذيب، ولأن ما في هاته الآية خطاب واحد، فكان {تَدْعُونَا} بنون واحدة هي نون المتكلم ومعه غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأن الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في "تدعوننا" فلو جاء "إننا" لاجتمع أربع نونات.
والمريب: اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب. يقال: رابه وأرابه بمعنى,
(11/289)
ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: جد جده.
[63] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} .
جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة: {قال} وهو الشأن في حكاية المحاورات كما تقدم غير مرة.
وابتداء الجواب بالنداء لقصد التنبيه إلى ما سيقوله اهتماما بشأنه.
وخاطبهم بوصف القومية له للغرض الذي تقدم في قصة نوح.
والكلام على قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} كالكلام على نظيرها في قصة نوح.
وإنما يتجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم {مِنْهُ} على {رَحْمَةً} هنا وتأخير {مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] عن {رَحْمَةً} [هود: 28] في قصة نوح السابقة.
فالجواب لأن ذلك مع ما فيه من التفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل، هو أيضا أسعد بالبيان في وضوح الدلالة ودفع اللبس. فلما كان مجرور "من" الابتدائية ظرفا وهو "عند" كان صريحا في وصف الرحمة بصفة تدل على الاعتناء الرباني بها وبمن أوتيها. ولما كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل {آتَانِي} ليكون تقييد الإيتاء بأنه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لولا ذلك لكان كونه من الله تحصيلا لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه، فتعين أن يكون المراد إيتاء خاصا، ولو أوقع {مِنْهُ} عقب {رَحْمَةً} لتوهم السامع أن ذلك عوض عن الإضافة، أي عن أن يقال: وآتاني رحمته، كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم: 21] أي ورحمتنا لهم، أي لنعظهم ونرحمهم.
وجملة {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} جواب الشرط وهو {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} .
والمعنى إلزام وجدل، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي وتوبخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأني على بينة من ربي، أفترون أني أعدل عن يقيني إلى شككم، وكيف تتوقعون مني ذلك وأنتم تعلمون أن يقيني بذلك يجعلني خائفا من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني.
والكلام على قوله: {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} كالكلام على قوله: {مَنْ
(11/290)
يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود: 30] في قصة نوح.
وفرع على الاستفهام الإنكاري جملة: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إياي إلا سعي في خسراني.
والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجودا لأن ذلك زيادة في أحوال الإنسان، أي فما يحدث لي إن اتبعتكم وعصيت الله إلا الخسران، كقوله تعالى حكاية عن نوح - عليه السلام -: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} [نوح: 6]، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلما كررت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففروا، وليس المعنى أنهم كانوا يفرون فزادوا في الفرار لأنه لو كان كذلك لقيل هنالك: فلم يزدهم دعائي إلا من فرار، ولقيل هنا: فما تزيدونني إلا من تخسير.
والتخسير، مصدر خسر، إذا جعله خاسرا.
[64, 65] {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} .
هذا جواب عن قولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فأتاهم بمعجزة تزيل الشك.
وإعادة {يَا قَوْمِ} لمثل الغرض المتقدم في قوله في قصة نوح: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود: 30].
والإشارة بهذه إلى الناقة حين شاهدوا انفلاق الصخرة عنها.
وإضافة الناقة إلى اسم الجلالة لأنها خلقت بقدرة الله الخارقة للعادة.
و {آيَةً} و {لَكُمْ} حالان من ناقة، وتقدم نظير هذه الحال في سورة الأعراف. وستجيء قصة في إعرابها عند قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} في هذه السورة [72].
وأوصاهم بتجنب الاعتداء عليها لتوقعه أنهم يتصدون لها من تصلبهم في عنادهم. وقد تقدم عقرها في سورة الأعراف.
والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة
(11/291)
الأعراف [24].
والدار: البلد، وتقدم في قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} في سورة الأعراف [78]، وذلك التأجيل استقصاء لهم في الدعوة إلى الحق.
والمكذوب: الذي يخبر به الكاذب. يقال: كذب الخبر، إذا اختلقه.
[66- 68] {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} .
تقدم الكلام على نظائر بعض هذه الآية في قصة هود في سورة الأعراف.
ومتعلق {نَجَّيْنَا} محذوف.
وعطف {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} على متعلق {نَجَّيْنَا} المحذوف، أي نجينا صالحا عليه السلام ومن معه من عذاب الاستئصال ومن الخزي المكيف به العذاب فإن العذاب يكون على كيفيات بعضها أخزى من بعض. فالمقصود من العطف عطف منة على منة لا عطف إنجاء على إنجاء، ولذلك عطف المتعلق ولم يعطف الفعل، كما عطف في قصة عاد {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] لأن ذلك إنجاء من عذاب مغاير للمعطوف عليه.
وتنوين {يَوْمِئِذٍ} تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير: يوم إذ جاء أمرنا.
والخزي: الذل، وهو ذل العذاب، وتقدم الكلام عليه قريبا.
وجملة: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} معترضة.
وقد أكد الخبر بثلاث مؤكدات للاهتمام به. وعبر عن ثمود بالذين ظلموا للإيماء بالموصول إلى علة ترتب الحكم، أي لظلمهم وهو ظلم الشرك. وفيه تعريض بمشركي أهل مكة بالتحذير من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك لأنهم ظالمون أيضا.
والصيحة: الصاعقة أصابتهم.
ومعنى {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كأن لم يقيموا.
وتقدم شعيب في الأعراف.
(11/292)
وقرأ الجمهور {أَلا إِنَّ ثَمُوداً} - بالتنوين - على اعتبار ثمودا اسم جد الأمة. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، ويعقوب، بدمن تنوين على اعتباره اسما للأمة أو القبيلة. وهما طريقتان مشهورتان للعرب في أسماء القبائل المسماة بأسماء الأجداد الأعلين.
وتقدم الكلام على {بُعْداً} في قصة نوح {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
[69- 73]} {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} .
عطف قصة على قصة.
وتأكيد الخبر بحرف "قد" للاهتمام به كما تقدم في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25].
والغرض من هذه القصة هو الموعظة بمصير قوم لوط إذ عصوا رسول ربهم فحل بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم. وقدمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربه على وجه الإدماج، ولذلك غير أسلوب الحكاية في القصص التي قبلها والتي بعدها نحو {وَإِلَى عَادٍ} [هود: 50] إلخ.
والرسل: الملائكة. قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فاطر: 1].
والبشرى: اسم. للتبشير والبشارة. وتقدم عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في أول سورة البقرة [25]. هذه البشرى هي التي في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} لأن بشارة زوجه بابن بشارة له أيضا.
والباء في {بِالْبُشْرَى} للمصاحبة لأنهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها.
وجملة {قَالُوا سَلاماً} في موضع البيان ل {الْبُشْرَى} ، لأن قولهم ذلك مبدأ البشرى، وإن ما اعترض بينها حكاية أحوال، وقد انتهى إليها في قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} إلى قوله: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} .
(11/293)
والسلام: التحية. وتقدم في قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام [54].
و {سَلاماً} مفعول مطلق وقع بدلا من الفعل. والتقدير: سلمنا سلاما.
و {سَلامٌ} المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام، أي لكم، مثل {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]. ورفع المصدر أبلغ من نصبه، لأن الرفع فيه تنامي معنى الفعل فهو أدل على الدوام والثبات. ولذلك خالف بينهما للدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - رد السلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام.
قال ابن عطية: حيا الخليل بأحسن مما حيي به، أي نظرا إلى الأدب الإلهي الذي علمه لنا في القرآن بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، فحكي ذلك بأوجز لفظ في العربية أداء لمعنى كلام إبراهيم - عليه السلام - في الكلدانية.
وقرأ الجمهور {قَالَ سَلامٌ} - بفتح السين وبألف بعد اللام -. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {قال سِلْم} - بكسر السين وبدون ألف بعد اللام - وهو اسم المسالمة. وسميت به التحية كما سميت بمرادفه "سلام" فهو من باب اتحاد وزن فعال وفعل في بعض الصفات مثل: حرام وحرم، وحلال وحل.
والفاء في قوله: {فَمَا لَبِثَ} للدلالة على التعقيب إسراعا في إكرام الضيف، وتعجيل القرى سنة عربية: ظنهم إبراهيم عليه السلام ناسا فبادر إلى قراهم.
واللبث في المكان يقتضي الانتقال عنه، أي فما أبطأ. و {أَنْ جَاءَ} يجوز أن يكون فاعل {لَبِثَ} ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ، أي فما أبطأ مجيئه مصاحبا له، أي بل عجل. ويجوز جعل فاعل {لَبِثَ} ضمير إبراهيم عليه السلام فيقدر جار ل {جَاءَ} . والتقدير: فما لبث بأن جاء به. وانتفاء اللبث مبالغة في العجل.
والحنيذ: المشوي، وهو المحنوذ. والشي أسرع من الطبخ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف.
و {لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أشد في عدم الأخذ من "لا تتناوله".
ويقال: نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه.
وإنما نكرهم لأنه حسب أن إمساكهم عن الأكل لأجل التبرؤ من طعامه، وإنما يكون
(11/294)
ذلك في عادة الناس في ذلك الزمان إذا كان النازل بالبيت يضمر شرا لمضيفه، لأن أكل طعام القرى كالعهد على السلامة من الأذى، لأن الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة، فإذا الكف أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفورا للإحسان.
ولذلك عقب قوله: {نَكِرَهُمْ} ب {أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ، أي أحس في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك. ومصدره الإيجاس. وذلك أنه خشي أن يكونوا مضمرين شرا له، أي حبسهم قطاعا، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم - عليه السلام - وحده.
وجملة: {قَالُوا لا تَخَفْ} مفصولة عما قبلها، لأنها أشبهت الجواب، لأنه لما أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إني خفت منكم، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم: {لا تَخَفْ} ، فحكي ذلك عنهم بالطريقة التي تحكى بها المحاورات، أو هو جواب كلام مقدر دل عليه قوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ، أي وقال لهم: إني خفت منكم، كما حكي في سورة الحجر {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . ومن شأن الناس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له: لعلك غادر أو عدو، وقد كانوا يقولون للوافد: أحرب أم سلم.
وقولهم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} مكاشفة منهم إياه بأنهم ملائكة. والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم.
والحكمة من ذلك كرامة إبراهيم عليه السلام وصدورهم عن علم منه.
وحذف متعلق {أُرْسِلْنَا} أي بأي شيء، إيجازا لظهوره من هذه القصة وغيرها.
وعبر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة {قَوْمِ لُوطٍ} إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطا من فصائل عرفوا بأسماء قراهم، وأشهرها سدوم كما تقدم في الأعراف.
وجملة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} في موضع الحال من ضمير {أَوْجَسَ} ، لأن امرأة إبراهيم - عليه السلام - كانت حاضرة تقدم الطعام إليهم، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أن ربة المنزل تكون خادمة القوم. وفي الحديث "والعروس خادمهم". وقال مرة بن محكان التميمي:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال القوم والغربا
(11/295)
وقد اختصرت القصة هنا اختصارا بديعا لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم عليه السلام، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} . وأما البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة الذاريات [28] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . فلما اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة: {قَالُوا لا تَخَفْ} حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال، لأن الحال تصلح للقبلية وللمقارنة وللبعدية، وهي الحال المقدرة.
وإنما ضحكت امرأة إبراهيم - عليه السلام - من تبشير الملائكة إبراهيم - عليه السلام - بغلام، وكان ضحكها ضحك تعجب واستبعاد. وقد وقع في التوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين "وقالوا له: أين سارة امرأتك? فقال: ها هي في الخيمة. فقالوا: يكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت? فقال الرب: لماذا ضحكت سارة? فأنكرت سارة قائلة لم أضحك، لأنها خافت، قال: لا بل ضحكت".
وتفريع {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} على جملة {ضَحِكَتْ} باعتبار المعطوف وهو {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} لأنها ما ضحكت إلا بعد أن بشرها الملائكة بابن، فلما تعجبت من ذلك بشروها بابن الابن زيادة في البشرى. والتعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتى يولد لابنها ابن. وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالبا إلا معلولين، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم.
ولما بشروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك، فقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} ، فجملة {قَالَتْ} جواب للبشارة.
و"يعقوب" مبتدأ {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} خبر، والجملة على هذا في محل الحال. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص {يَعْقُوبَ} بفتحة وهو حينئذ عطف على: {إِسْحَاقَ} . وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في "مغنى اللبيب".
(11/296)
والنداء في {يَا وَيْلَتَى} استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتى تنادى، كأنها تقول: يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك.
والويلة: الحادثة الفظيعة والفضيحة. ولعلها المرة من الويل. وتستعمل في مقام التعجب، يقال: يا ويلتي.
واتفق القراء على قراءة {يَا وَيْلَتَى} - بفتحة مشبعة في آخره بألف -. والألف التي في آخر {يَا وَيْلَتَى} هنا يجوز كونها عوضا عن ياء المتكلم في النداء. والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلفا عن لام الاستغاثة. وأصله: يا لويلة. وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجب بلفظ عجب، نحو: يا عجبا، وباسم شيء متعجب منه، نحو: يا عشبا.
وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة، قال الزجاج: كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم.
والاستفهام في {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} مستعمل في التعجب. وجملة {أَنَا عَجُوزٌ} في موضع الحال، وهي مناط التعجب.
والبعل: الزوج. وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} في سورة النور [31]، فانظره.
وزادت تقرير التعجب بجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتصال، وكأنها كانت مترددة في أنهم ملائكة فلم تطمئن لتحقيق بشراهم.
وجملة {هَذَا بَعْلِي} مركبة من مبتدأ وخبر لأن المعنى هذا المشار إليه هو بعلي، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى. وانتصب {شَيْخاً} على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة.
وقرأ ابن مسعود {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخ} - برفع شيخ - على أن "بعلي" بيان من "هذا" و"شيخ" خبر المبتدأ. ومعنى القراءتين واحد.
وقد جرت على هذه القراءة نادرة لطيفة وهي ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم أبو حاجب أن أبا العباس المبرد دعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة، فلما فرغوا من الطعام غنت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين:
(11/297)
وقالوا لها هذا حبيبك معرض ... فقالت: ألا إعراضا أهون الخطب
فما هي إلا نظرة وابتسامة ... فتصطك رجلاه ويسقط للجنب
فطرب كل من بالمجلس إلا أبا العباس المبرد فلم يتحرك، فقال له رب المنزل: ما لك لم يطربك هذا?.
فقالت الجارية: معذور يحسبني لحنت في أن قلت: معرض بالرفع ولم يعلم أن عبد الله بن مسعود قرأ "وهذا بعلي شيخ" فطرب المبرد لهذا الجواب"1".
وجواب الملائكة إياها بجملة {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} إنكار لتعجبها لأنه تعجب مراد منه الاستبعاد. و {أَمْرِ اللَّهِ} هو أمر التكوين، أي أتعجبين من قدرة الله على خرق العادات. وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبي عن أمر الله.
وجملة {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} تعليل لإنكار تعجبها، لأن الإنكار في قوة النفي، فصار المعنى: لا عجب من أمر الله لأن إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة، فلا عجب في تعلق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم.
ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إما أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم عليه السلام وامرأته فكان قولهم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} مفيدا تعليل انتفاء العجبين.
وتعريف {الْبَيْتِ} تعريف حضور، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور، أي بيت إبراهيم - عليه السلام -. والمعنى أهل هذا البيت.
والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصا لزيادة بيان المراد من ضمير الخطاب.
وجملة: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأن الله يحمد من يطيعه، وبأنه مجيد، أي عظيم الشأن لا حد لنعمه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولدا، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله تعالى على إبراهيم - عليه
ـــــــ
1 - رأيت هذه النادرة في الباب الثاني من كتاب "الكنايات" لأبي العباس الجرجاني طبع السعادة بالقاهرة سنة 1326 واحسبها دخيلة فيه.
(11/298)
السلام - وأهله.
[64- 76] {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .
التعريف في {الرَّوْعُ} وفي {الْبُشْرَى} تعريف العهد الذكري، وهما المذكوران آنفا، فالروع: مرادف الخيفة.
وقوله: {يُجَادِلُنَا} هو جواب {لَمَّا} صيغ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة كقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38]. والمجادلة: المحاورة. وقد تقدمت في قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء [107].
وقوله: {في قَوْمِ لُوطٍ} على تقدير مضاف، أي في عقاب قوم لوط. وهذا من تعليق الحكم باسم الذات، والمراد حال من أحوالها يعينه المقام، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي أكلها.
والمجادلة هنا: دعاء ومناجاة سأل بها إبراهيم عليه السلام ربه العفو عن قوم لوط خشية إهلاك المؤمنين منهم.
وقد تكون المجادلة مع الملائكة. وعديت إلى ضمير الجلالة لأن المقصود من جدال الملائكة التعرض إلى أمر الله بصرف العذاب عن قوم لوط.
وال {حَلِيمٌ} الموصوف بالحلم وهو صفة تقتضي الصفح واحتمال الأذى.
وال {أَوَّاهٌ} أصله الذي يكثر التأوه، وهو قول: أوه. وأوه: اسم فعل نائب مناب أتوجع، وهو هنا كناية عن شدة اهتمامه بهموم الناس.
وال {مُنِيبٌ} من أناب إذا رجع، وهو مشتق من النوب وهو النزول. والمراد التوبة من التقصير، أي محاسب نفسه على ما يحذر منه.
وحقيقة الإنابة: الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته وتركه.
وجملة {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} مقول محذوف دل عليه المقام وهو من بديع الإيجاز، وهو وحي من الله إلى إبراهيم - عليه السلام -، أو جواب الملائكة إبراهيم - عليه
(11/299)
السلام -. فإذا كان من كلام الله فقوله: {أَمْرُ رَبِّكَ} إظهار في مقام الإضمار لإدخال الروع في ضمير السامع.
و {أَمْرُ الله} قضاؤه، أي أمر تكوينه.
[77] {ولما وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} .
قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]. فالتقدير: ففارقوا إبراهيم وذهبوا غلى لوط عليهما السلام فلما جاءوا لوطا، فحذف ما دل عليه المقام إيجازا قرآنيا بديعا.
وقد جاءوا لوطا كما جاءوا إبراهيم - عليهما السلام - في صورة البشر، فظنهم ناسا وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة، فلذلك سيء بهم.
ومعنى {ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ضاق ذرعه بسببهم، أي بسبب مجيئهم فحول الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزا لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية.
والذرع: مد الذراع فإذا أسند إلى الآدمي فهو تقدير المسافة. وإذا أسند إلى البعير فهو مد ذراعيه في السير على قدر سعة خطوته، فيجوز أن يكون: ضاق ذرعا تمثيلا بحال الإنسان الذي يريد مد ذراعه فلا يستطيع مدها كما يريد فيكون ذرعه أضيق من معتاده. ويجوز أن يكون تمثيلا بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مد ذراعيه كما اعتاده. وأياما كان فهو استعارة تمثيلية لحال من لم يجد حيلة في أمر يريد عمله بحال الذي لم يستطع مد ذراعه كما يشاء.
وقوله: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر.
والعصيب: الشديد فيما لا يرضي. يقال: يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجو كشدة البرد وشدة الحر. وهو بزنة فعيل بمعنى فاعل ولا يعرف له فعل مجرد وإنما يقال: اعصوصب الشر اشتد. قالوا: هو مشتق من قولك: عصيت الشيء إذا شددته. وأصل هذه المادة يفيد الشد والضغط، يقال: عصب الشيء إذا لواه، ومنه العصابة. ويقال: عصبتهم السنون إذا أجاعتهم. ولم أقف على فعل مجرد
(11/300)
لوصف اليوم بعصيب. وأراد: أنه سيكون عصيبا لما يعلم من عادة قومه السيئة وهو مقتض أنهم جاءوه نهارا.
ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه، فإذا علم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعا، ثم يصدر تعبيرا عن المعاني وترتيبا عنه كلاما يريح به نفسه.
وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالا لإنشاء المنشئ إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة.
[78] {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} .
أي جاءه بعض قومه. وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء آخر في وقت آخر. وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضهما، كقول الحارث ابن وعلة الجرمي:
قومي هم قتلوا أميمة أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
و {يُهْرَعُونَ} - بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول- فسروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع، وهو بين الخبب والجمز، فهو لا يكون إلا مبنيا للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يسرع به. وهذا البناء يقتضي أن الهرع هو دفع الماشي حين مشيه. إلا أن ذلك تنوسي وبقي أهرع بمعنى سار سيرا كسير المدفوع، ولذلك قال جمع من أهل اللغة: إنه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعل غير معلوم. وفسره في "الصحاح" و"القاموس" بأنه الارتعاد من غضب أو خوف، وعلى الوجهين فجملة {يُهْرَعُونَ} حال.
وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فقد صارت لهم دأبا لا يسعون إلا لأجله.
وجملة {قَالَ يَا قَوْمِ} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ} ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم، فهو بحيث يسأل عما تلقاهم به.
(11/301)
وبادرهم لوط عليه السلام بقوله: {يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} . وافتتاح الكلام بالنداء وبأنهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه، لأنه يعلم تصلبهم في عادتهم كما دل عليه قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79]، كما سيأتي. والإشارة ب {هَؤُلاءِ} إلى {بَنَاتِي} . و {بَنَاتِي} بدل من اسم الإشارة، والإشارة مستعملة في العرض، والتقدير: فخذوهن.
وجملة {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} تعليل للعرض. ومعنى {هُنَّ أَطْهَرُ} أنهن حلال لكم يحلن بينكم وبين الفاحشة، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوة الطهارة.
و {هَؤُلاءِ} إشارة إلى جمع، إذ بين بقوله: {بَنَاتِي} .
وقد روي أنه لم يكن له إلا ابنتان، فالظاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساء من قومه بعدد القوم الذين جاؤوا يهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد، وابن جبير، وقتادة، وهو المناسب لجعلهن لقومه إذ قال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون، فيكون المعنى: هؤلاء النساء فتزوجوهن. وهذا أحسن المحامل.
وقيل: أراد بنات صلبه، وهو رواية عن قتادة. وإذ كان المشهور أن لوطا عليه السلام له ابنتان صار الجمع مستعملا في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [هود: 4].
وقيل: كان له ثلاث بنات.
وتعترض هذا المحمل عقبتان.
الأولى: أن القوم كانوا عدد كثيرا فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث?!
الثانية: أن قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} عرض عليهم كما علمت آنفا، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير، فإن كان تزويجا لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو?.
والجواب عن الأول: أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه. وعن الثاني: أنه يجوز أن يكون تصرف لوط - عليه السلام - في بناته بوصف الأبوة، ويجوز أن يكون تصرفا بوصف النبوة بالوحي للمصلحة
(11/302)
أن يكون من شرع لوط - عليه السلام - إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهن حلالا في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ.
وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهن فيجوز أن يكون الولد لاحقا بالذي تليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللعان، ويكون هذا التحليل مباحا ارتكابا لأخف الضررين، وهو مما يشرع شرعا مؤقتا مثل ما شرع نكاح المتعة في أول الإسلام على القول بأنه صار محرما وهو قول الجمهور.
وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفار وهو فضول.
وفرع على قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أن أمرهم بتقوى الله لأنهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتقوا الله.
وقرأ الجمهور {وَلا تُخْزُونِ} بحذف ياء المتكلم تخفيفا. وأثبتها أبو عمرو.
والخزي: الإهانة والمذلة. وتقدم آنفا. وأراد مذلته.
و {فِي} للظرفية المجازية. جعل الضيف كالظرف، أي لا تجعلوني مخزيا عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي، لأن الضيافة جوار عند رب المنزل، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عارا على رب المنزل.
والضيف: الضائف، أي النازل في منزل أحد نزولا غير دائم، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة.
وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا
وقد ظن لوط - عليه السلام - الملائكة رجالا مارين ببيته عنده للاستراحة والطعام والمبيت.
والاستفهام في {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} إنكار وتوبيخ لأن إهانة الضيف مسبة لا
(11/303)
يفعلها إلا أهل السفاهة.
وقوله: {مِنْكُمْ} بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم، فإن ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم.وبالعكس تمالؤهم على الباطل يزيدهم ضراوة به.
[79, 80] { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .
فصلت جملة {قالوا} عن التي قبلها لوقوعها موقع المحاورة مع لوط - عليه السلام -.
و {لَقَدْ عَلِمْتَ} تأكيد لكونه يعلم، فأكد بتنزيله منزلة من ينكر أنه يعلم لأن حاله في عرضه بناته عليهم كحال من لا يعلم خلقهم، وكذلك التوكيد في {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} ، وكلا الخبرين مستعمل في لازم فائدة الخبر، أي نحن نعلم أنك قد علمت ما لنا رغبة في بناتك وإنك تعلم مرادنا.
ومثله قول حكاية عن قوم إبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
و {مَا} الأولى نافية معلقة لفعل العلم عن العمل، و {مَا} الثانية موصولة.
والحق: ما يحق، أي يجب لأحد أو عليه، فيقال: له حق في كذا، إذا كان مستحقا له، ويقال: ما له حق في كذا بمعنى لا يستحقه، فالظاهر أنه أطلق هنا كناية عن عدم التعلق بالشيء وعن التجافي عنه. وهو إطلاق لم أر مثله، وقد تحيز المفسرون في تقريره. والمعنى: ما لنا في بناتك رغبة.
وجوابه ب {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} جواب يائس من ارعوائهم.
و {لَوْ} مستعملة في التمني، وهذا أقصى ما أمكنه في تغيير هذا المنكر.
والباء في {بِكُمْ} للاستعلاء، أي عليكم. يقال: ما لي به قوة وما لي به طاقة. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ} [البقرة: 249].
ويقولون: ما لي بهذا الأمر يدان، أي قدرة أو حيلة عليه.
(11/304)
والمعنى: ليت لي قوة أدفعكم بها، ويريد بذلك قوة أنصار لأنه كان غريبا بينهم.
ومعنى {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أو أعتصم بما فيه منعة، أي بمكان أو ذي سلطان يمنعني منكم.
والركن: الشق من الجبل المتصل بالأرض.
[81] {قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .
هذا كلام الملائكة للوط عليه السلام كاشفوه بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى. وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول لوط - عليه السلام - وقول قومه. وهذا الكلام الذي كلموا به لوطا عليه السلام وحي أوحاه الله إلى لوط - عليه السلام - بواسطة الملائكة، فإنه لما بلغ بلوط توقع أذى ضيفه مبلغ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنة الله تعالى مع رسله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
وابتدأ اللائكة خطابهم لوطا عليه السلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلا لإظهار الحق. قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8]. ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} . وجيء بحرف تأكيد النفي للدلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه. وقد صرف الله الكفار عن لوط - عليه السلام - فرجعوا من حيث أتوا، ولو أزال عن الملائكة التشكل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفار لحسبوا إن لوطا - عليه السلام - أخفاهم فكانوا يؤذون لوطا - عليه السلام -. ولذلك قال له الملائكة: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} ولم يقولوا لن ينالوا، لأن ذلك معلوم فإنهم لما أعلموا لوطا - عليه السلام - بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفار لا ينالونهم، ولكنه يخشى سورتهم أن يتهموه بأنه أخفاهم.
ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطا - عليه السلام - عن ضيفه حتى قالوا: إن ضيف لوط سحرة فانصرفوا. وذلك ظاهر قوله تعالى: في سورة القمر [37]
(11/305)
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} .
وجملة {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} مبينة لإجمال جملة {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان.
وتفريع الأمر بالسرى على جملة {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} لما في حرف {لَنْ} من ضمان سلامته في المستقبل كله، فلما رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته، فلذلك موقع فاء التفريع.
و"اسر" أمر بالسرى - بضم السين والقصر -. وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح. وفعله: سرى يقال بدون همزة في أوله ويقال: أسرى بالهمزة.
قرأ نافع، وابن كثير. وأبو جعفر - بهمزة وصل - على أنه أمر من سرى. وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى.
وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لما صح أن يقال: اسر بهم للفرق بين أذهبت زيدا وبين ذهبت به.
والقطع بكسر القاف: الجزء من الليل.
وجملة {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كما دلت عليه القرينة.
وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضبا لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كيلا يلاقي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشق عليه دفاعهم.
و {إِلَّا امْرَأَتَكَ} استثناء من {أَهْلِكَ} ، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتبارا بأنه مستثنى من {أَهْلِكَ} وذلك كلام موجب، والمعنى: لا تسر بها، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو - برفع - {امْرَأَتَكَ} على أنه استثناء من {أَحَدٌ} الواقع في سياق النهي، وهو في معنى النفي. قيل: إن امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنت إلى قومها فرجعت إليهم. والمعنى انه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأته للنهي فالتفتت، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدر دل عليه النهي. والتقدير: فلا يلتفتون إلا امرأتك
(11/306)
تلتفت.
وجملة {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء من الكلام المقدر.
وفي قوله: {مَا أَصَابَهُمْ} استعمال فعل المضي في معنى الحال، ومقتضى الظاهر أن يقال: ما يصيبهم، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، أو في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
وجملة {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قيلها اهتماما وتهويلا.
والموعد: وقت الوعد. والوعد أعم من الوعيد فيطلق على تعيين الشر في المستقبل. والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا، وبهذه الاعتبارات صح تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.
وجملة {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} استئناف بياني صدر من الملائكة جوابا عن سؤال يجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب.
والاستفهام تقريري، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرر ليعرف خطأه. وإنما قالوا ذلك في أول الليل.
[82, 83] {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} .
تقدم الكلام على نظير {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} .
وقوله {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} تعود الضمائر الثلاثة المجرورة بالإضافة وبحرف "على" على القرية المفهومة من السياق.
والمعنى أن القرية انقلبت عليهم انقلاب خسف حتى صار عالي البيوت سافلا. أي وسافلها عاليا، وذلك من انقلاب الأرض بهم.
(11/307)
وإنما اقتصر على ذكر جعل العالي سافلا لأنه أدخل في الإهانة.
والسجيل: فسر بواد نار في جهنم يقال: سجيل باللام، وسجين بالنون. و {مِنْ} تبعيضية، وهو تشبيه بليغ، أي بحجارة كأنها من سجيل جهنم، كقول كعب بن زهير:
وجلدها من أطوم البيت
وقد جاء في التوراة: أن الله أرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء. ولعل الخسف فجر من الأرض براكين قذفت عليهم حجارة معادن محرقة كالكبريت، أو لعل بركانا كان قريبا من مدنهم انفجر باضطرابات أرضية ثم زال من ذلك المكان بحوادث تعاقبت في القرون، أو طمى عليه البحر وبقي أثر البحر عليها حتى الآن، وهو المسمى بحيرة لوط أو البحر الميت.
وقيل: سجيل معرب "سنك جبل" عن الفارسية أي حجر مخلوط بطين.
والمنضود: الموضوع بعضه على بعض. والمعنى هنا أنها متتابعة متتالية في النزول ليس بينها فترة. والمراد وصف الحجارة بذلك إلا أن الحجارة لما جعلت من سجيل أجري الوصف على سجيل وهو يفضي إلى وصف الحجارة لأنها منه.
والمسومة: التي لها سيما، وهي العلامة. والعلامات توضع لأغراض، منها عدم الاشتباه، ومنها سهولة الإحضار، وهو هنا مكنى به عن المعدة المهيئة لأن الإعداد من لوازم التوسيم بقرينة قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} لأن تسويمها عند الله هو تقديره إياها لهم.
وضمير {وَمَا هِيَ} يصلح لأن يعود إلى ما عادت إليه الضمائر المجرورة قبله وهي المدينة، فيكون المعنى وما تلك القرية ببعيد عن المشركين، أي العرب، فمن شاء فليذهب إليها فينظر مصيرها، فالمراد البعد المكاني. ويصلح لأن يعود إلى الحجارة، أي وما تلك الحجارة ببعيد، أي أن الله قادر على أن يرمي المشركين بمثلها. والبعد بمعنى تعذر الحصول ونفيه بإمكان حصوله. وهذا من الكلام الموجه مع صحة المعنيين وهو بعيد.
وجرد {بَعِيدٍ} عن تاء التأنيث مع كونه خبرا عن الحجارة وهي مؤنث لفظا، ومع كون {بَعِيدٍ} هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول، فالشأن أن يطابق موصوفه في تأنيثه، ولكن العرب قد يجرون فعيلا الذي بمعنى فاعل مجرى الذي بمعنى مفعول إذا جرى على مؤنث غير حقيقي التأنيث زيادة في التخفيف، كقوله تعالى في سورة الأعراف [56] {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:
(11/308)
63] وقوله: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. وقيل: إن قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مرسم: 28] من هذا القبيل، أي باغية. وقيل: أصله فعول بغوي فوقع إبدال وإدغام. وتأول الزمخشري ما هنا على أنه صفة لمحذوف، أي بمكان بعيد، أو بشيء بعيد على الاحتمالين في معاد ضمير {هِيَ} .
[84- 86] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} إلى قولهك {مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} نظير قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [هود: 61] الخ.
أمرهم بثلاثة أمور:
أحدها: إصلاح الاعتقاد، وهو من إصلاح العقول والفكر.
وثالثها: صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض.
ووسط بينهما الثاني: وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأن إقدامهم عليه كان فاشيا فيهم حتى نسوا ما فيه من قبح وفساد وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان.
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم وهي خيانة المكيال والميزان. وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف. وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدر، لأن المكتال مسترسل مستسلم. ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيال والميزان فعززه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما.
وجملة {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان. والمقصود من {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أنكم بخير. وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحق عليهم شكرها. والباء في {بِخَيْرٍ} للملابسة.
والخير: حسن الحالة. ويطلق على المال كقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180].
(11/309)
والأولى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة. وهذا التعليل يقتضي قبح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المرؤءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه. وهذا حث على وسيلة بقاء النعمة.
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذابا يحل بهم إما يوم القيامة وإما في الدنيا. ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان واهبها.
و {مُحِيطٍ} وصف ل {يَوْمٍ} على وجه المجاز العقلي، أي محيط عذابه، والقرينة هي إضافة العذاب إليه.
وإعادة النداء في جملة {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ} لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان. وهذا الأمر تأكيد للنهي عن نقصهما. والشيء يؤكد بنفي ضده، كقوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79]. لزيادة الترغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده.
والباء في قوله: {بِالْقِسْطِ} للملابسة. وهو متعلق ب {أَوْفُوا} فيفيد إن الإيفاء يلابسه القسط، أي العدل تعليلا للأمر به، لأن العدل معروف حسن، وتنبيها على أن ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر.
والقسط تقدم في قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في آل عمران [18].
والبخس: النقص. وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا. وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص. لأن التطفيف من بخس الناس في أشيائهم، وتعدية {تَبْخَسُوا} إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا.
والعثي - بالياء - من باب سعى ورمى ورضي، وبالواو كدعا، هو: الفساد. ولذلك فقوله: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد.
والمراد: النهي عن الفساد كله، كما يدل عليه قوله: {فِي الْأَرْضِ} المقصود منه تعميم أماكن الفساد.
والفساد تقدم في قوله تعلى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} في أول سورة البقرة [11].
(11/310)
وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العام، وبه حصلت خمسة مؤكدات: بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص، ثم بالتعميم بعد التخصيص، ثم بزيادة التعميم، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان، ثم بتأكيده بالمؤكد اللفظي.
وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوع من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف. ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس. ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كله. وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال.
وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما أدخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل.
ولفظ {بَقِيَّت} كلمة جامعة لمعان في كلام العرب، منها: الدوام، ومؤذنة بضده وهو الزوال، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل، وبقاؤه دنيوي وأخروي.
فأما كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمة في أمة من توثب بعضها على بعض، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبيء صل الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرضة للابتزاز والزوال. وأيضا فلأن نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها. قال ابن عطاء الله: "من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".
وأما كونه أخرويا فلأن نهي الله عنها مقارنا للوعد بالجزاء على تركها، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم: 76].
على أن لفظ "لبقية" يتحمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب، وهو معنى الخير
(11/311)
والبركة لأنه لا يبقى إلا ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس، ولذلك أطلقت "البقية" على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، وقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
قال المرزوقي: المعنى ثم يأتيني خياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال: فلان من بقية أهل، أي من أفاضلهم.
وفي كلمة "البقية" معنى آخر وهو الإبقاء عليهم، والعرب يقولون عند طلب الكف عن القتال: ابقوا علينا، ويقولون البقية البقية بالنصب على الإغراء، قال الأعشى:
قالوا -البقية والهندي يحصدهم- ... -ولا بقية إلا الثار- وانكشفوا
وقال مسور بن زيادة الحارثي:
أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خيرلكم من هذه الأعراض العاجلة السيئة العاقبة، فيكون تعريضا بوعيد الاستئصال. وكل هذه المعاني صالحة هنا. ولعل كلام شعيب - عليه السلام - قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة.
وإضافة "بقية" إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقا إضافة تشريف وتيمن. زهي إضافة على معنى اللام لأن البقية من فضله أو مما أمر به.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلا إذا صدقوا بأن ذلك من عند الله، فهنالك تكون بقية الله خيرا لهم، فموقع الشرط هو كون البقية خيرا لهم، أي لا تكون البقية خيرا إلا للمؤمنين.
وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتصاف بالفعل في زمان الحال تقريبا لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالا بإيمانهم لئلا يفجأهم العذاب فيفوت التدارك.
وجملة {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} في موضع الحال من ضمير {اعْبُدُوا} ونظائره، أي
(11/312)
افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله.
والحفيظ: المجبر، كقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} في سورة الأنعام [107]. والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزوا من الأمر. وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال.
[87] {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} .
كانت الصلاة من عماد الأديان كلها. وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصدا للتهكم به والسخرية عليه تكذيبا له فيما جاءهم به، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر. والمعنى أن صلاته تأمره بأنهم يتركون، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم. إذ معنى كونه مأمورا بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء.
و {مَا} في قوله: {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} موصولة صادقة على المعبودات. ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل {يَعْبُدُ} . ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية بتقدير: أن نترك مثل عبادة آبائنا.
وقرأ الجمهور {أَصَلاتُكَ} بصيغة جمع صلاة. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف: {أصلاتك} بصيغة المفرد.
و {أَوْ} من قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف. فقوله: {أَنْ نَفْعَلَ} عطف على {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، أي أن نترك فعل ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه.
وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل {أَوْ} بمعنى واو الجمع، كما درج عليه كثير من
(11/313)
المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفا على {نَتْرُكَ} فتوجسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري. وتأوله بوجهين: أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل {تَأْمُرُكَ} وكلاهما تكلف. وأما الأكثر فصاروا إلى صرف {أَوْ} عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك. وسكت عنه كثير مثل صاحب "الكشاف". وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به.
وجملة {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} استئناف تهكم آخر. وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف "إن" ولام القسم وبصيغة القصر في جملة {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فاشتملت على أربعة مؤكدات.
والحليم، زيادة في التهكم: ذو الحلم أي العقل، والرشيد: الحسن التدبير في المال.
[88] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
تقدم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح - عليهما السلام -.
والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح - عليهما السلام - وهو نعمة النبؤءة، وإنما عبر شعيب - عليه السلام - عن النبوة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] لأن الأموال أرزاق. وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، أو يدل عليه {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} . والتقدير: ماذا يسعكم في تكذيبي، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقا، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنه لصلاحكم.
ومعنى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} عند جميع المفسرين من التابعين فمن بعدهم: ما أريد مما نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله. وبين في "الكشاف" إفادة التركيب هذا المعنى بقوله: "يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه... ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا" اهـ.
(11/314)
وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله، فإذا ذكرت في غرض دلت على الاتصاف بضده، ثم يبين وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولا لحرف {إِلَى} الدال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم خالفني إلى الماء لتضمين {أُخَالِفَكُمْ} معنى السعي إلى شيء. ويتعلق {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} بفعل {أُخَالِفَكُمْ} ، ويكون {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} مفعول {أُرِيدُ} .
فقوله: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها. والمقصود: بيان أنه مأمور بذلك أمرا يعم الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع، كما قال علماؤنا: إن خطاب الأمة يشمل الرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك، ففي هذا إظهار أن ما نهاهم عنه ينهى أيضا نفسه عنه. وفي هذا تنبيه لهم على ما في النهي من المصلحة، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها، لأن مثل ذلك ينبي بعدم النصح فيما يأمرون وينهون، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولى بجلب الخير لأنفسكم.
والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهموه ساعيا إلى التملك عليهم والتجبر، وإما لأنه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها.
وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدمين، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنه لا يقابل قول قومه {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]، فإنهم ظنوا به أنه ما قصد إلا مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه، فكان مقتضى إبطال ظنتهم أن ينفي أن يريد مجرد مخالفتهم، بدليل قوله عقبه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} .
فمعنى قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} أنه ما يريد مجرد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم. ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لما جاء وفد فزاره إلى النبيء صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق: "أمر الأقرع بن
(11/315)
حابس، وقال عمر: أمر فلانا، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلى خلافي فقال عمر: ما أردت إلى خلافك". فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية. وفي هذا ما يدل على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود. وقسم ينتقد ليبين وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه. وعلى هذا الوجه يتعلق {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} بفعل {أُرِيدُ} وكذلك {وَمَا أَنْ أُخَالِفَكُمْ} يتعلق ب {أُرِيدُ} على حذف حرف لام الجر. والتقدير: ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم، أي لمحبة خلافكم.
وجملة {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} بيان لجملة {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لأن انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبينه بأن الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح، فالقصر قصر قلب.
وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول: ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
ولما بين لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} فسمى إرادته الإصلاح توفيقا وجعله من الله لا يحصل في وقت إلا بالله، أي بإرادته وهديه، فجملة {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} في موضع الحال من ضمير {أُرِيدُ} .
والتوفيق: جعل الشيء وفقا لآخر، أي طبقا له، ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة.
جملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو من ياء المتكلم في قوله: {تَوْفِيقِي} لأن المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه.
والتوكل مضى عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والإنابة تقدمت آنفا في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].
(11/316)
[89, 90] {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} .
تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متحد قريبا.
وتقدم الكلام على { لا يَجْرِمَنَّكُمْ} عند قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} في أول العقود [2]، أي لا يكسبنكم.
والشقاق: مصدر شاقه إذا عاداه. وقد مضت عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أول الأنفال [13].
والمعنى: لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره، فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك. والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشقاق سببا للإغراض عن النظر في دعوته، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلا بأنفسهم.
ولقد كان فضح سوء نواياهم الداعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيته مما دعاهم إليه بقوله: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] مصادفا محز جودة الخطابة إذ رماهم بأنهم يعملون بضد ما يعاملهم به.
وجملة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} في موضع الحال من ضمير النصب في قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ} والواو رابطة الجملة. ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنه حالة من أحوال المخاطبين.
والمراد بالبعد بعد الزمن والمكان والنسب، فزمن لوط - عليه السلام - غير بعيد في زمن شعيب - عليه السلام -، والديار قريبة من ديارهم، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان مما يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم عليهما السلام وهو جد القبيلة المسماة باسمه، متزوجا بابنة لوط.
وجملة {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} عطف على جملة {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} .
وجملة {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} تعليل للأمر باستغفاره والتوبة إليه، وهو تعليل لما
(11/317)
يقتضيه الأمر من رجاء العفو عنهم إذا استغفروا وتابوا.
وتفنن في إضافة الرب إلى ضمير نفسه مرة وإلى ضمير قومه أخرى لتذكيرهم بأنه ربهم كيلا يستمروا على الإعراض وللتشرف بانتسابه إلى مخلوقيته.
والرحيم تقدم.
والودود: مثال مبالغة من الود وهو المحبة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} في سورة النساء [89]. والمعنى: أن الله شديد المحبة لمن يتقرب إليه بالتوبة.
[91] {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} .
الفقه: الفهم. وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء [78]، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} في سورة الأنعام [65].
ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقوله عن إليهود {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]. ويجوز أن يكون المراد ما نتعقله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون، كما حكى الله عن غيرهم بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وليس المراد عدم فهم كلامه لأن شعيبا عليه السلام كان مقوالا فصيحا، ووصفه النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء.
فالمعنى: أنك تقول ما لا نصدق به. وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ، ولذلك عطفوا عليه {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي وإنك فينا لضعيف، أي غير ذي قوة ولا منعة. فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذاه وذلك مما يرى لأنه ترى دلائله وسماته.
وذكر فعل الرؤية هنا للتحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] بحيث نزلوه منزلة من يظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية. وأكدوه ب"إن" ولام الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة
(11/318)
من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه، أو من ينكر ذلك. وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة:
إن بني عمك فيهم رماح
ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أن شعيبا - عليه السلام - كان أعمى، وتطرقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء، وهو بناء على أوهام. ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأولين ما فيه أن شعيبا عليه السلام كان أعمى.
وعطفوا على هذا قولهم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وهو المقصود مما مهد إليه من المقدمات، أي لا يصدنا عن رجمك شيء إلا مكان رهطك فينا، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا.
والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد به القرابة الأدنون لأنهم لا يكونون كثيرا، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة، ولم يقولوا قومك، لأن قومه قد نبذوه. وكان رهط شعيب عليه السلام من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقروهم بكف الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته. ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم. على أن قرابته ما هم إلا عدد قليل لا يخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنهم من المخلصين لدينهم.
فالخبر المحذوف بعد {لَوْلا} يقدر بما يدل على معنى الكرامة بقرينة قولهم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} وقوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 93]، فلما نفوا أن يكون عزيزا وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير، فالتقدير: ولولا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك.
والرجم: القتل بالحجارة رميا، وهو قتلة حقارة وخزي. وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم.
وجملة {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} مؤكدة لمضمون {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} لأنه إذا انتفى كونه قويا في نفوسهم تعين أن كفهم عن رجمه مع استحقاقه إياه في اعتقادهم ما كان إلا لأجل إكرامهم رهطه لا للخوف منهم.
وإنما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أن حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا
(11/319)
تعطف لأنها مع إفادتها تأكيد مضمون التي قبلها قد أفادت أيضا حكما يخص المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} والجمل بعدها.
والعزة: القوة والشدة والغلبة. والعزيز: وصف منه، وتعديته بحرف "على" لما فيه من معنى الشدة والوقع على النفس كقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، أي شديد على نفسه، فمعنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتد على نفوسنا، أي لأنك هين علينا ومحقر عندنا وليس لك من ينصرك منا. وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبة ذاته إذ لا يغلب واحد جماعة، وإنما عزته بقومه وقبيلته، كما قال الأعشى:
وإنما العزة للكاثر
فمعنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أنك لا تستطيع غلبتنا.
وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه. وهذه معان جد دقيقة وإيجاز جد بديع.
وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} بمفيد تخصيصا ولا تقويا.
[92] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
لما أرادوا بالكلام الذي وجهوه إليه تحذيره من الاستمرار على مخالفة دينهم، أجابهم بما يفيد أنه لم يكن قط معولا على عزة رهطه ولكنه متوكل على الله الذي هو أعز من كل عزيز، فالمقصود من الخبر لازمه وهو أنه يعلم مضمون هذا الخبر وليس غافلا عنه، أي لقد علمت ما رهطي أغلب لكم من الله فلا أحتاج إلى أن تعاملوني بأني غير عزيز عليكم ولا بأن قرابتي فئة قليلة لا تعجزكم لو شئتم رجمي.
وإعادة النداء للتنبيه لكلامه وأنه متبصر فيه. والاستفهام إنكاري، أي الله أعز من رهطي، وهو كناية عن اعتزازه بالله لا برهطه فلا يريبه عدم عزة رهطه عليهم، وهذا تهديد لهم بأن الله ناصره لأنه أرسله فعزته بعزة مرسله.
(11/320)
وجملة {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} في موضع الحال من اسم الجلالة، أي الله أعز في حال أنكم نسيتم ذلك. والاتخاذ: الجعل، وتقدم في قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام [74].
والظهري -- بكسر الظاء - نسبة إلى الظهر على غير قياس، والتغييرات في الكلم لأجل النسبة كثيرة. والمراد بالظهري الكناية عن النسيان، أو الاستعارة لأن الشيء الموضوع بالوراء ينسى لقلة مشاهدته، فهو يشبه الشيء المجعول خلف الظهر في ذلك، فوقع {ظِهْرِيّاً} حالا مؤكدة للظرف في قوله: {وَرَاءَكُمْ} إغراقا في معنى النسيان لأنهم اشتغلوا بالأصنام عن معرفة الله أو عن ملاحظة صفاته.
وجملة {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} استئناف، أو تعليل لمفهوم جملة: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} الذي هو توكله عليه واستنصاره به.
والمحيط: الموصوف بأنه فاعل الإحاطة. وأصل الإحاطة: حصار شيء شيئا من جميع جهاته مثل إحاطة الظرف بالمظروف والسور بالبلدة والسوار بالمعصم. وفي "المقامات الحريرية":
"وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر . ويطلق مجازا في قولهم: أحاط علمه بكذا، وأحاط بكل شيء علما، بمعنى علم كل ما يتضمن أن يعلم في ذلك، ثم شاع ذلك فحذف التمييز وأسندت الإحاطة إلى العالم بمعنى إحاطة علمه، أي شمول علمه لجميع ما يعلم في غرض ما، قال تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] أي علمه. ومنه قوله هنا: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمراد إحاطة علمه. وهذا تعريض بالتهديد، وأن الله يوشك أن يعاقبهم على ما علمه من أعمالهم.
[93] {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} .
عطف نداء على نداء زيادة في التنبيه، والمقصود عطف ما بعد النداء الثاني على ما بعد النداء الأول.
وجملة {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تقدم تفسير نظيرها في سورة الأنعام.
(11/321)
والأمر للتهديد. والمعنى: اعملوا متمكنين من مكانتكم، أي حالكم التي أنتم عليها، أي اعملوا ما تحبون أن تعملوه بي.
وجملة {إِنِّي عَامِلٌ} مستأنفة. ولم يقرن حرف {سَوْفَ} في هذه الآية بالفاء وقرن في آية سورة الأنعام بالفاء؛ فجملة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} هنا جعلت مستأنفة استئنافا بيانيا إذ لما فاتحهم بالتهديد كان ذلك ينشئ سؤالا في نفوسهم عما ينشأ على هذا التهديد فيجاب بالتهديد ب {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . ولكونه كذلك كان مساويا للتفريع بالفاء الواقع في آية الأنعام في المآل، ولكنه أبلغ في الدلالة على نشأة مضمون الجملة المستأنفة عن مضمون التي قبلها؛ ففي خطاب شعيب عليه السلام قومه من الشدة ما ليس في الخطاب المأمور به النبيء صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام جريا على ما أرسل الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من اللين لهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. وكذلك التفاوت بين معمولي {تَعْلَمُونَ} فهو هنا غليظ شديد { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} وهو هنالك لين {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [الأنعام: 135].
و {مَنْ} استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، أي تعلمون جواب هذا السؤال. والعذاب: خزي لأنه إهانة.
والارتقاب: الترقب، وهو افتعال من رقبه إذا انتظره.
والرقيب هنا فعيل بمعنى فاعل، أي أني معكم راقب، أي كل يرتقب ما يجازيه الله به إن كان كاذبا أو مكذبا.
[94, 95] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} .
عطف {لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} هنا وفي قوله في قصة عاد {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود: 59] بالواو فيهما وعطف نظيراهما في قصة ثمود {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود: 66] وفي قصة قوم لوط {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] لأن قصتي ثمود وقوم لوط كان فيهما تعيين أجل العذاب الذي توعد به النبيءان قومهما؛ ففي قصة ثمود {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، وفي قصة قوم لوط {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]؛ فكان المقام مقتضيا ترقب السامع
(11/322)
لما حل بهم عند ذلك الموعد فكان الموقع للفاء لتفريع ما حل بهم على الوعيد به. وليس في قصة عاد وقصة مدين تعيين لموعد العذاب ولكن الوعيد فيهما مجمل من قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} [هود: 57]، وقوله: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93].
وتقدم القول في معنى {جاء أمرنا} إلى قوله: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ} في قصة ثمود. وتقدم الكلام على { بُعْداً} في قصة نوح في قوله: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
أما قوله: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود. ووجه الشبه التماثل في سبب عقابهم بالاستئصال، وهو عذاب الصيحة، ويجوز أن يكون المقصود من التشبيه الاستطراد بذم ثمود لأنهم كانوا أشد جرأة في مناواة رسل الله، فلما تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدها كفرا وعنادا فشبه هلك مدين بهلكهم.
والاستطراد فن من البديع. ومنه قول حسان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
[96, 97] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
عطف قصة على قصة. وعقبت قصة مدين بذكر بعثة موسى - عليه السلام - لقرب ما بين زمنيهما، ولشدة الصلة بين النبيءين فإن موسى بعث في حياة شعيب - عليهما السلام - وقد تزوج ابنة شعيب.
وتأكيد الخبر ب"قد" مثل تأكيد خبر نوح عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25].
والباء في: {بِآياتِنَا} للمصاحبة فإن ظهور الآيات كان مصاحبا لزمن الإرسال إلى فرعون وهو مدة دعوة موسى - عليه السلام - فرعون وملأه.
والسلطان: البرهان المبين، أي المظهر صدق الجائي به وهو الحجة العقلية أو
(11/323)
التأييد الإلهي. وقد تقدم ذكر فرعون وملئه في سورة الأعراف.
وعقب ذكر إرسال موسى عليه السلام بذكر اتباع الملإ أمر فرعون لأن اتباعهم أمر فرعون حصل بأثر الإرسال ففهم منه أن فرعون أمرهم بتكذيب تلك الرسالة.
وإظهار اسم فرعون في المرة الثانية دون الضمير والمرة الثالثة للتشهير بهم، والإعلان بذمه وهو انتفاء الرشد عن أمره.
وجملة {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} حال من {فِرْعَوْنَ} .
والرشيد: فعيل من رشد من باب نصر وفرح، إذا اتصف بإصابة الصواب.
يقال: أرشدك الله. وأجري وصف رشيد على الأمر مجازا عقليا. وإنما الرشيد الآمر مبالغة في اشتمال الأمر على ما يقتضي انتفاء الرشد فكأن الأمر هو الموصوف بعدم الرشد. والمقصود أن أمر فرعون سفه إذ لا واسطة بين الرشد والسفه، ولكن عدل عن وصف أمره بالسفيه إلى نفي الرشد عنه تجهيلا للذين اتبعوا أمره لأن شأن العقلاء أن يتطلبوا الاقتداء بما فيه صلاح وأنهم اتبعوا ما ليس فيه أمارة على سداده واستحقاقه لأن يتبع فماذا غرهم باتباعه.
[98, 99] {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
جملة {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} يجوز أن تكون في موضع الحال من {فِرْعَوْنَ} [هود: 97] المذكور في الجملة قبلها. ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا.
والإيراد: جعل الشيء واردا، أي قاصدا الماء، والذي يوردهم هو الفارط، ويقال له: الفرط.
والورد بكسر الواو: الماء المورود، وهو فعل بمعنى مفعول، مثل ذبح. وفي قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} استعارة الإيراد إلى التقدم بالناس إلى العذاب، وهي تهكمية لأن الإيراد يكون لأجل الانتفاع بالسقي وأما التقدم بقومه إلى النار فهو ضد ذلك.
و {يَقْدُمُ} مضارع قدم بفتح الدال بمعنى تقدم المتعدي إذا كان متقدما غيره.
وإنما جاء {فَأَوْرَدَهُمُ} بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوع ذلك الإيراد وإلا
(11/324)
فقرينة قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تدل على أنه لم يقع في الماضي.
وجملة {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} في موضع الحال والضمير المخصوص بالمدح المحذوف هو الرابط وهو تجريد للاستعارة، كقوله تعالى: {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]، لأن الورد المشبه به لا يكون مذموما.
والإتباع: الإلحاق.
واللعنة: هي لعنة العذاب في الدنيا وفي الآخرة.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} متعلق ب {وَأُتْبِعُوا} ، فعلم أنهم أتبعوا لعنة يوم القيامة، لأن اللعنة الأولى قيدت بالمجرور بحرف {في} الظرفية، فتعين أن الإتباع في يوم القيامة بلعنة أخرى.
وجملة {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} مستأنفة لإنشاء ذم اللعنة. والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ذكر اللعنة، أي بئس الرفد هي.
والرفد - بكسر الراء - اسم على وزن فعل بمعنى مفعول مثل ذبح. أي ما يرفد به، أي يعطى. يقال: رفده إذا أعطاه ما يعينه به من مال ونحوه.
وفي حذف المخصوص بالمدح إيجاز ليكون الذم متوجها لإحدى اللعنتين لا على التعيين لأن كلتيهما بئيس.
وإطلاق الرفد على اللعنة استعارة تهكمية، كقول عمرو بن معد يكرب:
تحية بينهم ضرب وجيع
والمرفود: حقيقته المعطى شيئا. ووصف الرفد بالمرفود لأن كلتا اللعنتين معضودة باأخرى، فشبهت كل واحدة بمن أعطي عطاء فهي مرفودة. وإنما أجري المرفود على التذكير باعتبار أنه أطلق عليه رفد.
[100, 101] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} .
استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مر ذكرها.
(11/325)
واسم الإشارة إلى المذكور كله من القصص من قصة نوح عليه السلام وما بعدها.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وتقدم في سورة الأنعام [34] في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} . وجملة: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} حال من اسم الإشارة. وعبر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ.
وجملة {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} معترضة، حال من {الْقُرَى} .
و {قَائِمٌ} صفة لموصوف محذوف دل عليه عطف {وَحَصِيدٌ} ، والمعنى: منها زرع قائم وزرع حصيد، وهذا تشبيه بليغ.
والقائم: الزرع المستقل على سوقه. والحصيد: الزرع المحصود. فعيل بمعنى مفعول. وكلاهما مشبه به للباقي من القرى والعافي. والمراد بالقائم ما كان من القرى التي قصها الله في القرآن قرى قائما بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة "وهو المعروف بأبي الهول" وهيكل الكرنك بمصر، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس. وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة، وصنعاء بلد قوم تبع، وقرى بائدة مثل ديار عاد، وقرى قوم لوط، وقرية مدين. وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة. والمقصود من هذه الجملة الاعتبار.
وضمير الغيبة في {ظَلَمْنَاهُمْ} عائد إلى {الْقُرَى} باعتبار أهلها لأنهم المقصود.
وإنما لم يظلمهم الله تعالى لأن ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظالمين أنفسهم إذ جروا لأنفسهم العذاب.
وفرع على ظلمهم أنفسهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئا، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لما عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتمادا على دفع أصنامهم عنهم فلما جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضد مضادا لتأميلهم وتقديرهم.
والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السابقين وأيقنوا أنهم قد حل بهم من الاستئصال ما
(11/326)
شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين.
وجملة {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} علاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسب ولكنهم زادتهم تتبيبا وخسرانا، أي زادتهم أسباب الخسران.
والتتبيب: مصدر تببه إذا أوقعه في التباب وهو الخسارة. وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيبا لما جاء أمر الله، لأنه عطف على الفعل المقيد ب {لَمَّا} التوقيتية المفيدة أن ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم.
ووجه زيادتهم إياهم تتبيبا حينئذ أن تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إياهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب.
ويجوز أن يكون العطف لمجرد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيبا قبل مجيء أمر الله بأن زادوهم اعتقادهم فيها انصرافا عن النظر في آيات الرسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التفكير جرأة على رسل الله حتى حق عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم.
[102] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
الإشارة إلى المذكور من استئصال تلك القرى، وهو ما يدل عليه قوله: {أَخْذُ رَبِّكَ} . والتقدير: وكذلك الأخذ الذي أخذنا به تلك القرى أخذ ربك إذا أخذ القرى. والتشبيه في الكيفية والعاقبة.
والمقصود من هذا التذييل تعريض بتهديد مشركي العرب من أهل مكة وغيرها.
والظلم: الشرك. وجملة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} في موضع البيان لمضمون {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} . وفيه إشارة إلى وجه الشبه.
[103, 104] { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} .
(11/327)
بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح. والمعنى: وكذلك أخذ ربك فاحذروه واحذروا ما هو أشد منه وهو عذاب الآخرة. والإشارة إلى الأخذ المتقدم. وفي هذا تخلص إلى موعظة المسلمين والتعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وجعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأن القرى الظالمة توعدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] فلما عاينوا عذاب الدنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر.
وجملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتى أن المتكلم يبتدئ كلاما لأجل وصفه.
والإشارة ب {ذَلِكَ} إلى الآخرة لأن ما صدقها يوم القيامة، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة.
واللام في {مَجْمُوعٌ لَهُ} لام العلة، أي مجموع الناس لأجله.
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدل على معنى الثبات، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم، فيدل على تمكن تعلق الجمع بالناس وتمكن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتى لقب ذلك اليوم يوم الجمع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9].
وعطف جملة {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} على جملة: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} لزيادة التهويل لليوم بأنه يشهد. وطوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشاهدون، إذ ليس القصد إلى شاهدين معينين. والإخبار عنه بهذا يؤذن بأنهم يشهدونه شهودا خاصا وهو شهود الشيء المهول، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرد كونه مرئيا لكن المراد كونه مرئيا رؤية خاصة.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقق أي مشهود بوقوعه، كما يقال: حق مشهود، أي عليه شهود لا يستطاع إنكاره، واضح للعيان.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشاهدين إياه لشهرته، كقولهم: لفلان مجلس مشهود، كقول أم قيس الضبية:
(11/328)
ومشهد قد كفيت الناطقين به ... في محفل من نواصي الخيل مشهود
فيكون من نحو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 41, 42] الآية.
وجملة {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} معترضة بين جملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} وبين جملة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 15] الخ. والمقصود الرد على المنكرين للبعث مستدلين بتأخير وقوعه في حين تكذيبهم به يحسبون أن تكذيبهم به يغيظ الله تعالى فيعجله لهم جهلا منهم بمقام الإلهية فبين الله لهم أن تأخيره إلى أجل حدده الله له من يوم خلق العالم كما حدد آجال الأحياء، فيكون هذا كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29, 30].
والأجل: أصله المدة المنظر إليها في أمر، ويطلق أيضا على نهاية تلك المدة، وهو المراد هنا بقرينة اللام، كما أريد في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34].
والمعدود: أصله المحسوب، وأطلق هنا كناية عن المعين المضبوط بحيث لا يتأخر ولا يتقدم لأن المعدود يلزمه التعين، أو كناية عن القرب.
[105- 108] {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
جملة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} تفصيل لمدلول جملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} الآية، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشر والخير تبعا لذلك التفصيل. فالمقصد الأول من هذه الجملة هو قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وما بعده، وأما ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم. وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتصل لأنه أسعد بتناسب أغراض الكلام، والظروف صالحة لاتصال الكلام كصلاحية الحروف العاطفة وأدوات الشرط.
و {يَوْمَ} من قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} مستعمل في معنى "حين" أو "ساعة"، وهو استعمال
(11/329)
شائع في الكلام العربي في لفظ "يوم" و"ليلة" توسعا بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقا هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلا معنى "حين" دون تقدير بمدة ولا بنهار ولا ليل، ألا ترى قول النابغة:
تخيرن من أنهار يوم حليمة
فأضاف "أنهار" جمع نهار إلى اليوم. وروي:
من أزمان يوم حليمة.
وقول توبة بن الحمير:
كأن القلب ليلة قيل: يغدى ... بليلى الأخيلية أو يراح
أراد ساعة قيل: يغدى بليلى، ولذلك قال: يغدى أو يراح، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرواح.
فقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ} معناه حين يأتي. وضمير {يَأْتِ} عائد إلى {يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] وهو يوم القيامة. والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: 66].
فقوله: {يَوْمَ يَأْتِي} ظرف متعلق بقوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
وجملة {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} مستأنفة ابتدائية. قدم الظرف على فعلها للغرض المتقدم. والتقدير: لا تكلم نفس حين يحل اليوم المشهود. والضمير في {بِإِذْنِهِ} عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير {نُؤَخِّرُهُ} [هود: 104]. والمعنى أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن من الله، كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38]. والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أن الأصنام لها حق الشفاعة عند الله.
و {نَفْسٌ} يعم جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي، فشمل النفوس البرة والفاجرة، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه. وفصل عموم النفوس باختلاف أحوالهما. وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله: {مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103]، ولكنه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلل ذلك من شبه الاعتراض بقوله: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} [هود: 104] إلى قوله: {بِإِذْنِهِ} وذلك نسيج بديع.
والشقي: فعيل صفة مشبهة من شقي، إذا تلبس بالشقاء والشقاوة، أي سوء الحالة
(11/330)
وشرها وما ينافر طبع المتصف بها.
والسعيد: ضد الشقي، وهو المتلبس بالسعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيرة الملائمة للمتصف بها. والمعنى: فمنهم يومئذ من هو في عذاب وشدة ومنهم من هو في نعمة ورخاء.
والشقاوة والسعادة من المواهي المقولة بالتشكيك فكلتاهما مراتب كثيرة متفاوتة في قوة الوصف. وهذا إجمال تفصيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} إلى آخره.
والزفير: إخراج الأنفاس بدفع وشدة بسبب ضغط التنفس. والشهيق: عكسه وهو اجتلاب الهواء إلى الصدر بشدة لقوة الاحتياج إلى التنفس.
وخص بالذكر من أحوالهم في جهنم الزفير والشهيق تنفيرا من أسباب المصير إلى النار لما في ذكر هاتين الحالتين من التشويه بهم وذلك أخوف لهم من الألم.
ومعنى {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} التأييد لأنه جرى مجرى المثل، وإلا فإن السماوات والأرض المعروفة تضمحل يومئذ، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] أو يراد سماوات الآخرة وأرضها.
و {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء من الأزمان التي عمها الظرف في قوله: {مَا دَامَتِ} أي إلا الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعا للأزمان. وهذا بناء على غالب إطلاق {مَا} الموصولة أنها لغير العاقل. ويجوز أن يكون استثناء من ضمير {خَالِدِينَ} لأن {مَا} تطلق على العاقل كثيرا كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وقد تكرر هذا الاستثناء في الآية مرتين.
فأما الأول منهما فالمقصود أن أهل النار مراتب في طول المدة فمنهم من يعذب ثم يعفى عنه، مثل أهل المعاصي من الموحدين، كما جاء في الحديث: أنهم يقال لهم الجهنميون في الجنة، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفار.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء، لأن إجمال المستثنى ينشئ سؤالا في نفس السامع أن يقول: ما هو تعيين المستثنى أو لماذا لم يكن الخلود عاما. وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله.
وأما الاستثناء الثاني الواقع في جانب {الَّذِينَ سُعِدُوا} فيحتمل معنيين:
(11/331)
أحدهما أن يراد: إلا ما شاء ربك في أول أزمنة القيامة، وهي المدة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة، أو بشفاعة كما في الصحيح من حديث أنس: "يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا وأدخلوا الجنة فيقال: هؤلاء الجهنميون" .
ويحتمل أن يقصد منه التحذير من توهم استحقاق أحد ذلك النعيم حقا على الله بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرحمة.
وليس يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنما يقتضي أنها لو تعلقت المشيئة لوقع المستثنى، وقد دلت الوعود الإلهية على أن الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها. وأيا ما كان فهم إذا أدخلوا الجنة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها. وهو معنى قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
والمجذوذ: المقطوع.
وقرأ الجمهور {سعِدُوا} - بفتح السين -، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف - بضم السين على أنه مبني للنائب -، وإن كان أصل فعله قاصرا لا مفعول له؛ لكنه على معاملة القاصر معاملة المتعدي في معنى فعل به ما صيره صاحب ذلك الفعل، كقولهم: جن فلان، إذا فعل به ما صار به ذا جنون، ف {سُعِدُوا} بمعنى أسعدوا. وقيل: سعد متعد في لغة هذيل وتميم، يقولون: سعده الله بمعنى أسعده. وخرج أيضا على أن أصله أسعدوا، فحذف همز الزيادة كما قالوا مجنوب "بموحدة في آخره"، ومنه قولهم: رجل مسعود.
[109] {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} .
تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقينا بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يؤذن بسوء حالهم في الآخرة، ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشرك وفساده.
والخطاب في نحو {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} يقصد به أي سامع لا سامع معين سواء كان
(11/332)
ممن يظن به أن يشك في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معينا.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون {فَلا تَكُ} مقصودا به مجرد تحقيق الخبر فإنه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة: لا شك، ولا محالة، ولا أعرفنك، ونحوها.
ويجوز أن يكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلب في الشرك، أي لا تكن شاكا في أنك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيته الرسل من أممهم فإن هؤلاء ما يعبدون إلا عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة.
و {فِي} للظرفية المجازية.
والمرية بكسر الميم: الشك. وقد جاء فعلها على وزن فاعل أو تفاعل وافتعل. ولم يجيء على وزن مجرد لأن أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعارا من مريت الشاة إذا استخرجت لبنها. ومنه قولهم: لا يجارى ولا يمارى. وفي القرآن: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]. وقد تقدم الامتراء عند قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} في أول الأنعام [2].
و {ما} في قوله: {مَّا يَعْبُدُ} مصدرية، أي لا تك في شك من عبادة هؤلاء، والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش.
وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته عناهم باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعا وهو مما ألهمت إليه ونبهت عليه عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء [41].
ومعنى الشك في عبادتهم ليس إلا الشك في شأنها، لأن عبادتهم معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها، وإنما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشك من أنهم هل يعذبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة.
وجملة {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} مستأنفة، تعليلا لانتفاء الشك في عاقبة أمرهم في الدنيا.
ووجه كونه علة أنه لما كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقابا على دينهم فأنتم توقنون بأن جزاءهم سيكون مماثلا لجزاء أسلافهم،
(11/333)
لأن حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة.
والاستثناء بقوله: {إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ} استثناء من عموم المصادر. وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف. التقدير: إلا عبادة كما يعبد آباؤهم.
والآباء: أطلق على الأسلاف، وهم عاد وثمود. وذلك أن العرب العدنانيين كانت أمهم جرهمية، وهي امرأة إسماعيل، وجرهم من إخوة ثمود، وثمود إخوة لعاد، ولأن قريشا كانت أمهم خزاعية وهي زوج قصي. وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى، وهو جد خزاعة.
وعبر عن عبادة الآباء بالمضارع للدلالة على استمرارهم على تلك العبادة، أي إلا كما اعتاد آباؤهم عبادتهم. والقرينة على المضي قوله: {مِنْ قَبْلُ} ، فكأنه قيل: إلا كما كان يعبد آباؤهم. والمضاف إليه {قَبْلُ} محذوف تقديره: من قبلهم، تنصيصا على أنهم سلفهم في هذا الضلال وعلى أنهم اقتدوا بهم.
وجملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} عطف على جملة التعليل والمعطوف هو المعلول، وقد تسلط عليه معنى كاف التشبيه لذلك. فالمعنى: وإنا لموفوهم نصيبهم من العذاب كما وفينا أسلافهم.
والتوفية: إكمال الشيء غير منقوص.
والنصيب: أصله الحظ. وقد استعمل "موفوهم" و"نصيبهم" هنا استعمالا تهكميا كأن لهم عطاء يسألونه فوفوه، فوقع قوله: {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} حالا مؤكدة لتحقيق التوفية زيادة في التهكم، لأن من إكرام الموعود بالعطاء أن يؤكد له الوعد ويسمى ذلك بالبشارة.
والمراد نصيبهم من عذاب الآخرة، فإن الله لم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة ببركة النبيء صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} .
اعتراض لتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته بأن أهل الكتاب وهم أحسن حالا من أهل الشرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل ملة واحدة فلا تأس من اختلاف قومك عليك،
(11/334)
فالجملة عطف على جملة {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109].
ولأجل ما فيها من معنى التثبيت فرع عليها قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].
وقوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي في الكتاب، وهو التوراة. ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنها منه، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]. فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مثبت وناف، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب. فجمعت هذه المعاني جمعا بديعا في تعدية الاختلاف بحرف "في" الدالة على الظرفية المجازية وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافا يلابسه، أي يلابس الكتاب.
ولأن الغرض لم يكن متعلقا ببيان المختلفين ولا بذمهم لأن منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المنكرون على المبدلين كما قال تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] وسيجيء قوله: {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] ، بل كان للتحذير من الوقوع في مثله.
بني فعل "اختلف" للمجهول إذ لا غرض إلا في ذكر الفعل لا في فاعله.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}
يجوز أن يكون عطفا على جملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 19] ويكون الاعتراض تم عند قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، وعليه فضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين.
فيكون {بَيْنَهُمْ} هو نائب فاعل "قضي". والتقدير: لوقع العذاب بينهم، أي فيهم.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فيكون ضمير {بَيْنَهُمْ} عائدا إلى ما يفهم من قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} لأنه يقتضي جماعة مختلفين في أحكام الكتاب، ويكون {بَيْنَهُمْ} متعلقا ب"قضي"، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطئ في أحكام
(11/335)
الكتاب فيكون تحذيرا من الاختلاف، أي أنه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شك. وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم.
و {الكلمة} هي إرادة الله الأزلية وسنته في خلقه. وهي أنه وكل الناس إلى إرشاد الرسل للدعوة إلى الله، وإلى النظر في الآيات، ثم إلى بذل الاجتهاد التام في إصابة الحق، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني، وبالمراجعة فيما بينهم، والتبصر في الحق، والإنصاف في الجدل والاستدلال، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجيراهم. وحكمة ذلك هي أن الفصل والاهتداء إلى الحق مصلحة للناس ومنفعة لهم لا لله. وتمام المصلحة في ذلك يحصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأن ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام [115] وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} في سورة الأنفال [7].
ووصفها بالسبق لأنها أزلية، باعتبار تعلق العلم بوقوعها، وبأنها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل.
ومعنى {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أنه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها.
وضمير {بَيْنَهُمْ} يعود إلى المختلفين المفاد من قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} والقرينة واضحة.
ومتعلق القضاء محذوف لظهوره، أي لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25].
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
يجوز أن يكون عطفا على جملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] فيكون ضمير {وَإِنَّهُمْ} عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {مَا يَعْبُدُونَ} [هود: 109] الآية، أي أن المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث. ويلتئم مع قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} على أول الوجهين وأولاهما، فضمير {مِنْهُ} عائد إلى
(11/336)
{يَوْمَ} من قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 105] إلخ.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، أي فاختلف فيه أهله، أي أهل الكتاب فضمير {وَإِنَّهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {بَيْنَهُمْ} على ثاني الوجهين، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنهم لفي شك.
أما ضمير {مِنْهُ} فيجوز أن يعود إلى الكتاب، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شك وتردد في كتابهم، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلة الشرعية، أو يوجب الظن القريب من اليقين، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده، لأن الاستدلال الصحيح المستنبط من الكتاب لا يعد اختلافا في الكتاب إذ الأصل متفق عليه. فمناط الذم هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التفريع من أدلته. ويجوز أن يكون ضمير {مِنْهُ} عائدا إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100].
والمريب: الموقع في الشك، ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.
[111] {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
تذييل للأخبار السابقة. والواو اعتراضية. و"إنْ" مخففة من {إِنَّ} الثقيلة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي بكر عن عاصم، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها. و"إنْ" المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق. وقرأ الباقون "إنّ" مشددة على الأصل.
وبتنوين {كُلّاً} عوض عن المضاف إليه. والتقدير: وإن كلهم، أي كل المذكورين آنفا من أهل القرى، ومن المشركين المعرض بهم، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى - عليه السلام -.
و"لما" مخففة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، فاللام الداخلة على "مَا" لام الابتداء التي تدخل على خبر {إِنَّ} . واللام الثانية الداخلة على {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} لام جواب القسم. و"مَا" مزيدة للتأكيد. والفصل بين اللامين دفعا لكراهة توالي مثلين.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف - بتشديد الميم - من "لماّ".
(11/337)
فعند من قرأ "إن" مخففة وشدد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون "إن" مخففة من الثقيلة، وأما من شدد النون "إن" وشدد الميم من "لماّ" وهم ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله الفراء: إنها بمعنى "لَمِنْ مَا" فحذفت إحدى الميمات الثلاث، يريد أن "لماّ" ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف "لماّ" في رسم المصحف "لأنه اتبع فيه صورة النطق بها" وإنما هي مركبة من لام الابتداء و "مِن" الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
أي نكثر ضرب الكبش، أي أمير جيش العدو على رأسه. وقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدة، وكان مما يحرك لسانه حين ينزل عليه القرآن" ، فقال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية. فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات: وإن كلا لمن ما ليوفينهم، فلما قلبت نون "مِن" ميما لإدغامها في ميم "مَا" اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم "مِن" لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأن أصل الميم الثانية نون "مِن" فصار "لماّ".
ولام {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} لام قسم.
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به.
والمعنى: وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حققه الله ولم يسامح فيه. فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النحوي"1" ومشى عليه البيضاوي. وقد أنهاها أبو شامة في "شرح منظومة الشاطبي" إلى ستة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه.
وفي تفسير الفخر: سمعت بعض الأفاضل قال: إن الله تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات، أولها: كلمة
ـــــــ
(1) هو نصر بن علي بن محمد الشيرازي الفسوي الفارسي المعروف بأبي مريم, خطيب شيراز. له "تفسير القرآن", و"شرح إيضاح أبي علي الفارسي". كان حيا سنة 565.
(11/338)
"إنْ" وهي للتأكيد، وثانيها: "كلّ" وهي أيضا للتأكيد، وثالثها اللام الداخلة على خبر "إنّ"، ورابعها حرف "ما" إذا جعلناه موصولا على قول الفراء، وخامسها القسم المضمر، وسادسها اللام الداخلة على جواب القسم، وسابعها النون المؤكدة في قوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال، أي إعطاء الجزاء وافيا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء.
وجملة: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} استئناف وتعليل للتوفية لأن إحاطة العلم بأعمالهم مع إرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقا للعمل تمام المطابقة. وذلك محقق التوفية.
[112] {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}
ترتب عن التسلية التي تضمنها قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود: 110] وعن التثبيت المفاد بقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] الحض على الدوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم. وعبر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر من تغييره.
ولما كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السلام إنما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمر المؤمنين بتلك الاستقامة أيضا، لأن الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأن مخالفة الأمة عمدا إلى أحكام كتابها إن هو إلا ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنه اختلافها على أحكامه. وفي الحديث: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلا دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر. ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأن الإيمان أصل فلا تتعلق به الاستقامة. وقد أشار إلى صحة هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي عمرة الثقفي لما قال له: "يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم" فجعل الاستقامة شيئا بعد الإيمان.
(11/339)
ووجه الأمر إلى النبيء صلى الله عليه وسلم تنويها ليبنى عليه قوله: {كَمَا أُمِرْتَ} فيشير إلى أنه المتلقي للأوامر الشرعية ابتداء. وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أعلم بخطاب أمته بذلك بقوله: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} . وكاف التشبيه في قوله: {كَمَا أُمِرْتَ} في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من "استقم". ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبيء صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة ممثالة لسائر ما أمر به، وهو تشبيه المجمل بالمفصل في تفصيله بأن يكون طبقه. ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى "على" كما يقال: كن كما أنت. أي لا تتغير ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه.
{وَمَنْ تَابَ} عطف على الضمير المتصل في {أُمِرْتَ} . ومصحح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور.
{وَمَنْ تَابَ} هم المؤمنون، لأن الإيمان توبة من الشرك. و {مَعَكَ} حال من {تَابَ} وليس متعلقا ب {تَابَ} لأن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين.
وقد جمع قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أصول الصلاح الديني وفروعه لقوله: {كَمَا أُمِرْتَ} .
قال ابن عباس: "ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب "شيبتي هود وأخواتها". وسئل عما في هود فقال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
الخطاب في قوله: {وَلا تَطْغَوْا} موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} .
والطغيان أصله التعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدم في قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]. والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودرء المفاسد، فكان النهي عنه جامعا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى
(11/340)
عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بهد هذا: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
وعن الحسن البصري: جعل الله الدين بين لاءين {وَلا تَطْغَوْا} {وَلا تَرْكَنُوا} [هود: 113] وجملة {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف {بَصِيرٌ} من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته.
[113] {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
الركون: الميل والموافقة، وفعله كعلم. ولعله مشتق من الركن - بضم فسكون - وهو الجنب، لأن الماثل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه. وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب من المشركين لئلا يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم المشركون. وهذه الآية أصل في سد ذرائع الفساد المحققة أو المظنونة.
والمس: مستعمل في الإصابة كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} في آخر الأعراف [201]، والمراد: نار العذاب في جهنم.
وجملة {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} حال، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي، أي ولا تجدون من ينصركم، أي من يخفف عنكم مس عذاب النار أو يخرجكم منها.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بأولياء لتضمينه معنى الحماة والحائلين.
وقد جمع قوله: {وَلا تَطْغَوْا} [هود: 112] وقوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أصلي الدين، وهما: الإيمان والعمل الصالح، وتقدم آنفا قول الحسن: "جعل الله الدين بين لائين {وَلا تَطْغَوْا} , ولا تركنوا".
(11/341)
[114] {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .
انتقل من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب يتناول جميع الأمة بقرينة أن المأمور به من الواجبات على جميع المسلمين، لا سيما وقد ذكر معه ما يناسب الأوقات المعينة للصلوات الخمس، وذلك ما اقتضاه حديث أبي اليسر الآتي.
وطرف الشيء: منتهاه من أوله أو من آخره، فالتثنية صريحة في أن المراد أول النهار وآخره.
و {النَّهَارِ} : ما بين الفجر إلى غروب الشمس، سمي نهارا لأن الضياء ينهر فيه، أي يبرز كما يبرز النهر.
والأمر بالإقامة يؤذن بأنه عمل واجب لأن الإقامة إيقاع العمل على ما يستحقه، فتقتضي أن المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطرفان ظرفان لإقامة الصلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهي الصبح وصلاة في آخره وهي العصر وقيل المغرب.
والزلف: جمع زلفة مثل غرفة وغرف، وهي الساعة القريبة من أختها، فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من الليل، ولما لم تعين الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدة من الزمان كان ذلك مجملا فبينته السنة والعمل المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكان ذلك بيانا لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78].
والمقصود أن تكون الصلاة أول أعمال المسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء لتكون السيئات الحاصلة فيما بين ذلك ممحوة بالحسنات الحافة بها. وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحث على الصلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تعرض الغفلة عنها. وقد ثبت وجوبهما بأدلة أخر وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها.
وجملة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} مسوقة مساق التعليل للأمر بإقامة الصلوات،
(11/342)
وتأكيد الجملة بحرف {إِنَّ} للاهتمام وتحقيق الخبر. و {إِنَّ} فيه مفيدة معنى التعليل والتفريع، وهذا التعليل مؤذن بأن الله جعل الحسنات يذهبن السيئات، والتعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأن الشأن أن تكون العلة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللام من العموم.
وإذهاب السيئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النفس إلى ترك السيئات سهلا وهينا كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها. ويشمل أيضا محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها فضلا من الله على عباده الصالحين.
ومحمل السيئات هنا على السيئات الصغائر التي هي من اللمم حملا لمطلق هذه الآية على مقيد آية: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فيحصل من مجموع الآيات أن اجتناب الفواحش جعله الله سببا لغفران الصغائر أو أن الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} في سورة النساء [31].
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبيء صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فأنزلت عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} . فقال الرجل: ألي هذه? قال: لمن عمل بها من أمتي" .
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وها أنا ذا فاقض في ما شئت، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رجلا فدعاه فتلا عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة? قال: لا، بل للناس كافة" . قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرج الترمذي حديثين آخرين: أحدهما عن معاذ بن جبل، والآخر عن أبي اليسر وهو صاحب القصة وضعفهما.
والظاهر أن المروي في هذه الآية هو الذي حمل ابن عباس وقتادة على القول بأن هذه الآية مدنية دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله: "فأنزلت عليه" فإن كان كذلك كما ذكره الراوي فهذه الآية ألحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] قبلها وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
(11/343)
الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] بعدها.
وأما الذين رجحوا أن السورة كلها مكية فقالوا: إن الآية نزلت في الأمر بإقامة الصلوات وإن النبيء صلى الله عليه وسلم أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائبا ليعلمه بقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، فيؤول قول الراوي: فأنزلت عليه، أنه أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش.
ويؤيد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} ، ولم يقولا: فأنزل عليه.
وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي تذكرة للذي شأنه أن يذكر ولم يكن شأنه الإعراض عن طلب الرشد والخير، وهذا أفاد العموم نصا. وقوله: {ذَلِكَ } الإشارة إلى المذكور قبله من قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].
[115] {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
عطف على جملة: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] الآيات، لأنها سيقت مساق التثبيت من جراء تأخير عقاب الذين كذبوا.
ومناسبة وقوع الأمر بالصبر عقب الأمر بالاستقامة والنهي عن الركون إلى الذين ظلموا، أن المأمورات لا تخلو عن مشقة عظيمة ومخالفة لهوى كثير من النفوس، فناسب أن يكون الأمر بالصبر بعد ذلك ليكون الصبر على الجميع كل بما يناسبه.
وتوجيه الخطاب إلى النبيء صلى الله عليه وسلم تنويه به. والمقصود هو وأمته بقرينة التعليل بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} لما فيه من العموم والتفريع المقتضي جمعهما أن الصبر من حسنات المحسنين وإلا لما كان للتفريع موقع. وحرف التأكيد مجلوب للاهتمام بالخبر.
وسمي الثواب أجرا لوقوعه جزاء على الأعمال وموعودا به فأشبه الأجر.
[116] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} .
(11/344)
هذا قوي الاتصال بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود: 102] فيجوز أن يكون تفريعا عليه ويكون ما بينهما اعتراضا دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة. والمعنى فهلا كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حل بهم ما حل. وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر. ويجوز أن يكون تفريعا على قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا، إذ المعنى: ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حل عليهم غضب الله إلا قليلا منهم، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنه في موقع التفصيل والتعليل لجملة {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وما عطف عليها؛ كأنه قيل: وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فلولا كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم، وكونوا مستقيمين ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الظالمين وأقيموا الصلاة، فغير نظم الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعممها. وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كرد العجز على الصدر من غير تكلف ولا ظهور قصد.
ويقرب من هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" .
و"لولا" حرف تحضيض بمعنى "هلا". وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلا تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم.
والقرون: الأمم. وتقدم في أول الأنعام.
والبقية: الفضل والخير. وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأن شأن الشيء النفيس أن صاحبه لا يفرط فيه.
وبقية الناس: سادتهم وأهل الفضل منهم، قال رويشد بن كثير الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
ومن أمثالهم "في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا". فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال: في فلان بقية، والمعنى هنا: أولو فضل ودين وعلم
(11/345)
بالشريعة، فليس المراد الرسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
والفساد: المعاصي واختلال الأحوال، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حل ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم. وفي هذا تنويه بأصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم فإنهم أولو بقية من قريش يدعونهم إلى إيمان حتى آمن كلهم، وأولو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلمون الدين، كما قال تعالى فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وفي قوله: {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو} إشارة إلى البشارة بأن المسلمين لا يكونون كذلك مما يومئ إليه قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر "بِقْية" - بكسر الباء الموحدة وسكون القاف وتخفيف التحتية - فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيل السمت والوقار.
و {إِلَّا قَلِيلاً} استثناء منقطع من {أُولُو بَقِيَّةٍ} وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم {أُولُو بَقِيَّةٍ} ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل، وهو في معنى الاستدراك لأن معنى التحضيض متوجه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين ينعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم. وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد، ولكن لما كان معنى التحضيض قد يوهم أن جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقية كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام، فصار المستثنى غير داخل في المذكور من قبل، فلذلك كان منقطعا، وعلامة انقطاعه انتصابه لأن نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح. وهل يجيء أفصح كلام إلا على أفصح إعراب، ولو كان معتبرا اتصاله لجاء مرفوعا على البدلية من المذكور قبله.
و"من" في قوله: {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا } بيانية، بيان للقليل لأن الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد، وهم أتباع الرسل.
(11/346)
وفي البيان إشارة إلى أن نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأن النهي سبب السبب إذ النهي يسبب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة.
ودل قوله: {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} على أن في الكلام إيجاز حذف تقديره: فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مس النار الذي لا دافع له عنهم.
وجملة {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله. والمعنى: وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى: {فسجدوا فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] تفصيلا لمفهوم الاستثناء.
وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنهم لا يخلون من ظلم أنفسهم.
واتباع ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتبع على متبوعه.
وأترفوا: أعطوا الترف، وهو السعة والنعيم الذي سهله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه.
و {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي في اتباع الترف فلم يكونوا شاكرين، وذلك يحقق معنى الاتباع لأن الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتباع بل هو تمحض وانقطاع دون شوبه بغيره. وفي الكلام إيجاز حذف آخر، والتقدير: فحق عليهم هلاك المجرمين، وبذلك تهيأ المقام لقوله بعده: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117].
[117] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
عطف على جملة: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116] لما يؤذن به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممن نزل به منهم لم يكن ظلما من الله تعالى ولكنهم جروا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحب الفساد.
وصيغة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ} تدل على قوة انتفاء الفعل، كما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية في آل عمران [79]، وقوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر العقود [116] فارجع إلى ذينك الموضعين.
(11/347)
والمراد ب {الْقُرَى} أهلها، على طريقة المجاز المرسل كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
والباء في {بِظُلْمٍ} للملابسة، وهي في محل الحال من {رَبُّكَ} أي لما يهلك الناس إهلاكا متلبسا بظلم.
وجملة {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حال من {الْقُرَى} أي لا يقع إهلاك الله ظالما لقوم مصلحين.
والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، فالله تعالى لا يهلك قوما ظالما لهم ولكن يهلك قوما ظالمين أنفسهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
والمراد: الإهلاك العاجل الحال بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناء أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة.
[118, 119] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
لما كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من ينهون عن الفساد فاتبعوا الإجرام، وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنه ليس ظلما من الله وأنهم لو كانوا مصلحين لما أهلكوا، لما كان ذلك كله قد يثير توهم أن تعاصي الأمم عما أراد الله منهم خروج عن قبضة القدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهم بأن الله قادر أن يجعلهم أمة واحدة متفقة على الحق مستمرة عليه كما أمرهم أن يكونوا.
ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة، وان الله تعالى لما خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، وتقدم الكلام عليها في سورة البقرة [213]. لم يدخرهم إرشادا أو نصحا بواسطة الرسل ودعاة الخير وملقنيه
(11/348)
من أتباع الرسل، وهو أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فمن الناس مهتد وكثير منهم فاسقون ولو شاء لخلق العقول البشرية على إلهام متحد لا تعدوه كما خلق إدراك الحيوانات العجم على نظام لا تتخطاه من أول النشأة إلى انقضاء العالم، فنجد حال البعير والشاة في زمن آدم عليه السلام كحالهما في زماننا هذا، وكذلك يكون إلى انقراض العالم، فلا شك أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني لأن ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبدية الخالصة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضيا ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضيا عقاب الجحيم، فلا جرم أن الله خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأمور، ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يعد الواحد بألف {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37].
وهذا وجه مناسبة عطف جملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} على جملتي {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .
ومفعول فعل المشيئة محذوف لأن المراد منه ما يساوي مضمون جواب الشرط فحذف إيجازا. والتقدير: ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم كذلك.
والأمة: الطائفة من الناس الذين اتحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللغة والنسب والدين. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة [213]. فتفسر الأمة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال: الأمة العربية والأمة الإسلامية.
ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على اتباع دين الحق كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى: لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملة واحدة فكانوا أمة واحدة من حيث الدين الخالص.
وفهم من شرط "لو" أن جعلهم أمة واحدة في الدين منتفية، أي منتف دوامها على الوحدة في الدين وإن كانوا قد وجدوا في أول النشأة متفقين فلم يلبثوا حتى طرأ الاختلاف بين ابني آدم عليه السلام لقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} في سورة يونس [19]؛ فعلم أن الناس
(11/349)
قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمة واحدة، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتفاق في الدين فأعقب ذلك بأن الاختلاف دائم بينهم لأنه من مقتضى ما جبلت عليه العقول.
ولما أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين، وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل، لأن الحق لا يقبل التعدد والاختلاف، عقب عموم {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله: { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} ، أي فعصمهم من الاختلاف.
وفهم من هذا أن الاختلاف المذموم المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين وإن كان يزعم أنه من متبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة، فإن لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة، وكما فعل علي - كرم الله وجهه - في قتال الحرورية الذين كفروا المسلمين. وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.
وأما تعقيبه بقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فهو تأكيد بمضمون {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: {مُخْتَلِفِينَ} ، واللام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به كما بيناه آنفا كان الاختلاف علة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] لأن القصر هنالك إضافي، أي إلا بحالة أن يعبدوني لا يشركوا، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الرد عليه بالقصر كما هو بين لمن مارس أساليب البلاغة العربية.
وتقديم المعمول على عامله في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلة، وبهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين.
ثم أعقب ذلك بقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأن قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يؤذن بأن المستثنى منه قوم مختلفون اختلافا لا رحمة لهم فيه، فهو اختلاف مضاد للرحمة، وضد النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام.
(11/350)
وتمام كلمة الرب مجاز في الصدق والتحقق، كما تقدم عند قوله تعإلى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام[115]، فالمختلفون هم نصيب جهنم.
والكلمة هنا بمعنى الكلام. فكلمة الله: تقديره وإرادته. أطلق عليها {كلمة} مجازا لأنها سبب في صدور كلمة "كن" وهي أمر التكوين. وتقدم تفصيله في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام[115].
وجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} تفسير للكلمة بمعنى الكلام. وذلك تعبير عن الإرادة المعبر عنها بالكلام النفسي.
ويجوز أن تكون الكلمة كلاما خاطب به الملائكة قبل خلق الناس فيكون {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} تفسيرا ل {كلمة} .
و {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تبعيض، أي لأملأن جهنم من الفريقين. و {أَجْمَعِينَ} تأكيد لشمول تثنية كلا النوعين لا لشمول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته {مِنَ} .
[120] {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
هذا تذييل وحوصلة لما تقدم من أنباء القرى وأنباء الرسل.
فجملة {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} إلى آخرها عطف الإخبار على الإخبار والقصة على القصة، ولك أن تجعل الواو اعتراضية أو استئنافية. وهذا تهيئة لاختتام السورة وفذلكة لما سيق فيها من القصص والمواعظ.
وانتصب {كُلّاً} على المفعولية لفعل {نَقُصُّ} . وتقديمه على فعله للاهتمام ولما فيه من الإبهام ليأتي بيانه بعده فيكون أرسخ في ذهن السامع.
وتنوين {كُلّاً} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف المبين بقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} . فالتقدير: وكل نبأ عن الرسل نقصه عليك، فقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} بيان للتنوين الذي لحق "كلا". و {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدل من {كُلّاً} .
والقصص يأتي عند قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} في أول سورة يوسف[3].
(11/351)
والتثبيت: حقيقته التسكين في المكان بحيث ينتفي الاضطراب والتزلزل. وتقدم في قوله تعالى: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} في سورة النساء[66]، وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة الأنفال[12]، وهو هنا مستعار للتقرير كقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
والفؤاد: أطلق على الإدراك كما هو الشائع في كلام العرب.
وتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة يقينه ومعلوماته بما وعده الله لأن كل ما يعاد ذكره من قصص الأنبياء وأحوال أممهم معهم يزيده تذكرا وعلما بأن حاله جار على سنن الأنبياء وازداد تذكرا بأن عاقبته النصر على أعدائه، وتجدد تسلية على ما يلقاه من قومه من التكذيب وذلك يزيده صبرا. والصبر: تثبيت الفؤاد.
وأن تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علما بأن مراتب العقول البشرية متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل، فيعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأن المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جبل عليها النظام البشري، فلا يحزنه مخالفة قومه عليه، ويزيده علما بسمو أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى عليه السلام واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب.
والإشارة من قوله: {فِي هَذِهِ} قيل إلى السورة وروي عن ابن عباس، فيقتضي أن هذه السورة كانت أوفى بأنباء الرسل من السور النازلة قبلها وبهذا يجري على قول من يقول: إنها نزلت قبل سورة يونس. والأظهر أن تكون الإشارة إلى الآية التي قبلها وهي {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} - إلى قوله -: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 116- 119]. فتكون هذه الآيات الثلاث أول ما نزل في شأن النهي عن المنكر.
على أن قوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} ليس صريحا في أنه لم يجيء مثله قبل هذه الآيات، فتأمل.
ولعل المراد ب {الْحَقُّ} تأمين الرسول من اختلاف أمته في كتابه بإشارة قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] المفهم أن المخاطبين ليسوا بتلك
(11/352)
المثابة، كما تقدمت الإشارة إليه آنفا.
وتعربفه إشارة إلى حق معهود للنبي؛ إما بأن كان يتطلبه، أو يسأل ربه.
والموعظة: اسم مصدر الوعظ، وهو التذكير بما يصد المرء عن عمل مضر.
والذكرى: مجرد التذكير بما ينفع. فهذه موعظة للمسلمين ليحذروا ذلك وتذكيرا بأحوال الأمم ليقيسوا عليها ويتبصروا في أحوالها. وتنكير {مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى} للتعظيم.
[121] [122] {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .
عطف على جملة: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120] الآية، لأنها لما اشتملت على أن في هذه القصة ذكرى للمؤمنين أمر بأن يخاطب الذين لا يؤمنون بما فيها خطاب الآيس من انتفاعهم بالذكرى الذي لا يعبأ بإعراضهم ولا يصده عن دعوته إلى الحق تألبهم على باطلهم ومقاومتهم الحق. فلا جرم كان قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} عديلا لقوله: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. وهذا القول مأمور أن يقوله على لسانه ولسان المؤمنين.
وقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} هو نظير ما حكي عن شعيب - عليه السلام - في هذه السورة آنفا.
وضمائر {إِنَّا عَامِلُونَ} و {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} للنبي والمؤمنين الذين معه.
وفي أمر الله ورسوله بأن يقول ذلك على لسان المؤمنين شهادة من الله بصدق إيمانهم. وفيه التفويض إلى رأس الأمة بأن يقطع أمرا عن أمته ثقة بأنهم لا يردون فعله. كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم لهوازن لما جاءوا تائبين وطالبين رد سباياهم وغنائمهم "اختاروا أحد الأمرين السبي أو الأموال" . فلما اختاروا السبي رجع السبي إلى أهله ولم يستشر المسلمين، ولكنه جعل لمن يطيب ذلك لهوازن أن يكون على حقه في أول ما يجيء من السبي، فقال المؤمنون: طيبنا ذلك.
وقوله: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} تهديد ووعيد، كما يقال في الوعيد: سوف ترى.
[123] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
(11/353)
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
كلام جامع وهو للسورة مؤذن بختامها، فهو من براعة المقطع. والواو عاطفة كلاما على كلام، أو واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير.
واللام في {لِلَّهِ} للملك وهو ملك إحاطة العلم، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض. وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما توعدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة.
وتقديم المجرورين في {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض، لأن ذلك مما لا يشاركه فيه أحد. وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره، لأن من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد، ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة.
ومعنى إرجاع الأمر إليه: أن أمر التدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله، أي إلى علمه وقدرته، وإن حسب الناس وهيأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد، وكثيرا ما اعتز العزيز بعزته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب، وربما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة.
والتعريف في {الْأَمْرُ} تعريف الجنس فيعم الأمور، وتأكيد الأمر ب {كُلُّهُ} للتنصيص على العموم.
وقرأ من عدا نافعا {يُرْجَعُ} ببناء الفعل بصيغة النائب، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله. وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون "الأمر" هو فاعل الرجوع، أي يرجع هو إلى الله.
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصرف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجول الباحث عن مكان يستقر به ثم إيوائه إلى المقر اللائق به ورجوعه إليه، فهي تمثيلية مكنية رمز إليها بفعل {يُرْجَعُ} وتعديته ب {إِلَيْهِ} .
وتفريع أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر، لأن
(11/354)
الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكل عليه في كل مهم. وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكلوا على شفاعة الآلهة ونفعها. ويتضمن أمر النبيء عليه الصلاة والسلام بالدوام على العبادة والتوكل.
والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكل عليه دون غيره بقرينة {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ، وبقرينة التفريع لأن الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكل إلى غيره، فلذلك لم يؤت بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما.
وجملة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فذلكة جامعة، فهو تذييل لما تقدم. والواو فيه كالواو في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن عدم غفلته عن أي عمل أنه يعطي كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا فشر، ولذلك علق وصف الغافل بالعمل ولم يعلق بالذوات نحو: بغافل عنكم، إيماء إلى أن على العمل جزاء.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب "عَمَّا تَعْمَلُونَ"- بتاء فوقية - خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب. وقرأ من عداهم بالمثناة التحتية على أن يعود الضمير إلى الكفار فهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام وتهديد للمشركين.
(11/355)
المجلد الثاني عشر
سورة يوسف
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف
الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف، فقد ذكر ابن حجر في كتاب "الإصابة" في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة.
ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصت قصة يوسف - عليه السلام - كلها، ولم تذكر قصته في غيرها. ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر.
وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر، كما ذكرناه في سورة يونس.
وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره. وقد قيل: إن الآيات الثلاث من أولها مدنية. قال في "الإتقان": وهو واه لا يلتفت إليه.
نزلت بعد سورة هود، وقبل سورة الحجر.
وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور.
ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف - عليه السلام - هذه السورة من الإطناب.
وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار.
من مقاصد هذه السورة
روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: أنزل القرآن فتلاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه زمانا، فقالوا "أي المسلمون بمكة":
(12/5)
يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف:1, 2] الآيات الثلاث.
فأهم أغراضها: بيان قصة يوسف - عليه السلام - مع إخوته، وما لقيه في حياته، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة.
وفيها إثبات أن بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيب، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [سورة يوسف:4] الآيات.
وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده.
وتحاسد القرابة بينهم.
ولطف الله بمن يصطفيه من عباده.
والعبرة بحسن العواقب، والوفاء، والأمانة، والصدق، والتوبة.
وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر.
وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لقيه يعقوب ويوسف عليهما السلام من آلهم من الأذى. وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من آله أشد ما لقيه من بعداء كفار قومه، مثل عمه أبي لهب، والنضر بن الحارث، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف:7].
وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف عليهم السلام على البلوى. وكيف تكون لهم العاقبة.
وفيها العبرة بهجرة قوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوب -عليه السلام- وآله، وذلك إيماء إلى أن قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
(12/6)
وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها. واسترقاق الصبي اللقيط. واسترقاق السارق، وأحوال المساجين. ومراقبة المكاييل.
وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان النضر يتردد على الحيرة فتعلم أحاديث "رستم" و"اسفنديار" من أبطال فارس، فكان يحدث قريشا بذلك ويقول لهم: أنا والله أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم بأخبار الفرس، فكان ما بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموه به عليهم بأنه أشبع للسامع، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحديا لهم بالمعارضة.
على أنها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة. ولذلك ترى في خلال السورة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [سورة يوسف:56] مرتين {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [سورة يوسف:76] فتلك عبر من أجزاء القصة.
وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة يوسف:67]، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:90].
[1] {ألر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.
{ألر}.
تقدم الكلام على نظاير {ألر} ونحوها في أول سورة البقرة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.
الكلام على {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} مضى في سورة يونس. ووصف الكتاب هنا ب{الْمُبِينِ} ووصف به في طالعة سورة يونس ب {الْحَكِيمِ} لأن ذكر وصف إبانته هنا أنسب، إذ كانت القصة التي تضمنتها هذه السورة مفصلة مبينة لأهم ما جرى في مدة
(12/7)
يوسف -عليه السلام- بمصر. فقصة يوسف -عليه السلام- لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالا ولا تفصيلا، بخلاف قصص الأنبياء: هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب -عليهم السلام أجمعين- إذ كانت معروفة لديهم إجمالا، فلذلك كان القرآن مبينا إياها ومفصلا.
ونزولها قبل اختلاط النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إياه بعلوم الأولين، وبذلك ساوى الصحابة علماء بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون.
فالمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي. والمراد: الإبانة التامة باللفظ والمعنى.
[2] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه، فإن كونه قرآنا يدل على إبانة المعاني، لأنه ما جعل مقروءا إلا لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ.
وكونه عربيا يفيد إبانة ألفاظه المعاني المقصودة للذين خوطبوا به ابتداء، وهم العرب، إذ لم يكونوا يتبينون شيئا من الأمم التي حولهم لأن كتبهم كانت باللغات غير العربية.
والتأكيد ب"إن" متوجه إلى خبرها وهو فعل {أَنْزَلْنَاهُ} ردا على الذين أنكروا أن يكون منزلا من عند الله.
وضمير {أَنْزَلْنَاهُ} عائد إلى {الْكِتَابِ} في قوله: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [سورة يوسف:1].
و {قُرْآناً} حال من الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} ، أي كتابا يقرأ، أي منظما على أسلوب معد لأن يقرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعا مستمرا يقرأه الناس.
و {عَرَبِيّاً} صفة ل {قُرْآناً}. فهو كتاب بالعربية ليس كالكتب السالفة فإنه لم يسبقه كتاب بلغة العرب.
وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه، لأنكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملا على ما فيه نفعكم هو سبب
(12/8)
لعقلكم ما يحتوي عليه، وعبر عن العلم بالعقل للإشارة إلى أن دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حد أن ينزل من لم يحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له، وأنهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء.
وحذف مفعول {تَعْقِلُونَ} للإشارة إلى أن إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره.
وتقدم وجه وقوع "لعل" في كلام الله تعالى. ومحمل الرجاء المفاد بها على ما يؤول إلى التعليل عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} في سورة البقرة [52], وفي آيات كثيرة بعدها بما لا التباس بعده.
[2] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. [سورة يوسف:2]
هذه الجملة تتنزل من جملة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} منزلة بدل الاشتمال لأن أحسن القصص مما يشتمل عليه إنزال القرآن. وكون القصص من عند الله يتنزل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله.
وقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} يتضمن رابطا بين جملة البدل والجملة المبدل منها.
وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتنويه بالخبر، كما يقول كتاب "الديوان": أمير المؤمنين يأمر بكذا.
وتقديم الضمير على الخبر الفعلي يفيد الاختصاص، أي نحن نقص لا غيرنا، ردا على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [سورة النحل:103 ] وقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [سورة الفرقان:5 ] وقولهم: يعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرحمان. وقول النضر بن الحارث المتقدم ديباجة تفسير هذه السورة.
وفي هذا الاختصاص توافق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [سورة يوسف:2].
ومعنى {نَقُصُّ} نخبر الأخبار السالفة. وهو منقول من قص الأثر إذا تتبع مواقع الأقدام ليتعرف منتهى سير صاحبها. ومصدره: القص بالإدغام، والقصص بالفك، قال
(12/9)
تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [سورة الكهف:64 ]. وذلك أن حكاية أخبار الماضين تشبه اتباع خطاهم، ألا ترى أنهم سموا الأعمال سيرة وهي في الأصل هيئة السير، وقالوا: سار فلان سيرة فلان، أي فعل مثل فعله، وقد فرقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قص الأثر فخصوا المجازي بالصدر المفكك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقي مع بقاء المصدر المفكك أيضا كما في قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}.
فـ {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} هنا إما مفعول مطلق مبين لنوع فعله. وإما أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. كالخلق بمعنى المخلوق، وهو إطلاق للقصص شائع أيضا. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة يوسف:111]. وقد يكون وزن فعل بمعنى المفعول كالنبأ والخبر بمعنى المنبأ به والمخبر به، ومثله الحسب والنقض.
وجعل هذا القصص أحسن القصص لأن بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمنه من العبر والحكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصة يوسف - عليه السلام - أحسن من بقية قصص القرآن كما دل عليه قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}.
والباء في {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للسببية متعلقة ب {نَقُصُّ} ، فإن القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعا للسامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذوق مما لا تأتي بمثله عقول البشر.
واسم الإشارة لزيادة التمييز، فقد تكرر ذكر القرآن بالتصريح والإضمار واسم الإشارة ست مرات، وجمع له طرق التعريف كلها وهي اللام والإضمار والعلمية والإشارة والإضافة.
وجملة {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} في موضع الحال من كاف الخطاب. وحرف {إن} مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف.
(12/10)
وجملة {كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} خبر عن ضمير الشأن المحذوف، واللام الداخلة على خبر {كُنْتَ} لام الفرق بين {إِنْ} المخففة و"إن" النافية.
وأدخلت اللام في خبر كان لأنه جزء من الجملة الواقعة خبرا عن "إن".
والضمير في {قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن. والمراد من قبل نزوله بقرينة السياق.
والغفلة: انتفاء العلم لعدم توجه الذهن إلى المعلوم. والمعنى المقصود من الغفلة ظاهر. ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم.
ومفهوم {مِنْ قَبْلِهِ} مقصود منه التعريض بالمشركين المعرضين عن هدى القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى أنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فلذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، أي المشركين الذين مثلهم كمثل من لا يرفع رأسه لينظر.
[4] {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
{إِذْ قَالَ} بدل اشتمال أو بعض من {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [سورة يوسف:3] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول، فإن أحسن القصص يشتمل على قصص كثير، منه قصص زمان قول يوسف -عليه السلام- لأبيه {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} وما عقب قوله ذلك من الحوادث. فإذا حمل {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} على المصدر فالأحسن أن يكون {إِذْ} منصوبا بفعل محذوف يدل عليه المقام، والتقدير: اذكر.
ويوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الخ في سورة الأنعام[83]. وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه "راحيل". وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة. وكان يوسف أحب أبناء
(12/11)
يعقوب - عليهما السلام - إليه وكان فرط محبة أبيه إياه سبب غيرة إخوته منه فكادوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم. فأخرجوه معهم بعلة اللعب والتفسح، وألقوه في جب، وأخبروا أباهم أنهم فقدوه، وأنهم وجدوا قميصه ملوثا بالدم، وأروه قميصه بعد أن لطخوه بدم، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذ في حكم أمة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو "الهكصوص". وذلك في زمن الملك "أبو فيس" أو "ابيبي". ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السلام، فاشتراه "فوطيفار" رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز، أي رئيس المدينة. وحدثت مكيدة له من زوج سيده ألقي بسببها في السجن. وبسبب رؤيا رآها الملك وعبرها يوسف - عليه السلام - وهو في السجن، قربه الملك إليه زلفى، وأولاه على جميع أرض مصر، وهو لقب العزيز وسماه "صفنات فعنيج"، وزوجه "أسنات" بنت أحد الكهنة وعمره يومئذ ثلاثون سنة. وفي مدة حكمه جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر. وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وحنط على الطريقة المصرية. ووضع في تابوت، وأوصى قبل موته بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم. ولما خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف - عليه السلام - معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في "شكيم" في مدة يوشع بن نون.
والتاء في "أَبَت" تاء خاصة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم، فمفادها مفاد: يا أبي، ولا يكاد العرب يقولون: يا أبي. وورد في سلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنورة. وقد تحير أئمة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف، وأنها جعلت عوضا عن ياء المتكلم لعلة غير وجيهة. والذي يظهر لي أن أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنه نقص من لام الكلمة، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا: يا أبتي، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال. ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه:
أيا أبتي لا زلت فينا فإنما ... لنا أمل في العيش ما دمت عائشا
(12/12)
ويجوز كسر هذه التاء وفتحها، وبالكسر قرأها الجمهور، وبفتح التاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر.
والنداء في الآية مع كون المنادى حاضرا مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له.
والكوكب: النجم، تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} في سورة الأنعام[76].
وجملة {رَأَيْتُهُمْ} مؤكدة لجملة {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيدا لفظيا أو استئنافا بيانيا، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي اخبارا عما رأى.
ومثال ذلك ما وقع في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم" الحديث.
وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، ورأيت فيها بقرا تذبح، ورأيت.. والله خير". وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطويل إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع" الحديث بتكرار كلمة "إن" وكلمة "إنا" مرارا في هذا الحديث.
وقرأ الجمهور {أَحَدَ عَشَرَ} - بفتح العين - من {عَشَرَ}. وقرأه أبو جعفر - بسكون العين -.
واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد، كما قال تعالى في الأصنام: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [سورة الأعراف:198 ]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا} [سورة النمل:18 ].
وقال جماعة من المفسرين: إنه لما كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء، وهي حالة السجود نزلها منزلة العقلاء، فأطلق عليها ضمير "هم" وصيغة جمعهم.
(12/13)
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لِي سَاجِدِينَ} للاهتمام، عبر به عن معنى تضمنه كلام يوسف - عليه السلام - بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربية.
وابتداء قصة يوسف - عليه السلام - بذكر رؤياه إشارة إلى أن الله هيأ نفسه للنبوة فابتدأه بالرؤيا الصادقة كما جاء في حديث عائشة "أن أول ما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف - عليه السلام - من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصة كالمقدمة والتمهيد للقصة المقصودة.
وجعل الله تلك الرؤيا تنبيها ليوسف - عليه السلام - بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبته طيبة.
وإنما أخبر يوسف - عليه السلام - أباه بهاته الرؤيا لأنه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيرا، وعلم أن الكواكب والشمس والقمر كناية عن موجودات شريفة، وأن سجود المخلوقات الشريفة له كناية عن عظمة شأنه. ولعله علم أن الكواكب كناية عن موجودات متماثلة، وأن الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه.
وكانوا يعدون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الرائي غير منحرف ولا مضطرب، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق - عليه السلام -. فقد كانوا آل بيت نبوة وصفاء سريرة.
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا، وقد رأى إبراهيم - عليه السلام - في المنام أنه يذبح ولده فلما أخبره {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات:102 ]. وإلى ذلك يشير قول أبي يوسف - عليه السلام -: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [سورة يوسف:6]. فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثا ملكيا.
وفي الحديث: "لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له".
والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوة. وقد جاء في التوراة أن الله خاطب إبراهيم
(12/14)
- عليه السلام - في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملكي صادق وبشره بأنه يهبه نسلا كثيرا، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها "في الإصحاح 15 من سفر التكوين".
أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام، ولعل قول كعب بن زهير:
إن الأماني والأحلام تضليل
يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم.
ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحجر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصف له مكانها، وكانت جرهم سدموها عند خروجهم من مكة. وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن: "راكبا أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ: يا آل غدر اخرجوا إلى مصارعكم في ثلاث" فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال.
وقد عدت المرائي النومية في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السالفة مثل الحنيفية. وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق، وأبو علي ابن سينا في الإشارات بما حاصله: وأصله: أن النفس الناطقة "وهي المعبر عنها بالروح" هي من الجواهر المجردة التي مقرها العالم العلوي، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول، وأنها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة، وأن للنفس الناطقة آثارا من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسه المشترك، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان: أحدهما حسي خارجي، والآخر باطني عقلي أو وهمي، وقوى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتد بعضها ضعف البعض الآخر، كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة، فكذلك إن تجرد الحس الباطن للعمل شغل عن الحس الظاهر، والنوم شاغل للحس، فإذا قلت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلص النفس عن شغل مخيلاتها، فتطلع على أمور مغيبة، فتكون المنامات الصادقة.
والرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتنصل نفوسهم بتعلقات من علم الله وتعلقات من إرادته وقدرته وأمره التكويني فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزمان قبل وقوعها، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعا عاديا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من
(12/15)
النبوة". وقد بين تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث. وقال:ل"م يبق من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له".
وإنما شرطت المرائي الصادقة بالناس الصالحين لأن الارتياض على الأعمال الصالحة شاغل للنفس عن السيئات، ولأن الأعمال الصالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه، وبعكس ذلك الأعمال السيئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها.
والرؤيا مراتب:
منها أن: ترى صور أفعال تتحقق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل، وظنه أن تلك الأرض اليمامة فظهر أنها المدينة، ولا شك أنه لما رأى المدينة وجدها مطابقة للصورة التي رآها، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكتشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة، فعلم أن سيتزوجها. وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية.
ومنها أن ترى صور تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء، إلا أن هذا تخترعه الألباب في حالة هدو الدماغ من الشواغل الشاغلة، فيكون أتقن وأصدق. وهذا أكثر أنواع المرائي. ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب من قدح لبن رأى الري في أظفاره ثم أعطى فضله عمربن الخطاب رضي الله عنه. وتعبيره ذلك بأنه العلم.
وكذلك رؤيا امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة، فعبرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة، وأن فيها عمودا، وأن فيه عروة، وأنه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود، فعبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى، وأن الروضة هي الجنة، فقد تطابق التمثيل النومي مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة:256 ]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
(12/16)
وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى: {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [سورة يوسف:100].
[5] {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
والنداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماما بالغرض المخاطب فيه.
و{بُنَيَّ} - بكسر الياء المشددة - تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بنيوي أو بنييي على الخلاف في أن لام ابن الملتزم عدم ظهورها هي واو أم ياء. وعلى كلا التقديرين فإنها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو، أو لتماثلهما فصار "بنَيّ". وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوما وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة. وحذف ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع. وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا، لأن التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل.
وهذا التصغير كناية عن تحبيب وشفقة. نزل الكبير منزلة الصغير لأن شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه. وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له.
والقص: حكاية الرؤيا. يقال: قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها. وهو جاء من القصص كما علمت آنفا.
والرؤيا - بألف التأنيث - هي: رؤية الصور في النوم، فرقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث، وهي بوزن البشرى والبقيا.
وقد علم يعقوب - عليه السلام - أن إخوة يوسف - عليه السلام - العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خلقا وخلقا، وعلم أنهم يعبرون الرؤيا إجمالا وتفصيلا، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف - عليه السلام - على إخوته الذين هم أحد عشر فخشي إن قصها يوسف - عليه السلام - عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حد الحسد،
(12/17)
وأن يعبروها على وجهها فينشأ فيهم شر الحاسد إذا حسد، فيكيدوا له كيدا ليسلموا من تفوقه عليهم وفضله فيهم.
والكيد: إخفاء عمل يضر المكيد. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف [183].
واللام في {لَكَ} لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله: شكرت لك النعمى.
وتنوين {كَيْداً} للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم.
وقصد يعقوب - عليه السلام - من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه، وليس قصده إبطال ما دلت عليه الرؤيا فإنه يقع بعد أضرار ومشاق. وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل، بل لعلهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها.
وقول يعقوب - عليه السلام - هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأن التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنه وثق منه بكمال العقل، وصفاء السريرة، ومكارم الخلق. ومن كان حاله هكذا كان سمحا، عاذرا، معرضا عن الزلات، عالما بأثر الصبر في رفعة الشأن، ولذلك قال لإخوته: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:90] وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف:92]. وقد قال أحد ابني آدم - عليه السلام - لأخيه الذي قال له لأقتلنك حسدا {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة:28]. فلا يشكل كيف حذر يعقوب يوسف - عليهما السلام - من كيد إخوته، ولذلك عقب كلامه بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ليعلم أنه ما حذره إلا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته. وهذا كاعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلا وهو يشيع زوجه أم المؤمنين إلى بيتها فلما رأياه وليا، فقال: "على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك، فقال لهما: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما". فهذه آية عبرة بتوسم يعقوب - عليه السلام - أحوال أبنائه وارتيائه أن يكف كيد بعضهم لبعض.
فجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ} الخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قص الرؤيا على
(12/18)
إخوته. وعداوة الشيطان لجنس الإنسان تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض.
وظاهر الآية أن يوسف - عليه السلام -لم يقص رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمر أبيه. ووقع في الإسرائيليات أنه قصها عليهم فحسدوه.
[6] {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
عطف هذا الكلام على تحذيره من قص الرؤيا على إخوته إعلاما له بعلو قدره ومستقبل كماله، كي يزيد تمليا من سمو الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال إذى إخوته، وصفحا عن غيرتهم منه وحسدهم إياه ليتمحض تحذيره للصلاح، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها، حكمة نبوية عظيمة وطبا روحانيا ناجعا.
والإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} إلى ما دلت عليه الرؤيا من العناية الربانية به، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربك في المستقبل، والتشبيه هنا تشبيه تعليل لأنه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتحاد العلة. وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق ل {يَجْتَبِيكَ} المبين لنوع الاجتباء ووجهه.
والاجتباء: الاختيار والاصطفاء. وتقدم في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} في سورة الأنعام [87]، أي اختياره من بين إخوته، أو من بين كثير من خلقه. وقد علم يعقوب - عليه السلام - ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأن في المستقبل فتلك إذا ضمت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه،وذلك يؤذن بنبوءته. وإنما علم يعقوب - عليه السلام - أن رفعة يوسف - عليه السلام - في مستقبله رفعة إلهية لأنه علم أن نعم الله تعالى متناسبة فلما كان ما ابتدأه من النعم اجتباء وكمالا نفسيا تعين أن يكون ما يلحق بها، من نوعها.
ثم إن ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب - عليه السلام - أن الله سيعلم يوسف - عليه السلام - من تأويل الأحاديث، لأن مسبب الشيء مسبب عن سبب ذلك الشيء، فتعليم التأويل ناشئ عن التشبيه الذي تضمنه قوله: {وَكَذَلِكَ}، ولأن اهتمام يوسف - عليه السلام - برؤياه وعرضها على أبيه دل أباه على أن الله أودع في نفس يوسف - عليه السلام - الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها. وهذه آية عبرة بحال يعقوب - عليه السلام - مع ابنه إذ
(12/19)
أشعره بما توسمه من عناية الله به ليزداد إقبالا على الكمال بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.
والتأويل: إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [سورة آل عمران:7].
و {الْأَحَادِيثِ}: يصح أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث: إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام، وهو المعنى بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكته، ويصح أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدث به، فالتأويل تعبير الرؤيا. سميت أحاديث لأن المرائي يتحدث بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصة {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف:100]. ولعل كلا المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازا معجزا، إذ يكون قد حكي به كلام طويل صدر من يعقوب - عليه السلام - بلغته يعبر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني.
وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوة، أو هو ضميمه الملك إلى النبوة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي.
وعلم يعقوب - عليه السلام - ذلك من دلالة الرؤيا على سجود الكواكب والنيرين له، وقد علم يعقوب - عليه السلام - تأويل تلك بإخوته وأبويه أو زوج أبيه وهي خالة يوسف عليه السلام، وعلم من تمثيلهم في الرؤيا أنهم حين يسجدون له يكون أخوته قد نالوا النبوة، وبذلك علم أيضا أن الله يتم نعمته على إخوته وعلى زوج يعقوب - عليه السلام - بالصديقية إذ كانت زوجة نبي. فالمراد من آل يعقوب خاصتهم وهم أبناؤه وزوجه، وإن كان المراد بإتمام النعمة ليوسف - عليه السلام - إعطاء الملك فإتمامها على آل يعقوب هو أن زادهم على ما أعطاهم من الفضل نعمة قرابة الملك، فيصح حينئذ أن يكون المراد من آله جميع قرابته.
والتشبيه في قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} تذكير له بنعم سابقة، وليس مما دلت عليه الرؤيا. ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوة فالتشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق.
وجعل إبراهيم وإسحاق - عليهما السلام - أبوين له لأن لهما ولادة عليه، فهما أبواه
(12/20)
الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب".
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل بتمجيد هذه النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بالنفوس الصالحة لهذه الفضائل لأنه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة.
وتصدير الجملة ب {إِنَّ} للاهتمام لا للتأكيد إذ لا يشك يوسف - عليه السلام - في علم الله وحكمته. والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل. والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف - عليه السلام - وتأهله لمثل تلك الفضائل.
[7] {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
جملة ابتدائية، وهي مبدأ القصص المقصود، إذ كان ما قبله كالمقدمة له المنبئة بنباهة شأن صاحب القصة، فليس هو من الحوادث التي لحقت يوسف - عليه السلام - ولهذا كان أسلوب هذه الجملة كأسلوب القصص، وهو قوله: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [سورة يوسف: 8] نظير قوله تعالى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [سورة ص~: 70, 71] إلى آخر القصة.
والظرفية المستفادة من {فِي} ظرفية مجازية بتشبيه مقارنة الدليل للمدلول بمقارنة المظروف للظرف، أي لقد كان شأن يوسف - عليه السلام - وإخوته مقارنا لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره.
والآيات: الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية.
والآيات حقيقة في آيات الطريق، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين، ثم أطلقت على حجج الصدق، وأدلة المعلومات الدقيقة. وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعددها وتعدد أنواعها، ففي قصة يوسف - عليه السلام - دلائل على ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر، أو على ما للحسد والإضرار بالناس من الخيبة والاندحار والهبوط.
وفيها من الدلائل على - صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن وحي من الله، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلا أحبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات.
(12/21)
وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أن هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة.
والسائلون: مراد منهم من يتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [سورة فصلت: 10]. ومثل هذا يستعمل في كلام العرب للتشويق، والحث على تطلب الخبر والقصة. قال طرفة:
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
وقال السموءل أو عبد الملك الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وقال عامر بن الطفيل:
طلقت إن لم تسألي أي فارس ... حليلك إذ لاقى صداء وخثعما
وقال أنيف بن زبان النبهاني:
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
وأكثر استعمال ذلك في كلامهم يكون توجيهه إلى ضمير الأنثى، لأن النساء يعنين بالسؤال عن الأخبار التي يتحدث الناس بها، ولما جاء القرآن وكانت أخباره التي يشوق إلى معرفتها أخبار علم وحكمة صرف ذلك الاستعمال عن التوجيه إلى ضمير النسوة، ووجه إلى ضمير المذكر كما في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [سورة المعارج:1] وقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة النبأ:1].
وقيل المراد ب"السائلين" اليهود إذ سأل فريق منهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وهذا لا يستقيم لأن السورة مكية ولم يكن لليهود مخالطة للمسلمين بمكة.
[8] {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
{إِذْ} ظرف متعلق ب"كان" من قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف: 7]، فإن ذلك الزمان موقع من مواقع الآيات فإن في قولهم ذلك حينئذ عبرة من عبر الأخلاق التي تنشأ من حسد الإخوة والأقرباء، وعبرة من المجازفة في تغليطهم أباهم، واستخفافهم برأيه غرورا منهم، وغفلة عن مراتب موجبات ميل الأب إلى
(12/22)
بعض أبنائه. وتلك الآيات قائمة في الحكاية عن ذلك الزمن.
وهذا القول المحكي عنهم قول تآمر وتحاور.
وافتتاح المقول بلام الابتداء المفيدة للتوكيد لقصد تحقيق الخبر. والمراد: توكيد لازم الخبر إذ لم يكن فيهم من يشك في أن يوسف - عليه السلام - وأخاه أحب إلى أبيهم من بقيتهم ولكنهم لم يكونوا سواء الحسد لهما والغيرة من تفضيل أبيهم إياهما على بقيتهم، فأراد بعضهم إقناع بعض بذلك ليتمالؤوا على الكيد ليوسف - عليه السلام - وأخيه، كما سيأتي عند قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، وقوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 10]؛ فقائل الكلام بعض إخوته، أي جماعة منهم بقرينة قوله بعد {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 9] وقولهم: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 10].
وأخو يوسف - عليه السلام - أريد به "بنيامين" وإنما خصوه بالإخوة لأنه كان شقيقه، أمهما "راحيل" بنت "لابان"، وكان بقية إخوته إخوة للأب، أم بعضهم "ليئة" بنت "لابان"، وأم بعضهم بلهة جارية "ليئة" وهبتها "ليئة" لزوجها يعقوب - عليه السلام -.
و {أَحَبُّ} اسم تفضيل، وأفعل التفضيل يتعدى إلى المفضل ب"من"، ويتعدى إلى المفضل عنده ب"إلى".
ودعواهم أن يوسف - عليه السلام - وأخاه أحب إلى يعقوب - عليه السلام - منهم يجوز أن تكون دعوى باطلة أثار اعتقادها في نفوسهم شدة الغيرة من أفضلية يوسف - عليه السلام - وأخيه عليهم في الكمالات وربما سمعوا ثناء أبيهم على يوسف - عليه السلام - وأخيه في أعمال تصدر منهما أو شاهدوه يأخذ بإشارتهما أو رأوا منه شفقة عليهما لصغرهما ووفاة أمهما فتوهموا من ذلك أنه أشد حبا إياهما منهم توهما باطلا. ويجوز أن تكون دعواهم مطابقة للواقع وتكون زيادة محبته إياهما أمرا لا يملك صرفه عن نفسه لأنه وجدان ولكنه لم يكن يؤثرهما عليهم في المعاملات والأمور الظاهرية ويكون أبناؤه قد علموا فرط محبة أبيهم إياهما من التوسم والقرائن لا من تفضيلهما في المعاملة فلا يكون يعقوب - عليه السلام - مؤاخذا بشيء يفضي إلى التباغض بين الإخوة.
وجملة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} في موضع الحال من {أَحَبُّ} ، أي ونحن أكثر عددا. والمقصود من الحال التعجب من تفضيلهما في الحب في حال أن رجاء انتفاعه من
(12/23)
إخوتهما أشد من رجائه منهما، بناء على ما هو الشائع عند عامة أهل البدو من الاعتزاز بالكثرة، فظنوا مدارك يعقوب - عليه السلام - مساوية لمدارك الدهماء، والعقول قلما تدرك مراقي ما فوقها، ولم يعلموا أن ما ينظر إليه أهل الكمال من أسباب التفضيل غير ما ينظره من دونهم.
وتكون جملة {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} تعليلا للتعجب وتفريعا عليه، وضمير {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} لجميع الإخوة عدا يوسف - عليه السلام - وأخاه. ويجوز أن تكون جملة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عطفا على جملة {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا}. والمقصود لازم الخبر وهو تجرئة بعضهم بعضا عن إتيان العمل الذي سيغريهم به في قولهم {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 9]، أي أنا لا يعجزنا الكيد ليوسف - عليه السلام - وأخيه فإنا عصبة والعصبة يهون عليهم العمل العظيم الذي لا يستطيعه العدد القليل كقوله: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} [سورة يوسف: 14]، وتكون جملة {إِنَّ أَبَانَا} تعليلا للإغراء وتفريعا عليه.
و"العصبة: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل أسماء الجماعات، ويقال: العصابة. قال جمهور اللغويين: تطلق العصبة على الجماعة من عشرة إلى أربعين". وعن ابن عباس أنها من ثلاثة إلى عشرة، وذهب إليه بعض أهل اللغة وذكروا أن في مصحف حفصة قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ".
وكان أبناء يعقوب - عليه السلام - اثنى عشر، وهم الأسباط. وقد تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} الآية في سورة البقرة[140].
و {الضلال} إخطاء مسلك الصواب. وإنما: أراد وأخطأ التدبير للعيش لا الخطأ في الدين والاعتقاد. والتخطئة في أحوال الدنيا لا تنافي الاعتراف للمخطئ بالنبوءة.
[9] {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}.
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام المتقدم يثير سؤالا في نفوس السامعين عن غرض القائلين مما قالوه فهذا المقصود للقائلين. وإنما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثر نفوس السامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه.
(12/24)
وهذا فن من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السامعين لتتأثر بالغرض المطلوب، فإن حالة تأثر النفوس تغني عن الخطيب غناء جمل كثيرة من بيان العلل والفوائد، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة "فلما دفنوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متأبطا لهراوة، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون". وانهل في الخطب.
والأمر مستعمل في الإرشاد. وأرادوا ارتكاب شيء يفرق بين يوسف وأبيه - عليهما السلام - تفرقة لا يحاول من جرائها اقترابا بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفترس.
وهذه آية من عبر الأخلاق السيئة وهي التخلص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد، والإضرار بالغير، وانتهاك ما أمر الله بحفظه، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسماهم الأسباط.
وانتصب {أَرْضاً} على تضمين {اطْرَحُوهُ} معنى أودعوه، أو على نزع الخافض، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأن {أَرْضاً} اسم مكان فلما كان غير محدود وزاد إبهاما بالتنكير عومل معاملة أسماء الجهات، وهذا أضعف الوجوه. وقد علم أن المراد أرض مجهولة لأبيه.
وجزم {يَخْلُ} في جواب الأمر، أي إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم.
والخلو: حقيقته الفراغ. وهو مستعمل هنا مجازا في عدم التوجه لمن لا يرغبون توجهه له، فكأن الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه.
واللام في قوله: {لَكُمْ} لام العلة، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم، بمعنى أنه يخلو ممن عداكم فينفرد لكم.
وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبته لهم دون مشارك.
وعطف {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد يوسف - عليه السلام - على {يَخْلُ} ليكون من جملة الجواب للأمر. فالمراد كون ناشئ عن فعل المأمور به فتعين أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي، أي صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم، وليس المراد الصلاح الديني.
(12/25)
وإنما لم يدبروا شيئا في إعدام أخي يوسف - عليه السلام - شفقة عليه لصغره.
وإقحام لفظ {قَوْماً} بين كان وخبرها للإشارة إلى أن صلاح الحال صفة متمكنة فيهم كأنه من مقومات قوميتهم. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]، وعند قوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يونس [101].
وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتصافهم بالنبوة أو بالولاية لأن فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التعذيب والاعتداء، وكبيرة العقوق.
[10] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
فصل جملة {قَالَ قَائِلٌ} جار على طريقة المقاولات والمحاورات، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30].
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنه منهم.
والعدول عن اسمه العلم إلى التنكير والوصفية لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنما المهم أنه من جماعتهم، وتجنبا لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه. قيل: إنه "يهوذا" وقيل: "شمعون" وقيل: "روبين"، والذي في سفر التكوين من التوراة أنه "راوبين" صدهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح 37. وعادة القرآن أن لا يذكر إلا اسم المقصود من القصة دون أسماء الذين شملتهم، مثل قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [سورة غافر: 28].
والإلقاء: الرمي.
والغيابات: جمع غيابة، وهي ما غاب عن البصر من شيء. فيقال: غيابة الجب وغيابة القبر والمراد قعر الجب.
والجب: البئر التي تحفر ولا تطوى.
وقرأ نافع، وأبو جعفر "غَيَابَاتِ"ط بالجمع. ومعناه جهات تلك الغيابة، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم، كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [سورة النور:40] وقرأ الباقون {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} بالإفراد.
(12/26)
والتعريف في {الْجُبِّ} تعريف العهد الذهني، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم: ادخل السوق. وهو في المعنى كالنكرة.
فلعلهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم، وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها، وأحسب أنها كانت ينصب إليها ماء السيول، وأنها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أن إلقاءه في الجب لا يهشم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه.
و {يَلْتَقِطْهُ} جواب الأمر في قوله: {وَأَلْقُوهُ}. والتقدير: إن تلقوه يلتقطه. والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أن ما أشار به القائل من إلقاء يوسف - عليه السلام - في غيابة جب هو أمثل مما أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنه يحصل به إبعاد يوسف - عليه السلام - عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضر الإعدام بيوسف - عليه السلام -؛ فإن التقاط السيارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده، لأنه إذا التقطه السيارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد.
والالتقاط: تناول شيء من الأرض أو الطريق، واستعير لأخذ شيء مضاع.
والسيارة: الجماعة الموصوفة بحالة السير وكثرته، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاحة والبحارة.
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنهم علموا أن الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتجارة والميرة.
وجملة {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} شرط حذف جوابه لدلالة {وَأَلْقُوهُ}، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجب ولا تقتلوه.
وفيه تعريض بزيادة التريث فيما أضمروه لعلهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو {إِنْ} إيماء إلى أنه لا ينبغي الجزم به، فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التقوى، وقد علموا أن السيارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء، لأنها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر. وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط.
(12/27)
[11، 12] {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
استئناف بياني لأن سوق القصة يستدعي تساؤل السامع عما جرى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عما بيتوا وصمموا على ما أشار به أخوهم.
وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم: {يَا أَبَانَا} يقضي أن تلك عادتهم في خطاب الابن أباه.
ولعل يعقوب - عليه السلام - كان لا يأذن ليوسف - عليه السلام - بالخروج مع إخوته للرعي أو للسبق خوفا عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرح لهم بأنه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان.
وفي التوراة أن يعقوب - عليه السلام - أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفا فلعل يعقوب - عليه السلام - بعد أن امتنع من خروج يوسف - عليه السلام - معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك.
وتركيب {مَا لَكَ} لا تفعل. تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في سورة يونس [35]، وانظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} في سورة براءة [38].وقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} في سورة النساء [88].
واتفق القراء على قراءة {لا تَأْمَنَّا} بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة. واختلفوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين.
وحرف {عَلَى} التي يتعدى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن من تعلق الائتمان بمدخول {عَلَى}.
والنصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدى باللام غالبا وبنفسه. وتقدم في قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} في سورة الأعراف [62].
(12/28)
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} معترضة بين جملتي {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} وجملة {أَرْسِلْهُ}. والمعنى هنا: أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف - عليه السلام -.
وجملة {أَرْسِلْهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الإنكار المتقدم يثير ترقب يعقوب - عليه السلام - لمعرفة ما يريدون منه ليوسف - عليه السلام -.
و {يَرْتَعْ} قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب - بياء الغائب وكسر العين -. وقرأه ابن كثير - بنون المتكلم المشارك وكسر العين - وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعى وهو افتعال من الرعي للمبالغة فيه.
فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأن الناس إذا خرجوا إلى الرياض والأرياف للعب والسبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلا ذريعا فلذلك شبه أكلهم بأكل الأنعام. وإنما ذكروا ذلك لأنه يسر أباهم أن يكونوا فرحين.
وقرأه أبو عمرو، وابن عامر - بنون وسكون العين-. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام. والتحقيق أن هذا مستعار من رتعت الدابة إذا أكلت في المرعى حتى شبعت. فمفاد المعنى على التأويلين واحد.
واللعب: فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسبق والمراعاة، نحو قول امرى القيس:
فظل العذارى يرتمين بشحمها
يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة. وهو مباح في الشرائع كلها إذا لم يصر دأبا. فلا وجه لتساؤل صاحب "الكشاف" عن استجازة يعقوب - عليه السلام - لهم اللعب.
والذين قرأوا {نرتع} بنون المشاركة قرأوا {وَنَلْعَبْ} بالنون أيضا.
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} في موضع الحال مثل {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف: 10]. والتأكيد فيهما للتحقيق تنزيلا لأبيهم منزلة الشاك في أنهم يحفظونه وينصحونه كما نزلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه.
وتقديم {له} في {لَنَاصِحُونَ} و {لَهُ لَحَافِظُونَ} يجوز أن يكون لأجل الرعاية
(12/29)
للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف - عليه السلام - في ظاهر الأمر، ويجوز أن يكون للقصر الادعائي؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره.
وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطؤ أهل الغرض الواحد على التحيل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إياهم على أخيهم وإظهار أنهم نصحاء له، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد، ثم أظهروا أنهم ما حرصوا إلا على فائدة أخيهم وأنهم حافظون له وأكدوا ذلك أيضا.
[13، 14] {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}.
فصل جملة {قَالَ} جار على طريقة المحاورة.
أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف - عليه السلام - معهم إلى الريف بأنه يحزنه لبعده عنه أياما، وبأنه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف - عليه السلام - حينئذ غلاما، وكان قد ربي في دعة فلم يكن مرنا بمقاومة الوحوش، والذئاب تجترئ على الذي تحس منه ضعفا في دفاعها. قال الربيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة:
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقال الفرزدق يذكر ذئبا:
فقلت له لما تكشر ضاحكا ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فذئاب بادية الشام كانت أشد خبثا من بقية الذئاب، ولعلها كانت كذئاب بلاد الروس. والعرب يقولون: إن الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتى عض الإنسان وأسال دمه أنه يضرى حين يرى الدم فيستأسد على الإنسان، قال:
فكنت كذئب السوء حين رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
وقد يتجمع سرب من الذئاب فتكون أشد خطرا على الواحد من الناس والصغير.
والتعريف في {الذِّئْبُ} تعريف الحقيقة والطبيعة، ويسمى تعريف الجنس. وهو هنا مراد به غير معين من نوع الذئب أو جماعة منه، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذوات لا من أحوال الجنس، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون
(12/30)
تعيين. ونظيره قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة: 5] أي فرد من الحمير غير معين، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأن الجنس لا يحمل. ومنه قولهم: "ادخل السوق" إذا أردت فردا من الأسواق غير معين، وقولك: ادخل، قرينة على ما ذكر. وهذا التعريف شبيه بالنكرة في المعنى إلا أنه مراد به فرد من الجنس. وقريب من هذا التعريف باللام التعريف بعلم الجنس، والفرق بين هذه اللام وبين المنكر كالفرق بين علم الجنس والنكرة.
فالمعنى: أخاف أن يأكله الذئب، أي يقتله فيأكل منه فإنكم تبعدون عنه، لما يعلم من إمعانهم في اللعب والشغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف - عليه السلام -.
والذئب: حيوان من الفصيلة الكلبية، وهو كلب بري وحشي. من خلقه الاحتيال والنفوز. وهو يفترس الغنم. وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربما مزقه.
وإنما ذكر يعقوب - عليه السلام - أن ذهابهم به غدا يحدث به حزنا مستقبلا"1" ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأن شأن الابن البار أن يتقي ما يحزن أباه.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أن حزنه لفراقه ثابت، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك، إذ رأى إلحاحهم. ويسري التأكيد إلى جملة {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}.
فأبوا إلا المراجعة قالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}.
واللام في {لَئِنْ أَكَلَهُ} موطئة للقسم، أرادوا تأكيد الجواب باللام. وإن ولام الابتداء وإذن الجوابية تحقيقا لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشرط. والمراد: الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إياه لأن المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران.
ـــــــ
(1) ذهب جمع كثير من النحاة فيهم الزمخشري في "الكشاف" و"المفصل" إلى أن لام الابتداء إذا دخلت على المضارع تخلصه لزمن الحال, وخالفهم كثير من البصريين. والتحقق أن ذلك غالب لا مطرد. فهذه الآية وقوله تعالى: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [مريم:66] تشهدان لعدم اطراد هذا الحكم.
(12/31)
والمراد بالخسران: انتفاء النفع المرجو من الرجال، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره، وهو خيبة مذمومة، أي إنا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة. فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لجميعهم. وتقدم معنى العصبة آنفا. وفي هذا عبرة من مقدار إظهار الصلاح مع استبطان الضر والإهلاك.
وقرأ الجمهور بتحقيق همزة {الذِّئْبُ} على الأصل. وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو، والكسائي بتخفيف الهمزة ياء. وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف، وأبي جعفر، وذلك لا يعرف في كتب القراءات. وفي البيضاوي أن أبا عمروا أظهر الهمزة في التوقف، وأن حمزة أظهرها في الوصل.
[15] {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
تفريع حكاية الذهاب به والعزم على إلقائه في الجب على حكاية المحاورة بين يعقوب - عليه السلام - وبنيه في محاولة الخروج بيوسف - عليه السلام - إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب - عليه السلام - حتى أقنعوه فأذن ليوسف - عليه السلام - بالخروج معهم، وهو إيجاز.
والمعنى: فلما أجابهم يعقوب - عليه السلام - إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب.
وفعل "أجمع" يتعدى إلى المفعول بنفسه. ومعناه: صمم على الفعل، فقوله: {أَنْ يَجْعَلُوهُ} هو مفعول {وأجمعوا}.
وجواب "لمّا" محذوف دل عليه {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} ، والتقدير: جعلوه في الجب. ومثله كثير في القرآن. وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللفظ لظهور المعنى.
وجملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} معطوفة على جملة {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}، لأن هذا الموحى من مهم عبر القصة.
وقيل: الواو مزيدة وجملة {أَوْحَيْنَا} هو جواب "لمّا"، وقد قيل بمثل ذلك في قول امرئ القيس:
(12/32)
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
... البيت.
وقيل به في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [سورة الصافات: 103, 104] الآية وفي جميع ذلك نظر.
والضمير في قوله: {إِلَيْهِ} عائد إلى يوسف - عليه السلام - في قول أكثر المفسرين مقتصرين عليه. وذكر ابن عطية أنه قيل الضمير عائد إلى يعقوب - عليه السلام -.
وجملة {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} بيان لجملة {أَوْحَيْنَا}. وأكدت باللام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال. فعلى الأول فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس يوسف - عليه السلام - حين كيدهم له، ويحتمل أنه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا ليوسف - عليه السلام - قبل النبوة رحمة من الله ليزيل عنه كربه، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له، وإيذان بأنه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة، وبأنه سينبي في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية، وذلك يستلزم نجاته وتمكنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكن منهم وأمن من شرهم.
ومعنى {بِأَمْرِهِمْ}: بفعلهم العظيم في الإساءة.
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} في موضع الحال، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف: 89] الآيتين.
وعلى احتمال عود ضمير {إِلَيْهِ} على يعقوب - عليه السلام - فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك، والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} إلى آخرها {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قبل ذلك. و {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} أمر، أي أوحينا إليه نبئهم بأمرهم هذا، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السلام، إشعارا بالتعريض، وذلك في قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [سورة يوسف: 13].
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك.
(12/33)
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف - عليه السلام - وقع في التوراة أنه في أرض دوثان، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا. والمراد: أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع. ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل. واتفق واصفو الجب على أنه بين "بانياس" و"طبرية". وأنه على اثني عشر ميلا من طبرية مما يلي دمشق، وأنه قرب قرية يقال لها "سنجل أو سنجيل". قال قدامة: هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية.
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر. وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على "دوثان" وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في "دوثان". وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن.
[16، 17] {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}.
عطف على جملة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [سورة يوسف: 15] عطف جزء القصة.
والعشاء: وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها.
والبكاء: خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر. وتقدم في قوله تعالى: [سورة التوبة: 82]. وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي. وإنما اصطنعوا البكاء تمويها على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السلام، ولعلهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد. ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة.
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل
(12/34)
ولا تنوط بها حكما، وإنما يناط الحكم بالبينة.
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: أما تراها تبكي? فقال: قد جاء إخوة يوسف - عليه السلام - أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة. لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق. قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعا. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر.
قلت: ومن الأمثال "دموع الفاجر بيديه" وهذه عبرة في هذه العبرة.
والاستباق: افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في "الكشاف": "والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل، والارتماء والترامي، أي فهو بمعنى المفاعلة. ولذلك يقال: السباق أيضا. كما يقال النضال والرماء". والمراد: الاستباق بالجري على الأرجل، وذلك من مرح الشباب ولعبهم.
والمتاع: ما يتمتع أي ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]. والمراد به هنا ثقلهم من الثياب والآنية والزاد.
ومعنى {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} قتله وأكل منه، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء. والمراد بعضه. يقال أكله الأسد إذا أكل منه. قال تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [سورة المائدة: 3] عطفا على المنهيات عن أن يؤكل منها، أي بقتلها.
ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة "أكلني الكلب"، أي عضني.
والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفا عند قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [سورة يوسف: 13]؛ بحيث لم يترك الذئاب منه، ولذلك لم يقولوا فدفناه.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر. وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم.
وفعل الإيمان يعدى باللام إلى المصدق بفتح الدال كقوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [سورة العنكبوت: 26]. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة يونس [83].
(12/35)
وجملة {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} في موضع الحال فالواو واو الحال. {وَلَوْ} اتصالية، وهي تفيد أن مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال. والتقدير: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموه عليك.
وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع "لو وإن" الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع، ألا ترى قول المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخير زمانه، فشرط "لو" الوصلية و"إن" الوصلية ليس لهما مفهوم مخالفة، لأن الشرط معهما ليس للتقييد. وتقدم ذكر "لو" الوصلية عند قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} في سورة البقرة[170]، وعند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} في سورة آل عمران[91].
وجملة {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ} في موضع الحال. ولما كان الدم ملطخا به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص.
ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي مكذوب كونه دم يوسف - عليه السلام - إذ هو دم جدي، فهو دم حقا لكنه ليس الدم المزعوم. ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعزب عن مجموعهم مثل ذلك. فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب - عليه السلام - قال لأبنائه: ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، فذلك من تظرفات القصص.
وقوله: {عَلَى قَمِيصِهِ} حال من "دَمٍ" فقدم على صاحب الحال.
[18] {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم.
(12/36)
والتسويل: التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله.
والإبهام الذي في كلمة {أَمْراً} يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف - عليه السلام -: من قتل، أو بيع، أو تغريب، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه. وتكير {أَمْراً} للتهويل.
وفرع على ذلك إنشاء التصبر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} نائب مناب اصبر صبرا جميلا. عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} في سورة هود[69]. ويكون ذلك اعتراضا في أثناء خطاب أبنائه، أو يكون تقدير: اصبر صبرا جميلا، على أنه خطاب لنفسه. ويجوز أن يكون {صَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه السياق، أي فأمري صبر. أو مبتدأ خبره محذوف كذلك. والمعنى على الإنشاء أوقع، وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة [45].
ووصف {جَمِيلٌ} يحتمل أن يكون وصفا كاشفا إذ الصبر كله حسن دون الجزع. كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني:
تصبر فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول
أي أجمل من الجزع.
ويحتمل أن يكون وصفا مخصصا. وقد فسر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع.
والجمال: حسن الشيء في صفات محاسن صنفه، فجمال الصبر أحسن أحواله، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما انصرف مر بها رجل، فقال لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لم أعرفك يا رسول الله، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" ، أي الصبر الكامل.
وقوله: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} عطف على جملة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف - عليه السلام - على الخلاص مما أحاط به.
(12/37)
والتعبير عما أصاب يوسف - عليه السلام - ب {مَا تَصِفُونَ} في غاية البلاغة لأنه كان واثقا بأنهم كاذبون في الصفة وواثقا بأنهم ألحقوا بيوسف - عليه السلام - ضرا فلما لم يتعين عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالا موجها لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب - عليه السلام - يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفا كاذبا. فهو قريب من قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات: 180].
وإنما فوض يعقوب - عليه السلام - الأمر إلى الله ولم يسع للكشف عن مصير يوسف - عليه السلام - لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك. وقد صاروا هم الساعين في البعد بينه وبين يوسف عليه السلام، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف - عليه السلام - بدونهم، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف: 87].
[19] {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
عطف على {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [سورة يوسف: 16] عطف قصة على قصة. وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف - عليه السلام - والمعنى: وجاءت الجب.
و "السَّيَارَة" تقدم آنفا.
والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم.
والإدلاء: إرسال الدلو في البئر لنزع الماء.
والدلو: ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطويا على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو. والدلو مؤنثة.
وجملة {قَالَ يَا بُشْرَى} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر إدلاء الدلو يهيئ السامع للسؤال عما جرى حينئذ فيقع جوابه {قَالَ يَا بُشْرَى}.
والبشرى: تقدمت في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في سورة يونس [64].
(12/38)
ونداء البشرى مجاز، لأن البشرى لا تنادى، ولكنها شبهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له: هذا آن حضورك. ومنه: يا حسرتا، وياعجبا، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية.
والمعنى: أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام.
وقرأ الجمهور {يَا بُشْرَى} بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بدون إضافة.
واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف - عليه السلام -؛ خاطب الوارد بقية السيارة، ولم يكونوا يرون ذات يوسف - عليه السلام - حين أصعده الوارد من الجب، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام، فتعين أيضا أنهم لم يكونوا مشاهدين شيح يوسف - عليه السلام - حين ظهر من الجب، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معينة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصل شيء فرح به غير مترقب، كما يقول الصائد لرفاقه: هذا غزال وكما يقول الغائص: هذه صدفة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر: هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه:
يقول راكبه الجني مرتفقا ... هذا لكن ولحم الشاة محجور
وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون. قال النابغة:
أو درة صدفاته غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد
والمعنى: وجدت في البئر غلاما، فهو لقطة، فيكون عبدا لمن التقطه. وذلك سبب ابتهاجه بقوله: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ}.
والغلام: من سنه بين العشر والعشرين. وكان سن يوسف - عليه السلام - يومئذ سبع عشرة سنة.
وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيلين كما في التوراة، أي أبناء إسماعيل ابن إبراهيم. وقيل: كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب.
ومعنى {أَسَرُّوهُ}. والضمير للسيارة لا محالة، أي أخفوا يوسف - عليه
(12/39)
السلام - أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرفوا من كان قريبا من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللقطة، ولذلك كان قوله: {وَأَسَرُّوهُ} بأن يوسف - عليه السلام - أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعا في أن يبيعوه. وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين.
و {بِضَاعَةً} منصوب على الحال المقدرة من الضمير المنصوب في {أَسَرُّوهُ} ، أي جعلوه بضاعة. والبضاعة: عروض التجارة ومتاعها، أي عزموا على بيعه.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} معترضة، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حق في استرقاقه، ومن كان حقه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم، لأنهم قد علموا خبره، أو كان من حقهم أن يسألوه لأنه كان مستطيعا أن يخبرهم بخبره.
وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف - عليه السلام - آية من لطف الله به.
[20] {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
معنى {شَرَوْهُ} باعوه. يقال: شرى كما يقال: باع، ويقال: اشترى كما يقال: ابتاع. ومثلهما رهن وارتهن، وعاوض واعتاض، وكرى واكترى.
والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث.
ومن فسر {شَرَوْهُ} باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}. وما ادعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم إذ لا دليل يدل عليه.
والبخس: أصله مصدر بخسه إذا نقصه عن قيمة شيئه. وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} في سورة البقرة [282].
و {دَرَاهِمَ} بدل من {ثَمَنٍ} وهي جمع درهم، وهو المسكوك. وهو معرب عن الفارسية كما في "صحاح الجوهري".
وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في "الإتقان".
(12/40)
و {مَعْدُودَةٍ} كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدة فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل. ويقال في الكناية عن الكثرة: لا يعد.
وضمائر الجمع كلها للسيارة على أصح التفاسير.
والزهادة: قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السلام. ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار.
وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة {مِنَ الزَّاهِدِينَ} أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبي بأنهم جروا في زهدهم في أمثاله على سنن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور.
و {فِيهِ} متعلق ب {الزَّاهِدِينَ} و"أل" حرف لتعريف الجنس، وليست اسم موصول خلافا لأكثر النحاة الذين يجعلون "أل" الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني.
وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه، وللتنبيه على ضغف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة.
[21] { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}.
{الَّذِي اشْتَرَاهُ} مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلا على دفع العوض، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسنادا مجازيا، ولذلك يكتب الموثقون في مثل هذا أن شراءه لفلان.
والذي اشترى يوسف - عليه السلام - رجل اسمه "فوطيفار" رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي.
ومدينة مصر هي "منفيس" ويقال "منف" وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها
(12/41)
قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم "الهيكوس" أي الرعاة. وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط. وكانت مدينتها ثيبة أو طيبة، وهي اليوم خراب وموضعها يسمى الأقصر، جمع قصر، لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل. وكانت حكومة مصر العليا أيامئذ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده.
وامرأته تسمى في كتب العرب "زليخا" - بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره - وسماها اليهود "راعيل". و من {مِصْرَ} صفة ل {الَّذِي اشْتَرَاهُ}.
و {لِامْرَأَتِهِ} متعلق ب {قَالَ} أو ب {اشْتَرَاهُ} أو يتنازعه كلا الفعلين، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولدا. وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد.
وامرأته: معناه زوجه، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة. وقد تقدم عند قواه تعالى {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [سورة هود: 71]
والمثوى: حقيقته المحل الذي يثوي المرء، أي يرجع إليه. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في سورة الأنعام[128]. وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوى إلى منزل إقامته.
فالمعنى: اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها. أراد أن يجعل الإحسان إليه سببا في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما، أو يتخذانه ولدا فيبر بهما وذلك أشد تقريبا. ولعله كان آيسا من ولادة زوجه. وإنما قال ذلك لحسن تفرسه في ملامح يوسف - عليه السلام - المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلا ذا فراسة وقد جعله الملك شرطته، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143] كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} تنويها بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبه بنفسه على نحو قول النابغة:
والسفاهة كاسمها
(12/42)
فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق. والتقدير: مكنا ليوسف تمكينا كذلك التمكين.
وإن أجرينا على ما يحتمله اللفظ كانت لحاصل المذكور آنفا، وهو ما يفيده عثور السيارة عليه من أنه إنجاء له عجيب الحصول بمصادقة عدم الإسراع بانتشاله من الجب، أي مكنا ليوسف - عليه السلام - تمكينا من صنعنا مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من {مَكَّنَّا}. ونظيره {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108].
والتمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه، فيوسف - عليه السلام - بحلوله محل العناية من عزيز مصر قد خط له مستقبل تمكينه من الأرض بالوجه الأتم الذي أشير له بقوله تعالى بعد {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [سورة يوسف: 56]، فما ذكر هنالك هو كرد العجز على الصدر مما هنا، وهو تمامه.
وعطف على {وَكَذَلِكَ} علة لمعنى مستفاد من الكلام، وهو الإيتاء، تلك العلة هي {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} لأن الله لما قدر في سابق علمه أن يجعل يوسف - عليه السلام - عالما بتأويل الرؤيا وأن يجعله نبيا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله.
وتقدم معنى تأويل الأحاديث آنفا عند ذكر قول أبيه له: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [سورة يوسف: 6] أي تعبير الرؤيا.
وجملة {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} معترضة في آخر الكلام، وتذييل، لأن مفهومها عام يشمل غلب الله إخوة يوسف - عليه السلام - بإبطال كيدهم، وضمير {أَمْرِهِ} عائد لاسم الجلالة.
وحرف {عَلَى} بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع، كقولهم: غلبناهم على الماء.
و {أَمْرُ اللَّهِ} هو ما قدره وأراده، فمن سعى إلى عمل يخالف ما أراده الله فحاله كحال المنازع على أن يحقق الأمر الذي أراده ويمنع حصول مراد الله تعالى ولا يكون إلا ما أراده الله تعالى فشأن الله تعالى كحال الغالب لمنازعه. والمعنى والله متمم ما قدره، ولذلك عقبه بالاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} استدراكا على ما يقتضيه
(12/43)
هذا الحكم من كونه حقيقة ثابتة شأنها أن لا تجهل لأن عليها شواهد من أحوال الحدثان، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك مع ظهوره.
[22] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
هذا إخبار عن اصطفاء يوسف - عليه السلام - للنبوة. ذكر هنا في ذكر مبدإ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث.
والأشد: القوة. وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين.
والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده. وأريد به هنا النبوة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السلام {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الأنبياء: 79]. والمراد بالعلم علم زائد على النبوة.
وتنكير {عِلْماً} للنوعية، أو للتعظيم. والمراد: علم تعبير الرؤيا، كما سيأتي في قوله تعالى عنه: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي} [سورة يوسف: 37].
وقال فخر الدين: الحكم: الحكمة العملية لأنها حكم على هدى النفس. والعلم: الحكمة النظرية.
والقول في {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كالقول في نظيره، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وفي ذكر {الْمُحْسِنِينَ} إيماء إلى أن إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة.
وفي هذا دبره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف - عليه السلام - وإخوته.
[23 - 29] {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
(12/44)
مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.
عطف قصة على قصة، فلا يلزم أن تكون هذه القصة حاصلة في الوجود بعد التي قبلها. وقد كان هذا الحادث قبل إيتائه النبوة لأن إيتاء النبوة غلب أن يكون في سن الأربعين. والأظهر أنه أوتي النبوة والرسالة بعد دخول أهله إلى مصر وبعد وفاة أبيه. وقد تعرضت الآيات لتقرير ثبات يوسف - عليه السلام - على العفاف والوفاء وكرم الخلق.
فالمراودة المقتضية تكرير المحاولة بصيغة المفاعلة، والمفاعلة مستعملة في التكرير. وقيل: المفاعلة تقديرية بأن اعتبر العمل من جانب والممانعة من الجانب الآخر من العمل بمنزلة مقابلة العمل بمثله. والمراودة: مشتقة من راد يرود، إذا جاء وذهب. شبه حال المحاول أحدا على فعل شيء مكررا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، فأطلق راود بمعنى حاول.
و {عَنْ} للمجاوزة، أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه.
وأما تعديته ب"على" فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله. ووقع في قول أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يراود عمه أبا طالب على الإسلام: وفي حديث الإسراء "فقال له موسى: "قد راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه".
والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف - عليه السلام - لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوعه لمرادها.
و {بَيْتِهَا} بيت سكناها الذي تبيت فيه. فمعنى {هُوَ فِي بَيْتِهَا} أنه كان حينئذ في البيت الذي هي به، ويجوز أن يكون المراد بالبيت المنزل كله، وهو قصر العزيز. ومنه قولهم: ربة البيت، أي زوجة صاحب الدار ويكون معنى {هُوَ فِي بَيْتِهَا} أنه من جملة أتباع ذلك المنزل.
(12/45)
وغلق الأبواب: جعل كل باب سادا للفرجة التي هو بها.
وتضعيف {وَغَلَّقَتِ} لإفادة شدة الفعل وقوته، أي أغلقت إغلاقا محكما.
والأبواب: جمع باب. وتقدم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [سورة المائدة: 23].
و{هَيْتَ} اسم فعل أمر بمعنى بادر. قيل أصلها من اللغة الحورانية، وهي نبطية. وقيل: هي من اللغة العبرانية.
واللام في {لَكَ} لزيادة بيان المقصود بالخطاب، كما في قولهم: سقيا لك وشكرا لك. وأصله: هيتك. ويظهر أنها طلبت منه أمرا كان غير بدع في قصورهم بأن تستمع المرأة بعبدها كما يستمع الرجل بأمته، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب بل ابتدأته بالتمكين من نفسها. وسيأتي لهذا ما يزيده بيانا عند قوله تعالى: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً}.
وفي {هَيْتَ} لغات. قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبة جعفر بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية. وقرأه ابن كثير بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية. وقرأه الباقون بفتح الهاء وسكون التحتية وضم التاء الفوقية، والفتحة والضمة حركتا بناء.
و {مَعَاذَ} مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله. وأصله: أعوذ عوذا بالله، أي أعتصم به مما تحاولين. وسيأتي بيانه عند قوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ} في هذه السورة.
و"إن" مفيدة تعليل ما أفاده {مَعَاذَ اللَّهِ} من الامتناع والاعتصام منه بالله المقتضي أن الله أمر بذلك الاعتصام.
وضمير {إِنَّهُ} يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة، ويكون {رَبِّي} بمعنى خالقي. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يسمها غيره، فهو معلوم بدلالة العرف، ويكون {رَبِّي} بمعنى سيدي ومالكي.
وهذا من الكلام الموجه توجيها بليغا حكي به كلام يوسف عليه السلام، إما لأن يوسف - عليه السلام - أتى بمثل هذا التركيب في لغة القبط، وإما لأنه أتى بتركيبين عذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه.
(12/46)
وأياما كان فالكلام تعليل لامتناعه وتعريض بها في خيانة عهدها.
وفي هذا الكلام عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء قبل النبوة من الكبائر.
وذكر وصف الرب على الاحتمالين لما يؤذن به من وجوب طاعته وشكره على نعمة الإيجاد بالنسبة إلى الله، ونعمة التربية بالنسبة لمولاه العزيز.
وأكد ذلك بوصفه بجملة {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ، أي جعل آخرتي حسنى، إذ أنقذني من الهلاك، أو أكرم كفالتي. وتقدم آنفا تفسير المثوى.
وجملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تعليل ثان للامتناع. والضمير المجعول اسما ل"إن" ضمير الشأن يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرا عنه لأنها موعظة جامعة. وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان علة أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بيته وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجا وأحصنها.
والهم: العزم على الفعل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} في سورة براءة. وأكد همها ب {قَدْ} ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزما محققا.
وجملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا. والمقصود: أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة. والمقصود من ذكر همها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم.
وجملة {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوفة على جملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} كلها. وليست معطوفة على جملة {هَمَّتْ} التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام، لأنه لما أردفت جملة {وهَمَّ بِهَا} بجملة شرط {لَوْلاَ} المتمحض لكونه من أحوال يوسف - عليه السلام - وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها. فالتقدير: ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب {لَوْلاَ} بها لأنه ليس لازما ولأنه لما قدم على {لَوْلاَ} كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط، فيحسن الوقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ليظهر معنى الابتداء بجملة {وهم بها} واضحا. وبذلك يظهر أن يوسف - عليه السلام - لم يخالطه هم بامرأة
(12/47)
العزيز لآن الله عصمه من الهم بالمعصية بما أراه من البرهان.
قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} الآية قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط، كأنه قال: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب {لَوْلا} لا يتقدم عليها. ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب {لَوْلا} ، على أنه قد يجعل المذكور قبل {لَوْلا} دليلا للجواب والجواب محذوفا لدلالة ما قبل {لَوْلا} عليه. ولا مفر من ذلك على كل تقدير فإن {لَوْلا} وشرطها تقييد لقوله: {وَهَمَّ بِهَا} على جميع التأويلات، فما يقدر من الجواب يقدر على جميع التأويلات.
وقال جماعة: هم يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكف على ذلك لما رأى برهان ربه. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن أبي مليكة، وثعلب. وبيان هذا أنه انصرف عما هم به بحفظ الله أو بعصمته، والهم بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوة، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف. وقال جماعة: هم يوسف وأخذ في التهيؤ لذلك فرأى برهانا صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك. وهذا قول السدي، ورواية عن ابن عباس. وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله.
وقد خبط صاحب "الكشاف" في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجبرة، وهو يعني الأشاعرة، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التأويلات "رمتني بدائها وانسلت" ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف - عليه السلام - قتله والقتل أشد.
والرؤية: هنا علمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر.
والبرهان: الحجة. وهذا البرهان من جملته صرفه عن الهم بها، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهم بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفر دواعي الهم من حسنها، ورغبتها فيه، واغتباط أمثاله بطاعتها، والقرب منها. ودواعي الشباب المسولة لذلك، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهم بها دون شيء آخر.
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية
(12/48)
قبحت له هذا الفعل، وقيل: هو وحي إلهي، وقيل: حفظ إلهي، وقيل: مشاهدات تمثلت له.
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} إلى شيء مفهوم مما قبله يتضمنه قوله: {رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وهو رأي البرهان، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء.
والصرف: نقل الشيء من مكان إلى مكان، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه. عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئا. والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه.
والسوء: القبيح، وهو خيانة من ائتمنه. والفحشاء: المعصية، وهي الزنى. وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة[169]. ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما.
وجملة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاه الله إياه في هذه الشدة على النفس.
قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله. ومعنى التعليل على القراءتين واحد.
والاستباق: افتعال من السبق. وتقدم آنفا، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب.
وانتصب {البَابَ} على نزع الخافض. وأصله: واستبقا إلى الباب، مثل {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [سورة الأعراف: 155]، أي من قومه، أو على تضمين {اسْتَبَقَا} معنى ابتدرا.
والتعريف في {الْبَابَ} تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة. وذلك أن يوسف - عليه السلام - فر من مراودتها إلى "الباب" يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه.
(12/49)
وجملة {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} في موضع الحال. و {قدت} أي قطعت، أي قطعت منه قدا، وذلك قبل الاستباق لا محالة. لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف - عليه السلام - أنها راودته، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف - عليه السلام - سبقها مسرعا إلى الباب، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة. وكان قطع القميص من دبر لأنه كان موليا عنها معرضا فأمسكته منه لرده عن إعراضه.
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ}.
وصادف أن ألفيا سيدها، أي زوجها، وهو العزيز، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي. وإطلاق السيد على الزوج قيل: إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ، كانوا يدعون الزوج سيدا. والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملا في عادة العرب، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [سورة يوسف: 76]. ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالبا. وقد علم من الكلام أن يوسف - عليه السلام - فتح الأبواب التي غلقتها زليخا بابا بابا حتى بلغ الخارجي، كل ذلك في حال استباقهما، وهو إيجاز.
والإلفاء: وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مفاجئا، أو حاصلا عن جهل بأول حصول، كقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة البقرة: 170].
وجملة {قَالَتْ مَا جَزَاءُ} الخ مستأنفة بيانيا، لأن السامع يسأل: ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة.
وابتدرته بالكلام إمعانا في البهتان بحيث لم تتلعثم، تخيل له أنها على الحق، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها. ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف - عليه السلام - مانعة له من عقابه، فأفرغت كلامها في قالب كلي. وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها، وأن تخيف يوسف - عليه السلام - من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى.
(12/50)
ورددت يوسف - عليه السلام - بين صنفين من العقاب، وهما: السجن، أي الحبس. وكان الحبس عقابا قديما في ذلك العصر، واستمر إلى زمن موسى عليه السلام، فقد قال فرعون لموسى - عليه السلام - {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
وأما العذاب فهو أنواع، وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر. ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء. وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مرارا.
وجملة {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} من قول يوسف - عليه السلام - وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة مع كلامها. ومخالفة التعبير بين {أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ} دون أن يقول: إلا السجن أو عذاب، لأن لفظ السجن يطلق على البيت الذي يوضع فيه المسجون ويطلق على مصدر سجن، فقوله: {أَنْ يُسْجَنَ} أوضح في تسلط معنى الفعل عليه.
وتقديم المبتدأ على خبره الذي هو فعل يفيد القصر، وهو قصر قلب للرد عليها. وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته، وهو الذي شهد وكان فطنا عارفا بوجوه الدلالة.
وسمي قوله شهادة لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف - عليه السلام - على سيدته أو دحضه. وهذا من القضاء بالقرينة البينة لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قبل، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض. ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر ببال المشاهد أن تمزيقا وقع وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص. والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلا على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف - عليه السلام -.
وجملة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} مبينة لفعل {شَهِدَ}.
وزيادة {وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} بعد {فَصَدَقَتْ} ، وزيادة {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بعد {فَكَذَبَتْ} تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو شأن الأحكام.
وأدوات الشرط لا تدل على أكثر من الربط والتسبب بين مضمون شرطها ومضمون جوابها من دون تقييد باستقبال ولا مضي. فمعنى {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ}
(12/51)
وما بعدها: أنه إن كان ذلك حصل في الماضي فقد حصل صدقها في الماضي.
والذي رأى قميصه قد من دبر وقال: إنه من كيدكن، هو العزيز لا محالة. وقد استبان لديه براءة يوسف - عليه السلام - من الاعتداء على المرأة فاكتفى بلوم زوجه بأن ادعاءها عليه من كيد النساء؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها فدخل فيه من هن من صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر.
والكيد: فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف[183].
ثم أمر يوسف - عليه السلام - بالإعراض عما رمته به، أي عدم مؤاخذتها بذلك، وبالكف عن إعادة الخوض فيه. وأمر زوجه بالاستغفار من ذنبها، أي في اتهامها يوسف - عليه السلام - بالجرأة والاعتداء عليها.
قال المفسرون: وكان العزيز قليل الغيرة. وقيل: كان حليما عاقلا. ولعله كان مولعا بها، أو كانت شبهة الملك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها. وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف - عليه السلام - حين بادرته بقولها: {هِيتَ لَكَ} كما تقدم آنفا.
والخاطئ: فاعل الخطيئة، وهي الجريمة. وجعلها من زمرة الذين خطئوا تخفيفا في مؤاخذتها. وصيغة جمع المذكر تغليب.
وجملة {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم.
وجملة {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} عطف على جملة {يُوسُفُ أَعْرِضْ} في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف. وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف - عليه السلام - بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة.
وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي، وهو عزيز في الكلام البليغ. ومنه قول الجرمي من طي من شعراء الحماسة:
إخالك موعدي ببني جفيف ... وهالة إنني أنهاك هالا
قال المرزوقي في "شرح الحماسة": والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة
(12/52)
ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعا وأخصهم بالحال.
[30] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
النسوة: اسم جمع امرأة لا مفرد له، وهو اسم جمع قلة مثله نساء. وتقدم في قوله تعالى: {وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} في سورة آل عمران[61].
وقوله: {فِي الْمَدِينَةِ} صفة لنسوة. والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كن متفرقات في ديار من المدينة. وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة "منفيس" حيث كان قصر العزيز، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز. وقيل: إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنها أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن "ومن أحب شيئا أكثر من ذكره". وهذا الذي يقتضيه قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [سورة يوسف: 31] وقوله: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ} [سورة يوسف: 32].
والفتى: الذي في سن الشباب، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا. وإضافته إلى ضمير {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه.
وشغف: فعل مشتق من اسم جامد، وهو الشغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب. وهذا الفعل مثل كبده ورآه وجبهه، إذا أصاب كبده ورئته وجبهته.
والضمير المستتر في {شَغَفَهَا} ل {فَتَاهَا}. ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله: {حُبّاً}. وأصله شغفها حبه، أي أصاب حبه شغافها، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب، كناية عن التمكن.
وتذكير الفعل في {وَقَالَ نِسْوَةٌ} لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [سورة يوسف: 19].
وأما الهاء التي في آخر {نِسْوَةٌ} فليست علامة تأنيث بل هي هاء فعلة جمع تكسير، مثل صبية وغلمة.
وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف - عليه السلام - باسم العزيز عند قوله
(12/53)
تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ} [سورة يوسف: 21]. وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية.
ومجيء {تُرَاوِدُ} بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها. ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [سورة هود: 74].
وجملة {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} في موضع التعليل لجملة {تُرَاوِدُ فَتَاهَا}.
وجملة {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها. والتأكيد ب"إن" واللام لتحقيق اعتقادهن ذلك، وإبعادا لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى.
والضلال هنا: مخالفة طريق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى، وليس المراد الضلال الديني. وهذا كقوله تعالى آنفا {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
[31، 32] {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
حق سمع أن يعدى إلى المسموع بنفسه، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخبرت، كقول المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي تخبر عنه. وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [سورة المائدة: 6]. وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل: لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليهما فيغريها بعرضها يوسف - عليه السلام - عليهن فيرين جماله لأنهن أحببن أن يرينه. وقيل: لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يضمرن حسدها على اقتناء مثله، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر.
{وَأَعْتَدَتْ} : أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما تقدم عند قوله تعالى:
(12/54)
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} في سورة النساء[37].
والمتكأ: محل الاتكاء. والاتكاء: جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصف الأعلى. وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتكئن عليها لتناول طعام. وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادة للرومان، ولم تزل أسرة اتكائهم موجودة في ديار الآثار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا".
ومعنى {آتَتْ} أمرت خدمها بالإيتاء كقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} [سورة غافر: 36].
والسكين: آلة قطع اللحم وغيره. قيل: أحضرت لهن أترجا وموزا فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازا. وأعطت كل واحدة سكينا لقشر الثمار.
وقولها {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها. وعدي فعل الخروج بحرف "على" لأنه ضمن معنى "أُدخل" لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه.
ومعنى {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعد، أي أعددته كبيرا. وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيها لوفرة الصفات بعظم الذات.
وتقطيع أيديهن كان من الذهول. أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه. وأريد بالقطع الجرح، أطلق عليه القطع مجازا للمبالغة في شدته حتى كأنه قطع قطعة من لحم اليد.
و {حَاشَ لِلَّهِ} تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه. وأصل "حاشا" فعل يدل على المباعدة عن شيء، ثم يعامل معاملة الحرف فيجر به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة. وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال: حاشا الله، أي أحاشيه عن أن يكذب، كما يقال: لا أقسم. وقد تزاد فيه لام الجر فيقال: حاشا لله وحاش لله، بحذف الألف، أي حاشا لأجله، أي لخوفه أن أكذب. حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى.
وقرأ أبو عمرو"حاشا لله" بإثبات ألف حاشا في الوصل. وقرأ البقية بحذفها فيه. واتفقوا على الحذف في حالة الوقف.
(12/55)
وقولهن: {مَا هَذَا بَشَراً} مبالغة في فونه محاسن البشر، فمعناه التفضيل في محاسن البشر، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه.
ثم شبهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيها بليغا مؤكدا. وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء، ويجعلون لها صورا، ولعلهم كانوا يتوخون أن تكون ذواتا حسنة. ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء. فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمى الملك في اللغة العربية تقريبا لأفهام السامعين.
فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل، كقول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والفاء في {فَذَلِكُنَّ} فاء الفصيحة، أي أن كان هذا كما زعمتن ملكا فهو الذي بلغكن خبره فلمتنني فيه.
و {لُمْتُنَّنِي فِيه} "في" للتعليل، مثل "دخلت امرأة النار في هرة". وهنالك مضاف محذوف، والتقدير: في شأنه أو في محبته.
والإشارة ب"ذَلِكُنَّ" لتمييز يوسف عليه السلام، إذ كن لم يرينه قبل. والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرفاته غير تلك الصلة، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتنان به فعلمت أنهن قد عذرنها. والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها.
واستعصم: مبالغة في عصم نفسه، فالسين والتاء للمبالغة، مثل: استمسك واستجمع الرأي واستجاب. فالمعنى: أنه امتنع امتناع معصوم، أي جاعلا المراودة خطيئة عصم نفسه منها.
ولم تزل مصممة على مراودته تصريحا بفرط حبها إياه، واستشماخا بعظمتها، وأن لا يعصي أمرها، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهابا له.
وحذف عائد صلة {مَا آمُرُهُ} وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل: أمرتك الخير...
(12/56)
والسجن - بفتح السين -: قياس مصدر سجنه، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه. ولم أره في كلامهم - بفتح السين - إلا في قراءة يعقوب هذه الآية. والسجن - بكسر السين -: اسم للبيت الذي يسجن فيه، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه. وقد تقدم قولها آنفا {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة يوسف: 25].
والصاغر: الذليل. وتركيب {مِنَ الصَّاغِرِينَ} أقوى في معنى الوصف بالصغار من أن يقال: وليكونن صاغرا، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة، وقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في آخر سورة براءة.
وإعداد المتكأ لهن، وبوحها بسرها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها.
[33، 34] {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
استئناف بياني، لأن ما حكي قبله مقام شدة من شأنه أن يسأل سامعه عن حال تلقي يوسف - عليه السلام - فيه لكلام امرأة العزيز.
وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه. ويحتمل أنه جهر به في ملئهن تأييسا لهن من أن يفعل ما تأمره به.
وقرأ الجمهور "السِّجْنُ" - بكسر السين -. وقرأه يعقوب وحده - بفتح السين - على معنى المصدر، أي أن السجن أحب إلي. وفضل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه من اللذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن. فلما علم أنه لا محيص من أحد الأمرين صار السجن محبوبا إليه باعتبار أنه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر، كمحبة الشجاع الحرب.
فالإخبار بأن السجن أحب إليه من الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في
(12/57)
نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة.
وعبر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية، لأن تمالئ الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثال أمر المرأة لم يفل من صارم عزمه على الممانعة، وجعل ذلك تمهيدا لسؤال العصمة من الوقوع في شرك كيدهن، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها.
وأسند فعل {يَدْعُونَنِي} إلى نون النسوة، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة، ووزنه يفعلن. وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أن التي دعته امرأة واحدة، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في {كَيْدَهُنَّ}، وإما لأن النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمالأن على لوم يوسف - عليه السلام - وتحريضه على إجابة الداعية، وتحذيره من وعيدها بالسجن. وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في {كَيْدَهُنَّ} [سورة يوسف: 28] أي كيد صنف النساء، مثل قول العزيز {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، أي كيد هؤلاء النسوة.
وجملة {إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} خبر مستعمل في التخوف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام. فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ}.
ومعنى {أَصْبُ} أمل. والصبو: الميل إلى المحبوب.
والجاهلون: سفهاء الأحلام، فالجهل هنا مقابل الحلم. والقول في أن مبالغة {أَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أكثر من أكن جاهلا كالقول في {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وعطف جملة {فَاسْتَجَابَ} بفاء التعقيب إشارة إلى أن الله عجل إجابة دعائه الذي تضمنه قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}. واستجاب: مبالغة في أجاب، كما تقدم في قوله: {فَاسْتَعْصَمَ} [سورة يوسف: 32].
وصرف كيدهن عنه صرف أثره، وذلك بأن ثبته على العصمة فلم ينخدع لكيدها ولا
(12/58)
لكيد خلائلها في أضيق الأوقات.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في موضع العلة ل {اسْتَجَابَ} المعطوف بفاء التعقيب، أي أجاب دعاءه بدون مهلة لأنه سريع الإجابة وعليم بالضمائر الخالصة. فالسمع مستعمل في إجابة المطلوب، يقال: سمع الله لمن حمده. وتأكيده بضمير الفصل لتحقيق ذلك المعنى.
[35] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.
ثم} هنا للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته. وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف - عليه السلام - حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إن هن انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف - عليه السلام - فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف - عليه السلام - حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها. ولعلها أرادت أن توهم الناس بأن مراودته إياها وقعت يوم ذلك المجمع، وأن توهم أنهن شواهد على يوسف - عليه السلام -.
والضمير في {لَهُمْ} لجماعة العزيز من مشير وآمر.
وجملة {لَيَسْجُنُنَّهُ} جواب قسم محذوف، وهي متعلقة فعل {بَدَا} عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف. وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن، وهو مذهب يونس بن حبيب، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صدر الكلام. وفي هذه الآية دليله.
والتقدير: بدا لهم ما يدل عليه هذا القسم، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه.
وذكر في "المعنى" في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب: وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل، هل يكون جملة? فأجازه هشام وثعلب مطلقا، وأجازه الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبيا ووجد معلق، وحملوا الآية عليه، ونسب إلى سيبويه. وهو يؤول إلى معنى التعليق، والتعليق أنسب بالمعنى.
والحين: زمن غير محدود، فإن كان {حَتَّى حِينٍ} من كلامهم كان المعنى: أنهم أمروا بسجنه سجنا غير مؤجل المدة. وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي
(12/59)
أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة.
والآيات: دلائل صدق يوسف - عليه السلام - وكذب امرأة العزيز.
[36] {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
اتفق جميع القراء على كسر سين {السِّجْنَ} هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه، لأن الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر.
وهذان الفتيان هما ساقي الملك وخبازه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما. قيل: اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام.
وجملة {قَالَ أَحَدُهُمَا} ابتداء محاورة، كما دل عليه فعل القول.
وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيد الله به يوسف - عليه السلام - بينهم.
وهذان الفتيان توسما من يوسف - عليه السلام - كمال العقل والفهم فظنا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علما منه ذلك من قبل، وقد صادفا الصواب، ولذلك قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، أي المحسنين التعبير، أو المحسنين الفهم.
والإحسان: الإتقان، يقال: هو لا يحسن القراءة، أي لا يتقنها. ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل. وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر {أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [سورة يوسف: 43] كما سيأتي.
والعصر: الضغط باليد أو بحجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيت أو ماء. والعصير: ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله، أي معصور من كذا.
والخبز: اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل، ويسمى رغيفا أيضا.
والضمير في {بِتَأْوِيلِهِ} للمذكور، أو للمرئي باعتبار الجنس.
(12/60)
وجملة {إِنَّا نَرَاكَ} تعليل لانتفاء المستفاد من {نَبِّئْنَا}.
[37، 38] {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
جملة {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا} جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور.
أراد بهذا الجواب أن يفترض إقبالهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنه يعبر لهما رؤياهما غير بعيد، وجعل لذلك وقتا معلوما لهم، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه.
ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذ لم يكن بعيدا كما دل عليه قوله: {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك.
ووصف الطعام بجملة {تُرْزَقَانِهِ} تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله.
وحقيقة الرزق: ما به النفع، ويطلق على الطعام كقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [سورة آل عمران: 37] أي طعاما، وقوله في سورة الأعراف [50] {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [سورة مريم: 62]. ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [سورة النساء: 5]. ومن هنا يطلق على العطاء الموقت، يقال: كان بنو فلان من مرتزقة الجند، ورزق الجند كذا كل يوم.
وضمير {بِتَأْوِيلِهِ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف: 36] الأول، وهو المرئي أو المنام. ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافا لما سلكه جمهور المفسرين.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} استثناء من أحوال متعددة تناسب
(12/61)
الغرض، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما، أي لا في حال عدمه. فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي.
وجردت جملة الحال من الواو"وقَد" مع أنها ماضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله تعالى: {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 121].
وجملة {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} استئناف بياني، لأن وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصا إلى دعوتهما للإيمان بإله واحد. وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة.
وقوله: {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} إيذان بأنه علمه علوما أخرى، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [سورة يوسف: 55].
وزاد في الاستئناف البياني جملة {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأن الإخبار بأن الله علمه التأويل وعلوما أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة حصول هذا العلم، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك مله أهل المدينة، فأراد الله اختياره لهديهم، ويجوز كون الجملة تعليلا.
والملة: الدين، تقدم في قوله: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة الأنعام [161].
وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شب بينهم، كما يدل عليه قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} ، أو أراد الكنعانيين خاصة، وهم الذين نشأ فيهم تعريضا بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك. وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالا لطائر نفورهم من موعظته.
وزيادة ضمير الفصل في قوله: {هُمْ كَافِرُونَ} أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون، لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب. وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء.
(12/62)
والترك: عدم الأخذ للشيء مع إمكانه. أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم، وكون مولاه متدينا بها.
وذكر آباءه تعليما بفضلهم، وإظهارا لسابقية الصلاح فيه، وأنه متسلسل من آبائه، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علمه ربه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي". ومثل هذه السلسلة في النبوة لم يجتمع لأحد غير يوسف - عليه السلام - إذا كان المراد بالنبوة أكملها وهو الرسالة، أو إذا كان إخوة يوسف - عليه السلام - غير أنبياء على رأي فريق من العلماء.
وأراد باتباع ملة آبائه اتباعها في أصولها قبل أن يعطى النبوة إذا كان فيما إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه، كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} إلى قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى: 13].
وذكر السلف الصالح في الحق يزيد دليل الحق تمكنا، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم. كما في قوله الآتي {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [سورة يوسف: 40].
وجملة {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في قوة البيان لما اقتضته جملة {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} من كون التوحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافهم بين الأمم، وعرفهم بها لنفسه في هذه الفرصة.ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف، كما تقدم في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} في سورة آل عمران [79]، وعند قوله تعالى: { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر سورة العقود [116].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} مزيدة لتأكيد النفي. وأدخلت على المقصود بالنفي.
وجملة {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل.
وقوله: {وَعَلَى النَّاسِ} أي الذين يتبعونهم، وهو المقصود من الترغيب بالجملة.
وأتى الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} للتصريح بأن حال
(12/63)
المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله، لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونهم إليه خير وإنقاذ لهم من الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر.
[39، 40] {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
استئناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به.
وعبر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إما لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها.
واتفق القراء على - كسر سين - {السِّجْنِ} هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان.
والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية، مثل: مكر الليل، أي يا صاحبين في السجن.
وأراد بالكلام الذي كلمهما به تقريرهما بإبطال دينهما، فالاستفهام تقريري. وقد رتب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة، إذ فرض لهما إلها واحدا متفردا بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها. وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم، وذلك حال ملة القبط.
ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة. وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد.
(12/64)
هذا إذا حمل لفظ {خَيْرٌ} على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة. ويجوز أن يكون {خَيْرٌ} مستعملا في معنى الخير عند العقل، أي الرجحان والقبول. والمعنى: اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة، إذ يتبين لهما أن أربابا متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم، كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية.
وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شرك، أي تعدد الآلهة. وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى. وذلك هو شأن سائر أديان الشرك، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة. والأمم الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم.
نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى. ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالا من مشركي العرب الذين ألهوا الحجارة. وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر:
وفرت ثقيف إلى لاتها
وأحسن حالا من الصابئة الكلدان والآشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزا للنجوم والكواكب.
وكانت آلهة القبط نحوا من ثلاثين ربا أكبرها عندهم آمون رع. ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي: أوزوريس، وأزيس، وهوروس. فلله بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف: 39].
وبعد أن أثار لهما الشك في صحبة إلهية آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل
(12/65)
هي توهمات تخيلوها.
ومعنى قصرها على أنها أسماء قصرا إضافيا، أنها أسماء لا مسميات لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها.
وقوله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} جملة مفسرة للضمير المرفوع في {سَمَّيْتُمُوهَا}. والمقصود من ذلك الرد على آبائهم سدا لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم، وإدماجا لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة.
وإنزال السلطان: كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم. والسلطان: الحجة.
وجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها.
وجملة {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة لإثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} من حيث ما فيها من معنى الحكم.
وجملة {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيره مما أنتم عليه وغيركم. وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} - إلى - {لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف: 38].
[41] {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
افتتح خطابهما بالنداء اهتماما بما يلقيه إليهما من التعبير، وخاطبهما بوصف {صَاحِبَيِ السِّجْنِ} أيضا.
ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف - عليه السلام - في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جمع التأويل في عبارة واحدة مجملة، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبها قصدا لتلقيه ما يسوء بعد تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمرا هو رائي عصر الخمر، وأن
(12/66)
الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبز على رأسه.
وإذا كان نظم الآية على غير ما صدر من يوسف - عليه السلام - كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السلام، وكان كلاما معينا فيه كل من الفتيين بأن قال: أما أنت فكيت وكيت، وأما أنت فكيت وكيت، فحكي في الآية بالمعنى.
وجملة {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} تحقيق لما دلت عليه الرؤيا، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما.
والاستفتاء: مصدر استفتى إذا طلب الإفتاء. وهو: الإخبار بإزالة مشكل، أو إرشاد إلى إزالة حيرة. وفعله أفتى ملازم للهمز ولم يسمع له فعل مجرد، فدل ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنى، قالوا: أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب، فكأن الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فتيا أي قويا. واسم الخبر الصادر من المفتي: فتوى - بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصورا، وبضم الفاء مع الياء مقصورا -.
[42] {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
قال يوسف - عليه السلام - للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي. والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا. وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته، أي اذكرني لربك، أي سيدك. وأراد بربه ملك مصر.
وضميرا {فَأَنْسَاهُ} و {رَبِّهِ} يحتملان العود إلى {الَّذِي} ، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يذكره لربه، فالذكر الثاني هو الذكر الأول. ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير {وَقَالَ} أي يوسف - عليه السلام - أنساه الشيطان ذكر الله، فالذكر الثاني غير الذكر الأول. ولعل كلا الاحتمالين مراد، وهو من بديع الإيجاز. وذلك أن نسيان يوسف - عليه السلام - أن يسأل الله إلهام الملك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته، وكان ذلك سببا إلهيا في نسيان الساقي تذكير الملك، وكان ذلك عتابا إلهيا ليوسف - عليه السلام - على اشتغاله بعون العباد دون استعانة ربه على خلاصه.
ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوجيه تلطفا في الخبر عن يوسف - عليه
(12/67)
السلام - لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح.
والبضع: من الثلاث إلى التسع.
وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما ينبئ على أن السجن لم يكن مضبوطا بسجل يذكر فيه أسماء المساجين، وأسباب سجنهم، والمدة المسجون إليها، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام. وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كل يوم أمر المساجين.
[43 - 45] {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.
هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف - عليه السلام - من السجن.
والتعريف في {الْمَلِكُ} للعهد، أي ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكا لمصر أيام حكمها "الهكسوس"، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البدو. وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح - عليه السلام -. وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة طيبة كما تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} [سورة يوسف: 21]. وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفا لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى. ويقدر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف - عليه السلام - كان في مدة العائلة السابعة عشرة.
فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى - عليه السلام - بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي. وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف - عليه السلام - فرعون وما هو بفرعون
(12/68)
لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف - عليه السلام - في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.
وقوله: {سِمَانٍ} جمع سمينة وسمين، مثل كرام، وهو وصف ل {بَقَرَاتٍ}.
و{عِجَافٌ} جمع عجفاء. والقياس في جمع عجفاء عجف لكنه صيغ هنا بوزن فعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو {سِمَانٍ}. كما قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوية
والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية.
والعجفاء: ذات العجف بفتحتين وهو الهزال الشديد.
و {سَبْعَ سُنْبُلاتٍ} معطوف على {سَبْعَ بَقَرَاتٍ}. والسنبلة تقدمت في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} في سورة البقرة[261].
والملأ: أعيان الناس. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة الأعراف[60].
والإفتاء: الإخبار بالفتوى. وتقدمت آنفا عند قوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [سورة يوسف: 41].
و {في} للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي أفتوني إفتاء ملابسا لرؤياي ملابسة البيان للمجمل.
وتقديم {لِلرُّؤْيا} على عامله وهو {تَعْبُرُونَ} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير. والتعريف في {لِلرُّؤْيا} تعريف الجنس.
واللام في {لِلرُّؤْيا} لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله. يقال: عبر الرؤيا من باب نصر. قال في "الكشاف": وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات. ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب "الكامل" لبعض الأعراب:
رأيت رؤياي ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
(12/69)
والمعنى: فسر ما تدل عليه وأول إشاراتها ورموزها.
وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به. وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم. وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف - عليه السلام - في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال الملك أهل ملئه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظن بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا.
وفي التوراة "فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له"1. وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات. وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له الرؤيا أيام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية. وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح.
فالتعريف في قوله: {لِلرُّؤْيا} تعريف العهد، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى. والمعنى: إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا.
والأضغاث: جمع ضغث - بكسر الضاد المعجمة - وهو: ما جمع في حزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام، أي أضغاث للأحلام.
والأحلام: جمع حلم - بضمتين - وهو ما يراه النائم في نومه. والتقدير: هذه الرؤيا أضغاث أحلام. شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لما أشكل عليهم تأويلها.
والتعريف فيه أيضا تعريف العهد، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين. وجمعت {أَحْلامٍ} باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحلم، فهي عدة رؤى.
والباء في {بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ} لتأكيد اتصال العامل بالمفعول، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [سورة المائدة: 6]، لأنهم نفوا التمكن من تأويل
ـــــــ
(1) الإصحاح الحادي والأربعون من سفر التكوين.
(12/70)
هذا الحلم. وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}.
فلما ظهر عوص تعبير هذا الحلم تذكر ساقي الملك ما جرى له مع يوسف - عليه السلام - فقال {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}.
وابتداء كلامه بضميره وجعله مسندا إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبئ بتأويل رؤيا عوصت على علماء بلاط الملك، مع إفادة تقوي الحكم، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها، لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوي، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء، ولذلك قال {فَأَرْسِلُونِ}. وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبأ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن. وقد كان موقنا بأنه يجد يوسف - عليه السلام - في السجن أنه كان سجن الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته.
{وَادَّكَرَ} بالدال المهملة أصله: اذتكر، وهو افتعال من الذكر، قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتى إدغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال. وهذا أفصح الإبدال في ادكر. وهو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [سورة القمر: 15] كما في الصحيح.
ومعنى {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف عليه السلام.
والأمة: أطلقت هنا على المدة الطويلة، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل، والجيل يسمى أمة، كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: 110] على قول من حمله على الصحابة.
وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي. وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين.
وضمائر جمع المخاطب في {أُنَبِّئُكُمْ} - {فَأَرْسِلُونِ} مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون: 99].
ولم يسم لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف - عليه السلام - بعد
(12/71)
حصول تعبيره ليكون أوقع، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين.
[46] {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة. وحذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله، إذ لا غرض فيه من القصة. وهذا من بديع الإيجاز.
و {الصِّدِّيقُ}: أصله صفة مبالغة مشتقة من الصدق، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} في سورة العقود [75]، وغلب استعمال وصف الصديق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين.
وأحسن ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال: "الصديقون هم دوين الأنبياء". وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [سورة النساء: 69] الآية، وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [سورة المائدة: 75]. ومنه ما لقب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصديق في قوله في حديث رجف جبل أحد "اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - على أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمع الله هذا الوصف مع صفة النبوة في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} في سورة مريم [56].
وقد يطلق الصديق على أصل وصفه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد: 19] على أحد تأويلين فيها.
فهذا الذي استفتى يوسف - عليه السلام - في رؤيا الملك وصف في كلامه يوسف - عليه السلام - بمعنى يدل عليه وصف الصديق في اللسان العربي، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف - عليه السلام - في السجن.
فضم ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} في سورة العقود
(12/72)
[75]، وإلى قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} في سورة النساء [69].
وإعادة العبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلغ السؤال كما تلقاه، وذلك تمام أمانة الناقل.
و {النَّاسِ} تقدم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة [8].
والمراد ب {النَّاسِ} بعضهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}. والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعا ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم. وهذا وجه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مع حذف معمول {يَعْلَمُونَ} لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه.
[47 - 49] {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
عبر الرؤيا بجميع ما دلت عليه، فالبقرات لسنين الزراعة، لأن البقرة تتخذ للإثمار. والسمن رمز للخصب. والعجف رمز للقحط. والسنبلات رمز للأقوات؛ فالسنبلات الخضر رمز لطعام ينتفع به، وكونها سبعا رمز للانتفاع به في السبع السنين، فكل سنبلة رمز لطعام سنة، فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديدا.
والسنبلات اليابسات رمز لما يدخر، وكونها سبعا رمز لادخارها في سبع سنين لأن البقرات العجاف أكلت البقرات السمان، وتأويل ذلك: أن سني الجدب أتت على ما أثمرته سنو الخصب.
وقوله: {تَزْرَعُونَ} خبر عما يكون من عملهم، وذلك أن الزرع عادتهم، فذكره إياه تمهيد للكلام الآتي ولذلك قيده ب {دَأَباً}.
والدأب: العادة والاستمرار عليها. وتقدم في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} في سورة آل عمران [11]. وهو منصوب على الحال من ضمير {يََزْرَعُونَ} ، أي كدأبكم. وقد مزج تعبيره بإرشاد جليل لأحوال التموين والادخار لمصلحة الأمة. وهو منام حكمته كانت رؤيا
(12/73)
الملك لطفا من الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السلام، ووحيا أوحاه الله إلى يوسف - عليه السلام - بواسطة رؤيا الملك، كما أوحى إلى سليمان - عليه السلام - بواسطة الطير. ولعل الملك قد استعد للصلاح والإيمان.
وكان ما أشار به يوسف - عليه السلام - على الملك من الادخار تمهيدا لشرع ادخار الأقوات للتموين، كما كان الوفاء في الكيل والميزان ابتداء دعوة شعيب - عليه السلام - وأشار إلى إبقاء ما فضل عن أقواتهم في سنبله ليكون أسلم له من إصابة السوس الذي يصيب الحب إذا تراكم بعضه على بعض فإذا كان في سنبله دفع عنه السوس، وأشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة، فقال {إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}.
والشداد: وصف لسني الجدب، لأن الجدب حاصل فيها، فوصفها بالشدة على طريقة المجاز العقلي.
وأطلق الأكل في قوله: {يَأْكُلْنَ} على الإفناء، كالذي في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [سورة النساء: 2]. وإسناده بهذا الإطلاق إلى السنين إسناد مجاز عقلي، لأنهن زمن وقوع الفناء.
والإحصان: الإحراز والادخار، أي الوضع في الحصن وهو المطمور. والمعنى: أن تلك السنين المجدبة يفنى فيها ما ادخر لها إلا قليلا منه يبقى في الأهراء. وهذا تحريض على استكثار الادخار.
وأما قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فهو بشارة وإدخار لمسرة الأمل بعد الكلام المؤيس، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر.
و {يُغَاثُ} معناه يعطون الغيث، وهو المطر. والعصر: عصر الأعناب خمورا.
وتقدم آنفا في قوله: {يعصر خمرا} [سورة يوسف: 36].
[50] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.
قال الملك: ائتوني به لما أبلغه الساقي صورة التعبير. والخطاب للملأ ليرسلوا من
(12/74)
يعينونه لجلبه. ولذلك فرع عليه {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ}. فالتقدير: فأرسلوا رسولا منهم. وضميرا الغائب في قوله: {بِهِ} وقوله: {جَاءَهُ} عائدان إلى يوسف عليه السلام. وضمير {قَالَ} المستتر كذلك.
وقد أبى يوسف - عليه السلام - الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشيا في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوما ما، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقا بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص.
وجعل طريق تقرير براءته مفتتحة بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله، فمعنى {فاسْأَلْهُ} بلغ إليه سؤالا من قبلي. وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها. وهي تطلب المسجون باطلا أن يبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي"، أي داعي الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ}، أي لما راجعت الملك. فهذه إحدى الآيات والعبر التي أشار إليها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف: 7].
والسؤال: مستعمل في التنبيه دون طلب الفهم، لأن السائل عالم بالأمر المسؤول عنه وإنما يريد السائل حث المسؤول عن علم الخبر. وقريب منه قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة يوسف: 1].
وجعل السؤال عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز تسهيلا للكشف عن أمرها، لأن ذكرها مع مكانة زوجها من الملك ربما يصرف الملك عن الكشف رعيا للعزيز، ولأن حديث المتكأ شاع بين النساء وأصبحت قضية يوسف - عليه السلام - مشهورة بذلك اليوم، كما تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [سورة يوسف: 35]، ولأن النسوة كن شواهد على إقرار امرأة العزيز بأنها راودت يوسف - عليه السلام - عن نفسه. فلا جرم كان طلب الكشف عن أولئك النسوة منتهى الحكمة في البحث وغاية الإيجاز في الخطاب.
(12/75)
وجملة {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} من كلام يوسف - عليه السلام -. وهي تذييل وتعريض بأن الكشف المطلوب سينجلي عن براءته وظهور كيد الكائدات له ثقة بالله ربه أنه ناصره.
وإضافة كيد إلى ضمير النسوة لأدنى ملابسة لأن الكيد واقع من بعضهن، وهي امرأة العزيز في غرضها من جمع النسوة فأضيف إلى ضمير جماعتهن قصدا للإبهام المعين على التبيان.
[51] {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
جملة {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالا في نفس السامع عما حصل من الملك لما أبلغ إليه اقتراح يوسف - عليه السلام - مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه، أي قال الملك للنسوة.
ووقوع هذا بعد جملة {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [سورة يوسف: 5] إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف، تقديره: فرجع فأخبر الملك فأحضر الملك النسوة اللائي كانت جمعتهن امرأة العزيز لما أعتدت لهن متكأ فقال لهن {مَا خَطْبُكُنَّ} إلى آخره.
وأسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظنا أن المراودة وقعت في مجلس المتكأ.
والخطب: الشأن المهم من حالة أو حادثة. قيل: سمي خطبا لأنه يقتضي أن يخاطب المرء صاحبه بالتساؤل عنه. وقيل: هو مأخوذ من الخطبة. أي يخطب فيه. وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم، فأصله مصدر بمعنى المفعول، أي مخطوب فيه.
وجملة {قُلْنَ} مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك. أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز، بقرينة قوله بعد: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ}.
و {حَاشَ لِلَّهِ} مبالغة في النفي والتنزيه. والمقصود: التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة. وقد تقدم تفسيرها آنفا واختلاف القراء فيها.
وجملة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} مبينة لإجمال النفي الذي في {حَاشَ لِلَّهِ}. وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء.
(12/76)
ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوما عندهن، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، خشية منها، أو مودة لها، فاقتصرن على جواب ما سئلن عنه.
وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللائي أحضرهن الملك. ولم يشملها قول يوسف - عليه السلام - {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [سورة يوسف: 5] لأنها لم تقطع يدها معهن، ولكن شملها كلام الملك إذ قال {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدت لهن متكئا، ففي الكلام إيجاز حذف.
وجملة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك.
والآن: ظرف للزمان الحاضر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} في سورة الأنفال.
و {حَصْحَصَ}: ثبت واستقر.
و {الحَقُّ}: هو براءة يوسف - عليه السلام - مما رمته به امرأة العزيز. وإنما ثبت حينئذ لأنه كان محل قيل وقال وشك، فزال ذلك باعترافها بما وقع.
والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي.
ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فيكون الماضي على حقيقته. وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله لدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف - عليه السلام - بالمراودة، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقت الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف - عليه السلام - أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ} للقصر، إبطال أن يكون النسوة راودنه. فهذا إقرار منها على نفسها، وشهادة لغيرها بالبراءة، وزادت فأكدت صدقه ب {إن} واللام.
(12/77)
وصيغة {مِنَ الصَّادِقِينَ} كما تقدم في نظائرها، منها قوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام[].
[52] {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.
ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمله الأقل من المفسرين، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل، ونسب إلى الجبائي، واختاره المارودي، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف - عليه السلام - بما كانت رمته به، فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ} أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف - عليه السلام - أني لم أخنه.
واللام في {لِيَعْلَمَ} لام كي، والفعل بعدها منصوب ب"أن" مضمرة، فهو في تأويل المصدر، وهو خبر عن اسم الإشارة.
والباء في {بِالْغَيْبِ} للملابسة أو للظرفية، أي في غيبته، أي لم أرمه بما يقدح فيه في مغيبه. ومحل المجرور في محل الحال من الضمير المنصوب.
والخيانة: هي تهمته بمحاولة السوء معها كذبا، لأن الكذب ضد أمانة القول بالحق.
والتعريف في {الْغَيْبِ} تعريف الجنس. تمدحت بعدم الخيانة على أبلغ وجه إذ نفت الخيانة في المغيب وهو حائل بينه وبين دفاعه عن نفسه، وحالة المغيب أمكن لمزيد الخيانة أن يخون فيها من حالة الحضرة، لأن الحاضر قد يتفطن لقصد الخائن فيدفع خيانته بالحجة.
و {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} عطف على {لِيَعْلَمَ} وهو علة ثانية لإصداعها بالحق، أي ولأن الله لا يهدي كيد الخائنين. والخبر مستعمل في لازم الفائدة وهو كون المتكلم عالما بمضمون الكلام، لأن علة إقرارها هو علمها بأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ومعنى {لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا ينفذه ولا يسدده. فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع
(12/78)
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [سورة الأنبياء: 18].
والكيد: تقدم.
[53] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز، مضت في بقية إقرارها فقالت {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [سورة يوسف: 52] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاء بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع.
فالواو التي في الجملة استئنافية، والجملة ابتدائية.
وجملة {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} تعليل لجملة {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء.
والاستثناء في {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء، بناء على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رجمة الله عبده، أي رحمته بأن يفيض له ما يصرفه عن فعل السوء، أو يقيض حائر بينه وبين فعل السوء، كما جعل إباية يوسف - عليه السلام - من أجابتها إلى ما دعته إليه حائلا بينها وبين التورط في هذا الإثم، وذلك لطف من الله بهما.
ولذلك ذيلته بجملة {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثناء على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب.
وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضا. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت: 61] وكانوا يعرفون البر والذنب.
وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق، وتبرئة البريء مما ألصق به، ومن خشية عقاب الله الخائنين.
وقيل: هذا الكلام كلام يوسف - عليه السلام - متصل بقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
(12/79)
فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية [سورة يوسف: 50].
وقوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ} -إلى قوله-: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [سورة يوسف: 51- 52] اعتراض في خلال كلام يوسف - عليه السلام -. وبذلك فسرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحاك والسدي وابن جبير، واقتصر عليه الطبري. قال في "الكشاف": وكفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف - عليه السلام -. ونحوه قوله: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} ثم قال {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم اه. يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف - عليه السلام - لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة.
وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله: {لَمْ أَخُنْهُ} عائدا إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه.
ويكون معنى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} الخ.. مثل ما تقدم قصد به التواضع، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم.
[54، 55] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
السين والتاء في {أَسْتَخْلِصْهُ} للمبالغة. مثلها في استجاب واستأجر. والمعنى أجعله خالصا لنفسي، أي خاصا بي لا يشاركني فيه أحد، وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه. وقد دل الملك على استحقاق يوسف - عليه السلام - تقريبه منه ما ظهر من حكمته وعلمه. وصبره على تحمل المشاق، وحسن خلقه. ونزاهته، فكل ذلك أوجب اصطفاءه.
وجملة {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} مفرعة على جملة محذوفة دل عليها {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}. والتقدير: فأتوه به، أي يوسف - عليه السلام - فحضر لديه وكلمه فلما كلمه.
والضمير المنصوب في {كَلَّمَهُ} عائد إلى الملك، فالمكلم هو يوسف - عليه السلام - كلم
(12/80)
الملك كلاما أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب. ولذلك فجملة {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} جواب "لما". والقائل هو الملك لا محالة.
والمكين: صفة مشبهة من مكن - بضم الكاف - إذا صار ذا مكانة، وهي المرتبة العظيمة، وهي مشتقة من المكان.
والأمين: فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون على شيء. أي موثوق به في حفظه.
وترتب هذا القول على تكليمه إياه دال على أن يوسف - عليه السلام - كلم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلا لثقته وتقريبه منه.
وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولى الأمر من الخصال، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة، إذا بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير، والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذا بالحكمة يؤثر الأفعال ويترك الهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجوا من خير، فلذلك أجابه بقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}.
وجملة {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} حكاية جوابه الكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات.
و {عَلَى} هنا للاستعلاء المجازي، وهو التصرف والتمكن، أي اجعلني متصرفا في خزائن الأرض.
و {خَزَائِنِ} جمع خزانة بكسر الخاء، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال.
والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف العهد، وهي الأرض المعهودة لهم، أي أرض مصر.
والمراد من {خَزَائِنِ الْأَرْضِ} خزائن كانت موجودة، وهي خزائن الأموال؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعدادا للسنوات المعبر عنها بقوله: {مِمَّا تُحْصِنُونَ} [سورة يوسف: 48].
(12/81)
واقتراح يوسف - عليه السلام - ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح، ولذلك لم يسأل ملا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا، ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالها.
وعلل طلبه ذلك بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} المفيد تعليل ما قبلها لوقوع "إن" في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما، وهما: الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد قادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان، وصفة العلم المحقق للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه. وهذا من قبيل الحسبة.
وشبه ابن عطية بمقام يوسف - عليه السلام - هذا مقام أبي بكر - رضي الله عنه - في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين. قلت: وهو تشبيه رشيق، إذ كلاهما صديق.
وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة على مصلحة الأمة. وقد علم يوسف - عليه السلام - أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في "صحيح مسلم" عن عبد الرحمان بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم.
ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يول ضاعت الحقوق. قال المازري: "يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليه من لا يحل أن يولى. وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله".
وقال ابن مرزوق: لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري.
(12/82)
وقال عياض في كتاب الإمارة، أي من "شرح صحيح مسلم"، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة، وظاهر كلام ابن رشد في "المقدمات" حرمة الطلب مطلقا. قال ابن مرزوق: وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريبا منه للغزالي في "الوجيز".
[56] [57] {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
تقدم تفسير آية {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} آنفا.
والتبوؤ: اتخاذ مكان للبوء، أي الرجوع، فمعنى التبوؤ النزول والإقامة. وتقدم في قوله تعالى: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} في سورة يونس [87].
وقوله: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر فهو عند حلوله بمكان من المملكة لو شاء أن يحل بغيره لفعل، فجملة {يَتَبَوَّأُ} يجوز أن تكون حالا من يوسف، ويجوز أن تكون بيانا لجملة {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}.
وقرأ الجمهور {حَيْثُ يَشَاءُ} - بياء الغيبة - وقرأ ابن كثير {حَيْثُ نَشَاءُ} - بنون العظمة - أي حيث يشاء الله، أي حيث نأمره أو نلهه. والمعنى متحد لأنه لا يشاء إلا ما شاءه الله.
وجملة {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} إلى آخرها تذييل لمناسبة عمومه لخصوص ما أصاب يوسف - عليه السلام - من الرحمة في أحواله في الدنيا وما كان له من مواقف الإحسان التي كان ما أعطيه من النعم وشرف المنزلة جزاء لها في الدنيا، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولأجره في الآخرة خير من ذلك له ولكل من آمن واتقى.
والتعبير في جانب الإيمان بصيغة الماضي وفي جانب التقوى بصيغة المضارع، لأن الإيمان عقد القلب الجازم فهو حاصل دفعة واحدة وأما التقوى فهي متجددة بتجدد أسباب الأمر والنهي واختلاف الأعمال والأزمان.
[58 - 60] {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}.
(12/83)
طوى القرآن أخره أمر امرأة العزيز وحلول سني الخصب والادخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلك كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى، ولأنه معلوم حصوله، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف - عليه السلام - في حاجة إلى نعمته، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه، ثم بينه وبين أبويه، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمه، لأن لذلك كله أثرا في معرفة فضائله.
وكان مجيء إخوة يوسف - عليه السلام - إلى مصر للميرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف - عليه السلام - وكان مجيئهم في السنة الثالثة من سني القحط. وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعي فيه عدد الممتارين، وأيضا ليكونوا جماعة لا يطمع فيهم قطاع الطريق، وكان الذين جاءوا عشرة. وقد عرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [سورة يوسف: 55] وقوله: الآتي {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [سورة يوسف: 59].
ودخولهم عليه يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة.
وعرف يوسف - عليه السلام - إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانه عقله دونهم.
وجملة {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} عطف على جملة {فَعَرَفَهُمْ}. ووقع الإخبار عنهم بالجملة الاسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل. وقرن مفعول {مُنْكِرُونَ} الذي هو ضمير يوسف - عليه السلام - بلام التقوية ولم يقل وهم منكرون لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته.
وتقديم المجرور بلام التقوية في {لَهُ مُنْكِرُونَ} للرعاية على الفاصلة، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف - عليه السلام - ليست مما شأنه أن يجهل وينسى.
والجهاز - بفتح الجيم وكسرها - ما يحتاج إليه المسافر، وأوله ما سافر لأجله من
(12/84)
الأحمال. والتجهيز: إعطاء الجهاز.
وقوله: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ} يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنباء يوسف - عليه السلام - لهم بهذا يشعرهم أنه يكلمهم عارف بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم. وفي التوراة"1" أن يوسف - عليه السلام - احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو أو أنهم تبرأوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم، فما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدقوا قولهم فيما أخبروه، ولذلك قال {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي}.
و {مِنْ أَبِيكُمْ} حال من "أَخٍ لَكُمْ" أي أخوته من جهة أبيكم، وهذا من مفهوم الاقتصاد على عدم إرادة غيره، أي من أبيكم وليس من أمكم، أي ليس بشقيق.
والعدول عن أن يقال: ايتوني بأخيكم من أبيكم، لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف - عليه السلام - من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذكرهم إياه عنده. فعدل عن الإضافة المقتضية إلى التنكير تنابها في التظاهر بجهله به.
{وَلا تَقْرَبُونِ} أي لا تعودوا إلى مصر، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة.
وقوله: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ترغب لهم في العودة إليه، وقد علم أنهم مضطرون إلى العودة إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من الناس مثلهم، كما دل عليه قولهم بعد {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [سورة يوسف: 65].
ودل قوله: {خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة. والمنزل: المضيف. وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم. والكيل في الموضعين مراد من المصدر. فمعنى {فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} أي لا يكال لكم، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام.
[61] {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}.
وعد بأن يبذلوا قصارى جهدهم في الإتيان بأخيهم وإشعار بصعوبة ذلك.فمعنى {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنحاول أن لا يشح به، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ
ـــــــ
(1) الإصحاح (42) من سفر التكوين.
(12/85)
فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [سورة يوسف: 24].
وجملة {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} عطف على الوعد بتحقيق الموعود به، فهو فعل ما أمرهم به، وأكدوا ذلك بالجملة الاسمية وحرف التأكيد.
[62] {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
قرأ الجمهور {لفتيته} بوزن فعلة جمع تكسير فتى مثل أخ وإخوة.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف {لِفِتْيَانِهِ} بوزن إخوان. والأول صيغة قلة والثاني صيغة كثرة وكلاهما يستعمل في الآخر. وعدد الفتيان لا يختلف.
والفتى: من كان في مبدإ الشباب، ومؤنثه فتاة، ويطلق على الخادم تلطفا، لأنهم كانوا يستخفون بالشباب في الخدمة، وكانوا أكثر ما يستخدمون العبيد.
والبضاعة: المال او المتاع المعد للتجارة. والمراد بها هنا الدراهم التي ابتاعوا بها الطعام كما في التوراة.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} رجاء أن يعرفوا أنها عين بضاعتهم إما بكونها مسكوك سكة بلادهم وإما بمعرفة الصرر التي كانت مصرورة فيها كما في التوراة، أي يعرفون أنها وضعت هنالك قصدا عطية من عزيز مصر.
والرحال: جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب، ولذا سمي البعير راحلة.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم عند قوله تعالى: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} في سورة آل عمران.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} جواب للأمر في قوله: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} لأنه لما أمرهم بالرجوع استشعر بنفاذ رأيه أنهم قد يكونون غير واجدين بضاعة ليبتاعوا بها الميرة لأنه رأى مخايل الضيق عليهم.
[63، 64] {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
(12/86)
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
معنى {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} حيل بيننا وبين الكيل في المستقبل، لأن رجوعهم بالطعام المعبر عنه بالجهاز أن المنع من الكيل يقع في المستقبل، ولأن تركيب {مُنِعَ مِنَّا} يؤذن بذلك، إذ جعلوا الكيل ممنوع الابتداء منهم لأن {مِنْ} حرف ابتداء.
والكيل مصدر صالح لمعنى الفاعلية والمفعولية، وهو هنا بمعنى الإسناد إلى الفاعل، أي لن نكيل، فالممنوع هو ابتداء الكيل منهم. ولما لم يكن بيدهم ما يكال تعين تأويل الكيل بطلبه، أي منع منا ذلك لعدم الفائدة لأننا لا نمنحه إلا إذا وفينا بما وعدنا من إحضار أخينا. ولذلك صح تفريع {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} عليه، فصار تقديم الكلام: منعنا من أن نطلب الكيل إلا إذا حضر معنا أخونا. فتعين أنهم حكوا القصة لأبيهم مفصلة واختصرها القرآن لظهور المراد. والمعنى: إن أرسلته معنا نرحل للاكتيال ونطلبه. وإطلاق المنع على هذا المعنى مجازا، لأنهم أنذروا بالحرمان فصار طلبهم ممنوعا منهم لأن طلبه عبث.
وقرأ الجمهور {نَكْتَلْ} بنون المتكلم المشارك. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بتحيتة عوض النون على أنه عائد إلى {أَخَانَا} أي يكتل معنا.
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عطف على جملة {فَأَرْسِلْ}. وأكدوا حفظه بالجملة الاسمية الدالة على الثبات وبحرف التوكيد.
وجواب أبيهم كلام موجه يحتمل أن يكون معناه: {إني آمنكم كما أمنتكم على أخيه}، وأن يكون معناه ماذا أفاد ائتمانكم على أخيه من قبل حتى آمنكم عليه.
والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي، فهو يستفهم عن وجه التأكيد في قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. والمقصود من الجملة على احتمالها هو التفريع الذي في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً}، أي خير حفظا منكم، فإن حفظه الله سلم وإن لم يحفظه لم يسلم كما لم يسلم أخوه من قبل حين أمنتكم عليه.
وهم قد اقتنعوا بجوابه وعلموا منه أنه مرسل معهم أخاهم، ولذلك لم يراجعوه في شأنه.
و {حفظا} مصدر منصوب على التمييز في قراءة الجمهور. وقرأه حمزة والكسائي، وحفص {حَافِظاً} على أنه حال من اسم الجلالة وهي حال لازمة.
(12/87)
[65] {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}.
أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب. وتقدم عند قوله تعالى: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]. وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحال فيه.
وجملة {قَالُوا يَا أَبَانَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فاجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنها مفاجأة غريبة، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء.
و {ما} في قوله: {مَا نَبْغِي} يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى أي ماذا نطلب بعد هذا. ويجوز كون {مَا} نافية، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي.
وجملة {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} مبنية لجملة {مَا نَبْغِي} على الاحتمالين.وإنما علموا أنها ردت إليهم بقرينة وضعها في العدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف - عليه السلام - من العطف عليهم، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [سورة يوسف: 59].
وجملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} معطوفة على جملة {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صار إلينا ونمير به أهلنا، أي نأتيهم بالميرة.
والميرة - بكسر الميم بعدها ياء ساكنة -: هي الطعام المجلوب.
وجملة {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} معطوفة على جملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} ، لأن المير يقتضي ارتحالا للجلب، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقا لهم في الارتحال المذكور، فكانت المناسبة بين جملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} وجملة {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بهذا الاعتبار، فذكروا ذلك تطمينا لخاطر فيهم.
وجملة {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} زيادة في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في
(12/88)
سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير. لأن يوسف - عليه السلام - لا يعطي الممتار أكثر من حمل بعير من الطعام، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حمل بعير في عداد الأخوة. وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها.
وهذه الجمل مرتبة ترتيبا بديعا لأن بعضها متولد عن بعض.
والإشارة في {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} إلى الطعام الذي في متاعهم. وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة.
قيل: إن يعقوب - عليه السلام - قال لهم: لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم.
[66] {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.
اشتهر الإيتاء والإعطاء وما يراد بهما في إنشاء الحلف ليطمئن بصدق الحالف غيره وهو المحلوف له.
وفي حديث الحشر "فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره". كما أطلق فعل الأخذ على تلقي المحلوف له، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [سورة النساء: 21] و {قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} [سورة يوسف: 80].
ولعل سبب إطلاق فعل الإعطاء أن الحالف كان في العصور القديمة يعطي المحلوف له شيئا تذكرة لليمين مثل سوطه أو خاتمه، أو أنهم كانوا يضعون عند صاحب الحق ضمانا يكون رهينة عنده. وكانت الحمالة طريقة للتوثيق فشبه اليمين بالحمالة. وأثبت له الإعطاء والأخذ على طريقة المكنية، وقد اشتهر ضد ذلك في إبطال التوثيق يقال: رد عليه حلفه.
والموثق: أصله مصدر ميمي للتوثيق، أطلق هنا على المفعول وهو ما به التوثيق، يعني اليمين.
و{مِنَ اللَّهِ} صفة ل {مَوْثِقاً} ، و {مِنْ} للابتداء، أي موثقا صادرا من الله تعالى. ومعنى ذلك أن يجعلوا الله شاهدا عليهم فيما وعدوا به بأن يحلفوا بالله فتصير شهادة الله عليهم كتوثق صادر من الله تعالى بهذا الاعتبار. وذلك أن يقولوا: لك ميثاق الله أو عهد
(12/89)
الله أو نحو ذلك، وبهذا يضاف الميثاق والعهد إلى اسم الجلالة كأن الحالف استودع الله ما به التوثق للمحلوف له.
وجملة {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} جواب لقسم محذوف دل عليه {مَوْثِقاً}. وهو حكاية لقول يقوله أبناؤه المطلوب منهم إيقاعه حكاية بالمعنى على طريقة حكاية الأقوال لأنهم لو نطقوا بالقسم لقالوا: لنأتينك به، فلما حكاه هو ركب الحكاية بالجملة التي هي كلامهم وبالضمائر المناسبة لكلامه بخطابه إياهم.
ومن هذا النوع قوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام - {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة: 117]. وإن ما أمره الله: قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم.
ومعنى {يُحَاطَ بِكُمْ} يحيط بكم محيط. والإحاطة: الأخذ بأسر أو هلاك مما هو خارج عن قدرتهم، وأصله إحاطة الجيش في الحرب، فاستعمل مجازا في الحالة التي لا يستطاع التغلب عليها، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [سورة يونس: 22].
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} استثناء من عموم أحوال، فالمصدر المنسبك من {أَنْ} مع الفعل في موضع الحال، وهو كالإخبار بالمصدر فتأويله: إلا محاطا بكم.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} تذكير لهم بأن الله رقيب على ما وقع بينهم. وهذا توكيد للحلف.
والوكيل: فعيل بمعنى مفعول، أي موكول إليه، وتقدم في {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران [173].
[67] {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ} عطف على جملة {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة يوسف: 66].
وإعادة فعل {قَالَ} للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معا مسببين على إيتاء موثقهم، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنه وظهرت له المصلحة في سفرهم للإمتار، فقوله: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} صادر في وقت إزماعهم الرحيل. والمقصود من حكاية
(12/90)
قوله هذا العبرة بقوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الخ.
والأبواب: أبواب المدينة. وتقدم ذكر الباب آنفا. وكانت مدينة منفيس من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب. وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم، فيكون ذلك ضرا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف - عليه السلام - ودون قضاء حاجتهم. وقد قيل في الحكمة: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها، وعلم أن "بنيامين" يكون في صحبة أحد اخوته لئلا يضل في المدينة.
والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد. ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة.
وجملة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} معترضة في آخر الكلام، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئا. و {مِنَ اللَّهِ} متعلق ب {أُغْنِي} ، أي لا يكون ما أمرتكم به مغنيا غناء مبتدئا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عند ما أمر الله، فإن صادف ما قدره فقد حصل فائدتان، وإن خالف ما قدره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط.
وتقدم وجه تركيب {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة العقود [41].
وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع واضع الأسباب ومقدر الألطاف في رعاية الحالين، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.
وهذا سر مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وفي الأثر "إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه" قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى
(12/91)
لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [سورة الإسراء: 19]. ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها. وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبب المقصود، ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملا وهمجا.
والإغناء: هنا مشتق من الغناء - بفتح الغين وبالمد - وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم. وأصله مرادف الغنى - بكسر الغين - والقصر وهما معا ضد الفقر، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضا. وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغناء بالفتح والمد بهذا المعنى، وتخصيص الغنى - بالكسر والقصر - في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر. وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات. فما يوجد في كلام ابن بري من قوله: إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فعل له مجرد فإنما عنى به أن استعمال فعل غني في هذا المعنى المجازي متروك ممات لا أنه ليس له فعل مجرد.
ولذلك فمعنى فعل "أغنى" بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة، ولم يفده الهمز تعدية، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفا لمفعول مطلق كقول عمرو بن معد يكرب:
أغني غناء الذاهب ... ين أعد للحدثان عدا
ويقولون: أغنى فلان عن فلان، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب، فإن حرف "عن" فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية. جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزا له لأنه حل محله في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا: إن "عن" تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء. فمعنى {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ} لا أجزي عنكم، أي لا أكفي بدلا عن أجزائكم لأنفسكم.
و {مِنْ شَيْءٍ} نائب مناب شيئا، وزيدت "من" لتوكيد عموم شيء في سياق النفي، فهو كقوله تعالى: {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} [سورة يس: 23] أي من الضر. وجوز
(12/92)
صاحب "الكشاف" في مثله أن يكون {شَيْئاً} مفعولا مطلقا، أي شيئا من الغناء وهو الظاهر، فقال في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [سورة البقرة: 48]، قال: أي قليلا من الجزاء، كقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ؛ لكنه جوز أن يكون {شَيْئاً} مفعولا به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال، أي بنزع الخافض.
وجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} في موضع التعليل لمضمون {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. والحكم: هنا بمعنى التصرف والتقدير، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [سورة الطلاق: 3]. وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك، وقد جمع هذين المعنيين قوله: {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وجملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} في موضع البيان لجملة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكل الذي يضل في فهمه كثير من الناس اقتصارا وإنكارا. ولذلك أتى بجملة {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أمرا لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين، وأن مقامه لا يختص بالصديقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات.
[68] {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
جملة معترضة. والواو اعتراضية.
ودلت {حَيْثُ} على الجهة، أي لما دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. فالجملة التي تضاف إليها {حَيْثُ} هي التي تبين المراد من الجهة.
وقد أغنت جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} عن جمل كثيرة، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ولما دخلوا من حيث أمرهم سلموا مما كان يخافه عليهم. وما كان دخولهم من حيث أمرهم يغني عنهم من الله من شيء لو قدر الله أن
(12/93)
يحاط بهم، فالكلام إيجاز. ومعنى {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لولا أن الله قدر سلامتهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا حَاجَةً} منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب - عليه السلام - ليست بعضا من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير: لكن حاجة في نفس يعقوب - عليه السلام - قضاها.
والقضاء: الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها. يقال: قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئا يظنه نافعا لهم إلا أبلغه إليهم.
والحاجة: الأمر المرغوب فيه. سمي حاجة لأنه محتاج إليه، فهي من التسمية باسم المصدر. والحاجة التي في نفس يعقوب - عليه السلام - هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد. وتعليمهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله.
وجملة {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} معترضة بين جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} الخ وبين جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وهو ثناء على يعقوب - عليه السلام - بالعلم والتدبير، وأن ما أسداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوة.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} استدراك نشأ عن جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} الخ. والمعنى أن الله أمر يعقوب - عليه السلام - بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفي عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة. وعلم يعقوب - عليه السلام - ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما. فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمرا قدره الله وعلم أنه واقع، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها.
وقد دل قوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} بصريحه على أن يعقوب - عليه السلام - عمل بما علمه الله. ودل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بتعريضه على أن يعقوب - عليه السلام - من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب -
(12/94)
عليه السلام - باستفادة من الكلام مرتين: مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك.
والمعنى أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مضيع لإحداهما. ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أمر المسلمين بالقفول عن عمواس لما بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله? فقال عمر - رضي الله عنه -: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ألسنا نفر من قدر الله إلى قدر الله..." إلى آخر الخبر.
[69] {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
موقع جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} كموقع جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [سورة يوسف: 68] في إيجاز الحذف.
والإيواء: الإرجاع. وتقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ} في سورة يونس [8].
وأطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى، وإنما أدناه ليتمكن من الإسرار إليه بقوله: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ}.
وجملة {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} بدل اشتمال من جملة {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}. وكلمة بكلمة مختصرة بليغة إذ أفاده أنه هو أخوه الذي ظنه أكله الذئب. فأكد الخبر ب "إن" وبالجملة الاسمية وبالقصر الذي أفاده ضمير الفصل، أي أنا مقصورة على الكون أخاك لا أجنبي عنك، فهو قصر قلب لاعتقاده أن الذي كلمه لا قرابة بينه وبينه.
وفرع على هذا الخبر {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. والابتئاس: مطاوعة الإبئاس، أي جعل أحد بائسا، أي صاحب بؤس.
والبؤس: هو الخزن والكدر. وتقدم نظير هذا التركيب في قصة نوح - عليه السلام - من سورة هود. والضميران في {كَانُوا} و {يَعْمَلُونَ} راجعان إلى إخوتهما بقرينة المقام، وأراد بذلك ما كان أخوه "بنيامين" من الحزن لهلاك أخيه الشقيق وفظاظة اخوته وغيرهم منه.
والنهي عن الابتئاس مقتض الكف عنه، أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور.
(12/95)
وأفاد فعل الكون في المضي أن المراد ما علموه فيما مضى. وأفاد صوغ {يَعْمَلُونَ} بصيغة المضارع أنه أعمال متكررة من الأذى. وفي هذا تهيئة لنفس أخيه لتلقي حادث الصواع باطمئنان حتى لا يخشى أن يكون بمحل الريبة من يوسف - عليه السلام -.
[70 - 75] {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
تقدم الكلام على نظير قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} في الآيات قبل هذه. وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقلي، وإنما هو آمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكلون بالكيل.
والسقاية: إناء كبير يسقى به الماء والخمر. والصواع: لغة في الصاع، وهو وعاء للكيل يقدر بوزن رطل وربع أو وثلث. وكانوا يشربون الخمر بالمقدار، يقدر كل شارب لنفسه ما اعتاد أنه لا يصرعه، ويجعلون آنية الخمر مقدرة بمقادير مختلفة، فيقول الشارب للساقي: رطلا أو صاعا أو نحو ذلك. فتسمية هذا الإناء سقاية وتسميته صواعا جارية على ذلك. وفي التوراة سمي طاسا، ووصف بأنه من فضة.
وتعريف {السِّقَايَةَ} تعريف العهد الذهني، أي سقاية معروفة لا يخلو عن مثلها مجلس العظيم.
وإضافة الصواع إلى الملك لتشريفه، وتهويل سرقته على وجه الحقيقة، لأن شؤون الدولة كلها للملك. ويجوز أن يكون أطلق الملك على يوسف - عليه السلام - تعظيما له.
والتأذين: النداء المكرر. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} في سورة الأعراف [44].
والعير: اسم للحمولة من إبل وحمير وما عليها من أحمال وما معها من ركابها، فهو اسم لمجموع هذه الثلاثة. وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم.
(12/96)
وتأنيث اسم الإشارة وهو {أَيَّتُهَا} لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم.
وجملة {قَالُوا} جواب لنداء المنادي إياهم {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، ففصلت الجملة لأنها في طريقة المحاورة كما تكرر غير مرة.
وضمير {قَالُوا} عائد إلى العير.
وجملة {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} حال من ضمير {قَالُوا}. ومرجع ضمير {أَقْبَلُوا} عائد إلى فتيان يوسف - عليه السلام -. وضمير {عَلَيْهِمْ} راجع إلى ما رجع إليه ضمير {قَالُوا} ، أي وقد أقبل عليهم فتيان يوسف - عليه السلام -.
وجعلوا جعلا لمن يأتي بالصواع. والذي قال: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} واحد من المقبلين وهو كبيرهم. والزعيم: الكفيل.
وهذه الآية قد جعلها الفقهاء أصلا لمشروعية الجعل والكفالة. وفيه نظر، لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن يومئذ ذا شرع حتى يستأنس للأخذ ب "أن شرع من قبلنا شرع لنا" إذا حكاه كلام الله أو رسوله. ولو قدر أن يوسف - عليه السلام - كان يومئذ نبيا فلا يثبت أنه رسول بشرع، إذ لم يثبت أنه بعث إلى قوم فرعون، ولم يكن ليوسف - عليه السلام - أتباع في مصر قبل ورود أبيه واخوته وأهلهم. فهذا مأخذ ضعيف.
والتاء في {تَاللَّهِ} حرف قسم على المختار، ويختص بالدخول على اسم الله تعالى وعلى لفظ رب، ويختص أيضا بالمقسم عليه العجيب. وسيجيء عند قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} في [سورة الأنبياء: 57].
وقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}. أكدوا ذلك بالقسم لأنهم كانوا وفدوا على مصر مرة سابقة واتهموا بالجوسسة فتبينت براءتهم بما صدقوا يوسف - عليه السلام - فيما وصفوه من حال أبيهم وأخيهم. فالمراد ب {الْأَرْضِ} المعهودة، وهي مصر.
وأما براءتهم من السرقة فبما أخبروا به عند قدومهم من وجدان بضاعتهم في رحالهم، ولعلها وقعت في رحالهم غلطا.
على أنهم نفوا عن أنفسهم الاتصاف بالسرقة بأبلغ مما نفوا به الإفساد عنهم، وذلك
(12/97)
بنفي الكون سارقين دون أن يقولوا: وما جئنا لنسرق، لأن السرقة وصف يتعير به، وأما الإفساد الذي نفوه، أي التجسس فهو مما يقصده العدو على عدوه فلا يكون عارا، ولكنه اعتداء في نظر العدو.
وقول الفتيان {مَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} تحكيم، لأنهم لا يسعهم إلا أن يعينوا جزاء يؤخذون به، فهذا تحكيم المرء في ذنبه.
ومعنى {مَا جَزَاؤُهُ}: ما عقابه. وضمير {جَزَاؤُهُ} عائد إلى الصواع بتقدير مضاف دل عليه المقام، أي ما جزاء سارقه أو سرقته.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} إن تبين كذبكم بوجود الصواع في رحالكم.
وقوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ، و من يجوز أن تكون شرطية وهي مبتدأ ثان وأن جملة {وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} جملة الشرط وجملة {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جواب الشرط، والفاء رابطة للجواب، والجملة المركبة من الشرط وجوابه خبر عن المبتدإ الأول. ويجوز أن تكون {من} موصولة مبتدأ ثانيا، وجملة {وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} صلة الموصول. والمعنى أن من وجد في رحله الصواع هو جزاء السرقة، أي ذاته هي جزاء السرقة، فالمعنى أن ذاته تكون عوضا عن هذه الجريمة، أي أن يصير رفيقا لصاحب الصواع ليتم معنى الجزاء بذات أخرى. وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حد القتل.
فتكون جملة {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} توكيدا لفظيا لجملة {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} ، لتقرير الحكم وعدم الانقلاب منه، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكد. وقد حكم إخوة يوسف - عليه السلام - على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه.
ويظهر أن ذلك كان حكما مشهورا بين الأمم أن يسترق السارق. وهو قريب من استرقاق المغلوب في القتال. ولعله كان حكما معروفا في مصر لما سيأتي قريبا عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [سورة يوسف: 76].
وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} بقية كلام إخوة يوسف - عليه السلام - أي كذلك حكم قومنا في جزاء السارق الظالم بسرقته، أو أرادوا أنه حكم الإخوة على من يقدر منهم أن يظهر الصواع في رحله، أي فهو حقيق لأن نجزيه بذلك.
والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى الجزاء المأخوذ من {نَجْزِي} ، أي نجزي الظالمين جزاء
(12/98)
كذلك الجزاء، وهو من وجد في رحله.
[76] {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
{بَدَأَ} أي أمر يوسف - عليه السلام - بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبل وعاء أخيه الشقيق.
وأوعية: جمع وعاء، وهو الظرف، مشتق من الوعي وهو الحفظ. والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر. وتأنيث ضمير {اسْتَخْرَجَهَا} للسقاية. وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعا. فهو كرد العجز على الصدر.
والقول في {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} كالقول في {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة يوسف: 75].
والكيد: فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي. والكيد: هنا هو إلهام يوسف - عليه السلام - لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المصمت.
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسببه. وجعل الكيد لأجل يوسف - عليه السلام - لأنه لفائدته.
وجملة {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مرغوب يوسف - عليه السلام - من إبقاء أخيه عنده، ولولا ذلك لما كانت شريعة القبط تخوله ذلك، فقد قيل: إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته. وعن مجاهد {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي حكمه وهو استرقاق السراق. وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي لولا حيلة وضع الصواع في متاع أخيه. ولعل ذلك كان حكما شائعا في كثير من الأمم، ألا ترى إلى قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [سورة يوسف: 75] كما تقدم، أي أن ملك
(12/99)
مصر كان عادلا فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق. ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين، فتعين أن المراد بالدين الشريعة لا مطلق السلطان.
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف - عليه السلام - أخذ أخيه عنده.
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية. وفي الكلام حرف جر محذوف قبل {أَنْ} المصدرية، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ، أي أسبابه. فالتقدير: إلا بأن يشاء الله، أي يلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف - عليه السلام - في عمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم.
وجملة {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} تذييل لقصة أخذ يوسف - عليه السلام - أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف - عليه السلام - في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله. ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف - عليه السلام - في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه. ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف - عليه السلام - وحنوه عليهم. فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول. وتقدم في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]، وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في سورة الأنفال [4].
وجملة {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} تذييل ثان لجملة {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} الآية.
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس.
والفوقية مجاز في شرف الحال، لأن الشرف يشبه بالارتفاع.
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف {عَلِيمٌ} باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه.
وظاهر تنكير {عَلِيمٌ} أن يراد به الجنس فيعم كل موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى. فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه, ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم.
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة
(12/100)
والتعظيم، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص.
وقرأ الجمهور {دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بإضافة {دَرَجَاتٍ} إلى {مَنْ نَشَاءُ}. وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بتنوين {دَرَجَاتٍ} على أنه تمييز لتعلق فعل {نَرْفَعُ} بمفوله وهو {مَنْ نَشَاءُ}.
[77] {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}.
لما بهتوا بوجود الصواع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة. إذ قالوا: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [سورة يوسف: 73]. عذرا بان أخاهم قد تسربت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبل. وقد علم فتيان يوسف - عليه السلام - أن المتهم أخ من أم أخرى. فهذا اعتذار بتعريض بجانب أم أخوتهم وهي زوجة أبيهم وهي "راحيل" ابنة "لابان" خال يعقوب - عليه السلام -.
وكان ليعقوب - عليه السلام - أربع زوجات: "راحيل" هذه أم يوسف - عليه السلام - وبنيامين، و"ليئة" بنت لابان أخت راحيل وهي أم روبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وبساكر، وزبولون، و"بلهة" جارية راحيل وهي أم دانا، ونفتالي، و"زلفة" جارية راحيل أيضا وهي أم جاد، وأشير.
وإنما قالوا: {قَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} بهتانا ونفيا للمعرة عن أنفسهم. وليس ليوسف - عليه السلام - يومئذ أنبياء. وشتان بين السرقة وبين الكذاب إذا لم تترتب عليه مضرة.
وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف - عليه السلام - في مجلس حكمه.
وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} بعد قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [سورة المؤمنون: 99]. ويكون معنى {أسرها في نفسه} أنه تحملها ولم يظهر غضبا منها، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب. وإلى هذا التفسير ينحو أبو
(12/101)
علي الفارسي وأبو حيان. ويكون قوله: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} كلاما مستأنفا حكاية لما أجابهم به يوسف - عليه السلام - صراحة على طريقة حكاية المحاورة، وهو كلام لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم، أي أنتم أشد شرا في حالتكم هذه لأن سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى، وفعل {قَالَ} يرجع هذا الوجه.
ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في {فَأَسَرَّهَا} إلى ما بعده وهو قوله: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً}. وبهذا فسر الزجاج والزمخشري، أي قال في نفسه، وهو يشبه ضمير الشأن والقصة، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة، وتكون جملة {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} تفسير للضمير في {فَأَسَرَّهَا}.
والإسرار، على هذا الوجه، مستعمل في حقيقته، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع.
وجملة {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} قيل هي توكيد لجملة {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ}. وشأن التوكيد أن لا يعطف. ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد لهم المشعر بأنه أبدى لأخيه انهم كاذبون. ويجوز أن يكون المراد لم يبد لهم غضبا ولا عقابا كما تقدم مبالغة في كظم غيظه، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب، أي لم يبد أثرها.
و {شَرٌّ} اسم تفضيل، وأصله أشر، و {مَكَاناً} تمييز لنسبة الأشر.
وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة، والحالة هي السرقة، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} في آخر سورة الأنعام [135], وهو تشبيه الاتصاف بوصف ما بالحلول في مكان. والمعنى أنهم لما عللوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدت أخاه الآخر للسرقة، فهم وقد سبقهم أخوان بالسرقة أجدر بأن يكونوا سارقين من الذي سبقه أخ واحد. والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموها به وأنتم مجرمون عليها إذ قذفتم أولهما في الجب، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة.
ثم ذيله بجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} وهو كلام جامع، أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم. والمراد: أنه يعلم كذبهم، فالمراد: أعلم بحال ما تصفون.
(12/102)
[78، 79] {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ}.
نادوا بوصف العزيز إما لأن كل رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف - عليه السلام - عزيزا، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [سورة يوسف: 30]، وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم.
ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه، وهي: حنان الأبوة، وصفة الشيخوخة، واستحقاقه جبر خاطرة لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكبر إلى أقصاه، فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف - عليه السلام - بخبر أبيهم.
والمراد بالكبير: إما كبير عشيرته فإساءته تسوءهم جميعا ومن عادة الولاة استجلاب القبائل، وإما أن يكون {كَبِيراً} تأكيدا ل {شَيْخاً} أي بلغ الغاية في الكبر في السن، ولذلك فرعوا على ذلك {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} إذ كان هو أصغر الإخوة، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه.
وجملة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب. والتقدير: فلا ترد سؤالنا لأنا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أبا شيخا كبيرا.
والمكان: أصله محل الكون، أي ما يستقر فيه الجسم، وهو هنا مجاز في العوض لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوض عنه كما في الحديث هذه مكان حجتك.
و {مَعَاذَ} مصدر ميمي اسم للعوذ، وهو اللجأ إلى مكان للتحصن. وتقدم قريبا عند قوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [سورة يوسف: 23].
وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائبا عن فعلة المحذوف. والتقدير: أعوذ بالله معاذا، فلما حذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلا بالمصدر بطريق الإضافة فقيل: معاذ الله، كما قالوا: سبحان الله، عوضا عن أسبح الله. والمستعاذ
(12/103)
منه هو المصدر المنسبك من {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ}. والمعنى: الامتناع من ذلك، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه، أي أن يعصمنا من الظلم لأن أخذ من وجد المتاع عنده صار حقا عليه بحكمه على نفسه، لأن التحكيم له قوة الشريعة. وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترق نفسه بغير حكم، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلما.
ودليل التعليل شيئان: وقوع {إِنَّ} في صدر الجملة، والإتيان بحرف الجزاء هو إذن وضمائر {نَأْخُذَ} و {وَجَدْنَا} و {مَتَاعَنَا} و {إِنَّا} و {الظَالِمُونَ} مراد بها المتكلم وحده دون مشارك، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة. ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعا منه تشبيها لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام. ومنه قوله تعالى حكاية عن اخضر - عليه السلام - {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} الآية من سورة الكهف[80].
وإنما لم يكاشفهم يوسف - عليه السلام - بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذ: إما لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعا إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوات فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريث إلى أن يجد فرصة لذلك، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم، وسنذكره عند قوله: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [سورة يوسف: 89].
[80 - 82] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
(12/104)
فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
{اسْتَيْأَسُوا} بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد، ومثلها {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} [سورة يوسف: 34] و {اسْتَعْصَمَ}.
واليأس منه: اليأس من إطلاقة أخاهم، فهو من تعليق الحكم بالذات. والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة.
وقرأ الجمهور {اسْتَيْأَسُوا} بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف. وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب من المكان ثم إبدال الهمزة.
و {خَلَصُوا} بمعنى اعتزلوا وانفردوا. واصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط. ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحة في الخلافة بغير حق، قال عبد الرحمان بن عوف - رضي الله عنه -: "يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه..."الخ.
والنجي: اسم من المناجاة، وانتصابه على الحال. كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}. والمعنى: انفردوا تناجيا.
والتناجي: المحادثة سرا، أي متناجين.
وجملة {قَالَ كَبِيرُهُمْ} بدل جملة {خَلَصُوا نَجِيّاً} وهو بدل اشتمال، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قول كبيرهم هذا، وكبيرهم هو أكبرهم سنا وهو روبين بكر يعقوب - عليه السلام -.
والاستفهام في {أَلَمْ تَعْلَمُوا} تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه.
وجملة {ومن قبل ما فرطتم} جملة معترضة، و {مَا} مصدرية، أي تفريطكم في يوسف - عليه السلام - كان من قبل الموثق، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من اخذ بنيامين في سرقة الصواع. وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب - عليه السلام - يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين، إذ لا يرضى لنفسه أن
(12/105)
يبقى غريبا لولا خوفه من أبيه، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق.
وقوله: {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قدره له مما لا قبل له بدفعه، فحذف متعلق {يَحْكُمَ} المجرور بالباء لتنزيل فعل {يَحْكُمَ} منزلة ما لا يطلب متعلقا.
واللام للأجل، أي يحكم الله بما فيه نفعي. والمراد بالحكم التقدير.
وجملة {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} تذييل. و {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته.
وعدم التعرض لقول صدر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه مطالعا على مراد يوسف - عليه السلام - من استبقائه عنده، كما تقدم في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [سورة يوسف: 69].
ثم لقنهم كبيرهم ما يقولون لأبيهم. ومعنى {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} احتراس من تحقق كونه سرق، وهو إما لقصد التلطف مع أبيهم في نسبة ابنه إلى السرقة وإما لأنهم علموا من أمانة أخيهم ما خلجهم به الشك في وقوع السرقة منه.
والغيب: الأحوال الغائبة عن المرء. والحفظ: بمعنى العلم.
وسؤال القرية مجاز عن سؤال أهلها. والمراد بها مدينة مصر. والمدينة والقرية مترادفتان. وقد خصت المدينة في العرف بالقرية الكبيرة.
والمراد بالعير التي كانوا فيها رفاقهم في عيرهم القادمين إلى مصر من أرض كنعان، فأما سؤال العير فسهل وأما سؤال القرية فيكون بالإرسال أو المراسلة أو الذهاب بنفسه إن أراد الاستثبات.
[83] {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
جعلت جملة {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} في صورة الجواب عن الكلام الذي لقنه أخوهم
(12/106)
على طريقة الإيجاز. والتقدير: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا ذلك الكلام الذي لقنه إياهم "روبين" قال أبوهم: بل سولت... الخ.
وقوله هنا كقوله لهم حين زعموا أن يوسف - عليه السلام - أكله الذئب، فهو تهمة لهم بالتغرير بأخيهم. قال ابن عطية ظن بهم سوءا فصدق ظنه في زعمهم في يوسف - عليه السلام - ولم يتحقق ما ظنه في أمر "بنيامين"، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية بنيامين، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة. فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل. وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف - عليه السلام - فإنه كان قال لهم: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف: 64]. ويجوز على النبي الخطأ في الظن في أمور العادات كما جاء في حديث ترك إبار النخل.
ولعله أتهم روبين أن يكون قد اختفى لترويج دعوى إخوته. وضمير {بِهِمْ} ليوسف - عليه السلام - وبنيامين وروبين. وهذا كشف منه إذ لم ييأس من حياة يوسف - عليه السلام -.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة. حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق.
[84 - 87] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
انتقال إلى حكاية حال يعقوب - عليه السلام - في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و {تَوَلَّى}: انصرف، وهو انصراف غضب.
ولما كان التولي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أحواله تجدد أسفه على يوسف - عليه السلام - فقال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}. والأسف: أشد الحزن، أسف كحزن.
(12/107)
ونداء الأسف مجاز. نزل الأسف منزلة من يعقل فيقول له: احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف.
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفا.
وإنما ذكر القرآن تحسره على يوسف - عليه السلام - ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكره أن يعقوب - عليه السلام - لم يتحسر قط إلا على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها.
وكذلك عطف جملة {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلا أنها مختلفة الأزمان.
وابيضاض العينين: ضعف البصر. وظاهرة أنه تبدل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبر ب {ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} دون عميت عيناه.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْحُزْنِ} سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة:
قبل ما اليوم بيضت بعيون ... الناس فيها تغيض وإباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر، فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبلي فلا يستغرب صدوره من نبي، أو أن التصبر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب. وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى - عليه السلام - أربعين يوما، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع. وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية.
والكظيم: مبالغة للكاظم. والكظم: الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
(12/108)
وجملة {قَالُوا تَاللَّهِ} محاورة بنيه إياه عندما سمعوا قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وقد قالها في خلوته فسمعوها.
والتاء حرف قسم، وهي عوض عن الواو القسم. قال في "الكشاف" في سورة الأنبياء: "التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب". وسلمه في "مغنى اللبيب"، وفسره الطيبي بان المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم.
وجواب القسم هو {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} باعتبار ما بعده من الغاية، لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة يوسف - عليه السلام - وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر يوسف. وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتا لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا.
ومعنى {تَفْتَأُ} تفتر. يقال: فتئ من باب علم. إذا فتر عن الشيء. والمعنى: لا تفتر في حال كونك تذكر يوسف. ولملازمة النفي لهذا الفعل ولزوم حال يعقب فاعله صار شبيها بالأفعال الناقصة.
و{حَرَضاً} مصدر هو شدة المرض المشفي على الهلاك، وهو وصف بالمصدر، أي حتى تكون حرضا، أي باليا لا شعور لك. ومقصودهم الإنكار عليه صدا له عن مداومة ذكر يوسف - عليه السلام - على لسانه لأن ذكره باللسان يفضي إلى دوام حضوره في ذهنه.
وفي جعلهم الغاية الحرض أو الهلاك تعريض بأنه يذكر أمرا لا طمع في تداركه، فأجابهم بان ذكره يوسف - عليه السلام - موجه إلى الله دعاء بان يرده عليه. فقوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه برد يوسف - عليه السلام - إليه لأنه كان يعلم أن يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة وهي المسماة بالإلهام عند الصوفية.
فجملة {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مفيدة قصر شكواه على التعلق باسم الله، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة لأن الدعاء عبادة. وصار ابيضاض عينيه الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى
(12/109)
أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مثل تفطر أقدام النبي صلى الله عليه وسلم من قيام الليل.
والبث: الهم الشديد، وهو التفكير في الشيء المسيء. والحزن: الأسف على فائت. فبين الهم والحزن العموم والخصوص الوجهي، وقد اجتمعا ليعقوب - عليه السلام - لأنه كان مهتما بالتفكير في مصير يوسف - عليه السلام - وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفا على فراقه.
وقد أعقب كلامه بقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} لينبههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلموه أو يلوموه، أي أنا أعلم من عند الله علمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوة. وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح - عليه السلام - من سورة الأعراف فهي من كلام النبوة الأولى. وحكى مثلها عن شعيب - عليه السلام - في سورة الشعراء.
وفي هذا تعريض برد تعريضهم بأنه يطمع في المحال بان ما يحسبونه محالا سيقع.
ثم صرح لهم بشيء مما يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب يوسف - عليه السلام - حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
فجملة {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4].
والتحسس بالحاء المهملة: شدة التطلب والتعرف، وهو أعم من التجسس بالجيم فهو التطلب مع اختفاء وتستر.
والروح بفتح الراء: النفس بفتح الفاء استعير لكشف الكرب لأن الكرب والهم يطلق عليهما الغم وضيق النفس وضيق الصدر، بكذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك، ومنه استعارة قولهم: تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل.
وفي خطابهم بوصف البنوة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال.
وجملة {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} تعليل للنهي عن اليأس، فموقع إن التعليل. والمعنى: لا تيأسوا من الظفر بيوسف - عليه السلام - معتلين بطول
(12/110)
مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة. فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك فحقه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها.
وقرأ البزي بخلف عنه {وَلا تَيْأَسُوا} وإنه {لا يَيْأَسُ} بتقديم الهمزة على الياء الثانية، وتقدم في قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [سورة يوسف: 80].
[88] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.
الفاء عاطفة على كلام مقدر دل عليه المقام، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسس من يوسف - عليه السلام - فوصلوا مصر، فدخلوا على يوسف، {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} الخ... وقد تقدم آنفا وجه دعائهم يوسف - عليه السلام - بوصف العزيز.
وأرادوا بمس الضر إصابته. وقد تقدم إطلاق مس الضر على الإصابة عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} في سورة الأنعام [17].
والبضاعة تقدمت آنفا. والمزجاة: القليلة التي لا يرغب فيها فكأن صاحبها يزجيها، أي يدفعها بكلفة ليقبلها المدفوعة إليه. والمراد بها مال قليل للامتيار، ولذلك فرع عليه {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ}. وطلبوا التصدق منه تعريضا بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكا له كما تقدم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} تعليل لاستدعائهم التصدق عليهم.
[89 - 93] {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
(12/111)
الاستفهام مستعمل في التوبيخ.
و {هَلْ} مفيدة للتحقيق لأنها بمعنى {قد} في الاستفهام، فهو توبيخ على ما يعلمونه محققا مع يوسف - عليه السلام - وأخيه، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ، وهي بالنسبة ليوسف - عليه السلام - واضحة، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف - عليه السلام - من الإهانة التي تنافيها الأخوة، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}.
وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد، وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيا أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء "بنيامين" حين أخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح.
وإنما كاشفهم بحاله الآن لأن الاطلاع حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته، وذلك كان متوقفا على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذ. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [سورة يوسف: 79] فقد صار يوسف - عليه السلام - جد مكين عند فرعون.
وفي الإصحاح "45" من سفر التكوين أن يوسف - عليه السلام - قال لإخوته حينئذ "وهو أي الله قد جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على كل أرض مصر". فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف - عليه السلام - من السجن وجعله عزيز مصر قد توفي وخلفه ابن له فحجبه يوسف - عليه السلام - وصار للملك الشاب بمنزلة الأب، وصار متصرفا بما يريد، فرأى الحال مساعدا لجلب عشيرته إلى أرض مصر.
ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف - عليه السلام - لأن المملكة أيامئذ كانت منقسمة إلى مملكتين: إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يقسمهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة، وبعض الثامنة عشرة.
والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس. ويقال لهم: العمالقة أو الرعاة وهم عرب.
ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة "2214" قبل المسيح إلى سنة "1703" قبل المسيح.
(12/112)
وقولهم: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قول أبيهم لهم {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريدا نفسه.
وتأكيد الجملة ب {إِنَّ} ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف - عليه السلام -.
وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلمهم به.
وقرأ ابن كثير {إِنَّكَ} بغير استفهام على الخبرية، والمراد لازم فائدة الخبر، أي عرفناك. ألا ترى أن جوابه ب {أَنَا يُوسُفُ} مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك.
وقوله: {وَهَذَا أَخِي} خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة، فجملة {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بيان للمقصود من جملة {وَهَذَا أَخِي}.
وجملة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} تعليل لجملة {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}. فيوسف - عليه السلام - اتقى الله وصبر وبينيامين صبر ولم يعص الله فكان تقيا. أراد يوسف - عليه السلام - تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته.
وذكر المحسنين وضع للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهم. فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل، ويدخل في عمومه هو وأخوه.
ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأتقاكم لله وأعلمكم به".
والإيثار: التفضيل بالعطاء. وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبته، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف - عليه السلام - يعلمه. والمراد: الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم.
(12/113)
واعترفوا بذنبهم إذ قالوا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}. والخاطئ: فاعل الخطيئة، أي الجريمة، فنفعت فيهم الموعظة.
ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}.
والتثريب: التوبيخ والتقريع. والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله: {عَلَيْكُمُ} ، لأن مثل هذا الق ول مما يجري مجرى المثل فيبنى على الاختصار فيكتفي ب{لا تَثْرِيبَ} مثل قولهم: لا باس، وقوله تعالى: {لا وَزَرَ} [سورة القيامة: 11].
وزيادة {عَلَيْكُمُ} للتأكيد مثل زيادة لك بعد "سقيا ورعيا"، فلا يكون قوله: {الْيَوْمَ} من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
وأعقب ذلك بأن أعلمهم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم.
وأطلق {الْيَوْمَ} على الزمن، وقد مضى عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} في أول سورة العقود [3].
وقوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} يدل على أنه أعطاهم قميصا، فلعله جعل قميصه علامة لأبيه على حياته، ولعل ذلك كان مصطلحا عليه بينهما. وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق، وتلك العلامات من لباس ومن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار، ومن علامات في البدن وشامات.
وفائدة إرساله إلى أبيه القميص أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر. ولقصد تعجيل المسرة له.
والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف - عليه السلام - بجلبه فإن قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم، فجعل يوسف - عليه السلام - إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف - عليه السلام - بخبر صدق.
(12/114)
ومن البعيد ما قيل: إن القميص كان قميص إبراهيم - عليه السلام - مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب.
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب.
وأما كونه يصير بصيرا فحصل ليوسف - عليه السلام - بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين. ولعل يوسف - عليه السلام - نبئ ساعتئذ.
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجا بليغا إذ قال: {يَأْتِ بَصِيراً} ثم قال: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} لقصد صلة أرحام عشيرته. قال المفسرون: وكانت عشيرة يعقوب - عليه السلام - ستا وسبعين نفسا بين رجال ونساء.
[94] [95] {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً}.
التقدير: فخرجوا وارتحلوا في عير.
ومعنى {فَصَلَتِ} ابتعدت عن المكان، كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249].
والعير تقدم آنفا، وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين.
ووجدان يعقوب ريح يوسف - عليه السلام - إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمة الريح الذي ضمخ به يوسف - عليه السلام - حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مرسل، وهو داخل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}. [سورة الشورى: 51]
والريح: الرائحة، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم.
(12/115)
وأكد هذا الخبر ب {إِنَّ} واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه ب {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}.
وجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه التأكيد، أي لولا أن تفندوني لتحققتم ذلك.
والتفنيد: النسبة للفند بفتحتين، وهو اختلال العقل من الخوف.
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة.
والذين قالوا: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه.
والضلال: البعد عن الطريق الموصلة. والظرفية مجاز في قوة الاتصاف والتلبس وانه المظروف بالظرف. والمعنى: أنك مستمر في التلبس بتطلب شيء من غير طريقة. أرادوا طمعه في لقاء يوسف - عليه السلام - ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدته، وكانت مدة غيبه يوسف عن أبيه عليهما السلام اثنين وعشرين سنة. وكان خطابهم إياه بهذا مشتملا على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافيا لذلك في عرفهم.
و {أَنْ} في قوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} مزيدة للتأكيد. ووقوع أن بعد لما التوقيتية كثير من الكلام كما في مغني اللبيب.
وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب - عليه السلام - لأنها خارق عادة، ولذلك لم يؤت ب {أَنْ} في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد.
والبشير: فعيل بمعنى مفعل، أي المبشر، مثل السميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
والتبشير: المبادرة بإبلاغ الخبر المسر بقصد إدخال السور. وتقدم عند قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} في سورة براءة [21]. وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب - عليه السلام - تقدم بين يدي العير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف - عليه السلام -.
وارتد: رجع، وهو افتعال مطاوع رده، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارقة للعادة. وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [سورة يوسف: 84].
(12/116)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
جواب للبشارة لأنها تضمنت القول. ولذلك جاء فعل {قَالَ} مفصولا غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فبين لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [سورة يوسف: 85] الخ.
وقولهم: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} توبة واعتراف بالذنب، فسألوا أباهم أن يطلب لهم المغفرة من الله. وإنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل. ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى، ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة. وقيل: أخر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة. وعن ابن عباس مرفوعا أنه أخر إلى ليلة الجمعة، رواه الطبري. وقال ابن كثير: في رفعة نظر.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في موضع التعليل لجملة {أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر.
[99، 100] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
طوى ذكر سفرهم من بلادهم إلى دخولهم على يوسف - عليه السلام - إذ ليس فيه من العبر شيء.
وأبواه أحدهما يعقوب - عليه السلام - وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف - عليه السلام - وهي "راحيل" توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين، ولذلك قال جمهور المفسرين: أطلق الأبوان على الأب وزوج الأب وهي "ليئة" خالة يوسف - عليه السلام - وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل.
(12/117)
وإعادة اسم يوسف - عليه السلام - لأجل بعد المعاد.
وقوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} جملة دعائية بقرينة قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} لكونهم قد دخلوا مصر حينئذ. فالأمر في {ادْخُلُوا} للدعاء كالذي في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [سورة الأعراف: 49].
والمقصود: تقييد الدخول ب {آمِنِينَ} وهو مناط الدعاء.
والأمن: حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك، ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم - عليه السلام - {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد.
وجملة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمن، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاء بمنزلة وقوع التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث: أن لا يقول اغفر لي إن شئت، فإنه لا مكره له لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة. وجملة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} معترضة بين جملة {ادْخُلُوا} والحال من ضميرها.
والعرش: سرير للقعود فيكون مرتفعا على سوق، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتكاء. والسجود: وضع الجبهة على الأرض تعظيما للذات او لصورتها أو لذكرها، قال الأعشى:
فلما أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له ورفعنا العمارا"1"
وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية.
والخرور: الهوي والسقوط من علو إلى الأرض.
والذين خروا سجدا هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} وهم أحد عشر وهم:رأوبين، وسمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساكر، وربولون، وجاد، وأشير،
ـــــــ
(1) العمار - بفتح العين المهملة وتخفيف الميم - هو الريحان أو الآس كانوا يحملونه عند تحية الملوك قال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب
(12/118)
ودان، ونفتالي، وبنيامين، و {الشَّمْسَ} ، و {الْقَمَرَ} ، تعبيرهما أبواه يعقوب - عليه السلام - وراحيل.
وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم، ولم يكن يومئذ ممنوعا في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقا لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية. ولذلك فلا يعد قبوله السجود من أبيه عقوقا لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم.
والأحسن أن تكون جملة {وَخَرُّوا} حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش، على أن الواو لا تفيد ترتيبا.
و {سُجَّداً} حال مبينة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة.
والإشارة في قوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.
وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف: 36].
ومعنى {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس، أي ولم يجعلها باطلا من أضعاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية.
ومعنى {أَحْسَنَ بِي} أحسن إلي. يقال: أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر. وقيل: هو بتضمين أحسن معنى لطف. وباء {بِي} للملابسة أي جعل إحسانه ملابسا لي، وخص من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتياز أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية.
فإن {إذ} ظرف زمان لفعل {أَحْسَنَ} فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود، فإن ذلك الوقت كان زمن ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة، وزمن خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبة، وبخلطه من لا يشاكلونه، وبشغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان أيضا زمن إقبال الملك عليه. وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم، فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدو إلى حيث هو مكين قوي.
(12/119)
وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجب، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، فكلمة {بَعْدِ} اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره. وقد ألم به إجمالا اقتصارا على شكر النعمة وإعراضا عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمر بها مر الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان.
والمجيء في قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} نعمة، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو.
والبدو: ضد الحضر، سمي بدوا لأن سكانه بادون، أي ظاهرون لكل وارد، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب. وذكر {مِنَ الْبَدْوِ} إظهار لتمام النعمة، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة.
والنزغ: مجاز في إدخال الفساد في النفس. شبه بنزغ الراكب الدابة وهو نخسها. وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} في سورة الأعراف[200].
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها.
واللطف: تدبير الملائم. وهو يتعدى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به، ويتعدى بالباء قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [سورة الشورى: 19]. وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في سورة الأنعام[103].
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} مستأنفة أيضا أو تعليل لجملة {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وحرف التوكيد للاهتمام. وتوسيط ضمير الفصل للتقوية.
وتفسير {الْعَلِيمُ} تقدم عند قوله تعالى: {إِنََّكَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في سورة البقرة[32]. و {الْحَكِيمُ} تقدم عند قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أواسط سورة البقرة[209].
[101] {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة
(12/120)
العظمى في الآخرة، فذكر ثلاث نعم: اثنتان دنيويتان وهما: نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم، والثالثة أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام - وجعل الذي أوتيه بعضا من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعارا بأن ذلك في جانب ملك الله وفي جانب علمه شيء قليل. وعلى هذا يكون المراد بالملك التصرف العظيم الشبيه بتصرف الملك إذ كان يوسف - عليه السلام - هو الذي يسير الملك برأيه. ويجوز أن يراد بالملك حقيقته ويكون التبعيض حقيقيا، أي آتيتني بعض الملك لأن الملك مجموع تصرفات في أمر الرعية، وكان ليوسف - عليه السلام - من ذلك الحظ الأوفر، وكذلك تأويل الأحاديث.
وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [سورة يوسف: 6] في هذه السورة.
و {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} نداء محذوف حرف ندائه. والفاطر: الخالق. وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام[14].
والولي: الناصر، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام.
وجملة {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة. فالمعنى: كن وليي في الدنيا والآخرة.
وأشار بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق، فإن طلب توفيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة.
والمسلم: الذي اتصف بالإسلام، وهو الدين الكامل، وهو ما تعبد الله به الأنبياء والرسل عليهم السلام. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة آل عمران [102].
والإلحاق: حقيقته جعل الشيء لاحقا، أي مدركا من سبقه في السير. وأطلق هنا مجازا على المزيد في عداد قوم.
(12/121)
والصالحون: المتصفون بالصلاح، وهو التزام الطاعة. وأراد بهم الأنبياء. فإن كان يوسف - عليه السلام - يومئذ نبيا فدعاؤه لطلب الدوام على ذلك، وإن كان نبئ فيما بعد فهو دعاء بحصوله، وقد صار نبيا بعد ورسولا.
[102] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
تذييل للقصة عند انتهائها. والإشارة إلى ما ذكر من الحوادث، أي ذلك المذكور.
واسم الإشارة لتمييز الأنباء أكمل تمييز لتتمكن من عقول السامعين لما فيها من المواعظ.
والغيب: ما غاب عن علم الناس، وأصله مصدر غاب فسمي به الشيء الذي لا يشاهد. وتذكير ضمير {نُوحِيهِ} لأجل مراعاة اسم الإشارة.
وضمائر {لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} عائدة إلى كل من صدر منه ذلك في هذه القصة من الرجال والنساء على طريقة التغليب، يشمل إخوة يوسف - عليه السلام - والسيارة، وامرأة العزيز، ونسوتها.
و {أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} تفسيره مثل قوله: {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [سورة يوسف: 15].
والمكر تقدم، وهذه الجملة استخلاص لمواضع العبرة من القصة. وفيها منة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريض للمشركين بتنبيههم لإعجاز القرآن من الجانب العلمي، فإن صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم الأمي آية كبرى على أنه وحي من الله تعالى. ولذلك عقب بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وكان في قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} توركا على المشركين. وجملة {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} في موضع الحال إذ هي تمام التعجيب.
وجملة {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} حال من ضمير {أَجْمَعُوا} ، وأتي {يَمْكُرُونَ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة.
[103، 104] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ
(12/122)
مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.
انتقال من سوق هذه القصة إلى العبرة بتصميم المشركين على التكذيب بعد هذه الدلائل البينة، فالواو للعطف على جملة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف:102] باعتبار إفادتها أن هذا القرآن وحي من الله وأنه حقيق بأن يكون داعيا سامعيه إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولما كان ذلك من شأنه أن يكون مطعما في إيمانهم عقب بإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن أكثرهم لا يؤمنون.
و {النَّاسِ} يجوز حمله على جميع جنس الناس، ويجوز أن يراد به ناس معينون وهم القوم الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وما حولها، فيكون عموما عرفيا.
وجملة {وَلَوْ حَرَصْتَ} في موضع الحال معترضة بين اسم {مَا} وخبرها.
{وَلَوْ} هذه وصلية، وهي التي تفيد أن شرطها هو أقصى الأسباب لجوابها. وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} في سورة آل عمران[91].
وجواب {لَوْ} هو {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} مقدم عليها أو دليل الجواب.
والحرص: شدة الطلب لتحصيل شيء ومعاودته. وتقدم في قوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في آخر سورة براءة[128].
وجملة {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} معطوفة على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} إلى آخرها باعتبار ما أفادته من التأييس من إيمان أكثرهم، أي لا يسوءك عدم إيمانهم فلست تبتغي أن يكون إيمانهم جزاء على التبليغ بل إيمانهم لفائدتهم، كقوله: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [سورة الحجرات: 17].
وضمير الجمع في قوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ} عائد إلى الناس، أي الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بمنزلة التعليل لجملة {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. والقصر إضافي، أي ما هو إلا ذكر للعالمين لا لتحصيل أجر مبلغه.
وضمير {عَلَيْهِ} عائد إلى القرآن المعلوم من قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102].
(12/123)
[105، 106] {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
عطف على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، أي ليس إعراضهم عن آية حصول العلم للأمي بما في الكتب السالفة فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض.
و {كَأَيِّنْ} اسم يدل على كثرة العدد المبهم يبينه تمييز مجرور ب {مِنْ}. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران [146].
والآية: العلامة. والمراد هنا الدالة على وحدانية الله تعالى بقرينة ذكر الإشراك بعدها.
ومعنى {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يرونها، والمرور مجاز مكنى به عن التحقق والمشاهدة إذ لا يصح حمل المرور على المعنى الحقيقي بالنسبة لآيات السماوات، فالمرور هنا كالذي في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان: 72].
وضمير {يمرون} عائد إلى الناس من قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وجملة {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} في موضع الحال من ضمير {يَمُرُّونَ} أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون. والمراد ب {أَكْثَرُ النَّاسِ} أهل الشرك من العرب. وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية.
والاستثناء من عموم الأحوال، فجملة {وَهُمْ مُشْرِكُونَ} حال من {أَكْثَرُهُمْ}. والمقصود من هذا تشنيع حالهم. والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم. وإسناد هذا الحكم إلى {أَكْثَرُهُمْ} باعتبار أكثر أحوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك. وليس المراد أن بعضا منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر.
[107] {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ
(12/124)
لا يَشْعُرُونَ}.
اعتراض بالتفريع على ما دلت عليه الجملتان قبله من تفظيع حالهم وجرأتهم على خالقهم والاستمرار على ذلك دون إقلاع. فكأنهم في إعراضهم عن توقع حصول غضب الله بهم آمنون أن تأتيهم غاشية من عذابه في الدنيا أو تأتيهم الساعة بغتة فتحول بينهم وبين التوبة ويصيرون إلى العذاب الخالد.
والاستفهام مستعمل في التوبيخ.
والغشي والغشيان: الإحاطة من كل جانب {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} [سورة لقمان: 32]. وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف [54].
والغاشية: الحادثة التي تحيط بالناس. والعرب يؤنثون هذه الحوادث مثل الطامة والصاخة والداهية والمصيبة والكارثة والحادثة والواقعة والحاقة.
والبغتة: الفجأة. وتقدمت عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} في آخر سورة الأنعام [31].
[108] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
استئناف ابتدائي للانتقال من الاعتبار بدلالة نزول هذه القصة للنبي صلى الله عليه وسلم الأمي على صدق نبوءته وصدقه فيما جاء به من التوحيد إلى الاعتبار بجميع ما جاء به من هذه الشريعة عن الله تعالى، وهو المعبر عنه بالسبيل على وجه الاستعارة لإبلاغها إلى المطلوب وهو الفوز الخالد كإبلاغ الطريق إلى المكان المقصود للسائر. وهي استعارة متكررة في القرآن وفي كلام العرب.
والسبيل يؤنث كما في هذه الآية، ويذكر أيضا كما تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} في سورة الأعراف [146].
والجملة استئناف ابتدائي معترضة بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى الشريعة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس لبلوغه من الوضوح للعقول حدا لا يخفى فيه إلا عمن لا يعد مدركا.
وما في جملة {هَذِهِ سَبِيلِي} من الإبهام قد فسرته جملة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
(12/125)
بَصِيرَةٍ}.
و {عَلَى} فيه للاستعلاء المجازي المراد به التمكن, مثل {على هدى من ربهم}.
والبصيرة: فعلية بمعنى فاعلة، وهي الحجة الواضحة، والمعنى: أدعو إلى الله ببصيرة متمكنا منها. ووصف الحجة ببصيرة مجاز عقلي. والبصير: صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرا بالحقيقة. ومثله وصف الآية بمبصرة في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [سورة النمل: 13]. وبعكسه يوسف الخفاء بالعمى كقوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [سورة هود: 28].
وضمير {أَنَا} تأكيد للضمير المستتر في {أَدْعُو}. أتي به لتحسين العطف بقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. وهو تحسين واجب في اللغة.
وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعوا إلى الإيمان بما يستطيعون. وقد قاموا بذلك بوسائل بث القرآن وأركان الإسلام والجهاد في سبيل الله. وقد كانت الدعوة إلى الإسلام في صدر زمان البعثة المحمدية واجبا على الأعيان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" أي بقدر الاستطاعة. ثم لما ظهر الإسلام وبلغت دعوته الأسماع صارت الدعوة إليه واجبا على الكفاية كما دل عليه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية في سورة آل عمران [104].
وعطفت جملة {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} على جملة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، أي أدعو إلى الله وأنزهه.
وسبحان: مصدر التسبيح جاء بدلا عن الفعل للمبالغة. والتقدير: وأسبح الله سبحانا، أي أدعو الناس إلى توحيده وطاعته وأنزهه عن النقائص التي يشرك بها المشركون من ادعاء الشركاء، والولد، والصاحبة.
وجملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بمنزلة التذييل لما قبلها لأنها تعم ما تضمنته.
[109، 110] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
(12/126)
عطف على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [سورة يوسف: 103] الخ. هاتان الآيتان متصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102] إلى قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} الآية [سورة يوسف: 108]، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به، وضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عنادا وإعراضا عن آيات الصدق. فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنة إلهية قديمة فلماذا يجعل المشركون نبوءتك أمرا مستحيلا فلا يصدقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}. وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالا من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك. فسلم المشركون ببعثتهم وتحدثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك.
وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين.
و{مِنْ قَبْلِكَ} يتعلق ب {أَرْسَلْنَا} ف"مِنْ" لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة. أي من أول أزمنة الإرسال. ولولا وجود من لكان {قَبْلِكَ} في معنى الصفة للمرسلين المدلول عليهم بفعل الإرسال.
والرجال: اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مرادا به أناسا كقوله - صلى الله عليه وسلم - "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". أي إنسان أو شخص. فليس المراد الاحتراز عن المرأة. واختير هنا دون غيره لمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلا من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس، ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سجاح:
أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين من سلموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] و {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48], أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتعرضوا عن النظر في آياته.
فالقصر إضافي، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكة أو ملوكا من
(12/127)
ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي، ويعقوب - عليه السلام - حين كان ساكنا في البدو كما تقدم.
وقرأ الجمهور {يُوحَى} بتحية وبفتح الحاء مبنيا للنائب. وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة.
وتفريع قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} على ما دلت عليه جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} من الأسوة، أي فكذبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف مان عاقبة الأقوام السابقين، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذبوا الرسل قبلهم، فضمير {يَسِيرُوا} عائد على معلوم من المقام الدال عليه {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: 108].
والاستفهام إنكاري، فإن مجموع المتحدث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود.
وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد.
و {كَيْفَ } استفهام معلق لفعل النظر عن مفعوله.
وجملة {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} خبر، معطوفة على الاعتراض فلها حكمه، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا، وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا، وتعريض أيضا بأن دار الآخرة أشد أيضا على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين.
وإضافة {دَارُ} إلى {آخرة} من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل "يا نساء المسلمات" في الحديث.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب على الالتفات، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب. وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله.
و {حتى} من قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ابتدائية، وهي عاطفة جملة {إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} على جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} باعتبار أنها
(12/128)
حجة على المكذبين، فتقدير المعنى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيئس الرسل إلى آخره، فإن {إِذَا} اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان، وجملة {اسْتَيْأَسَ} مضاف إليها {إِذَا} ، وجملة {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} جواب {إِذَا} لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب {إِذَا} في مثل هذا التركيب. والمراد بالرسل عليهم السلام غير المراد ب {رِجَالاً} ، فالتعريف في الرسل عليهم السلام تعريف العهد الذكري وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالا بالدلالة اهتماما بالجملة.
وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} بما قصد بها من معنى قصد الإسوة بسلفه من الرسل عليهم السلام. والمعنى: فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذروهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل عليهم السلام من إيمان قومهم.
و {اسْتَيْأَسَ} مبالغة في يئس، كما تقدم آنفا في قوله: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [سورة يوسف: 87].
وتقدم أيضا قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء. فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه.
وفي "صحيح البخاري" عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: "أكذبوا أم كذبوا "أي بالخفيف أم بالشد"، قالت: كذبوا أي بالشد قال: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن فهي قد كذبوا أي بالتخفيف، قالت: معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل عليهم السلام أن أتباعهم مكذبوهم" اه. وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون {كُذِبُوا} مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعين، ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية {كُذِبُوا} بالتخفيف.
وتفريع {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} على {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس، فينجي الله الذين آمنوا ولا يرد البأس عن القوم المجرمين.
(12/129)
والبأس: هو عذاب المجرمين الذي هو نصر الرسل عليهم السلام. والقوم المجرمون: الذين كذبوا الرسل.
وقرأ الجمهور {فَنُجِّيَ} بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى. و {مَنْ نَشَاءُ} مفعول {نُجِّيَ}. وقرأه ابن عامر وعاصم {فَنُجِّيَ} بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية على أنه ماضي نجى المضاعف بني للنائب، وعليه ف {مَنْ نَشَاءُ} هو نائب الفاعل، والجمع بين الماضي في "نجّي" والمضارع في {نَشَاءُ} احتباك تقديره فنجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.
[111] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102] وهي تتنزل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} من التعجيب، وما تضمنه معنى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية.
وهي أيضا تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف: 103].
فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز.
وتأكيد الجملة ب"قد" واللام للتحقيق.
وأولو الألباب: أصحاب العقول. وتقدم في قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في أواسط سورة البقرة [197].
والعبرة: اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب. وتطلق العبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا. ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتبر بها من وفق للاعتبار أم لم يعتبر لها
(12/130)
بعض الناس.
وجملة {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} إلى آخرها تعليل لجملة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة. ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبرا عن أمر وقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات ترتب طبيعي فمن شانها أن تترتب أمثالها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يعهد، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخبالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلا على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس.
وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [سورة يوسف: 3] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضا بالنضر ابن الحارث وأضرابه.
والافتراء تقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
و {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} : الكتب الإلهية السابقة. وضمير بين {يَدَيْهِ} عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص.
والتفصيل: التبيين. والمراد ب {كُلِّ شَيْءٍ} الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص.
وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة الأنعام [31].
والهدى الذي في القصص: العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح
(12/131)
أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسبب لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
(12/132)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
هكذا سميت من عهد السلف. وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها.
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} [سورة الرعد: 13]. فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها. وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 12] مما نزل بالمدينة، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة. وعن أبي بشر قال: سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في آخر سورة الرعد [43] أهو عبد الله بن سلام? فقال: كيف وهذه سورة مكية، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا: أنها مدنية، وهو عن عكرمة والحسن البصري، وعن عطاء عن ابن عباس. وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد: 43]. قال ابن عطيه: والظاهر أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.
وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [سورة الرعد: 41] كما ستعلمه، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} - إلى -
(12/133)
{وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [سورة الرعد: 30]، فقد قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها.
ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم. والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية. ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها، فإن ذلك في بعض سور القرآن، فالذين قالوا: هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم.
والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول. وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.
وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام.
مقاصدها
أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية.
ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس.
ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث.
وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم.
والتذكير بنعم الله على الناس.
وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم.
وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة.
(12/134)
والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم.
والتخويف من يوم الجزاء.
والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار.
وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم.
ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين. وما أعد الله لهم من الخير.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله.
والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.
والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات.
وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال.
{ألمر} تقدم الكلام على نظائر {ألمر} مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة [1] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
القول في {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس.
والمشار إليه ب {تِلْكَ} هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات، أي دلائل إعجاز، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر.
وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} فيكون قوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إظهارا في مقام الإضمار. ولم يكتف بعطف خبر على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات.
(12/135)
وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر، أي هو الحق لا غيره من الكتب، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفنديار اللتين عرفهما النضر ابن الحارث. فالمقصود الرد على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين، أو القصر حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة، أي هو الحق الكامل، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عين لأمة خاصة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.
ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله: {الْكِتَابِ} مفرد، من باب عطف الصفة على الاسم، مثل ما أنشد الفراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة بالمزدحم
والإتيان ب {رَبِّكَ} دون اسم الجلالة للتلطف. والاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالا يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقا.
وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام.
[2] {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطرد.
ومناسبة هذا الاستئناف لقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشئ عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق.
والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلى {رَبِّكَ} [سورة الرعد: 1] لأنه معين به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جاريا على معين لا يحتمل غيره إبلاغا في قطع شائبة الإشراك.
(12/136)
و {الَّذِي رَفَعَ} هو الخبر. وجعل اسم موصول لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان: 25].
والسماوات تقدمت مرارا، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها.
ورفعها: خلقها مرتفعة، كما يقال: وسع طوق الجبة وضيق كمها، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقا ولا ضيقة بعد أن كان واسعا وإنما يراد اجعله واسعا واجعله ضيقا، فليس المراد أنه رفعها وبعد أن كانت منخفضة.
والعمد: جمع عماد، مثل إهاب وأهب، والعامد: ما تقام عليه القبة والبيت. وجملة {تَرَوْنَهَا} في موضع الحال من {السَّمَاوَاتِ} ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد.
والقول في معنى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس.
وكذلك الكلام على {سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف[54].
والجري: السير السريع. وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها.
واللام للعلة. والأجل: هو المدة التي تقدرها الله لدوام سيرها، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة.
والمسمى: أصله المعروف باسمه، وهو هنا كناية عن المعين المحدد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط.
[2] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
جملة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة. وجملة {يُفَصِّلُ الْآياتِ} حال ثانية ترك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها. وتقدم القول على {يُفَصِّلُ الْآياتِ} عند قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في سورة يونس[3].
وتفصيل الآيات تقدم عند قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} في طالعة سورة هود [1].
(12/137)
ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بالإقامة الأدلة والبراهين، وشأن مجموع المرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك، وتفصيل الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداء ويقربه. وهذا قريب من قوله في سورة يونس {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة يونس: 3]. وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية. وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضا.
وصيغ {يُدَبِّرُ} و {يُفَصِّلُ} بالمضارع عكس قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} لأن التدبير والتفصيل متجدد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات. وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقر دفعة واحدة.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
عطف على جملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} فبين الجملتين شبه التضاد اشتملت الأولى على ذكر العالم العلوية وأحوالها، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية. والمعنى: أنه خالق جميع العوالم وأعراضها.
والمد: البسط والسعة، ومنه: ظل مديد. ومنه مد البحر وجزره، ومد يده إذا بسطها. والمعنى: خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالا شاهقة متلاصقة لما تيسر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره. وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدها بل هو كقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ}. فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة.
والرواسي: جمع راس. وهو الثابت المستقر، أي جبالا رواسي. وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} ، أي السفن الجارية. وسيأتي في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} في سورة النحل[15] بأبسط مما هنا.
(12/138)
وجيء في جمع راس بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل: صاهل وبازل.
والاستدلال بخلق الجبال عل عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية، كما قال تعالى: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [سورة الغاشية: 19].
والأنهار: جمع نهر، وهو الوادي العظيم. وتقدم في سورة البقرة {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}. [249]
وقوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} عطف على {أَنْهَاراً} فهو معمول ل {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}. ودخول {من} على {كل} جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}. و {من} هذه تحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد.
والمراد ب {الثَّمَرَاتِ} هي وأشجارها. وإنما ذكرت {الثَّمَرَاتِ} لأنها موقع منة مع العبرة كقوله: {فأخرجنا به من كل الثمرات} [سورة الأعراف: 57]. فينبغي الوقف على {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض. وهذا أحسن تفسيرا. ويعضده نظيره في قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في سورة النحل[11].
وقيل إن قوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ابتداء كلام.
وتتعلق {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ب {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. وبهذا فسر أكثر المفسرين. ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير. لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين. وأيضا فيه فوات المنة يخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم. ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} [النبأ: 6-8]. والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [سورة القيامة: 39].
والظاهر أن جملة {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من
(12/139)
المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرا وأنثى أحدهما زوج مع الآخر، وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة[35]، وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} في أول سورة النساء [1]، وقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. وأما قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق، والقرينة قوله: {أَنْبَتْنَا} مع عدم التثنية، كذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه [53].
وتنكير {زَوْجَيْنِ} للتنويع، أي جعل زوجين من كل نوع. ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الآية في سورة الأنعام [143].
والوصف بقوله: {اثْنَيْنِ} للتأكد تحقيقا للامتنان.
[3] {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. جملة {يُغْشِي} حال من ضمير {جعل}. وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمر متجدد كل يوم وليلة. وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض. وذكره مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في أوائل سورة الأعراف[54].
وقرأ الجمهور بسكون الغين وتخفيف الشين مضارع أغشى. وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف بتشديد الشين مضارع غشى.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} الإشارة إلى ما تقدم {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] إلى هنا بتأويل المذكور.
وجعل الأشياء المذكورات ظروفا ل {آياتٍ} لأن كل واحدة من الأمور المذكورة
(12/140)
تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام. ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ {قَوْمٍ} على ذلك عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيرا قاصرا مخلوطا بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذ اشتبهت عليهم العلل والمواليد بأصل الخلق والإيجاد.
وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
[4] {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها، فجاء ذلك معطوفا على الأشياء التي أسند جعلها إلى الله تعالى، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها. وأمثال هذه العبر، ولفت النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب.
وأعيد اسم {الْأَرْضِ} الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب، وأصل انتظام الكلام أن يقال: جعل فيها زوجين اثنين، وفيها قطع متجاوزات، فعدل إلى هذا توضيحا وإيجازا.
والقطع: جمع قطعة بكسر القاف، وهي الجزء من الشيء تشبيها لها بما يقتطع. وليس وصف القطع متجاورات مقصودا بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات، بل المقصود وصف محذوف دل عليه السياق تقديره؛ مختلفات الألوان
(12/141)
والمنابت، كما دل عليه قوله تعالى: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.
وإنما وصفت متجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاوز أشد دلالة على القدرة العظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [سورة فاطر: 27].
فمعنى {قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة.
والاقتصار على ذكر الأرض وقطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ. ومجرد ذكر القطع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأب والكلأ وهي مراعي أنعامهم ودوابهم، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شره بعض الحيوانات على بعضه دون بعض.
وتقدم الكلام على {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} [الأنعام: 99].
والزرع تقدم في قوله: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} [الأنعام: 141].
والنخيل: اسم نخلة مثل النخل، وتقدم في ذلك الآية، وكلاهما في سورة الأنعام.
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها.
وقرأ الجمهور {وزرع النخيل} بالجر عطفا على {أَعْنَابٍ} ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفا على {جَنَّاتٍ}. والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساو للذي في غيرها فاكتفى به قضاء لحق الإيجاز. وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات، والنخل لا يكون إلا في جنات.
وصنوان: جمع صنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز، وبضمها فيها أيضا وهي لغة تميم وقيس. والصنو: النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات. صنو والمثنى صنوان بدون تنوين، والجمع صنوان بالتنوين جمع تكسير. وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسة جموع: صنو وصنوان، وقنو وقنوان، وزيد بمعنى مثل وزيدان، وشقد "بذال
(12/142)
معجمة اسم الحرباء" وشقذان، وحش "معنى بستان" وحشان.
وخص النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى. ووجه زيادة {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} تجديد العبرة باختلاف الأحوال.
وقرأ الجمهور {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} بجر {صِنْوَانٍ} وجر {غير} عطفا على {زرع} وقرأهما ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفا على {وَجَنَّاتٍ}.
والسقي: إعطاء المشروب. والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقي ببعضه.
والتفضيل: منه الأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف.
وقرأ الجمهور {تُسْقَى} بفوقية اعتبارا بجمع {جَنَّاتٍ} ، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب {يُسْقَى} بتحتية على تأويل المذكور.
وقرأ الجمهور {وَنُفَضِّلُ} بنون العظمة، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {وَيُفَضِّلُ} بتحتية. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ}. وتأنيث {بَعْضَهَا} عند من قرأ {يُسْقَى} بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض الثمرة.
والأكل: بضم الهمزة وسكون الكاف وهو المأكول. ويجوز في اللغة ضم الكاف.
وظرفية التفضيل في {الْأُكُلِ} ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره. والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحد والغذاء بالماء واحد ما هو إلا لقوى خفية أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة.
ومن ثم جاءت جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مجيء التذييل.
وإشارة قوله: {ذَلِكَ} إلى جميع المذكور من قوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات. وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك.
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضا بأن من لم تقنعهم تلك
(12/143)
الآيات منزلون منزلة من لا يعقل. وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة قوم إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها.
[5] {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
عطف على جملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] فلما قضي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الرد على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة. وقد ادمج ابتداء خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] تمهيدا لما هنا، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجا من الأدلة السابقة عليه أيضا كقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذرا لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب.
فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما شأن الشروط لأن قولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} عجبا أمر ثابت سواء عجب من المتعجب أم لم يعجب، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [الرعد: 6] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلح لغير النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12].
والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر: إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول. والتقدير: إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم الخ...
على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم
(12/144)
المفاعيل في المقام الخطابي، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم. ويجوز أن تكون جملة {وَإِنْ تَعْجَبْ} الخ عطفا على جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}. فالتقدير: إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله، فعجب إنكارهم البعث.
وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلا له أو نحوه، ولذلك فالتنكير في قوله: {فَعَجَبٌ} للتنوع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعا لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق.
والاستفهام في {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} إنكاري، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا ترابا. والقول المحكي عنهم هو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم: ترابا، وتجديد خلقهم ثانية. والمقصود من ذلك العجب والإحالة.
وقرأ الجمهور {أَإِذَا كُنَّا} بهمزة استفهام في أوله قبل همزة {إذا}. وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام.
وقرأ الجمهور {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزة استفهام قبل همزة {إنا} وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام.
والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل ما سبق اسم الإشارة من قولهم {أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد} بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان: أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم {أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد} لا يقوله إلا كافر بالله. أي بصفات الهيئة إذا جعلوه غير قادر على إعادة خلقه، وثانيهما استحقاقهم العذاب.
وعطف على هذه الجملة جملة {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة. وكذلك عطف جملة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وقوله: {الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين، قال النابغة:
أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت ... فوق المعاصم منها والعراقيب
(12/145)
تدعوا قعينا وقد عض الحديد بها
عض الثقاف على صم الأنابيب والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في العنق، وهو أشد التقيد. قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] وإعادة اسم الإشارة ثلاثا للتهويل.
وجملة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بيان لجملة أصحاب النار.
[6] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}.
جملة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} عطف على جملة {وَإِنْ تَعْجَبْ} [الرعد: 5] لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد. فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الاستخفاف بوعيد نزول العذاب وعدهم إياه مستحيلا في حال أنهم شاهدوا آثار العذاب النازل بالأمم قبلهم، وما ذلك إلا لذهولهم عن قدرة الله تعالى التي سبقت الكلام للاستدلال عليها والتفريع عنها، فهم يستعجلون بنزوله بهم استخفافا واستهزاء كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقولهم {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 93].
والباء في {بِالسَّيِّئَةِ} لتعدية الفعل إلى ما لم يكن يتعدى إليه. وتقدم عند قوله تعالى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} في سورة الأنعام[93].
والسيئة: الحالة السيئة. وهي هنا المصيبة التي تسوء من تحل به. والحسنة ضدها، أي أنهم سألوا من الآيات ما فيه عذاب بسوء، كقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] دون أن يسألوا آية من الحسنات.
فهذه الآية نزلت حكاية لبعض أحوال سؤالهم الظانين أنه تعجيز، والدالين به على التهكم بالعذاب.
وقبلية السيئة قبلية اعتبارية، أي مختارين السيئة دون الحسنة. وسيأتي تحقيقه عند قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في سورة النمل فانظره.
(12/146)
وجملة {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} في موضع الحال. وهو محل زيادة التعجيب لأن ذلك قد يعذرون فيه لو كانوا لم يروا أثار الأمم المعذبة مثل عاد وثمود.
والمثلات بفتح الميم وضم المثلثلة: جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء كسمرة، وبضم الميم وسكون الثاء كعرفة: وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالا تمثل به العقوبات.
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} عطف على جملة {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}. وهذا كشف لغرورهم بتأخير العذاب عنهم لأنهم لما استهزأوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعرضوا لسؤال حلول العذاب بهم ورأوا أنه لم يعجل لهم حلوله اعترتهم ضراوة بالتكذيب وحسبوا تأخير العذاب عجزا من المتوعد وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أن الله حليم يمهل عباده لعلهم يرجعون، فالمغفرة هنا مستعملة في المغفرة الموقتة، وهي التجاوز عن ضراوة تكذيبهم وتأخير العذاب إلى أجل، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة النحل: 34].
وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، أي عذاب الدنيا، وهو الرجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع و{على} في قوله: {عَلَى ظُلْمِهِمْ} بمعنى مع.
وسياق الآية على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى اجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك.
ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} فلا تعارض أصلا بين هذا المحمل وبين قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} كما هو ظاهر.
وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
(12/147)
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر: 45].
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضا بان العقاب حال بهم من بعد.
[7] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.
عطف على جملة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} الآية. وهذه حالة من أعجوباتهم وهي عدم اعتدادهم بالآيات التي تأيد بها محمد صلى الله عليه وسلم وأعظمها آيات القرآن، فلا يزالون يسألون آية كما يقترحونها، فله اتصال بجملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
ومرادهم بالآية في هذا خارق عادة على حساب ما يقترحون، فهي مخالفة لما تقدم في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} لأن تلك في تعجيل ما توعدهم به. وما هنا في مجيء آية تؤيده كقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].
ولكون اقتراحهم آية يشف عن إحالتهم حصولها لجهلهم بعظيم قدرة الله تعالى سيق هذا في عداد نتائج عظيم القدرة، كما دل عليه قوله تعالى في سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 36].
فبذلك انتظم تفرع الجمل بعضها على بعض وتفرع جميعها على الغرض الأصلي. والذين كفروا هم عين أصحاب ضمير {يَسْتَعْجِلُونَكَ} وإنما عدل عن ضميرهم إلى اسم الموصول لزيادة تسجيل الكفر عليهم، ولما يومئ إليه الموصول من تعليل صدور قولهم ذلك.
وصيغة المضارع تدل على تجدد ذلك وتكرره.
و {لَوْلا} حرف تحضيض. يموهون بالتخضيض أنهم حريصون وراغبون في نزول آية غير القرآن ليؤمنوا، وهم كاذبون في ذلك إذ لو أوتوا آية كما يقترحون لكفروا بها، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}.
وقد رد الله اقتراحهم من أصله بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}، فقصر النبي صلى الله عليه وسلم على
(12/148)
صفة الإنذار وهو قصر إضافي، أي أنت منذر لا موجد خوارق عادة. وبهذا يظهر وجه قصره على الإنذار دون البشارة لأنه قصر إضافي بالنسبة لأحواله نحو المشركين.
وجملة {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} تذييل بالأعم. أي إنما أنت منذر لهؤلاء لهدايتهم. ولكل قوم هاد أرسله الله ينذرهم لعلهم يهتدون. فما كنت بدعا من الرسل وما كان للرسل من قبلك آيات على مقترح أقوامهم بل كانت آياتهم بحسب ما أراد الله أن يظهره على أيديهم. على أن معجزات الرسل تأتي على حسب ما يلائم حال المرسل إليهم.
ولما كان الذين ظهرت بينهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عربا أهل فصاحة وبلاغة جعل الله معجزته العظمى القرآن بلسان عربي مبين. وإلى هذا المعنى يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فارجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
وبهذا العموم الحاصل بالتذييل والشامل للرسول صلى الله عليه وسلم صار المعنى إنما أنت منذر لقومك هاد إياهم إلى الحق. فإن الإنذار والهدي متلازمان فما من إنذار إلا وهو هداية وما من هداية إلا وفيها إنذار، والهداية أعم من الإنذار. ففي هذا احتباك بديع.
وقرأ الجمهور {هَادٍ} بدون ياء في آخره في حالتي الوصل والوقف. أما في الوصل فلالتقاء الساكنين سكون الياء وسكون التنوين الذي يجب النطق به في حالة الوصل، وأما في حالة الوقف فتبعا لحالة الوصل، وهو لغة فصيحة وفيه متابعة رسم المصحف.
وقرأه ابن كثير في الوصل مثل الجمهور. وقراه بإثبات الياء في الوقف لزوال موجب حذف الياء وهو لغة صحيحة.
[8] [9] {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}.
انتقال إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية، فهو متصل بجملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] الخ.
وهذه الجملة استئناف ابتدائي. فلما قامت البراهين العديدة بالآيات السابقة على وحدانية الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق
(12/149)
الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علما عاما بدقائق الأشياء وعظائمها، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].
وجعلت هذه الجملة في هذا الموقع لأن لها مناسبة بقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، فإن ما ذكر فيها من علم الله وعظيم صنعه صالح لأن يكون دليلا على أنه لا يعجزه الإتيان بما اقترحوا من ألايات؛ ولكن بعثة الرسول ليس المقصد منها المنازعات بل هي دعوة للنظر في الأدلة.
وإذ قد كان خلق الله العوالم وغيرها معلوما لدى المشركين ولكن الإقبال على عبادة الأصنام يذهلهم عن تذكره كانوا غير محتاجين لأكثر من التذكير بذلك وبالتنبيه إلى ما قد يخفى من دقائق التكوين كقوله آنفا {بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] - وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] الخ؛ صيغ الإخبار عن الخلق في آية {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] الخ بطريقة الموصول للعلم بثبوت مضمون الصلة للمخبر عنه.
وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} كما أشرنا إليه آنفا. فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} [الرعد: 2].
وذكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجزئي لإثبات الكلي، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان. ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحبل لاختصاص الحبل بحمل المرأة.
و {مَا} موصولة، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحمل الموجود من ذكورة وأنوثة، وتمام ونقص، وحسن وقبح، وطول وقصر، ولون.
وتغيض: تنقص. والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها، وازديادها: فيضان الحيض منها. ويجوز أن يكون الغيض مستعارا لعدم التعدد.
والازدياد: التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان.
(12/150)
وجملة {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} معطوفة على جملة {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى}. فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات، و {عِنْدَهُ} يجوز أن يكون خبرا عن {كُلُّ شَيْءٍ} و {بِمِقْدَارٍ} في موضع الحال من {كُلُّ شَيْءٍ}. ويجوز أن يكون {عِنْدَهُ} في موضع الحال من {مِقْدَارٍ} ويكون {بمقدار} خبرا عن {كُلُّ شَيْءٍ}.
والمقدار: مصدر ميمي بقرينة الباء، أي بتقدير، ومعناه: التحديد والضبط. والمعنى أنه يعلم كل شيء علما مفصلا لا شيوع فيه ولا إبهام. وفي هذا رد على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أن واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فرارا من تعلق العلم بالحوادث. وقد أبطل مذهبهم علماء الكلام بما ليس فوقه مرام. وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}.
وجملة {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات. وقد تقدم ذكر {الْغَيْبِ} في صدر سورة البقرة [4].
وأما {الشَّهَادَةِ} فهي هنا مصدر بمعنى المفعول، أي الأشياء المشهودة، وهي الظاهرة المحسوسة، المرئيات وغيرها من المحسوسات، فالمقصود من {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تعميم الموجودات كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38- 39].
والكبير: مجاز في العظمة، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيها للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة. والمتعالي: المترفع. وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلا. والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه، أو المنزه عن النقائص كقوله عز وجل {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3].
وحذف الياء من {الْمُتَعَالِ} لمراعاة الفواصل الساكنة لأن الأفصح في المنقوص غير المنون إثبات الياء في الوقف إلا إذا وقعت في القافية أو في الفواصل كما في هذه الآية لمراعاة {مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]. و { الْآصَالِ} [الرعد: 15].
وقد ذكر سيبويه أن ما يختار إثباته من الياءات والواوات يحذف في الفواصل والقوافي، والإثبات أقيس والحذف عربي كثير.
(12/151)
[10] {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
موقع هذه الجملة استئناف بياني لأن مضمونها بمنزلة النتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر. وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ} لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين.
وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى الله عليه وسلم.
و {سَوَاءٌ} اسم بمعنى مستو. وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعدا. واستعمل سواء في الكلام ملازما حالة واحدة فيقال: هما سواء وهم سواء، قال تعالى: {فأنتم فيه سواء}. وموقع سواء هنا موقع المبتدأ. و {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} فاعل سد مسد الخبر، ويجوز جعل {سَوَاءٌ} خبرا مقدما و {مَنْ أَسَرَّ} مبتدأ مؤخرا و {مِنْكُمْ} حال {مَنْ أَسَرَّ}.
والاستخفاء: هنا الخفاء. فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب.
والسارب: اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السرب - بفتح السين وسكون الراء - وهو الطريق. وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة. وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء. وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا. والمعنى: أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى.
والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى {أَوْ}.
[11] {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
جملة {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} إلى آخرها، يجوز أن تكون متصلة ب {من} الموصولة من قوله: {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}. على أن الجملة خبر ثان عن {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} وما عطف عليه. والضمير في {لَهُ} والضمير المنصوب في {يَحْفَظُونَهُ}. وضميرا {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
(12/152)
خَلْفِهِ} جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلاة حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى، أي لكل من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات.
ويجوز أن تتصل الجملة ب {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول. والمعنى كالوجه الأول.
و"المعقبات" جمع معقبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عقبه إذا تبعه. وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب. يقال: عقبه إذا اتبعه واشتقاقه من العقب بفتح فكسر وهو اسم لمؤخر الرجل فهو فعل مشتق من الاسم الجامد لأن الذي يتبع غيره كأنه يطأ على عقبه، والمراد: ملائكة معقبات. والواحد معقب.
وإنما جمع مؤنث بتأويل الجماعات.
والحفظ: المراقبة، ومنه سمي الرقيب حفيظا، والمعنى: يراقبون كل أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10].
و {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها. وقوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} صفة {مُعَقِّبَاتٌ} ، أي جماعات من جند الله وأمره، كقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] يعني القرآن.
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه المراد به الوقاية والصيانة، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم، وأضرار النهار نحو الزحام والقتال، فيكون {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} جارا ومجرورا لغوا متعلقا ب {يَحْفَظُونَهُ} ، أي يقونه من مخلوقات الله. وهذا منة العبادة بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم. قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [سورة الشورى: 19].
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة {هو هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
(12/153)
وَطَمَعاً}. والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتحقير {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11].
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أن زوالها لا يكون إلا بسبب أعمالهم السيئة بعد ما أنذرهم ودعاهم.
والتغير: التبديل بالمغاير، فلا جرم أنه تهديد لأولى النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغيرها. فما صدق {مَا} الموصولة حالة، والباء للملابسة، أي حالة ملابسة لقوم، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغير، وأما غيرها فتغييره مطلوب. وأطلق التغيير في قوله: {حَتَّى يُغَيِّرُوا} على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي.
وجملة {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} تصريح بمفهوم الغاية المستفاد من {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} تأكيدا للتحذير، لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه، أي إذا أراد الله أن يغير ما بقوم حين يغيرون ما بأنفسهم لا يرد إرادته شيء. وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا: سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا. وهذا كقوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [سورة يونس: 98] الآية.
وجملة {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله.
والوالي: الذي يلي أمر أحد، أي يشتغل بأمره اشتغال بأمره اشتغال تدبير ونفع، مشتق من ولي إذا قرب، وهو قرب ملابسة ومعالجة.
وقرأ الجمهور من {وَالٍ} تنوين {وَالٍ} دون ياء في الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بياء اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} في هذه السورة[الرعد: 33].
[12، 13] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ
(12/154)
وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}.
استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10].
وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه. وفيه من المناسبة للإنذار بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [الرعد: 11] الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرها بالنعمة التي هم فيها. وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [سورة الرعد: 8]، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة.
وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10] لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة.
وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة، فجاءت على أسلوب مختلف. وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [سورة الرعد: 2] وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [سورة الرعد: 11]، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله: {يدبر الأمر} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقوله: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ}.
و {خَوْفاً وَطَمَعاً} مصدران بمعنى التخويف والإطاع، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد.
وجعل البرق آية نذارة وبشارة معا لأنهم كانوا يسمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه.
وإنشاء السحاب: تكوينه من عدم بإثارة الأبخرة التي تتجمع سحابا.
والسحاب: اسم جمع لسحابة. والثقال: جمع ثقيلة. والثقل كون الجسم أكثر كمية
(12/155)
أجزاء من أمثاله، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام، فرب شيء يعد ثقيلا في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر. والسحاب يكون ثقيل بمقدار ما في خلاله من البخار. وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح. والخفيف منه يسمى جهاما.
وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال.
ولما كان الرعد صوتا عظيما جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء، وكان شان تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلا على تنزيه الله تعالى، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي. ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يسبح الله تعالى، وأثبت شيء من علائق المشبه به وهو التسبيح، أي قول سبحان الله.
والباء في {بِحَمْدِهِ} للملابسة، أي ينزه الله تنزيها ملابسا لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجب الحمد. فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساو للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد. فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية.
و {الْمَلائِكَةِ} عطف على الرعد، أي وتسبح الملائكة من خيفته، أي من خوف الله.
و {مِنْ} للتعليل، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه، أي الخوف مما لا يرضي به وهو التقصير في تنزيهه.
وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة، فالله غني عن تنزيهكم إياه، كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [سورة الزمر: 7]، وقوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [سورة إبراهيم: 8].
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآله من آلات التخويف والإنذار، كما قال في آية سورة البقرة {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [سورة البقرة: 19]. وكان العرب يخافون الصواعق. ولقبوا خويلد بن نفيل الصعق لأنه أصابته صاعقة أحرقته.
ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعا.
(12/156)
وجملة {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] الخ. فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5] وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7]. وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين.
والمجادلة: المخاصمة والمراجعة بالقول. وتقدم في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء[107].
وقد فهم أن مفعول {يُجَادِلُونَ} هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فالتقدير: يجادلونك أو يجادلونكم، كقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} في سورة الأنفال [6].
والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل {يُجَادِلُونَ} يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث.
ومن جدلهم ما حكاه قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}. في سورة يس[77, 78].
والمحال: بكسر الميم يحتمل هنا معنيين، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فعال بمعنى الكيد وفعله محل، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل. جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فقوبل ب {شَدِيدُ الْمِحَالِ} على طريقة المشاكلة، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه، ونظيره {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54].
وقال نفطويه: هو من ماحل عن أمره، أي جادل. والمعنى: وهو شديد المجادلة، أي قوي الحجة.
وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة، وعلى هذا فإبدال الواو ألفا على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكونا حيا، فلعلهم
(12/157)
قلبوها ألفا للتفرقة بينه وبين محول بمعنى صبي ذي حول، أي سنة.
وذكر الواحدي والطبري أخبارا عن أنس وابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطا لم يقبلها منهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أربد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فصرفه الله، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي صلى الله عليه وسلم بان يجلبا عليه خيل بني عامر. فأهلك الله أربد بصاعقة أصابته وأهلك عامرا بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه، فنزلت في أربد {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} وفي عامر {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ}.
وذكر الطبري عن صحار العبدي: أنها نزلت في جبار آخر. وعن مجاهد: أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة.
ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بان السورة مدنية أو أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول. ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية. وفي هذه القصة أرسل عامر ابن الطفيل قوله: "أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية" مثلا. ورثى لبيد ابن ربيعة أخاه أربد بأبيات منها:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد1
فجعني الرعد والصواعق بالف ... ارس يوم الكريهة النجد
[14] {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول، ثم الخلق الثاني، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير، وبالعلم العام، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال.
ـــــــ
1 السماك - بكسر السين - اسم لنجوم.
(12/158)
والدعوة: طلب الإقبال، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي، فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة.
ولإضافة الدعوة إلى الحق إما من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع، أي الدعوة التي تصادف الواقع، أي استحقاقه إياها، وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم: برود اليمن، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل.
واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق. وتقديم الجار والمجرور على المبتدأ لإفادة التخصيص، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره، وهو قصر إضافي.
وقد صرح بمفهوم جملة القصر بجملة {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد: 14]، فكانت بيانا لها. وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفضيل والتمثيل، فكانت زائدة على مقدار البيان. والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون. واسم الموصول صادق على الأصنام. وضمير {يَدْعُونَ} للمشركين. ورابط الصلة ضمير نصب محذوف. والتقدير: والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم.
وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله: {لا يَسْتَجِيبُونَ} مجاراة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين.
والاستجابة: إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي، فالسين والتاء لقوة الفعل.
والباء في {بِشَيْءٍ} لتعدية {يَسْتَجِيبُونَ} لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء. وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل، كقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [سورة يوسف: 34].
فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعديا بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسؤول وهو الواعد بالعطاء أو الاعتذار عنه، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه.
وتنكير "شيء" للتحقير. والمراد أقل ما يجاب به من الكلام.
(12/159)
والاستثناء في {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلا كحال باسط. والمعنى: لا يستجيبونهم في حال من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حال لداع ومستجيب كحال باسط كفيه إلى الماء. وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية.
والمراد ب"بَاسِطِ كَفَّيْهِ" من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لا يستقر فيهما. وهذا كما يقال: هو كالقابض على الماء، في تمثيل إضاعة المطلوب. وأنشد أبو عبيدة:
فأصبحت فيما كان بيني وبينهما ... من الود مثل القابض الماء باليد
و {إِلَى} للانتهاء لدلالة {بَاسِطِ} على أنه مد إلى الماء. وكذلك ضمير {هُوَ} والضمير المضاف إليه في "بَالِغِهِ" للفم.
والكلام تمثيلية. شبه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلا مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه.
وجملة {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} عطف على جملة {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي. فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعوم عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح. واشتمل ذلك أيضا بالكناية على خيبة الداعي.
وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبيينه بالكناية. فاختلاف الغرض والأسلوب حسن العطف، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى.
والضلال: التلف والضياع. و {فِي} للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف، أي إلا ضائع ضياعا شديدا.
(12/160)
[15] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
عطف على جملة {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد: 14] أي له دعوة الحق وله يسجد من في السماوات والأرض وذلك شعار الإلهية، فأما الدعوة فقد اختص بالحقة منها دون الباطلة، وأما السجود وهو الهوي إلى الأرض بقصد الخضوع فقد اختص الله به على إطلاق، لأن الموجودات العليا والمؤمنين بالله يسجدون له، والمشركين لا يسجدون للأصنام ولا لله تعالى، ولعلهم يسجدون لله في بعض الأحوال.
وعدل عن ضمير الجلالة إلى اسمه تعالى العلم تبعا للأسلوب السابق في افتتاح الأغراض الأصلية.
والعموم المستفاد من {مَنْ} الموصولة عموم عرفي يراد به الكثرة الكاثرة.
والمقصود من {طَوْعاً وَكَرْهاً} تقسيم أحوال الساجدين. والمراد بالطوع الانسياق من النفس تقربا وزلفى لمحض التعظيم ومحبة الله. وبالكره الاضطرار عند الشدة والحاجة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [سورة النحل: 53]. ومنه قولهم: مكره أخوك لا بطل، أي مضطر إلى المقاتلة. وليس المراد من الكره الضغط والإلجاء كما فسر به بعضهم فهو بعيد عن الغرض كما سيأتي.
والظلال: جمع ضل، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.
والضمير راجع إلى {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مخصوص بالصالح له من الأجسام الكثيفة ذات الظل تخصيصا بالعقل والعادة. وهو عطف على {مَنْ} أي يسجد من في السماوات وتسجد ظلالهم.
والغدو: الزمان الذي يغدو فيه الناس، أي يخرجون إلى حوائجهم: إما مصدرا على تقدير مضاف. أي وقت الغدو، وإما جمع غدوة. فقد حكي جمعها على غدو، وتقدم آخر سورة الأعراف.
والآصال: جمع أصيل، وهو وقت الشمس في آخر المساء. والمقصود من ذكرهما استيعاب أجزاء أزمنة الظل.
ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون
(12/161)
الظلال واقعة على الأرض وقوع الساجد، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالا عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهدا على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال، ولو جعل وجه الأرض شفافا أو لامعا كالماء لم يظهر الظل بينا، فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقها دقة بديعة. وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة، منها: أن تكون رموزا دالة على انفراد تعالى بالإلهية، وعلى حاجة المخلوقات إليه، وجعل أكثرها من نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان.
والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقات الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطرد دال بعضه على بعض، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل ... على أنه الواحد
والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام، في البيوت مثل: العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت.
وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء. ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعا بإيقاعه السجود. وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [سورة الرعد: 2] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [سورة الرعد: 12] الآيات، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد: 14] وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة الرعد: 15] إلى آخرها لا جرم تهيأ المقام لتقرير المشركين تقريرا لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعها على الإشراك تقريعا لا يسعهم إلا تجرع مرارته، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويها بوضوح الحجة.
(12/162)
ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قبل المستفهم. وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه، كقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [سورة النبأ: 1-2] وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في سورة الأنعام [12].
وإعادة فعل الأمر بالقول في {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله رب السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة.
فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناء على الإقرار المسلم. وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للإلهية فأن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه.
وجملة {لا يَمْلِكُونَ} صفة ل {أَوْلِيَاءَ}. والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد.
ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة العقود [76]. وفي الحديث "أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضر أنه أقرب للاستطاعة وأسهل.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}.
إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاص بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة. وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك، ذلك أن قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} تضمن أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور.
ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيها بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ.
و {أَمْ} للإضراب الانتقالي في التشبيه، فهي لتشبيه آخر بمنزلة {أَوْ} في قول لبيد:
(12/163)
أو رجع واشمة أسف نؤورها
وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}.
وأظهر حرف {هَلْ} بعد {أَمْ} لأن فيه إفادة تحقيق الاستفهام. وذلك ليس مما تغني فيه دلالة {أَمْ} على أصل الاستفهام ولذلك لا تظهر الهمزة بعد {أَمْ} اكتفاء بدلالة {أَمْ} على تقدير استفهام.
وجمع الظلمات وإفراد النور تقدم عند قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في أول سورة الأنعام [1].
واختير التشبيه في المتقابلات العمى والبصر، والظلمة والنور، لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم وكحال النور في الإفاضة والإرشاد.
وقرأ الجمهور {تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} بفوقية في أوله مراعاة لتأنيث الظلمات. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بتحية في أوله وذلك وجه في الجمع غير المذكر السالم.
[16] {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
{أَمْ} للإضراب الانتقالي في الاستفهام مقابلة قوله: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}. فالكلام بعد "أم"استفهام حذفت أداته لدلالة "أم" عليها. والتقدير: أم جعلوا لله شركاء. والتفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم.
والاستفهام مستعمل في التهكم والتغليط. فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة، أي فلا عذر لهم في عبادتهم، فجملة {خَلَقُوا} صفة ل {شُرَكَاءَ}.
وشبه جملة {كَخَلْقِهِ} في معنى المفعول المطلق، أي خلقوا خلقا مثل ما خلق الله. والخلق في الموضعين مصدر.
وجملة فتشابه عطف على جملة {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} فهي صفة ثانية ل {شُرَكَاءَ}،
(12/164)
والرابط اللام في قوله: {الْخَلْقُ} لأنها عوض عن الضمير المضاف إليه. والتقدير: فتشابه خلقهم عليهم. والوصفان هما مصب التهكم والتغليظ.
وجملة {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فذلكة لما تقدم ونتيجة له، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الرعد: 168] وفي {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} كان بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعا أوضرا، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إن هم إلا مخلوقات لله تعالى، وأن الله خالق كل شيء، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم {كل شيء} وأن الله هو المتوحد بالخلق، القهار لكل شيء دونه. ولتعين موضوع الوحدة ومتعلق القهر حذف متعلقها. والتقدير: الواحد بالخلق القهار للموجودات.
والقهر: الغلبة. عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} في سورة النعام [18].
[17] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
جملة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي مكن شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون.
وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار. وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبر الموعظة، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ} الخ.
شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء. وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يمر على التلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كل بقدر سعته. وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زبدا، وهو رغوة الماء التي تربو
(12/165)
وتطفو على سطح الماء، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي.
ثم شبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون، ويخالط قلوب قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحادا، كقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران: 7].
شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحداره على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها، ثم ما يدفع من نفسه زبدا لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع.
ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله: {فَسَالَتْ} وقوله: {فَاحْتَمَلَ}. فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل.
وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
والأودية: جمع الوادي، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل. وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى: {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 121].
والقدر بفتحتين: التقدير، فقوله: {بِقَدَرِهَا} في موضع الحال من {أَوْدِيَةٌ} ، وذكره لأنه من مواضع العبرة، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قدر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية. وهذا الحال مقصود في التمثيل
(12/166)
لأنه حال انصراف الماء لنفع لا ضر معه، لأن من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام.
وأيضا هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه. ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول، وقد تم التمثيل هنا.
وجملة {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} معترضة بين جملة {فَاحْتَمَلَ} الخ وجملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ} الخ.
وهذا تمثيل آخر ورد استطرادا عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكة وهم المقصود، فقد كان لهم في مكة صواعون كما دل عليه حديث الإذخر، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمثل ما يصهر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبدا ينتفي عنه وهو الخبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متعاعا. وفي الحديث كما ينفي الكير خبث الحديد. فالكلام من قبيل تعدد التشبيه القريب، كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ثم قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [سورة البقرة: 19].
وأقرب إلى ما هنا قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع إسنامها
وأفاد ذلك في هذه الآية قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ}.
وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنه موضع اعتبار أيضا ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرق الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه.
وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم "فإذا فيها كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان".
وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
(12/167)
فِي النَّارِ} لأنها أخصر وأجمع، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة. فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلا لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المعدنين مع ذكر الصلة إذ لا محيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد، فكان الإتيان بالموصول قضاء لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع.
ولأن في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضا يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعا عن ولع الناس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف الناس.
و {منْ} في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} ابتدائية.
و {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} مفعول لأجله متعلق ب {يُوقِدُونَ}. ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس. لشدة رغبتهم فيهما.
والحلية: ما يتحلى به، أي يتزين وهو المصوغ.
والمتاع: ما يتمتع به وينتفع، وذلك المسكوك الذي يتعامل به الناس من الذهب والفضة.
وقرا الجمهور {تُوقِدُونَ} بفوقية في أوله على الخطاب. وقراه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتحتية على الغيبة.
وجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} معترضة. هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه، أي مثل هذه الحالة يكون ضرب مثل للحق والباطل. فمعنى {يَضْرِبُ} يبين ويمثل. وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة [26].
فحذف مضاف في قوله: {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ} ، والتقدير: يضرب الله مثل الحق والباطل، لدلالة فعل {يَضْرِبُ} على تقدير هذا المضاف.
وحذف الجار من {الْحَقَّ} لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف.
وقد علم أن الزبد مثل للباطل وأن الماء مثل للحق، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم، وأن الفريق الثاني زائل بائد، كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
(12/168)
عَابِدِينَ} [سورة الأنبياء: 105, 106]، فصار التشبيه تعريضا وكناية عن البشارة والنذارة، كما دل عليه قوله عقب ذلك {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} [سورة الرعد: 18] الخ كما سيأتي قريبا.
فجملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ} معطوفة على جملة {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} مفرعة على التمثيل. وافتتحت ب {فَأَمَّا} للتوكيد وصرف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة، ولأنه تمام التمثيل. والتقدير: فذهب الزبد جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض.
والجفاء: الطريح المرمي. وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون.
وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضا للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا مما ينفع الناس، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: 105].
واكتفى بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شبه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه.
وجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} مستأنفة تذييلية لما في لفظ {الْأَمْثَالَ} من العموم. فهو أعم من جملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو {فأما الزبد فيذهب جفاء} جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال. وحصل أيضا توكيد جملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} لأن العام يندرج فيه الخاص.
فإشارة {كَذَلِكَ} إلى التمثيل السابق في جملة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مثل ذلك الضرب البديع بضرب الله الأمثال، وهو المقصود بهذا التذييل.
والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمثيل، وما فيه من المواعظ والعبر، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحد للمشركين، وليعلم أن جملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثل، فيعلم الممثل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين، فيكون الكلام قد تم عند قوله: {كَذَلِكَ
(12/169)
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} كما هو شأن التذييل.
[18] {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
استئناف بياني لجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره.
فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين. ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى، وأما المشركون فاعرضوا ولم يعقلوا الأمثال، قال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [سورة العنكبوت: 43]، فكان جزاؤهم عذابا عظيما وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم. فمعنى {اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره.
وقوله: {الْحُسْنَى} مبتدأ و {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا} خبره. وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا} {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين.
وتقديم المسند في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشان الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه، وفي ذلك تنويه بها أيضا.
وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم. وتقدم نظير قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة العقود[36].
وأتي باسم الإشارة في {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة.
و {سُوءُ الْحِسَابِ} ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحاسب، وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل.
(12/170)
[19] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
تفريع على جملة {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} الآية[سورة الرعد: 13]. فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيها على غفلة الضالين عن عدم الاستواء، كقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة: 18].
واستعير لمن لا يعلم أن القرآن حق اسم الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بين فأشبه الأعمى. فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل. والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العمى. ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} إلى {لا يُؤْمِنُونَ} [سورة الرعد: 1].
وجملة {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بان سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلا للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب. أي العقول.
والقصر ب {إِنَّمَا} إضافي، أي لا غير أولي الألباب. فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم.
والألباب: العقول. وتقدم في آخر سورة آل عمران.
[20, 22] {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
يجوز أن يكون {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين، ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المراد به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مؤيد بالحجة، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيدا تعليلا لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين، فيكون قوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ} مسندا إليه وكذلك ما عطف عليه. وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} مسندا.
ـــــــ
في المطبوعة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}.
(12/171)
واجتلاب اسم الإشارة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة [5].
ونظير هذه الجملة قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان: 34] من قوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان: 33].
وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة الرعد: 25].
والوفاء بالعهد: أن يحقق المرء ما عاهد على أن يعمله. ومعنى العهد: الوعد الموثق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد.
ويجوز أن يكون {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} نعتا لقوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} وتكون جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} نعتا ثانيا. والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفا.
وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله. أي ما عاهدوا الله على فعله، أو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما عهد الله به إليهم. وعلى كلا الوجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. وتقدم في سورة الأعراف[172]، فذلك عهدهم ربهم. وأيضا بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي} [سورة يس: 60-61]، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره. فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله.
وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلده ذريته، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم. وذلك من آثار عهد الله. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالا للعهد ونقضا له، ولذلك عطفت جملة {وَلا يَنْقُضُونَ
(12/172)
الْمِيثَاقَ} على جملة {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}.
والتعريف في {الْمِيثَاقَ} يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان.
وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله. وتلك هي مسوغة عطف {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} على {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها، وتعريضا بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال فعطف التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص.
والميثاق والعهد مترادفان. والإيفاء ونفي النقض متحدا المعنى. وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان أصل الخيرات وطريقها، ولذلك عطف على {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} قوله: {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} تحذيرا من كل ما فيه فقضه.
وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الاحد، وليس من عطف الأصناف. وذلك مثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فالمعنى: الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد، ومنها ما لا يستلزم إلا التفريط في الفضل.
وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة، للدلالة على أن صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات.
فالمراد ب {الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله.
ومناسبة عطفه أن وصل ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} في سورة يس [61].
(12/173)
والوصل: ضم شيء لشيء، وضده القطع. ويطلق مجازا على القرب وضده الهجر. واشتهر مجازا أيضا في الإحسان والإكرام ومنه قولهم، صلة الرحم، أي الإحسان لأجل الرحم، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسطة، وذلك النسب الجائي من الأمهات. وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضا لأنها لا تخلو غالبا من اشتراك في الأمهات ولو بعدن.
و {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها، فمنها آصرة الإيمان، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم. وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} في سورة البقرة [26, 27].
وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} لما في الصلة من التعريض بان واصلها آت بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطعية مع بني هاشم.
وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عند ما حاربوهم وناووهم.
وقوله: {أَنْ يُوصَلَ} بدل من ضمير {بِهِ} ، أي ما أمر الله يوصله. وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية.
والخشية: خوف بتعظيم المخوف منه. وتقدمت في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45]. وتطلق على مطلق الخوف.
والخوف: ظن وقوع المضرة من شيء. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} في سورة البقرة [229].
و {سُوءَ الْحِسَابِ} ما يحف به مما يسوء المحاسب، وقد تقدم آنفا أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيء.
وجاءت الصلات {الَّذِينَ يُوفُونَ} {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ} وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار.
(12/174)
وجاءت صلة {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} وما عطف عليها وهو {أقاموا الصلاة وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا} بصيغة المضي لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويها بها لأنها أصول لفضائل الأعمال.
فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنه الحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك فان تعالى {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 2-3].
وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [سورة البقرة: 45].
وأما الإنفاق فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانيا للصلاة.
ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء مما يحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات.
والقول في عطف {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} وفي إعادة اسم الموصول كالقول في {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.
والصبر: من المحامد. وتقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} في سورة البقرة [45]. والمراد الصبر على مشاق أفعال الخبر ونصر الدين.
و {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} مفعول لأجله ل {صَبَرُوا}. والابتغاء: الطلب. ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلا يطلب به إقباله عند لقائه. وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} في آخر سورة البقرة [272].
والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتقاء شماتة الأعداء.
(12/175)
والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} أواخر سورة البقرة [274].
والدرء: الدفع والطرد. وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفوع وقبل حصوله بأن يعد ما يمنع حصوله. فيصدق ذلك بأن يتبع السيئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها". وخاصة فيما بينه وبين ربه.
ويصدق بان لا يقابل من فعل معه سيئة بمثلها بل يقابل ذلك بالإحسان، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [سورة فصلت: 34] بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه. وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذا لم يفض إلى استمرار الضر. قال تعالى في ذلك {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الأنفال: 3].
ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة درأت السيئة المعزوم عليها. قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة".
فقد جمع {يَدْرَأُونَ} جميع هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المسيء بالإحسان كما أتبع في قوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في سورة فصلت [34]. وكما في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} في سورة المؤمنون [96].
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} خبر عن {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}. ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف. كما في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة [5].
و {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} جملة جعلت خبرا عن اسم الإشارة. وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بأضداد صفاتهم. فهو قصر إضافي.
والعقبى: العاقبة. وهي الشيء الذي يعقب، أي يقع عقب شيء آخر. وقد اشتهر استعمالها في آخرة الخير، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة القصص: 83]. ولذلك
(12/176)
وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غافر: 52].
وأما قوله: {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [سورة الرعد: 35] فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد: 42]. وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} في سورة القصص [37] فقد زدته بيانا.
وإضافتها إلى {الدَّارِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى: لهم الدار العاقبة. أي الحسنة.
[24، 23] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} بدل من {عُقْبَى الدَّارِ}. والعدن: الاستقرار. وتقدم في قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} في سورة براءة [72].
وذكر {يَدْخُلُونَهَا} لاستحضار الحالة البهيجة. والجملة حال من {جَنَّاتِ} أو من ضمير {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}. والواو في {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لحق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقوا هم به، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [سورة الصافات: 22] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذاب مضاعف.
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلات أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه. وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الطور: 21].
والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا: الأبوين.
وجملة {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} عطف على {يَدْخُلُونَهَا} فهي في موقع الحال. وهذا من كرامتهم والتنويه بهم، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه.
(12/177)
وذكر {مِنْ كُلِّ بَابٍ} كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكة. ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيرا في الأمكنة. ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم، فكأنه قيل من كل باب في كل آن.
وجملة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاما من الداخلين. وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة.
والباء في {مَا صَبَرْتُمْ} للسببية، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو {عَلَيْكُمْ}. والتقدير: نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف مستفاد من المقام، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم.
والمراد: الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
وفرع على ذلك {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} تفريع ثناء على حسن عاقبتهم، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه. والتقدير: فنعم عقبى الدار دار عقباكم. وتقدم معنى {عُقْبَى الدَّارِ} آنفا.
[25] {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
هذا شرح حال أضداد الذين يوفون بعهد الله، وهو ينظر إلى شرح مجمل قوله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [سورة الرعد: 19]. والجملة معطوفة على جملة {الَّذِينَ يُوفُونَ} [سورة الرعد: 20].
ونقض العهد: إبطاله وعدم الوفاء به.
وزيادة {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} زيادة في تشنيع النقض، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده.
وتقدم نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} في أوائل سورة البقرة [26-27].
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} خبر عن {والذين ينقضون} ، وهي مقابل جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
(12/178)
والبعد عن الرحمة والخزي وإضافة سوء الدار كإضافة عقبى الدار. والسوء ضد العقبى كما تقدم.
[26] {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.
هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} المفيد أنهم مغضوب عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: كيف بسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغيانا وكفرا وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة، وذلك مثل قول موسى - عليه السلام - {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [سورة يونس: 88]، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة. فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمة متصلة بأسباب العيش في الدنيا، ولذلك اتصال بحال الكرامة عنده في الآخرة. ولذلك جاء التعميم في قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} ، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد.
وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ} تقوية للحكم وتأكيدا، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله. وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه "الكشاف" إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك، أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر.
والبسط: مستعار للكثرة وللدوام. والقدر: كناية عن القلة.
ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجها إليهم.
وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة، فالفرح المذكور فرح بطر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون {ذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [سورة القصص: 76]، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة. وهذا المعنى أفاده الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضا بقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.
(12/179)
والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها.
و {فِي} ظرف مستقر حال من {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. ومعنى {فِي} الظرفية المجازية بمعنى المقايسة، أي إذا نسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاع قليل، وتقدم عند قوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} في سورة براءة [38].
والمتاع: ما يتمتع به وينقضي. وتنكيره للتقليل كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [سورة آل عمران: 196-197].
[27] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}.
عطف غرض على غرض وقصة على قصة. والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضر في قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الأنفال: 32]. وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [سورة الرعد: 7]. فأعيدت تلك الجملة إعادة الخطيب كلمة من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل، فإنه بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين. وكل ذلك لاحق بقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة الرعد: 5]، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة.
ولذلك تعين أن موقع جملة {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لولا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مهتدين لأن أسباب الهداية واضحة.
وتحت هذا التعجيب معان أخرى.
(12/180)
أحدهما: أن آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم واضحة لولا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم.
الثاني: أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا. كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [سورة الإسراء: 59 8].
الثالث: أن لعدم إيمانهم أسبابا خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} منها ما يومئ إليه قوله في مقابلة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا، وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا. وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجيب به عن قولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بأن يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مشار تعجب.
والإنابة: حقيقتها الرجوع. وأطلقت هنا على الاعتراف بالحق عند ظهور دلائله لأن النفس تنفر من الحق ابتداء ثم ترجع إليه، فالإنابة هنا ضد النفور.
[28] [29] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.
استئناف اعتراضي مناسبته المضادة لحال الذين أضلهم الله، والبيان لحال الذين هداهم مع التنبيه على أن مثال الذين ضلوا وهو عدم اطمئنان قلوبهم لذكر الله، وهو القرآن، لأن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يتضمن أنهم لم يعدوا القرآن آية من الله، ثم التصريح بجنس عاقبة هؤلاء، والتعريض بضد ذلك لأولئك، فذكرها عقب الجملة السابقة يفيد الغرضين ويشير إلى السببين. ولذلك لم يجعل {الَّذِينَ آمَنُوا} بدلا من {مَنْ أَنَابَ} [سورة الرعد: 27] لأنه لو كان كذلك لم تعطف على الصلة جملة {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} ولا عطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الصلة الثانية، ف {الَّذِينَ آمَنُوا} الأول مبتدأ، وجملة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} معترضة، و {الَّذِينَ آمَنُوا} الثاني بدل مطابق من {الَّذِينَ آمَنُوا} الأول، وجملة {طُوبَى لَهُمْ} خبر المبتدأ.
والاطمئنان: السكون، واستعير هنا لليقين وعدم الشك، لأن الشك يستعار له
(12/181)
الاضطراب. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260].
و {ذكر الله} يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه. ويجوز أن يراد به القرآن قال {وإنه لذكر لك ولقومك} [سورة الزخرف: 44]، وهو المناسب قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لأنهم لم يكتفوا بالقرآن آية على صدق الرسول فقالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة الزمر {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 22]، أي للذين كان قد زادهم قسوة قلوب، وقوله في آخرها {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 23].
والذكر من أسماء القرآن. ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته.
وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايسته بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم، قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [سورة المؤمنون: 63].
واختير المضارع في {تَطْمَئِنُّ} مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ} بحرف التنبيه اهتماما بمضمونها وإغراء بوعيه. وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف {الْقُلُوبُ } من التعميم. وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن لتطمئن قلوبهم، كأنه يقول: إذا علمتم راحة بال المؤمنين فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم.
وطوبى: مصدر من طاب طيبا إذا حسن. وهي بوزن البشرى والزلفى، قلبت ياؤها واوا لمناسبة الضمة، أي لهم الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بالذكر. فهم في طيب حال: في الدنيا بالاطمئنان، وفي الآخرة بالنعيم الدائم وهو حسن المئاب وهو مرجعهم في آخر أمرهم.
وإطلاق المآب عليه باعتبار أنه آخر أمرهم وقرارهم كما أن قرار المرء بيته يرجع إليه بعد الانتشار منه. على أنه يناسب ما تقرر أن الأرواح من أمر الله، أي من عالم الملكوت وهو عالم الخلد فمصيرها إلى الخلد رجوع إلى عالمها الأول. وهذا مقابل قوله في المشركين {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
واللام في قوله: {لَهُمْ} للملك.
(12/182)
[30] {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
هذا الجواب عن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لأن الجواب السابق بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الراد لقولهم. فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول. ويجوز جعلها مقطوعة عن جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}. وأياما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب.
وفي افتتاحها بقوله: {كَذَلِكَ} الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة.
والمشار إليه: الإرسال المأخوذ من فعل {أَرْسَلْنَاكَ} ، أي مثل الإرسال البين أرسلناك، فالمشبه به عين المشبه، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
ولما كان الإرسال قد علق بقوله: {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} صارت الإشارة أيضا متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسلين، أي ما كانت رسالتك إلا مثل رسالة الرسل من قبلك، كقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [سورة الأحقاف: 9] وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 20] لإبطال توهم المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله. وفي هذا الاستدلال تمهيد لقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [سورة الرعد: 31] الآيات. ولذلك أردفت الجملة بقوله: {تَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}.
والأمة: هي أمة الدعوة {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}.
وتقدم معنى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} في سورة آل عمران عند قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. ويتضمن قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالة التي كذبت رسلها.
وتضمن لام التعليل في قوله: {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ} أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية
(12/183)
بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات.
والتلاوة: القراءة. فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن، كقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [سورة النمل: 92] الآية.
وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الرعد: 7]. وقد جاء ذلك صريحا في قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [سورة العنكبوت: 51]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي".
وجملة {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} عطف على جملة {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} ، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى {أُمَّةٍ} لأن الأمة منها مؤمنون.
والتعبير بالمضارع في {يَكْفُرُونَ} للدلالة على تجدد ذلك واستمراره ومعنى كفرهم بالله إشراكهم معه غيره في الإلهية، فقد أبطلوا حقيقة الإلهية فكفروا به.
واختيار اسم "الرَّحْمَنِ" من بين أسمائه تعالى لأن كفرهم بهذا الاسم أشد لأنهم أنكروا أن يكون الله رحمان، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} في سورة الفرقان [60]، فأشارت الآية إلى كفرين من كفرهم: جحد الوحدانية، وجحد اسم الرحمن، ولأن لهذه الصفة مزيد اختصاص بتكذيبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وتأييده بالقرآن لأن القرآن هدى ورحمة للناس, وقد أرادوا تعويضه بالخوارق التي لا تكسب هديا بذاتها ولكنها دالة على صدق من جاء بها.
قال مقاتل وابن جريج: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمان إلا صاحب اليمامة، يعني مسيلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم". ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.
وعن ابن عباس نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمان فنزلت.
وقد لقن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال كفرهم المحكي إبطالا جامعا بأن يقول: {هُوَ رَبِّي}،
(12/184)
فضمير {هُوَ} عائد إلى "الرَّحْمَان" باعتبار المسمى بهذا الاسم، أي المسمى هو ربي وأن الرحمن اسمه.
وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إبطال لإشراكهم معه في الإلهية غيره. وهذا مما أمر الله نبيه أن يقول، فهو احتراس لرد قولهم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى رب واحد وهو يقول: إن ربه الله وإن ربه الرحمن، فكان قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إخبار من جانب الله على طريقة الاعتراض.
وجملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} هي نتيجة لكون ربا واحد. ولكونها كالنتيجة لذلك فصلت عن التي قبلها لما بينها من الاتصال.
وتقديم المجرورين وهما {عَلَيْهِ} و {إِلَيْهِ} لإفادة اختصاص التوكل والمتاب بالكون عليه. أي لا على غيره، لأنه لما توحد بالربوبية كان التوكل عليه، ولما اتصف بالرحمانية كان المتاب إليه، لأن رحمانيته مظنة لقبوله توبة عبده.
والمتاب: مصدر ميمي على وزن مفعل، أي التوبة، يفيد المبالغة لأن الأصل في المصادر الميمية أنها أسماء زمان جعلت كناية عن المصدر، ثم شاع استعمالها حتى صارت كالصريح.
ولما كان المتاب متضمنا معنى الرجوع إلى ما يأمر الله به عدي المتاب بحرف {إِلَى}.
وأصل {مَتَابِ} متابي بإضافة إلى ياء المتكلم فحذفت الياء تخفيفا وأبقيت الكسرة دليلا على المحذوف كما حذف في المنادي المضاف إلى الياء.
[31] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}.
(12/185)
يجوز أن تكون عطفا على جملة {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل - عليهم السلام - كما أشار إليه صفة {أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} ، فتكون جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} تتمة للجواب عن قولهم: {وْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.
ويجوز أن تكون معترضة بين جملة {قُلْ هُوَ رَبِّي} وبين جملة {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [سورة الرعد: 33] كما سيأتي هنالك. ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفا على جملة {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
والمعنى: لو أن كتابا من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآن كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال إذ ليس ذلك من سنن الكتب الإلهية.
وجواب {لَوْ} محذوف لدلالة المقام عليه. وحذف جواب {لَوْ} كثير في القرآن كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [سورة الأنعام: 27] وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [سورة السجدة: 12].
ويفيد ذلك معنى تعريضيا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآنا أمر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغا ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حد قول أبي بن سلمى من الحماسة:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطير
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس: إن كفار قريش أبا جهل وابن أبي أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وسعت لنا جبال مكة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحترثها فإنها ضيقة، أو قرب إلينا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج قصيا نكلمه.
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تكرر رفض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} [سورة الأنعام: 111]، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارة إلى تهكمهم. وعلى هذا يكون {قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [سورة الأنعام: 94].
(12/186)
وجملة {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} عطف على {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} بحرف الإضراب. أي ليس ذلك من شأن الكتب بل الله أمر كل محدث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم. فأمر الله نبيه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم. لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قرآن يتأتى به مثل ما سألوه.
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري: لأحملنك على الأدهم "يريد القيد". فأجابه القبعثري بأن قال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، فصرفه إلى لون فرس.
والأمر هنا: التصرف التكويني، أي ليس القرآن ولا غيره بمكون شيئا مما سألتم بل الله الذي يكون الأشياء.
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب بل من طرق القصر، فاللام في قوله: {الْأَمْرُ} للاستغراق، و {جَمِيعاً} تأكيد له. وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب بل العاطفة.
وفرع على الجملتين {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} استفهاما إنكاريا إنكارا لانتفاء يأس الذين آمنوا، أي فهم حقيقيون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا.
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [سورة الرعد: 27].
و {يَيْأَسِ} بمعنى يوقن ويعلم، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع {أَنَّ} المصدرية، وأصله مشتق من الياس الذي هو تيقن عدم حصول المطلوب بعد البحث، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومنه سحيهم بن وثيل الريحاني:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تأيسوا أني ابن فارس زهدم
وشواهد أخرى.
وقد قيل: إن استعمال يئس بمعنى علم لغة هوازن أو لغة بني وهبيل "فخذ من النخع سمي باسم جد". وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا. هذا إذا جعل {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ}
(12/187)
مفعولا ل {يَيْأَسِ}. ويجوز أن يكون متعلق {يَيْأَسِ} محذوفا دل عليه المقام. تقديره: من إيمان هؤلاء، ويكون {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} مجرورا بلام تعليل محذوفة. والتقدير: لأنه لو يشاء الله لهدى الناس، فيكون تعليلا لإنكار عدم يأسهم على تقدير حصوله.
[31] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
معطوفة على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} على بعض الوجوه في تلك الجملة. وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به، فهددوا بما سيحل بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلت فيهم وتخييف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكة.
واستعمال {لا يَزَالُ} في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض. فتكون هذه الآية تنبيها لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد الله. ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [سورة البقرة: 155].
ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم. وهو لا ملجئ إليه.
والقارعة: في الأصل وصف من القرع. وهو ضرب جسم بجسم آخر. يقال: قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة. ولما كان القرع يحدث صوتا مباغتا يكون مزعجا لأجل تلك البغتة صار القرع مجازا للمباغتة والمفاجأة، ومثله الطرق، وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف ملتزم الحذف اختصارا لكثرة الاستعمال، وهو ما يؤول بالحادثة أو الكائنة أو النازلة، كما قالوا: داهية وكارثة، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعا على النفس. ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة.
والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها. وهي مثل الغارة والمكارثة تحل فيهم فتصيبهم عذابا، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم،
(12/188)
فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال. ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة.
ومعنى {بِمَا صَنَعُوا} بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيهم، وأتى في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم.
وضمير {تَحُلُّ} عائد إلى {قَارِعَةٌ} فيكون ترديدا لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريبا من أرضهم فهم في رعب منها وفزع. ويجوز أن يكون {تَحُلُّ} خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنت مع الجيش قريبا من دارهم. والحلول: النزول.
وتحل: بضم الحاء مضارع حل اللازم. وقد التزم فيه الضم، وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح الأفعال، وهو وجيه.
و {وَعْدُ اللَّهِ} من إطلاق المصدر على المفعول، أي موعود الله، وهو ما توعدهم به من العذاب، كما في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران: 12]، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم، فكان المعنى أنه غلب القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى. ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح.
وإتيان الوعد: مجاز في وقوعه وحلوله.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تذييل لجملة {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} إيذانا بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع. والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين.
[32] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}.
عطف على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [سورة الرعد: 31] الخ، لأن تلك المثل الثلاثة التي فرضت أريد بها أمور سألها المشركون النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وتعجيزا لا لتقرب حصولها.
وجاءت عقب الجملتين لما فيها من المناسبة لهما من جهة المثل التي في الأولى ومن جهة الغاية التي في الثانية.
(12/189)
وقد استهزأ قوم نوح به - عليه السلام - {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، واستهزأت عاد بهود - عليه السلام - {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة الشعراء: 187]، واستهزأت ثمود بصالح - عليه السلام - {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [سورة الأعراف: 66]، واستهزأوا بشعيب - عليه السلام - {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [سورة هود: 87]، واستهزأ فرعون بموسى - عليه السلام - {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [سورة الزخرف: 43].
والاستهزاء: مبالغة في الهزء مثل الاسسخار في السخرية.
والإملاء: الإمهال والترك مدة. ومنه {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ} في سورة الأعراف.
والاستفهام في {فكيف كان عقاب} للتعجيب.
و {عِقَابِ} أصله عقابي مثل ما تقدم آنفا في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} والكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ووعيد للمشركين.
[33] {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة. فتقدير أصل النظم: فأمن هو قائم. فالفاء لتفريع الاستفهام وليس استفهاما على التفريع، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحققين، خلافا لمن يجعلون الاستفهام وارد على حرف العطف وما عطفه.
فالفاء تفريع على جملة {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [الرعد: 30] المجاب به حكاية كفرهم المضمن في جملة {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]،
(12/190)
فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين: كفرهم وإيمان النبي صلى الله عليه وسلم بالله.
ويجوز أن تكون تفريعا على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31]، فيكون ترقيا في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلا لمن جعلوه لله شركاء.
واعترض أثر ذلك برد سؤالهم أن تسير الجبال أو تقطع الأرض أو تكلم الموتى، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، لم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري.
وللمفسرين في تصوير الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفا يدل عليه ما هو مذكور فيه، أو يدل عليه السياق. والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ} أي أن كفرهم بالرحمن وإيمانك بأنه ربك المقصورة عليه الربوبية يتفرع على مجموع ذلك استفهامهم استفهام إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كل نفس بمن ليس مثله من جعلوه له شركاء، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا مع الله.
وما صدق {مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} هو الله الإله الق الخالق المدبر.
وخبر {مَنْ هُوَ قَائِمٌ} محذوف دلت عليه جملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} والتقدير: أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة. دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة. والاستفهام إنكار لتلك التسوية من لفظ {شُرَكَاءَ}، وبهذا المحذوف استغنى عن تقدير معادل للهمزة كما نبه عليه صاحب "مغنى اللبيب"، لأن المقدر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الذي حاصله أن يقدر: أم من ليس كذلك. وسيأتي قريبا بيان موقع {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}.
والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} لأن في الصلة دليلا على انتفاء المساواة، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق. والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريبا.
والقائم على الشيء: الرقيب، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد، ولتضمنه معنى
(12/191)
الرقيب عدي بحرف {عَلَى} المفيد للاستعلاء المجازي. وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [سورة آل عمران: 75]. ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم.
فمعنى {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} متوليها ومدبرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق، والعالم بأحوالها وأعمالها، فكان إطلاق وصف {قَائِمٌ} هنا من إطلاق المشترك على معنييه. والمشركون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله: {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} ليعم القيام سائر شؤونها.
والباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ} للملابسة. وهي في موقع الحال من {نَفْسٍ} أو من {قَائِمٌ} باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم، أي قياما ملابسا لما عملته كل نفس، أي قياما وفاقا لأعمالها من عمل خير يقتضي القيام عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [سورة النور: 55]، أو من عمل شر يقتضي قيامه على النفس بالغضب والبلايا. ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين. فهذا تعريض بالأمرين أفادته صلة الموصول.
وجملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} في موضع الحال، أي والحال جعلوا له شركاء.
وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير {مَنْ هُوَ قَائِمٌ}. وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العلم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العلم، وليكون تصريحا بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة.
وجملة {قُلْ سَمُّوهُمْ} استئناف أعيد الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوعي ما سيذكر. وهذه كلمة جامعة، أعني جملة {سَمُّوهُمْ} ، وقد تضمنت ردا عليهم. فالمعنى: سموهم شركاء فليس لهم حظ 'لا التسمية، أي دون مسمى الشريك، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بدعائهم أنهم شركاء، مثل {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} [سورة
(12/192)
الإسراء: 50]، وكما تقول للذي يخطئ في كلامه: قل ما شئت. والمعنى: إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسميات لها بوصف الإلهية لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف. وهذا كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف: 40] وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [سورة النجم: 23]. وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك، كقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [سورة الرعد: 16]، وقد تكحل المفسرون في تأويل {قُلْ سَمُّوهُمْ} بما لا محصل له من المعنى.
ثم أضرب عن ذلك بجملة {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} وهي أم المنقطعة. ودلت {أَمْ} على أن ما بعدها في معنى الاستفهام، وهو إنكاري توبيخي، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم بوجودهم، فقوله: {بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} كناية غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجودا لم يخف على علم العلام بكل شيء. وتفقد ذلك ب {الْأَرْضِ} لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفي عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم.
وفي سورة يونس [18] {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} زيادة في التعميم.
و{أَمْ} الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ}. وإعادة الباء للتأكيد بعد أم العاطفة. والتقدير: بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول.
وليس الظاهر هنا من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظهور بمعنى الزوال كناية عن البطلان، أي بمجرد لاثبات له وليس بحق، كقول أبي ذؤيب:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عاريا يا ابن ريطة ظاهر
وقوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية
(12/193)
أصنامهم إلى كشف السبب، وهو أن أيمة المشركين زينوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ بهم وضعوا لهم عبادتها.
والمكر: إخفاء وسائل الضر, وتقدم عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في أوائل سورة آل عمران [54]، وعند قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} في سورة الأعراف، وعند قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة الأنفال [30]، والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عمرو بن لحي وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسنوها إليهم مظهرين لهم إنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودوهم ويعبوهم.
فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلا منويا كان قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في قوة قولك: زين لهم مزين. والشيء المزين "بالفتح" هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى، فتعين أن المكر مراد به عبادة الأصنام. وبهذا يتجه أن يكون إضافة "مَكْرَ" إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو بباء التعدية، أي المكر بهم ممن زينوا لهم.
وقد تضمن هذا الاحتجاج أساليب وخصوصيات:
أحدها: توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياسا فاسدا لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك.
ثانيها: تبهيلهم في جعلهم أسماء لا مسميات لها آلهة.
ثالثها: إبطال كون أصنامهم آلهة بأن لا يعلمها آلهة، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها.
رابعها: أن ادعاءهم آلهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع، وهو قوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}.
خامسها: أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر، وهو معنى تسميته مكرا في قوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}.
سادسها: أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى.
(12/194)
وعطف {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} على جملة {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}. وقرأه الجمهور - بفتح الصاد - فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين: فالأولى باعتبار كونهم مفعولين، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصد بعد أن انفعلوا بالكفر، وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَصُدُّوا} - بضم الصاد - فهو كجملة {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في كون مضمون كلتيهما جعل الذين كفروا مفعولا للتزيين والصد.
وجملة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} تذييل لما فيه من العموم.
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء {هَادٍ} في حالة الوصل عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} في هذه السورة [7].
[34] {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}.
استئناف بياني نشأ عن قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الرعد: 33] لأن هذا التهديد يومئ إلى وعيد يسال عنه السامع. وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة.
وتنكير {عَذَابٌ} للتعظيم، وهو عذاب القتل والخزي والأسر. وإضافة {عَذَابٌ} إلى {الْآخِرَةِ} على معنى {فِي}.
و {مِنَ} الداخلة على اسم الجلالة لتعدية {وَاقٍ}. و {مِنَ} الداخلة على {وَاقٍ} لتأكيد النفي للتنصيص على العموم.
والواقي: الحائل دون الضر، والوقاية من الله على حذف مضاف، أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله.
[35] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.
استئناف ابتدائي يرتبط بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ}. ذكر هنا بمناسبة ذكر ضده في قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} [سورة الرعد: 34].
(12/195)
والمثل: هنا الصفة العجيبة، قيل: هو حقيقة من معاني المثل، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [سورة النحل: 60]، وقيل: هو مستعار من المثل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها.
وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} خبر عن {مَثَلُ} باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه. فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال: صفة زيد أسمر.
وجملة {أُكُلُهَا دَائِمٌ} خبر ثان، والأكل بالضم: المأكول، وتقدم.
ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس، كما قال تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [سورة النبأ: 16]، وذلك من محامد الجنات وملاذها.
وجملة {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} مستأنفة.
والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة، والمعنى: تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} إلى قوله: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد: 24] هي الجنة التي وعد المتقون. وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم. وأول مراتب التقوى الإيمان. وجملة {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} مستأنفة للمناسبة بالمضادة. وهي كالبيان لجملة {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} الواو للاستئناف. وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} [سورة الرعد: 36] الخ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}.
والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فرقا: ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد: 30]. كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن.
(12/196)
وهذا فريق آخر أيضا أهل الكتاب وهو منقسم أيضا في تلقي القرآن فرقتين: فالفريق الأول صدقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} في سورة العقود [83]، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن اليهود كانوا قد سروا بنزول القرآن مصدقا للتوراة، وكانوا يحسبون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين، قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة البقرة: 89]. وكان النصارى يستظهرون به على اليهود؛ وفريق لم يثبت لهم الفرح بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة. وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة.
وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بـ {يَفْرَحُونَ} دون يؤمنون. وإنما سكنا هذا الوجه بناء على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يسلم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن. فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشكال. فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملا، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد، فهو كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [سورة البقرة: 121].
فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزاب الذين أوتوا الكتاب، كما جاء في قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} في سورة مريم [37]، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن. فاللام عوض عن المضاف إليه. ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه. وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عبودية عيسى - عليه السلام - بالنسبة للنصارى. ونبوءته بالنسبة لليهود.
وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه. هكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ أمر الإسلام يفشو.
[36] {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}.
(12/197)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران: 64]، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحا ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك. وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعدون اعتقاد بنوة عيسى - عليه السلام - غير شرك.
وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر. وبهذا التفسير يظهر موقع جملة {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} بعد جملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ} وأنها جواب للفريقين.
وأفادت {إِنَّمَا} أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة.
ولما كان المأمور به مجموع شيئين: عبادة الله، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى: أني ما أمرت إلا بتوحيد الله.
ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرجا فيه فقال {أن أعبد الله} لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين، ثم جاء بعده {وَلا أُشْرِكَ بِهِ} به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى - عليه السلام - لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك.
وجملة {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} بيان لجملة {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}، أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه.
وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره أدعو، أي بهذا القرآن، وإليه لا إلى غيره مئابي، فإن المشركين يرجعون في مهمهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام. على أن قوله: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث. وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية.
وحذف ياء المتكلم من {مئابي} كحذفها في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [سورة الرعد: 30]، وقد مضى قريبا.
(12/198)
[37] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ}.
اعتراض وعطف على جملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [سورة الرعد: 36]. لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملا على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم. وقد جعل أهم هذا الغرض التنويه بعلو شأن القرآن لفظا معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب.
والقول في اسم الإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} مثل ما تقدم في قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} [سورة الرعد: 30].
وضمير الغائب في {أَنْزَلْنَاهُ} عائد إلى {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}.
والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق. والتقدير: أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال.
و {حُكْماً عَرَبِيّاً} حالان من ضمير {أَنْزَلْنَاهُ}. والحكم: هنا بمعنى الحكمة كما في قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [سورة مريم: 12]. وجعل نفس الحكم حالا منه مبالغة. والمراد أنه ذو حكم، أي حكمة. والحكمة تقدمت.
و {عَرَبِيّاً} حال ثانية وليس صفة ل {حُكْماً} إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية. والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه. فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكما، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيا، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192-195].
ثم في كونه عربيا امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك
(12/199)
حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنبياء: 10]. قال مالك: فيه بقاء ذكركم.
وجملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} معترضة، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله: {أَهْوَاءَهُمْ} عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام.
واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيرا من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح - عليه السلام - {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
ومعنى {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ما بلغك وعلمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويها به، أي لئن شايعتهم فسألتنا آية غير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم. ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} هو دين الإسلام.
والولي: النصير. والواقي: المدافع.
وجعل نفي الولي والنصير جوابا للشرط كناية عن الجواب، وهو المؤاخذة والعقوبة.
والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجا لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم.
و {مِنَ} الداخلة على اسم الجلالة تتعلق ب {وَلِيٍّ وَاقٍ} ، و {من} الداخلة على {وَلِيٍّ} لتأكيد النفي تنصيصا على العموم. وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء {و مِنْ وَاقٍ} في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} في هذه السورة [الرعد: 7].
[38, 39] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ
(12/200)
الْكِتَابِ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
هذا عود إلى الرد على المشركين في إنكارهم آية القرآن وتصميمهم على المطالبة بآية من مقترحاتهم تماثل ما يؤثر من آيات موسى وآيات عيسى عليهما السلام ببيان أن الرسول لا يأتي بآيات إلا بإذن الله، وأن ذلك لا يكون على مقترحات الأقوام، وذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فالجملة عطف على جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [سورة الرعد: 37].
وأدمج في هذا الرد إزالة شبهة قد تعرض أو قد عرضت لبعض المشركين فيطعنون أو طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يتزوج النساء وأن شأن النبي أن لا يهتم بالنساء. قال البغوي: روي أن اليهود وقيل إن المشركين قالوا: إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء اه. فتعين إن صحت الرواية في سبب النزول أن القائلين هم المشركون إذ هذه السورة مكية ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة ولا كان منهم في مكة أحد. وليس يلزم أن يكون هذا نازلا على سبب. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ثم سودة رضي الله عنهما في مكة فاحتمل أن المشركين قالوا قالة إنكار تعلقا بأوهن أسباب الطعن في النبوءة. وهذه شبهة تعرض للسذج أو لأصحاب التمويه، وقد يموه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان فيفضلون عيسى - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم بان عيسى لم يتزوج النساء. وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلا. وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل. ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى - عليه السلام - امرأة. وقد كان يحيى - عليه السلام - حصورا فلعل عيسى - عليه السلام - قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل. وأما وصف الله يحيى - عليه السلام - بقوله: {وَحَصُوراً} فليس مقصودا منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء - عليه السلام - بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى - عليه السلام - كرامة له. ثم قدر أنه لا يكون له نسل إنفاذا لتقديره فجعل امرأته عاقرا. وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران. وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء - عليهم السلام -.
(12/201)
والأزواج: جمع زوج، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل: نوح ولوط - عليهما السلام - وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل: إبراهيم وموسى وداود وسليمان --- عليهم السلام -.
ولما كان المقصود من الرد هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم تكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة.
وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة[35].
والذرية: النسل. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124].
وجملة {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هي المقصود وهي معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ}. وتركيب {مَا كَانَ} يدل على المبالغة في النفي، كما تقدم عند قوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في سورة العقود[116]. والمعنى: أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلا بما آتاهم الله.
وإذن الله: هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بان ستكون آية، فاستعير الإتيان للإظهار، واستعير الإذن للخلق والتكوين.
[38] [39] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}. وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه. وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [سورة العنكبوت: 53] فقد قالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية[سورة الأنفال: 32].
وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعده آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله، فإن لذلك آجالا أرادها الله واقتضتها حمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما
(12/202)
تجري به تصرفات الخلائق.
والأجل: الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود.
والكتاب: المكتوب، وهو كناية عن التحديد والضبط، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها. وفي هذا الرد تعريض بالوعيد. والمعنى: لكل واقع أجل يقع عنده، ولكل أجل كتاب، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه.
وجملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلا له. ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محل اليأس، فجاءت جملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} احتراسا.
وحقيقة المحو: إزالة شيء، وكثر في إزالة الخط أو الصورة، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة، قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [سورة الإسراء: 12]. ويطلق مجازا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها إثباتا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوا لأنه إزالة لمدلولاتها.
والتثبيت: حقيقته جعل الشيء ثابتا قارا في مكان، قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [سورة الأنفال: 45]. ويطلق مجازا على أضداد معاني المحو المذكورة. فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان: منها أنه يعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء.
وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته. وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجد شيئا كان عالما أنه سيوجده، وإذا أزال شيئا كان عالما أنه سيزيله وعالما بوقت ذلك.
وأبهم الممحو والمثبت بقوله: {مَا يَشَاءُ} لتتوجه الأفهام إلى تعرف ذلك والتدبر فيه لأن تحت هذا الموصول صورا لا تحصى، وأسباب المشيئة لا تحصى.
ومن مشيئة الله تعالى محو الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال. ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه.
(12/203)
ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثا عنه مطلوبا للأخذ فإذا جاء تائبا قبل القدرة عليه قبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام.
وكذلك الشأن في ظهور آثار رضي الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدا مغضوبا عليه مضروبا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره.
ومن آثار ذلك أيضا تقليب القلوب بان يجعل الله البغضاء محبة، كما قالت هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلمت: "ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك".
وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين، ولو شاء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحا.
وبهذا يتحصل أن لفظ {مَا يَشَاءُ} عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات، وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده. ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوا، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه.
ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله محوه أو إثباته سواء كان تعينا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال، وأن جملة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد.
ويجوز أن يكون قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} مرادا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. وأن المحو في غير الآجال.
ويجوز أن يكون أم الكتاب مرادا به علم الله تعالى. أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيمحى أو يثبت. وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(12/204)
"يمحو الله ما يشاء ويثبت ألا السعادة والشقاوة والموت". وروي مثله عن مجاهد. وروي عن ابن عباس {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} إلا أشياء الخلق - بفتح الخاء وسكون اللام - والخلق - بضم الخاء واللام - والأجل والرزق والسعادة والشقاوة، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الذي لا يتغير منه سيء. قلت: وقد تفرع على هذا قول الأشعري: إن السعادة والشقاوة لا يتبلان خلافا للماتريدي.
وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات.
فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة، وحمل الإثبات على ما يجمع معاني الإبقاء، وإذا حمل معنى {أُمُّ الْكِتَابِ} على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه، سواء في ذلك الأخبار والأحكام، كان ما في أم الكتاب قسيما لما يمحى ويثبت.
وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغير علم الله به كان ما في أم الكتاب تنبيها على أن التغيرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغيرات مقررة من قبل وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهرا لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما.
و {أُمُّ الْكِتَابِ} لا محالة شيء إلى مضاف إلى الكتاب الذي ذكر في قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. فإن طريقة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المعادة عين بأن يجعل التعريف تعريف العهد، أي وعنده أم ذلك الكتاب، وهو كتاب الأجل.
فكلمة {أم} مستعملة مجازا فيما يشبه الأم في كونها أصلا لما تضاف إليه {أم} لأن الأم يتولد منها المولود فكثر إطلاق أم الشيء على أصله، فالأم هنا مراد به ما هو أصل للمحو والإثبات اللذين هما من مظاهر قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. أي لما محو وإثبات المشيئات مظاهر له وصادره عنه، فأم الكتاب هو علم الله تعالى بما سيريد محوه وما سيريد إثباته كما تقدم.
والعندية عندية الاستئثار بالعلم وما يتصرف عنه، أي وفي ملكه وعلمه أم الكتاب لا يطلع عليها أحد. ولكن الناس يرون مظاهرها دون اطلاع على مدى ثبات تلك المظاهر وزوالها، أي أن الله المتصرف بتعيين الآجال والمواقيت فجعل لكل أجل حدا معينا، فيكون أصل الكتاب على هذا التفسير بمعنى كله وقاعدته.
(12/205)
ويحتمل أن يكون التعريف في {الْكِتَابِ} الذي أضيف إليه أم أصل ما يكتب، أي يقدر في علم الله من الحوادث فهو الذي لا يغير، أي يمحو ما يشاء ويثبت في الأخبار من وعد ووعيد، وفي الآثار من ثواب وعقاب، وعنده ثابت التقادير كلها غير متغيرة.
والعندية على هذا عندية الاختصاص، أي العلم، فالمعنى: أنه يمحو ما يشاء ويثبت فيما يبلغ إلى الناس وهو يعلم ما ستكون عليه الأشياء وما تستقر عليه، فالله يأمر الناس بالإيمان وهو يعلم من سيؤمن منهم ومن لا يؤمن فلا يفجؤه حادث. ويشمل ذلك نسخ الأحكام التكليفية فهو يشرعها لمصالح ثم ينسخها لزوال أسباب شرعها وهو في حال شرعها يعلم أنها آيلة إلى أن تنسخ.
وقرأ الجمهور {وَيُثْبِتُ} بتشديد الموحدة من ثبت المضاعف. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب {وَيُثْبِتُ} - بسكون المثلثة وتخفيف الموحدة -.
[40] {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
عطف على جملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [سورة الرعد: 39] باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات، فبينت هذه الجملة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مأمورا بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أم لم يشهده.
وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله: {نُرِيَنَّكَ}. والمعنى: ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أو لم تره.
وفي الإتيان بكلمة {بَعْضَ} إيماء إلى أنه يرى البعض. وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعا ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعا مستمرا بعده، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشد من المقصد المقصودة لأجله.
وتأكيد الشرط بنون التوكيد و {مَا} المزيدة بعد {إِنْ} الشرطية مراد منه تأكيد الربط
(12/206)
بين هذا الشرط وجوابه وهو {إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلا إذا زيدت {مَا} بعد {إِن} الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قوي.
وقد أرى الله نبيه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل: مسيلمة الكذاب.
وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمة من الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
و {عَلَى} في قوله: {عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} مستعملة في الإيجاب والإلزام، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به.
و {إِنَّمَا} للحصر، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لحرف الحصر، والتقدير: عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه.
وجملة {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} عطف على جملة {عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر. والتقدير: وإنما علينا الحساب، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم.
[41] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
عطف على جملة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} المتعلقة بجملة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بان ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظفره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغير واقع بهم. وهي أيضا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بان الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه، فهي أيضا احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدين.
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم
(12/207)
ضمير {نَعِدُهُمْ}. والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض، أي سكانها.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية. والمراد: رؤية آثار ذلك النقص، ويجوز أن تكون، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص.
وتعريف {الْأَرْضَ} تعريف الجنس، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم. وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازا، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: 82] بقرينة تعلق فعل النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها. وهذا باب قوله تعلى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [سورة محمد: 10].
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد ب {الْأَرْضَ} أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد، وتكون الرؤية بصرية، ويكون ذلك إيقاظا لهم كما غلب عليه المسلمون من أرض العدو فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام. وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقا على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا العرب، فمكة طرفها من جهة اليمن، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح.
وأياما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الأنبياء: 51]، أي ما هم الغالبون. وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم.
وجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [سورة الرعد: 41] عطف على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} مؤكدة للمقصود منها، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه، فاستدل على ذلك بجملة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} ثم بجملة {أو لم يروا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} ثم بجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} ، لأن المعنى: أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر.
(12/208)
ولذلك فجملة {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} في موضع الحال، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه. وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد.
والمعقب: الذي يعقب عملا فيبطله، مشتق من العقب، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة. وتقدم عند قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [سورة الرعد: 11] في هذه السورة، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل.
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله: {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} لتربية المهابة، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع، وأيضا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل.
وجملة {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يجوز أن تكون عطفا على جملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} فتكون دليلا رابعا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه؛ ويجوز أن يكون عطفا على جملة الحال. والمعنى: بحكم غير منقوص حكمه وسريعا حسابه. ومآل التقديرين واحد.
والحساب: كناية عن الجزاء والسرعة: العجلة، وهي في كل شيء بحسبه.
[42] {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}.
لما كان قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [سورة الرعد: 41] تهديدا وإنذارا مثل قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [سورة محمد: 18] وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه. شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [سورة الأنبياء: 6]. وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها. فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم، فلذلك أعقب بقوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كما مكر هؤلاء. فجملة {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حال أو معترضة.
(12/209)
وجملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} تفريع على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} وجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [سورة الرعد: 41].
والمعنى: مكر هؤلاء ومكر الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكرا عظيما كما مكر بمن قبلهم.
وتقديم المجرور في قوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} للاختصاص، أي له لا لغيره، لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلا مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكرا بقوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. وهذا بمعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وأكد مدلول الاختصاص بقوله: {جَمِيعاً} وهو حال من المكر. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} في [سورة يونس4].
وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، فالقصر في قوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ} ادعائي، والعموم في قوله: {جَمِيعاً} تنزيلي.
وجملة {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} بمنزلة العلة لجملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} ، لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته.
وجملة {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} عطف على جملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً}. والمراد بالكافر الجنس، أي الكفار. و {عُقْبَى الدَّارِ} تقدم آنفا، أي سيعلم أن عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين، فالكلام تعريض بالوعيد.
وقرأ الجمهور: {وسيعلم الكافر} بإفراد الكافر. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} بصيغة الجمع. والمفرد والجمع سواء في المعرف بلام الجنس.
[43] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
عطف على ما تضمنته جملة {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد: 42] من التعريض بأن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الأنعام: 37] ضرب من المكر بإظهارهم
(12/210)
أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، مظهرين أنهم في شك قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا: {لَسْتَ مُرْسَلاً}.
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [سورة هود: 38] وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [سورة هود: 11].
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بان يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع.
ولما كانت الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم.
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود - عليه السلام - {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [سورة هود: 54].
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل {كَفَى} في المعنى للتأكيد. وأصل التركيب: كفى الله. و {شَهِيداً} حال لازمة أو تمييز، أي كفى الله من جهة الشاهد.
{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} معطوف على اسم الجلالة.
والموصول في {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة. والمعنى: وكل من عندهم علم الكتاب. وإفراد الضمير المضاف إليه {عند} لمراعاة لفظ {من}. وتعريف {الْكِتَابِ} تعريف للعهد، وهو التوراة. أي وشهادة علماء الكتاب. وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة.
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معينا، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى -
(12/211)
عليه السلام - كما في حديث بدء الوحي في الصحيح. وكان ورقة منفردا بمعرفة التوراة والإنجيل. وقد كان خبر قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفا عند قريش.
فالتعريف في {الْكِتَابِ} تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل.
وقيل: أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمة المدينة. ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقا لسن الشرائع الإلهية ومفسرا للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به. ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب {مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الشعراء: 97].
(12/212)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم
أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم - عليه السلام - فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره. ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم - عليه السلام - جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات {ألر}. وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء - عليهم السلام - التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سورة إبراهيم: 28]، وقيل: إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: 30]. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه.
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء. وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول.
وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة. واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة.
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة. والامتنان بأن جعله بلسان العرب. وتمجيد الله
(12/213)
تعالى الذي أنزله. ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه.
وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل. وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل. وضرب له مثلا برسالة موسى - عليه السلام - إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب.
وكيف كانت عاقبة المكذبين.
وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته وذكر البعث وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ.
وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين.
وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم - عليه السلام - ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم - عليه السلام - ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام وتحذيرهم من كفران النعمة.
وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر.
وما تخلل ذلك من الأمثال.
وختمت بكلمات جامعة من قوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [سورة إبراهيم: 52] إلى آخرها.
[1] {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
{ألر}.
(12/214)
تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس.
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
الكلام على تركيب {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: 1-2] كالكلام على قوله تعالى: {ألمص كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} عدا هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي،فللعلم بمنزلة حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز، ولكنه ذكرها هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبي عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز.
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بعد أن كان المقام للإضمار تبعا لقوله: {أَنْزَلْنَاهُ}.
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة. وإذا قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه علم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية.
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضل فبإرشاد الضال هوى على دلائل الإرشاد، وأمر الله لا يكون إلا لحكم ومصالح بعضها أكبر من بعض.
(12/215)
والإخراج: مستعار للنقل من حال إلى حال. شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج.
و {الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} استعارة للكفر والإيمان، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل. وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكان نير.
وجمع {الظُّلُمَاتِ} وإفراد {النُّورَ} تقدم في أول سورة الأنعام [1].
والباء في {بإذن ربهم} للسببية، والأذن: الأمر بفعل يتوقف على رضي الآمر به، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس، كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير الناس، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم.
وقوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة إبراهيم: 1] بدل من {النُّورَ} بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماما به، وتأكيد للعامل كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} في سورة الأعراف[88].
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل، ظاهرة.
واختيار وصف {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} من بين الصفات العلى لمزيد مناسبتها للمقام، لأن الذي لا يغلب. وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيم الحجة عليهم.
والحميد: بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعب الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاذ الحيلة.
[2, 3] {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
(12/216)
وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف. والتقدير: هو أي {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الله الموصوف بالذي له ما في السماوات والأرض. وهذا الحذف جار على حذف المسند إليه عند علماء المعاني تبعا للسكاكي بالحذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عند ما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريرا للغرض، كقول إبراهيم الصولي:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
أي هو فتى من صفته كيت وكيت.
وقرأه الباقون إلا رويسا عن يعقوب بالجر على البدلية من {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وهي طريقة عربية. ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المستقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه علم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم.
وقرأه رويس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله: {الْحَمِيدِ} وابتدئ باسم {اللَّهِ} ، فإذا وصل {الْحَمِيدِ} باسم {اللَّهِ} جر اسم الجلالة على البدلية.
وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف. لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين. وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه. وفي ذكر هذه الصلة إدماج تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض.
{وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
(12/217)
لما أفاد قوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تعريضا بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. أي للمشركين به آلهة أخرى.
وجملة {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ} إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم، مثل قولهم: ويحك، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر.
{وَوَيْلٌ} مصدر لا يعرف له فعل. ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة، ولأنه لا يعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات، كما تقدم في رفع {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة. ويقال: ويل لك وويلك. بالإضافة. ويقال: يا ويلك، بالنداء. وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجرورا بحرف {من} الابتدائية كما في قوله هنا {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ، أي هلاكا ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار. وتقدم الويل عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
و {يَسْتَحِبُّونَ} بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر. وضمن {يَسْتَحِبُّونَ} معنى يؤثرون، لأن المحبة تعدت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء، فنشأ من هذا معنى الإيثار، فضمنه فعدي إلى مفعول آخر بواسطة حرف {على} في قوله: {عَلَى الْآخِرَةِ} أي يؤثرونها عليها.
وقوله: {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم نظيره في قوله: {أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} في سورة الأعراف، وعند قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} في سورة آل عمران[99]، فأنظره هنالك.
والصد عن سبيل الله: منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه. شبه ذلك بمن
(12/218)
يمنع المار من سلوك الطريق. وجعل الطريق طريق الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه. أو يصدون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام: 153].
والإشارة في قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة إبراهيم: 3] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل. ف {أُولَئِكَ} في محل مبتدأ و {فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} خبر عنه. ودل حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه.
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي، وإنما البعيد هم الضالون، أي ضلالا بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه.
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه. ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة الشورى: 18] وقوله: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سورة سبأ: 8]. وتقدم في قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء[116].
[4] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلطة على متعلقي الفعل المقصور كان قصرا إضافيا لقلب اعتقاد المخاطبين، فيتعين أن يكون ردا على فريق من المشركين قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم. وقد ذكر في "الكشاف" في سورة فصلت عند قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [سورة فصلت: 44] فقال: كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم، وهو مروي في "تفسير الطبري" هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك.
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من
(12/219)
اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل، فكان من جملة ما موهت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب الإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تفسر للذين لا يعرفون تلك اللغة. وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة، فهؤلاء الذين يعالجون سر الحرف والطلسمات يموهون بأنها لا تكتسب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح. وقد زعم السراج البلقيني: أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدين السيوطي واستغربه فقال:
ومن عجيب ما ترى العينان ... أن سؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من "صحيح البخاري"، فاستقر في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة. فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله، فالقصر هنا لرد كلامهم، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين.
فموقع هذه الآية عقب آية {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} بين المناسبة.
وتقدير النظم: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزلناه بلغة قومك لتبين لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور.
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردا لمقالة بعض المشركين يكن تنزيلا للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن، ولقولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلة. والمعنى: ما أرسلناك إلا لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه، وكان قوله: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إدماجا في الاستثناء المتسلط عليه القصر، أو يكون متعلقا بفعل {لِيُبَيِّنَ} مقدما عليه. والتقدير: ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
(12/220)
واللسان: اللغة وما به التخاطب. أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به، مثل: سال الوادي.
والباء للملابسة، فلغة قومه ملابسة لكلامه والكتاب المنزل إليه لإرشادهم.
والقوم: الأمة والجماعة، فقوم كل أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم، إذ كان الرسل يبعثون إلى أقوامهم، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة.
وإنما كان المخاطب أولا هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها، فاختار الله أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم من أمة هي أفصح الأمم لسانا، وأسرعهم أفهاما، وألمعهم ذكاء، وأحسنهم استعدادا لقبول الهدى والإرشاد، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عدد من الناس مثل الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلام بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفا أو أكثر. وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون.
واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب، لأنها أصلح اللغات جمع معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على الألسن، مسرعة حفظ، وجمال وقع في الأسماع، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء، وعهد إليها نشره بين الأمم.
وفي التعليل بقوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إيماء إلى هذا المعنى، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بان يأتي الكتاب بها، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 195]. فهذا كله من مطاوي هذه الآية.
ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبين لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم.
وتفريع قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} الخ على مجموع جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، ولذلك جاء فعل {يُضِلُّ} مرفوعا غير منصوب إذ ليس عطفا على فعل {لِيُبَيِّنَ} لأن الإضلال لا يكون معلولا للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل
(12/221)
بالتبيين. والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم.
والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد.
وجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لأن العزيز قوي لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خلق له، والحكيم يضع الأشياء مواضعها، فموضع الإرسال والتبيين يأتي على أكمل وجه من الإرشاد. وموقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم، فالتبيين من مقتضى أمر التشريع والإضلال من مقتضى أمر التكوين.
[5] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظر وهو إرسال موسى - عليه السلام - إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور.
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى - عليه السلام - بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى - عليه السلام - لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}.
والباء في {بِآياتِنَا} للمصاحبة، أي إرسال مصاحبا للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحبا لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تم التنظير وانتهض الدليل على المنكرين.
و {أَنْ} تفسيرية، فسر الإرسال بجملة {أَخْرِجْ قَوْمَكَ} الخ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقا بموقع {أن} التفسيرية.
و {الظُّلُمَاتِ} مستعار للشرك والمعاصي، و {النُّورِ} مستعار للإيمان الحق والتقوى، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف - عليه السلام -
(12/222)
سرى إليهم الشرك واتبعوا دين القبط، فكانت رسالة موسى - عليه السلام - لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيماء والصلاح.
والتذكير: إزالة نسيان شيء. ويستعمل في تعليم مجهول كان شأنه أن يعلم. ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
و {أَيَّامِ اللَّهِ} أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزة الله تعالى. وشاع إطلاق اسم اليوم مضافا إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال: أيام تميم، أي أيام انتصارهم، فـ {أَيَّامِ اللَّهِ} أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصره أولياءه والمطيعين له.
فالمراد بـ {أَيَّامِ اللَّهِ} هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى - عليه السلام - فإن ذلك كله مما أمر موسى - عليه السلام - بأن يذكرهموه، وكله يصح أن يكون تفسيرا لمضمون الإرسال. لأن إرسال موسى - عليه السلام - ممتد زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكير في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به مشمول لتفسير الإرسال، فقول موسى - عليه السلام - {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [سورة المائدة: 20, 21] هو من تذكير المفسر به إرسال موسى - عليه السلام - وهو إن كان واقعا بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم، وعنايته بهم ليعلموا أنه رب ضعيف غلب قويا ونجا بضعفه ما لم ينج مثله القوي في قوته.
واسم الإشارة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى.
والتذكير بأيام الله على آيات قدرة الله وعزته وتأييد من أطاعه. وكل ذلك
(12/223)
آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله.
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله: {فِي ذَلِكَ} لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ.
ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منه وترغيب، جعلت متعلقة ب {كُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إذ الصبر المناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان الصفتين توزيعا لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم.
[6] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
عطف على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} باعتبار غرض الجملتين، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها، كما أنزل القرآن لذلك.
{وَإِذْ} ظرف للماضي متعلق بفعل تقديره: اذكر، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أمم. والمعنى: واذكر قول موسى لقومه الخ.
وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استبعاد القبط وإهانتهم، فهو تفاصيل ما فسر به إرسال موسى - عليه السلام - وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى - عليه السلام - أن يذكره قومه.
و {إِذْ أَنْجَاكُمْ} ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجاكم إياكم من آل فرعون. وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} في سورة البقرة، وكذا في سورة الأعراف {يُقَتِّلُونَ} ، سوى أن هذه الآية عطف فيها جملة {وَيُذَبِّحُونَ} على جملة {يَسُومُونَكُمْ} وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة {يذبحون} وجملة {يُقَتِّلُونَ} بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. فكان مضمون جملة {وَيُذَبِّحُونَ} هنا مقصودا بالعد كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماما بشانه، فعطفه من عطف الخاص على العام. وعلى
(12/224)
كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر، فالقرآن حكى مراد كلام موسى - عليه السلام - من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به، وهو حاصل على كلا النظمين. وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفننا في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي، وهو ذكر سوء العذاب مجملا، وذكر أفظع أنواعه مبينا.
وأما عطف جملة {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فثار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن. ولذلك سمي جميع ذلك بلاء.
وأصل البلاء: الاختبار. والبلاء هنا المصيبة بالشر، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لمقدار الصبر، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل. وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلا على المكروه. وما ورد منه مستعملا في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [سورة الأنبياء: 35]، وقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد: 31]، وتقدم في نظيرها من سورة البقرة.
وجعل هذا الضر الذي لحقهم واردا من جانب الله لأن تخليه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله، وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتباعهم دين القبط وعبادة آلهتهم.
واختيار وصف الرب هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [سورة الإسراء: 8].
وهذه الآية تضمنت ما في فقرة "17" من "الإصحاح" "21"، وفقرة "3" من "الإصحاح "13" من سفر "الخروج"، وما في فقرة "13" من الإصحاح "26" من "سفر اللاويين".
[7] {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
(12/225)
عطف على {إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فهو من كلام موسى - عليه السلام -. والتقدير: واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم لئن شكرتم الخ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمة وفضل من الله، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاء لولا سعة فضل الله. وأما قوله: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} فجاءت به المقابلة.
ويجوز أن يعطف {وَإِذْ تَأَذَّنَ} على {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، فيكون التقدير: واذكروا إذ تأذن ربكم، على أن {إِذْ} منصوبة على المفعولية وليست ظرفا وذلك من استعمالاتها. وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف[167] {وإذ تأذن ربك ليبعئن عليهم} وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [سورة الأعراف: 86].
ومعنى {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} تكلم كلاما علنا، أي كلم موسى - عليه السلام - بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل. ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات "9- 20" من الإصحاح "91" من سفر الخروج، والفقرات "1- 18- 22" من الإصحاح "20" منه، والفقرات "من 20 إلى 30"من الإصحاح "23"منه.
والتأذن مبالغة في الأذان يقال: أذن وتأذن كما يقال: توعد وأوعد، وتفضل وأفضل. ففي صيغة تفعل زيادة معنى على صيغة أفعل.
وجملة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ} موطئة للقسم والقسم مستعمل في التأكيد. والشكر مؤذن بالنعمة. فالمراد: شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها، ولذلك حذف مفعول {شَكَرْتُمْ} ومفعول {لَأَزِيدَنَّكُمْ} ليقدر عاما في الفعلين.
والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان. وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة.
واستغنى ب {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} عن {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} [سورة النمل: 21] لكونه أعم وأوجز، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس. والمعنى: إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم.
[8] {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أعيد فعل القول في عطف بعض كلام موسى - عليه السلام - على بعض لئلا يتوهم
(12/226)
أن هذا مما تأذن به الرب وإنما هو تنبيه على كلام الله. وفي إعادة فعل القول اهتمام بهذه الجملة وتنويه بها حتى تبرز مستقلة وحتى يصغي إليها السامعون للقرآن.
ووجه الاهتمام بها إن أكثر الكفار يحسبون أنهم يحسنون إلى الله بإيمانهم، وأن أنبياءهم حين يلحون عليهم بالإيمان إنما يبتغون بذلك تعزيز جانبهم والحرص على مصلحتهم. فلما وعدهم على الشكر بالزيادة وأوعدهم على الكفر بالعقوبة خشي أن يحسبوا ذلك لانتقام المثيب بما أثاب عليه، ولتضرره مما عاقب عليه، فنبههم إلى هذا الخاطر الشيطاني حتى لا يسري إلى نفوسهم فيكسبهم إدلالا بالإيمان والشكر والإقلاع عن الكفر.
و {أَنْتُمْ} فصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذ كان هذا المعطوف عليه ضميرا متصلا.
و {جَمِيعاً} تأكيد لمن في الأرض للتنصيص على العموم. وتقدم نظيره ونصبه غير بعيد.
والغني: الذي لا حاجة له في شيء، فدخل في عموم غناه أنه غني عن الذين يكفرون به.
والحميد: المحمود. والمعنى: أنه محمود من غيركم مستغن عن حمدكم؛ على أنهم لو كفروا به لكانوا حامدين بلسان حالهم كرها، فإن كل نعمة تنالهم فيحمدونها فإنما يحمدون الله تعالى، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [سورة الرعد: 15]. وهذه الآية تضمنت ما في الفقرات "30 إلى 33" من الإصحاح "32" من "سفر الخروج".
[9] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.
هذا الكلام استئناف ابتدائي رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} ، لأن الموجه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سورة إبراهيم: 2]، وهم معظم المعني من
(12/227)
الناس في قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة إبراهيم: 1]، فإنهم بعد أن أجمل لهم الكلام في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم: 4] الآية، ثم فصل بأن ضرب المثل للإرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى - عليه السلام - لإخراج قومه، وقضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة ورد الرسل عليهم ما رد به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد.
والاستفهام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم؛ فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضا بها، قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} وقال {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الصافات: 137].
{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يشمل أهل مدين وأصحاب الرس وقوم تبع وغيرهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله. وهذا كقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [سورة الفرقان: 38].
وجملة {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} معترضة بين {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبين جملة {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الواقعة حالا من {الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم.
ومعنى {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} جاء كل أمة رسولها.
وضمائر {رُدُّوا} و {أَيْدِيَهُمْ} و {أَفْوَاهِهِمْ} عائد جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه.
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن.
ومعنى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} يحتمل عدة وجوه أنهاها في "الكشاف" إلى سبعة وفي بعضها بعد، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل.
والرد: مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه "الراغب".
(12/228)
أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رد.
وحرف {فِي} للظرفية المجازية المراد بها التمكين، فهي بمعنى {عَلَى} كقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الزمر: 22]. فمعنى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} جعلوا أيديهم على أفواههم.
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا برد أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم، فيقتضي أن يكون رد الأيدي في الأفواه تمثيلا لحال المتعجب المستهزئ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبرا عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلا بيان عربي.
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [سورة الزمر: 74]، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جريا على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوه.
وأكدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلت عليه {إن} وفعل المضي في قوله: {إِنَّا كَفَرْنَا}. وسموا ما كفروا به مرسلا به تهكما بالرسل، كقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [سورة الحجر: 6]، فمعنى ذلك: أنهم كفروا بان ما جاءوا به مرسل به من الله، أي كفروا بان الله أرسلهم. فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه.
وأما قولهم {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه، فمورد الشك ما يدعونهم إليه، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله. فمرادهم: أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحق فإن الكاذب قد يقول حقا.
وجعلوا الشك قويا فلذلك عبر عنه بأنهم مظروفون فيه، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن.
و {مُرِيبٍ} تأكيد لمعنى {فِي شَكٍّ} ، والمريب: الموقع في الريب، وهو مرادف الشك، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته، كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.
وحذفت إحدى النونين من قوله: {إِنَّا} تخفيفا تجنبا للثقل الناشئ من وقوع نونين آخرين بعد في قوله: {تَدْعُونَا} [سورة هود: 62] اللازم ذكرهما، بخلاف آية سورة هود [62] {وَإِنَّنَا لَفِي
(12/229)
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا}.
إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله: {تَدْعُونَا} واحد.
[10] {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}.
استفهام إنكاري. ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله، فقدم متعلق الشك للاهتمام به، ولو قال: أشك في الله، لم يكن له هذا الوقع، مثل قول القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول: أبعد رد الموت عني كفر.
وعلق اسم الجلالة بالشك، والاسم العلم يدل على الذات. والمراد: إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية، أي صفة الوحدانية.
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدال على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدال على أن لهما خالقا حكيما لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعل مختار، وذلك معلوم بأدنى تأمل، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته.
وجملة {تَدْعُونَا} حال من اسم الجلالة، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخركم في الحياة إلى أجل معتاد.
والدعاء: حقيقته النداء. فأطلق على الأمر والإرشاد مجازا لأن الآمر ينادي المأمور.
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالبا وهو {إلى}، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [سورة غافر: 41].
(12/230)
وقد يعدى بلام التعليل داخلة على ما جعل سببا للدعوة فإن العلة تدل على المعلول، كقوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [سورة نوح: 7]، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم، وهو في هذه الآية كذلك، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم.
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلا للشيء الذي يدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى، كقول أعرابي من بني أسد:
دعوت لما نابني مسورا ... فلبى فلبي يدي مسور
{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بان جعلهم رسلا عنه، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه، وحسبانهم بذلك التعجيز.
فجملة {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} في موضع الحال، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} من جحد كونهم رسلا من الله بالدين الذي جاءوهم به مخالفا لدينهم القديم، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} لأن مجرد كونهم بشرا لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم، وهو مضمون ما أرسلوا به.
وقد عبروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا: تريدون أن تصدونا عن ديننا.
والسلطان: الحجة. وقد تقدم في قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في سورة الأعراف [71].
المبين: الواضح الذي لا احتمال فيه لغير ما دل عليه.
(12/231)
[11, 12] {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
قول الرسل {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جواب بطريق القول بالموجب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء الأنواع ببيان محل الاستدلال فير تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة. ثم كر على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم.
ونظيره قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقون: 8].
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تقريرا للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هو الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة إبراهيم: 11]. والمعنى: أن الممثالة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمن على من يشاء من عباده بنعم لم يعطها غيرهم.
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة.
وأورد الشيخ محمد بن عرفة في "التفسير" وجها للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة لهم في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها {قَالَتْ رُسُلُهُمْ} [سورة إبراهيم: 10] بوجهين: أحدهما: أن هذه المقالة خاصة بالمكذبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم، أي لمصدقين والمكذبين.
وثانيهما: أن وجود الله أمر نظري، فكان كلام الرسل في شانه خطابا لعموم قومهم، وأما بعثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر، فكانه قال: ما قالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم.
وأجاب الأبي أن {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} خطاب لمن عاند في أمر ضروري، فكأن
(12/232)
المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو معرض عنه بخلاف قولهم {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فإنه تقرير لمقالتهم فهم يقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اهـ.
والحاصل أن زيادة {لَهُمْ} تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللام الداخلة بعد فعل القول في نحو: أقول لك، لام تعليل، أي أقول قولي لأجلك.
ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكره على إجابة من يتحداه.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا} إلى آخره.
ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غير معلوم الميقات ولا متعين الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلهم تكذيبا قاطعا وتوقع الرسل أذاة قومهم إياهم شان القاطع بكذب من زعم أنه مرسل من الله، ولأنهم قد بدأوهم بالأذى كما دل عليه قولهم {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}. أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجههم به المكذبون من أذى بتوكلهم على الله هم ومن آمن معهم؛ فابتدأوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيرا لهم لئلا يتعرض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصا على ثبات المؤمنين، كقول النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه -: "أفي شك أنت يا بن الخطاب". وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبأون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا {لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء: 50].
وتقديم المجرور في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصرا من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم. وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله.
والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر.
والفاء في قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} رابطة لجملة "فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" بما أفاده
(12/233)
تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام. والتقدير: إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون. وإن خشيتم هؤلاء المكذبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوهم. وهذا كقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كما تقدم في سورة العقود [23].
والتوكل: الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءه من خير الدنيا والآخرة. وقد تقدم الكلام على التوكل عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [59].
وجملة {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها.
وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم {سُبُلَنَا}.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله، أتوا به في صورة الإنكار بناء على ما هو معروف من استحماق الكفار إياهم في توكلهم على الله، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله. ومعنى {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} ما ثبت لنا من عدم التوكل، فاللام للاستحقاق.
وزادوهم قومهم تأييسا بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في {لَنَصْبِرَنَّ} دلت على أذى مستقبل. ودلت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله: {مَا آذَيْتُمُونَا} على أذى مضى، فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى، وهذا إيجاز بديع.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلا وتأكيد لجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فكانت تذييلا لما فيها من العموم الزائد في قوله: {الْمُتَوَكِّلُونَ} على عموم {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وكانت تأكيدا لأن المؤمنون من جملة المتوكلين. والمعنى: من كان متوكلا في أمره على غيره فليتوكل على الله.
(12/234)
ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله، أي لا ينبني التوكل إلا عليه.
[13, 14] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}.
تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار. فالظاهر عندي أن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا كفار قريش على طريقة التوجيه. وأن المراد بـ {رُسُلِهِمْ} الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريقة قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} في سورة غافر، فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} ، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين، وقوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} في سورة سبا [45] على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما.
وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز: إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيما له كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون: 99].
وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقيد. والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية.
فلا جرم أن يكون المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} فإنه لا يعرف أن رسولا من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، قال في حجة الوداع "منزلنا إن
(12/235)
شاء الله غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر".
وعلى تقدير أن يكون المراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهر الجمع فيكون هذا التوعد شنشنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر.
و"أو" لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل من خوطب بالقسم، وليست هي {أَوْ} التي بمعنى {إِلَى} أو بمعنى {إِلَّا}.
والعود: الرجوع إلى شيء بعد مفارقته. ولم يكن أحد من الرسل متبعا ملة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم. فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم. وكان الرسل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءوهم بالحق ظنوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه.
والظرفية في قوله: {فِي مِلَّتِنَا} مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه.
والملة: الدين. وقد تقدم عند قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في آخر سورة الأنعام [161]، وانظر قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في أوائل سورة آل عمران [95].
وتفريع جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} على قول الذين كفروا لرسلهم {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} الخ تفريع على ما يقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين.
وجملة {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} بيان لجملة "أوحى...".
وإسكان الأرض: التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [سورة الأحزاب: 27].
(12/236)
والخطاب في {لَنُسْكِنَنَّكُمُ} للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}
{ذَلِكَ} إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من {لَنُهْلِكَنَّ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ}. عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [سورة الفرقان: 68].
واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [سورة البينة: 8].
والمعنى: ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى {مَنْ خَافَ مَقَامِي} لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية.
ومعنى {خَافَ مَقَامِي} خافني، فلفظ {مَقَامِ} مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [سورة الرحمن: 64]، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل {خَافَ مَقَامِي} كان فيه من المبالغة ما ليس في "خافني" بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه، كما يقال: قصر في جانبي. ومنه قوله تعالى: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 56]. وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة. ومنه ما في الحديث "إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة"، أي هذا العائذ بك القطيعة.
وخوف الله: هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده.
وعطف جملة {وَخَافَ وَعِيدِ} على {خَافَ مَقَامِي} مع إعادة فعل {خَافَ} دون اكتفاء بعطف {وَعِيدِي} على {مَقَامِي} لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناء على
(12/237)
المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة {خَافَ مَقَامِي} تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثا، قال تعالى: {يسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [سورة إبراهيم: 47]، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة [8] {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة.
وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعيد الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: 105].
وقرأ الجمهور {وعيد} بدون ياء وصلا ووقفا. وقراه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل. وقراه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف. وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافا إليها في غير النداء. وفيها في النداء لغتان أخريان.
[15- 17] {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
جملة {وَاسْتَفْتَحُوا} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} ، أو معترضة بين جملة {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبين جملة {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}. والمعنى: أنهم استعجلوا النصر. وضمير {وَاسْتَفْتَحُوا} عائد إلى الرسل، ويكون جملة {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} عطفا على جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. ومقتضى الظاهر أن يقال: وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب.
ويجوز أن تكون جملة {وَاسْتَفْتَحُوا} عطفا على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ} ويكون ضمير {اسْتَفْتَحُوا} عائدا على الذين {كَفَرُوا} ، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إظهار في مقام الإضمار عدل
(12/238)
عن أن يقال: وخابوا، إلى قوله: {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} لمثل الوجه الذي ذكر آنفا.
والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [سورة الأنفال: 19].
والجبار: المتعاظم الشديد التكبر.
والعنيد: المعاند للحق. وتقدما في قوله: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} في سورة هود [59]. والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف {جَبَّارٍ} خلق نفساني، ووصف {عَنِيدٍ} من أثر وصف {جبار} لأن العنيد المكابر المعرض للحجة.
وبين {وَخَافَ وَعِيدِ} {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} جناس مصحف.
وقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} صفة ل {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي خاب الجبار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظة من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.
والوراء: مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف: 79]، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لأفتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
وأما إطلاق الوراء على معنى {مِنْ بَعْدِ} فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه.
والمعنى: أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته.
والصديد: المهلة. أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يسقى. والمعنى: ويسقى صديدا عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل {صَدِيدٍ} عطف بيان ل {مَاءٍ}. وهذا وجوه التشبيه البليغ.
وعطف جملة {يُسْقَى} على جملة {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.
والتجرع: التكلف الجرع، والجرع: بلع الماء.
(12/239)
ومعنى {يُسِيغُهُ} يفعل سوغة في حلقة. والسوغ: انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال: ساغ الشراب، وشراب سائغ. ومعنى {لا يَكَادُ يُسِيغُهُ} لا يقارب أن يسيغه فضلا عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في سورة البقرة [71].
وإتيان الموت: حلوله، أي حلول آلمه وسكراته، قال قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
بقرينة قوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ، أي فيستريح.
والكلام على قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} مثل الكلام في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه.
والغليظ: حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه. وتقدم عند قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في سورة هود [58].
[18] {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة. وقد أثار هذا التمثيل ما دل عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالا من الصلة والمعروف: من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك? وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجه الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات.
والمثل: الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ. فالمعنى: حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مثل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام.
فقوله: {أَعْمَالُهُمْ} مبتدأ ثان، و {كَرَمَادٍ} خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدأ
(12/240)
الأول.
ولما جعل الخبر عن {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} {أَعْمَالُهُمْ} آل الكلام إلى أن مثل أعمال الذين كفروا كرماد.
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقا لا يرجى معه اجتماعه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة.
ووصف اليوم بالعاصف مجاز عقلي، أي عاصف ريحه، كما يقال: يوم ماطر، أي سحابه.
والرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم. والعاصف تقدم في قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} في سورة يونس [22].
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المجتمع، لأن الرماد أثر لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعها بينهم وهو قرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.
وقرأ نافع وأبو جعفر {اشتدت به الرياح} . وقراه البقية {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.
وجملة {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها.
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد.
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيته، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك: أقصى الضلال أو جد ضلال، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء [116].
[19, 20] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
(12/241)
استئناف بياني ناشئ عن جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال: كيف تهلك فئة مثل هؤلاء? فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها، فمبدأ الاستئناف هو قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}.
وموقع جملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} موقع التعليل لجملة الاستئناف، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجدال على دليلها. وقد بيناه في كتاب "أصول الخطابة".
ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في سوم عاصف.
والخطاب في {أَلَمْ تَرَ} لكل من يصلح للخطاب غير معين، وكل من يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين.
والرؤية: مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم، وأما كون ذلك ملتبسا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق. فلما كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية. كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس: 101].
والحق هنا: الحكمة، أي ضد العبث، بدليل مقابلته به في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الدخان: 38, 39].
وقرأ الجمهور {خَلَقَ} بصيغة الفعل على أن {السَّمَاوَاتِ} مفعوله {وَالْأَرْضَ} عطف على المفعول بالنصب.
وقراه حمزة، والكسائي، وخلف {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بصيغة اسم الفاعل مضافا إلى {السَّمَاوَاتِ} ويخفض {الْأَرْضَ}.
والخطاب في {يُذْهِبْكُمْ} لجماعة من جملتهم المخاطب ب {أَلَمْ تَرَ}. والمقصود: التعريض بالمشركين خاصة. تأكيدا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسا آخرين.
وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجا للتعليم بالوعيد وإظهار لعظيم القدرة. وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض.
(12/242)
وجملة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} عطف على جملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} مؤكد لمضمونها، وإنما سلك بهذا التأكيد مسلك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المشي سهل عليه هين، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم: 27].
والعزيز على أحد: المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره.
[21] {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}.
عطف على جملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [سورة إبراهيم: 20] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب، وفي الكلام محذوف، إذ التقدير: فأذهبهم وبرزوا لله جميعا، أي يوم القيامة.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ويبرزون لله، فقد دل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، مثل قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [سورة النحل: 1].
والبروز: الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية. والمعنى: حشروا من القبور.
و{جَمِيعاً} تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيف.
وقد جيء في هذه الآية بوصف حال الفرق يوم القيامة، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم، ومجادلة الجميع للشيطان، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك ينزل الكرامة. والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات. فالمقصود: التحذير مما يفضي إلى سوء المصير.
واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل {بَرَزُوا} إلى المجرور. يقال: برز لفلان، إذا ظهر له، أي حضر بين يديه، كما يقال: ظهر له.
والضعفاء: عوام الناس والأتباع. والذين استكبروا: السادة، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة. والسين والتاء للمبالغة في الكبر. والتبع: اسم جمع التابع مثل الخدم والخول، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم.
(12/243)
وموجب تقديم المسند إليه على المسند في {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا} أن المستفهم عنه هو كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغناء عنهم، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم. كما تدل عليه حكاية قول المستكبرين {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} ، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا، فتعين أن الاستفهام مستعمل في التورك والتوبيخ والتنكيت، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا. فالأيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي، وبينه ما في نظيره من سورة غافر [47, 48] {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} بدلية، أي غناء بدلا عن عذاب الله.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل. و {شَيْءٍ} في معنى المصدر، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جره بحرف الجر الزائد. والمعنى: هل تغنون عنا شيئا.
وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورطوا أنفسهم أيضا. أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا. وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بانا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علما بان الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} من كلام الذين استكبروا. وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلبا للخلاص من العذاب، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون: لا يفيدنا جزع ولا صبر، فلا نجاة من العذاب. فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين، جمعوا أنفسهم إتماما للاعتذار عن توريطهم.
والجزع: حزن مشوب باضطراب، والصبر تقدم.
وجملة {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجزع والصبر.
(12/244)
والمحيص: مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة. ويقال: حاص عنه، أي نجا منه. ويجوز أن يكون اسم مكان من حاص أيضا، أي ما لنا ملجأ ومكان ننجو فيه.
[22] {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان: إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان. على أن قوله: {فَلا تَلُومُونِي} يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} عطف على جملة {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ}.
والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قبله. وذلك أصل عظيم في الموعظة والتلابية.
ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} تمم الشأن، أي إذن الله وحكمه. ومعنى إتمامه: ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [سورة يس: 59]، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسبا في اختيار الانطباع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق. فهذا شبيه شهدة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولهم لهم: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} إظهار للحقيقة وتسجيلا على أهل الضلالة وقمعا لسفسطتهم.
(12/245)
وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم. وإيقاظا لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة. فقول الشيطان {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه.
وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس.
وإضافة {وَعْدَ} إلى {الْحَقِّ} من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف، أي الوعد الحق الذي لا نقض له.
والحق: هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به. وضده: الإخلاف، ولذلك قال: {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [سورة إبراهيم: 22]، أي كذبت موعدي. وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام -. وشمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا.
والسلطان: اسم مصدر تسلط عليه، أي غلبه وقهره، أي لم أكن مجبرا لكم على اتباعي فيما أمرتكم.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله. فالمعنى: لكني دعوتكم فاستجبتم لي.
وتفرع على ذلك {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}. والمقصود: لوموا أنفسكم، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي. وقد تقدم بيانه صدر الكلام على الآية.
ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر، كأنه قال: فلا تلوموا إلا أنفسكم، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين.
وجملة {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}، بيان لجملة النهي عن لومه لأن لومه فيه تعريض بانهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه.
(12/246)
والإصراخ: الإغاثة، اشتق من الصراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته، فقيل: أصرخه، إذا أجاب صراخه، كما قالوا: أعتبه، إذا قبل استعتابه. وأما عطف {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر.
وقرأ الجمهور {بِمُصْرِخِيَّ} بفتح التحتية مشددة. وأصله بمصرخيي بياءين: أولاهما ياء جمع المذكر المجرور، وثانيهما ياء المتكلم، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة.
وقرأ حمزة وخلف {بِمُصرِخيِّ} - بكسر الياء - تخلصا من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسرة هو أصل التخلص من التقاء الساكنين. قال الفراء: تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر. وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العجلي:
قال لها هل لك يا تافي ... قالت له: ما أنت بالمرضي
أراد هل لك في يا هذه. وقال أبو على الفارسي: زعم قطرب أنها لغة بني يربوع. وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر. واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس، وقد أثبته سند قراءة حمزة. وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العجلي.
والذي ظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم، وبنو عجل ابن لجيم من بكر بن وائل، فقرأوا بلهجتهم أخذا بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"، كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت ما ينسخها في هذه الآية. واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام. وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفا فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه.
وجملة {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} استئناف آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى. وأرادت بقوله: {كَفَرْتُ}
(12/247)
شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة، فإن أراد من مضى فعل {كَفَرْتُ} مضي الأزمنة كلها، أي كنت غير راض بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل، وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب. و {مِنْ قَبْلُ} على التقديرين متعلق بـ {أَشْرَكْتُمُونِ}.
والإشراك الذي كفر به إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته.
وجملة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من الكلام المحكي عن الشيطان. وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} ، أي لأنه لا يدفع عنك العذاب دافع فهو واقع بكم.
[23] {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}.
عطف على جملة {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} ، وهو انتقال لوصف حال المؤمنين يومئذ بمناسبة ذكر حال المشركين لأن حال المؤمنين يومئذ من جملة الأحوال المقصودة بالوصف إظهار لتفاوت الأحوال، فلم يدخل المؤمنون يومئذ في المنازعة والمجادلة تنزيها لهم عن الخوض في تلك الغمرة، مع التنبيه على أنهم حينئذ في سلامة ودعه.
ويجوز جعل الواو للحال، أي برزوا وقال الضعفاء وقال الكبراء وقال الشيطان إلخ وقد أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات، فيكون إشارة إلى أنهم فازوا بنزل الكرامة من أول وهلة.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى العناية والاهتمام، فهو إذن أخص من أمر القضاء العام.
وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} تقدم نظيره في أول سورة يونس.
[24 - 26] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ
(12/248)
قَرَارٍ}.
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} إلى قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}، فضرب الله مثلا لكلمة الإيمان وكلمة الشرك. فقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} إيقاظ ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم: ألم تعلم. ولم يكن هذا المثل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل. وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف {لَمْ} التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدال عليها فعل {ضَرَبَ} بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.
والاستفهام في {أَلَمْ} ، نزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم أو هو مستعمل في التعجب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه. أو هو للتقرير. ومثله في التقرير كثير، وهو كناية في التحريض على العلم بذلك.
والخطاب لكل من يصلح للخطاب. والرؤية علمية معلق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام بـ {كَيْفَ}. وإيثار {كَيْفَ} هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.
وتقدم المثل في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
وضرب المثل: نظم تركيبه الدال على تشبيه الحالة، وتقدم عند قوله: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
وإسناد {ضَرَبَ} إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمثل لما كان معنى متضمنا عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل {ضَرَبَ} به على وجه إجمال يفسره قوله: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ} إلى آخره، فانتصب {كَلِمَةً} على البدلية من {مَثَلاً} بدل مفصل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}.
والكلمة الطيبة قيل: هي كلمة الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك.
(12/249)
والطيبة: النافعة. استعير الطيب للنفع لحسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية. وتقدم عند قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} في سورة يونس [22].
والفرع: ما امتد من الشيء وعلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء. وفرع الشجرة: غصنها، وأصل الشجرة: جذرها.
والسماء: مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.
والأكل بضم الهمزة المأكول، وإضافة إلى ضمير الشجرة على معنى اللام. وتقدم عند قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} في سورة الرعد [4].
فالمشبه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار، ووفرة الثمار، ومتعة أكلها. وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلا لجمع التشبيه وتفريعه.
وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب. وقد اختصر فيها التمثيل اختصارا اكتفاء بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة.
وفي "جامع الترمذي" عن إنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قال: هي النخلة . {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} قال: هي الحنظل".
وجملة {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} صفة ل {شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} لأن الناس لا يتركونها تلتفت على الأشجار فتقتلها. والاجتثاث: قطع الشيء كله، مشتق من الجثة وهي الذات. و {مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} تصوير لـ {اجْتُثَّتْ}. وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
وجملة {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار.
(12/250)
والأظهر أن المراد بالكلمة الطيبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، ف"الكلمة" في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}. والمقصود مع التمثيل إظهار المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله في سورة النحل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} - إلى قوله -: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} ، فانظر بيانه هنالك.
وجملة {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والواو واو الاعتراض. ومعنى "لعل" رجاء تذكيرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها.
[27] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثابت المشبه به: ما هو أثره في الحالة المشبهة? فيجاب بأن ذلك الثبات طهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت.
والقول: الكلام. والثابت: الصادق الذي لا شك فيه. والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في {ِالْقَوْلِ} لاستغراق الأقوال الثابتة. والباء في {بِالْقَوْلِ} للسببية.
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين بها غير مترددين.
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فيم تعترهم ندامة ولا لهف. ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يظهر فيها ثباتهم بالحق قولا وانسياقا، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها.
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعماية في الدنيا وفي الآخرة. والضلال: اضطراب وارتباك. فهو الأثر المناسب
(12/251)
لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة.
والظالمون: المشركون. قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان:13].
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر. روى البخاري والترمذي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}.
وجملة {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} كالتذييل لما قبلها. وتحت إبهام {مَا يَشَاءُ} وعمومه مطاو كثيرة: من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تينك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال. وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها.
وإظهار اسم الجلالة في {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} لقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثل.
[28، 29] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.
أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما. وابتدئ بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر مقدم على التحلي بضدها،ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ.
والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك.
والرؤية: هنا بصرية متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها ب {إِلَى} يرجح ذلك، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [سورة البقرة: 258].
وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير. والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم.
والكفر: كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته.
(12/252)
وفي قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} محسن الاحتباك. وتقدير الكلام: بدلوا نعمة الله وشكرها كفرا بها ونقمة منه، كما دل عليه قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الخ.
واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات.
والذين بدلوا هذا التبديل فريق معروفون، بقرينة قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} ، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي كلمة الشرك، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم، وشردوا من استطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل {أَحَلُّوا} إليهم على طريقة المجاز العقلي.
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوأهم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة. ثم أنعم الله عليهم بان بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليه وسلم وهداهم إلى الحق، وهيأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدلوا شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة إبراهيم وبنيته - عليهم السلام -.
وقومهم: هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارا، فهم أحق بأن يضافوا إليهم.
والبوار: الهلاك والخسران. وداره: محله الذي وقع فيه.
والإحلال بها: الإنزال فيها. والمراد بالإحلال التسبب فيه، أي كانوا سببا لحلول قومهم بدار البوار. وهي جهنم في الآخرة. ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل: موقع بدر. فيجوز أن يكون {دَارَ الْبَوَارِ} جهنم، وبه فسر علي وابن عباس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.
واستعمال صيغة المضي في {أَحَلُّوا} لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية.
والمراد بـ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} صناديد المشركين من قريش، فعلى تفسير {دَارَ الْبَوَارِ} بدار البوار في الآخرة يكون قوله: {جَهَنَّمَ} بدلا من {دَارَ الْبَوَارِ} وجملة {يَصْلَوْنَهَا} حالا من {جَهَنَّمَ} ، فتخص {دَارَ الْبَوَارِ} بأعظم أفرادها وهو النار، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته.
(12/253)
وعلى تفسير {دَارَ الْبَوَارِ} بأرض بدر يكون قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وانتصاب جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل {يَصْلَوْنَهَا} على طريقة الاشتغال.
وما يروون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن علي كرم الله وجهه أن {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم، قال: فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية. وفي روايات عن علي كرم الله وجهه أنه قال: هم كفار قريش، ولا يريد عمر ولا علي - رضي الله عنهما - من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الإفهام الخطئة. وكذا ما روي عن أبن عباس: أنهم جبلة بن الأيهم ومن اتبعوه من العرب الذين تنصروا في زمن عمر وحلوا ببلاد الروم، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وجملة {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} عطف على جملة {يَصْلَوْنَهَا} ، أو حال من {جَهَنَّمَ}. والتقدير: وبئس القرار هي.
[30] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.
عطف على {بَدَّلُوا} و {أَحَلُّوا} ، فالضمير راجع إلى {الَّذِينَ} وهم أئمة الشرك. والجعل يصدق باختراع ذلك كما فعل عمرو بن لحي وهو من خزاعة. ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هبل على سطحها.
والأنداد: جمع ند بكسر النون، وهو المماثل في مجد ورفعة، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} في سورة البقرة[22].
وقرأ الجمهور {لِيُضِلُّوا} بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالا، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أندادا، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل: للضلال عن سبيله، تشنيعا عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضلوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز.
(12/254)
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب {لِيُضِلُّوا} - بفتح الياء - والمعنى: ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلا في زمن الحال. ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير {أَنْ} المصدرية بعد لام التعليل.
ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.
وسبيل الله: كل عمل يجري على ما يرضي الله. شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة.
وجملة {قُلْ تَمَتَّعُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المخاطب ب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} إذا علم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب.
وأمر بان يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة، وهذا كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة آل عمران [196, 197].
[31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}.
استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة. فلما ابتدئ بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثني بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها.
ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} - إلى أن قال -: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة الإسراء: 50, 52].
ولما كانوا متحلين بالكمال صيغ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين.
ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة
(12/255)
من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لم الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة "افعل" فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبسا به، فأصل {يُقِيمُوا الصَّلاةَ} ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفا.
وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في سورة الإسراء[52]، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا، فحكي بالمعنى.
وعندي: أن منه قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} في سورة الحجر، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل. فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة. وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل قل، كما في مغني اللبيب ووافقه ابن مالك في شرح الكافية. وقال بعضهم: جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب {قُلْ} على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده. والتقدير: قل لعبادي أقيموا يقيموا وأنفقوا ينفقوا. وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا}.
وزيادة {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} للتذكير بالنعمة تحريضا على الإنفاق ليكون شكرا للنعمة.
و {سِرّاً وَعَلانِيَةً} حالان من ضمير {يُنْفِقُوا}. وهما مصدران. وقد تقدم عند قوله تعالى: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} في سورة البقرة[274]. والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سرا يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بر لا يكدره ما يحف به من الأحوال، "وإنما الأعمال بالنيات". وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [سورة التوبة: 79] الآية.
وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به، ومن العلانية الإنفاق الواجب.
وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء، ولأن
(12/256)
فيه استبقاء لبعض حياء المتصدق عليه.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} الخ متعلق بفعل {يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا}، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق. وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلا للاستزادة منهما، إذ لا بيع يومئذ فيشتري الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب. فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع.
ونظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة[254].
وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها، بقرينة المقام، وليس المراد نفي الخلة، أي الصحبة والمودة لأن المودة ثابتة بين المتقين، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف: 67]. وقد كفى بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة.
وإدخال حرف الجر على اسم الزمان هو {قَبْلِ} لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة.
وقرأ الجمهور {لا بَيْعٌ} بالرفع. وقرا ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بالبناء على الفتح. وهما وجهان في نفي النكرة بحرف {لا}.
[32 - 34] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} الآية. وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية. وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروهما، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكرا. فالمقصود الأول هو
(12/257)
الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35]. فجيء في هذه الآية بنعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى.
وافتتح الكلام باسم الموجد لأن تعينه هو الغرض الأهم. وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئا، كما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان: 25]، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقها وتمهيد للنعم المودعة فيها، فإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج الثمرات من الأرض، والبحار والأنهار من الأرض. والشمس والقمر من السماء، والليل والنهار من السماء ومن الأرض، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت.
والرزق: القوت. والتسخير: حقيقته التذليل والتطويع، وهو مجاز في جعل السيء قابلا لتصرف غيره فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف [54]. وقوله: {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ} هو علة تسخير صنعها.
ومعنى تسخير الفلك: تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع.
وقوله: {بِأَمْرِهِ} بـ {تَجْرِيَ}.
والأمر: هنا الإذن، أي تيسير جريها في البحر، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء، وهذا كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [سورة الحج: 65]. وعبر هذا الأمر بالنعمة في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [سورة لقمان: 31]، وقد بينته آية {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} الآية[سورة الشورى: 32-33].
وتسخير الأنهار: خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيسقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها.
(12/258)
وتسخير الشمس والقمر: خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما.
ومعنى {دَائِبَيْنِ} دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك.
والفلك: جمع لفظه كلفظ مفرده. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة[164].
ومعنى {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أعطاكم بعضا من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شانكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك: كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب.
فجملة {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} نعيم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحكم يعلمها الله ولا يعلمونها {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى: 27]، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان. وبهذا يتبين تفسير الآية.
وجملة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه او لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم.
فمعنى {إِنْ تَعُدُّوا} إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه. وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة النفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة، وللفخر هنا تقرير نفيس فأنظره.
والإحصاء: ضبط العدد، وهو مشتق من الحصا اسما للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للغلط.
وجملة {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كفرا، فلذلك فصلت عنها.
والمراد بـ {الْأِنْسَانَ} صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها،
(12/259)
فالإنسان هو المشرك، مثل الذي في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [سورة الشورى: 66]، وهو استعمال كثير في القرآن.
وصيغتا المبالغة في {ظَلُومٌ كَفَّارٌ} اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئا، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره.
[35، 36] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عطف على جملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [سورة إبراهيم: 28] فإنهم كما بدلوا نعمة الله كفرا أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم - عليه السلام - وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداء بأسلافهم من أهل الضلالة، وبدلوا دعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفرا بمفيض تلك النعم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت منتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة. وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم - عليه السلام - والتعريض بذريته من المشركين.
و"إذا" اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله، تقديره: واذكر إذ قال إبراهيم، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} ، فموقع العبرة من الحالين واحد.
و {رَبِّ} منادى محذوف منه حرف النداء. وأصله "ربي"، حذفت ياء المتكلم تخفيفا، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء.
والبلد: المكان المعين من الأرض، ويطلق على القرية. والتعريف في {الْبَلَدَ} تعريف العهد لأنه معهود بالحضور. و {الْبَلَدَ} بدل من اسم الإشارة.
وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}
(12/260)
[سورة إبراهيم: 37], أو هو حوالة على ما في علم العرب من أنه مكة. وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره. والتعريف هنا للعهد، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية، فهنا دعا للبلد بأن يكون آمنا، وفي آية سورة البقرة دعا لمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة، فمآل المفادين متحد.
{وَاجْنُبْنِي} أمر من الثلاثي المجرد، يقال: جنبه الشيء، إذا جعله جانبا عنه، أي باعده عنه، وهي لغة أهل نجد. وأهل الحجاز يقولون: جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز. وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد لأنها أخف.
وأراد ببنيه أبناء صلبه، وهم يومئذ إسماعيل وإسحاق، فهو من استعمال الجمع في التثنية، أو أراد جميع نسله تعميما في الخير فاستجيب له في البعض.
والأصنام: جمع صنم، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبودا ويدعى إلها. وأراد إبراهيم - عليه السلام - مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، أصنام قوم نوح، ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم.
وإعادة النداء في قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} لإنشاء التحسر على ذلك.
وجملة {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف "إن" في هذا المقام من معنى التعليل.
وذلك أن إبراهيم - عليه السلام - خرج من بلده أور الكلدانيين إنكارا على عبدة الأصنام، فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات: 99] وقال لقومه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم: 48]. فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عربة تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جرهم قوما على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل - عليه السلام -. ثم أقام هنالك معلم التوحيد، وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل، وأراد أن يكون مأوى التوحيد، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد. فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلدا آمنا حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوى إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد.
(12/261)
ففرع على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني، فدخل في ذلك أبوه وقومه، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل.
و"من" في قوله: {مني} اتصالية. وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله.
وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه. والمعنى: ومن عصاني أفوض أمره إلى رحمتك وغفرانك. وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى. وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم - عليه السلام - وخشية من استئصال عصاة ذريته. ولذلك متعهم الله قليلا في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة البقرة: 126] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [سورة الزخرف: 27]. وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم - عليه السلام -.
وإذ كان قوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تفويضا لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به.
[37] {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
جملة {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} مستأنفة لابتداء دعاء آخر. وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع. وفي كون النداء تأكيدا لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله.
وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافا لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه. ولعل إسماعيل - عليه السلام - حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إلى قوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [سورة البقرة: 127]. وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا.
(12/262)
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِي} بمعنى بعض، يعني إسماعيل - عليه السلام - وهو بعض ذريته، فكان هذا الدعاء صدر من إبراهيم - عليه السلام - بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة، كما دل عليه قوله في دعائه هذا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [سورة إبراهيم: 39]، فذكر إسحاق - عليه السلام -.
والواد: الأرض بين الجبال، وهو وادي مكة. و {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} صفة، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة، فإن كلمة ذو تدل على صاحب ما أضيفت إليه وتمكنه منه، فإذا قيل: ذو مال، فالمال ثابت له، وإذا أريد ضد ذلك قيل: غير ذي كذا، كقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [سورة الزمر: 28]، أي لا يعتريه شيء من العوج. ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أو لا زرع به.
و {عِنْدَ بَيْتِكَ} صفة ثانية لواد أو حال.
والمحرم: الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم. وما أصحاب الفيل منهم ببعيد.
وعلق {لِيُقِيمُوا} بـ {أَسْكَنْتُ} ، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معمورا أبدا.
وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة. وتهيأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، لأن همة الصالحين في إقامة الدين.
والأفئدة: جمع فؤاد، وهو القلب. والمراد به هنا النفس والعقل.
والمراد: فاجعل أناسا يهوون إليهم. فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد. فلما ذكر {أَفْئِدَةً} لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم {مِنَ النَّاسِ} ، فـ {مِنَ} بيانية لا تبعيضية، إذ لا طائل تحته. والمعنى: فاجعل أناسا يقصدونهم بحبات قلوبهم.
وتهوي - مضارع هوى بفتح الواو-: سقط. وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة، كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل
(12/263)
ولذلك عدي باللام دون {عَلَى}.
والإسراع: جعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم.
والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم.
والتنكير مطلق يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف.
ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين.
ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جعل تكملة له تعرضا للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بان يكونوا من الشاكرين. والمقصود: توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب.
[38] {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}.
جاء بهذا التوجه إلى الله جامعا لما في ضميره، وفذلكة للجمل الماضية لما اشتملت عليه من ذكر ضلال كثير من الناس، وذكر من اتبع دعوته ومن عصاه، وذكر أنه أراد من إسكان أبنائه بمكة رجاء أن يكونوا حراس بيت الله، وأن يقيموا الصلاة، وأن يشكروا النعم المسؤولة لهم. وفيه تعليم لأهله وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال ويخلصوا النية إليه.
وجملة {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} تذييل لجملة {إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} ، أي تعلم أحوالنا وتعلم كل شيء. ولكونها تذييلا أظهر فيها اسم الجلالة ليكون التذييل مستقلا بنفسه بمنزلة المثل والكلام الجامع.
[39] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
لما دعا الله لأهم ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بعجب في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدين في إبان
(12/264)
الكبر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء، أي مجيب، أي متصف بالإجابة وصفا ذاتيا، تمهيدا لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوته سلفا. فهذا مناسبة موقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد. و {عَلَى} في قوله: {عَلَى الْكِبَرِ} للاستعلاء المجازي بمعنى مع، أي وهب ذلك تعليا على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك. ولذلك يفسرون {عَلَى} هذه بمعنى {مَعَ} ، أي مع الكبر الذي لا تحصل معه الولادة. وكان عمر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة {86}. وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة {100}. وكان لا يولد له من قبل.
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} تعليل لجملة {وَهَبْ} ، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء. والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدل على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى.
[40، 41] {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.
جملة مستأنفة من تمام دعائه. وفعل {اجْعَلْنِي} مستعمل في التكوين، كما تقدم آنفا، أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة.
والإقامة: الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم. والتقدير: واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي.
و {مِنْ} ابتدائية وليست للتبعيض، لأن إبراهيم - عليه السلام - لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته. ويجوز أن تكون {مِنْ} للتبعيض بناء على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون. وهذا وجه ضعيف لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلا لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35] ولم يقل: ومن بني.
ودعاؤه بتقبل دعائه ضراعة بعد ضراعة.
(12/265)
وحذفت ياء المتكلم في {دُعَاءِ} في قراءة الجمهور تخفيفا كما تقدم في قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} في سورة الرعد [30].
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة.
ثم دعا بالمغفرة لنفسه وللمؤمنين ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوءته وما استمر عليه أبوه بعد دعوته من الشرك، أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوءته. وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله كما في آية سورة براءة.
ومعنى {يَقُومُ الْحِسَابُ}: يثبت. استعير القيام للثبوت تبعا لتشبيه الحساب بإنسان قائم، لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان إذ هو انتصاب للعمل. ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، إذ قويت واشتدت. وقولهم: ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة [4].
[42، 43] {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}.
عطف على الجمل السابقة، وله اتصال بجملة {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: 30] الذي هو وعيد للمشركين وإنذار لهم بان لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم تنبيها لهم على أن ذلك متاع قليل زائل، فأكد ذلك الوعيد بهذه الآية، مع إدماج تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يتطاولون به من النعمة والدعة، كما دل عليه التفريع في قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [سورة إبراهيم: 47]. وفي معنى الآية قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [سورة المزمل: 11].
وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر حسن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تفصل.
وصيغة {لا تَحْسَبَنَّ} ظاهرها نهي عن حسبان ذلك. وهذا النهي كناية عن إثبات وتحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شانه أن يثير للناس ظن وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك. وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم، أي تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة, فهو
(12/266)
كناية بمرتبتين، ذلك لأن النهي عن الشيء يؤذن بان المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان. وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم جعلناه للنبي ابتداء ويدخل فيه أمته.
ونفي الغفلة عن الله ليس جاريا على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين. ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
والغفلة: الذهول، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} في سورة الأنعام [156].
والمراد بالظلم هنا الشرك، لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم. وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية. ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم فإن الله غير غافل عن ذلك. ولذلك قال سفيان بن عيينة: هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم.
وقوله: {فِيهِ الْأَبْصَارُ} مبنية لجملة {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً...} الخ.
وشخوص البصر: ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف.
وأل في {الْأَبْصَارُ} للعموم، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون. ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين.
والإهطاع: إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف.
وإقناع الرأس: طأطأته من الذل، وهو مشتق من قنع من باب منع إذا تذلل. و {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} حالان.
وجملة {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} في موضع الحال أيضا. والطرف: تحرك جفن العين.
ومعنى {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ} لا يرجع إليهم، أي لا يعود إلى معتاده، أي لا يستطيعون تحويله. فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم.
وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول.
(12/267)
والهواء في كلام العرب: الخلاء. وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة.
[44, 45] {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}.
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} عطف على جملة {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم: 42]، أي تسل عنهم ولا تملل من دعوتهم وأنذرهم.
والناس: يعم جميع البشر. والمقصود: الكافرون، بقرينة قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}. ولك أن تجعل الناس ناسا معهودين وهم المشركون.
و {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} منصوب على أنه مفعول ثان ل {أَنْذِرِ} ، وهو مضاف إلى الجملة. وفعل الإنذار يتعدى إلى مفعول ثان على التوسع لتضمينه معنى التحذير، كما في الحديث "ما من نبي إلا أنذر قومه الدجال".
وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه مجازا مرسلا.
والعذاب: عذاب الآخرة، أو عذاب الدنيا الذي هدد به المشركون و{الَّذِينَ ظَلَمُوا}: المشركون.
وطلب تأخير العذاب إن كان مرادا به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب، أي يقول الذين ظلموا: أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك. وهذا كما في قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [سورة المؤمنون: 99, 100]، فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازا مرسلا بعلاقة الأول. والرسل: جميع الرسل الذين جاءوهم بدعوة الله.
وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى: أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم. فالتأخير على هذا حقيقة. والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد
(12/268)
مجازا، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم.
والقريب: القليل الزمن. شبه الزمان بالمسافة، أي أخرنا مقدار ما نجيب به دعوتك.
{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}.
لما ذكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم. وقد عدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه.
وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيها على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سألوه، حذف إيجازا لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله. فالتقدير: كلا وألم تكونوا أقسمتم... الخ.
والزوال: الانتقال من المكان. وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب.
وحذف متعلق {زوال} لظهور المراد، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [سورة النحل: 38].
وجملة {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} بيان لجملة {أَقْسَمْتُمْ}. وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يراع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل: ما لنا من زوال، بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ}.
وهذا القسم قد يكون صادرا من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم.
ويجوز أن يكون ذلك صادرا من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم.
وكذلك الخطاب في قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم. وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين.
والمراد بالسكنى: الحلول، ولذلك عدي بحرف الظرفية خلافا لأصل فعله المتعدي
(12/269)
بنفسه. وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك، ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن.
وتبين ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال.
وضرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل عليهم السلام، ووصف الأحوال الخفية.
وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة..
[46] {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
يجوز أن يكون عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون حالا من {النَّاسَ} في قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} ، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم.
والمكر: تبييت فعل السوء بالغير وإضماره. وتقدم في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [54] في سورة آل عمران، وفي قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} في سورة الأعراف [99].
وانتصب {مَكْرَهُمْ} الأول على أنه مفعول مطلق لفعل {مَكَرُوا} لبيان النوع، أي المكر الذي اشتهروا به، فإضافة {مَكْرُ} إلى ضمير {هُمْ} من إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك إضافة مكر الثاني إلى ضمير {هُمْ}.
والعندية إما عندية علم، أي وفي علم الله مكرهم، فهو تعريض بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم، وإما عندية تكوين ما سمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله، فيكون وعيدا بالجزاء على مكرهم.
وقرأ الجمهور {لِتَزُولَ} بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون "إن" نافية ولام {لِتَزُولَ} لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي.
وقرأ الكسائي وحده - بفتح اللام الأولى - من {لِتَزُولَ} ورفع اللام الثانية على أن
(12/270)
تكون {إِنْ} مخففة من {إِنْ} المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتا لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة. وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [سورة مريم: 90].
[47] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
تفريع على جميع ما تقدم من قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم: 42]. وهذا محل التسلية. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم نظيره آنفا عند قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، لأن تأخير ما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده، فلذلك نهي عن حسبانه.
وأضيف {مُخْلِفَ} إلى مفعوله الثاني وهو {وَعْدِهِ} وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد، فلذلك قدم {وَعْدِهِ} على {رُسُلَهُ}.
و {رُسُلَهُ} جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازا. وهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بان الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به. فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مرادا من طاهر جمع {رُسُلَهُ}.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} تعليل للنهي عن حسبانه مخلف وعده.
والعزة: القدرة. والمعنى: أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به، فالعزة تنفي الأول وكونه صاحب انتقام ينفي الثاني. وهذه الجملة تذييل أيضا وبها تم الكلام.
[48 - 51] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب، لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال؛ فلك أن تجعل {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} متعلقا بقوله: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} قدم عليه
(12/271)
للاهتمام بوصف ما يحصل فيه، فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل.
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف تقديره: أذكر يوم تبدل الأرض، وتجعل جملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} على هذا تذييلا.
ولك أن تجعله متعلقا بفعل محذوف دل عليه قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. والتقدير: يجزي الله كل نفس بما كسبت يوم تبدل الأرض.. الخ.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل أيضا.
والتبديل: التغيير في شيء إما بتغيير صفاته، كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [سورة الفرقان: 70]، وقولك: بدلت الحلقة خاتما؛ وإما بتغيير ذاته وإزالتها بذات أخرى، كقوله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [سورة النساء: 56]، وقوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سورة سبأ: 16].
وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة: إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي. وحاصل المعنى: استبدال العالم المعهود بعالم جديد.
ومعنى {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} مثل ما ذكر في قوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً}. والوصف ب {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} للرد على المشركين الذين أثبتوا له شركاء وزعموا أنهم يدافعون عن أتباعهم. وضمير {بَرَزُوا} عائد إلى معلوم من السياق، أي وبرز الناس أو برز المشركون.
والتقرين: وضع اثنين في قرن، أي حبل.
والأصفاد: جمع صفاد بوزن كتاب، وهو القيد والغل.
والسرابيل: جمع سربال وهو القميص. وجملة {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} حال من {الْمُجْرِمِينَ}.
والقطران: دهن من تركيب كيمياوي قديم عند البشر يصنعونه من إغلاء شجر الأرز وشجر السرو وشجر الأبهل بضم الهمزة والهاء وبينهما موحدة ساكنة وهو شجر من فصيلة العرعر، ومن شجر العرعر: بأن تقطع الأخشاب وتجعل في قبة مبنية على بلاط سوي
(12/272)
وفي القبة قناة إلى خارج، وتوقد النار حول تلك الأخشاب فتصعد الأبخرة منها ويسري ماء البخار في القناة فتصب في إناء آخر موضوع تحت القناة فيتجمع منه ماء أسود يعلوه زبد خائر أسود، فالماء يعرف بالسائل والزبد يعرف بالبرقي. ويتخذ للتداوي من الجرب للإبل ولغير ذلك مما هو موصوف في كتب الطب وعلم الاقرباذين.
وجعلت سرابيلهم من قطران لأنه شديد الحرارة فيؤلم الجلد الواقع هو عليه، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} مستأنفة، إما لتحقيق أن ذلك واقع كقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [سورة الذاريات: 5, 6]، وإما استئناف ابتدائي. وأخرت إلى آخر الكلام لتقديم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} إذا قدر معمولا لها كما ذكرناه آنفا.
[52] {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الإشارة إلى الكلام السابق في السورة كلها من أين ابتدأته أصبت مراد الإشارة، والأحسن أن يكون للسورة كلها.
والبلاغ: اسم مصدر التبليغ، أي هذا المقدار من القرآن في هذه السورة تبليغ للناس كلهم.
واللام في {لِلنَّاسِ} هي المعروفة بلام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم من يسمع قولا أو ما في معناه.
وعطف {وَلِيُنْذَرُوا} على {بَلاغٌ} عطف على كلام مقدر يدل عليه لفظ {بَلاغٌ} ، إذ ليس في الجملة التي قبله ما يصلح لأن يعطف هذا عليه فإن وجود لام الجر مع وجود واو العطف مانع من جعله عطفا على الخبر، لأن المجرور إذا وقع خبرا عن المبتدأ اتصل به مباشرة دون عطف إذ هو بتقدير كائن أو مستقر، وإنما تعطف الأخبار إذا كانت أوصافا. والتقدير: هذا بلاغ للناس ليستيقظوا من غفلتهم ولينذروا به.
واللام في {وَلِيُنْذَرُوا} لام كي. وقد تقدم قريب من نظم هذه الآية في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} في سورة الأنعام [92].
(12/273)