الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
يؤمنون"، إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين، وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو الأضداد المؤمنين، أي المشركين، وهذا المعنى مقصود على نحو قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [لاحقاف: 12].
وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن، وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة.
[190,189] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [لأعراف: 172] الآية، وليست من القول المأمور به في قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [لأعراف: 188] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلم الرسول بالغيب، وقد تم ذلك، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاما موجها من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم.
ومناسبة الانتقال جريان ذكر اسم الله في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] وضمير الخطاب في {خَلَقَكُمْ} للمشركين من العرب لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر.وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ يخلق أصله وهو آدم وزوجه حواء تمهيدا للمقصود.
وتعليق الفعل باسم الجمع، في مثله، في الاستعمال يقع على وجهين: أحدهما أن يكون المراد الكل المجموعي، أي جملة ما يصدق عليه الضمير، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفس آدم الذي تولد منه جميع البشر.
وثانيهما أن يكون المراد الكل الجميعي أي خلق كل أحد منكم من نفس واحدة، فتكون النفس هي الأب، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] وقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:39].
(8/383)
ولفظ {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وحده يحتمل المعنيين، لأن في كلا الخلقين امتنانا، وفي كليهما اعتبارا واتعاظا.
وقد جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن، وقتادة، ومشى عليه الفخر، والبيضاوي وابن كثير، والاصم، وابن المنير، والجباءي.
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمة ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالا كثيرا ونساء، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء.
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداما في ضميري {تَغَشَّاهَا} وما بعده إلى قوله : {فِيمَا آتَاهُمَا} وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين.
و"من" في قوله: {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ابتدائية.
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل، لأن المقصود جعل الأنثى زوجا للذكر، لا الإخبار عن كون الله خلقها، لأن ذلك قد علم من قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} .
و"من" في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا} للتبعيض، والمراد: من نوعها، وقوله: {مِنْهَا} صفة لـ {زَوْجَهَا} قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بان جعل الزوج وهو الانثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان.
وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} تعليل لما أفادته "من" التبعيضية.
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي: جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها، ففي ذلك منة الإيناس بها، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها، فلو جعل الله التناسل حاصلا بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله، ولو جعله حاصلا بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه، بحيث لا تنصرف إليه إلا للاضطرار بعد التأمل والتردد، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع، وفرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان.
(8/384)
وصيغت هذه الكناية بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة.
وذكر الضمير المرفوع في فعلي {يَسْكُنَ} و"تغشى": باعتبار كون ما صدق المعاد، وهو النفس الواحدة، ذكرا.وأنث الضمير المنصوب في {تَغَشَّاهَا} ، والمرفوع في {حَمَلَتْ} ، ومرت: باعتبار كون ما صدق المعاد وهو زوجها أنثى: وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر.
ووصف الحمل بـ {خَفِيفاً} إدماج ثان، وهو حكاية للواقع، فان الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألما، وليس المراد هنا حملا خاصا، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله، لأن المراد بالزوجين جنسهما، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدئ خفيفا كالعدم، ثم يتزايد رويدا رويدا حتى يثقل، وفي الموطأ قال مالك وكذلك أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] وقال {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
وحقيقة المرور: الاجتياز، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] أي: نسى دعاءنا، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72].
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]
فمعنى {فَمَرَّتْ بِهِ} لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه، وكل هذا حكاية للواقع، وهو إدماج.
والأثقال ثقل الحمل وكلفته، يقال أثقلت الحامل فهي مثقل وأثقل المريض فهو مثقل، والهمزة للصيرورة مثل أورق الشجر، فهو كما يقال أقربت الحامل فهي مقرب إذا قرب أبان وضعها.
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب: لما فيه من التذكير بتلك
(8/385)
الأطوار، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته، وبلطفه بالإنسان.
وظاهر قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} أن كل أبوين يدعوان بذلك، فان حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح، سواء نطقا بذلك أم أضمراه في نفوسهما، فإن مدة الحمل طويلة، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها، وإنما يكون التمني منهم على الله، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وبأنه هو خالق المخلوقات ومكونها، ولا حظ للآلهة إلا في التصرفات في أحوال المخلوقات، كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} في الأنعام [1].
وإن حمل {دَعَوَا} على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر ببالهم الدعاء.
وإجراء صفة {رَبَّهُمَا} المؤذنة بالرفق والإيجاد، للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله، أي يذكر انه باللفظ أو ما يفيد مفاده، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا: ربنا آتانا صالحا.
وجملة {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} مبينة لجملة {دَعَوَا اللَّهَ} .
و {صَالِحاً} وصف جرى على موصوف محذوف، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره: "ذكرا" وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] أي الذكور.
فالدعاء بأن يؤتيا ذكرا، وأن يكون صالحا، أي نافعا: لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق، وينذران: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين.
ومعنى {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} لما أتى من أتاه منهم ولدا صالحا وضمير {جَعَلا} للنفس ألواحدة وزوجها، أي جعل الأبوان المشركان.
و"الشرك" مصدر شركه في كذا، أي جعلا لله شركة، والشركة تقتضي شريكا أي جعلا لله شريكا فيما آتاهما الله، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم، إذ لا يجعل رشيد الرأي شريكا لأحد في ملكه وصنعه بدون حق، فلذلك عرف المشروك فيه بالموصولية فقيل {فِيمَا آتَاهُمَا} دون الإضمار بأن يقال: جعلا له شركا فيه: لما تؤذن به
(8/386)
الصلة من فساد ذلك الجعل، وظلم جاعله، وعدم استحقاق المجعول شريكا لما جعل له، وكفران نعمة ذلك الجاعل، إذ شكر لمن لم يعطه، وكفر من أعطاه، وإخلاف الوعد المؤكد.
وجعل الموصول "ما" دون "من" باعتبار أنه عطية، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل.
وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب، وبخاصة أهل مكة، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام، وبعضهم يحجر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه، وخاصة في وقت الصبا، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده، وبعضهم يسمى ابنه: عبد كذا، مضافا إلى اسم صنم كما سموا تعبده، وبعضهم يسمى ابنه: عبد كذا، مضافا إلى اسم صنم كما سموا عبد العزى، وعبد شمس، وعبد مناة، وعبد ياليل، وعبد ضخم، وكذلك امرؤ القيس، وزيد مناءة، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد، وقد قال أبو سفيان، يوم أحد: اعل هبل وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم لا نخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ذو الشرى ضم.
وجملة {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه الله عن إشراكهم كله: ما ذكر منه آنفا من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم.
وموقع فاء التفريع في قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ} موقع بديع، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلق العجيب، والمنن العظيمة، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك، وليس له شريك بحق، وهو إنشاء تنزيه غير مقصود به مخاطب.
وضمير الجمع في قوله: {يُشْرِكُونَ} عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خلق الله إياهم.
وقد روى والترمذي: وأحمد حديثا عن سمرة بن جندب، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث، والحارث اسم إبليس، قال الترمذي حديث حسن غريب، ووسمه ابن العربي في أحكام القرآن، بالضعف، وتبعه تلميذه القرطبي تفسيرا لها، وليس فيه على ضعفه انه فسر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من سننه.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} لقريش خاصة،
(8/387)
والنفس الواحدة هو قصي بن كلاب تزوج امرأة من خزاعة فلما آتاهما الله أولادا أربعة ذكورا سمى ثلاثة منهم عبد مناف، وعبد العزى، وعبد الدار، وسمى الرابع "عبدا" بدون إضافة وهو الذي يدعى بعبد قصي.
وقرأ نافع، وعاصم في رواية أبي بكر عنه، وأبو جعفر: شركا بكسر الشين وسكون الراء أي اشتراكا مع الله، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به، أي جعلا له الأصنام شركا، وقرأ بقية العشرة شركاء بضم الشين جمع شريك، والقراءتان متحدتان معنى.
وفي جملة {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزنا على ميزان الشعر، من غير أن يكون قصيدة، فان هذه الجملة تدخل في ميزان الرمل.
وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وليس عائد إلى ما قبله، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} إلى قوله: {فِيمَا آتَاهُمَا} .
[192,191] {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.
هذه الآيات الثلاث كلام معترض بين الكلامين المسوقين لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم، مخاطب بها النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون، للتعجيب من عقول المشركين، وفيه تعريض بالرد عليهم لأنه يبلغ مسامعهم.
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإنكار.
وصيغة المضارع في {يُشْرِكُونَ} دالة على تجدد هذا الإشراك منهم.ونفي المضارع في قوله: {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم.
وأصل معنى التجدد، الذي يدل عليه المسند الفعلي، هو حدوث معنى المسند للمسند إليه، وانه ليس مجرد ثبوت وتقرر، فيعلم منه: أنهم لا يخلقون في الاستقبال، وانهم ما خلقوا شيئا في الماضي، لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقررا في الماضي والحال والاستقبال.
وضمير الغيبة في {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يجوز عندي: أن يكون عائدا إلى ما عاد إليه
(8/388)
ضمير {يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]، أي: والمشركون يخلقون، ومعنى الحال زيادة تفظيع التعجيب من حالهم لإشراكهم بالله أصنافا لا تخلق شيئا في حال أن المشركين يخلقون يوما فيوما، أي يتجدد خلقهم، والمشركون يشاهدون الأصنام جاثمة في بيوتها ومواضعها لا تصنع شيئا فصيغة المضارع دالة على الاستمرار بقرينة المقام.
ودلالة المضارع على الاستمرار والتكرر دلالة ناشئة عن معنى التجدد الذي في أصل المسند الفعلي، وهي دلالة من مستتبعات التركيب بحسب القرائن المعينة لها ولا توصف بحقيقة ولا مجاز لذلك، ومعنى تجدد مخلوقيتهم: هو أن الضمير صادق بأمة وجماعة، فالمخلوقية لا تفارقهم لأنها تتجدد آنا فآنا بازدياد المواليد، وتغير أحوال المواجيد، كما قال تعالى: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فتكون جملة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} حالا من ضمير {أَيُشْرِكُونَ} .
والمفسرون أعادوا ضمير {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} على { مَا لا يَخْلُقُ} ، أي الأصنام، ولم يبينوا معنى كون الأصنام مخلوقة وهي صور نحتها الناس، وليست صورها مخلوقة لله، فيتعين أن المراد أن مادتها مخلوقة وهي الحجارة.
وجعلوا إجراء ضمائر العقلاء في قوله: {وَهُمْ} وقوله: {يُخْلَقُونَ} وما بعده على الأصنام وهي جمادات لأنهم نزلوا منزلة العقلاء، بناء على اعتقاد المحجوجين فيهم، ولا يظهر على لهذا التقدير وجه الإتيان بفعل يخلقون بصيغة المضارع لأن هذا الخلق غير متجدد.
والضمير المجرور باللام في {لَهُمْ نَصْراً} عائد إلى المشركين، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت: 17].
وجملة {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} عطف على جملة {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} فتكون صلة ثانية.
والقول في الفعلين من {يَسْتَطِيعُونَ - وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كالقول في {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} .
وتقديم المفعول في {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لان من يقصر في نصر غيره لا يقصر في نصر نفسه لو قدر.
(8/389)
والمعنى: أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم أن رام أحد الاعتداء عليها.
والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وترات، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يّس: 74, 75] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 81, 82]، قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل وقال أيضا لنا العزى ولا عزى لكم وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضا بالبشارة بأن المشركين سيغلبون قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها.
[193] {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} [الأعراف: 191] زيادة في التعجيب من حال المشركين بذكر تصميمهم على الشرك على ما فيه من سخافة العقول ووهن الدليل، بعد ذكر ما هو كاف لتزييفه.
فضمير الخطاب المرفوع في {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} موجه إلى المسلمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وضمير جمع الغائب المنصوب عائد إلى المشركين كما عاد ضمير {أَيُشْرِكُونَ} فبعد أن عجب الله المسلمين من حال أهل الشرك أنبأهم بأنهم لا يقبلون الدعوة إلى الهدى.
ومعنى ذلك انه بالنظر إلى الغالب منهم، وإلا فقد آمن بعضهم بعد حين وتلاحقوا بالإيمان، عدا من ماتوا على الشرك.
وهذا الوجه هو الأليق بقوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] الآية ليكون المخبر عنهم في هذه الآية غير المخبر عنهم في الآية الآتية، لظهر تفاوت الموقع بين {لا يَتَّبِعُوكُمْ} وبين {لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198].
(8/390)
ويجوز أن تكون جملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} إلخ معطوفة على جملة الصلة في قوله: {لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] فيكون ضمير الخطاب في {تَدْعُوهُمْ} خطابا للمشركين الذين كان الحديث عنهم بضمائر الغيبة من قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] إلى هنا، فمقتضى الظاهر أن يقال: وإن يدعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم، فيكون العدول عن طريق الغيبه إلى طريق الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب توجها إليهم بالخطاب لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة.
و {الْهُدَى} على هذا الوجه ما يهتدى إليه، والمقصود من ذكره أنهم لا يستجيبون إذا دعوتموهم إلى ما فيه خيرهم فيعلم أنهم لو دعوهم إلى غير ذلك لكان عدم اتباعهم دعوتهم أولى.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} مؤكدة لجملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} فلذلك فصلت.
و {سَوَاءٌ} اسم للشيء المساوي غيره أي ليس أولى منه في المعنى المسوق له الكلام والهمزة التي بعد {سَوَاءٌ} يقال لها همزة التسوية، وأصلها همزة الاستفهام استعملت في التسوية، كما تقدم عند قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في سورة البقرة [6]، أي سواء دعوتكم إياهم وصمتكم عن الدعوة.
و"على" فيها للاستعلاء المجازي وهي بمعنى العندية أي: سواء عندهم.وإنما جعل الأمران سواء على المخاطبين ولم يجعلا سواء على المدعوين فلم يقل سواء عليهم، وإن كان ذلك أيضا سواء عليهم لان المقصود من الكلام هو تأييس المخاطبين من استجابة المدعوين إلى ما يدعونهم إليه لا الإخبار وان كان المعنيان متلازمين كما أنهما في قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] متلازمان فإن الإنذار وعدمه سواء: على المشركين، وعلى المؤمنين، ولكن الغرض هنالك بيان انعدام انتفاعهم بالهدى.
وهذا هو القانون للتفرقة بين ما يصح أن يسند فيه فعل التسويه إلى جانبين وبين ما يتعين أن يسند فيه إلى جانب واحد إذا كانت التسوية لا تهم إلا جانبا واحدا، كما في قوله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] فانه يتعين أن تجعل التسوية بالنسبة للمخاطبين، ولا يحسن أن يقال سواء علينا وكقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [ابراهيم: 21] فانه يتعين أن تكون التسوية بالنسبة إلى المتكلمين.
(8/391)
ووقع قوله {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} معادل {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} مع اختلاف الأسلوب بين الجملتين بالفعلية والاسمية، فلم يقل أم صمتم، ففي تفسير القرطبي، عن ثعلب: أن ذلك لأنه رأس آية أي لمجرد الرعاية على الفاصلة قال: وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد، أي الفعل والوصف المشتق منه سواء يريد لا تفاوت بينهما في أصل المعنى لأن ما بعد همزة التسوية لما كان في قوة المصدر لم يكن فيه اثر للفرق بين الفعل والاسم إذ التقدير: سواء عليكم دعوتكم إياهم وصمتكم عنهم، فيكون العدول إلى الجملة الاسمية ليس له مقتض من البلاغة بل هما عند البليغ سيان، ولكن العدول إلى الاسمية من مقتضى الفصاحة، لأن الفواصل والأسجاع من أفانين الفصاحة، وفيهما تظهر براعة الكلام إذ يكون فيه إيفاء بحق الفاصلة مع السلامة من التكلف، كما تظهر براعة الشاعر في توفيته بحق القافية إذا سلم مع ذلك من التكلف، قال المرزوقي في ديباجة شرحه على الحماسة والقافية يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه، واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة لمستغن عنها.
والتحقيق أن الجملة الاسمية دلت على ثبوت الوصف المتضمنة، مع عدم تقييد بزمان ولا إفادة تجدد، بخلاف الفعلية، وهو صريح كلام الشيخ في دلائل الإعجاز، والسكاكي في المفتاح، لكن كلام الزمخشري في هذه الآية ينادي على أن جملة {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} دالة على استمرار صمتهم، وكذلك كلام السكاكي في إبداء الفرق بين الجملتين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وفي قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] مع قوله عقبه: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14]، وظاهر كلام الشيرازي في شرح المفتاح أن الثبوت يستلزم الاستمرار، وقال الشارح التفتازاني، في شرح المفتاح: الحق أن الجملة الاسمية التي تكون عدولا عن الفعلية تفيد الدوام الذي هو كالثبوت، وفسر في شرح تلخيص المفتاح الثبوت بمقارنة الدوام وأما السيد في شرح المفتاح، وحاشيته على المطول، فقد جعل الجملة الاسمية قد يقصد بها الدوام إثباتا ونفيا بحسب المقامات.
وعندي أن الجملة الاسمية لا تفيد أكثر من الثبوت المقابل للتجدد، وأما الاستمرار والدوام فهو معنى كنائي لها يحتاج في استفادته إلى القرينة المعينة وهي منفية هنا، فالمعنى: سواء عليكم أدعوتموهم دعوة متجددة أم لازمتم الصمت، وليس المعنى على الدوام، وقد احتاج صاحب الكشاف إلى بيانه بطريقة الدقة بإيراد السؤال والجواب على
(8/392)
عادته، وأياما كان فالعدول عن الجملة الفعلية في معادل التسوية اقتضاه الحال البلاغي خلافا لثعلب.
[194] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب، بقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} [لأعراف: 193] الآية النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافا ابتدائيا انتقل به إلى مخاطبة المشركين، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
والمراد بالذين تدعون من دون الله: الأصنام، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطإ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله، في حين هي ليست أهلا لذلك، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق: أن تكون هذه الجملة بيانا وتعليلا لجملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} [لأعراف: 193] أي لأنهم عباد أي مخلوقون.
و"العبد" اصله المملوك، ضد الحر، كما في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وقد أطلق في اللسان على المخلوق: كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ولذلك يطلق العبيد على الناس، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاق العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق، وجعله صاحب الكشاف إطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين، يعني أن قصارى أمرهم بأن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم، قال ولذلك ابطل أن يكونوا عبادا بقوله عقبه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} [الأعراف: 195] إلى آخره.
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازا بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة.
(8/393)
وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله: {فَادْعُوهُمْ} فانه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} المتضمن إجابة الأصنام إياهم، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لإنهاض حجتهم، فآل ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14].
والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازنى إذا استجدوا لم يسألوا من دعائهم لأية حرب أم بأي مكان.
وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كتابة عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبه الاستجابة.
والأمر باللام في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أمر تعجيز للأصنام، وهو أمر الغائب فان طريق أمر الغائب هو الأمر.
ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلغ الأمر للغائب.
وهذا أيضا كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابة لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها.
وحذف متعلق صادقين لظهوره السياق أي صادقين في نسبة الآلهة للأصنام.
[195] {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ}
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها، والاستفهام إنكاري وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بانتفاء الملك الذي دلت عليه اللام كالتقديم في قول حسان:
له همم لا منتهى لكبارها
(8/394)
ووصف الأرجل ب {يَمْشُونَ} والأيدي ب {يَبْطِشُونَ} والأعين ب {يُبْصِرُونَ} والآذان ب {يَسْمَعُونَ} أما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر، وأما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد.
والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالا متواليا.
والبطش الأخذ باليد بقوة، والإضرار باليد بقوة، وقد جاء مضارعه بالكسر والضم على الغالب.وقراءة الجمهور بالكسر، وقرأ أبو جعفر: بضم الطاء، وهما لغتان.
و {أَمْ} حرف بمعنى أو يختص يعطف الاستفهام، وهي تكون مثل "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء، وللتمييز بين الأشياء، أو الإباحة أي الجمع بينها، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل "أو" التي للتخيير كقوله تعالى {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] أي عينوا أحدهما وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كان بمعنى "أو" التي للإباحة، وتسمى، حينئذ، منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى "بل" الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قدر بعدها استفهام، فالتقدير هنا، بل ألهم أيد يبطشون بها بل ألهم أعين يبصرون بها بل ألهم آذان يسمعون بها.
وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فان الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرآن في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي.
{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} .
إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم أن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على
(8/395)
الكيد للرسول عليه السلام، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصركم علي فتستريحوا مني.
والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإصرار كما تقدم عند قوله تعالى آنفا: {وأملي لهم أن كيدي متين} .
والأمر والنهي في قوله {كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} للتعجيز.
وقوله {فَلا تُنْظِرُونِ} تفريع على الأمر بالكيد، أي فإذا تمكنتم من إضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني.
وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، وأن يكون الأضرار به خفيا، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم.
وحذفت ياء المتكلم من {كِيدُونِ} في حالتي الوقف والوصل، في قراءة الجمهور غير أبي عمرو، وأما {تُنْظِرُونِ} فقرأه الجميع: بحذف الياء إلا يعقوب أثبتها وصلا ووقفا، وحذف ياء المتكلم بعد نون الوقاية جد فصيح.
[197,196] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.
هذا من المأمور بقوله، وفصلت هذه الجملة عن جملة {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} لوقوعها موقع العلة لمضمون التحدي في قوله: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} الآية الذي هو تحقق عجزهم عن كيده، فهذا تعليل لعدم الاكتراث بتألبهم عليه واستنصارهم بشركائهم، ولثقته بأنه منتصر عليهم بما دل عليه الأمر والنهي التعجيزيان.والتأكيد لرد الإنكار.
والولي الناصر والكافي وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14].
وإجراء الصفة لاسم الله بالموصولية لما تدل عليه الصلة من علاقات الولاية، فإن إنزال الكتاب عليه وهو أمي دليل اصطفائه وتوليه.
والتعريف في الكتاب للعهد، أي الكتاب الذي عهدتموه وسمعتموه وعجزتم عن
(8/396)
معارضته وهو القرآن، أي المقدار الذي نزل منه إلى حد نزول هذه الآية.
وجملة {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} معترضة والواو اعتراضية.
ومجيء المسند فعلا مضارعا لقصد الدلالة على استمرار هذا التولي وتجدده وانه سنة إلهية، فكما تولى النبي يتولى المؤمنين أيضا، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم صلى الله عليه وسلم بان ينصرهم الله كما نصر نبيه وأولياءه.
والصالحون هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح.
وجملة: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} عطف على جملة: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} ، وسلوك طريق الموصولية في التعبير عن الأصنام للتنبيه على خطا المخاطبين في دعائهم إياها من دون الله مع ظهور عدم استحقاقها للعبادة، بعجزها عن نصر اتباعها وعن نصر أنفسها والقول في: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كالقول في نظيره السابق آنفا.
وأعيد لأنه هنا خطاب للمشركين، وهنالك حكاية عنهم للنبي والمسلمين، و إبانة المضادة بين شأن ولي المؤمنين وحال أولياء المشركين وليكون الدليل مستقلا في الموضعين مع ما يحصل في تكريره من تأكيد مضمونه.
[198] {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
عطف على جملة {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197] الآية أي قل للمشركين: وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا.
والضمير المرفوع للمشركين، والضمير المنصوب عائد إلى الذين تدعون من دونه، أي الأصنام.
والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو.وذكر {إِلَى الْهُدَى} لتحقيق عدم سماع الأصنام، وعدم إدراكها، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الادإدراك.
ولهذا خولف بين قوله هنا: {لا يَسْمَعُوا} وقوله في الآية السابقة: {لا يَتَّبِعُوكُمْ} لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال.
(8/397)
والخطاب في قوله: {وَتَرَاهُمْ} لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين.
ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدق الناظرة إلى الواقف أمامها قال في الكشاف لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه.
[199] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم، وقد تخلل ذلك كله لتسجيل بمكابرتهم، والتعجيب منهم كيف يركبون رؤوسهم، وكيف يناوون بجانبهم، وكيف يصمون أسماعهم، ويغمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه، ونظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين، ومسلاة للنبي وللمسلمين، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائهم إلى الخير، لا جرم شرع في استئناف غرض جديد، يكون ختاما لهذا الخوض البديع، وهو غرض أمر الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وبأن يسعوهم من عفوهم والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآيات.
والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لاضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلأبيبه، ولذلك يقال في الأسير أخيذ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازا فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فيشبه ذلك التلبس واختياره على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء، فمعنى خذ العفو: عامل به واجعله وصفا ولا تتلبس بضده.وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو:
(8/398)
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
هو لأبي الأسود الدؤلي، وأنه اتبع استعمال القرآن، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزازي أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة.
والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذنبه وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وقوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] في سورة البقرة، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين.
وقد عمت الآية صور العفو كلها: لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيره من معنى الحقيقة والعهد، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله، والرسول أعلم بمقدار ما يخص من هذا العموم وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين، وفي قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ضابط عظيم لمقدار تخصيص الأمر بالعفو.
ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبق أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يفهم السلف من الآية غير العموم ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر ابن قيس من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمرو ومشاورته، فقال عيينة لابن أخيه لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال هيه يا بن الخطاب ما تعطينا الجزل.ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين أن الله قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله وفيه عن عبد الله بن الزبير قال ما أنزل الله ذلك إلا في أخلاق الناس ومن قال أن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم: لأن العفو باب آخر، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح
(8/399)
أصول الفقه.
و {الْعُرْفِ} اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة:
فلا النكر معروف ولا العرف ضايع
فقابل النكر بالعرف، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} في سورة آل عمران [110].
والأمر يشمل النهي عن الضد، فان النهي عن المنكر أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الإيجاز، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا: لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحدا بعد واحد، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فانه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا اله إلا الله ثم قال فان هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات ولو كانت دعوة المشركين مبتدأه بالنهي عن المنكر لنفروا ولمل الداعي لان المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه: لأن شأن الأمر بشيء أن يكون متصفا بمثله، وإلا فقد تعرض للاستخفاف على أن الأمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
على أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمرا للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء.
والتعريف في {الْعُرْفِ} كالتعريف في {الْعَفْوَ} يفيد الاستغراق.
وحذف مفعول الأمر لإفادة عموم المأمورين {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25]، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولا أوليا لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُم} [النساء: 63].
والإعراض: إدارة الوجه عن النظر للشيء، مشتق من العارض وهو الخد، فان الذي
(8/400)
يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الاسراء: 83] وهو، هنا، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة.
و"الجهل" هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ اتخاذ الحجر إلها سفاهة لا تعدلها سفاهة، ثم يشمل كل سفيه رأي.وكذلك فهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفا وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم.
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوا عن اعتداء فتدخل في {خُذِ الْعَفْوَ} ، أو إغضاء عما لا يلائم فتدخل في {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، أو فعل خير واتساما بفضيلة فتدخل في {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، وهذا معنى قول جعفر بن محمد: في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضا فان الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق.
[200] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته.
"إما" هذه هي إن الشرطية اتصلت بها "ما" الزائدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتها، نحو مهما فان أصلها ما، ونحو اذ ما و أينما و أيا نما و حيثما و كيفما فلا جرم أن "ما" إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوة شرطية فلذلك كتبت "إماط هذه على صورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن "ما" والنزغ النخس والغرز، كذا فسره في الكشاف وهو التحقيق، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده قلت وقريب منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشم قال ابن عطية وقلما يستعمل في غير فعل الشيطان {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100].
(8/401)
وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة: شبه حدوث الوسوسة الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة.
والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سول لك الأخذ بالمعاقبة أو سول لك ترك أمرهم بالمعروف غضبا عليهم أو يأسا من هداهم، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به.
والاستعاذة مصدر طلب العوذ فالسين والتاء فيها للطلب، والعوذ الالتجاء إلى شيء يدفع مكروها عن الملتجئ، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بالحرم، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عاذ من أجله.
فأمر الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله، والعوذ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه، فان ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة، فان العصمة من الذنوب حاصلة له، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لإدامتها عليه، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث صحيح مسلم إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعا في زلة تصدر عن أحدهم، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم، ولكنه لا يفارق رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى.روى الدار قطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة" قالوا وأنت يا رسول الله، قال "وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم". روي قوله فأسلم بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية: صار الشيطان المقارن له مسلما، وهي خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي بضم الميم بصيغة المضارع، والهمزة للمتكلم، أي فأنا أسلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفا عليه.وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر فان النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل.
وجملة {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما
(8/402)
هو شأن حرف "إن" إذا جاء في غير مقام دفع الشك أو الإنكار، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه، والمراد.التعليل بلازم هذا الخبر، وهو عوذه مما استعاذه منه، أي: أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم.
و {السميع} : العالم بالمسموعات، وهو مراد منه معناه الكنائي، أي عليم بدعائك مستجيب قابل للدعوة، كقول أبي ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لامره ... سميع فما أدري أرشد طلابها
أي ممتثل، فوصف {سَمِيعٌ} كناية عن وعد بالإجابة.
وإتباعه بوصف {عَلِيمٌ} زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها لأن وصف {سَمِيعٌ} دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عناية الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوه، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكر وإظهار الحاجة إلى الله تعالى.
[201] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان، فتتنزل جملة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا جس بنزغ الشيطان، ولذلك افتتحت بان التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار، كما افتتحت بها سابقتها في قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان والثانية أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكرا الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظ لكيده، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان: لأنه متق، ولأنه يبتهج بمتابعة سيرة سلقه من المتقين كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل: لأن التذكر أعم من الاستعاذة.
ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من
(8/403)
الشيطان وكثر ذلك في أقوال النبي، صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم بالتذكر، كما ادخر لنا يوم الجمعة.
و"التَّقْوَى" تقدم بيانها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] في سورة البقرة، والمراد بهم: الرسل وصالحوا أممهم، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة.
و"المس" حقيقته وضع اليد على الجسم، واستعير للإصابة أو لأدنى الإصابة.
والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان، أطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شبه ذلك الخاطر في مبدإ جولاته في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر.
وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت، العائذ برب البيت، المستأنس للقرى يستأنس، فيطوف بالبيت، ويستأذن، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذر حين أنشد أبياته التي أولها:
أصم أم يسمع رب القبه
وتقدمت في أول سورة الفاتحة، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على الملوك فلذلك قدم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضا، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى:
وتصبح عن غب السرى وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أو لق
وقال تعالى {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19].
وقراءة الجمهور: {طَائِفٌ} ، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب: طيف بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء، والطيف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر.
وفي كلمة "إذا" من قوله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} مع التعبير بفعل {مَسَّهُمْ } الدال على إصابة غير مكينة، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزما ثم عملا.
والتعريف في {الشَّيْطَانِ} يجوز أن يكون تعريف الجنس: أي من الشياطين، ويجوز
(8/404)
أن يكون تعريف العهد والمراد به إبليس باعتبار أن ما يوسوس به جنده وأتباعه، هو صادر عن أمره وسلطانه.
والتذكر استحضار المعلوم السابق، والمراد: تذكروا أوامر الله ووصاياه، كقوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة لمن أمر بها من الأمم الماضية، أن كانت مشروعة لهم، ومن هذه الأمة، فالاقتداء بالذين اتقوا يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات.
والفاء لتقريع الإبصار على التذكر.وأكد معنى فاء التعقيب بـ"إذا" الفجائية الدالة على حصول مضمون جملتها دفعة بدون تريث، أي تذكروا تذكر ذوي عزم فلم تتريث نفوسهم أن تبين لها الحق الوازع عن العمل بالخواطر الشيطانية فابتعدت عنها، وتمسكت بالحق، وعملت بما تذكرت، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم.
وقد استعير الإبصار للاهتداء كما يستعار ضده العمى للضلال، أي: فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان، لان الشيطان أراد إضلالهم فسلموا من ذلك ووصفهم باسم الفاعل دون الفعل للدلالة على أن الإبصار ثابت لهم من قبل، وليس شيئا متجددا، ولذلك اخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات.
[202] {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}.
عطف على جملة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201] عطف الضد على ضده، فان الضدية مناسبة يحسن بها عطف حال الضد على ضده، فلما ذكر شان المتقين في دفعهم طائف الشياطين، ذكر شان أضدادهم من أهل الشرك والضلال، كما وقعت جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] من جملة {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[2,3].
وجعلها الزجاج عطفا على جملة {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:192] أي ويمدونهم في الغي، يريد أن شركاءهم لا ينفعونهم بل يضرونهم بزيادة الغي.والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خرب و وهو ذكر بزيادة الغي.
والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خرب وهو ذكر الحبارى على خربان.
(8/405)
وحقيقة الأخ المشارك في بنوة الأم والأب أو في بنوة أحدهما ويطلق الأخ مجازا على الصديق الودود ومنه ما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقول أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم لما خطب النبي منه عائشة إنما أنا أخوك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي وهي حلال لي" ويطلق الأخ على القرين كقولهم أخو الحرب، وعلى التابع الملازم كقول عبد بني الحسحاس.
أخوكم ومولى خيركم وحليفكم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
أراد أنه عبدهم، وعلى النسب والقرب كقولهم أخو العرب وأخو بني فلان.
فضمير {وَإِخْوَانِهِمْ} عائد إلى غير مذكور في الكلام، إذ لا يصح أن يعود إلى المذكور قبله قريبا: لان الذي ذكر قبله {الذين اتقوا} فلا يصح أن يكون الخبر، وهو {يَمُدُّونَهُمْ فِي} متعلقا بضمير يعود إلى {الْمُتَّقِينَ} ، فتعين أن يتطلب السامع لضمير {وَإِخْوَانِهِمْ} معادا غير ما هو مذكور في الكلام بقربه، فيحتمل أن يكون الضمير عائدا على معلوم من السياق وهم الجماعة المتحدث عنهم في هذه الآيات أعني المشركين المعنيين بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} إلى قوله {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} [الأعراف: 190, 192] فيرد السامع الضمير إلى ما دل عليه السياق بقرينة تقدم نظيره في أصل الكلام، ولهذا قال الزجاج: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:192]، أي وإخوان المشركين، أي أقاربهم ومن هو من قبيلتهم وجماعة دينهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] أي يمد المشركون بعضهم بعضا في الغي ويتعاونون عليه فلا مخلص لهم من الغي.
ويجوز أن يعود الضميران إلى الشيطان المذكور آنفا باعتبار إرادة الجنس أو الأتباع، كما تقدم، فالمعنى وإخوان الشياطين أي أتباعهم كقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الاسراء: 27] أما الضميران المرفوعان في قوله {يَمُدُّونَهُمْ} وقوله: {لا يُقْصِرُونَ} فهما عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {إِخْوَانِهِمْ} أي الشياطين، وإلى هذا مال الجمهور من المفسرين، والمعنى: وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين في الغي، فجملة يمدونهم خبر عن {إِخْوَانُهُمْ} وقد جرى الخبر على غير من هو له ولم يبرز فيه ضمير من هو له حيث كان اللبس مأمونا وهذا كقول يزيد بن منقذ:
وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قزم
(8/406)
فجملة جالوا خبر عن الخيل وضمير جالوا عائد على ما عاد عليه ضمير وهم لا عن الخيل.وقوله فوارس خبر ضمير الجمع.
ويجوز أن يكون المراد من الإخوان الأولياء ويكون الضميران للمشركين أيضا، أي وإخوان المشركين وأوليائهم، فيكون "الإخوان" صادقا بالشياطين كما فسر قتادة، لأنه إذا كان المشركون إخوان الشياطين، كما هو معلوم، كان الشياطين إخوانا للمشركين لأن نسبة الإخوة تقتضي جانبين، وصادقا بعظماء المشركين، فالخبر جار على من هو له، وقد كانت هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات بسبب هذا النظم البديع.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: {يمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم من الإمداد وهو تقوية الشيء بالمدد والنجدة كقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:133]، وقرأه البقية: يمدونهم بفتح الياء وضم الميم من مد الحبل يمده إذا طوله، فيقال: مد له إذا أرخى له كقولهم مد الله في عمرك وقال أبو علي الفارسي في كتاب الحجة عامة ما جاء في التنزيل مما يستحب أمددت على أفعلت كقوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] و {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] و{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36]، وما كان بخلافه يجيء على مددت قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]}.فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر من القراء والوجه في قراءة من قرأ يمدونهم أي بضم الياء انه مثل {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أي هو استعارة تهكمية والقرينة قوله في الغي كما أن القرينة في الآية الأخرى قوله {بِعَذَابٍ} وقد علمت أن وقوع أحد الفعلين أكثر في أحد المعنيين لا يقتضي قصر إطلاقه على ما غلب إطلاقه فيه عند البلغاء وقراءة الجمهور يمدونهم بفتح التحتية تقتضي أن يعدى فعل {يَمُدُّونَهُمْ} إلى المفعول باللام، يقال مد له إلا أنه كثرت تعديته بنفسه على نزع الخافض كقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} وقد تقدم في سورة البقرة[15].
والغي الضلال وقد تقدم آنفا.
و"في" من قوله: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} على قراءة نافع وأبي جعفر استعارة تبعية بتشبيه الغي بمكان المحاربة، وأما على قراءة الجمهور فالمعنى: وإخوانهم يمدون لهم في الغي من مد للبعير في الطول.
أي يطيلون لهم الحبل في الغي، تشبيها لحال أهل الغواية وازديادهم فيها بحال النعم المطال لها الطول في المرعى وهو الغي، وهو تمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه في
(8/407)
أجزاء الهيئة المركبة، وهو أعلى أحوال التمثيل ويقرب من هذا التمثيل قول طرفة:
لعمرك أن الموت ما أخطا الفتى ... لكا لطول المرخى وثنياه باليد
وعليه جرى قولهم: مد الله لفلان في عمره، أو في أجله، أو في حياته والإقصار الإمساك عن الفعل مع قدره الممسك على أن يزيد.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي أي وأعظم من الإمداد لهم في الغي انهم لا يألونهم جهدا في الازدياد من الإغواء، فلذلك تجد إخوانهم اكبر الغاوين.
[203] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}
معطوفة على جملة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم فجر لنا من الأرض ينبوعا وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} في سورة الأنعام[109].وروي هذا المعنى عن مجاهد، والسدي، والكلبي ويجوز أن يراد بآية أية من القرآن يقترحون فيها مدحا لهم ولأصنامهم، كما قال الله عنهم: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] روي عن جابر بن زيد وقتادة: كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبي هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم.
و {لَوْلا} حرف تحضيض مثل "هلا".
والاجتباء الاختيار، والمعنى: هلا اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكما، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيت، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون.
والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} صالح للمعنيين، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد، أي لا اطلب آية غير ما أوحى الله إلي، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن
(8/408)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" ويكون المعنى: إنما انتظر ما يوحى إلي ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقا بالزمان.
{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة، والخطاب للمسلمين.
ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
والإشارة ب {هَذَا بَصَائِرُ} إلى القرآن، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها، وأفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور.
والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة الأنعام [104]، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي، وبين الهداية والتعليم والإرشاد، والبقاء على العصور.
وإنما جمع "البصائر" لأن في القرآن أنواعا من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد، وتسديد الفهم في الدين، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا، والتحذير من مهاوي الخسران.
وأفرد الهدى والرحمة لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائر فالهدى يقارن البصائر والرحمة غاية للبصائر، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقوله {مِنْ رَبِّكُمْ} ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين.
(8/409)
و {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يتنازعه "بصائر" و"هدى" و"رحمة" لأنه إنما ينتفع به المؤمنون فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين، {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خاصة إذ لم يهتدوا، وهو تعريض بان غير المؤمنين ليسوا أهلا للانتفاع به وانهم لهوا عن هديه بطلب خوارق العادات.
[204] {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
يؤذن العطف بان الخطاب بالأمر في قوله: {فَاسْتَمِعُوا - وَأَنْصِتُوا} وفي قوله: {لَعَلَّكُمْ} تابع للخطاب في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} الخ، فقوله {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} من جملة ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بان يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحا أو تعريضا بان لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة، وأنه بصائر وهدى ورحمة، لمن يؤمن به ولا يعاند، وقد علم من أحوال المشركين انهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
وذكر اسم القرآن إظهار في مقام الإضمار، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار: التنويه بهذا الأمر، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهار في مقام الإضمار استقريته من كلام البلغاء.
والاستماع الإصغاء وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد لا تسمعوا.مع زيادة معنى.وذلك مقابل قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملا في معناه المجازي، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفا في قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] ويكون الإنصات جامعا لمعنى الإصغاء وترك اللغو.
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ، وللمسلمين على وجه الإرشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله: {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معا، أم أريد المسلمون تصريحا والمشركون تعريضا، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته.
(8/410)
فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به، ولما جاء به من إصلاح النفوس، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين.
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى.وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحدا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها: فمنهم من خصها بسبب رأوا انه سبب نزولها، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر، وروى بعضهم أن رجلا من الأنصار صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام.وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه، عند من يخصص به، وهذا تأويل ضعيف لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآي التي معها، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم، ولكنهم تأولوه على أمر الندب، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية، ولو قالوا المراد من قوله قرئ قراءة خاصة وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم، لكان أحسن تأويلا.
وفي تفسير القرطبي عن سعيد ابن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جوابا لهم {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
على أن ما تقدم من الإخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة.أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة
(8/411)
المأموم إذا كان الإمام مسرا بالقراءة فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات.
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما "قرئ" و"استمعوا" والفعل لا عموم له في الإثبات.
ومعنى الشرط المستفاد من "إذا" يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات.وعموم الأزمان أو الأحوال لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين.
[205] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}.
إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة، والمناسبة في هذا الانتقال إن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها، فلما فزع الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره، وهو التذكر الخاص به، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له وفي أوقات النهار المختلفة، فجملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} معطوفة على الجمل السابقة من قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف: 196] إلى هنا.
والنفس اسم للقوة التي بها الحياة، فهي مرادفة الروح، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] وقد مضى في سورة المائدة ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء، ومنه قوله في الحديث القدسي في صحيح البخاري "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم" فقابل قوله في نفسه بقوله في ملإ.
والمعنى: اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس.
والذكر حقيقة في ذكر اللسان، وهو المراد هنا، ويعضده قوله {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وذلك يشمل قراءة القرآن وغير القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك.
(8/412)
و"التضرع" التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مرادا به معناه الأصلي والكنائي، ولذلك قوبل بالخفية في قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} في أوائل هذه السورة [55] وقد تقدم.
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة، مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسيا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يشعر بالمرء من يخافه، فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعا وإعلانا وخيفة وإسرارا.
وقوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر.
والغدو اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار.
والآصال جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب.
والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] على أنها تدخل في عموم قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} .
فدل قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولأحد للغفلة، فإنها تحدد بحال الرسول، صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه، فان له أوقاتا يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جبلية كالطعام.
وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للامة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم.
وقد تقدم أن نحو {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو: ولا تغفل، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبين للحالة المنهي عنها.
(8/413)
[206] {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.
تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر، ولذلك صدرت {إِنَّ} التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر، لا لرد تردد أو إنكار، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة، والمعنى: الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات.
والمراد ب {الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} الملائكة، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر: أن مرتبة الرسالة تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال: اذكر ربك لان الذكر هو شأن قبيلك، كقول ابن دارة سالم بن مسافع:
فإن تتقوا شرا فمثلكم اتقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل
فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة افضل من الرسل، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبق في هذا المعنى لكونه حاصلا منهم بالجبلة فهم مثل فيه، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة، كان سموهم إلى تلك المرتبة أعجب، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر.
ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية: ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم.
و {عِنْدَ} مستعمل مجازا في رفعة المقدار، والحظوة الإلهية.
وقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة والمقصود هو قوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ} أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر.
(8/414)
واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره، وهذا أيضا تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره، والمضارع يفيد الاستمرار أيضا.
وهنا موضع سجود من سجود القرآن، وهو أولها في ترتيب الصحف، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن ببادر بالتشبه بهم تحقيقا للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله.
وأيضا جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203] وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون الله شرع الله عند هذه الآية سجودا ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [صّ: 24] أن الله تعالى قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به.
(8/415)
المجلد التاسع
سورة الأنفال
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى الواحدي في "أسباب النزول" عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اذهب القيض" بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم" فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال.
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر" فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي "الإتقان" أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: "سورة الأنفال" قال "تلك سورة بدر".
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر: قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
(9/5)
فِيكُمْ ضَعْفاً} إلى {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} - إلى - {لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64, 65] نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الأنفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة: من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران.
وفي "تفسير ابن عطية "عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} من هذه السورة[33] قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بمكة إثر قولهم: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ونزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة: ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
(9/6)
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وان ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بان جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
(9/7)
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.
[1] {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
افتتاح السورة ب {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم {الأَنْفَالِ} وكان ذلك يوم بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهما في هذا الشأن، وقد تكررت الحوادث يومئذ: ففي "صحيح مسلم"، و"جامع الترمذي" عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر أصبت سيفا لسعيد بن العاصي فأتيت به النبي فقلت نفلنيه فقال "ضعه في القبض" ، ثم قلت نفلنيه فقال "ضعه حيث أخذته"، ثم قلت نفلنيه فقال "ضعه من حيث أخذته" ، فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} " وفي "أسباب النزول" للواحدي، و"سيرة ابن إسحاق" عن عبادة بن الصامت، أنه سئل عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفتا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء، وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال لما كان يوم بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم لكنا ردءا لكم واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ}.
والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدي ب"عن" فهو طلب معرفة المجرور ب"عن" وإذا عدي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا: يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات والمراد حالها بحسب القرينة مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمنا في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها.
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد.
ولذلك كان قوله: {يَسْأَلُونَكَ} مؤذنا بتنازع بين الجيشين في استحقاق الأنفال، وقد
(9/8)
كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية.
و"الأنفال" جمع نفل - بالتحريك - والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لان المقصود الأهم من الحرب هو إبادة الأعداء، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائم مشهور قال عنترة:
إنا إذا احمرا الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال
وقد قال في القصيدة الأخرى:
أعف عند المغنم
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حجر الأسدي وهو جاهلي:
نكصتم على اعقابكم ثم جئتمو ... ترجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله وهذا صنف من المغانم.
فالمغانم، إذن، تنقسم إلى: ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يعرف قاتله. فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقا، وأن تكون بمعنى ما يزاد للمقاتل على حقه من المغنم فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالا عن تنفيل بمعنى زيادة وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل، فيبقى النفل في معنى الزيادة، ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعني من الأنفال في هذه الآية وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال: الفرس من النفل والدرع من النفل كما في "الموطأ"، وروي عنه أنه
(9/9)
قال: والسلب من النفل كما في "كتاب أبي عبيد" وغيره.
وقد أطلقوا النفل أيضا على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يعرف من غنمه، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة الحشر[6, 7] بقوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} - إلى قوله -: {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وذلك مثل أموال بني النضير التي سلموها قبل القتال وفروا.
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء: المغنم، والفيء وهما نوعان والنفل وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة، فلما استقر أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين "أي لمعنيين مختلفين" غنيمة وفيئا يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم.
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخمس لمن يرى إعطاءه إياه، ممن لم يغنم ذلك بقتال.
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور: المراد بها ما كان زائدا على المغنم، فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل، أو لخصلة عظيمة يأتي بها، أو للتحريض على النكاية في العدو. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" وقد جعلها القرآن لله وللرسول، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال مالك في "الموطأ" ولم يبلغنا أن رسول الله قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده "يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين".
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما قال القرطبي وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا.
(9/10)
وعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة وعطاء: أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنا ثم مطلقا. وجعلوا حكمها هنا أنها جعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه، بلا تحديد ولا اطراد، وان ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش، فجعل لله وللرسول المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ، فلذلك قال مالك والجمهور: لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك: "إعطاء السلب من التنفيل"، وقال مجاهد: الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى.
واللام في قوله: {لِلَّهِ} على القول الأول في معنى الأنفال: لام الملك، لأن النفل لا يحسب من الغنائم، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزلة مال لا يعرف مستحقه، فيقال هو ملك لله ولرسوله، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في "الترمذي" إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف - معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم - ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك".
وأما على القول الثاني، الجامع لجميع المغانم، فاللام للاختصاص، أي: الأنفال تختص بالله والرسول، أي حكمها وصرفها، فهي بمنزلة "إلى". تقول هذا لك أي إلى حكمك مردود، وان أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خمست بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية.
وعطف "وللرسول" على اسم الله لان المقصود: الأنفال للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقا للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله الخمس، وجعل أربعة الأخماس حقا للمجاهدين. يعني وبقي حكم الفيء بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين: أولاهما: أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توفيقا أو تفويضا. والثانية: لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقا لله كان التصرف فيه لخلفائه.
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافا ناشئا عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الإطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة فقال
(9/11)
مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب: النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم فأنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعا بين هذه الآية وبين قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحن في نفوس الجيش وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنقيل بعض ا لجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه كما سيأتي في آية المغانم لذلك قال مالك لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : "من قتل قتيلا فله سلبه" خصوصيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله قال مالك في "الموطأ" ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما.
وإنما اختلفت الفقهاء: في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه، وقال سعيد بن المسيب، وأبو حنيفة والشافعي: النفل من خمس الخمس. والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سماه القرآن أم مختلط، وسيجيء ذلك في آية المغانم. والحجة لمالك حديث ابن عمر في "الموطأ" أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونقلوا بعيرا بعيرا فأعطي النفل جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] بآية {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية.
وتفريع {فَاتَّقُوا اللَّهَ} على جملة {الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} لأن في تلك الجملة رفعا للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله، فقد وقع ذلك على كراهية كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها، تبعا لعوائدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها، وهذا كله من المقول.
(9/12)
وقدم الأمر بالتقوى لأنها جامع الطاعات.
وعطف الأمر بإصلاح ذات البين لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت: "اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا" فأمرهم الله بالتصافح، وختم بالأمر بالطاعة، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65].
والإصلاح: جعل الشيء صالحا، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم.
و{ذَاتَ} يجوز أن تكون مؤنث "ذو" الذي هو بمعني صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو. ووقع في كلامهم مضافا إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما، يجرونه مجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} في سورة الكهف[18]، على تأويل جهة وتقول: لقيته ذات ليلة، ولقيته ذات صباح، على تأويل المقدر ساعة أو وقت، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال، ويجوز أن تكون "ذات" أصلية الألف كما يقال: أنا أعرف ذات فلان، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته، كذا فسرها الزجاج والزمخشري، فهو كقول ابن رواحة:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمة مقحمة لتحقيق الحقيقة، جعلت مقدمة، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم جاءني بذاته ومنه يقولون: ذات اليمين وذات الشمال، تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
فالمعنى: أصلحوا بينكم، ولذا ف"ذات" مفعول به على أن "بين" في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية، وجعل اسما متصرفا، كما قرئ {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] برفع {بَيْنَكُمْ} في قراءة جماعة. فأضيفت إليه ذات فصار المعنى: أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحا غير فاسد، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل {أَصْلِحُوا} منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصدا للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير: وأوجدوا الصلاح بينكم كما قرأنا {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم.
واعلم أني لم أقف على استعمال "ذات بين" في كلام العرب فأحسب أنها من
(9/13)
مبتكرات القرآن.
وجواب شرط {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} إلى أخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعا إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إن كنتم مؤمنين لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أعل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال.
وليس الإتيان في الشرط {بِأَنَّ} تعريضا بضعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورهم، بناء على أن شأن {إن} عدم الجرم بوقوع الشرط بخلاف إذا على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب {إن} في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صوره ومظاهره، ولذلك عقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] كما سيأتي.
[2] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد {إِنَّمَا} من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من {إِنَّمَا} أن من لم يجل قلبه إذا ذكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيمانا مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفا بصفة الإيمان، فهذا ظاهر مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لا ينقضه إلا خلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 4] فتعين أن القصر ادعاءي بتنزيل الإيمان الذي عدم الواجبات العظيمة منزلة العدم،
(9/14)
وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية: شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بذكر لازمه وهو حصر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويئول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملون الإيمان، فالتعريف في {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف "أل" فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال.
وقد تكون جملة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال سائل يثيره الشرط وجزاؤه المقدر في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمترى في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافين صح تحميل الآية إياهما توفيرا لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يسال عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استئنافا بيانيا.
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وان اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتبارات البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحققه حق تحققه.
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فانه لما كان الكلام واردا مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها.
والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لابد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه.
وقد جاء فعل وجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فرح، وصدي، وهوي، وروي.
(9/15)
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين.
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالا بديعا ليناسب معنى الوجل، فذكر الله يكون: بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كمل المؤمنين، لأنه يحصل معه استحضار جلال الله وشدة باسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقع حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه".
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم بدر وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله، والوجل حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتمادا على استلزام الوجل إياه لأن من الوجل أن يجل، من فوات الثواب أو نقصانه.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا}
التلاوة: القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة[102].
وآيات الله القرآن، سميت آيات لأن وحيها إلى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وعجز قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات، ويسمى القرآن كله آية أيضا باعتبار دلالة جملته على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه. وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان.
فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان، إذ تلك الزيادة كيفية نفسية
(9/16)
عارضة، لليقين لا يعرف فاعل انقداحها في العقل، وغاية ما يعرف أن يقال: ازداد إيمان فلان، أو ازداد فلان إيمانا، بطريق ما يدل على المطاوعة، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العرف، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي الفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل.
والإيمان: تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء، تصديقا جازما لا يحتمل نقيض تلك النسبة، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعا في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجود صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية، والمقتضية مجيء رسول الله مخبرا عن الله الذي أرسله وثبوت صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها: مثل الصدق فيما يبلغ عن الله، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى.
ومعنى زيادة الإيمان: قوة اليقين في نفس الموقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفع الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة. ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصا لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الإيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله: "باب زيادة الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيمانا، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بين. ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمة إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمان يزيد ولا ينقص، وهي عبارة كاملة، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائع الإيمان، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم "الإسلام" كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا
(9/17)
في نظائرها من آيات الكتاب وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول: الإيمان يزيد وينقص، ولعل الذي ألجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة. وهذا مذهب أشار إليه البخاري في قوله "باب من قال إن الإيمان هو العمل". وقال الشيخ ابن أبي زيد "وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة"، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر ألفاظ القرآن والسنة، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص.
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان: أن دقائق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقينا بأنها من عند الله، فتزيده استدلالا على ما في نفسه، وذلك يقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي.
وحظ المقام المتعلق بأحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ بينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم. وفي الحديث "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"1" وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ـــــــ
"1" ذكره البخاري تعليقا فقال: ويذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(9/18)
صلة ثالثة ل {الْمُؤْمِنُونَ} أو حال منه، وجعلت فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك منهم، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيرا مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بأحسن منه من الحلال المأذون فيه. وتقدم تفسير التوكل عند قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[159].
ومناسبة هذا الوصف للغرض: انهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكل على الله في تعويضه بأحسن منه.
وتقديم المجرور في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [مريم: 81] فيكون الكلام مدحا للمؤمنين، وتعريضا بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوتوه فقد أضاعوا خيرا من الدنيا.
[3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وصفهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاء بإعادة الموصول، كما أعيد في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة البقرة[4]، وذلك للدلالة على الانتقال، في وصفهم، إلى غرض آخر غير الغرض الذي اجتلب الموصول الأول لأجله، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان: وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها، ولكنه مجرد المدح، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3]. وجيء بالفعلين المضارعين في {يُقِيمُونَ} و {يُنْفِقُونَ} للدلالة على تكرر ذلك وتجدده.
واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة، التي موصولها خبر عن مبتدأ أن تعتبر خبرا بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة، ومقتضى الاستعمال في الأخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبرا مستقلا عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى،
(9/19)
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيلة إلى معنى قصر الإيمان الكامل على صاحب كل صلة من هذه الصلات، وعلى صاحب الخبرين، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه فإن أدلة قطعية من أصول الذين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل {الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] على إرادة أصحاب الإيمان الكامل.
[4] {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
جملة مؤكدة لمضمون جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} [الأنفال: 2] إلى آخرها ولذلك فصلت.
وعرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات، فكان المخبر عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم.
وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان.
والحق أصله مصدر حق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
ويطلق كثيرا، على الكامل في نوعه، الذي لا سترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به: أنت ابني حقا، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشده ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة وآثارها، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع.
ولكل صيغة قصر: منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا أن الذين جمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقا، ومفهومها أن من انتفى عنه أحد مدلولات تلك الصلات لم
(9/20)
يكن مؤمنا حقا أي لم يكن مؤمنا كاملا، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنا كاملا، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا: أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملا.
وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمدا رسول الله إلى الناس كافة، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجرد صنع اليد، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لابد أن يكون بحيث إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا، فهذا تحقيق معنى القصرين.
ومما يزيد هذا المعنى وضوحا ما روى الطبراني، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت مؤمنا حقا قال اعلم ما تقول -أو أنظر ما تقول- إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أسمع عواء أهل النار، فقال له يا حارث عرفت فالزم ثلاثا وهو حديث ضعيف وأن كثرت طرقه.
فقول الحارث "أصبحت مؤمنا حقا" ظاهر في أنه أراد منه مؤمنا كاملا وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك" ظاهر في أنه سأله عن ما كان به إيمانه كاملا ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين.
ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلا سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمؤمن أنت فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 2-4] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا؟
وانتصب {حَقّاً} على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه {الْمُؤْمِنُونَ} أي إيمانا حقا، أو على أنه مؤكد لمضمون جملة {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة،
(9/21)
وليس تأكيدا لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصرا حقيقيا، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتمادا على القرائن، والأحسن أن يكون منصوبا على الحال من ضمير {هُمُ} فيكون المصدر مؤولا باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالا مثل {أن تأتيهم الساعة بغتة} ، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} في سورة النساء[122].
وجملة: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} خبر ثان عن اسم الإشارة.
واللام للاستحقاق، أي درجات مستحقة لهم، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع منقطع عن الأرض، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]، وفي غير موضع، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس، لأن الدنو من العلو عرفا يكون بالصعود إليه في الدرجات، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} قرينة المجاز.
ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] والقرينة هي.
وقد دل قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا، وفي الآخرة بالنعيم العظيم.
وتنوين {دَرَجَاتٌ} للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة.
والرزق اسم لما يرزق أي يعطى للانتفاع به، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق، وفعله كرم بضم العين، والكرم في كل شيء الصفات المحمودة في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود، والوصف منه كريم، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجاز عقلي، أي كريم رازقه، فان الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب.
[5, 6] {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.
تشبيه حال بحال، وهو متصل بما قبله، إما بتقدير مبتدأ محذوف، هو اسم إشارة
(9/22)
لما ذكر قبله، تقديره: هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو وخير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله: {الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] إذ التقدير: استقرت لله والرسول استقرارا كما أخرجك ربك، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر، ثم نوالهم النصر والغنيمة في نهاية الأمر، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيه بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبه بها، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] كما تقدم، مع قوله في هذه الجملة {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.
فجملة: {وَإِنَّ فَرِيقاً} في موضع الحال والعامل فيها {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} ، هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الاظهر، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل، وهي لا تخلو من تكلف، وبعضها متحد المعنى، وبعضها مختلفه، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه.
والمقصود من هذا الأسلوب: الانتقال إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
و {مَا} مصدرية. والإخراج: أما مراد به الأمر بالخروج للغزو، وأما تقدير الخروج لهم وتيسيره.
والخروج مفارقة المنزل والبلد إلى حين الرجوع إلى المكان الذي خرج منه، أو إلى حين البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه.
والإخراج من البيت: هو الإخراج المعين الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم غازيا إلى بدر.
والباء في {بِالْحَقِّ} للمصاحبة أي إخراجا مصاحبا للحق، والحق هنا الصواب، لما تقدم آنفا من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه.
والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمرا موافقا للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج.
وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمين إلى بدر، فكان بينهم وبين
(9/23)
المشركين يوم بدر، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عير لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام، راجعة إلى مكة، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلا من قريش، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعض، وهم الذين كرهوا الخروج، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثاقلوا ومن لم يحضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حربا وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخا يستصرخ قريشا لحماية العير، فتجهز منهم جيش، ولما بلغ المسلمون وادي ذفران بلغهم خروج قريش لتلقي العير، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نرد بدرا "وكان بدر موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام" فنقيم ثلاثا، فننحر الجزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمدا لم يصب العير، وأنا قد أعضضناه، فسار المشركون إلى بدر وتنبكت عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعلم المسلمين، فاستشارهم وقال: "العير أحب إليكم أم النفير" ، فقال أكثرهم العير أحب الينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين: عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضب على وجهه، فتكلم أبو بكر، وعمر، والمقداد بن الأسود، وسعد ابن عبادة، وأكثر الأنصار، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى الله عليه وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا، وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلام رأسه.
فهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير، وأن ليس دون العير قتال، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى "بَرْك الغماد" بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيدا جدا عن مكة لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا
(9/24)
علي أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يومئذ "إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فانك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا" فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصره إلا ممن دهمه بالمدينة، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي قال له سعد بن معاذ " والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا أنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله " فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين" - أي ولم يخص وعد النصر، بتلقي العير فقط - فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية، وقوله و {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته، {مَا} المصدرية، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة، والذين اختاروا العير دون النفير حين استشارة وادي ذفران، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتدا في الزمان، فجملة الحال من قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} حال مقارنة لعاملها وهو {أَخْرَجَكَ}.
وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويض إليه، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو. ويستلزم هذا التنزيل التعجيب من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم.
وجملة {يُجَادِلُونَكَ} حال من {فَرِيقاً} فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع. وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا} من قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] إذ قال {يُجَادِلُنَا} ولم يقل "جادلنا".
وقوله: {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص، وهو الخروج
(9/25)
للنفير وترك العير، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر، وهذا التبين هو بين في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فانه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه، فانهم كانوا عربا أذكياء، وكانوا مؤمنين أصفياء، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بان الله ناصرهم على إحدى الطائفتين: طائفة العير أو طائفة النفير، فنصرهم إذن مضمون ثم أخبرهم بأن العير قد أخطاتهم، وقد بقي النفير، فكان بينا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه، ثم رأوا كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لما اختاروا العير، فكان ذلك كافيا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوض شوكتهم بنصر بدر، فذلك معنى تبين الحق أي رجحان دليله في ذاته، ومن خفي عليه هذا التبيين من المؤمنين لم يعذره الله في خفائه عليه.
ومن هذه الآية يؤخذكم مؤاخذة المجتهد إذا قصر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعد أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لك أو لأخيك أو للذئب .فلما سأله بعد ذلك عن ضالة الإبل تمعر وجهه وقال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها وروى مالك، في "الموطأ"، أن أبا هريرة مر بقوم محرمين فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناسا أحلة يأكلونه فأتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بم أفتيتهم قال أفتيتهم بأكله فقال: "لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك".
وجملة: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} في موضع الحال من الضمير المرفوع في {يُجَادِلُونَكَ} أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سبع في قوله:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
وكما تخيل، تأبط شرا الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر
فقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} تشبيه لحالهم، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت.
(9/26)
وهذا تفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العدد، وهم في قلة، إرجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفا بالتقييد.
وجملة: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حال من ضمير {يُسَاقُونَ} ومفعول {يَنْظُرُونَ} محذوف دل عليه قوله: {إِلَى الْمَوْتِ} أي: وهم ينظرون الموت، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظورا إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يراه، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن علبة:
يرى غمرات الموت ثم يزورها
وفي عكسه في المسرة قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
[7, 8] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
الأحسن أن تكون {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} معطوفا على {كَمَا أَخْرَجَكَ} [الأنفال: 5] عطف المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبها به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى: كإخراجك الله من بيتك وكوقت يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذ أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتؤول بمصدر، والتقدير: وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين، ف {إِذْ} اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه، وجعل صاحب "الكشاف" {إِذْ} مفعولا لفعل "اذكر" محذوف شان {إِذْ} الواقعة في مفتتح القصص، فيكون عطف جملة الأمر المقدر على جملة {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} [الأنفال: 1] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطإ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم.
و"الطائفة" الجماعة من الناس، وتقدم عند قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء [102].
(9/27)
وجملة: {أَنَّهَا لَكُمْ} في تأويل مصدر، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين، أي: يعدكم مصير إحدى الطائفتين لكم، أي كونها معطاة لكم، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة.
واللام للملك وهو هنا ملك عرفي، كما يقولون كان يوم كذا لبني فلان على بني فلان، فيعرف أنه كان لهم غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة.
{وَتَوَدُّونَ} إما عطف على {يَعِدُكُمُ} أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم، وإما في موضع الحال والواو واو الحال، أي بعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} مجرور الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] فهو مما شبه به حال سؤالهم عن الأنفال سؤالا مشوبا بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها.
و"الود" المحبة و {ذَاتِ الشَّوْكَةِ} صاحبة الشوكة ووقع {ذَاتِ} صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال.
و {الشَّوْكَةِ} أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبر، فإذا نزغت جلد الإنسان أدمته أو آلمته، وإذا علقت بثوب أمسكته، وذلك مثل ما في ورق العرفج، ويقال هذه شجرة شائكة، ومن الكناية عن ظهور الشر قولهم: "إن العوسج قد أورق"، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها.
وشاع استعارة الشوكة للبأس، يقال: فلان ذو شوكة، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للباس في قولهم: أبدى قرنه، والناب أيضا في قولهم: كشر عن نابه، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم.
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين، أي إما العير وإما النفير وعدا معلقا على اختيارهم إحداهما، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعير أم يقصدون نفير قريش، فقال الناس: إنما خرجنا لأجل
(9/28)
العير، وراموا اللحاق بالعير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش، وكانت العير لا تشتمل إلا على أربعين رجلا وكان النفير فيما قيل يشمل على ألف رجل مسلح، فذلك معنى قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي تودون غنيمة بدون حرب، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية أمر الله بها نبيه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة.
وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} عطف على جملة {وَتَوَدُّونَ} على احتمالي أن واوها للعطف أو للحال، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يدودونه ليس فيه كمال مصلحتهم، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فانهم لم يطلعوا على الأصح بهم. فهذا تلطف من الله بهم.
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات. فهذا كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] أي يسر بكم.
ومعنى {يُحِقَّ الْحَقَّ}: يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال: حق الشيء، إذا ثبت، قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19].
والمراد بالحق، هنا: دين الحق، وهو الإسلام، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] الآية.
وإحقاقه باستئصال معانديه، فأنتم تريدون نفعا قليلا عاجلا، وأراد الله نفعا عظيما في العاجل والأجل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وفي قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} جناس الاشتقاق. وفيه دلالة على أن أصل مادة الحق هو فعل حق. وأن أصل مادة الباطل هي فعل بطل. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم للذين قالوا في التشهد السلام على الله فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله هو السلام.
وكلمات الله ما يدل على مراده وعلى كلامه النفسي، حقيقه من أقوال لفظية يخلقها خلقا غير متعارف ليفهمها أحد البشر ويبلغها عن الله، مثل القرآن، أو مجازا من أدلة غير لفظية، مثل ما يخاطب به الملائكة المحكي في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وفسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(9/29)
إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال، الحق وهو العلي الكبير.
والجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم، فقوله: {بِكَلِمَاتِهِ} يعم أنواع الكلام الذي يوحي به الله الدال على إرادته تثبيت الحق، مثل آيات القرآن المنزلة في قتال الكفار وما أمر به الملائكة من نصرتهم المسلمين يوم بدر.
والباء في {بِكَلِمَاتِهِ} للسببية، وذكر هذا القيد للتنويه بإحقاق هذا الحق وبيان أنه مما أراد الله ويسره وبينه للناس من الأمر، ليقوم كل فريق من المأمورين بما هو حظه من بعض تلك الأوامر، وللتنبيه على أن ذلك واقع لا محالة لأن كلمات الله لا تختلف كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]، ولمدح هذا الإحقاق بأنه حصل بسبب كلمات الله.
وقطع دابر الشيء إزالة الشيء كله إزالة تأتي على آخر فرد منه يكون في مؤخرته من ورائه وتقدم في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة الأنعام [45].
والمعنى: أردتم الغنيمة وأراد الله إظهار أمركم وخضد شوكة عدوكم وان كان ذلك يحرمكم الغنى العارض فأن أمنكم واطمئنان بالكم خير لكم وأنتم تحسبون أن لا تستطيعوا هزيمة عدوكم.
واللام في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} لام التعليل، وهي متعلقة بقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطل.
وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} وشان العلة أن تكون مخالفة للمعلل، ولو في الجملة، إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل، لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلا إلا وهو مراد له، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك لفعل كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذات الفعل، لا لغرض آخر زائد عليه، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بنفس المعلل.
والحصر هنا من مستتبعات التركيب، وليس من دلالة اللفظ، فافهمه فإنه دقيق وقد
(9/30)
وقعت فيه غفلات.
ويجوز أن يكون الاختلاف بين المعلل والعلة بالعموم والخصوص أي يريد الله أن يحق الحق في هذه الحادثة لأنه يريد إحقاق الحق عموما.
وأما قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فهو ضد معنى قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} وهو من لوازم معنى ليحق الحق، لأنه إذا حصل الحق ذهب الباطل كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، ولما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر. ومن لطائف عبد الله بن عباس أنه قال لعمر بن أبي ربيعة كم سنك فقال ابن أبي ربيعة ولدت يوم مات عمر بن الخطاب فقال ابن عباس: " أي حق رفع وأي باطل وضع" أي في ذلك اليوم، ففائدة قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} التصريح بأن الله لا يرضى بالباطل، فكان ذكر بعد قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} بمنزلة التوكيد لقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} لأن ثبوت الشيء قد يؤكد بنفي ضده كقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140].
ويجيء في قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} من معنى الكلام، ومن جناس الاشتقاق، ما جاء في قوله: {أن يحق الحق} ثم في مقابلة قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} - بقوله -: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} محسن الطباق.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} شرط اتصالي. و {لَوْ} اتصالية تدل على المبالغة في الأحوال، وهو عطف على {يُرِيدُ اللَّهُ}، أو على {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يريد ذلك لذلك لا لغيره، ولا يصد مراده ما للمعاندين من قوة بأن يكرهه المجرمون وهم المشركون.
والكراهية هنا كناية عن لوازمها، وهي الاستعداد لمقاومة المراد من تلك الإرادة، فان المشركين، بكثرة عددهم، يريدون إحقاق الباطل، وإرادة الله تنفذ بالرغم على كراهية المجرمين، وأما مجرد الكراهة فليس صالحا أن يكون غاية للمبالغة في أحوال نفوذ مراد الله تعالى إحقاق الحق: لأنه إحساس قاصر على صاحبه، ولكنه إذا بعثه على مدافعة الأمر المكروه كانت أسباب المدافعة هي الغاية لنفوذ الأمر المكروه على الكاره.
وتقدم الكلام على {لَوْ} الاتصالية عند قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91] وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} في سورة البقرة [170].
(9/31)
[9] {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.
يتعلق ظرف {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بفعل {يُرِيدُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمان استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ربهم على عدوهم، حين لقائهم مع عدوهم يوم بدر، فكانت استجابة لله لهم بإمدادهم بالملائكة، من مظاهر إرادته تحقيق الحق فكانت الاستغاثة يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يحق الحق حصلت في المدينة يوم وعدهم الله إحدى الطائفتين، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة، وبين وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدة أيام، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها، لأنه اقتران ببعضها في امتدادها، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه.
وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال نظر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام [لا]"1" تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم ألتزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدة ربك فانه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة. وعلى هذه الرواية يكون ضمير {تَسْتَغِيثُونَ} مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم، ولأنه كان معلنا بدعائه وهو يسمعونه، فهم بحال من يدعون، وقد جاء في "السيرة" أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملا لهم.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة.
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي وعدكم بالإغاثة.
ـــــــ
"1 " زيادة من "سنن الترمذي" 5/ 269. كتاب "تفسير القرآن" "9" باب, ومن سورة الأنفال, رقم "3081".
(9/32)
وفعل استجاب يدل على قبول الطلب، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب وقوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في "الكشاف" بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه {اسْتَجَابَ} فنصب محله.
وأرى أن حرف "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد "ما" فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد. فمن البين أن "أن" المفتوحة الهمزة مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب، يجوز أن يعتبر تركيبها من "أن" التفسيرية إذا وقعت بعد ما فيه معنى القول دون حروفه، وذلك مظنة أن التفسيرية، واعتضد بما في "اللسان" من قول القراء "إذا جاءت "أن" بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية فلم يقع عليها أي القول فهي مكسورة. وإن كانت تفسيرا للقول نصبتها ومثله: قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف، فحت أن لأنها فسرت الكلام قلت ووقوع "أن" موقع التفسير كثير: في الكلام، وفي القرآن، ومنه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} في كون أن تفسيرية، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف، مع أن معنى ذلك الحرف غير بين.
والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب: بفتح الدال من {مُرْدِفِينَ} أي يرد فهم غيرهم من الملائكة. وقرأ البقية: بكسر الدال أي تكون الألف رادفا لغيرهم قبلهم.
والإرداف الاتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مددا، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله: {بِثَلاثَةِ آلافٍ} في سورة آل عمران [124]، وهم مردفون بألفين، فتلك خمسة آلاف وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيما أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو.
ويوجه سيوفهم، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى: أما
(9/33)
بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم، وأما بإراءة الله الناس ما ليس من شانه أن يرى عادة.
[10] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
عطف على {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فالضمير المنصوب في قوله: {جَعَلَهُ} عائد إلى القول الذي تضمنه {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الأنفال: 7] أي ما جعل جوابكم بهذا الكلام إلا ليبشركم، وإلا فقد كان يكفيكم أن يضمن لكم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة.
وفائدة التبشير بإمداد الملائكة أن يوم بدر كان في أول يوم لقي فيه المسلمون عدوا قويا وجيشا عديدا، فبشرهم الله بكيفية النصر الذي ضمه لهم بأنه بجيش من الملائكة، لأن النفوس أميل إلى المحسوسات، فالنصر معنى من المعاني يدق إدراكه وسكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم.
وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلا لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور:
أحدها: أنه قال في آل عمران [126] {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ} وحذف {لَكُمْ} هنا دفعا لتكرير لفظه لسبق كلمة {لَكُمْ} قريبا في قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] فعلم السامع أن البشرى لهم، فأغنت {لَكُمْ} الأولى، بلفظها ومعناها، عن ذكر {لَكُمْ} مرة ثانية، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف، فكان تقييد {بُشْرَى} بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي: جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] وأما آية الأنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة، فجرد {بُشْرَى} عن أن يعلق به {لَكُمْ} إذ كانت البشرى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين، وقد تقدم ذلك في آل عمران.
ثانيها: تقديم المجرور هنا في قوله: {بِهِ قُلُوبُكُمْ} وهو يفيد الاختصاص، فيكون المعنى: ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغنم العروض التي كانت مع العير، فعرض لهم
(9/34)
بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم، وأخبرهم بان العير سلكت طريق الساحل فكان ذلك كافيا في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير. وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال، فلما أراد الله تسكين روعهم، وعدهم بنصرة الملائكة علما بأنه لا يطمئن قلوبهم إلا ذلك. وجعل الفخر: التقديم هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول.
ثالثها: أنه قال في سورة آل عمران [126] {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فصاغ الصفتين العليتين في صيغة النعت، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد، إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فنزل المخاطبين منزلة من يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين: وهما العزة، المقتضية أنه إذا وعد بالنصر لم يعجزه شيء، والحكمة. فما يصدر من جانبه يجب غوص الأفهام في تبين مقتضاءه، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظفر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفر بالنفير.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا جعلت كالأخبار بما ليس بمعلوم لهم.
[11] {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}.
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقرنها، في قرن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب.
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولا فيه لقوله: {وَمَا النَّصْرُ} [الأنفال: 10] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حصوله ظرفا للنصر.
والغشي والغشيان كون الشيء غاشيا أي غاما ومغطيا، فالنوم يغطي العقل.
والنعاس النوم غير الثقيل، وهو مثل السنة.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: {يُغْشِيكم} ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب {النُّعَاسَ} والتقدير إذ يغشيكم الله النعاس، والنعاس
(9/35)
مفعول ثان ليغشى بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف، وبرفع النعاس، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل. وقرأه الباقون: بضم التحتية وفتح العين وتشديد الشين، ونصب النعاس، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان.
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عاما سائر الجيش فهو نوم منحهم الله إياه لفائدتهم.
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف، وقد علم أنه من تقدير الله بقوله: {أَمَنَةً مِنْهُ}.
و"الأمنة" الأمن، وتقدم في آل عمران، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب "النعاس"، وعلى الحال على قراءة من رفع "النعاس".
وإنما كان "النعاس" أمنا لهم لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطا، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب.
وصيغة المضارع في {يُغشيكم} لاستحضار الحالة.
و"من" في قوله: {مِنْهُ} للابتداء المجازي، وهو وصف لأمنه لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القدس، فهو لطف وسكينة ورحمة ربانية، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله، على قراءة من نصبوا "النعاس"، تنبيها على أنه إسناد مخصوص، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها، وعلى قراءة من رفعوا "النعاس" يكون وصف الأمنة بأنها منه ساريا إلى الغشي فيعلم أنه غشي خاص قدسي، وليس مثل سائر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يوم بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أحد لطائفة من الجيش قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} وتقدم في سورة آل عمران [154]. وفي "صحيح البخاري" عن أبي طلحة قال: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا".
وذكر الله منة أخرى جاءت في وقت الحاجة: وهي أنه أنزل عليهم المطر يوم بدر، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت
(9/36)
احتياجهم إلى الماء، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أفقهم، قال أهل السير: كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر، وكان طريقهم دهساء أي رملا لينا، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أمكن لهم، واستوحلت الأرض للمشركين فصار السير فيها متعبا، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيرا من ماء المطر، وتطهروا وشربوا، فذلك قوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}.
و"الرجز" القذر، والمراد الوسخ الحسي وهو النجس والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحدث، والمراد الجنابة، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعا في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان.
وتقدير المجرور في قوله: {عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} للرعاية على الفاصلة، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم.
وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي يؤمنكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشا وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر.
و"الربط" حقيقته شد الوثاق على الشيء وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم فلان رابط الجأش وله رباطة جأش.
و {عَلَى} مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز.
[12, 13] {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{إِذْ} طرف متعلق بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
(9/37)
[الأنفال: 9].
وجعل الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم تلطفا به، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى اله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعا له، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله. ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] ونما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفا به ورفعا لشأنه.
والوحي إلى الملائكة المرسلين: إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة.
و {أَنِّي مَعَكُمْ} قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي، أي يوحي إليهم ثبوت معيته لهم، فيكون المصدر، منصوبا على المفعول به ليوحي، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر.
وأنت على ذكر مما قدمناه قريبا في قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [الأنفال: 9] من تحقيق أن تكون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون مفيدة معنى "أن" التفسيرية، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه.
والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائقة بالله تعالى أعني المعية المجازية، فقد يكون معناها توجيه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم، وقد تكرر إطلاق "مع" بمثل هذا في القرآن كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به، لأن المعية تؤذن إجمالا بوجود شيء يستدعي المصاحبة، فكان قوله لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ} مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام، أي أني معكم في عملكم الذي أكلفكم به.
ومن هنا ظهر موقع فاء الترتيب في قوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} من حيث ما دل عليه {أَنِّي مَعَكُمْ} من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة، والخوف إقداما
(9/38)
والهلع ثباتا، في جانب المؤمنين، ويجعل العزة رعبا في قلوب المشركين، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عهد للملائكة عملها خوارق عادات.
والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه.
وعرف المثبتون بالموصول لما تومئ إليه صلة {آمَنُوا} من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان.
وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاما وتثبيتا، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع، وإزالة للاضطراب الشيطاني، وإنما يكون خيرا إذا كان جاريا على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطرا كاذبا، وإلا صار غرورا، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوفى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل.
ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة.
وأسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقة الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته. وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة، فإن خوارق العادات قد تصدر من القوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين، فهو مبارك أيضا. وإنما كان إلقاء الرعب في قلوب المشركين خارق عادة لأن أسباب ضده قائمة، وهي وفرة عددهم وعدتهم، وأقدامهم على الخروج إلى المسلمين، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير.
فجملة: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا إخبارا لهم بما
(9/39)
يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كلف الملائكة بعمله، فليست جملة {سَأُلْقِي} مفسرة لمعنى {أَنِّي مَعَكُمْ}.
ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سببا في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمت آنفا.
وتفريع {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} على جملة {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} المفرعة هنا أيضا على جملة {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} في المعنى، يؤذن بما اقتضته جملة {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالا قوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} كما تقدم {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} ، على الظرفية لأضربوا.
و {الْأَعْنَاقِ} أعناق المشركين وهو بين من السياق. واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
والبنان اسم جمع بنانة وهي الإصبع وقيل طرف الإصبع، وإضافة كل إليه لاستغراق أصحابها.
وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان يبطل صلاحية المضروب للقتال، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع، ومن ثم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع، عن ذكر السيف، قال النابغة:
وأن تلادي أن نظرت وشكتي ... ومهري وما ضمت إلي الأنامل
يعني سيفه. وقال آبو الغول الطهوي:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقت فيهم ظنوني
يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضربت اليد كلها فذلك أجدر.
وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى، فإسناد الضرب حقيقة. ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه
(9/40)
المشركين إلى جهاتها فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه، وقد قيل: الأمر بالضرب للمسلمين، وهو بعيد، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة.
وجملة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تعليل لأن الباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ} باء السببية فهي تفيد معنى التعليل ولهذا فصلت الجملة.
والمخاطب بهذه الجملة: إما الملائكة، فتكون من جملة الموحى به إليهم إطلاعا لهم على حكمة فعل الله تعالى، لزيادة تقريبهم، ولا يريبك إفراد كاف الخطاب في اسم الإشارة لأن الأصل في الكاف مع اسم الإشارة الإفراد والتذكير، وإجراؤها على حسب حال المخاطب بالإشارة جائز وليس بالمتعين، وإما من تبلغهم الآية من المشركين الأحياء بعد يوم بدر ولذا فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله. والقول في إفراد الكاف هو إذ الخطاب لغير معين والمراد نوع خاص ويجوز أن يكون المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمشار إليه ما أمروا به من ضرب الأعناق وقطع البنان.
وإفراد اسم الإشارة بتأويله بالمذكور، وتقدم غير مرة.
والمشاقة العداوة بعصيان وعناد، مشتقة من الشق بكسر الشين وهو الجانب، هو اسم بمعنى المشقوق أي المفرق، ولما كان المخالف والمعادي يكون متباعدا عن عدوه فقد جعل كأنه في شق آخر، أي ناحية أخرى، والتصريح بسبب الانتقام تعريض للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله ورسوله، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا العقاب العظيم فيوشك ما هو مخالفة للرسول بدون مشاقة أن يوقع في عذاب دون ذلك، وخليق بان يكون ضدها وهو الطاعة موجبا للخير.
وجملة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تذييل يعم كل من يشاقق الله ويعم أصناف العقائد.
والمراد من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الكناية عن عقاب المشاقين وبذلك يظهر الارتباط بين الجزاء وبين الشرط باعتبار لازم الخبر وهو الكناية عن تعلق مضمون ذلك الخبر بمن حصل منه مضمون الشرط كقول عنترة:
إن تغد في، دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
ريد فأني لا يخفى علي من يستر وجهه مني وأني أتوسمه وأعرفه.
(9/41)
[14] {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.
الخطاب في {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} للمشركين الذين قتلوا، والذي قطعت بنانهم أي يقال لهم هذا الكلام حيث تضرب أعناقهم وبنانهم بأن يلقى في نفوسهم حينما يصابون إن أصابتهم كانت لمشاقتهم الله ورسوله فإنهم كانوا يسمعون توعد الله إياهم بالعذاب والبطش كقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 34] ونحو ذلك وكانوا لا يخلون من اختلاج الشك نفوسهم، فإذا رأوا القتل الذي لم يألفوه، ورأى الواحد منهم نفسه مضروبا بالسيف، ضربا لا يستطيع له دفاعا، علم أن وعيد الله تحقق فيه، فجاش في نفسه أن ذلك لمشاقته الله ورسوله، ولعلهم كانوا يرون إصابات تصيبهم من غير مرئي، فجملة {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} مقول قول محذوف تقديره: قائلين، هو حال من ضمير {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12].
واسم الإشارة راجع إلى الضرب المأخوذ من قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] وهو مبتدأ وخبره محذوف، فإما أن يقدر ذلك هو العقاب الموعود، وإما أن يكون مما دل عليه قوله: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فالتقدير ذلك بأنكم شاققتم الله ورسوله.
وتفريع {فَذُوقُوهُ} على جملة: {ذَلِكُمْ} بما قدر فيها تفريع للشمالة على تحقيق الوعيد، فصيغة الأمر مستعملة في الشماتة والإهانة. وموقعي {فَذُوقُوهُ} اعتراض بين الجملة والمعطوف في قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} ، والاعتراض يكون بالفاء كما في قول النابغة:
ضباب بني الطوالة فاعلميه ... ولا يغررك نأيي واغترابي
قالوا وفي قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} للعطف على المعقول فهو من جملة القول، والتعريف في {الْكَافِرِينَ} للاستغراق وهو تذييل.
والمعنى: ذلكم، أي ضرب الاعتناق، عقاب الدنيا، وأن لكم عذاب النار في الآخرة مع جميع الكافرين، والذوق مجاز في الإحساس والعلاقة الإطلاق.
وقوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} عطف على الخبر المحذوف أي ذلكم العذاب وأن عذاب النار لجميع الكافرين.
(9/42)
[15, 16] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
لما ذكر الله المسلمين بما أيدهم يوم بدر بالملائكة والنصر من عنده، وأكرمهم بأن نصرهم على المشركين الذين كانوا أشد منهم وأكثر عددا وعددا وأعقبه بأن أعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين به اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والقرار. فالجملة معترضة بين جملة {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال: 12] وبين جملة {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] الآية وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والإقدام والثبات عند اللقاء وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلا تقوية قال الحصين بن الحمام:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا، والصحيح أنها نزلت بعد وقعة بدر كما سيأتي.
واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب.
فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة واضحة، وسيأتي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} في هذه السورة[45]، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير.
والزحف أصله مصدر زحف من باب منع إذا انبعث من مكانه متنقلا على مقعدته يجرر جيله كما يزحف الصبي.
ثم أطلق على مشي المقاتل إلى عدوه في ساحة القتال زحف لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة فكأنه يزحف إليه.
ويطلق الزحف على الجيش الدهم، أي الكثير عدد الرجال، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زحوف.
(9/43)
وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ {زَحْفاً} في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرب وجعله وصفا لتلاحم الجيشين عند القتال لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيبا ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهم الكثير العدد، وجعله وصفا لذات الجيش.
وعلى كلا التقديرين فهو: إما حال من ضمير {لَقِيتُمُ} وإما من {الَّذِينَ كَفَرُوا}، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فرارا إذا التحم الجيشان، سواء جعلت زحفا حالا من ضمير {لَقِيتُمُ} أو من {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر.
وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالا من ضمير لقيتم كان نهيا عن الفرار إذا كان المسلمون جيشا كثيرا، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} - إلى - {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65, 66]، وإن جعل حالا من الذين كفروا كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب ويؤول إلى معنى لا تولوهم الأدبار في كل حال.
وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفا، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلا جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شرع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلا كما كان يوم بدر، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لاقوا العدو.
فأما يوم بدر فلم يكن حكم مشروع في هذا الشأن فان المسلمين وقعوا في الحرب بغتة وتولى الله نصرهم.
وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم، وروي هذا عن ابن عباس، وبه قال ملك، والشافعي، وجمهور أهل العلم، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصا بآية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} إلى قوله: {إِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 65, 66].
والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
(9/44)
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} - إلى - قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} فتكون آيات {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} - إلى قوله -: {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 65, 66] مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد وروي عن أبي سعيد الخدري، وعطاء، والحسن، ونافع، وقتادة، والضحاك: أن هذه الآية نزلت قبل وقعة بدر. وقالوا إن حكمها نسخ بآية الضعفاي آية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية وبهذا قال أبو حنيفة، ومثال القولين واحد بالنسبة لما بعد يوم بدر، ولذلك لم يختلفوا في فقه هذه الآية إلا ما روي عن عطاء كما سيأتي والصحيح هو الأول كما يقتضيه سياق انتظام آي السورة ولو صح قول أصحاب الرأي الثاني للزم أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل الشروع في القتال يوم بدر ثم نزلت سورة الأنفال فألحقت الآية بها، وهذا ما لم يقله أحد من أصحاب الأثر.
وذهب فريق ثالث إلى أن قوله تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الآية محكم عام في الأزمان، لا يخصص بيوم بدر ولا بغيره، ولا يختص بعدد دون عدد. ونسب ابن الفرس، عن النحاس، إلى عطاء بن أبي رباح، وقال ابن الفرس قال أبو بكر بن العربي هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث ولم يذكر أين قال ابن العربي ذلك، وأنا لم أقف عليه.
ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين، في غزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار. وقد انكشف المسلمون يوم أحد فعنفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وما عفا عنهم إلا بعد أن استحقوا الاثم، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلى قوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في سورة براءة[25-27] وذكر التوبة يقتضي سبق الإثم.
ومعنى {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} لا توجهوا إليهم أدباركم يقال ولى وجهه فلانا إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فيعدى فعل ولى إلى مفعولين بسبب التضعيف، "ومجرده ولي" إذا جعل شيئا واليا أي قريبا فيكون ولى المضاعف مثل قرب المضاعف، فهذا نظم هذا التركيب.
(9/45)
و"الأدبار" جمع دبر وهو ضد قبل الشيء وجهه وما يتوجه إليك منه عند إقباله على شيء وجعله أمامه، ودبره ظهره وما تراه منه حين انصرافه وجعله إياك وراءه، ومنه يقال استقبل واستدبر وأقبل وأدبر، فمعنى توليتهم الأدبار صرف الأدبار إليهم، أي الرجوع عن استقبالهم، وتولية الأدبار كناية عن الفرار من العدو بقرينة ذكره في سياق لقاء العدو، فهو مستعمل في لازم معناه مع بعض المعنى الأصلي، وإلا فان صرف الظهر إلى العدو بعد النصر لا بد منه وهو الانصراف إلى المعسكر، إذ لا يفهم أحد النهي عن إرادة الوجه عن العدو، وإلا للزم أن يبقي الناس مستقبلين جيش عدوهم، فلذلك تعين أن المفاد من قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} النهي عن الفرار قبل النصر أو القتل.
وعبر عن حين الزحف بلفظ اليوم في قوله: {يَوْمَئِذٍ} أي يوم الزحف أي يولهم يوم الزحف دبره أي حين الزحف.
ومن ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فئة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها.
والمستثنى يجوز أن يكون ذاتا مستثنى من الموصول في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} والتقدير: إلا رجلا متحرفا لقتال، فحذف الموصوف وبقيت الصفة، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلا في حال تحرفه لقتال.
و"التحرف" الانصراف إلى الحرف، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدول إلى أحد جوانبه، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه.
واللام للتعليل أي إلا في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفر لأجل الكر فإن الحرب كر وفر، وقال عمرو بن معد يكرب:
ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور
ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير
كل ما ذلك خلق ... وبكل أنا في الروع جدير
والتحيز طلب الحيز فيعل من الحوز، فأصل إحدى ياءيه الواو، فلما اجتمعت الواو
(9/46)
والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم اشتقوا منه تحيز فوزنه تفيعل وهو مختار صاحب "الكشاف" جريا على القياس بقدر الإمكان، وجوز التفتازاني أن يكون وزنه تفعل بناء على اعتباره مشتقا من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغام وهي الحيز، ونظره بقولهم: "تدير" بمعنى الإقامة في الدار، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جمعت على دور، إلا أنه لما كثر في جمعها ديار وديرة عوملت معاملة ما عينه ياء، فقالوا من ذلك تدير بمعنى أقام في الدار وهو تفعل من الدار، واحتج بكلام ابن جني والمرزوقي في "شرح الحماسة"، يعني ما قال ابن جني في "شرح الحماسة" عند قول جابر بن حريش:
إذ لا تخاف حدوجنا قذف النوى ... قبل الفساد إقامة وتديرا
"التدير تفعل من الدار وقياسه تدور إلا أنه لما كثر استعمالهم ديار أنسوا بالياء ووجدوا جانبها أو طاحسا وألين مسا فاجتروا عليها فقالوا تدير وما قال المرزوقي الأصل في تدير الواو ولكنهم بنوه على ديار لإلفهم له بكثرة تردده في كلامهم".
فمعنى {مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم.
والفئة الجماعة من الناس، وقد تقدم في سورة البقرة[249] في قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها من يحتاج إلى إصلاح أمره أو من عرض له ما يمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم، فهو تول لمقصد القتال، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار. ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى، وكذلك القفول إلى مقر أمير المصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أمير الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية، وقتل هو ومن معه من المسلمين، قال عمر بن الخطاب: هلا تحيز إلي فأنا فئته.
و{بَاءَ} رجع. والمعنى أن لله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابسا لغضب الله تعالى عليه. ومناسبة "باء" هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البوء الذي باءه. وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا. ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم، وهذا يدل على أن
(9/47)
توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة. فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف.
والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة. فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال، ولو كانوا أقل من جيش المشركين، فإما أن ينتصروا وإما أن يستشهدوا وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولا، فان وقت المجالدة يضيق عن التدبير، فعلى الجيش النظر في عدده وعدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم، فإما أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو وإما أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة أفريقية الأولى وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف . ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين. وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترك قتالهم، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره، إذا أمن أن يلحق به العدو، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به، فذلك لا يسمى تولية أدبار، بل هو رأي ومصلحة، وهذا عندي هو محمل ما روى أبو داود والترمذي، عن عبد الله بن عمر: أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فان كان لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا قال "فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون، فاقبل إلينا فقال لا بل انتم العكارون" أي الذين يكرون يعني أن فراركم من قبيل الفر للكر يقال للرجل إذا ولى عن الحرب ثم كر راجعا إليها عكر أو اعتكر "وأنا فئة المسلمين" يتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} قال ابن عمر "فدنونا فقبلنا يده". فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين، ولكنه قال انسلالا لينحازوا
(9/48)
إلى المدينة، فتلك فئتهم.
وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء لأن الفرار حينئذ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم الا بصبرهم وتأييد الله إياهم، فلو انكشفوا بالفرار لا عمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للاحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة. وأما آية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فقد بينت حكم العدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله لأنه: "ظاهر الكتاب والحديث" فيما نقله ابن الفرس.
[17] {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال: 12] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطا فتكون رابطة لجوابه، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقطع أيديهم فلم تقتلوهم انتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم، والى هذا يشير كلام صاحب "الكشاف" هنا وتبعه صاحب "المفتاح" في آخر باب النهي.
ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] أي ينفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عددا وعدة والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول، فان كون قتل المشركين ورميهم حاصلا من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلا وتوجيها لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار، ولأمرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم أن امتثلوا لقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] فانهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار لأنه يقطع عذر المتولين والفارين، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد {إِنَّ
(9/49)
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].
وإذ قد تضمنت الجملة إخبارا عن حالة أفعال فعلها المخاطبون، كان المقصود أعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضرب سيوف المسلمين، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بأبطال ذوي شجاعة، وذوي شوكة وشكة، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صوريا، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعل الله تعالى الخارق للعادة، فالمنفي هو الضرب الكائن سبب القتل في العادة، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل، في جاهلية أو إسلام، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا. وليس السياق لتعليم العقيدة الحق.
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلا فلذلك صح النفي في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} مع كون القتل حاصلا، وإنما المنفي كونه صادرا عن أسبابهم.
ووجه الاستدراك المفاد ب {لَكِنْ} أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادرا عن المخاطبين فكان السامع بحيث يتطلب أكان القتل حقيقة أم هو دون القتل، ومن كان فاعلا له، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} دون أن يقال ولكن قتلهم الله، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص، لأن نفي اعتقاد المخاطبين انهم القاتلون قد حصل من جملة النفي، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهما عندهم تعجيل العلم به.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
استطراد بذكر تأييد إلا هي آخر لم يجر له ذكر في الكلام السابق، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فاخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها
(9/50)
المشركين ثم قال: "شاهت الوجوه" ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال: شدوا فكانت الهزيمة على المشركين" ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة، وهذا أصح الروايات والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة، فالخطاب في قوله: {رَمَيْتَ} للنبي صلى الله عليه وسلم.
والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكته اليد، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فعل أو قول كما في قول النابغة:
رمى الله في تلك الأكف الكوانع
أي أصابها بما يشلها - وقول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوازح
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فيجوز أن يكون رَمَيْتَ الأول وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله، ويكون قوله: {إِذْ رَمَيْتَ} مستعملا في معناه الحقيقي وفي "القرطبي" عن ثعلب أن المعنى وما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، وفيه عن أبي عبيدة إن "رميت" الأول والثاني, و"رمى" مستعملة في معانيها الحقيقية وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفى هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله: {إِذْ رَمَيْتَ} هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفيا للرمي الحقيقي وجعل "إذ رميت" للرمي المجازي.
وقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غير الله، لم يكن نفي ذلك التأثير وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجا إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلا منه، فان ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالا لاحتمال
(9/51)
المجاز في النفي بان يحمل على نفي رمي كامل، فان العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار كقول عباس بن مرادس.
فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي شيئا مجديا، فدل قوله: {إِذْ رَمَيْتَ} على أن المراد بالنفي في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ} هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد، لأن اثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم، علم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} كالقول في {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
وقرأ نافع والجمهور {وَلَكِنَّ} بتشديد النون في الموضعين وقراه ابن عامر، وحمزة، والكسائي بسكون النون فيهما.
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
عطف على محذوف يؤذن به قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الآية وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} الآية.
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاء حسنا أي يعطيهم عطاء حسنا يشكرونه عليه فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة.
واعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريف هذا الفعل أغفله الراغب في "المفردات" ومن رأيت من المفسرين، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختبار ثم أطلق على إصابة أحد أحدا بشيء يظهر به مقدار تاثره، والغالب أن الإصابة بشر ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وهو إطلاق كنائي
(9/52)
وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح، وبقي الفعل المجرد صالحا للإصابة بالشر والخير، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابه بخير قال ابن قتيبة: "يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاء".
قلت جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى: {بَلاءً حَسَناً} وهو مفعول مطلق لفعل يبلي موكد له لأن فعل يبلى دال على بلاء حسن وضمير {مِنْهُ} عائد إلى اسم الجلالة و"من" الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون "من" للتعليل والسببية.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تدبيل للكلام و"إن" هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم.
[18] {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}.
الإشارة ب {ذَلِكُمْ} إلى البلاء الحسن وهذه الإشارة لمجرد تأكيد المقصود من البلاء الحسن وأن ذلك البلاء علة للتوهين.
واسم الإشارة يفتتح به الكلام لمقاصد يجمعها التنبيه على أهمية ما يرد بعده كقوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ويجيء في الكلام الوارد تعليلا كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51].
وعليه فاسم الإشارة هنا مبتدأ حذف خبره وعطف عليه جملة: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} بفتح همزة "أن"، فما بعدها في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل محذوفة، والتقدير ولتوهين كيد الكافرين.
ويجوز أن تكون الإشارة ب {ذَلِكُمْ} إلى الامرين، وهو ما اقتضاه قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] من تعليل الرمي بخذل المشركين وهزمهم وإبلاء المؤمنين البلاء الحسن.
وإفراد اسم الإشارة مع كون المشار إليه اثنين على تأويل المشار إليه بالمذكور كما
(9/53)
تقدم في نظيره في سورة البقرة.
و {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العير لما علموا بنجاة غيرهم، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها، أبوا أن يرجعوا إلى مكة، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحا وافتخارا بنجاة عيرهم وليس ذلك لمجرد اللهو، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن اتباع الإسلام فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير. الكيد عند قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف[183].
وقرأ نافع كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، "مُوَّهِن" بفتح الواو وبتشديد الهاء وبالتنوين ونصب كيد، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف، ويعقوب، موهن بتسكين الواو وتخفيف الهاء ونصب {كَيْدِ}- والمعنى على القراءتين سواء، وقرأ حفص عن عاصم بإضافة {مُوهِنُ} إلى {كَيْدِ}، والمعنى وهي إضافة لفظية مساوية للتنكير.
[19] {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.
جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجها إلى المشركين، فيكون الكلام اعتراضا خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يوم بدر استنصروا الله أيضا وقالوا ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم.
وإنما كان تهكما لأن في معنى {جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيها بمجيء المنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم. يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم، والواقع يخالف ذلك، فعلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع
(9/54)
بمسمع المخاطبين ومرآهم.
وحمل ابن عطية فعل {جَاءَكُمُ} على معنى: فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه عليكم لا لكم، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور: مثل {وَجَاءَ رَبُّكَ} ومثل {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] ولا يكون في الكلام تهكم.
وصيغ {تَسْتَفْتِحُوا} بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين، وبذلك تظهر مناسبة عطف {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} - إلى قوله -: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين.
وعطف الوعيد على ذلك بقوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} أي: إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر.
ثم أيأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر، فان المشركين كانوا يومئذ واثقين بالنصر على المسلمين لكثرة عددهم وعددهم. والظاهر أن جملة: {وَإِنْ تَعُودُوا} معطوفة على جملة الجزاء وهي {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}.
و {لَوْ} اتصالية أي {لَنْ} تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئة أعدائكم، وصاحب الحال المقترنة ب"لو" الاتصالية قد يكون متصفا بمضمونها، وقد يكون متصفا بنقيضه، فإن كان المراد من العود في قوله: {وَإِنْ تَعُودُوا} العود إلى طلب النصر للمحق فالمعنى واضح، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يوم أحد فلم يتحقق معنى نعد ولا موقع لجملة: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً} فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أحد.
والجواب عن هذا أشكال إن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل "مهما" فلا يبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم أحد ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلبا للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] - وقال -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
(9/55)
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}. وقد مضى ذلك في سورة آل عمران [155]، وبعد ففي هذا الوعيد بشارة بأن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة.
وجملة: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عددا وعدة.
ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين، ونسب إلى أبي بن كعب وعطاء، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادرا لأنهم أصبحوا بعداء عن سماع القرآن، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فإنهم لما ذكروا باستجابة دعائهم بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 19] الآيات، وأمروا بالثبات للمشركين، وذكروا بنصر الله تعالى إياهم يوم بدر بقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} - إلى قوله -: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 17, 18] كان ذلك كله يثير سؤالا يختلج في نفوسهم أن يقولوا أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل. فالمعنى: إن تستنصروا في المستقبل قوله فقد جاءكم الفتح، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه، ويكون قوله: {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} دليلا على كلام محذوف، والتقدير: إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر.
والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ومعنى {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الامساك، خير لكم لتستجموا قوتكم وأعدادكم، فأنتم في حال الجهاد منتصرون، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شؤونكم الصالحة، فيكون كقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمنوا لقاء العدو. وقيل المراد وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم بدر فهو خير لكم من وقوعه. وأما قوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا ينقص ذلك من عطائنا كما قال زهير:
سألنا فأعطيتكم وعدنا فعدتم ... ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
يعلمهم الله صدق التوجه إليه، ويكون موقع {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً} زيادة تقرير لمضمون {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} وقوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} أي لا تعتمدوا إلا على نصر الله.
(9/56)
فموقع قوله: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً} بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على ان {تَسْتَفْتِحُوا} المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلا إذا استنصروا بالله تعالى وجملة {وَلَوْ كَثُرَتْ} في موضع الحال. و {لَوْ} اتصالية، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها، أي: ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة، وعلى هذا الوجه يكون في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} إظهار في مقام الإضمار، لأن مقتضى الظاهر أن يقال: وان الله معكم، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم. فهذان تفسيران للآية والوجدان يكون كلاهما مرادا.
والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حاجزا دون شيء آخر، حفظا له من الضياع أو الافتكاك والسرقة، فالجدار حاجز، والباب حاجز، والسد حاجز، والصندوق حاجز، والعدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحا، وذلك هو المعنى الحقيقي، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارة مفردة أو تمثيلية وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} الآية في سورة الأعراف [96] فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر.
وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلد غيرهم في حرب أو غارة، وعلى النصر، وعلى الحكم، وعلى معان أخر، على وجه المجاز أو الكناية وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وقرأه نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، بفتح همزة {أَنَّ} على تقدير لام التعليل عطفا على قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18].
وقرأه الباقون: بكسر الهمزة، فهو تذييل للآية في معنى التعليل، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيل، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى.
[20 - 23] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
(9/57)
مُعْرِضُونَ}.
لما أراهم آيات لطفه وعنايته بهم، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى بدر، وقد كانوا كارهين الخروج، أعقب ذلك بأن أمرهم بطاعة الله ورسوله شكرا على نعمة النصر، واعتبارا بأن ما يأمرهم به خير عواقبه، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسوله صلى اله عليه وسلم.
وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليله ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجه، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام على ما تهواه أنفسهم، وضرب لهم مثلا لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة، وما نجم عن طاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغنم الوفير لهم مع نزارة الرزء، ومن التأييد المبين للرسول صلى الله عليه وسلم، والتأسيس لإقرار دينه {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 7, 8] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لما أطاعوه وانخلعوا عن هواهم، وكيف هزم المشركين لأنهم شاقوا الله ورسوله. والمشاقة ضد الطاعة تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس إلا وهو {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 1]، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله: {هزم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها، ولذلك افتتحت ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.
وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيلقى إلى المخاطبين قصدا لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم، فنزل الحاضر منزلة البعيد، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال.
(9/58)
والتعريف بالموصولية في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به، وأنه كما كان الشرك مسببا لمشاقة لله ورسوله في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، فخليق بالإيمان أن يكون باعثا على طاعة الله روسوله، فقوله هنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يساوي قوله في الآية المردود إليها {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، مع الإشارة هنا إلى تحقق وصف الإيمان فيهم وان إفراغه في صورة الشرط في الآية السابقة ما قصد منه إلا شحذ العزائم، وبذلك انتظم هذا الأسلوب البديع في المحاورة من أول السورة إلى هنا انتظاما بديعا معجزا.
والطاعة امتثال والنهي. والتولي الانصراف، وتقدم آنفا وهو مستعار، هنا للمخالفة والعصيان.
وإفراد الضمير المجرور ب"عن" لأنه راجع إلى الرسول، إذ هذا المناسب صلى الله عليه وسلم للتولي بحسب الحقيقة، فإفراد الضمير هنا يشبه ترشيح الاستعارة، وقد علم أن النهي عن التولي عن الرسول نهي عن الإعراض عن أمر الله لقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [الأعراف: 80]. وأصل {تَوَّلَوا} تتولوا - بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا.
وجملة: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} في موضع الحال من ضمير {تَوَّلَوا} ، والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه، فان العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرام بعضها. فالمراد بالسمع هنا حقيقته أي في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض وذلك لان فأيده السمع العمل بالمسموع، فمن سمع الحق ولم يعلم به فهو الذي لا يسمع سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع، ولما كان الأمر بالطاعة كلام يطاع ظهر موقع {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضيا عدم التولي عنه، ضمن تولى عنه بعد أن سمعه فأمر عجب ثم زاد في تشويه التولي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من التشبه بفئة ذميمة يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام: سمعنا، وهم لا يصدقونه ولا يعلمون بما يأمرهم وينهاهم.
و"إن" التمثيل والتنظير في الحسن والقبيح أثرا عظيما في حث النفس على التشبيه أو التجنب، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً} [الأنفال: 47] وسيأتي وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم، وبإخبار القرآن عنهم، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31] قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
(9/59)
أَكِنَّةً} [الأنعام: 25], وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش، وهم بنو عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فلم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة، وبقيتهم قتلوا جميعا في أحد، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية، ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا نحن صم بكم فلا يصح أن يكونوا هم المراد بهذه الآية بل المراد طوائف من المشركين وقيل المراد بهم اليهود، وقد عرفوا بهذه المقالة، واجهوا بها النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46] وقيل أريد المنافقون قال تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} [النساء: 81] وإنما يقولون سمعنا لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالمسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم {طَاعَةٌ} ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله: {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي لا ينتفعون بما سمعوه فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم: {سَمِعْنَا} وهو إيهامهم أنهم مطيعون، فالواو في قوله: {وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} واو الحال.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند، وهو انتفاء السمع عنهم، على ان المقصود الأهم من قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك.
وصيغ فعل {لا يَسْمَعُونَ} بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع فلذلك لم يقل وهم لم يسمعوا.
وجملة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} معترضة، وسوقها في هذا الموضع تعريض بالذين {قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} بأنهم يشبهون دواب صماء بكماء.
والتعريض قد يكون كناية وليس من أصنافها فان بينه وبين الكناية عموما وخصوصا وجهيا لان التعريض كلام أريد به لازم مدلوله، وأما الكناية فهي لفظ مفرد يراد به لازم معناه أما الحقيقي كقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] وأما المجازي نحو قولهم للجواد: جبان الكلب إذا لم يكن له كلب، فأما التعريض فليس إرادة لازم معنى لفظ مفرد ولا لازم معنى التركيب، وإنما هو إرادة لنطق المتكلم بكلامه، قال في "الكشاف" عند قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} في سورة
(9/60)
البقرة [235] التعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره يريد أن تذكر كلاما دالا كما يقول المحتاج لغيره جئت لأسلم عليك.
قلت: ومن أمثلة التعريض قول القائل، حين يسمع رجلا يسب مسلما أو يضربه المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فكذلك قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} لم يرد به لازم معنى ألفاظ ولا لازم معنى الكلام، ولكن أريد به لازم النطق به في ذلك المكان بدون مقتض للأخبار من حقيقة ولا مجاز ولا تمثيل.
والفرق بين التعريض وبين ضرب المثل: أن ضرب المثل ذكر كلام يدل على تشبيه هيئة مضربه بهيئة مورده، والتعريض ليس فيه تشبيه هيئة بهيئة. فالتعريض كلام مستعمل في حقيقته أو مجازه، ويحصل به قصد التعريض من قرينة سوقه فالتعريض من مستتبعات التراكيب.
وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب، فإن الدواب ضعيفة الإدراك، فإذا كانت صماء كانت مثلا في انتفاء الإدراك، وإذا كانت مع ذلك بكما انعدم منها ما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها، فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم، فقوله: {الصُّمُّ الْبُكْمُ} خبران عن الدواب بمعناهما الحقيقي، وقوله: {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} خبر ثالث وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن {الَّذِينَ} مما يناسب المشبهين إذ هو اسم موصول بضيعة جمع العقلاء وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله:
خذول تراعي ربربا بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي
وتبسم عن ألمي كان منورا ... توسط حر الرمل دعص له ندي
و {شَرّ} اسم تفضيل، وأصله "أشر" فحذفت همزته تخفيفا كما حذفت همزة خير كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة: 60] الآية.
والمراد بالدواب معناه الحقيقي، وظاهر أن الدابة الصماء البكماء أخس الدواب.
عند الله قيد أريد به زيادة تحقيق كونهم أشر الدواب بان ذلك مقرر في علم الله، وليس مجرد اصطلاح ادعائي، أي هذه هي الحقيقة في تفاضل الأنواع لا في تسامح العرف والاصطلاح، فالعرف يعد الإنسان أكمل من البهائم، والحقيقة تفصل حالات الإنسان فالإنسان المنتفع بمواهبه فيما يبلغه إلى الكمال هو بحق أفضل من العجم، والإنسان الذي دلى بنفسه إلى حضيض تعطيل انتفاعه بمواهبه السامية يصير أحط من
(9/61)
العجماوات.
والمشبهون بالصم البكم هم الذين قالوا {سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} ، شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا لأنه مما يكفي سماعه في قبوله والعمل به، وشبهوا بالبكم في انقطاع الحجة والعجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوه ولا اظهروا عذرا عن عدم قبوله.
ولما وصفهم بانتهاء قبول المعقولات والعجز عن النطق بالحجة اتبعه بانتفاء العقل عنهم اي عقل النظر والتأمل بله عقل التقبل، وقد وصف بهذه الأوصاف في القرآن كل من المشركين والمنافقين في مواضع كثيرة.
ولعل ما روي عن ابن عباس من قوله إن الآية نزلت في نفر من بني عبد الدار كما تقدم آنفا إنما عنى بهم نزول قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} لأنهم الذين قالوا مقالة تقرب مما جاء في الآية.
وجملة: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} الخ باعتبار أن الدواب مشبه به الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ويجوز أن تكون معطوفة على شبه الجملة في قوله: {كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وقد سكت المفسرون عن موقع إعراب هذه الجملة وهو دقيق والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد، فكانوا كالصم، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كما لا نفسانيا فكانوا كالبكم. فالمعنى: لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وفق التعلم، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعلقهم، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلا بما يقلب قلوبهم من لطف إلا هي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم.
و {لَوْ} حرف شرط يقتضي انتفاء مضمون جملة الشرط وانتفاء مضمون جملة الجزاء لأجل انتفاء مضمون الشرط والاستدلال بانتفاء الجزاء على تحقق انتفاء الشرط.
و"في" للظرفية المجازية التي هي في معنى الملابسة، ومن لطائفها هنا أنها تعبر عن ملابسه باطنية.
(9/62)
ولما كان "لو" حرفا يفيد امتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه، كان أصل معنى {لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيرا، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهم كمن لا يسمع.
فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير، بعلم الله عدم الخير فيهم، ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم، وهو القابلية للخير، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء.
فصار معنى {لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً} لو كان في نفوسهم خير. وعبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعال نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ. فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلق والامتثال لما يسمعونه من الخير.
وحاصل المعنى: لو جبلهم الله على قبول الخير لجعلهم يسمعون أي يعملون بما يدخل اصماخهم من الدعوة إلى الخير، فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير، وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناس الصفات وأشخاصها. وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم.
وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسه، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخير فاصبح قابلا للإرشاد والهدى، فحق عليه انه قد علم الله فيه خيرا حينئذ فاسمعه، فمثل ذلك مثل أبي سفيان، إذ كان فيما قبل ليلة فتح مكة قائد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له "أما آن لك أن تشهد أن لا اله إلا الله قال أبو سفيان: "لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا" ثم قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "وأن تشهد أني رسول الله" فقال: "أما هذه ففي القلب منها شيء" فلم يكمل حينئذ إسماع الله إياه ثم تم في نفسه الخير فلم يلبث أن
(9/63)
أسلم فأصبح من خيرة المسلمين.
وجملة: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} معطوفة على جملة: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم، فانهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء، ارتقى بالأخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا، فتولوا وأعرضوا.
وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يلقى إليه فاهتدى، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريث على الكفر زمنا متفاوت الطول والقصر.
واعلم أن ليس عطف جملة: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} على جملة: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} بمقصود منه تفرع الثانية على الأولى تفرع القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس، لان ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الاقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوبا عربيا، فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى، ولا تجمع بينهما إلا مناسبة المعنى والغرض، فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا، ولو كان النهار موجودا لدرجت الدواجن، فانه قد ينتج: لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن، بواسطة تدرج اللزومات في ذهن المحجوج تقريبا لفهمه، فان ذلك بمنزلة التصريح بنتيجة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلة مقدمة قياس ثان فتطوى النتيجة لظهورها اختصارا، وهذا ليس بأسلوب عربي إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدم وتال ثم يستدرك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم كقول أبي بن سلمى بن ربيعة يصف فرسه:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
وقول المعري:
(9/64)
ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهن دوام
أو بذكر مساوي نقيض المقدم كقول عمرو بن معد يكرب:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت
فإن اجرار اللسان يمنع نطقه، فكان في معنى ولكن الرماح تنطقني. والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء.
واعلم أن "لو" الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل "لو" المشتهرة بين النحاة بلوا الصهيبية بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول عمر بن الخطاب"1" "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" وذلك أن تستعمل "لو" لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم. فيأتي بجملة الشرط حينئذ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمون عند حصلها الجزاء لو كان ذلك مما يحتمل التخلف، فقوله: "لو لم يخف الله لم يعصه" المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنه من غضب الله. فليس المراد أنه خاف فعصى، ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعواد الشجر كله أقلاما. ل أن كلمات الله تنفد أن لم تكن الأشجار أقلاما والأبحر مدادا، وكذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا، بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان.
وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له "لو" وتصير "لو" في مجرد
ـــــــ
"1" شاعت نسبة هذا الكلام إلى عمر بن الخطاب ولم نظفر بمن نسبه إليه سوى أن الشمني ذكر في شرحه "مغني اللبيب" أنه وجد بخط والده أنه رأى أبا بكر ابن العربي نسب هذا إلى عمر, وذكر علي قاري في كتابه في الأحاديث المشهورة عن السخاوي أن ابن حجر العسقلاني ظفر بهذا في كتاب "مشكل الحديث" لابن قتيبة منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقريب منه في حق سالم مولى أبي حذيفة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن سالماً شديد الحب لله عز وجل لو كان لا يخاف الله ما عصاه أخرجه أبو نُعيم في "الحلية".
(9/65)
الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل وستجيء زيادة في استعمال "لو" الصهيبية عند قوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} في هذه السورة[42].
فهكذا تقرير التلازم في قوله تعالى هنا: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتولوا، لأن توليهم ثابت، بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو سمعهم الله الإسماع المخصوص، وهو إسماع الإفهام، فكيف إذا لم يسمعوه.
وجملة: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} حال من ضمير تولوا وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن أعراضهم أي أعراضا لا يقول بعده وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل مصعب بن عمير.
[24] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
إعادة لمضمون قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك.
فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى، ثم بيان أن حق المؤمنين الكمل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين، وضرب لهم مثلا بكراهتهم الخروج إلى بدر، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنبوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال، وجعل ذلك كله إقناعا لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عادا إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء فان في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية.
واختير في تعريفهم، عند النداء، وصف الإيمان ليومي إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا
(9/66)
دعاهم.
والاستجابة: الإجابة، فالسين والتاء فيها للتأكيد، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معين أو في الاعم، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء، وتقدم ذلك عن قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} في آل عمران [195].
وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله: {وَلِلرَّسُولِ} للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة، تنبيها على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون لا بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائه، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما.
ألا ترى أنه لم يعد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد، وهو الطاعة، وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أحد فهي استجابة لدعوة معينة.
وإفراد ضمير {دَعَاكُمْ} لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة، كما أفرد الضمير في قوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} وقد تقدم آنفا.
وليس قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قيدا للأمر باستجابة ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلا إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم.
واللام في {لِمَا يُحْيِيكُمْ} لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية.
والأحياء تكوين الحياة في الجسد، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويستعار الأحياء تبعا الاستعارة الحياة للصفة أو القوة التبيبها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية، قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} وقد تقدم في سورة الأنعام [122].
والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت. وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة
(9/67)
واستبقائها بدفع العوادي عنها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32].
والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمال من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة، فالشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة.
ولما كان دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمر الله الأمة بالاستجابة له، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعا حقيقة بطلب القدوم، أم طلب عملا من الأعمال، فلذلك لم يكن قيد {لِمَا يُحْيِيكُمْ} مقصودا لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف، فان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلا وفي حضورهم لديه حياة لهم، ويكشف عن هذا المعنى في قيد {لِمَا يُحْيِيكُمْ} ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بن المعلى، "قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثم قال: إلا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب، فوقفه على قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ} يدل على أن {لِمَا يُحْيِيكُمْ} قيد كاشف وفي "جامع الترمذي" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال: "يا أبي - وهو يصلي - فالتفت أبي ولم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال: السلام عليك يا رسول الله - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك - فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة - فقال: أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم - قال بلى ولا أعود إن شاء الله" الحديث بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى - قال ابن عطية: وهو مروي أيضا من طريق مالك بن انس "يريد حديث أبي بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي" قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيه على هذه الخصوصية لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
(9/68)
مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمون هذه الجملة مرتبطا بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تكمله، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف.
وافتتحت الجملة باعلموا للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعده، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أو طلب فهم بأعلم أو تعلم لفتا لذهن المخاطب.
وفيه تعريض غالبا بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلا علم المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 196] - وقال -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] الآية وقال في الآية بعد هذه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبدا له اعلم أبا مسعود "اعلم أبا مسعود: أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام" وقد يفتتحون بتعلم أو تعلمن قال زهير:
قلت تعلم أن للصيد غرة ... وإلا تضيعها فإنك قاتله
وقال زياد بن سيار
تعلم شفاء النفس قهر عدوها ... فبالغ بلطف في التحيل والمكر
وقال بشر بن أبي خازم
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
و {أَنَّ} بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت، والمصدر المؤول يسد مسد مفعولي علم مع إفادة "أن" التأكيد.
والحول، ويقال الحؤل: منع شيء اتصالا بين شيئين أو أشياء قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود: 43].
وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان، والمعنى يحول شأن من شؤون صفاته، وهو تعلق صفة العلم بالاطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرء أو بصرفه عن فعله، وليس المراد بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم، بل المراد عقل
(9/69)
المرء وعزمه، وهو إطلاق شائع في العربية.
فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى: واعلموا أن علم الله يخلص بين المرء وعقله خلوص الحائل بين شيئين فانه يكون شديد الاتصال بكليهما.
والمراد ب {الْمَرْءِ} عمله وتصرفاته الجسمانية.
فالمعنى أن الله يعلم عزم المرء ونيته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحه، فشبه علم الله بذلك بالحائل بين شيئين في كونه أشد اتصالا بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
وجيء بصيغة المضارع {يَحُولُ} للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر، وهذا في معنى قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] قاله قتادة.
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس: من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتنصل منها، أو التستر في مخالفته، وهو معنى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
وبهذا يظهر وقع قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عقبه فكان ما قبله تحذيرا وكان هو تهديدا. وفي "الكشاف"، و"ابن عطية": قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرء موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره: أن أجل الله يحول بين المرء وقلبه، أي بين عمله وعزمه قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] الآية.
وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} إلا تعلق شأن من شؤون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر، وأن كلمة {بَيْنَ} تقتضي شيئين فما يكون تحول إلا إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائع، فان ذلك تحويل وليس حؤلا.
وجملة: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عطف على {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} والضمير الواقع اسم "أن" ضمير اسم الجلالة، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته، ولإجراء أسلوب
(9/70)
الكلام على أسلوب قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ} الخ.
وتقديم متعلق {تُحْشَرُونَ} عليه لإفادة الاختصاص أي: إليه إلى غيره تحشرون وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإ أو مخبإ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشور إليه غير الله بأبدع أسلوب، وليس الاختصاص لرد اعتقاد، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم.
[25] {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
عقب تحريض جميعهم على الاستجابة، المستلزم تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لم يقوموا عوج قومهم، كيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم، فحذرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره.
فان المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة.
وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس، قال تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [91].
فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فان هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم.
(9/71)
وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فان من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وأن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" وفي "صحيح مسلم" عن زينب بنت جحش أنها قالت: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال" نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم".
وحرف {لا} في قوله: {لا تُصِيبَنَّ} نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب، فالجملة الطلبية: إما نعت ل {فِتْنَةً} بتقدير قول محذوف، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج:
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
أي مقول فيه. وباب حذف القول باب متسع، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بان يوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيها له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ، والمقصود تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأن المتكلم يجمع بين نهيين، ومنه قول العرب لا أعرفنك تفعل كذا فانه في الظاهر المتكلم نفسه عن فعل المخاطب، ومنه قوله تعالى: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] ويسمى هذا بالنهي المحول، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية.
ويجوز أن تكون جملة: {لا تُصِيبَنَّ} نهيا مستأنفا تأكيدا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها من لم يكن من الظالمين.
ولا يصح جعل جملة: {لا تُصِيبَنَّ} جوابا للأمر في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} لأنه يمنع منه قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وإنما كان يجوز لو قال: "لا تصيبنكم" كما يظهر
(9/72)
بالتأمل. وقد أبطل في مغني اللبيب جعل "لا" نافية هنا، ورد على الزمخشري تجويزه ذلك.
و {خَاصَّةً} اسم فاعل مؤنث لجريانه على {فِتْنَةً} فهو منتصب على الحال من ضمير {تُصِيبَنَّ} وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير.
وافتتاح جملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} بفعل الأمر بالعلم للاهتمام لقصد شدة التحذير، كما تقدم آنفا في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة.
[26] {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
عطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقي أعداؤهم بأسهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما يعد ذلك، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا، فالخطاب للمؤمنين يومئذ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساق لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثره فيهم كلما احتفظوا عليه كفوه من قبل سؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوبا.
وفعل {وَاذْكُرُوا} مشتق من الذكر بضم الذال وهو التذكر لا ذكر اللسان، أي تذكروا.
و {إِذْ} اسم زمان مجرد عن الظرفية، فهو منصوب على المفعول به، أي اذكروا زمن كنتم قليلا.
وجملة: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} مضاف إليها {إِذْ} ليحصل تعريف المضاف، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم.
وأخبر ب {قَلِيلٌ} وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلا وكثيرا قد يجيئان غير
(9/73)
مطابقين لما جريا عليه، كما تقدم عند قوله تعالى: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران[146].
والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة الأعراف[56] فالتعريف شبيه بتعريف الجنس، أو أريد بها ارض مكة، فالتعريف للعهد، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلا مستضعفين بين المشركين، فإنهم كانوا حينئذ طائفة قليلة العدد، قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم، وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصر موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فئاواهم الله بان صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيض الأنصار أهل العقبة الأولى وأهل العقبة الثانية، فأسلموا وصاروا أنصارا لهم بيثرب، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فئاواهم بها، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فئاواهم بها، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر، فالله الذي يسر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمل، أفلا يكون ناصرا لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعوا للنصر بأسبابه، أفلا يستجيبونهم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم اقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلا مستضعفين.
والتخطف شدة الخطف والخطف الأخذ بسرعة وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] وهو هنا مستعار للغلبة السريعة لأن الغلبة شبه الأخذ، فإذا كانت سريعة أشبهت الخطف، قال تعالى: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 27] أي يأخذكم أعداؤكم بدون كبرى مشقه ولا طول محاربة إذ كنتم لقمة سايغة لهم، وكانوا أشد منكم قوة، لولا أن الله صرفهم عنكم، وقد كان المؤمنون خائفين في مكة، وكانوا خائفين في طرق هجرتيهم، وكانوا خائفين يوم بدر، حتى أذاقهم الله نعمة الأمن من بعد النصر يوم بدر.
و {النَّاسُ} مراد بهم ناس معهودون وهم الأعداء، المشركون من أهل مكة وغيرهم، أي طائفة معروفة من جنس الناس من العراب الموالين لهم.
وما رزقهم الله من الطيبات: هي الأموال التي غنموها يوم بدر.
والإيواء: جعل الغير أويا، أي راجعا إلى الذي يجعله، فيؤول معناه إلى الحفظ والرعاية.
(9/74)
والتأييد: التقوية أي جعل الشيء ذا أيد، أي ذا قدرة على العمل لأن اليد يكنى بها عن القدرة قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17].
وجملة: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} إدماج بذكر نعمة توفير الرزق في خلال المنة بنعمة النصر وتوفير العدد بعد الضعف والقلة فان الأمن ووفرة العدد يجلبان سعة الرزق.
ومضمون هذه الآية صادق أيضا على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حنين، ونصرهم على الروم يوم تبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية، وعلى الروم في مصر، وفي برقة، وفي أفريقية، وفي بلاد الجلالقة، وفي بلاد الفرنجة من اوروبا. فلما زاغ المسلمون وتفرقوا أخذ أمرهم يقف ثم ينقبض ابتداء من ظهور الدعوة العباسية، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية.
وقد نبههم الله تعالى بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد، وحين نسوه اخذ أمرهم في تراجع ولله عاقبة الأمور.
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم، وفي الحديث، عن حذيفة بن اليمان قال: "قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر"؟ قال: نعم - "قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن" الحديث، وفي الحديث الآخر "بدئ هذا الدين غريبا وسيعود كما بدئ".
[27, 28] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي، بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه. ومناسبته لما قبله ظاهرة وان لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير.
وذكر الواحدي في "أسباب النزول" وروى جمهور المفسرين وأهل السير، عن
(9/75)
الزهري والكلبي، وعبد الله بن أبي قتادة، أنها نزلت في أبي لبابة"1" بن عبد المنذر الأنصاري لما حاصر المسلمون بني قريظة، فسألت بنو قريظة الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنزلون على حكم سعد بن معاذ" فأبوا وقالوا: "أرسل إلينا أبا لبابة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أبا لبابة وكان ولده وعياله وماله عندهم، فلما جاءهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد، فأشار أبو لبابة بيده على حلقه: أنه الذبح، ثم فطن أنه قد خان الله ورسوله فنزلت فيه هذه الآية، وهذا الخبر لم يثبت في الصحيح، ولكنه اشتهر بين أهل السير والمفسرين، فإذا صح، وهو الأقرب كانت الآية مما نزل بعد زمن طويل من وقت نزول الآيات التي قبلها، المتعلقة باختلاف المسلمين في أمر الأنفال فان بين الحادثتين نحوا من ثلاث سنين، ويقرب هذا ما أشرنا إليه آنفا من انتفاء وقوع خيانة لله ورسوله بين المسلمين.
والخون والخيانة: إبطال ونقض ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] والخيانة ضد الوفاء قال الزمخشرى: "وأصل معنى الخون النقص، كما أن أصل الوفاء التمام، ثم استعمل الخون في ضد الوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه" أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال: أوفى بما عاهد عليه.
فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورسوله، فكما حذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية.
وتشمل الخيانة كل معصية خفية، فهي داخلة في {لا تَخُونُوا} ، لأن الفعل في سياق النهي يعم، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى لينتفلوا منهم، تعين تحذيرهم من الغلول، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها.
وفعل "الخيانة" أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه، يقال خان فلانا أمانته أو عهده، وأصله أنه نصب على نزع الخافض، أي خانه في عهده أو في أمانته، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء،
ـــــــ
"1" قيل: اسمه رفاعة, وقيل: مروان, وقيل: هارون, وقيل: غير ذلك, واشتهر بكنيته.
(9/76)
واقتصر على المخون فيه في قوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم.
والنهي عن خيانة الأمانة هنا: إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة: أن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ من الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسرا، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء، إذ هو مبعوث وليس بمستشار.
وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي، إلى ذكر المفعول المتسع فيه، لقصد تبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس، فما يكون نقضا له يكون قبيحا فظيعا، ولأجل هذا لم يقل وتخونوا الناس في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز.
والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن لأنه يأمنه من أن يضيعها والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها، بمنزلة قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] دون: ولا تقتلوا النفس.
وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أضاعتها والتهاون بها، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين، ففي "صحيح البخاري" " عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت على جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمرد حرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان".
"الوكت سواد يكون في البسر إذا قارب أن يصير رطبا، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل والخدمة، ونفط تقرح ومنتبرا منتفخا"، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وحسبك من رفع شأن الأمانة:
(9/77)
أن كان صاحبها حقيقا بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين أمانة لهم ونصح، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة "ولو كان أبو عبيدة ابن الجراح حيا لعهدت إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له "إنه أمين هذه الأمة".
وقوله: {وَتَخُونُوا} عطف على قوله: {لا تَخُونُوا} فهو في حيز النهي، والتقدير: ولا تخونوا أماناتكم، وإنما أعيد فعل {تَخُونُوا} ولم يكتف بحرف العطف، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فان خيانتهم الله ورسوله نقض الوفاء لهما بالطاعة والامتثال، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه.
وجملة {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في موضع الحال من ضمير تخونوا الأول والثاني، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي، أو تشنيع المنهي عنه لان النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنع فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها، لأن ذلك قليل الجدوى، فان كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم.
ولك أن تجعل فعل {تَعْلَمُونَ} منزلا منزلة اللازم، فلا يقدر له مفعول، فيكون معناه "وأنتم ذوو علم" أي معرفة حقائق الأشياء، أي وأنتم علماء لا تجهلون الفرق بين المحاسن والقبائح، فيكون كقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في سورة البقرة[22].
ولك أن تقدر له هنا مفعولا دل عليه قوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فان المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة، بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية.
وابتداء جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} بفعل {اعْلَمُوا} للاهتمام كما تقدم آنفا عند قوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] - وقوله -: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرء حب المال وهي خيانة الغلول وغيرها، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام.
(9/78)
وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة فان غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لأبنائهم من بعدهم، وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير، ونجده في القرآن، قيل إن هاته الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة.
وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصرا ادعائيا لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة.
وجعل نفس "الأموال والأولاد" فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة.
وعطف قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} على قوله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد.
[29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
استئناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] الآية وما بعده من الآيات إلى هنا.
وافتتح بالنداء للاهتمام، كما تقدم آنفا.
وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفا في نظائره، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى.
ففعل الشرط مراد به الدوام، فإنهم كانوا متقين، ولكنهم لما حذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك.
ولقد بدا حسن المناسبة إذ رتبت على المنهيات تحذيرات من شرور وأضرار من قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] - وقوله -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} [الأنفال: 25] الآية، ورتب على التقوى: الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل.
والفرقان أصله مصدر كالشكران والغفران والبهتان، وهو ما يفرق أي يميز بين شيئين
(9/79)
متشابهين، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر، لأنه يفرق بين حالين كانا محتملين قبل ظهور النصر، ولقب القرآن بالفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه، فقد فسر بالنصر، وعن السدى، والضحاك، ومجاهد، الفرقان المخرج، وفي "أحكام ابن العربي"، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكا عن قوله تعالى: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} قال مخرجا ثم قرأ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3], وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا، فيشمل ذلك أحوال النفس: من الهداية، والمعرفة، والرضى، وانشراح القلب، وإزالة الحقد والغل والحسد، بينهم، والمكر والخداع وذميم الخلائق.
وقد أشعر قوله: {لَكُمْ} أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة، حتى يكونوا مطمئني البال منشرحي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا: منصورين، غالبين، بصراء بالأمور، كملة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد، وذلك هو ملاك استقامة الأمم، فاختيار الفرقان هنا لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيره مؤداه في هذا الغرض وذلك من تمام الفصاحة.
والتقوى تشمل التوبة، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى. ومفعول {يَغْفِرْ لَكُمْ} ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب، وهو الصغائر التي عبر عنها باللمم، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبة لها. وقيل التكفير الستر في الدنيا. والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال.
وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى.
[30] {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
(9/80)
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
يجوز أن يكون عطف قصة على قصة من قصص تأييد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين فيكون {إِذْ} متعلقا بفعل محذوف تقديره واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا، على طريقة نظائره الكثيرة في القرآن.
ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 26] فهو متعلق بفعل "اذكروا" من قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26]، فان المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام مكر بالمسلمين ويكون ما بينهما اعتراضا، فهذا تعداد لنعم النصر، التي أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصا، وهذه نعمة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. والأنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم، وهذا تذكير بأيام مقامهم بمكة، وما لاقاه المسلمون عموما وما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا وأن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم سلامة لأمته.
والمكر إيقاع الضر خفية، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في آل عمران[45]. وعند قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} في سورة الأعراف[99].
والإتيان بالمضارع في موضع الماضي الذي هو الغالب مع {إِذْ} استحضار للحالة التي دبروا فيها المكر، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
ومعنى {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك يقال أثبته إذا حبسه ومنعه من الحركة وأوثقه، والتعبير بالمضارع في {ِيُثْبِتُوكَ}، {يَقْتُلُوكَ} ، و {يُخْرِجُوكَ} ، لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال.
وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قبيل هجرته، فقال أبو البختري: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق وسدوا عليه باب بيت غير كوة تلقون إليه منها الطعام، وقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها فيأخذون العقل ونستريح منه، وقال هشام بن عمرو: الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين
(9/81)
أظهركم فلا يضركم ما صنع.
وموقع الواو في قوله: {وَيَمْكُرُونَ} لم أر أحدا من المفسرين عرج على بيانه وهي تحتمل وجهين: أحدهما أن تكون واو الحال، والجملة حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} وهي حال مؤسسة غير مؤكدة، باعتبار ما اتصل بها من الجملة المعطوفة عليها، وهي جملة: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} فقوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} هو مناط الفائدة من الحال وما قبله تمهيد له وتنصيص على أن مكرهم يقارنه مكر الله بهم، والمضارع في يمكرون ويمكر الله لاستحضار حالة المكر.
وثانيهما أن تكون واو الاعتراض أي العطف الصوري، ويكون المراد بالفعل المعطوف الدوام أي هم مكروا بك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وهم لا يزالون يمكرون كقول كعب بن الأشرف لمحمد بن مسلمة وأيضا لتملنه يعني النبي، فتكون جملة: {وَيَمْكُرُونَ} معترضة ويكون جملة: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} معطوفة على جملة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والمضارع في جملة: {وَيَمْكُرُونَ} للاستقبال والمضارع في ويمكر الله لاستحضار حالة مكر الله في وقت مكرهم مثل المضارع المعطوف هو عليه.
وبيان معنى إسناد المكر إلى الله تقدم: في آية سورة آل عمران[54] وآية سورة الأعراف[99] وكذلك قوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
والذين تولوا المكر هم سادة المشركين وكبراؤهم واعون أولئك الذين كان دأبهم الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي نزول القرآن عليه، وإنما أسند إلى جميع الكافرين لان البقية كانوا أتباعا للزعماء يأتمرون بأمرهم، ومن هؤلاء أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، وإضرابهم.
[31] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين، لم تنزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] - وقوله -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] -
(9/82)
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] ثم بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30].
وهذه الجمل عطف على جملة {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاجته، والتشغيب عليه: منهم النضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيط.
ومعنى {قَدْ سَمِعْنَا}: قد فهمنا ما تحتوي عليه، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتبينوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق، فلذلك قال الله تعالى عنهم {كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] أي لا يفقهون ما سمعوا.
ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحداهم بمعارضة سورة من القرآن، فعجزوا عن ذلك وأفحموا، ثم اعتذروا بان ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك قيل: قائل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، كان رجلا من مردة قريش ومن المستهزئين، وكان كثير الأسفار إلى الحيرة والى أطراف بلاد العجم في تجارته، فكان يلقى بالحيرة ناسا من العباد "بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى" فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقى من العرب من ينقل أسطورة حروب رستم و "اسفندياذ""1" من ملوك الفرس في قصصهم الخرافي، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية، فيما أحسب، إلا ما وقع في "الكشاف" أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر "رستم" و "اسفندياذ" ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار
ـــــــ
"1" سفندياذ بهمزة قطع مكسورة, فسين مهملة ساكنة, ففاء أخت القاف وقد يكتب بباء موحدة عوض الفاء لأن الباء الفارسية منطقها بين الباء والفاء العربية فكثيراً ما تعرب بالفاء وبالباء وهي مفتوحة وبعضهم يضبطها بالكسر, ثم ذال مهملة مكسورة, فتحتية, وآخر ذال معجمة كذا نطق به العرب وكذلك كتب في "تفسير ابن عطية", وهو في العجمية براء في آخره قاله التفتازاني في "شرح الكشاف".
قلت: وهو في "الكشاف" وفي "سيرة ابن هشام" بالراء وهو اسفنديار بن "كُشْتَاسب" من العائلة الكيانيين من ملوك الفرس لأن أسماء ملوكها مفتتحة بكلمة "كي" أولهم "كيقباذ" وفي زمن "كُشتاسب" ظهر "زرادشت" صاحب الديانة الشهيرة في الفرس قبل الإسلام, وأخبار حروب اسفنديار مع رستم وكلهم من ملوك الطوائف بفارس وكان رستم مَلكَ بلاد الترك.
(9/83)
مكتوبا بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب "الشاهنامه" تطويلا مملا على عادة أهل القصص، وقال الفخر: اشترى النضر من الحيرة أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين: من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويحكونه ويحاكونه، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن، وأنه نفس عليهم بهذه الأغلوطة، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه التراقة.
وقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة، وإلا فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] مع تحيزهم وتأمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن.
"والأساطير" جمع أسطورة بضم الهمزة وهي القصة وتقدم عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة الأنعام[25].
والمخالفة بين شرط {لَوْ} وجوابها إذ جعل شرطها مضارعا والجزاء ماضيا جرى على الاستعمال في "لو" غالبا، لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزأي جملتها ماضيا، أو كلاهما، فإذا أريد التفنن خولف بينهما، فالتقدير: لو شئنا لقلنا، ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكا قائما مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية، فالتقدير لو نشاء أن نقول نقول، ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه، فذلك أوعب للأزمان، ويكون هذا هو الفرق بين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وقوله: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد: 31] فهم لما قالوا {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقا في النفاجة والوقاحة.
[32, 33] {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
(9/84)
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
عطف على {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] أو على {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال: 31] وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة، وقالها أيضا أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قول النضر {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31] فارجع اليه، وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى.
وكلامهم هذا جار مجرى القسم، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي
وقال معدان بن جواس الكندي، أو حجية بن المضرب السكوني:
إن كان ما بلغت عني فلا منى ... صديقي وشلت من يدي الأنامل
وكفنت وحدي منذرا بردائه ... وصادف حوطا من أعادي قاتل
وقال الأشتر النخعي:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
قد ضمن الحريري في "المقامة العاشرة" هذه الطريقة في حكاية يمين وجهها أبو زيد السروجي على غلامه المزعوم لدى والي رحبة مالك بن طوق حتى اضطر الغلام إلى أن يقول: "الاصطلاء بالبلية، ولا الابتلاء بهذه الألية".
فمعنى كلامهم: إن هذا القرآن ليس حقا من عندك فان كان حقا فأصبنا بالعذاب وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليس الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقا ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقا منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بان يصيبهم عذاب عاجل أن كان القرآن حقا من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب
(9/85)
على أن القرآن ليس من عند الله، وذلك في معنى القسم كما علمت.
وتعليق الشرط بحرف {إِنْ} لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق.
وضمير {هُوَ} ضمير فصل فهو يقتضي تقوي الخبر أي: إن كان هذا حقا ومن عندك بلا شك.
وتعريف المسند بلام الجنس يقتضي الحصر فاجتمع في التركيب تقو وحصر وذلك تعبيرهم يحكون به أقوال القرآن المنوهة بصدقه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] وهم إنما أرادوا إن كان القرآن حقا ولا داعي لهم إلى نفي قوة حقيته ولا نفي انحصار الحقية فيه، وإن كان ذلك لازما لكونه حقا، لأنه إذا كان حقا ما هم عليه باطلا فصح اعتبار انحصار الحقية فيه انحصارا إضافيا، إلا أنه لا داعي إليه لولا أنهم أرادوا حكاية الكلام الذي يبطلونه.
وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم.
و {مِنْ عِنْدِكَ} حال من الحق أي منزلا من عندك فهم يطعنون في كونه حقا وفي كونه منزلا من عند الله.
وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} وصف لحجارة أي حجارة مخلوقة لعذاب من تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الأنفال: 13] "والصب قريب من الأمطار".
ذكروا عذابا خاصا وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا:ك {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلا من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقا ومنزلا من عند الله.
وإذ كان هذا القول إنما يلزم قائله خاصة ومن شاركه فيه ونطق به مثل النضر وأبي جهل ومن التزم ذلك وشارك فيه من أهل ناديهم، كانوا قد عرضوا أنفسهم به إلى تعذيب الله إياهم انتصارا لنبيه وكتابه، وكانت الآية نزلت بعد أن حق العذاب على قائلي هذا
(9/86)
القول وهو عذاب القتل المهين بأيدي المسلمين يوم بدر، قال تعالى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} وكان العذاب قد تأخر عنهم زمنا اقتضته حكمة الله، بين الله لرسوله في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون.
فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} كناية عن استحقاقهم، وإعلام بكرامة رسوله صلى الله عليه وسلم عنده، لأنه جعل وجوده بين ظهراني المشركين مع استحقاقهم العقاب سببا في تأخير العذاب عنهم، وهذه مكرمة أكرم الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل وجوده في مكان مانعا من نزول العذاب على أهله، فهذه الآية إخبار عما قدره الله فيما مضى.
وقال ابن عطية قالت فرقه نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقال ابن أبزى نزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} بمكة إثر قولهم: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ونزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] بعد بدر.
وفي توجيه الخطاب بهذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتلاب ضمير خطابه بقوله: {وَأَنْتَ فِيهِمْ} لطيفة من التكرمة إذ لم يقل وما كان الله ليعذبهم وفيهم رسوله كما قال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101].
وأما قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فقد أشكل على المفسرين نظمها، وحمل ذلك بعضهم على تفكيك الضمائر فجعل ضمائر الغيبة من {يُعَذِّبَهُمُ} و {فِيهِمْ} و {مُعَذِّبَهُمْ} للمشركين، وجعل ضمير وهم يستغفرون للمسلمين، فيكون عائدا إلى مفهوم من الكلام يدل عليه {يَسْتَغْفِرُونَ} فانه لا يستغفر الله إلا المسلمون وعلى تأويل الإسناد فانه إسناد الاستغفار لمن حل بينهم من المسلمين، بناء على أن المشركين لا يستغفرون الله من الشرك.
فالذي يظهر أنها جملة معترضة انتهزت بها فرصة التهديد بتعقيبه بترغيب على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد، فبعد أن هدد المشركين بالعذاب ذكرهم بالتوبة من الشرك بطلب المغفرة من ربهم بان يؤمنوا بأنه واحد، ويصدقوا رسوله، فهو وعد بأن التوبة من الشرك تدفع عنهم العذاب وتكون لهم أمنا وذلك هو المراد بالاستغفار، إذ من البين أن ليس المراد ب {يَسْتَغْفِرُونَ} أنهم يقولون: غفرانك اللهم ونحوه، إذ لا عبرة بالاستغفار بالقول والعمل يخالفه فيكون قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} تحريضا وذلك
(9/87)
في الاستغفار وتلقينا للتوبة زيادة في الأعذار لهم على معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38].
وفي قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} تعريض بأنه يوشك أن يعذبهم إن لم يستغفروا وهذا من الكناية العرضية.
وجملة {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} حال مقدرة أي إذا استغفروا الله من الشرك وحسن موقعها هنا أنها جاءت قيدا لعمل منفي فالمعني وما كان الله معذبهم لو استغفروا.
وبذلك يظهر أن جملة: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] صادفت محزها من الكلام أي لم يسلكوا يحول بينهم عذاب الله فليس لهم أن ينتفي عنهم عذاب الله.
وقد دلت الآية على فضيلة الاستغفار وبركته بإثبات بان المسلمين آمنوا من العذاب الذي عذب الله به الأمم لأنهم استغفروا من الشرك باتباعهم الإسلام روى الترمذي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل الله علي أمانين لأمتي {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة" .
[34] {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
عطف على قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم، بيانا بالصراحة.
و {مَا} استفهامية، والاستفهام إنكاري، وهي في محل المبتدإ و {لَهُمْ} خبره، واللام للاستحقاق والتقدير ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله فكلمة "ما" اسم استفهام إنكاري والمعنى لم يثبت لهم شيء.
و {أن لا يعذبهم} مجرور بلام جر محذوفة بعد "إن" على الشائع من حذف الجر مع "أن" والتقدير: أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو من عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم، أو توقع حلوله بهم، تقول العرب: مالك أن لا تكرم أي أنت
(9/88)
حقيق بان تكرم ولا يمنعك من الإكرام شيء، فاللفظ نفي لمانع الفعل، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه، فلم يبق ما يحول بينك وبينه.
وقد يتركون "أن" ويقولون ما لك لا تفعل فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال وتكون تلك الحال هي مثير الاستفهام الإنكاري، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال.
وجوزوا أن تكون {مَا} في الآية نافية فيكون {أن لا يعذبهم} اسمها و {لَهُمْ} خبرها والتقدير وما عدم التعذيب كائنا لهم.
وجملة: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} في موضع الحال على التقديرين.
والصد الصرف، ومفعول {يَصُدُّونَ} محذوف دل عليه السياق، أي يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام بقرينة قوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} فكان الصد عن المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة، لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بناه مؤسسه ليكون علما على توحيد الله ومأوى للموحدين، فصدهم المسلمين عنه، لأنهم آمنوا بإله واحد، صرف له عن كونه علما على التوحيد، إذ صار الموحدون معدودين غير أهل لزيارته، فقد جعلوا مضادين له، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضادا للتوحيد وأهله، ولذلك عقب بقوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} وهذا كقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. والظلم الشرك لقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وهذا الصد الذي ذكرته الآية: هو عزمهم على صد المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعتمروا، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون مكة. في "الكشاف" "كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء".
قلت: ويشهد لذلك قضية سعد بن معاذ مع أبي جهل ففي "صحيح البخاري" عن عبد الله بن مسعود، أنه حدث عن سعد بن معاذ: "أنه كان صديقا لامية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد معتمرا فنزل على أمية بمكة فقال لامية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان من "كنية أمية بن خلف" هذا معك - فقال: هذا سعد فقال له أبو جهل: إلا
(9/89)
أراك تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم الصباة أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى اهلك سالما" الحديث.
وقد أفادت الآية: أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم بدر، من القتل والاسر، هو من العذاب، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنيبه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة سلط على كل أحد من العذاب ما يجازي كفره وظلمه وإذايته النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفرا عرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم، مثل النضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيط، وأبي جهل، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفرا واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا، بقرب أو بعد، وهؤلاء مثل أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وخالد بن الوليد، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه، وحقق بذلك رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده".
وجملة: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} في موضع الحال من ضمير {يَصُدُّونَ} والمقصود نم هذه الحال إظهار اعتدائهم في صدهم عن المسجد الحرام، فان من صد عما هوله من الخير كان ظالما، ومن صد عما ليس من حقه كان أشد ظلما، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] أي لا أظلم منه أحد لأنه منع شيئا عن مستحقه.
وجملة: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} تعيين لأوليائه الحق، وتقرير لمضمون {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} مع زيادة ما أفاده القصر من تعيين أوليائه، فهي بمنزلة الدليل على نفي ولاية المشركين، ولذلك فصلت.
وإنما لم يكتف بجملة القصر مع اقتضائه أن غير المتقين ليسوا أولياء المسجد الحرام، لفصد التصريح بظلم المشركين في صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بأنهم لا ولاية لهم عليه، فكانت جملة: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أشد تعلقا بجملة: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} من جملة: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} وكانت جملة: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} كالدليل، فانتظم الاستدلال أبدع انتظام، ولما في إناطة ولاية المسجد الحرام بالمتقين من الإشارة إلى أن المشركين الذين سلبت عنهم ولايته ليسوا من المتقين، فهو مذمة لهم وتحقيق للنفي بحجة.
والاستدراك الذي أفاده {كِنَّ} ناشئ عن المقدمتين اللتين تضمنتهما جملتا {وَمَا
(9/90)
كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} لأن ذلك يثير فرض سائل يسأل عن الموجب الذي أقحمهم في الصد عن المسجد الحرام، ويحسبون أنهم حقيقون بولايته لما تقدم عن "الكشاف"، فحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة الاستدراك عليه لتعلق الاستدراك بقوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}.
وإنما نفى العلم عن أكثرهم دون أن يقال ولكنهم لا يعلمون فاقتضى أن منهم من يعلم أنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام، وهم من أيقنوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم واستفاقوا من غفلتهم القديمة، ولكن حملهم على المشايعة للصادين عن المسجد الحرام، العناد وطلب الرئاسة، وموافقة الدهماء على ضلالهم، وهؤلاء هم عقلاء أهل مكة ومن تهيأ للإيمان منهم مثل العباس وعقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وخالد بن الوليد ومن استبقاهم الله للإسلام فكانوا من نصرائه من بعد نزول هذه الآية.
[35] {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
معطوفة على جملة {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 34] فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب، وموقعها، عقب جملة {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال: 34] يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام، لان من كان يفعل مثل هذا عند مسجد الله لم يكن من المتقين، فكان حقيقا بسلب ولاية المسجد عنه، فعطفت الجملة باعتبارها سببا للعذاب، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصح ذلك، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني.
والمكاء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبكاء والنواح. يقال مكا يمكو إذا صفر بفيه ومنه سمي نزع من الطير المكاء بفتح الميم وتشديد الكاف وجمعه مكاكئ بهمزة في آخره بعد الياء وهو طائر أبيض يكون بالحجاز.
وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان "ما تمكو" فشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ.
والتصدية التصفيق مشتقا من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكيا لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة.
(9/91)
ولا تعرف للمشركين صلاة فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت، كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمكاء والتصدية، قال مجاهد فعل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين: مجاهد، وابن جبير، وقتادة، ويؤيد هذا قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 34] لأن شان التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله، والمكاء والتصدية لا يعدان كفرا إلا إذا كانا صادرين للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالدين، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونه كفرا إلا على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].
ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكون ويصفقون روى عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصغرون وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل، قال طلحة بن عمرو: أراني سعيد ابن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قبيس، فاذا صح الذي قاله طلحة ابن عمرو هذا فالعندية في قوله: {عِنْدَ الْبَيْتِ} بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده "عند" من شدة القرب.
ودل قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} على عذاب واقع بهم، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليط وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر، من قتل وأسر وحرب "بفتح الراء".
{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بكفركم فما مصدرية، و {كَانَ} إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة، كقول عايشة. فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه وقول سعيد بن المسيب في "الموطأ" "كانوا يعطون النفل من الخمس".
وعبر هنا ب {تَكْفُرُونَ} وفي سورة الأعراف[39] ب {تَكْسِبُونَ} لأن العذاب المتحدث عنه هنا لأجل الكفر، والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال وما يجره الإضلال من الكبرياء الرئاسة.
(9/92)
[36, 37] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}.
لما ذكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم، عقب بذكر محاولتهم استئصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب{سَبِيلِ اللَّهِ} وجعلت الجملة مستأنفة، غير معطوفة، اهتماما بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام، وأتى بصيغة المضارع في {يُنْفِقُونَ} للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العدد لغزو المسلمين فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه.
وهذا الاتفاق: أنهم كانوا يطمعون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم، وكان المطعمون اثني عشر رجلا وهم أبو جهل، وأمية بن خلف، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، وأبو البختري والعاصي بن هشام، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث، ونبيه بن حجاج السهمي، وأخوه منبه، وسهيل بن عمرو العامري. كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر. وهذا الإنفاق وقع يوم بدر، وقد مضى، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات.
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة، وإلا فانهم ينفقون بعض أموالهم.
والفاء في {فَسَيُنْفِقُونَهَا} تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الإنفاق في المستقبل، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الإنفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين.
وضمير {يُنْفِقُونَهَا} راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفقة بل الأموال الباقية أو
(9/93)
بما يكتسبونه.
و {ثُمَّ} للتراخي الحقيقي والرتبي، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم والحسرة شدة الندامة والتلهف على ما فات، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها، ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر، لأن الأموال سبب التحسر لا سبب الحسرة نفسها.
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائل فيما أنفقوا لأجله، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصل له المقصود من إنفاقه، ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلبون، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يوم أحد: استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أحد، والأحابيش فرق من كناية تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشا وسكنوا حول مكة سموا أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كفاء لنصر يوم بدر بل كان نصر يوم بدر أعظم، ولذلك اقتنع أبو سفيان يوم أحد أن يقول "يوم بيوم بدر والحرب سجال" وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائل، فكان إنفاقهم حسرة عليهم.
وقوله: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم، فأنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائل توعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضا يوم بدر، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاع دابر أمرهم، وهذا كالإنذار في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوما بالسياق فان أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لقاحا.
وثم للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها.
[36, 37] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى جهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا
(9/94)
الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بأصرح عبارة، وهذا كقول عويف القوافي:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
لقصد زيادة تشنيع وبر المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيها بليغا.
وعرفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر. فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم.
و {لِيَمِيزَ} متعلق ب {يُحْشَرُونَ} لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر، لأن العلة غير المؤثرة تكون متعددة، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحكم لحشر الكافرين إلى جهنم.
وقرأ الجمهور - {لِيَمِيزَ} - بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية - مضارع ماز بمعنى فرز وقرأ حمزة والكسائي، ويعقوب، وخلف: بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية. مضارع ميز إذا محص الفرز وإذ أسند هذا الفعل إلى الله تعالى استوت القراءتان.
والخبيث الشيء الموصوف بالخبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروها مثل القذر، والوسخ، ويطلق الخبث مجازا على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيها للمعقول بالمحسوس، وهو مجاز مشهور والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال، والطيب الموصوف بالطيب ضد الخبث بإطلاقيه فالكفر خبث لان أساسه الاعتقاد الفاسد، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقائقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها، ثم أن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليب حقائق الأمور، وما من ضلالة إلا وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها، والإيمان بخلاف ذلك.
و"من" في قوله: {مِنَ الطَّيِّبِ} للفصل، وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} في سورة البقرة[220].
وجعل الخبيث بعضه على بعض: علة أخرى لحشر الكافرين إلى جهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد، لزيادة تمييزه عن
(9/95)
الطيب، ولتشهير من كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإيمان. وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام، اذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا ركاما.
والركم: ضم شيء أعلى إلى أسفل منه، وقد وصف السحاب بقوله: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43].
واسم الإشارة ب {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} للتنبيه على أن استحقاقهم الخبر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة، فان من كانت تلك حالة كان حقيقا بأنه قد خسر اعظم الخسران لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة.
فصيغة القصر في قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} هي للقصر الادعائي، للمبالغة في اتصافهم بالخسران، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس.
[38] {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.
جرى هذا الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب، والوعيد بالوعد، والعكس، فأنذرهم بما أنذر، وتوعدهم بما توعد ثم ذكرهم بأنهم متمكنون من التدارك وإصلاح ما أفسدوا، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يفتح لهم باب الإنابة.
والجملة استئناف يصح جعله بيانيا لأن ما تقدم بين يديه من الوعيد وقلة الاكتراث بشأنهم، وذكر خيبة مساعيهم، مما يثير في أنفس بعضهم والسامعين أن يتساءلوا عما إذا بقي لهم مخلص ينجيهم من ورطتهم التي ارتبقوا فيها، فأمر الرسول بان يقول لهم هذا المقال ليريهم أن باب التوبة مفتوح، والإقلاع في مكنتهم.
وأسند الفعل في الجملة المحكية بالقول إلى ضمير الغائبين لأنه حكاية بالمعنى روعي فيها جانب المخاطب بالأمر تنبيها على أنه ليس حظه مجرد تبليغ مقالة، فجعل حظه حظ لمخبر بالقضية الذي يراد تقررها لديه قبل تبليغها، وهو إذا بلغ إليهم يبلغ إليهم ما أعلم به وبلغ اليه، فيكون مخبرا بخبر وليس مجرد حامل لرسالة.
والمراد بالانتهاء: الانتهاء عن شيء معلوم دل عليه وصف الكفر هنا وما تقدمه من أمثاله وآثاره من الإنفاق للصد عن سبيل الله، أي إن ينتهوا عن ذلك، وإنما يكون الانتهاء
(9/96)
عن ذلك كله بالإيمان.
و {مَا قَدْ سَلَفَ} هو ما أسلفوه من الكفر وآثاره، وهذا، وإن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين، فهو شامل كل كافر لتساوي الحال.
ولفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة، وذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة، ويلحق به هنا عذاب الله في الدنيا لقوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.
واستنبط أئمتنا من هذه الآية أحكاما للأفعال والتبعات التي قد تصدر من الكافر في حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يسقط عنه إسلامه التبعات بها.
وذلك يرجع إلى ما استقريته واصلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها وتراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير، فروى ابن العربي في "الأحكام" أن ابن القاسم. وأشهب، وابن وهب، رووا عن مالك في هذه الآية: أن من طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه، ومن حلف يمينا ثم أسلم فلا حنث عليه فيها، وروى عن مالك: إنما يعني عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء. قال ابن العربي وهو الصواب لعموم قوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، وان ابن القاسم، وابن وهب، رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد. ولو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقا لله محضا وما كان فيه حق للناس.
وذكر القرطبي عن ابن المنذر: أنه حكى مثل ذلك عن الشافعي، وأنه احتج بهذه الآية، وفي "المدونة" تسقط عنه الحدود كلها.
وذكر في "الكشاف" عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين، واحتج بهذه الآية وفي كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا، وحكوا في المرتد إذا تاب وعاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فاته من الصلاة ولا غرم ما أصاب من جنايات ومتلفات، وعن الشافعي يلزم ذلك كله وهو ما نسبه ابن العربي إلى الشافعي بخلاف ما نسبه إليه ابن المنذر كما تقدم وعن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو لله ولا يسقط عنه حق الناس وحجة الجميع هذه الآية تعميما وتخصيصا بمخصصات أخرى.
(9/97)
وفي قوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} محسن بديعي وهو الاتزان لأنه في ميزان الرجز.
والمراد بالعود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والتجهز لحربهم. مثل صنعهم يوم بدر. وليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا} تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما وهذا كقول العرب بعضهم لبعض: "أسلم أنت أم حرب" ولان الذين كفروا لما يفارقوا الكفر بعد فلا يكون المراد بالعود عودهم إلى الكفر بعد أن يسلموا.
والسنة العادة المألوفة والسيرة، وقد تقدم في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} في آل عمران[137].
ومعنى مَضَتْ تقدمت وعرفها الناس.
وهذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون، والقرينة على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار يمضي سنة الأولين، هو من الإخبار بشيء معلوم للمخبرين به، وبهذا الاعتبار حسن تأكيده بقد إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي.
وبهذا الاعتبار صح وقوع قوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} جزاء للشرط، ولولا ذلك لما كان بين الشرط وجوابه ملازمة في شيء.
والأولون: السابقون المتقدمون في حالة، والمراد هنا الأمم التي سبقت وعرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل الله فلقوا عذاب الاستئصال مثل عاد وثمود قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} [فاطر: 43].
ويجوز أن المراد بالأولين أيضا السابقون للمخاطبين من قومهم من أهل مكة الذين استأصلهم السيف يوم بدر. وفي كل أولئك عبرة للحاضرين الباقين، وتهديد بان يصيروا مصيرهم.
[39, 40] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
عطف على جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36] الآية، ويجوز أن
(9/98)
تكون عطفا على جملة: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] فتكون مما يدخل في حكم جواب الشرط. والتقدير: فإن يعودوا فقاتلوهم، كقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] - وقوله -: {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 3] والضمير عائد إلى مشركي مكة.
والفتنة اضطراب أمر الناس ومرجهم، وقد تقدم بيانها غير مرة، منها عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} في سورة البقرة[102] وقوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة العقود[71].
والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم، وكان قتالهم مقصودا منه إعدامهم أو إسلامهم، وبأحد هذين يكون انتفاء الفتنة، فنتج من ذلك أن الفتنة المراد نقيها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة، لأنهم إنما يفتنون من خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك.
وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا، وأنعهم لا تقبل منهم الجزية، ولذلك قال الله تعالى هنا: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} - وقال في الآية الأخرى - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وهي أيضا دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا: من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعا لأذى المشركين ضعفاء المسلمين، والتضييق عليهم حيثما حلوا، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].
والتعريف في {الدِّينُ} للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة. إلا أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو {كُلُّهُ} وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولا من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصا من هذه الآية عدل عن إعادته في آية البقرة تطلبا للإيجاز.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن
(9/99)
القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحول بينه وبين إيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يخلص اليه، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه، وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك.
وقرأ الجمهور: {يَعْمَلُونَ}- بياء الغائب - وقرأه رويس عن يعقوب - بتاء الخطاب -.
والتولي: الإعراض وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في سورة العقود[92].
والمولى الذي يتولى أمر غيره ويدفع عنه وفيه معنى النصر.
والمعنى وإن تولوا عن هاته الدعوة فالله مغن لكم عن ولائهم، أي لا يضركم توليهم فقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} يؤذن بجواب محذوف تقديره: فلا تخافوا توليهم فان الله مولاكم وهو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة الكذاب "ولئن توليت ليعفرنك الله" وإنما الخسارة عليهم إذ حرموا السلامة والكرامة.
وافتتاح جملة جواب الشرط ب {اعْلَمُوا} لقصد الاهتمام بهذا الخبر وتحقيقه، أي لا تغفلوا عن ذلك، كما مر آنفا عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
وجملة: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} مستأنفة لأنها إنشاء ثناء على الله فكانت بمنزلة التذييل.
وعطف على نعم المولى قوله: {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لما في المولى من معنى النصر كما تقدم وقد تقدم بيان عطف قوله تعالى: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} على قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} سورة آل عمران[173].
[41] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال، الذي افتتحته السورة، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين. والجملة معطوفة على جملة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39].
(9/100)
وافتتاحه ب {اعْلَمُوا} للاهتمام بشأنه، والتنبيه على رعاية العمل به، كما تقدم في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] فإن المقصود بالعلم تقرر الجزم بأن ذلك حكم الله، والعمل بذلك المعلوم، فيكون {اعْلَمُوا} كناية مرادا به صريحه ولازمه. والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر وليس هذا نسخا لحكم الأنفال المذكور أول السورة، بل هو بيان لإجمال قوله: {لِلَّهِ .. وَلِلرَّسُولِ} وقال أبو عبيد: إنها ناسخة، وإن الله شرع ابتداء أن قسمة المغانم لرسوله، صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين، ثم شرع التخميس. وذكروا: أن رسول الله لم يخمس مغانم بدر ثم خمس مغانم أخرى بعد بدر، أي بعد نزول آية سورة الأنفال، وفي حديث علي: "أن رسول الله أعطاه شارفا من الخمس يوم بدر" ، فاقتضت هذه الرواية أن مغانم بدر خمست.
وقد اضطربت أقوال المفسرين قديما في المراد من المغنم في هذه الآية، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس، أو أن إحدى الآيتين مخصصة للأخرى: إما في السهام، وإما في أنواع المغانم، وتفصيل ذلك يطول. وترددوا في مسمى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالا لاختلاف الأقوال: النفل، والغنيمة، والفيء.
والوجه عندي في تفسير هذه الآية، واتصالها بقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] أن المراد بقوله: {مَا غَنِمْتُمْ} في هذه الآية: ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش، وذلك ما سمي بالأنفال، في أول السورة، فالنفل والغنيمة مترادفان، وذلك مقتضى استعمال اللغة، فعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، وعطاء: الأنفال الغنائم. وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا {غَنِمْتُمْ} وقال في أول السورة[الأنفال: 1] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} لاقتضاء الحال التعبير هنا بفعل، وليس في العربية فعل من مادة النفل يفيد إسناد معناه إلى من حصل له، ولذلك فآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} سيقت هنا بيانا لآية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} فإنهما وردتا في انتظام متصل من الكلام. ونرى أن تخصيص اسم النفل بما يعطيه أمير الجيش أحد المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبا أو نحوه مما يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي، إنما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر، وأما ما روي عن ابن عباس: أن الأنفال ما يصل إلى
(9/101)
المسلمين بغير قتال، فجعلها بمعنى الفيء، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد.
وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية.
فاصطلحوا على أن الغنيمة، ويقال: لها المغنم، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصبا، بقتل أو بأسر، أو يقتحمون ديارهم غازين، أو يتركه الأعداء في ديارهم، إذا فروا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال. فأما ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدو، وما يتركه العدو من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الخ. فقال مالك: ليس أموال العدو المقاتل حق لجيش المسلمين إلا الغنيمة والفيء. وأما النفل فليس حقا مستقلا بالحكم، ولكنه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة، على ما يرى من الاجتهاد، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حد له، ولا يكون فيما زاد على الخمس. هذا قول مالك ورواية عن الشافعي. وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة، والشافعي، في أشهر الروايتين عنه، وسعيد بن المسيب: النفل من الخمس وهو خمس الخمس.
وعن الأوزاعي، ومكحول، وجمهور الفقهاء: النفل ما يعطي من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس.
و"ما" في قوله: {أَنَّمَا} اسم موصول وهو اسم "أن" وكتبت هذه في المصحف متصلة بأن لأن زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه، فالتفرقة في الرسم بين "ما" الكافة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى. وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لعموم "ما" لئلا يتوهم أن المقصود غنيمة معينة خاصة. والفاء في
(9/102)
قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} لما في الموصول من معنى الاشتراط، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل: إن غنمتم فحق لله خمسه الخ.
والمصدر المؤول بعد "أن" في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدؤه، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلت عليه لام الاستحقاق، أي فحق لله خمسه. وإنما صيغ على هذا النظم، مع كون معنى اللام كافيا في الدلالة على الأحقية، كما قرئ في الشاذ {فَلِلَّهِ خُمُسَهُ} لما يفيده الإتيان بحرف "أن" من الإسناد مرتين تأكيدا، ولأن في حذف أحد ركني الإسناد تكثيرا لوجوه الاحتمال في المقدر، من نحو تقدير: حق، أو ثبات، أو لازم، أو واجب.
واللام للملك، أو الاستحقاق، وقد علم أن أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير {غَنِمْتُمْ} فثبت به أن الغنيمة لهم عدا خمسها.
وقد جعل الله خمس الغنيمة حقا لله وللرسول ومن عطف عليهما، وكان أمر العرب في الجاهلية أن ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش، ويسمى ذلك "المرباع" بكسر الميم.
وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقا لله، من غير ما فيه عبادة له: أن ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه، فلكل نوع من الأموال مستحقون عينهم الشرع، فالمعنى في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ان الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أن ذلك الخمس حق الله يصرفه حيث يشاء، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمة المسلمين. وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوما على خمسة أسهم، وهذا قول عامة علماء الإسلام وشذ أبو العالية رفيع"1" الرياحي ولاء من التابعين، فقال: إن الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة: أي على وجه يشبه القرعة، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم اليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان: حالة تصرفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة، وحالة انتفاعه بما يحب انتفاعه به من ذلك. فلذلك
ـــــــ
"1" بضم الراء وفتح الفاء توفي سنة تسعين على الصحيح.
(9/103)
ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله، ويجعل الباقي مجعل مال الله. وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" فيقاس عليه خمس الغنيمة وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحق في مال الله. وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب. محاورته مع العباس وعلي. حين تحاكما إليه. رواه مالك في "الموطأ" ورجال "الصحيح"، قال عمر: "إن الله كان قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] فكانت هذه خالصة لرسول الله ووالله ما احتازها دونكم ولا أستأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال. فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله . والغرض من جلب كلام عمر قوله ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله".
وأما ذو {الْقُرْبَى} ف "أل" في {الْقُرْبَى} عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة البقرة[177] {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} أي ذوي قرابة المؤتي المال. والمراد هنا هو "الرسول" المذكور قبله، أي ولذوي قربى الرسول، والمراد ب "ذي" الجنس، أي: ذوي قربى الرسول، أي: قرابته، وذلك إكرام من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ جعل لأهل قرابته حقا في مال الله. لأن الله حرم عليهم أخذ الصدقات والزكاة، فلا جرم أنه أغناهم من مال الله. ولذلك كان حقهم في الخمس ثابتا بوصف القرابة.
فذو القربى مراد به كل من اتصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص، ولكن لفظ {الْقُرْبَى} جنس فهو مجمل وأجملت رتبة القرابى إحالة على المعروف في قربى الرجل، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمهات. ثم إن نسب الآباء بين العرب يعد مشتركا إلى الحد الذي تنشق منه الفصائل، ومحملها الظاهر على عصبة الرجل من أبناء جدة الأدنى. وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم، وإن شئت فقل: هم بنو هاشم، لأن هاشما لم يبق له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عبد المطلب، فالأرجح أن قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل، وقاله ابن عباس، وعلي ابن الحسين، وعبد الله بن الحسن، ومجاهد، والأوزاعي، والثوري، وذهب ثور: أن القربى هنا: هم بنو
(9/104)
هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم من بني عبد مناف. ومال إليه من المالكية ابن العربي، ومتمسك هؤلاء ما رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، عن جبير بن مطعم: أنه قال: أتيت أنا وعثمان بن عفان رسول الله نكلمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة فقال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، ولا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم، ولكن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور: أحدها: أن للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته سهما من الخمس فيحتمل أنه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاص، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية، وانتصارهم له، وتلك منقبة شريفة أيدوا بها دعوة الدين وهم مشركون، فلم يضعها الله لهم وأمر رسوله بمواساتهم وذلك لا يكسبهم حقا مستمرا.
ثانيها: أن الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة فالقربى هي النسب، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاشم، وأما بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن آباءهم هم أبناء عبد مناف، وأخوة لهاشم، فالذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية، وهم الذين أعطى رسول الله أعيانهم ولم يثبت أنه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب.
أما قول أبي حنيفة فقال الجصاص في "أحكام القرآن": قال أبو حنيفة في "الجامع الصغير": يقسم الخمس على ثلاثة أسهم "أي ولم يتعرض لسهم ذوي القربى" وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: خمس الله والرسول واحد وخمس لذي القربى فلكل صنف سماه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس قال: وإن الخلفاء الأربعة متفقون على أن ذا القربى لا يستحق إلا بالفقر. قال: وقد اختلف في ذوي القربى من هم فقال أصحابنا: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حرم عليهم الصدقة وهم "آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث ابن عبد المطلب" وقال آخرون: بنو المطلب داخلون فيهم.
وقال أصبغ من المالكية: ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وهم آل قصي. وعنه أنهم
(9/105)
آل غالب بن فهر، أي قريش، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنه آثر علينا الأفجرين" رواه الحنيفة في كتاب الزكاة ولا يعرف لهذا الحديث سند، وبعد فلا دلالة فيه، لأن ذلك خاص بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام. ذكر ابن حجر في "الإصابة" أن محمد بن إسحاق، وغيره، روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قدمت درة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أن الناس يصيحون بي ويقولون: إني بنت حطب النار، فقام رسول الله؛ وهو مغضب شديد الغضب، فقال: "ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألا ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن أذاني فقد آذى الله". فوصف درة بأنها من نسبه. والجمهور على أن ذوي القربى يستحقون دون اشتراط الفقر، لأن ظاهر الآية أن وصف قربى النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ثبوت الحق لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم. وهذا قول جمهور العلماء.
وقال أبو حنيفة: لا يعطون إلا بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز. ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أن لا يحاصهم فيه من عداهم من الفقراء، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقة الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم.
وقد جعل الله الخمس لخمسة مصارف ولم يعين مقدار ما لكل مصرف منه، ولا شك أن الله أراد ذلك ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولا إلى اجتهاد رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح، فيأخذ كل مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضر معه على أهل المصرف الآخر، وهذا قول مالك في قسمة الخمس، وهو أصح الأقوال، إذ ليس في الآية تعرض لمقدار القسمة، ولم يرد في السنة ما يصح التمسك به لذلك، فوجب أن يناط بالحاجة، وبتقديم الأحوج والأهم عند التضايق والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام، وقد قال عمر: "فكان الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله".
وقال الشافعي: يقسم لكل مصرف الخمس من الخمس، لأنها خمسة مصارف، فجعلها متساوية لأن التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جعل ما لله ولرسوله خمسا واحدا تبعا للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين.
(9/106)
وقال أبو حنيفة: ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل، لأن رسول الله إنما أخذ سهما في المغنم لأنه رسول الله، لا لأنه إمام، فلذلك لا يخلفه فيه غيره.
وعند الجمهور أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} تقدم تفسير معانيها عند قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} في سورة البقرة[177] وعند قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} - إلى قوله - {وَابْنَ السَّبِيلِ} في سورة النساء[36].
واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلا إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكل صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنة الحاجة، ولكنها دون الفقر فجعل لهم حق في المغنم توفيرا عليهم في إقامة شؤونهم، فهم من الحاجة المالية أحسن حالا من المساكين، وهم من حالة المقدرة أضعف حالا منهم، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئا.
والمساكين الفقراء الشديد والفقر جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقا في الزكاة، ولم يجعل للفقراء حقا في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقا في الزكاة.
وابن السبيل أيضا في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شؤونه، فهو مظنة الحاجة، فلو كان ابن السبيل ذا وفر وغنى لم يعط من الخمس، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناء السبيل الفقر، بل مطلق الحاجة. واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل وجعل ذكرهم دون الاكتفاء بالمساكين لتقرير استحقاقهم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} شرط يتعلق بما دل عليه قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العمل بالمعلوم والامتثال لمقتضاه كما تقدم، صح تعلق الشرط به، فيكون قوله: {وَاعْلَمُوا} دليلا على الجواب أو هو الجواب مقدما على شرطه، والتقدير: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن ما غنمتم الخ. واعملوا بما علمتم
(9/107)
فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقنعوا بالأخماس الأربعة، لأن الذي يتوقف على تحقق الإيمان بالله وآياته هو العلم بأنه حكم الله مع العمل المترتب على ذلك العلم. مطلق العلم بأن الرسول قال ذلك.
والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أن المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقق المشروط، وهو مضمون جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} إلى آخرها. وجيء في الشرط بحرف "إن" التي شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه زيادة في حثهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهابا لهم ليبعثهم على إظهار تحقق الشرط فيهم، فالمعنى: أنكم آمنتم بالله والإيمان يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يوم بدر حين فرق الله بين الحق والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حق اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أن الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم واشد تثبيتا لقوة دينكم. فمن رأوا ذلك وتحققوه فهم أحرياء بأن يعلموا أن ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة، ولم يعبأوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة، علما بأن وراء ذلك مصالح جملة آجلة في الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا} عطف على اسم الجلالة والمعنى وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان وهذا تخلص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر، والإيمان به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ويجوز أن يكون العلم به فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه أو من عموم المشترك.
وتخصيص {مَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد، لان لذلك المنزل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا}.
والإنزال: هو إيصال شيء من علو إلى سفل وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فيجوز أن يكون هذا المنزل من قبيل الوحي، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بدر، لكنه الوحي المتضمن شيئا يؤمنون به مثل قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7].
ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات، والألطاف العجيبة، مثل إنزال الملائكة
(9/108)
للنصر، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه، لتعبيد الطريق، وتثبيت الأقدام، والاستقاء.
وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيها له بالواصل إليهم من علو تشريفا له كقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26]. والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأن عرض ذلك واحد، وكذلك ما هو من معناه مما نعلمه أو لم علمناه.
و {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} هو يوم بدر، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمي يوم الفرقان لأن الفرقان بين الحق والباطل كما تقدم آنفا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] وقد كان يوم بدر فارقا بين الحق والباطل لأنه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء، وهو نصر المحقين الأذلة على الأعزة المبطلين، وكفى بذلك فرقانا وتمييزا بين من هم على الحق ومن هم على الباطل.
فإضافة يوم إلى الفرقان إضافة تنويه به وتشريف، وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} بدل من {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} فإضافة {يَوْمَ} إلى جملة: {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} للتذكير بذلك الالتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوهم. والتعريف في {الْجَمْعَانِ} للعهد. وهما جمع المسلمين وجمع المشركين.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلق ببعض جملة الشرط في قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فإن ذلك دليل على أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، فإن ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جاريا على متعارف الأسباب المعتادة، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياء من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} أنه أضيف إلى الفرقان الذي هو لقب القرآن فإن المشهور أن ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان فيكون من استعمال المشترك في معنييه.
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
(9/109)
{إِذْ} بدل من {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] فهو ظرف ل {أَنْزَلْنَا} [الأنفال: 41] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون، فيها وتنبيههم للطف عظيم حفهم من الله تعالى وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد، ووجد المسلمون أنفسهم أمام عدو قوي العدة والعدة والمكانة من حسن الموقع. ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة.
والعدوة بتثليث العين ضفة الوادي وشاطئه، والضم والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة، فقرأه الجمهور - بضم العين -، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب - بكسر العين -.
والمراد بها شاطئ وادي بدر. وبدر اسم ماء. و {الدُّنْيَا} هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة فهي أقرب لجيش المسلمين من العدوة التي من جهة مكة. و {الْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} هي التي مما يلي مكة وهي كثيب وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين.
والوصف ب {الدُّنْيَا} و {الْقُصْوَى} يشعر المخاطبون بفائدته وهي أن المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى لأنها اصلب أرضا فليس للوصف بالدنو والقصو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ولكنه صادف أن كانت القصوى أسعد بنزول الجيش، فلما سبق جيش المشركين إليها اغتم المسلمون فلما نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دهسا فلبد المطر الأرض ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطلهم عن الرحيل فلم يبلغوا بدرا إلا بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء فاتخذوا حوضا يكفيهم وغوروا الماء فلما وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء.
وضمير {وَهُمْ} عائد إلى ما في لفظ {الْجَمْعَانِ} من معنى: جمعكم وجمع المشركين، فلما قال: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} لم يبق معاد لضمير {وَهُمْ} إلا الجمع الآخر وهو جمع المشركين.
{وَالرَّكْبُ} هو ركب قريش الراجعون من الشام، وهو العير، {أَسْفَلَ} من الفريقين
(9/110)
أي أخفض من منازلهما، لأن العير كانوا سائرين في طريق الساحل وقد تركوا ماء بدر عن يسارهم. ذلك أن أبا سفيان لما بلغه أن المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمر ببدر، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير، فكان مسيره في السهول المنخفضة، وكان رجال الركب أربعين رجلا.
والمعنى: والركب بالجهة السفلى منكم، وهي جهة البحر وضمير {مِنْكُمْ} خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} والمعنى أن جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا فلو علم العدو بهذا الوضع لطبق جماعتيه على جيش المسلمين ولكن الله صرفهم عن التفطن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدو.
وانتصب {أَسْفَلَ} على الظرفية المكانية وهو في محل رفع خبر عن "الركب" أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع.
والغرض من التقييد بهذا الوقت، وبتلك الحالة: احضارها في ذكرهم، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله، ومن حسن الظن بوعده والاعتماد عليه في أمورهم، فإنهم كانوا حينئذ في أشد ما يكون فيه جيش تجاه عدوه، لأنهم يعلمون أن تلك الحالة كان ظاهرها ملائما للعدو، إذ كان العدو في شوكة واكتمال عدة وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسطة الصلابة، فأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدو في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رملها، مع قلة مائها، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلت وراء ظهور جيش المشركين، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون، وكان المشركون واثقين بمكنة الذب عن عيرهم، فكانت ظاهرة هذه الحالة ظاهرة خيبة وخوف للمسلمين، وظاهرة فوز وقوة للمشركين، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رأسا على عقب، فأنزل من السماء مطرا تعبدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم، وتطهروا وسقوا، وصارت به الأرض لجيش المشركين وحلا يثقل فيها السير وفاضت المياه عليهم، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدوا للحرب عدتها، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب، فجعل الله ذلك سببا لنصر
(9/111)
المسلمين عليهم، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقعونه. فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} الآية. ولذلك تعين على المفسر وصف الحالة التي تضمنتها الآية، ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى.
وجملة {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} في موضع الحال من {الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وعامل الحال فعل {الْتَقَى} [الأنفال: 41] أي في حال لقاء على غير ميعاد، قد جاء ألزم مما لو كان على ميعاد، فإن اللقاء الذي يكون موعودا قد يتأخر فيه أحد المتواعدين عن وقته، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متحد وفي مكان متجاور متقابل.
ومعنى الاختلاف في الميعاد: اختلاف وقته بأن يتأخر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء.
والتلازم بين شرط {لَوْ} وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسرين، ومنهم من اضطر إلى تقدير كلام محذوف تقديره: ثم علمتم قلتكم وكثرتكم، وفيه أن ذلك يفضي إلى التخلف عن الحضور لا إلى الاختلاف. ومنهم من قدر: وعلمتم قلتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع، وهذا أقرب ومع ذلك لا ينثلج له الصدر.
فالوجه في تفسير هذه الآية أن {لَوْ} هذه من قبيل "لو" الصهيبية فإن لها استعمالات ملاكها: أن لا يقصد من "لو" ربط انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط، بل يقصد أن مضمون الجواب حاصل لا محالة، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه، أما لأن مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط، نحو قوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]، وأما بقطع النظر عن أولوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. ومحصل هذا أن مضمون الجزاء مستمر الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم، فيأتي بجملة الشرط متضمنة الحالة التي هي عند السامع مظنة أن يحصل فيها نقيض مضمون الجواب. ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كلاب:
(9/112)
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت
أي فكيف بغير أمنا.
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في هذه السورة[23]، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} الآية في سورة الأنعام[111].
والمعنى: لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، أي في وقت ما تواعدتم عليه لأن غالب أحوال المتواعدين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدوا عليه في وقت الوفاء به، أي في وقت واحد، لأن التوقيت كان في تلك الأزمان تقريبا يقدرونه بأجزاء النهار كالضحى والعصر والغروب، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلكية، والمعنى: فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتحاد وقت حلولكم في العدوتين فاعلموا أن ذلك تيسير بقدر الله لأنه قدر ذلك لتعلموا أن نصركم من عنده على نحو قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وهذا غير ما يقال، في تقارب حصول حال لأناس: "كأنهم كانوا على ميعاد" كما قال الأسود بن يعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره:
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
فإن ذلك تشبيه للحصول المتعاقب.
وضمير {اخْتَلَفْتُمْ} على الوجوه كلها شامل للفريقين: المخاطبين والغائبين، على تغليب المخاطبين، كما هو الشأن في الضمائر مثله.
وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} إذ التقدير: ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غير أتعاد ليقضي الله أي ليحقق وينجز ما أراده من نصركم على المشركين. ولما كان تعليل الاستدراك المفاد بلكن قد وقع بفعل مسند إلى الله كان مفيدا أن مجيئهم إلى العدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عناية بالمسلمين.
ومعنى {أَمْراً} هنا الشيء العظيم، فتنكيره للتعظيم، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون "الأمر" بهذا المعنى إلا على شيء مهم، ولعل سبب ذلك أنه ما سمي "أمرا" لا باعتبار أنه مما يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم: 21] وقوله:
(9/113)
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38].
و {كَانَ} تدل على تحقق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] أي ثبت له استحقاق الحقية علينا من قديم الزمان. وكذلك قوله: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم: 21]. فمعنى {كَانَ مَفْعُولاً} أنه ثبت له في علم الله أنه يفعل. فاشتق له صيغة مفعول من فعل للدلالة على أنه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنه فعل، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال.
فحاصل المعنى: لينجز الله ويوقع حدثا عظيما متصفا منذ القدم بأنه محقق الوقوع عند إبانه، أي حقيقيا بات يفعل حتى كأنه قد فعل لأنه لا يمنعه ما يحف به من الموانع المعتادة.
وجملة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} في موضع بدل الاشتمال من جملة: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} لأن الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحفه من الأحوال الدالة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بينه للفريقين تقطع عذر الهالكين، وتقتضي شكر الأحياء. ودخول لام التعليل على فعل {يَهْلِكَ} تأكيد للام الداخلة على ل {يَقْضِيَ} في الجملة المبدل منها. ولو لم تدخل اللام لقيل: يهلك مرفوعا.
والهلاك: الموت والاضمحلال، ولذلك قوبل بالحياة. والهلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها لأن حقيقة الهلاك الموت، وهو أشد الضر فلذلك يشبه بالهلاك كل ما كان ضرا شديدا قال تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 42]، وبضده الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوبا قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس: 70] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. فإن الكفار كانوا في عزة ومنعة، وكان المسلمون في قلة، فلما قضي الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا، وصار أمر المسلمين إلى جدة ونهوض، وكان كل ذلك، عن بينة، أي عن حجة ظاهرة تدل على تأييد الله قوما وخذله آخرين بدون ريب.
ومن البعيد حمل {يَهْلِكَ} {وَيَحْيَى} على الحقيقة لأنه وإن تحمله المعنى في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} فلا يتحمله في قوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} لان حياة الأحياء ثابتة لهم
(9/114)
من قبل يوم بدر.
ودل معنى المجاوزة الذي في {عَنْ} على أن المعنى، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بينة وبارزين منها.
وقرأ نافع، والبزي عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف: "حيي" بإظهار الياءين، وقرأه البقية: "حي" بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان.
و {عَنْ} للمجاوزة المجازية، وهي بمعنى بعد ، أي: بعد بينة يتبين بها سبب الأمرين: هلاك من هلك، وحباة من حيى.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل يشير إلى أن الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها، وغير ذلك، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم.
[43] {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} بدل من قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال: 42] فإن هذه الرؤيا مما اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدة نزول المسلمين بالعدوة من بدر، فهو بدل من بدل.
والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه.
ويتعلق قوله: {فِي مَنَامِكَ} بفعل {يُرِيكَهُمُ} فالإرادة إرادة رؤيا، وأسندت الإرادة إلى الله تعالى لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها، كما دل عليه قوله تعالى، حكاية عن إبراهيم وابنه {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فإن أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث، فما رؤياهم إلا مكاشفات روحانية على عالم الحقائق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منام، جيش المشركين قليلا، أي قليل العدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجعوا للقاء المشركين، وحملوها على ظاهرها، وزال عنهم ما كان
(9/115)
يخامرهم من تهيب جيش المشركين. فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر، وكانت تلك الرؤيا منة من الله على رسوله والمؤمنين، وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزا وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلة عددهم.
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي، لأن صور المرائي المنامية تكون رموزا لمعان فلا تعد صورتها الظاهرية خلفا، بخلاف الوحي بالكلام.
وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فأخذوها على ظاهرها، لعلمهم أن رؤيا النبي وحي، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائب، وقد يكون صرفه عن ذلك فظن كالمسلمين ظاهرها، وكل ذلك بالحكمة. فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطيء ولكنها أوهمتهم قلة العدد، لأن ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل، وهو تحقق النصر، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة. ورؤيا النبي لا تخطيء ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي: "أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"، وهذا هو الغالب وخاصة قبل ابتداء نزول الملك بالوحي، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بقرا تذبح ويقال له: الله خير. فلم يعلم المراد حتى تبين له أنهم المؤمنون الذين قتلوا يوم أحد. فلما أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيه المشركين قليلا كناية بأحد أسباب الانهزام، فإن الانهزام يجيء من قلة العدد. وقد يمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة كما في حديث تعبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قص رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" وأبى أن يبين له ما أصاب منها وما أخطأ. ولو أخبر الله رسوله ليخبر المؤمنين بأنهم غالبون المشركين لآمنوا بذلك إيمانا عقليا لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس، ولو لم يخبره ولم يره تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون المشركين حسابا كبيرا. لأنهم معروفون عندهم بأنهم أقوى من المسلمين بكثير.
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة.
والقليل هنا قليل العدد بقرينة قوله: {كَثِيراً}. أراه الله إياهم قليلي العدد، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف، فإن لغة العقول والأرواح أوسع من لغة
(9/116)
المخاطب، لأن طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية.
وأخبر ب"قليل" و"كثيرا" وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدم عند قوله تعالى: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران[146].
ومعنى {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} أنه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين لدخل قلوب المسلمين الفشل، أي إذا حدثهم النبي بما رأى، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع وإن كان النصر مضمونا لهم.
فإن قلت: هذا يقتضي أن الإرادة كانت متعينة ولم لم يترك الله إراءته جيش العدو فلا تكون حاجة إلى تمثيلهم بعدد قليل، قلت: يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدو، فحقق الله رجاءه، وجنبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين، أو لعل المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربه عن حال العدو.
والفشل: الجبن والوهن. والتنازع: الاختلاف. والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدو من ثبات أو انجلاء عن القتال.
والتعريف في {الْأَمْرِ} وهو أمر القتال وما يقتضيه.
والاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} راجع إلى ما في جملة: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} من الإشعار بأن العدو كثير في نفس الأمر، وأن الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء، وقد تحاكي المعنى الرمزي وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء، مثل رؤيا ملك مصر سبع بقرات، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه هز سيفا فانكسر في يده، فمعنى الاستدراك رفع ما فرض في قوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً}. فمفعول {سَلَّمَ} ومتعلقه محذوفان إيجازا إذ دل عليه قوله: {لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ} والتقدير: سلمكم من الفشل والتنازع بان سلمكم من سببهما وهو إراءتكم واقع عدد المشركين، لأن الاطلاع على كثرة العدو يلقي في النفوس تهيبا له وتخوفا منه، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفر لهم منتهى الشجاعة.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} دون أن يقول: ولكنه سلم، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله، وانه بعنايته، واهتماما بهذا الحادث.
(9/117)
وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تذييل للمنة، أي: أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر مما تتأثر بالاعتقادات، فعلم أنه لو أخبركم بأن المشركين ينهزمون، واعتقدتم ذلك لصدق ايمانكم، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيرا في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره اعتقادي أن عددهم قليل، لأن الاعتقاد بأنهم ينهزمون لا ينافي توقع شدة تنزل بالمسلمين، من موت وجراح قبل الانتصار، فإما اعتقاد قلة العدو فإنها تثير في النفوس إقداما واطمئنان بال، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلا.
ومعنى {ذَاتِ الصُّدُورِ} الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس، فالصدور أطلقت على ما حل فيها من النوايا والمضمرات، فكلمة {ذَاتِ} بمعنى صاحبة، وهي مؤنث ذو أحد الأسماء الخمسة، فأصل ألفها الواو ووزنها "ذوت" انقلبت واوها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، قال في "الكشاف" في تفسير سورة فاطر[38] في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} هي تأنيث ذو وذو موضوع لمعنى الصحبة من قوله:
لتغني عني ذا إنائك أجمعا"1"
يعني إن ذات الصدور الحالة التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتها، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهم به المرء وما يدبره ويكيده.
[44] {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} عطف على {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 43] وهذه رؤية بصر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر، فكانت خطأ من الفريقين، ولم يرها النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
"1" أوله, إذا قال قلت بالله حلفة.
يذكر ضيفا أي إذا شرب الضيف من إناء اللبن وقال: قدني, أي حسبي أقسمت عليه بالله لتغني عني إذائك أجمعا فاللام في "لتغني" لام القسم وهي مفتوحة وتغني أي تبعد عني, يقولون أغن عني وجهك أي أبعده وأراد: لا ترجعه إلى. وذا انائك: أي ما في إنائك من اللبن وهو مفعول "تغني" أي حلفت عليه ليشربن جميع ما في الإناء. والياء لتحتيه في قوله: لتغني مفتوحة فتحة بناء, فإن أصله لتغنين بنون توكيد فحذفها تخفيفاً وأبقى الفتحة التي كانت قبلها دليلاً على أنها محذوفة.
(9/118)
ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي، في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 43] وجعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجمعين، وظاهر الجمع يعم النبي صلى الله عليه وسلم فيحض من العموم. أرى الله المسلمين أن المشركين قليلون، وأرى المشركين أن المسلمين قليلون. خيل الله لكلا الفريقين قلة الفريق الآخر، بإلقاء ذلك التخيل في نفوسهم، وجعل الغاية من تينك الرؤيتين نصر المسلمين، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين، وجعل للأثرين المختلفين أثرا متحدا، فكان تخيل المسلمين قلة المشركين مقويا لقلوبهم، وزائدا لشجاعتهم، ومزيلا للرعب عنهم، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء، لأنهم ما كان ليفل من بأسهم إلا شعورهم بأنهم أضعف من أعدائهم عددا وعددا، فلما أزيل ذلك عنهم، بتخييلهم قلة عدوهم، خلصت أسباب شدتهم مما يوهنها. وكان تخيل المشركين قلة المسلمين، أي كونهم أقل مما هم عليه في نفس الأمر، بردا على غليان قلوبهم من الغيظ، وغارا إياهم بأنهم سينالون التغلب عليهم بأدنى قتال، فكان صارفا إياهم عن التأهب لقتال المسلمين، حتى فاجأهم جيش المسلمين، فكانت الدائرة على المشركين، فنتج عن تخيل القلتين انتصار المسلمين.
وإنما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطا عزيمتهم، كما كان تخيل المشركين قلة المسلمين مثبطا عزيمتهم، لأن المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقا على المشركين، وإيمانا بفساد شركهم، وامتثالا أمر الله بقتالهم، فما كان بينهم وبين صب بأسهم على المشركين إلا صرف ما يثبط عزائمهم. فأما المشركون، فكانوا مزهدين بعدائهم وعنادهم، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء فهم، يحسبون أن أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضا، فلذلك لا يعبؤون بالتأهب لهم، فكان تخييل ما يزيدهم تهاونا بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم.
قال أهل السير: كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلا، فقد قال أبو جهل لقومه، وقد حزر المسلمين: إنما هم أكلة جزور، أي قرابة المائة وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر.
وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعة واختلاف الظلال، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل
(9/119)
والسراب، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب.
وهذه الرؤية قد مضت بقرينة قوله: {إِذِ الْتَقَيْتُمْ} فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة العجيبة لهاته الإرادة، كما تقدم في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} [الأنفال: 43].
و{إِذِ الْتَقَيْتُمْ} ظرف {يُرِيكُمُوهُمْ} وقوله: {فِي أَعْيُنِكُمْ} تقييد للإرادة بأنها في الأعين، لا غير، وليس المرئي كذلك في نفس الأمر، ويعلم ذلك من تقييد الإراءة بأنها في الأعين، لأنه لو لم يكن لمقصد لكان مستغنى عنه، مع ما فيه من الدلالة على أن الإراءة بصرية لا حلمية كقوله في الآية الأخرى {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13].
والالتقاء افتعال من اللقاء، وصيغة الافتعال فيه دالة على المبالغة. واللقاء والالتقاء في الأصل الحضور لدى الغير، من صديق أو عدو، وفي خير أو شر، وقد كثر إطلاقه على الحضور مع الأعداء في الحرب، وقد تقدم عند قوله تعالى، في هذه السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} [الأنفال: 15] الآية.
{وَيُقَلِّلُكُمْ} يجعلكم قليلا لأن مادة التفعيل تدل على الجعل، فإذا لم يكن الجعل متعلقا بذات المفعول، تعين أنه متعلق بالإخبار عنه، كما ورد في الحديث في يوم الجمعة: "وفيه ساعة" قال الراوي: يقللها؛ أو متعلق بالإراءة كما هنا، وذلك هو الذي اقتضى زيادة قوله: {فِي أَعْيُنِهِمْ} ليعلم أن التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر.
وقوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] هو نظير قوله: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] المتقدم أعيد هنا لأنه علة إراءة كلا الفريقين الفريق الآخر قليلا، وأما السابق فهو علة لتلاقي الفريقين في مكان واحد في وقت واحد.
ثم إن المشركين لما برزوا لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبهتوا، وكان ذلك بعد المناجزة، فكان ملقيا الرعب في قلوبهم، وذلك ما حكاه في سورة آل عمران [13] قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.
وخولف الأسلوب في حكاية إراءة المشركين، وحكاية إراءة المسلمين، لأن
(9/120)
المشركين كانوا عددا كثيرا فناسب أن يحكى تقليلهم بإراءتهم قليلا، المؤذنة بأنهم ليسوا بالقليل. وأما المسلمون فكانوا عددا قليلا بالنسبة لعدوهم، فكان المناسب لتقليلهم: أن يعبر عنه بأنه "تقليل" المؤذن بأنه زيادة في قلتهم.
وجملة: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} تذييل معطوف على ما قبله عطفا اعتراضيا، وهو اعتراض في آخر الكلام. وهذا العطف يسمى: عطفا اعتراضيا، لأنه عطف صوري ليست فيه مشاركة في الحكم، وتسمى الواو اعتراضية. والتعريف في قوله: {الْأُمُورُ} للاستغراق، أي جميع الأشياء.
والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء، والمراد رجوع أسبابها، أي إيجادها، فإن الأسباب قد تلوح جارية بتصرف العباد وتأثير الحوادث، ولكن الأسباب العالية، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسباب المعتادة، لا يتصرف فيها إلا الله وهو مؤثرها وموجدها. على أن جميع الأسباب، عاليها وقريبها، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائع، فرجوع الجميع إليه، ولكنه رجوع متفاوت: على حسب جريه على النظام المعتاد، وعدم جريه، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد، وهو عند التأمل الحق راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كل صانع. والذوات وأحوالها: كلها من الأمور، ومآلها كله رجوع، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرف، كالذي في قوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].
والمعنى: ولا عجب في ما كونه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر، فإن الإرادة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة، والإرادة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {تُرْجَعُ} - بضم التاء وفتح الجيم - أي يرجعها، راجع إلى الله، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه. وقرأ البقية {ترجع} - بفتح التاء وكسر الجيم - أي: ترجع بنفسها إلى الله، ورجوعها هو برجوع أسبابها.
[45, 46] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
لما عرفهم الله بنعمه ودلائل عنايته، وكشف لهم عن سر من أسرار نصره إياهم،
(9/121)
وكيف خذل أعداءهم، وصرفهم عن أذاهم، فاستتب لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيء لهم النصر في المواقع كلها، ويستدعي عناية الله بهم وتأييده إياهم، فجمع لهم في هذه الآية ما به قوام النصر في الحروب. وهذه الجمل معترضة بين جملة: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} [الأنفال: 44] وجملة: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48].
وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماما بها، وجعل طريق تعريف المنادي طريق الموصولية: لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى، لأن ذلك أخص صفاتهم تلقاء أوامر الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
واللقاء: أصله مصادفة الشخص ومواجهته، باجتماع في مكان واحد، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223]. وقد غلب إطلاقه على لقاء خاص وهو لقاء القتال، فيرادف القتال والنزال.
وقد تقدم اللقاء قريبا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 15] وبهذا المعنى تعين أن المراد بالفئة: فئة خاصة وهي فئة العدو، يعني المشركين.
و"الفئة" الجماعة من الناس، وقد تقدم اشتقاقها عند قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} في سورة البقرة[249].
وذكر الله، المأمور به هنا: هو ذكره باللسان، لأنه يتضمن ذكر القلب وزيادة فإنه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه، وسمع الذكر بسمعه، وذكر من يليه بذلك الذكر، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرد، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهر وصفه ب"كثيرا" لأن الذكر بالقلب يوصف بالقوة، والمقصود تذكر أنه الناصر. وهذان أمران أمروا بهما وهما يخصان المجاهد في نفسه، ولذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. فهما لإصلاح الأفراد، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم، وهي علائق بعضهم مع بعض، وهي الطاعة وترك التنازع، فأما طاعة الله ورسوله فتشمل اتباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين، مثل الغنائم. وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من آراء الحرب كقوله للرماة يوم أحد: "لا تبرحوا من مكانكم ولو تخطفنا الطير". وتشمل طاعة الرسول عليه
(9/122)
الصلاة والسلام طاعة أمرائه في حياته، لقوله: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني" وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغيبة عن شخصه.
وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم، والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضا، حتى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. والنهي عن التنازع أعم من الأمر بالطاعة لولاة الأمور: لأنهم إذا نهوا عن التنازع بينهم فالتنازع مع ولي الأمر أولى بالنهي.
ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله: {فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فحذرهم أمرين معلوما سوء مغبتهما: وهما الفشل وذهاب الريح.
والفشل: انحطاط القوة وقد تقدم آنفا عند قوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدو، ويصح أن يكون تمثيلا لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه، في انعدام إقدامه على العمل. وإنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا، وتوقع عدم إلقاء النصير عند مآزق القتال، فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكن منهم العدو، كما قال في سورة آل عمران[152] {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}.
والريح حقيقتها تحرك الهواء وتموجه، واستعيرت هنا للغلبة، وأحسب أن وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أن الريح لا يمانع جريها ولا عملها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية، لعبيد بن الأبرص:
كما حميناك يوم النعب من شطب ... والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وفي "الكشاف" قال سليك بن السلكة:
(9/123)
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد قعود بين أذواد
هل تنظر أن قليلا ريث غفلتهم ... أو تعدوان فإن الريح للعادي"1"
وقال الحريري، في ديباجة "المقامات": "قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه".
والمعنى: وتزول قوتكم ونفوذ أمركم وذلك لأن التنازع يفضي إلى التفرق، وهو يوهن أمر الأمة، كما تقدم في معنى الفشل.
ثم أمرهم الله بشيء يعم نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه، ويسهل عليهم الأمور الأربعة، التي أمروا بها آنفا في قوله: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} وفي قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا} الآية: ألا وهو الصبر، فقال: {وَاصْبِرُوا} لأن الصبر هو تحمل المكروه وما شديد على النفس، وتلك المأمورات كلها تحتاج إلى تحمل المكاره، فالصبر يجمع تحمل الشدائد والمصاعب، ولذلك كان قوله: {وَاصْبِرُوا} بمنزلة التذييل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} إيماء إلى منفعة للصبر إلهية، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالا لأمره، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قائمة مقام التعليل للأمر، لأن حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع، كما تقدم في مواضع.
[47] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
جملة: {وَلا تَكُونُوا} معطوفة على {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 45] عطف نهي على نهي.
ويصح أن تكون معطوفة على جملة {فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] عطف نهي على أمر، إكمالا لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء: بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر، وأن يتجنبوا
ـــــــ
"1" تنظران من النظرة, أي الانتظار. والمعنى هل تترقبان ساعة غفلة العبيد فتختلسا الذود أو تعدوان على العبيد غصبا.
(9/124)
ما يفسد إخلاصهم في الجهاد.
وجيء في نهيهم عن البطر والرثاء بطريقة النهي عن التشبه بالمشركين، إدماجا للتشنيع بالمشركين وأحوالهم، وتكريها للمسلمين تلك الأحوال، لأن الأحوال الذميمة تتضح مذمتها، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند أخرين، وذلك أبلغ في النهي، وأكشف لقبح المنهي عنه. ونظيره قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] وقد تقدم آنفا. فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبدر إذ خرجوا بطرا ورئاء الناس، لأن حق كل مسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية.
والموصول مراد به جماعة خاصة، وهم أبو جهل وأصحابه، وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر، فإنهم خرجوا من مكة بقصد حماية عيرهم فلما بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان، وهو كبير العير يخبرهم أن العير قد سلمت، فقال أبو جهل: "لا نرجع حتى نقدم بدرا نشرب بها وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب حتى يتسامع العرب بأننا غلبنا محمدا وأصحابه". فعبر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر، بالخروج لأنه تكملة لخروجهم من مكة.
وانتصب {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} على الحالية، أي بطرين مرائين، ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكن الصفتين منهم لأن البطر والرياء خلقان من خلقهم.
و"البطر" إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة، والاستكبار والفخر بها، فالمشركون لما خرجوا من الجحفة، خرجوا عجبا بما هم فيه من القوة والجدة.
و"الرئاء" - بهمزتين - أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة. ووزنه فعال مصدر راءى فاعل من الرؤية ويقال: مرآة، وصيغة المفاعلة فيه مبالغة أي بالغ في إراءة الناس عمله محبة أن يروه ليفخر عليهم.
و{سَبِيلِ اللَّهِ} الطريق الموصلة إليه، وهو الإسلام، شبه الدين، في إبلاغه إلى رضي الله تعالى، بالسبيل الموصل إلى بيت سيد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه.
وجيء في {يَصُدُّونَ} بصيغة الفعل المضارع: للدلالة على حدوث وتجدد صدهم الناس عن سبيل الله، وأنهم حين خرجوا صادين عن سبيل الله ومكررين ذلك ومجد دينه. وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة، وأما التجدد فمستفاد من المضارعية ولا يجعل
(9/125)
الحال مقدرة.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} تذكير للمسلمين بصريحه، ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي، لأن إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى، ويلزمه أنه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليم القدير من اعتدى على حرمه، والجملة حال من ضمير {الَّذِينَ خَرَجُوا} [الأنفال: 47].
وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى: مجاز عقلي، لأن المحيط هو علم الله تعالى فإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز.
[48] {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{وَإِذْ زَيَّنَ} عطف على {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: 44] الآية: وما بينهما اعتراض، رتب نظمه على أسلوبه العجيب ليقع هذا الظرف عقب تلك الجمل المعترضة، فيكون له إتمام المناسبة بحكاية خروجهم وأحواله، فإنه من عجيب صنع الله فيما عرض للمشركين من الأحوال في خروجهم إلى بدر، مما كان فيه سبب نصر المسلمين، وليقع قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الأنفال: 47] عقب أمر المسلمين بما ينبغي لهم عند اللقاء، ليجمع لهم بين الأمر بما ينبغي والتحذير مما لا ينبغي، وترك التشبه بمن لا يرتضي، فيتم هذا الأسلوب البديع المحكم الانتظام.
وأشارت هاته الآية إلى أمر عجيب كان من أسباب خذلان المشركين إذ صرف الله عن المسلمين كيدا لهم: حين وسوس الشيطان لسراقة بن مالك بن جعشم الكناني أن يجيء في جيش من قومه بني كنانة لنصر المشركين حين خرجوا للدفاع عن عيرهم، فألقى الله في روع سراقة من الخوف ما أوجب انخزاله وجيشه عن نصر المشركين، وأفسد الله كيد الشيطان بما قذفه الله في نفس سراقة من الخوف وذلك أن قريشا لما أجمعوا أمرهم على السير إلى إنقاذ العير ذكروا ما كان بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد أن يثبطهم عن الخروج، فلقيهم في مسيرهم سراقة بن مالك في جند معه راية وقال لهم: لا غالب لكم اليوم، وإني مجيركم من كنانة. فقوي عزم قريش على المسير، فلما أمعنوا السير وتقارب المشركون من منازل جيش المسلمين، ورأى سراقة الجيشين، نكص سراقة بمن معه
(9/126)
وانطلقوا، فقال له الحارث بن هشام، أخو أبي جهل: "إلى أين اتخذ لنا في هذه الحال فقال سراقة إني أرى ما لا ترون" فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير، حتى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر وكان خروج سراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان، لئلا ينثني قريش عن الخروج، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتم نصر المسلمين، وكان خاطر رجوع سراقة خاطرا ملكيا ساقه الله إليه لأن سراقة لم يزل يتردد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، حين شاهد معجزة سوخ قوائم فرسه في الأرض، وأخذه الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح.
وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم: يجوز أن يكون إسنادا مجازيا، وإنما المزين لهم سراقة بإغراء الشيطان، بما سول إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم، وأن لا يخشوا غدر كنانة بهم، وقيل تمثل الشيطان للمشركين في صورة سراقة وليس تمثل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما روي ذلك عن قول ابن عباس، وتأويل ذلك: أن ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنه فعل فعل الشيطان كما يقولون: فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسنادا حقيقيا أي زين لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته، وكذلك إسناد قوله: {لا غَالِبَ لَكُمُ} إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سراقة المتأثر بوسوسة الشيطان. وكذلك قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}.
وقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنهم يسمعونه، فقال قوله هذا، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضروه بإذن الله وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} بيان لقوله: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله. وإن كان ذلك كله من قول سراقة فهو إعلان لهم برد جواره إياهم لئلا يكون خائنا لهم لأن العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم رد جواره من أبي بكر، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] فالمعنى: إني بريء من جواركم، ولذلك قال له الحارث بن هشام: "إلى اين أتخذلنا" فيكون قد اقتصر على
(9/127)
تأمينهم من غدر قومه بني كنانة. وتكون الرؤية علمية ومفعولها الثاني محذوفا اقتصارا.
وأما قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فعلى احتمال أن يكون الإسناد إلى الشيطان حقيقة فالمراد من خوف الله توقع أن يصيبه الله بضر، من نحو الرجم بالشهب، وإن كان مجازا عقليا وأن حقيقته قول سراقة فلعل سراقة قال قولا في نفسه، لأنه كان عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدل عليه المشركين، فلعله تذكر ذلك ورأى أن فيما وعد المشركين من الإعانة ضربا من خيانة العهد فخاف سوء عاقبة الخيانة.
و"التزيين" إظهار الشيء زينا، أي حسنا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام[108] وفي قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة البقرة[212]. والمعنى: أنه أراهم حسنا ما يعملونه من الخروج إلى إنقاذ العير، ثم من إزماع السير إلى بدر.
و {تَرَاءَتِ} مفاعلة من الرؤية، أي رأت كلتا الفئتين الأخرى.
و {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} رجع من حيث جاء. وعن مؤرج السدوسي: أن نكص رجع بلغة سليم، ومصدره النكوص وهو من باب رجع.
وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} مؤكد لمعنى نكص إذ النكوص لا يكون إلا على العقبين، لأنه الرجوع إلى الوراء كقولهم: رجع القهقري، ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمنين[66]: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ}.
و {عَلَى} مفيدة للتمكن من السير بالعقبين. والعقبان: تثنية العقب، وهو مؤخر الرجل، وقد تقدم في قوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} في سورة الأنعام[71].
والمقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر لأن عقب الرجل أخس القوائم لملاقاته الغبار والأوساخ.
[49] {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
يتعلق {إِذْ يَقُولُ} بأقرب الأفعال إليه وهو قوله: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] مع ما عطف عليه من الأفعال، لأن {إِذْ} لا تقتضي أكثر من المقارنة في الزمان بين ما تضاف إليه وبين متعلقها، فتعين أن يكون قول المنافقين واقعا في وقت تزيين
(9/128)
الشيطان أعمال المشركين فيتم تعليق وقت قول المنافقين بوقت تزيين الشيطان أعمال المشركين، وإنما تطلب المناسبة لذكر هذا الخبر عقب الذي وليه هو، وتلك هي أن كلا الخبرين يتضمن قوة جيش المشركين، وضعف جيش المسلمين، ويقين أولياء الشيطان بأن النصر سيكون للمشركين على المسلمين. فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين بتأمينهم من عدو يخشونه فانحازت إليهم علنا، وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء. والخبر الثاني عن طائفتين شوهتا صنيع المسلمين حمقتاهم ونسبتاهم إلى الغرور فأسروا ذلك ولم يبوحوا به، وتحدثوا به فيما بينهم، أو أسروه في نفوسهم.
فنظم الكلام هكذا: وزين الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا.
والقول هنا مستعمل في حقيقته ومجازه: الشامل لحديث النفس، لأن المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم، وأما الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين، بل هم من لم يتمكن الإيمان من قلوبهم. فيقولونه في أنفسهم لما لهم من الشك في صدق وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم غير موالين للمنافقين، ويجوز أن يتحدثوا به بين جماعتهم.
و"المرض" هنا مجاز في اختلال الاعتقاد، شبه بالمرض بوجه سوء عاقبته عليهم. وقد تقدم في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في أول البقرة[10].
وأشاروا ب {هَؤُلاءِ} إلى المسلمين الذين خرجوا إلى بدر، وقد جرت الإشارة على غير مشاهد، لأنهم مذكورون في حديثهم أو مستحضرون في أذهانهم، فكانوا بمنزلة الحاضر المشاهد لهم وهم يتعارفون بمثل هذه الإشارة في حديثهم عن المسلمين.
والغرور: الإيقاع في المضرة بإيهام المنفعة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران[196] وقوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في سورة الأنعام[112].
والدين هو الإسلام. وإسنادهم الغرور إلى الدين باعتبار ما فيه من الوعد بالنصر من نحو قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] الآية، أي غرهم ذلك فخرجوا وهم عدد قليل للقاء جيش كثير، والمعنى: إذ يقولون ذلك عند اللقاء وقبل
(9/129)
حصول النصر. فإطلاق الغرور هنا مجاز، وإسناده إلى الدين حقيقة عقلية.
وجملة: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} معطوفة على جملة: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] لأنها من جملة الأخبار المسوقة لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين، وللامتنان عليهم، فالمناسبة بينها وبين الجملة التي قبلها: أنها كالعلة لخيبة ظنون المشركين ونصرائهم، أي أن الله خيب ظنونهم لأن المسلمين توكلوا عليه وهو عزيز لا يغلب، فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره، وهو حكيم يكون أسباب النصر من حيث يجهلها البشر.
والتوكل: الاستسلام والتفويض، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[159].
وجعل قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} جوابا للشرط باعتبار لازمه وهو عزة المتوكل على الله وإلفائه منجيا من مضيق أمره، فهو كناية عن الجواب وهذا من وجوه البيان وهو كثير الوقوع في القرآن، وعليه قول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة فيه والندى خلقا
أي ينل من كرمه ولا يتخلف ذلك عنه في حال من الأحوال، وقول الربيع بن زياد العبسي:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالليل قبل تبلج الأسفار
أي من كان مسرورا بمقتله فسروره لا يدوم إلا بعض يوم ثم يحزنه أخذ الثأر إما من ذلك المسرور إن كان هو القاتل أو من أحد قومه وذلك يحزن قومه.
[50, 51] {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
لما وفي وصف حال المشركين حقه، وفصلت أحوال هزيمتهم ببدر، وكيف أمكن الله منهم المسلمين، على ضعف هؤلاء وقوة أولئك، بما شاهده كل حاضر حتى ليوقن السامع أن ما نال المشركين يومئذ إنما هو خذلان من الله إياهم، وإيذان بأنهم لاقون
(9/130)
هلاكهم ما داموا مناوئين لله ورسوله، انتقل إلى وصف ما لقيه من العذاب من قتل منهم يوم بدر، مما هو مغيب عن الناس، ليعلم المؤمنون ويرتدع الكافرون، بالمراد بالذين كفروا هنا الذين قتلوا يوم بدر، وتكون هذه الآية من تمام الخبر عن قوم بدر.
ويجوز أن يكون المراد بالذين كفروا: جميع الكافرين حملا للموصول على معنى العموم فتكون الآية اعتراضا مستطردا في خلال القصة بمناسبة وصف ما لقيه المشركون في ذلك اليوم، الذي عجل لهم فيه عذاب الموت.
وابتدئ الخبر ب {وَلَوْ تَرَى} مخاطبا به غير معين، ليعم كل مخاطب، أي: لو ترى أيها السامع، إذ ليس المقصود بهذا الخبر خصوص النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحمل الخطاب على ظاهره، بل غير النبي أولى به منه، لأن الله قادر أن يطلع نبيه على ذلك كما أراه الجنة في عرض الحائط.
ثم إن كان المراد بالذين كفروا مشركي يوم بدر، وكان ذلك قد مضى يكن مقتضى الظاهر أن يقال: ولو رأيت إذ توفى الذين كفروا الملائكة. فالإتيان بالمضارع في الموضعين مكان الماضي: لقصد استحضار تلك الحالة العجيبة، وهي حالة ضرب الوجوه والأدبار، ليخيل للسامع أنه يشاهد تلك الحالة، وإن كان المراد المشركين حيثما كانوا كان التعبير بالمضارع على مقتضى الظاهر.
وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لرأيت أمرا عجيبا. وقرأ الجمهور: يتوفى - بياء الغائب - وقرأه ابن عامر: تتوفى بتاء التأنيث رعيا لصورة جمع الملائكة.
والتوفي: الإماتة سميت توفيا لأنها تنهي حياة المرء أو تستوفيها {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
وجملة: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} في موضع الحال إن كان المراد من التوفي قبض أرواح المشركين يوم بدر حين يقتلهم المسلمون، أي: يزيدهم الملائكة تعذيبا عند نزع أرواحهم، وهي بدل اشتمال من جملة: {يَتَوَفَّى} إن كان المراد بالتوفي توفيا يتوفاه الملائكة الكافرين.
وجملة: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} معطوفة على جملة: {يَضْرِبُونَ} بتقدير القول، لأن هذه الجملة لا موقع لها مع التي قبلها، إلا أن تكون من قول الملائكة أي، ويقولون: ذوقوا عذاب الحريق كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
(9/131)
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12].
وذكر الوجوه والأدبار للتعميم، أي: يضربون جميع أجسادهم. فالأدبار: جمع دبر وهو ما دبر من الإنسان. ومنه قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وكذلك الوجوه كناية عما أقبل من الإنسان، وهذا كقول العرب: ضربته الظهر والبطن، كناية عما أقبل وما أدبر أي ضربته في جميع جسده.
و"الذوق" مستعمل في مطلق الإحساس، بعلاقة الإطلاق.
وإضافة العذاب إلى الحريق: من إضافة الجنس إلى نوعه، لبيان النوع، أي عذابا هو الحريق، فهي إضافة بيانية.
و {الْحَرِيقِ} هو اضطرام النار، والمراد به جهنم، فلعل الله عجل بأرواح هؤلاء المشركين إلى النار قبل يوم الحساب، فالأمر مستعمل في التكوين، أي: يذيقونهم، أو مستعمل في التشفي، أو المراد بقول الملائكة {وَذُوقُوا} إنذارهم بأنهم سيذوقونه، وإنما يقع الذوق يوم القيامة، فيكون الأمر مستعملا في الإنذار كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] بناء على أن التمتع يؤذن بشيء سيحدث بعد التمتع مضاد لما به التمتع.
واسم الإشارة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} إلى ما يشاهدونه من العذاب. وجيء بإشارة البعيد لتعظيم ما يشاهدونه من الأهوال.
والجملة مستأنفة لقصد التنكيل والتشفي. والباء للسببية، وهي، مع المجرور، خبر عن اسم الإشارة.
و"ما" في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} موصولة، ومعنى {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أسلفته من الأعمال فيما مضى، أي من الشرك وفروعه من الفواحش.
وذكر الأيدي استعارة مكنية بتشبيه الأعمال التي اقترفوها، وهي ما صدق {مَا قَدَّمَتْ} بما يجتنيه المجتني من الثمر، أو يقبضه البائع من الأثمان، تشبيه المعقول بالمحسوس، وذكر رديف المشبه وهو الأيدي التي هي آلة الاكتساب، أي: بما قدمته أيديكم لكم.
(9/132)
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} عطف على {مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} والتقدير: وبأن الله ليس بظلام للعبيد، وهذا علة ثانية لإيقاع تلك العقوبة عليهم، فالعلة الأولى، المفادة من باء السببية تعليل لإيقاع العقاب. والعلة الثانية، المفادة من العطف على الباء ومجرورها، تعليل لصفة العذاب، أي هو عذاب معادل لأعمالهم، فمورد العلتين شيء واحد لكن باختلاف الاعتبار.
ونفي الظلم عن الله تعالى كناية عن عدله وأن الجزاء الأليم كان كفاء للعمل المجازي عنه دون إفراط.
وجعل صاحب "الكشاف" التعليلين لشيء واحد، وهو ذلك العذاب، فجعلهما سببين لكفرهم ومعاصيهم، وأن التعذيب من العدل مثل الإثابة، وهو بعيد، لأن ترك الله المؤاخذة على الاعتداء على حقوقه إذا شاء ذلك، ليس بظلم، والموضوع هو العقاب على الإشراك والفواحش، وأما الاعتداء على حقوق الناس فترك المؤاخذة به على تسليم أنه ليس بعدل، وقد يعوض المعتدي عليه بترضية من الله، فلذلك كان ما في "الكشاف" غير خال عن تعسف حمله عليه الإسراع لنصرة مذهب الاعتزال من استحالة العفو عن العصاة لأنه مناف للعدل أو للحكمة.
ونفي ظلام - بصيغة المبالغة - لا يفيد إثبات ظلم غير قوي: لأن الصيغ لا مفاهيم لها، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأن المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيرا في مثل هذا، ويزاد هنا الجواب باحتمال أن الكثرة باعتبار تعلق الظلم المنفي، لو قدر ثبوته، بالعبيد الكثيرين، فعبر بالمبالغة عن كثرة إعداد الظلم باعتبار تعدد أفراد معموله.
والتعريف باللام في {العبيد} عوض عن المضاف إليه، أي: لعبيده كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] ويجوز أن يكون {العبيد} أطلق على ما يرادف الناس كما أطلق العباد في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} في سورة يس~[30].
[52] {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{كَدَأْبِ} خبر مبتدأ محذوف، وهو حذف تابع للاستعمال في مثله: فإن العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أتوا بخبر دون مبتدإ علم أن المبتدأ محذوف فقدر بما يدل عليه الكلام السابق.
(9/133)
فالتقدير هنا: دأبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، أي من الأمم المكذبين برسل ربهم، مثل عاد وثمود.
والدأب: العادة والسيرة المألوفة، وقد تقدم مثله في سورة آل عمران. وتقدم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر. ولا فرق بين الآيتين إلا اختلاف العبارة، ففي سورة آل عمران[11] {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وهنا {كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ} ، وهنالك {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11] وهنا {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 0 فأما المخالفة بين {كَذَّبُوا} [آل عمران: 11] و {كَفَرُوا} فلأن قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبر بالكفر بالآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، لأن الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى. وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات، أي التكذيب بآيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وجحد الآيات الدالة على صدقه. فأما في سورة آل عمران[11] فقد ذكر تكذيبهم بالآيات، أي الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبر، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه، فعبر عن الذين شابهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب.
فأما الإظهار هنا في مقام الإضمار فاقتضاه أن الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة ليدل على الذات بعنوان الإله الحق وهو الوحدانية، وأما الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيبا لآيات دالة على ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلم.
وأما الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا، دونه في سورة آل عمران[11]، فلأنه قصد هنا التعريض بالمشركين، وكانوا ينكرون قوة الله عليهم، بمعنى لازمها: وهو إنزال الضر بهم، وينكرون أنه شديد العقاب لهم، فأكد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين، وفي سورة آل عمران[11] لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله، عقبه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] الآية.
(9/134)
وزيد وصف "قوي" هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد. والقوي الموصوف بالقوة، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} في سورة الأعرافب[145]. وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهم منتهى القدرة على فعل ما تتعلق به إراداته تعالى من الممكنات. والمقصود من ذكر هذين الوصفين: الإيماء إلى أن أخذهم كان قويا شديدا، لأنه عقاب قوي شديد العقاب، كقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42] وقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
[53] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
استئناف بياني. والإشارة إلى مضمون قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] أي ذلك المذكور بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم.
والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه، وبالخبر. والتسبيب يقتضي أن آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة، وأن ذلك جرى على سنة الله أنه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ذلك بأنفسهم، وأن قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58].
وهذا إنذار لقريش يحل بهم مثل ما حل بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة. فقوله: {لَمْ يَكُ مُغَيِّراً} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته، لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه.
و"التغيير" تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديل صورة جسم كما يقال: غيرت داري، ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغة وكأنه مشتق من الغير وهو المخالف، فتغيير النعمة إبدالها بضدها وهو النقمة وسوء الحال، أي تبديل حالة حسنة بحالة سيئة.
(9/135)
ووصف النعمة ب {أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} للتذكير بأن أصل النعمة من الله.
و {مَا بِأَنْفُسِهِمْ} موصول وصلة، والباء للملابسة، أي ما أستقر وعلق بهم. وما صدق {ما} النعمة التي أنعم عليهم كما يؤذن به قوله: {مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} والمراد بهذا التغيير تغيير سببه. وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران.
ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل "نينوى"، وإذا كذبوا وبطروا النعمة غير الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة. فالغاية المستفادة من {حَتَّى} لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متسعة لأن الأقوام إذا غيروا ما بأنفسهم من هدى أمهلهم الله زمنا ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصروا على الكفر غير نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذل أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلط عليهم الأشوريين.
و {أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطف على قوله: {أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً} أي ذلك بأن الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم. وذكر صفة {سَمِيعٌ} قبل صفة {عَلِيمٌ} يومئ إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرض بهم متعلق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى.
[54] {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}
تكرير لقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} المذكور قبله لقصد التأكيد والتسميع، تقرير للإنذار والتهديد، وخولف بين الجملتين تفننا في الأسلوب، وزيادة للفائدة، بذكر التكذيب هنا بعد ذكر الكفر هناك، وهما سببان للأخذ والإهلاك كما قدمناه آنفا.
وذكر وصف الربوبية هنا دون الاسم العلم لزيادة تفظيع تكذيبهم لأن الاجتراء على الله مع ملاحظة كونه ربا للمجتريء، يزيد جراءته قبحا لإشعاره بأنها جراءة في موضع الشكر، لأن الرب يستحق الشكر.
وعبر بالإهلاك عوض الأخذ المتقدم ذكره ليفسر الأخذ بأنه آل إلى الإهلاك، وزيد
(9/136)
الإهلاك بيانا بالنسبة إلى آل فرعون بأنه إهلاك الغرق.
وتنوين {كُلٌّ} للتعويض عن المضاف إليه، أي: وكل المذكورين، أي آل فرعون والذين من قبلهم.
[55-57] {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفار آخرين هم الذين بينهم بقوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ} الآية. وهؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم على كفرهم، ثم نقضوا عهدهم، وهم مستمرون على الكفر، وإنما وصفهم ب {شَرَّ الدَّوَابِّ} لأن دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة، ومعجزة الرسول_ صلى الله عليه وسلم أسطع، ولأن الدلالة على أحق?ية الإسلام دلالة عقلية بينة، فمن يجحده فهو أشبه بما لا عقل له، وقد اندرج الفريقان من الكفار في جنس {شَرَّ الدَّوَابِّ}.
وتقدم آنفا الكلام على نظير قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] الآية.
وتعربف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنهم شر الدواب.
والفاء في {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} عطفت صلة على صلة، فأفادت أن الجملة الثانية من الصلة، وأنها تمام الصلة المقصودة للإيماء، أي: الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام. ولما كان هذا الوصف هو الذي جعلهم شر الدواب عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أن سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين، وأتى بصلة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} جملة اسمية لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنهم غير مرجو منهم الإيمان.
فإن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قويا فهم بعداء عنه أشد الابتعاد.
وليس التقديم هنا مفيدا للتخصيص لأن التخصيص لا أثر له في الصلة، ولأن
(9/137)
الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي، أن لا يفيد تقديمه إلا التقوى، دون التخصيص، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] إذ لا يراد وأنتم دون غيركم لا تظلمون.
فقوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} بدل من {الَّذِينَ كَفَرُوا} بدلا مطابقا، فالذين عاهدهم هم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون. وتعدية {عَاهَدْتَ} ب {مِنْ} للدلالة على أن العهد كان يتضمن التزاما من جانبهم، لأنه يقال أخذت منه عهدا، أي التزاما، فلما ذكر فعل المفاعلة، الدال على حصول الفعل من الجانبين، نبه على أن المقصود من المعاهدة التزامهم بأن لا يعينوا عليه عدوا، وليست {مِنْ} تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجها إلى بعض الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، وهم الذين ينقضون عهدهم.
وعن ابن عباس، وقتادة: أن المراد بهم قريظة فإنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوه، ثم نقضوا عهدهم فأمدوا المشركين بالسلاح والعدة يوم بدر، واعتذروا فقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب، وأمدوهم بالسلاح والأدراع.
والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرهم من بعض قبائل المشركين، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: 12] الآية وقد نقض عبد الله بن أبي ومن معه عهد النصرة في أحد، فانخزل بمن معه وكانوا ثلث الجيش. وقد ذكر، في أول سورة براءة عهد فرق من المشركين. وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأن الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.
والتعبير، في جانب نقضهم العهد، بصيغة المضارع: للدلالة على أن ذلك يتجدد منهم ويتكرر، بعد نزول هذه الآية، وأنهم لا ينتهون عنه، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم، ولذلك فرع عليه قومه {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} إلخ. فالتقدير: ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كل مرة.
والمراد ب {كُلِّ مَرَّةٍ} كل مرة من المرات التي يحق فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرر العهد أم لم يتكرر، لأن العهد الأول يقتضي الوفاء كلما دعا داع إليه.
(9/138)
والأظهر أن هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر، وقبل وقعة الخندق، فالنقض الحاصل منهم حصل مرة واحدة، وأخبر عنه بأنه يتكرر مرات، وإن كانت نزلت بعد الخندق، بأن امتد زمان نزول هذه السورة، فالنقض منهم قد حصل مرتين، والإخبار عنه بأنه يتكرر مرات هو هو، فلا جدوى في ادعاء أن الآية نزلت بعد وقعة الخندق.
وجملة: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} إما عطف على الصلة، أو على الخبر، أو في محل الحال من ضمير {يَنْقُضُونَ}. وعلى جميع الاحتمالات فهي دالة على أن انتفاء التقوى عنهم صفة متمكنة منهم، وملكة فيهم، بما دل عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوى الحكم وتحقيقه، كما تقدم في قوله: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
ووقوع فعل {يَتَّقُونَ} في حيز النفي يعم سائر جنس الأتقاء وهو الجنس المتعارف منه، الذي يتهمم به أهل المروءات والمتدينون، فيعم اتقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة، ويعم اتقاء العار،واتقاء المسبة واتقاء سوء السمعة. فإن الخيس بالعهد، والغدر، من القبائح عند جميع أهل الأحلام، وعند العرب أنفسهم، ولأن من عرف بنقض العهد عدم من يركن إلى عهده وحلفه، فيبقى في عزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين، فلم يعبأوا بما يجره نقض العهد، من الأضرار لهم.
وإذ قد تحقق منهم نقض العهد فيما مضى، وهو متوقع منهم فيما يأتي، لا جرم تفرع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم نكالا لغيرهم، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوه.
وجاء الشرط بحرف "إن" مزيدة بعدها "ما" لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ "إن" عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد. وفي "شرح الرضي على الحاجبية"، عن بعض النحاة: لا يجيء "إما" إلا بنون التأكيد بعده كقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} [مريم: 26]. وقال ابن عطية في قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} دخلت النون مع إما: إما للتأكيد أو للفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك: جاءني إما زيد وإما عمرو.
وقلت: دخول نون التؤكيد بعد "إن" المؤكدة بما، غالب، وليس بمطرد، فقد قال الأعشى:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما تحفى وننتعل
(9/139)
فلم يدخل على الفعل نون التوكيد.
والثقف: الظفر بالمطلوب، أي: فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب، أي انتصرت عليهم.
والتشريد: التطريد والتفريق، أي: فبعد من خلفهم، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير.
وجعلت ذوات المتحدث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبس بالهزيمة والنكال، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمراد أحوال الذوات مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. وقد علم أن متعلق تشريد {مَنْ خَلْفَهُمْ} هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد.
والخلف: هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتباع، ونظيره "الوراء". في قول ضمام ابن ثعلبة:
وأنا رسول من ورائي . وقال وفد الأشعريين للنبي صلى الله عليه وسلم فمرنا بأمر نأخذ به ونخبر به من وراءنا ، والمعنى: فاجعلهم مثلا وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدو لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه، فإنهم كانوا يستضعفون المسلمين، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم، لأنهم استحقوها. وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنه يصد أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شر الناكثين الخائنين. فلا تخالف هذه الشدة كون الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، لأن المراد أنه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدة على قليل منهم كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
وضمير الغيبة في {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} راجع إلى {مَنْ} الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس.
والتذكر تذكر حالة المثقفين في الحرب التي انجرت لهم من نقض العهد، أي لعل من خلفهم يتذكرون ما حل بناقضي العهد من النكال، فلا يقدموا على نقض العهد، فآل
(9/140)
معنى التذكر إلى لازمه وهو الاتعاظ والاعتبار، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه.
[58] {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاص بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم، فأمره الله أن يرد إليهم عهدهم، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة.
والخوف توقع ضر من شيء، وهو الخوف الحق المحمود. وإما تخيل الضر بدون أمارة فليس من الخوف وإنما هو الهوس والتوهم. وخوف الخيانة ظهور بوارقها. وبلوغ إضمارهم إياها، بما يتصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسس أحوالهم كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} في سورة البقرة[229].
و {قَوْمٍ} نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، أي كل قوم تخاف منهم خيانة.
والخيانة: ضد الأمانة، وهي، هنا: نقض العهد، لأن الوفاء من الأمانة. وقد تقدم معنى الخيانة عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} في هذه السورة[27].
والنبذ: الطرح وإلقاء الشيء. وقد مضى عند قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} في سورة البقرة[100].
وإنما رتب نبذ العهد على خوف الخيانة، دون وقوعها: لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقق وقوع الأمر المظنون لأنه إذا تريث ولاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر، أو للتورط في غفلة وضياع مصلحة، ولا تدار سياسة الأمة بما يدار به القضاء في الحقوق، لأن
(9/141)
الحقوق إذا فاتت كانت بليتها على واحد، وأمكن تدارك فائتها. ومصالح الأمة إذا فاتت تمكن منها عدوها، فلذلك علق نبذ العهد بتوقع خيانة المعاهدين من الأعداء، ومن أمثال العرب: خذ اللص قبل يأخذك ، أي وقد علمت أنه لص.
و {عَلَى سَوَاءٍ} صفة لمصدر محذوف، أي نبذا على سواء، أو حال من الضمير في "انبذ" أي حالة كونك على سواء.
و {عَلَى} فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأن مدخولها مما شأنه أن يعتلي عليه. و {سَوَاءٍ} وصف بمعنى مستو، كما تقدم في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} في سورة البقرة[6]. وإنما يصلح للاستواء مع معنى "على" الطريق، فعلم أن {سَوَاءٍ} وصف لموصوف محذوف يدل عليه وصفه، كما في قوله تعالى: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} [القمر: 13]، أي سفينة ذات ألواح. وقول النابغة:
كما لقيت ذات الصفا من حليفها
أي الحية ذات الصفا.
ووصف النبذ أو النابذ بأنه على سواء، تمثيل بحال الماشي على طريق جادة لا التواء فيها، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] وهذا كما يقال، في ضده: هو يتبع بنيات الطريق، أي يراوغ ويخاتل.
والمعنى: فانبذ إليهم نبذا واضحا علنا مكشوفا.
ومفعول "انبذ" محذوف بقرينة ما تقدم من قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ} [الأنفال: 56] وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} أي انبذ عهدهم.
وعدي "انبذ" ب"إلى" لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم، وقد فهم من ذلك لا يستمر على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنه لا يخونهم لأن أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنه لا يخونهم.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} تذييل لما اقتضته جملة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} إلخ تصريحا واستلزاما. والمعنى لأن الله لا يحبهم لأنهم متصفون بالخيانة فلا تستمر على عهدهم فتكون معاهدا لمن لا يحبهم الله؛ ولأن الله لا يحب أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
(9/142)
خَوَّاناً أَثِيماً} في سورة النساء[107]. وذكر القرطبي عن النحاس أنه قال: "هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه".
قلت وموقع "إن" فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر، وتقدم في غير موضع وهذا من نكت الأعجاز.
[59] {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ}.
تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما أبدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر، وطمأنة له وللمسلمين بأنهم سيدالون منهم، ويأتون على بقيتهم، وتهديد للعدو بأن الله سيمكن منهم المسلمين.
والسبق مستعار للنجاة ممن يطلب، والتفلت من سلطته. شبه المتخلص من طالبه بالسابق كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] وقال بعض بني فقعس:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
أي كأنك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} ، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن، فما هي إلا نجاة في وقت قليل، فهم لا يعجزون الله، أو لا يعجزون المسلمين، أي لا يصيرون من أفلتوا منه عاجزا عن نوالهم، كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعج زني بقعة من بقاعها
وحذف مفعول {يُعْجِزُونَ} لظهور المقصود.
وقرأ الجمهور {وَلا يَحْسَبَنَّ} - بالتاء الفوقية -. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وحفص، وأبو جعفر، {وَلا يَحْسَبَنَّ} - بالياء التحتية -. وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحنا وهذا اجتراء منه على أولئك الأئمة وصحة روايتهم، واحتج لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدل عليه قوله: {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، واحتج لها الزجاج بتقدير "أن" قبل {سَبَقُوا} فيكون المصدر سادا مسد المفعولين، وقيل: حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه.
(9/143)
والتقدير: ولا يحسبن حاسب.
وقوله: {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} قرأه الجمهور بكسر همزة {إِنَّهُمْ} استئناف بياني جوابا عن سؤال تثيره جملة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} وقرأ ابن عامر {أَنَّهُمْ} بفتح همزة "أن" على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي، أي لأنهم لا يعجزون، قال في الكشاف: كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح.
[60] {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.
عطفت جملة: {وَأَعِدُّوا} على جملة: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] أو على جملة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} [الأنفال: 59]، فتفيد مفاد الاحتراس عن مفادها، لأن قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} يفيد توهينا لشأن المشركين، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم: لئلا يحسب المسلمون أن المشركين قد صاروا في مكنتهم، ويلزم من ذلك الاحتراس أن الاستعداد لهم هو سبب جعل الله إياهم لا يعجزون الله ورسوله، لأن الله هيأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها.
والإعداد التهيئة والإحضار، ودخل في {مَا اسْتَطَعْتُمْ} كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة.
والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم، لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها.
والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدمت آنفا عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] وعند قوله تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} وتطلق القوة مجازا على شدة تأثير شيء ذي أثر، وتطلق أيضا على سبب شدة التأثير، فقوة الجيش شدة وقعه على العدو، وقوته أيضا سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا، فهو مجاز مرسل بواسطتين فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا. وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال "ألا
(9/144)
إن القوة الرمي قالها ثلاثا"، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي.
وعطف {رِبَاطِ الْخَيْلِ} على {الْقُوَّةَ} من عطف الخاص على العام، للاهتمام بذلك الخاص.
و {الرباط} صيغة مفاعلة أتي بها هنا للمبالغة لتدل على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو، أي احتباسها وربطها انتظارا للغزو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "من ارتبط فرسا في سبيل الله كان روثها وبولها حسنات له" الحديث. يقال: ربط الفرس إذا شده في مكان حفظه، وقد سموا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطا، لأنهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم، كما وصف ذلك لبيد في قوله:
ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إن ركبت زمامها
إلى أن قال:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
ثم أطلق الرباط على محرس الثغر البحري، وبه سموا رباط "دمياط" بمصر، ورباط "المنستير" بتونس، ورباط "سلا" بالمغرب الأقصى.
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} في سورة آل عمران[200].
وجملة: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} إما مستأنفة استئنافا بيانيا، ناشئا عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمه، وهو القوة، وإما في موضع الحال من ضمير {وَأَعِدُّوا}.
وعدو الله وعدوهم: هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة لأنها أخصر طريق لتعريفهم، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم، ومن ذمهم، أن كانوا أعداء ربهم، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عدوا أعداء لهم، فهم أعداء الله لأنهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهم صارحوه بالعداوة، وهم أعداء المسلمين لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره. فعطف {وَعَدُوَّكُمْ} على {عَدُوَّ اللَّهِ} من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر، وهو من شواهد أهل العربية:
(9/145)
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
والإرهاب جعل الغير راهبا، أي خائفا، فإن العدو إذا علم استعداد عدوه لقتاله خافه، ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمنا من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم: يغزون الأعداء متى أرادوا، وكان الحال أوفق لهم، وأيضا ذا رهبوهم تجنبوا إعانة الأعداء عليهم.
والمراد ب {آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} أعداء لا يعرفون المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيدا، ويتربص بهم الدوائر، مثل بعض القبائل. فقوله: {لا تَعْلَمُونَهُمُ} أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام، وقد علمتموهم الآن إجمالا، أو أريد: لا تعلمونهم بالتفصيل ولكنكم تعلمون وجودهم إجمالا مثل المنافقين، فالعلم بمعنى المعرفة ولهذا نصب مفعولا واحدا.
وقوله: {مِنْ دُونِهِمْ} مؤذن بأنهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة، ولذلك ذكر {مِنْ دُونِهِمْ} بمعنى: من جهات أخرى، لأن أصل {دُونِ} أنها للمكان المخالف، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة "دون" لأن ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب" {آخَرِينَ}.
وجملة {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرين، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي، وهو تعقبهم والإغراء بهم، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنهم بمحل عناية الله فهو يحصي أعداءهم وينبههم إليهم.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي: للتقوي، أي تحقيق الخبر وتأكيده، والمقصود تأكيد لازم معناه، أما أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد، وأما حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله: {لا تَعْلَمُونَهُمُ} فلو قيل: ويعلمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين.
وإذ قد كان إعداد القوة يستدعي إنفاقا، وكانت النفوس شحيحة بالمال، تكفل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه، فقال {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته.
(9/146)
والتوفية: أداء الحق كاملا، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله، وجعل على الإنفاق جزاء، فسمي جزاءه توفية على طريقة الاستعارة المكنية، وتدل التوفية على أنه يشمل الأجر في الدنيا مع أجر الآخرة، ونقل ذلك عن ابن عباس.
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب، وإنما الذي يوفى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله، للإشارة إلى أن الموفى هو الثواب. والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنها مثله، كما يقال: وفاه دينه، وإنما وفاه مماثلا لدينه. وقريب منه قولهم: قضى صلاة الظهر، وإنما قضى صلاة بمقدارها، فالإسناد: إما مجاز عقلي، أو هو مجاز بالحذف.
والظلم: هنا مستعمل في النقص من الحق، لأن نقص الحق ظلم، وتسمية النقص من الحق ظلما حقيقة. وليس هو كالذي في قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33].
[61] {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
انتقال من بيان أحوال معاملة العدو في الحرب: من وفائهم بالعهد، وخيانتهم، وكيف يحل المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين. والأمر بالاستعداد لهم؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة، وكفوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم.
والجنوح: الميل، وهو مشتق من جناح الطائر: لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش:
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
فمعنى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه، كما يميل الطائر الجانح. وإنما لم يقل: وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها، للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب، لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا، فهذا مقابل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم.
واللام في قوله: {لِلسَّلْمِ} واقعة موقع "إلى" لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم
(9/147)
ميل حق، أي: وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره، لأن حق {جنح} أن يعدى ب"إلى" لأنه بمعنى مال الذي يعدى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض، وفي "الكشاف": أنه يقال جنح له وإليه.
والسلم - بفتح السين وكسرها - ضد الحرب. وقرأه الجمهور - بالفتح -، وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف - بكسر السين - وحق لفظه التذكير، ولكنه يؤنث حملا على ضده الحرب وقد ورد مؤن?ثا في كلامهم كثيرا.
والأمر بالتوكل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمدا في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوضا إليه تسيير أموره، لتكون مدة السلم مدة تقو واستعداد، وليكفيه الله شر عدوه إذا نقضوا العهد، ولذلك عقب الأمر بالتوكل بتذكيره بأن الله السميع العليم، أي السميع لكلامهم في العهد، العليم بضمائرهم، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم. وقوله: {فَاجْنَحْ لَهَا} جيء بفعل {اجْنَحْ} لمشاكلة قوله: {جَنَحُوا..}.
وطريق القصر في قوله: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي: فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم. وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكل عليه لا على غيره. وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدو: دليل بين على أن التوكل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هو من مقدور الناس، والتوكل فيما يخرج عن ذلك.
واعلم أن ضمير جمع الغائبين في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلها، منهم مشركون في قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48]، ومنهم من قبل: إنهم من أهل الكتاب، ومنهم من ترددت فيهم أقوال المفسرين: قيل: هم من أهل الكتاب، وقيل: هم من المشركين، وذلك قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 55, 56] الآية. قيل: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، وقيل: هم من المشركين، فاحتمل أن يكون ضمير {جَنَحُوا} عائدا إلى المشركين. أو عائدا إلى أهل الكتاب، أو عائدا إلى الفريقين كليهما.
فقيل: عاد ضمير الغيبة في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} إلى المشركين، قاله قتادة، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: عاد إلى أهل
(9/148)
الكتاب، قاله مجاهد.
فالذين قالوا: إن الضمير عائد إلى المشركين، قالوا: كان هذا في أول الأمر حين قلة المسلمين، ثم نسخ بآية سورة براءة [5] {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية. ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق، والجنوح إلى السلم إما بإعطاء الجزية أو بالموادعة.
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار: من مشركين وأهل الكتاب، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام بعد نزول آية براءة، فهي مخصصة العموم الذي في ضمير {جَنَحُوا} أو مبينة إجماله، وليست من النسخ في شيء. قال أبو بكر بن العربي: "أما من قال إنها منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فدعوى، فإن شروط النسخ معدومة فيها كما بيناه في موضعه".
وهؤلاء قد انقضى أمرهم. وأما المشركون من غيرهم، والمجوس، وأهل الكتاب، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوة المسلمين ومصالحهم وأن الجمع بين الآيتين أولى: فإن دعوا إلى السلم قبل منهم، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين. قال ابن العربي فإذا كان المسلمون في قوة ومنعة وعدة:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا ... وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
وأن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه. قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، ووادع الضمري، وصالح أكيد ردومة، وأهل نجران، وهادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.
أما ما هم به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عيينة بن حصن، ومن معه، على أن يعطيهم نصف ثمار المدينة فذلك قد عدل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، في جماعة الأنصار: لا نعطيهم إلا السيف.
فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم، ثم نسخ ذلك، بالأمر يقتالهم المشركين حتى يؤمنوا، في آيات السيف. قال قتادة وعكرمة: نسخت براءة كل مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن
(9/149)
عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين.
[62, 63] {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
لما كان طلب السلم والهدنة من العدو قد يكون خديعة حربية، ليغروا المسلمين بالمصالحة ثم يأخذوهم على غرة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنه الخلق الإسلامي، وشأن أهل المروءة؛ ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد. فإذا بعث العدو كفرهم على ارتكاب مثل هذا التسفل، فإن الله تكفل، للوفي بعهده، أن يقيه شر خيانة الخائنين. وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث، منها: وإذا وعد أخلف. ومن أحكام الجهاد عن المسلمين ان لا يخفر للعدو بعهد".
والمعنى: إن كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعة فإن الله كافيك شرهم. وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] فإن ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدو، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه.
فجملة {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} دلت على تكفل كفايته، وقد أريد منه أيضا الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال، وأن لا يتوجس منه خيفة، وأن ذلك لا يضره.
والخديعة تقدمت في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} من سورة البقرة[9].
و"حسب" معناه كاف وهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل، أي حاسبك، أي كافيك وقد تقدم قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
وتأكيد الخبر ب"إن" مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي، لأن معناه الصريح مما لا يشك فيه أحد.
وجعل {حَسْبَكَ} مسند إليه، مع أنه وصف، وشأن الإسناد أن يكون للذات، باعتبار أن الذي يخطر بالبال بادئ ذي بدء هو طلب من يكفيه.
(9/150)
وجملة {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال: على أنه حسبه، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحرج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجس من ذلك الاحتمال خيفة، والمعنى: فإن الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم، فنصرك على العدو وهو مجاهر بعدوانه، فنصره إياك عليهم مع مخاتلتهم، ومع كونك في قوة من المؤمنين الذين معك، أولى وأقرب.
وتعدية فعل {يَخْدَعُوكَ} إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه ولي أمر المسلمين، والمقصود: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، وقد بدل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: ليتوصل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفا أمة كاملة.
والتأييد التقوية بالإعانة على عمل. وتقدم في قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة[87].
وجعلت التقوية بالنصر: لأن النصر يقوي العزيمة، ويثبت رأي المنصور، وضده يشوش العقل، ويوهن العزم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض خطبه "وأفسدتم علي رأيي بالعصيان حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب".
وإضافة النصر إلى الله: تنبيه على أنه نصر خارق للعادة، وهو النصر بالملائكة والخوارق، من أول أيام الدعوة..
وقوله: {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} عطف على {بِنَصْرِهِ} وأعيد حرف الجر بعد واو العطف لدفع توهم أن يكون معطوفا على اسم الجلالة فيوهم أن المعنى ونصر المؤمنين مع أن المقصود أن وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفقهم لاتباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشا ثابتي الجنان، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييدا.
والتأليف بين قلوب المؤمنين منة أخرى على الرسول، إذ جعل أتباعه متحابين وذلك أعون له على سياستهم، وأرجى لاجتناء النفع بهم، إذ يكونون على قلب رجل واحد، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة، لأن ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم.
وهو أيضا منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن، التي كانت دأب
(9/151)
الناس في الجاهلية، فكانت سبب التقاتل بين القبائل، بعضها مع بعض، وبين بطون القبيلة الواحدة. وأقوالهم في ذلك كثيرة. ومنها قول الفضل بن العباس اللهبي:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لاتنبشوا بيننا ما كان مدفونا
الله يعلم أنا لا نحبكمو ... ولا نلومكمو أن لا تحبونا
فلما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودة، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران : 103]، وما كان ذلك التآلف والتحاب إلا بتقدير الله تعالى فإنه لم يحصل من قبل بوشائج الأنساب، ولا بدعوات ذوي الألباب.
ولذلك استأنف بعد قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} قوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} استئنافا ناشئا عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف، فهو بياني، أي: لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم.
فقوله: {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف "لو" الدال على عدم الوقوع. وأما ترتب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين، لما نظم الله من ألفتهم، وأماط عنهم من التباغض. ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام مما نشأت عنه حرب بعاث بينهم، ثم أصبحوا بعد حين إخوانا أنصارا لله تعالى، وأزال الله من قلوبهم البغضاء بينهم.
و {جَمِيعاً} منصوبا على الحال من {مَا فِي الْأَرْضِ} وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} في سورة هود[55].
وموقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} لأجل ما يتوهم من تعذر التأليف بينهم في قوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر.
والخطاب في {أَنْفَقْتَ} و {أَلَّفْتَ} للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه أول من دعا إلى الله. وإذ كان هذا التكوين صنعا عجيبا ذيل الله الخبر عنه بقوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء، محكم التكوين فهو يكون المتعذر، ويجعله كالأمر المسنون المألوف.
(9/152)
التأكيد ب"إن" لمجرد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلا على بديع صنع الله تعالى .
[64] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة، مهد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله، من أول السورة إلى هنا، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كامل الاتساق والانتظام، فإنه لما أخبره بأنه حسبه وكافيه، وبين ذلك بأنه أيده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أن حسبه الله والمؤمنون، فكانت جملة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} كالفذلكة للجملة التي قبلها.
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأن الله يكفي الأمة لأجله.
والقول في وقوع "حسب" مسندا إليه هنا كالقول في قوله آنفا {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62].
وفي عطف {الْمُؤْمِنِينَ} على اسم الجلالة هنا: تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم، إلا أن الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاق المشترك على معنيين، فهو كقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
وقيل يجعل {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} مفعولا معه لقوله: {حَسْبُكَ} بناء على قول البصريين أنه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر، أو يجعل معطوفا على رأي الكوفيين المجوزين لمثل هذا العطف. وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشريف، والتفسير الأول أولى وأرشق.
وقد روي عن ابن عباس: أن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب. فتكون مكية، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنسب لها.
وعن النقاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر، قبل ابتداء القتال، فيكون نزولها متقدما على أول سورة ثم جعل في هذا الموضع من السورة.
والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتفاقهم على أن الآية التي بعدها
(9/153)
نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحققوا كفايتهم الرسول.
[65] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
أعيد نداء النبي صلى الله عليه وسلم للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله، لأنه لما تكفل الله له الكفاية وعطف لمؤمنين في إسناد الكفاية إليهم، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم، وتلك هي الكفاية بالذب عن الحوزة وقتال أعداء الله، فالتعريف في {الْقِتَالِ} للعهد، وهو القتال الذي يعرفونه، أعني: قتال أعداء الدين.
والتحريض: المبالغة في المطلب .
ولما كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتلين بفتح التاء وكان في ذلك إجمال من الأحوال، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقل منهم، بين هذا الإجمال بقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية.
وضمير {مِنْكُمْ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
وفصلت جملة {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} لأنها لما جعلت بيانا لإجمال كانت مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عما يعمل إذا كان عدد العدو كثيرا، فقد صار المعنى: حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية.
و {صَابِرُونَ} ثابتون في القتال، لأن الثبات على الآلام صبر، لأن أصل الصبر تحمل المشاق، والثبات منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} وفي الحديث: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا". وقال النابغة:
تجنب بني حن فإن لقاءهم ... كريه وإن لم تلق إلا بصابر
وقال زفر بن الحارث الكلابي:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
(9/154)
والمعنى: عرفوا بالصبر والمقدرة عليه، وذلك باستيفاء ما يقتضيه من أحوال الجسد وأحوال النفس، وفيه إيماء إلى توخي انتفاء الجيش، فيكون قيدا للتحريض، أي: حرض المؤمنين الصابرين الذين لا يتزلزلون، فالمقصود أن لا يكون فيهم من هو ضعيف النفس فيفشل الجيش، كقول طالوت {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249].
وذكر في جانب جيش المسلمين في المرتين عدد العشرين وعدد المائة، وفي جانب جيش المشركين عدد المائتين وعدد الألف، إيماء إلى قلة جيش المسلمين في ذاته، مع الإيماء إلى أن ثباتهم لا يختلف باختلاف حالة عددهم في أنفسهم، فإن العادة أن زيادة عدد الجيش تقوي نفوس أهله، ولو مع كون نسبة عددهم من عدد عدوهم غير مختلفة، فجعل الله الإيمان قوة لنفوس المسلمين تدفع عنهم وهم استشعار قلة عدد جيشهم في ذاته.
أما اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة: فلعل وجهه أن لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأن للفظة مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة، ولذلك كثر المائة مع الألف لأن بعدها ذكر مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة، وهو قوله: {لا يَفْقَهُونَ} فتعين هذا اللفظ قضاء لحق الفصاحة.
فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله، من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم، لعشرة أمثاله، وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدو الواقع في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]، وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] الآية كما تقدم. وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاق اقتضته قلة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين، ولم يصل إلينا أن المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم، وقصارى ما علمنا أنهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر، فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف، ثم نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التالية.
والتعريف بالموصول في {الَّذِينَ كَفَرُوا} للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي: وهو سلب الفقاهة عنهم.
والباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ} للسببية، أي بعدم فقههم. وإجراء نفي الفقاهة صفة
(9/155)
ل {قَوْمٌ} دون أن يجعل خبرا فيقال: ذلك بأنهم لا يفقهون، لقصد إفادة أن عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم، لئلا يتوهم أن نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن، وهو شأن الحرب المتحدث عنه، للفرق بين قولك: حدثت فلانا حديثا فوجدته لا يفقه، وبين قولك: فوجدته رجلا لا يفقه.
والفقه فهم الأمور الخفية، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم.
وإنما جعل الله الكفر سببا في انتفاء الفقاهة عنهم: لأن الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر، وعلى تعطيل حركات فكره، فهم لا يؤمنون إلا بالأسباب الظاهرية، فيحسبون أن كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلين لقولهم: "إنما العزة للكاثر"، ولأنهم لا يؤمنون بما بعد الموت من نعيم وعذاب، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلا في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح، والمؤمنون يعولون على نصر الله ويثبتون للعدو رجاء إعلاء كلمة الله، ولا يهابون الموت في سبيل الله، لأنهم موقنون بالحياة الأبدية المسرة بعد الموت.
وقرأ الجمهور {إِنْ يَكُنْ} - بالتاء المثناة الفوقية - نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، وذلك الأصل، لمراعاة تأنيث لفظ مائة. وقرأها الباقون بالمثناة التحتية، لأن التأنيث غير حقيقي، فيجوز في فعله الاقتران بناء التأنيث وعدمه، لا سيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه. والفصل مسوغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير.
[66] {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدة. قال في "الكشاف": "وذلك بعد مدة طويلة". ولعله بعد نزول جميع سورة الأنفال، ولعلها وضعت في هذا الموضع لأنها نزلت مفردة غير متصلة بآيات سورة أخرى، فجعل لها هذا الموضع لأنه أنسب بها لتكون متصلة بالآية التي نسخت هي حكمها، ولم أر من عين زمن نزولها. ولا شك أنه كان قبل فتح مكة فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا محضا لأنها آية مستقلة.
و {الْآنَ} اسم ظرف للزمان الحاضر. قيل: أصله أوان بمعنى زمان، ولما أريد تعيينه للزمان الحاضر لازمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري، فصار مع اللام كلمة
(9/156)
واحدة ولزمه النصب على الظرفية.
وروى الطبري عن ابن عباس: "كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفر منهم، وكانوا كذلك حتى أنزل الله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} الآية، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي، قال ابن عطية: وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين. وروي هذا عن ابن عباس أيضا. قلت: وكلام ابن عباس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول.
والوقت المستحضر بقوله: {الْآنَ} هو زمن نزولها. وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين، لا أكثر، رفقا بالمسلمين واستبقاء لعددهم.
فمعنى قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} أن التخفيف المناسب ليسر هذا الدين روعي في هذا الوقت ولم يراع قبله لمانع منع من مراعاته فرجح إصلاح مجموعهم.
وفي قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ، وقوله: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} دلالة على أن ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين كان وجوبا وعزيمة وليس ندبا خلافا لما نقله ابن عطية عن بعض العلماء. ونسب أيضا إلى ابن عباس كما تقدم آنفا، لأن المندوب لا يثقل على المكلفين، ولأن إبطال مشروعية المندوب لا يسمى تخفيفا، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحا مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة.
وجملة: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} في موضع الحال، أي: خفف الله عنكم وقد علم من قبل أن فيكم ضعفا، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقة بأنها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب"قد". وجعل المفسرون موقع و {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} موقع العطف فنشأ إشكال أنه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت، مع أن ضعفهم متحقق، وتأولوا المعنى على أنه طرأ عليهم ضعف، لما كثر عددهم، وعلمه الله، فخفف عنهم، وهذا بعيد لأن الضعف في حالة القلة أشد.
ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعف حدث فيهم من تكرر ثبات الجمع
(9/157)
القليل منهم للكثير من المشركين، فإن تكرر مزاولة العمل الشاق تفضي إلى الضجر.
والضعف: عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقة، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكير للتنويع، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلة، وجعله مدخول "في" الظرفية يومئ إلى تمكنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في التكليف.
ويجوز في ضاد "ضعف" الضم والفتح، كالمكث والمكث، والفقر والفقر، وقد قرئ بهما، فقرأه الجمهور بضم الضاد، وقرأه عاصم، وحمزة، وخلف بفتح الضاد.
ووقع في كتاب "فقه اللغة" للثعالبي أن الفتح في وهن الرأي والعقل، والضم في وهن الجسم، وأحسب أنها تفرقة طارئة عند المولدين.
وقرأ أبو جعفر {ضُعَفَاءُ} - بضم الضاد وبمد في آخره - جمع ضعيف.
والفاء في قوله: {فإن تكن منكم مائة صابرة} لتفريع التشريع على التخفيف.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب {تكن} بالمثناة الفوقية. وقرأه البقية - بالتحتية - للوجه المتقدم آنفا.
وعبر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليه من المشركين بلفظي عددين معينين ومثليهما: ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ، فقوبل ثبات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثبات مائة واحدة للمائتين فأبقي مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة، إيماء إلى أن موجب التخفيف كثرة المسلمين، لا قلة المشركين، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أن المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعد بالآلاف.
وأعيد وصف مائة المسلمين ب {صَابِرَةٌ} لأن المقام يقتضي التنويه بالاتصاف بالثبات.
ولم توصف مائة الكفار بالكفر وبأنهم قوم لا يفقهون: لأنه قد علم، ولا مقتضى لإعادته.
و {إِذْنِ اللَّهِ} أمره فيجوز أن يكون المراد أمره التكليفي، باعتبار ما تضمنه الخبر من الأمر، كما تقدم، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد.
(9/158)
والمجرور في موقع الحال من ضمير {يَغْلِبُوا} الواقع في هذه الآية. وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة. وإنما صرح به هنا، دون ما سبق، لأن غلب الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة، فيعلم بدءا أنه بإذن الله، وأما غلب الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئا عن قوة أجساد المسلمين، فنبه على أنه بإذن الله: ليعلم أنه مطرد في سائر الأحوال، ولذلك ذيل بقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
[67, 68] {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أوكأن وضع الآية هنا بتوقيف خاص.
والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر. لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها.
وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخره الله تعالى رفقا بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراما لهم على ذلك النصر المبين وسدا لخلتهم التي كانوا فيها، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر. وذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس، والترمذي عن ابن مسعود، ما مختصره "أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين ما ترون في هؤلاء الأسارى، قال أبو بكر: "يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام" وقال عمر: أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوي رسول الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء" كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية.
ومعنى قوله: هوي رسول الله ما قال أبو بكر: أن رسول الله أحب واختار ذلك لأنه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وروي أن ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين، وهم في حاجة إلى المال. ولما استشار رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم أهل مشورته تعين
(9/159)
أنه لم يوح الله إليه بشيء في ذلك، وأن الله أوكل ذلك إلى اجتهاد رسوله، عليه الصلاة والسلام فرأى أن يستشير الناس ثم رجح أحد الرأيين باجتهاد وقد أصاب الاجتهاد، فإنهم قد أسلم منهم، حينئذ، سهيل بن بيضاء، وأسلم من بعد العباس وغيره، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلا الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين من بعد.
وربما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يوم أحد، فلأجل هذا جاء قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}. قال ابن العربي في "العارضة": روى عبيدة السلماني عن علي أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيره بين أن يقرب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ويقتل منكم في العام المقبل بعدتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يخيركم أن تقدموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم" ، فقالوا: يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ويقتل منا في العام المقبل بعدتهم، ففعلوا.
والمعنى أن النبي إذا قاتل فقتاله متمحض لغاية واحدة، هي نصر الدين ودفع عدائه، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتباع الدين في قلة كان قتل الأسرى تقليلا لعدد أعداء الدين حتى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال، وانتفاء خشية عود العدو إلى القوة. فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ}.
والكلام موجه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء، وليس موجها للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه ما فعل إلا ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] لا سيما على ما رواه الترمذي من أن جبريل بلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أصحابه ويدل لذلك قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فإن الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظ.
فمعنى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} نفي اتخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون.
وجيء ب"نبي" نكرة إشارة إلى أن هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني
(9/160)
إسرائيل، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية"1".
ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53]. وقد يجيء بمعنى أنه لا يصلح، كما هنا، لأن هذا الكلام جاء تمهيدا للعتاب فتعين أن يكون مرادا منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة.
ومعنى هذا الكون المنفي بقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} هو بقاؤهم في الأسر، أي بقاؤهم أرقاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء. وليس المراد أنه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى، لأن أخذ الأسرى من شؤون الحرب، وهو من شؤون الغلب، إذا استسلم المقاتلون، فلا يعقل أحد نفيه عن النبي، فتعين أن المراد نفي أثره، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين: وهما المن عليهم بإطلاقهم، أو قتلهم، ولا يصلح المن هنا لأنه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض، فتعين أن المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده، أي أن ذلك الأجدر به حين ضعف المؤمنين، خضدا لشوكة أهل العناد، وقد صار حكم هذه الآية تشريعا للنبي صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته.
والإثخان الشدة والغلظة في الأذى. يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه، وقد شاع إطلاقه على شدة الجراحة على الجريح. وقد حمله بعض المفسرين في هذه الآية على معنى الشدة والقوة. فالمعنى: حتى يتمكن في الأرض، أي يتمكن سلطانه وأمره.
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية، أي يتمكن في الدنيا. وحمله في "الكشاف" على معنى إثخان الجراحة، فيكون جريا على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يجرح قرنه جراحا قوية تثخنه، أي حتى أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع، ويكون قوله: {فِي الْأَرْضِ} قرينة التمثيلية.
والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميل إليه وغض النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين، فإن في هلاكهم خضدا لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضى السياسي العرضي على المقتضى الذي بني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
ـــــــ
"1" في الفقرة 13 منه "وإذا دفعها "الضمير عائد إلى مدينة" الرب إلهك إلى يدك جميع ذكورها بالسيف.
(9/161)
[[الفتح: 29]]. وقد كان هذا المسلك السياسي خفيا حتى كأنه مما استأثر الله به، وفي الترمذي، عن الأعمش: أنهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحل لهم، وهذا قول غريب فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم، وهو في الصحيح.
وقرأ الجمهور {أَنْ يَكُونَ لَهُ} - بتحتية - على أسلوب التذكير. وقرأه أبو عمرو، ويعقوب، وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث، لأن ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة.
والخطاب في قوله: {تُرِيدُونَ} للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام غير معاتب لأنه إنما أخذ برأي الجمهور. وجملة: {تُرِيدُونَ} إلى آخرها واقعة موقع العلة للنهي الذي تضمنته آية {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} فلذلك فصلت، لأن العلة بمنزلة الجملة المبينة.
و {عَرَضَ الدُّنْيَا} هو المال، وإنما سمي عرضا لأن الانتفاع به قليل اللبث، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيؤ. والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به.
والإرادة هنا بمعنى المحبة، أي: تحبون منافع الدنيا والله يحب ثواب الآخرة، ومعنى محبة الله إياها محبته ذلك للناس، أي يحب لكم ثواب الآخرة، فعلق فعل الإرادة بذات الآخرة، والمقصود نفعها بقرينة قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فهو حذف مضاف للإيجاز، ومما يحسنه أن الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضر ولا مشقة، بخلاف نفع الدنيا.
وإنما ذكر مع {الدُّنْيَا} المضاف ولم يحذف: لأن في ذكره إشعارا بعروضه وسرعة زواله.
وإنما أحب الله نفع الآخرة: لأنه نفع خالد، ولأنه أثر الأعمال النافعة للدين الحق، وصلاح الفرد والجماعة.
وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات، هي أمارات أمره ونهيه، فكل عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظ من نفع الآخرة، فهو غير محبوب لله تعالى، وكل عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبة من الله تعالى، وهذا الفداء الذي أحبوه لم يكن يحف به من الأمارات ما يدل على أن الله لا يحبه، ولذلك تعين أن عتاب المسلمين على
(9/162)
اختيارهم إياه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش، حين تخيروا الفداء أي أنهم ما راعوا فيه إلا محبة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبههم على أن حقيقا عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة، فإن أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة "قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك" فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعل هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش.
ويجوز عندي أن يكون قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} مستعملا في معنى الاستفهام الإنكاري، والمعنى: لعلكم تحبون عرض الدنيا فإن الله يحب لكم الثواب وقوة الدين، لأنه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي لكان حفظ أنفس الناس مقدما على إسعافهم بالمال، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد. فالمعنى: يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحب إلا عرض الدنيا، تحذيرا لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة.
وجملة: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} عطف على جملة: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} عطفا يؤذن بأن لهذين الوصفين أثرا في أنه يريد الآخرة، فيكون كالتعليل، وهو يفيد أن حظ الآخرة هو الحظ الحق، ولذلك يريده العزيز الحكيم.
فوصف {الْعَزِيزُ} يدل على الاستغناء عن الاحتياج، وعلى الرفعة والمقدرة، ولذلك لا يليق به إلا محبة الأمور النفيسة، وهذا يومئ إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزاء كقوله في الآية الأخرى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها.
ووصف الحكيم يقتضي أنه العالم بالمنافع الحق على ما هي عليه، لأن الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه.
وجملة: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام السابق يؤذن بأن مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه، فيستثير سؤالا في نفوسهم عما يترقب من ذلك فبينه قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية.
والمراد بالكتاب المكتوب، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير، وقد نكر
(9/163)
الكتاب تنكير نوعية وإبهام، أي: لولا وجود سنة تشريع سبق عن الله. وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فقد استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسهم عذاب عظيم.
وهذه الآية تدل على أن الله حكما في كل حادثة, وأنه نصب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر.
و"في" للتعليل والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة.
ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذابا في الدنيا، أي: لولا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذابا كان من شأن أخذهم الفداء أن يسببه لهم ويوقعهم فيه. وهذا العذاب عذاب دنيوي لأن عذاب الآخرة لا يترتب إلا على مخالفة شرع سابق، ولم يسبق من الشرع ما يحرم عليهم أخذ الفداء، كيف وقد خيروا فيه لما استشيروا، وهو أيضا عذاب من شأنه أن يجره عملهم جر الأسباب لمسبباتها، وليس عذاب غضب من الله لأن ذلك لا يترتب إلا على معاص عظيمة. فالمراد بالعذاب أن أولئك الأسرى الذين فادوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقا فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين، ولكن الله سلم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبة أخذ الثأر، وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين، فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى.
وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة، وبذلك كانت تشريعا للمستقبل كما ذكرناه آنفا.
[69] {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله. وفي هذا التفريع وجهان.
أحدهما الذي جرى عليه كلام المفسرين أنه تفريع على قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الخ.. أي لولا ما سبق من حل الغنائم لكم لمسكم عذاب عظيم، وإذ قد سبق الحل فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء. وقد روي أنه لما نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] الآية. أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء،
(9/164)
فنزل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وعلى هذا الوجه قد سمي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي لأن الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكه المسلمون من مال العدو بالإيجاف عليهم.
والوجه الثاني: يظهر لي أن التفريع ناشئ على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل وأن المعنى فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض. وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي.
ولما تضمن قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] امتنانا عليهم بأنه صرف عنهم بأس العدو، فرع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم، ويتوسعوا به في نفقاتهم، دون نكد ولا غصة، فإنهم استغنوا به مع الأمن من ضر العدو بفضل الله. فتلك نعمة لم يشبها أذى.
وعبر عن الانتفاع الهنيء بالأكل: لأن الأكل أقوى كيفيات الانتفاع بالشيء. فإن الآكل ينعم بلذاذة المأكول وبدفع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكل قوة وصحة - والصحة مع القوة لذاذة أيضا -.
والأمر في {كُلُوا} مستعمل في المنة ولا يحمل على الإباحة هنا: لأن إباحة المغانم مقررة من قبل يوم بدر، وليكون قوله: {حَلالاً} حالا موئسة لا مؤكدة لمعنى الإباحة.
و {غَنِمْتُمْ} بمعنى فاديتم لأن الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم.
والطيب: النفيس في نوعه، أي حلالا من خير الحلال.
وذيل ذلك بالأمر بالتقوى: لأن التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للأمر بالتقوى، وتنبيه على أن التقوى شكر على النعمة، فحرف التأكيد للاهتمام، وهو مغن غناء فاء التفريع كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير ... وقد تقدم ذكره غير مرة.
وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيدا لرأي عمر بن الخطاب. فقد روى
(9/165)
مسلم عن عمر، قال: "وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر".
[70] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
استئناف ابتدائي، وهو إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يتعلق بحال سرائر بعض الأسرى، بعد أن كان الخطاب متعلقا بالتحريض على القتال وما يتبعه، وقد كان العباس في جملة الأسرى وكان ظهر منه ميل إلى الإسلام. قبل خروجه إلى بدر، وكذلك كان عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وقد فدى العباس نفسه وفدى ابني أخويه: عقيلا ونوفلا. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم تركتني أتكفف قريشا. فنزلت هذه الآية في ذلك، وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل، ولذلك قيل لهم هذا القول قبل أن يفارقوهم.
فمعنى {مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ} من في ملكتكم ووثاقكم، فالأيدي مستعارة للملك. وجمعها باعتبار عدد المالكين. وكان الأسرى مشركين، فإنهم ما فادوا أنفسهم إلا لقصد الرجوع إلى أهل الشرك.
والمراد بالخير محبة الإيمان والعزم عليه، أي: فإذا آمنتم بعد هذا الفداء يؤتكم الله خيرا مما أخذ منكم. وليس إيتاء الخير على مجرد محبة الإيمان والميل إليه، كما أخبر العباس عن نفسه، بل المراد به ما يترتب على تلك المحبة من الإسلام بقرينة قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان: لأن ذلك لم يدعوه ولا عرفوا به، قال ابن وهب عن مالك: كان أسرى بدر مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأقاموا.
و"ما أخذ" هو مال الفداء، والخير منه هو الأوفر من المال بأن ييسر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أموال الغنائم وغيرها. فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بعد إسلامه من فيء البحرين. وإنما حملنا الخير على الأفضل من المال لأن ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلا في خصائص النوع، ولأنه عطف عليه قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وذلك هو خير الآخرة المترتب على الإيمان لأن المغفرة لا تحصل إلا للمؤمن.
والتذييل بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم، لأنها
(9/166)
مغفرة شديد الغفران رحيم بعباده، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوة المغفرة وكثرتها، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعظم المغفرة لكل واحد منهم.
وقرأ الجمهور {مِنَ الْأَسْرَى} - بفتح الهمزة وراء بعد السين - مثل أسرى الأولى، وقرأها أبو عمرو، وأبو جعفر من {الأسارى} - بضم الهمزة وألف بعد السين وراءه - فورودهما في هذه الآية تفنن.
[71] {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
الضمير في {يُرِيدُوا} عائد إلى من في أيديكم من الأسرى. وهذا كلام خاطب به الله رسوله صلى الله عليه وسلم اطمئنانا لنفسه، وليبلغ مضمونه إلى الأسرى، ليعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله. وفيه تقرير للمنة على المسلمين التي أفادها قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69]، فكمل ذلك الإذن والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم، إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأن الله يمكن المسلمين منهم مرة أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرة، أي: أن ينووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتك، وإنما وعدوا بذلك لينجوا من القتل والرق، فلا يضركم ذلك لأن الله ينصركم عليهم ثاني مرة. والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة.
فالعهد، الذي أعطوه، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين، وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه.
وخيانتهم الله، التي ذكرت في الآية، يجوز أن يراد بها الشرك فإنه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية فإن ذلك استقر في الفطرة، وما من نفس إلا وهي تشعر به، ولكنها تغالبها ضلالات العادات واتباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدم.
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 189, 190].
(9/167)
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببينة، فلما تحداهم بالقرآن كفروا به وكابروا.
وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}. وتقديره: فلا تضرك خيانتهم، أو لا تهتم بها، فإنهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل.
قوله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب وبيان اشتقاقه وألم به بعضهم إلماما خفيفا بأن فسروا "أمكن" بأقدر فهل هو مشتق من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر. ووقع في "الأساس" "أمكنني الأمر معناه أمكنني من نفسه" وفي "المصباح" "مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة".
والذي أفهمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتق من المكان وأن الهمزة فيه للجعل وأن معني أمكنه من كذا جعل له منه مكانا أي مقرا وأن المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مجالا للكائن فيه.
و"من" التي يتعدى بها فعل أمكن اتصالية مثل التي في قولهم: لست منك ولست مني. فقوله تعالى: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} حذف مفعوله لدلالة السياق عليه، أي أمكنك منهم يوم بدر، أي لم ينفلتوا منك.
والمعنى أنه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقب منكم فسلطكم عليهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم.
[72] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا وعدم موالاتهم للذين كفروا، نشأ عن قول العباس بن عبد
(9/168)
المطلب حين أسر ببدر أنه مسلم وأن المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر، ولعل بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنوهم أولياء لهم، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمر على البقاء بدار الشرك. قال ابن عطية: "مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار، والمهاجرين بعد الحديبية وذكر نسب بعضهم عن بعض".
وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتحدت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين. فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبدوا مفارقة الوطن. والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهله وقد اشترك الفريقان في أنهم آمنوا وأنهم جاهدوا، واختص المهاجرون بأنهم هاجروا واختص الأنصار بأنهم آووا ونصروا، وكان فضل المهاجرين أقوى لأنهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم، وبادر إليه أكثرهم، فكانوا قدوة ومثالا صالحا للناس.
والمهاجرة هجر البلاد، أي الخروج منها وتركها قال عبدة بن الطبيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
وأصل الهجرة الترك واشتق منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم، لأن الغالب عندهم كان أنهم يتركون قومهم ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم.
وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين فقد هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. وهاجر لوط عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقر المسلمون من أهل مكة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" وقال للأعرابي: "ويحك إن شأنها شديد" - وقال - "لا هجرة بعد الفتح".
(9/169)
والإيواء تقدم عند قوله تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} في هذه السورة[26].
والنصر تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} إلى قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} في سورة البقرة[123].
والمراد بالنصر في قوله: {وَنَصَرُوا} النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار.
واسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} لإفادة الاهتمام بتمييزهم للأخبار عنهم، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم، ولذلك لم يؤت بمثله في الأخبار عن أحوال الفرق الأخرى.
ولما أطلق الله الولاية بينهم احتمل حملها على أقصى معانيها، وإن كان موردها في خصوص ولاية النصر فإن ذلك كورود العام على سبب خاص قال ابن عباس: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 75] يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، حتى أنزل الله قوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] أي في الميراث فنسختها وسيأتي الكلام على ذلك. فحملها ابن عباس على ما يشمل الميراث، فقال: كانوا يتوارثون بالهجرة وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر فنسخ الله ذلك بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. وهذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن. وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقال كثير من المفسرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتدادا بأنها خاصة بهذا الغرض وهو قول مالك بن أنس والشافعي.
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة. ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه "وهو مؤمن" ولا يرث الأعرابي المهاجر - أي ولو كان عاصبا.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله، آية
(9/170)
واحدة نهايتها قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك وأن وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك، فلما بين أول الآية ما لأصحاب الوصفين: الإيمان والهجرة، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث، فبينت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرئي من ولايتهم حتى يهاجروا، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلا إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم.
وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا، دليل على أنهم معتبرون مسلمين ولكن الله أمر بمقاطعتهم حتى يهاجروا ليكون ذلك باعثا لهم على الهجرة.
و"الولاية" - بفتح الواو - في المشهور وكذلك قرأها جمهور القراء، وهي اسم لمصدر تولاه، وقرأها حمزة وحده - بكسر الواو -. قال أبو علي: الفتح أجود هنا، لأن الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة. وقال الزجاج: قد يجوز فيها الكسر لأن في تولي بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة كالقصارة والخياطة، وتبعه في "الكشاف" وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أن الفتح هنا أجود. وما قاله أبو علي الفارسي باطل، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها.
والظرفية التي دلت عليها "في" من قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} ظرفية مجازية، تؤول إلى معنى التعليل، أي: طلبوا ان تنصروهم لأجل الدين، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم لأن نصرهم للدين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصره وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفر داعي القتال، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد.
و {عَلَيْكُمُ النَّصْرُ} من صيغ الوجوب، أي: فواجب عليكم نصرهم، وقدم الخبر وهو {عليكم} للاهتمام به.
و {أَلْ} في {النَّصْرُ} للعهد الذكري لأن {اسْتَنْصَرُوكُمْ} يدل على طلب نصر
(9/171)
والمعنى: فعليكم نصرهم.
والاستثناء في قوله: {لَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} استثناء من متعلق النصر وهو المنصور عليهم ووجه ذلك أن الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلا إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلق إلا بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار، فأما المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمل المسلمون تبعاتهم، ولا يدخلون فيما جروه لأنفسهم من عداوات وإحن لأنهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعد نكثا من الكفار لعهد المسلمين، لأن من عذرهم أن يقولوا: لا نعلم حين عاهدناكم أن هؤلاء منكم، لأن الإيمان لا يطلع عليه إلا بمعاشرة، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذير للمسلمين لئلا يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوما بينهم وبينهم ميثاق.
وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد وأنه لا ينفضه إلا أمر صريح في مخالفته.
[73] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 72] وما عطف عليه. والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأن بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي: وهو أنهم ليسوا بأولياء للمسلمين لأن الإخبار عن ولاية بعضهم بعضا ليس صريحة مما يهم المسلمين لولا أن القصد النهي عن موالاة المسلمين إياهم، وبقرينة قوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي: إن لا تفعلوا قطع الولاية معهم، فضمير تفعلوه عائد الى ما في قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} بتأويل: المذكور، لظهور أن ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضا، لولا أن المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إياهم.
والفتنة اختلال أحوال الناس، وقد مضى القول فيها عند قوله: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] - وقوله -: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة
(9/172)
[191]، وقد تقدم القول فيها آنفا في هذه السورة.
والفتنة تحصل من مخالطة المسلمين مع المشركين، لأن الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودة ومصاهرة ومخالطة، وقد كان إسلام من أسلم مثيرا لحنق المشركين عليه، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزتهم، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم، فيحنوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر. فكان إيجاب مقاطعتهم لقصد قطع نفوسهم عن تذكر تلك الصلات، وإنسائهم تلك الأحوال، بحيث لا يشاهدون إلا حال جماعة المسلمين، ولا يشتغلوا إلا بما يقويها، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرغ بال من تحسر أو تعطف على المشركين، فإن الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي فلذا كان هذا حسما لوسائل الفتنة.
والتعريف في {الْأَرْضِ} للعهد والمراد أرض المسلمين.
و"الفساد" ضد الصلاح، وقد مضى عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
و"الكبير" حقيقته العظيم الجسم. وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
والمراد بالفساد هنا: ضد صلاح اجتماع الكلمة، فإن المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم، ولأنه قد يحدث بينهم الاختلاف من جراء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين، ويرمي بعضهم بعضا بالكفر أو النفاق، وذلك يفضي إلى تفرق جماعتهم، وهذا فساد كبير، ولأن المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية وإنما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافا واحدا، وتجنب ما يضادها، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة. وذلك فساد كبير.
[74] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
الأظهر أن هذه جملة معترضة بين جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
(9/173)
[الأنفال: 73]، وجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 75] الآية، والواو اعتراضية للتنويه بالمهاجرين والأنصار، وبيان جزائهم وثوابهم، بعد بيان أحكام ولاية بعضهم لبعض بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] فليست هذه تكرير للأولى، وإن تشابهت ألفاظها: فالأولى لبيان ولاية بعضهم لبعض، وهذه واردة للثناء عليهم والشهادة لهم بصدق الإيمان مع وعدهم بالجزاء.
وجيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} لمثل الغرض الذي جيء به لأجله في قوله: {أولئك بعضهم أولياء بعض} كما تقدم.
وهذه الصيغة صيغة قصر، أي قصر الإيمان عليهم دون غيرهم ممن لم يهاجروا، والقصر هنا مقيد بالحال في قوله: {حَقّاً}. فقوله: {حَقّاً} حال من {الْمُؤْمِنُونَ} وهو مصدر جعل من صفتهم، فالمعنى: أنهم حاقون، أي محققون لإيمانهم بأن عضدوه بالهجرة من دار الكفر، وليس الحق هنا بمعنى المقابل للباطل، حتى يكون إيمان غيرهم ممن لم يهاجروا باطلا، لأن قرينة قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] مانعة من ذلك، إذ قد أثبت لهم الإيمان ونفي عنهم استحقاق ولاية المؤمنين.
والرزق الكريم هو الذي لا يخالط النفع به ضر ولا نكد، فهو نفع محض لا كدر فيه.
[75] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}.
بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهاجروا بالصراحة، ابتداء ونفي عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان، وكان ذلك مثيرا في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم برأب هذه الثلمة عنهم، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية. {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}.
فكانت هذه الآية بيانا، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليبا لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات.
(9/174)
ودخول الفاء على الخبر وهو {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنه جاء كالجواب عن سؤال السائل، فكأنه قيل: وأما الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ، أي: مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا، ف {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} وبذلك صار فعل {آمَنُوا} تمهيدا لما بعده من {هاجروا وجاهدوا} لأن قوله: {مِنْ بَعْدُ} قرينة على أن المراد: إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلا في وقت نزول الآيات السابقة، ليكون أصحاب هذه الصلة قسما مغايرا للأقسام السابقة. فليس المعنى أنهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية، لأن الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم، فإن من المعلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وإنما المقصود: بيان أنهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين، فيتعين أن المضاف إليه المحذوف الذي يشير إليه بناء {بَعْدُ} على الضم أن تقديره: من بعد ما قلناه في الآيات السابقة، وإلا صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدم، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردد فيها بعض المفسرين في تقدير ما أضيف إليه "بعد".
وفي قوله: {مَعَكُمْ} إيذان بأنهم دون المخاطبين الذين لم يستقروا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون وأنهم فرطوا في الجهاد مدة.
والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعد وهاجروا، دون الضمير، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم.
و"من" في قوله: {مِنْكُمْ} تبعيضية، ويعتبر الضمير المجرور بمن، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أن ولايتهم للمسلمين.
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
قال جمهور المفسرين قوله: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} أي مثلكم في النصر والموالاة قال مالك: إن الآية ليست في المواريث وقال أبو بكر بن العربي: قوله: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال، أي اختلاف القائلين في أن المهاجر يرث الأنصاري والعكس، وهو قوله فرقة. وقالوا: إنها نسخت بآية المواريث.
عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتحادا بين المعطوفة والمعطوف عليها ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأن لها حظا في إتمام التقسيم وقد جعلت في
(9/175)
المصاحف مع التي قبلها آية واحدة.
فيظهر أن التقاسيم السابقة لما أثبتت ولاية بين المؤمنين، ونفت ولاية من بينهم وبين الكافرين، ومن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتى يهاجروا، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دار الكفر مدة، فبينت أنهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين وكان ذلك قد يشغل السامعين عن ولاية ذوي أرحامهم من المسلمين، جاءت هذه الآية تذكر بأن ولاية الأرحام قائمة وأنها مرجحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط وشأن الصفات والغايات بعد الجمل المتعاطفة أنها تعود إلى جميع تلك الجمل، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيدة الإطلاق الذي فيها.
وظاهر لفظ {الْأَرْحَامِ} جمع رحم وهو مقر الولد في بطن أمه، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم. قاله القرطبي، واستدل له بأن لفظ الرحم يراد به العصابة، كقول العرب في الدعاء "وصلتك رحم"، وكقول قتيلة بنت النضر بن الحارث:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزق
حيث عبرت عن نوش بني أبيه بتمزيق أرحام.
وعلم من قوله: {أَوْلَى} هو صيغة تفضيل أن الولاية يين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحل الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أولى بالولاية ممن ثبتت لهم ولاية تامة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذ لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولاية النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبينة بالكتاب والسنة، ولولاية الأرحام حقوق مبينة أيضا، بحيث لا تزاحم إحدى الولايتين الأخرى، والاعتناء بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة فلذلك علقت أولوية الأرحام بأنها كائنة في كتاب الله أي في حكمه.
وكتاب الله في قضاؤه وشرعه، وهو مصدر، إما باق على معنى المصدرية، أو هو بمعنى
(9/176)
المفعول، أي مكتوبة كقول الراعي:
كان كتابها مفعولا"1"
وجعل تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كناية عن عدم تعبيرها لأنهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه. قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ين ... قض ما في المهارق الأهواء
فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنها في كتاب الله للدلالة على أن ذلك حكم فطري قدره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم، كما ورد في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة الحديث. فلما كانت ولاية الأرحام أمرا مقررا في الفطرة، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بين الله أن ولاية الدين لا تبطل ولاية الرحم إلا إذا تعارضنا، لأن أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد، فلا يغيره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضا، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية، حيث تكون الولاية، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين.
واختلف العلماء في أن ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث: فقال مالك ابن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاص إذ ليست صيغتها صيغة عموم لأن مناط الحكم قوله: {أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
وقال جماعة تشمل ولاية الميراث، ثم اختلفوا فمنهم من قال: نسخت هذه الولاية بآية المواريث فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فيكون تخصيصا للعموم عندهم.
وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة، فتكون هذه الآية مقيدة لإطلاق آية المواريث، وقد علمت مما تقدم كله أن في هذه الآيات غموضا جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال. وأياما كانت فقد
ـــــــ
"1" أول البيت.
حتى إذ اقرت عجاجة فتنة
عمياء كان كتابها مفعولاً
(9/177)
جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط.
وقوله: {نَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل هو مؤذن بالتعليل لتقرير أولوية ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية، أي إنما اعتبرت تلك الأولوية في الولاية لأن الله قد علم أن لا صرة الرحم حقا في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع لأن الله بكل شيء عليم وهذا الحكم مما علم أن إثباته رفق ورأفة بالأمة.
(9/178)
المجلد العاشر
سورة التوبة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
9 - سورة التوبة
سميت هذه السورة، في أكثر المصاحف، وفي كلام السلف: سورة براءة ففي الصحيح عن أبي هريرة، في قصة حج أبي بكر بالناس، قال أبو هريرة: "فأذن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة". وفي "صحيح البخاري"، عن زيد بن ثابت قال: "آخر سورة نزلت سورة براءة"، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". وهي تسمية لها بأول كلمة منها.
وتسمى "سورة التوبة" في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة، فعن ابن عباس "سورة التوبة هي "الفاضحة"، وترجم لها الترمذي في "جامعه" باسم التوبة. ووجه التسمية: أنها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو حدث عظيم.
ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت، في "صحيح البخاري"، في باب جمع القرآن، قال زيد: "فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، حتى خاتمة سورة البراءة" [128].
وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها.
ولهذه السورة أسماء أخر، وقعت في كلام السلف، من الصحابة والتابعين، فروي عن ابن عمر، عن ابن عباس: كنا ندعوها (أي سورة براءة) "المقشقشة" (بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشة إذا أبراه من المرض)، كان هذا لقبا لها ولسورة "الكافرون" لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.
(10/5)
وكان ابن عباس يدعوها "الفاضحة" : قال ما زال ينزل فيها "ومنهم - ومنهم" حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.
وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد، فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] فقد قالها بعضهم وسمعت منهم، وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين. وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [ التوبة:42].
وعن حذيفة: أنه سماها "سورة العذاب" لأنها نزلت بعذاب الكفار، أي عذاب القتل والأخذ حين يثقفون.
وعن عبيد بن عمير أنه سماها "المنقرة" (بكسر القاف مشددة) لأنها نقرت عما في قلوب المشركين (لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه).
وعن المقداد بن الأسود، وأبي أيوب الأنصاري: تسميتها "البحوث" - بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول - بمعنى الباحثة، وهو مثل تسميتها "المنقرة".
وعن الحسن البصري أنه دعاها "الحافرة" كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق، فأظهرته للمسلمين.
وعن قتادة: أنها تسمى "المثيرة" لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها. وعن ابن عباس أنه سماها "المبعثرة" لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين، أي أخرجتها من مكانها.
وفي "الإتقان": أنها تسمى "المخزية" بالخاء - والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} . [التوبة:2].
وفي "الإتقان" أنها تسمى "المنكلة"، أي بتشديد الكاف وفيه أنها تسمى "المشددة".
وعن سفيان أنها تسمى "المدمدمة" - بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين. فهذه أربعة عشر اسما.
وهي مدنية بالاتفاق.قال في "الإتقان": واستثنى بعضهم قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
(10/6)
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] الآية ففي "صحيح البخاري" أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب". فكان آخر قول أبي طالب: أنه على ملة عبد المطلب، فقال النبي: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" . وتوفي أبو طالب فنزلت {كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113].
وشذ ما روي عن مقاتل: أن آيتين من آخرها مكيتان، وهما {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:112] إلى آخر السورة. وسيأتي ما روي أن قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19]. الآية. نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم، فقال: نحن نحجب الكعبة الخ.
وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع، نزلت بعد سورة الفتح، في قول جابر بن زيد، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن. وروي: أنها نزلت في أول شوال سنة تسع، وقيل آخر ذي القعدة سنة تسع، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: قبيل خروجه.
والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال.
وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة، كما سيأتي، ولعل مراد من قال إنها نزلت غير متفرقة: أنه يعني إنها لم يتخللها ابتداء نزول سورة أخرى.
والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13] نزلت متتابعة، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم. وهذا ما اتفقت عليه الروايات. وقد قيل: إن ثلاثين آية منها، من أولها إلى قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية: من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] أذن به في الموسم، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة: مائة وثلاثون آية،وفي عدّ
(10/7)
أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية.
اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك، في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره (عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك، أي قولهم في التلبية "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض- والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان -. فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - إلى قوله- {أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [بالتوبة: 17, 18] - وقوله - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة. واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح. واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف، وحج بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على الناس(1) ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك.
وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك. فهذا سبب نزولها، وذكره أول أغراضها.
ـــــــ
(1) من أول السورة حتى قوله : {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
(10/8)
فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج.
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها.
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.
وحرمة الأشهر الحرام.
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه. وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة. والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر. وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.
وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول. وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب. ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين.
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.
ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم.
(10/9)
وضرب المثل بالأمم الماضية.
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم. وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير.
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر. وفضل المهاجرين والأنصار.
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.
والجهاد وأنه فرض على الكفاية. والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.
والتنويه بغزوة تبوك وجيشها.
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها.
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم.
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين. اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة. فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما، وتردد العلماء في توجيه ذلك. وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم. فقال عثمان: إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم".
ونشأ من هذا قول آخر: وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال. وبراءة، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة
(10/10)
لقول من عدهما سورتين، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة، وروى أبو الشيخ، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب: أنهم إنما تركوا البسملة في أولها، لأن البسملة أمان وبشارة، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة، ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد دون استفتاح. وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة "باسمك اللهم" فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود. وقال ابن العربي في "الأحكام": قال مالك فيما روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه. ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية: روي عن مالك أنه قال: بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه. وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في "نسخة تفسير ابن عطية" نقصا.
والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة: هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من "العتبية" "قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك، كانت في آخر ما نزل من القرآن. وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها. قال ابن رشد في "البيان والتحصيل" "ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة". ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا.
[1] {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
(10/11)
افتتحت السورة كما تفتتح العهود وصكوك العقود بأدل كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثقين: باع أو وكل أو تزوج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها.
وتنكير {بَرَاءَةٌ} تنكير التنويع، وموقع {بَرَاءَةٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أن هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدم في قوله تعالى: {ألمص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1, 2].
والمجروران في قوله: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} في موضع الخبر، لأنه المقصود من الفائدة أي: البراءة صدرت من الله ورسوله.
و {مِنَ} ابتدائية، و {إِلَى} للانتهاء لما أفاده حرف {مِنَ} من معنى الابتداء. والمعنى أن هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغا إلى الذين عاهدتم من المشركين.
والبراءة الخروج والتفصي مما يتعب ورفع التبعة. ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويعد الإخلاف بشيء منه غدرا على المخلف، كان الإعلان بفسخ العهد براءة من التبعات التي كانت بحيث تنشأ عن إخلاف العهد، فلذلك كان لفظ {بَرَاءَةٌ} هنا مفيدا معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهدون حذرهم. وقد كان العرب ينبذون العهد ويردون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما، كما فعل ابن الدغنه في رد جوار أبي بكر عن قريش، وما فعل عثمان بن مظعون في رد جوار الوليد بن المغيرة أياه قائلا: "رضيت بجوار ربي ولا أريد أن أستجير غيره". وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [لأنفال:58] أي: ولا تخنهم لظنك أنهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم.
ولماّ كان الجانب، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله، جعلت هذه البراءة صادرة من الله لأنه الآذن بها، ومن رسوله لأنه المباشر لها. وجعل ذلك منهى إلى المعاهدين من المشركبن لأن المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصاله ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدرا.
والخطاب في قوله: {عَاهَدْتُمْ} للمؤمنين. فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها.
واعلم أن العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة،
(10/12)
فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عهد الحديبية: أن لا يصد أحد عن البيت إذا جاء، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام، وقد كان معظم قبائل العرب داخلا في عقد قريش الواقع في الحديبية لأن قريشا كانوا يومئذ زعماء جميع العرب، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ: أن من أحب أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية. وهذا العهد، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين، فقد كان عديله لازما لفائدة المشركين على المسلمين، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكة فزال ما زال منه بعد فتح مكة وإسلام قريش وبعض أحلافهم.
وكان بين المسلمين وبعض قبائل المشركين عهود؛ كما أشارت إليه سورة النساء [90] في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية. وكما أشارت إليه هذه السورة[4] في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} الآية.
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معين، وبعضها كان لأجل قد انقضى، وبعضها لم ينقض اجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجلا إلى عشر سنين في بعض الأقوال وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فيكون قد انقضت مدته على بعض الأقوال، ولم ينقض على بعضها، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنه على حكم بالاستمرار وكان بعض تلك العهود مؤجلا إلى أجل لم يتم، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين، فقد ذكر أنه لما وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أن المسلمين غلبوا فنقض كثير من المشركين العهد، وممن نقض العهد بعض خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة أو جذيمة، كما دل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حذرهم، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك، لأن الأرض صارت لأهل الإسلام كما دل عليه قوله تعالى بعد: { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه} [التوبة:3].
وإنما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين: للإشارة إلى أن العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه
(10/13)
بأنفسهم، لأن عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت لمصلحة المسلمين، في وقت عدم استجماع قوتهم، وأزمان كانت بقية قوة للمشركين، وإلا فإن أهل الشرك ما كانوا يستحقون من الله ورسوله توسعة ولا عهدا لأن مصلحة الدين تكون أقوم إذا شدد المسلمون على أعدائه، فالآن لما كانت مصلحة الدين متحمضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد، فلا تبعة على المسلمين في نبذه، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن ذلك توسعة على المسلمين، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين، على أن في الكلام احتباكا، لما هو معروف من أن المسلمين لا يعملون عملا إلا عن أمر من الله ورسوله، فصار الكلام في قوة براءة من الله ورسوله ومنكم، إلى الذين عاهدوا الله ورسوله وعاهدتم، فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلها الموصول في قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فالتعريف بالموصولية هنا لأنها أخصر طريق للتعبير عن المقصود، مع الإشارة إلى أن هذه البراءة براءة من العهد، ثم بين بعضها بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة:4] الآية.
[2] {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .
الفاء للتفريع على معنى البراءة، لأنها لما أمر الله بالأذان بها كانت إعلاما للمشركين، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات. فالتقدير: فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة.
ويجوز تقدير قول محذوف مفرع على البراءة من عهودهم، أي فقل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
والسياحة حقيقتها السير في الأرض، ولما كان الأمر بهذا السير مفرعا على البراءة من العهد، ومقررا لحرمة الأشهر الحرام، علم أن المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض، وليس سيرهم في أرض قومهم، دل على ذلك إطلاق السياحة
(10/14)
وإطلاق الأرض فكان المعنى: فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض.
وهذا تأجيل خاص بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة، ونهايته نهاية محرم في آخر الأشهر الحرم المتوالية، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق: وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم: هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر، فيكون قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] (أي من ذلك العام) تنهية لذلك الأجل روعي فيها المدة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم، وذلك نهاية المحرم.
وقيل: الأشهر الأربعة هي المعروفة عندهم في جميع قبائل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، أي فلم يبق للمشركين أمن إلا في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاص لتأمينهم ولكنه التأمين المقرر للأشهر الحرم فيكون المعنى: البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرر للأشهر الحرم. وحكى السهيلي في "الروض الآنف" أنه قيل أنه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجة والمحرم من ذلك العام وأنه جعل ذلك أجلا لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام.
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم، وبأن ما دون تلك الأشهر حرب بين المسلمين والمشركين، وسيقع التصريح بذلك.
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .
عطف على {فَسِيحُوا} داخل في حكم التفريع، لأنه لما أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احتراسا من تطرق الغرور، وتهديدا بأن لا يطمئنوا من أن يسلط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم، وإن قبعوا في ديارهم.
وافتتاح الكلام ب {وَاعْلَمُوا} للتنبيه على أنه مما يحق وعيه، والتدبر فيه، كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} في سورة الأنفال[24]، وقد تقدم التنبيه عليه.
والمعجز اسم فاعل من أعجز فلانا إذا جعله عاجزا عن عمل ما، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائت، الخارج عن قدرة أحد، فالمعنى: أنكم غير خارجين عن قدرة الله، ولكنه أمنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس.
وعطف قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:] على قوله: {أََنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}
(10/15)
فهو داخل في عمل {وَاعْلَمُوا} فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفا.
وكان ذكر {الْكَافِرِينَ} إخراجا على خلاف مقتضى الظاهر: لأن مقتضى الظاهر أن يقول: وإن الله مخزيكم، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سببية الكفر في الخزي.
والإخزاء: الإذلال. والخزي بكسر الخاء الذل والهوان، أي مقدر للكافرين الإذلال: بالقتل، والأسر، وعذاب الآخرة، ما داموا متلبسين بوصف الكفر.
[3] {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} .
عطف على جملة {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] وموقع لفظ {وَأَذَانٌ} كموقع لفظ {بَرَاءَةٌ} [التوبة:1] في التقدير، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأن عهدهم انتقض.
والأذان اسم مصدر آذنه، إذا أعلمه بإعلان، مثل العطاء بمعنى الإعطاء، والأمان بمعنى الإيمان، فهو بمعنى الإيذان.
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دون المسلمين، لأنه تشريع وحكم في مصالح الأمة، فلا يكون إلا من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة، لئلا يكونوا غادرين، كما قال تعالى: {فإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يهم الناس كلهم.
ويوم الحج الأكبر: قيل هو يوم عرفة، لأنه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد وهذا يروي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي وفي الحديث "الحجة عرفة" .
وقيل: هو يوم النحر لأن الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذ كانت الحمس يقفون بالمزدلفة، ويقف بقية الناس بعرفة، وكانوا جميعا يحضرون منى يوم النحر، فكان ذلك الاجتماع الأكبر، ونسب ابن عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد. وهذا قول علي، وابن عمر، وابن مسعود، والمغيرة ابن شعبة، وابن عباس أيضا، وابن أبي أوفى،
(10/16)
والزهري، ورواه ابن وهب عن مالك، قال مالك: لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج.
وأقول:إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة. فأما يوم منى فيوم عيدهم.
و {الأَكْبَر} ِ بالجر نعت للحج، باعتبار تجزئته إلى أعمال، فوصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ويظهر من اختلافهم في المراد من الحج الأكبر أن هذا اللفظ لم يكن معروفا قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه.
وهذا الكلام إنشاء لهذا الأذان، موقتا بيوم الحج الأكبر، فيؤول إلى معنى الأمر، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله بريئان من المشركين.
والمراد ب{النَّاسِ} جميع الناس الذين ضمهم الموسم، ومن يبلغه ذلك منهم: مؤمنهم ومشركهم. لأن هذا الأذان مما يجب أن يعلمه المسلم والمشرك، إذ كان حكمه يلزم الفريقين.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} يتعلق ب {وَأَذَانٌ} بحذف حرف الجر- وهو باء التعدية- أي إعلام بهذه البراءة المتقدمة في قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ} [التوبة:1] فإعادتها هنا لأن هذا الإعلام للمشركين المعاهدين وغيرهم، تقريرا لعدم غدر المسلمين، والآية المتقدمة إعلام للمسلمين.
وجاء التصريح بفعل البراءة مرة ثانية دون ?إضمار ولا اختصار بأن يقال: وأذان إلى الناس بذلك، أو بها، أو بالبراءة: لأن المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه، ففيهم الذكي والغبي، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم.
وعطف {وَرَسُولِهِ} بالرفع، عند القراء كلهم: لأنه من عطف الجملة، لأن السامع يعلم من الرفع أن تقديره: ورسوله بريء من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنية بليغة، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
(10/17)
برفع (قيار) لأنه أراد أن يجعل غربة جمله المسمى قيارا غربة أخرى غير تابعة لغربته.
ومما يجب التنبيه له: ما في بعض التفاسير أنه روي عن الحسن قراءة {وَرَسُولِهِ} - بالجر ولم تصح نسبتها إلى الحسن، وكيف يتصور جر {وَرَسُولِهِ} ولا عامل بمقضي جره، ولكنها ذات قصة طريفة: أن أعرابيا سمع رجلا قرأ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ} - بجر ورسوله - فقال الأعرابي: إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء. وإنما أراد التورك على القارئ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية، - وروي أيضا- أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي. فكان ذلك سبب وضع النحو، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو.
وهذا الأذان قد وقع في الحجة التي حجها أبو بكر بالناس، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر، موافيا الموسم ليؤذن ببراءة، فأذن بها على يوم النحر بمنى، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية(1)منها، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض. ولعل قوله: "أو أربعين آية" شكّ من الراوي، فما ورد في رواية النسائي، أي عن جابر: أن عليا قرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلعلّ معناه حتى ختم ما نزل منها مما يتعلق بالبراءة من المشركين، لأن سورة براءة لم يتم نزولها يومئذ، فقد ثبت أن آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة.
وإنما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق لأنه قيل لرسول الله أن العرب لا يرون أن ينقض أحد عهده مع من عاهده إلا بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذرا في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم.
وروي: أن عليا بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته. وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي "سترون بعد الأربعة الأشهر فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب".
ـــــــ
(1)تنتهي الثلاثون آية عند قوله تعالى: { قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وتنتهي الأربعون آية عند قوله تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]
(10/18)
{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
التفريع على جملة: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فيتفرع على ذلك حالتان: حالة التوبة وحالة التولي.
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة، والمعنى: فإن آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه، لأن الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير. والمراد بالتولي: الإعراض عن الإيمان. وأريد بفعل {تَوَلَّيْتُمْ} معنى الاستمرار، أي إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله، أي اعلموا أنكم قد وقعتم في مكنة الله، وأوشكتم على العذاب.
وجملة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} معطوفة على جملة: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لما تتضمّنه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنه قيل: فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأن من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال: وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.
و(البشارة) أصلها الإخبار بما فيه مسرة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكم، كما تقدم في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة آل عمران[21].
والعذاب الأليم: هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفيء الأموال، كما قال تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] فإن تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال، أي: أنذر المشركين بأنك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدل عليه قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:4].
[4] {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
استثناء من المشركين في قوله: { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:3]، ومن {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] لأن شأن الاستثناء
(10/19)
إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعها مما يصلح لذلك الاستثناء، فهو استثناء لهؤلاء: من حكم نقض العهد، ومن حكم الإنذار بالقتال، المترتب على النقض، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم.
والموصول هنا يعم كل من تحققت فيه الصلة، وقد بين مدلول الاستثناء قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} .
وحرف (ثم) في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} للتراخي الرتبي، لأن عدم الإخلال بأقل شيء مما عاهدوا عليه أهم من الوفاء بالأمور العظيمة مما عاهدوا عليه لأن عدم الإخلال بأقل شيء نادر الحصول.
والنقص لشيء إزالة بعضه، والمراد: أنهم لم يفرطوا في شيء مما عاهدوا عليه. وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأن ( ثُمَّ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة، أي بعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه، بعد كمال وارتفاع شأن. فإن من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به.
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين، ووفوا به على أتم وجه، فلم يكيدوا المسلمين بكيد، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سراً، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدة التي عوهدوا عليها. ومن هؤلاء: بنو ضمره، وحيان من بني كنانة: هم بنو جذيمة، وبنو الديل. ولا شك أنهم ممن دخلوا في عهد الحديبية.
وقد علم من هذا: أن الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم هم ضد أولئك، وهم قوم نقصوا مما عاهدوا عليه، أي كادوا، وغدروا سرا، أو ظاهروا العدو بالمدد والجوسسة.
ومن هؤلاء: قريظة أمدوا المشركين غير مرة، وبنو بكر، عدوا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدم فعبر عن فعلهم ذلك بالنقص لأنهم لم ينقضوا العهد علنا، ولا أبطلوه، ولكنهم أخلوا به، مما استطاعوا أن يكيدوا ويمكروا ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه.
وذكر كلمة {شَيْئًا} للمبالغة في نفي الانتقاص، لأن كلمة "شيء" نكرة عامة، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كل ما يصدق عليه أنه موجود، كما تقدم في قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} في سورة البقرة[113].
والمظاهرة: المعاونة، يجوز أن يكون فعلها مشتقا من الاسم الجامد وهو الظهر،
(10/20)
أي صلب الإنسان أو البعير، لأن الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلب، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل، يقال: بعير ظهير، أي قوي على الرحلة، مثل المعين لأحد على عمل بحال من يعطيه ظهره يحمل عليه، فكأنه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره، فمن ثم جاءت صيغة المفاعلة، ومثله المعاضدة مشتقة من العضد، والمساعدة من الساعد، والتأييد من اليد، والمكاتفة مشتقة من الكتف، وكلها أعضاء العمل.
ويجوز أن يكون فعله مشتقا من الظهور، وهو مصدر ضد الخفاء، لأن المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس، فمثل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء، ولذلك يعدى بحرف (على) للاستعلاء المجازي، قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4]- وقال- {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة:8]- وقال - {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} [الفتح:28]- وقال- {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] أي معين.
والفاء في قوله: {فَأَتِمُّوا} تفريع على ما أفاده استثناء قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} الخ، وهو أنهم لا تشملهم البراءة من العهد.
والمدة: الأجل، مشتقة من المد لأن الأجل مد في زمن العمل، أي تطويل، ولذلك يقولون: ماد القوم غيرهم، إذا أجلوا الحرب إلى أمد، وإضافة المدة إلى ضمير المعاهدين. لأنها منعقدة معهم، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ولكن رجح هنا جانبهم لأن انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به، إذ صار المسلمون أقوى منهم، وأقدر على حربهم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تذييل في معنى التعليل للأمر. بإتمام العهد إلى الأجل بأن ذلك من التقوى، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به، لأن الأخبار بمحبة الله المتقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى.
ثم إن. قبائل العرب كلها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدة فانتهت حرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام.
[5] {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
(10/21)
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
تفريع على قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فإن كان المراد في الآية المعطوف عليها بالأربعة الأشهر أربعة تبتدئ من وقت نزول براءة كان قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ، تفريعا مرادا منه زيادة قيد على قيد الظرف من قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الخ لانتهاء الإذن الذي في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2]، وإن كانت الأربعة الأشهر مرادا بها الأشهر الحرم كان قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ، تصريحا بمفهوم الإذن بالأمن أربعة أشهر، المقتضي أنه لا أمن بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فهو على حد قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] بعد قوله :{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌُ} [المائدة:1] فيكون تأجيلا لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر، ثم تحذيرا من خرق حرمة شهر رجب، وكذلك يستمر الحال في كل عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ. وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان، أي أزالته. ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة.
والحرم جمع حرام وهو سماعي لأن فعلا بضم الفاء والعين إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد. وحرام صفة. وقال الرضي في باب الجمع من "شرح الشافية" إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} في سورة البقرة[198]. وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.
وانسلاخها انقضاء المدة المتتابعة منها، وقد بقيت حرمتها ما بقي من المشركين قبيلة، لمصلحة الفريقين، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم، لأن حرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها.
والأمر في {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} للإذن والإباحة باعتبار كل واحد من المأمورات على حدة، أي فقد أذن لكم في قتلها، وفي أخذهم، وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
(10/22)
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]. والمقصود هنا: أن حرمة العهد قد زالت.
وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة. وقد عمت الآية جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة.
والأخذ: الأسر.
والحصر: المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين.
والقعود مجاز في الثبات في المكان، والملازمة له، لأن القعود ثبوت شديد وطويل فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظان تطرق العدو المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدو وعدته.
والمرصد مكان الرصد. والرصد: المراقبة وتتبع النظر.
{كُلَّ} مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيرا للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدو منها، أو من التفريط في بعض ممار العدو فينطلق الأعداء آمنين فيستخفوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أن المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيؤول معنى {كُلَّ} هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وانتصب {كُلَّ مَرْصَدٍ} إما على المفعول به بتضمين {وَاقْعُدُوا} معنى (الزموا) كقوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وإما على التشبيه بالظرف لأنه من حق فعل القعود أن يتعدى إليه بـ (في) الظرفية فشبه بالظرف وحذفت (في) للتوسع.
وتقدم ذكر {كُلَّ} عند قوله تعالى َ{إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورةالأنعام [25].
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ} .
(10/23)
والتوبة عن الشرك هي الإيمان، أي فإن آمنوا إيمانا صادقا، بأن أقاموا الصلاة الدالة إقامتها على أن صاحبها لم يكن كاذبا في إيمانه، وبأن آتوا الزكاة الدال إيتاؤها على أنهم مؤمنون حقا، لأن بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كف القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالة على أن الصلاة والزكاة جزء من الإيمان.
وحقيقة {خَلُّوا سَبِيلَهُمْ} اتركوا طريقهم الذي يمرون به، أي اتركوا لهم كل طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].
وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلا في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم، يقال: خل سبيلي، أي دعني وشأني، كما قال جرير:
خل السبيل لمن يبني المنار به ... وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر
وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل أريد به حث المسلمين على عدم التعرض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدم مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم لأن الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فرط منهم كما تعملون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عما مضى.
[6] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} .
عطف على جملة: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:5] لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] لتخصيص عمومه، أي إلا مشركا استجارك لمصلحة للسفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام. وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين.
وجيء بحرف {َإِنْ} التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أن هذا شرط فرضي لكيلا يزعم المشركون أنهم لم يتمكنوا من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيتخذوه عذراً
(10/24)
للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.
ووقع "في تفسير الفخر" أنه نقل عن ابن عباس قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل. فقال علي: لا إن الله تعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} . أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وهذا لا يعارض ما رأيناه من أن الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الخ، شرط فرضي فإنه يقتضي أن مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أن هذا المروي لم أقف عليه.
وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس، لأن النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي - إذا لم تبن على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد، فكان ذكر {أَحَدٌ} في سياق الشرط تنصيصا على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا.
و {أَحَدٌ} أصله "واحد" لأن همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنه واحد، كما استعمل له فرد في اصطلاح العلوم، فمعنى {أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} مشرك.
وتقديم {أَحَدٌ} على {اسْتَجَارَكَ} للاهتمام بالمسند إليه، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن.
وساغ الابتداء بالنكرة لأن المراد النوع، أو لأن الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ لأن وقوع الخبر فعلا مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية، فيعلم أن الفاعل مقدم من تأخير لغرض ما. ولذلك شاع عند النحاة أنه فاعل بفعل مقدر، وإنما هو تقدير اعتبار. ولعل المقصود من التنصيص على إفادة العموم، ومن تقديم {أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} على الفعل، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله بلاد الإسلام مصلحة، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد، لئلا تحمل خيانتهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تخن من خانك" .
والاستجارة: طلب الجوار، وهو الكون بالقرب، وقد استعمل مجازا شائعا في
(10/25)
الأمن، لأن المرء لا يستقر بمكان إلا إذا كان آمنا، فمن ثم سموا المؤمن جارا، والحليف جارا، وصار فعل أجار بمعنى أمن، ولا يطلق بمعنى جعل شخصا جارا له. والمعنى: إن أحد من المشركين استأمنك فأمنه.
ولم يبين سبب الاستجارة، لأن ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنه لا يستجير أحد إلا لغرض صحيح.
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعه القرآن، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر، لما هو معروف من شأن النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على هدي الناس، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فدلت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازا، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهم، أو طلب الدخول في الإسلام، أو عرض الإسلام عليه، فإذا سمع كلام الله فقد تمت أغراض إقامته لأن بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتى يعيد إرشاده، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.
وكلام الله: القرآن، أضيف إلى اسم الجلالة لأنه كلام أوجده الله ليدل على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي.
ولذلك أعقبه بحرف المهلة {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} للدلالة على وجوب استمرار إجازته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتماما بإبلاغه مأمنه.
ومعنى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أمهله ولا تهجه حتىّ يبلغ مأمنه، فلما كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سببا في بلوغه مأمنه، جعل التأمين إبلاغا فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمن أمر المسلمين بأن لا يتعرضوا له بسوء حتى يبلغ بلاده التي يأمن فيها. وليس المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ترحيله ويبعث من يبلغه، فالمعنى: اتركه يبلغ مأمنه، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه: " أبلعني ريقي"، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلمك، قال الزمخشري: قلت لبعض أشياخي: " أبلعني ريقي - فقال - قد أبلعتك الرافدين" يعني دجلة والفرات.
(10/26)
(والمأمن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمنه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء. وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنه مكان الأمن الخاص به، فيعلم أنه مقره الأصلي، بخلاف دار الجوار فإنها مأمن عارض لا يضاف إلى المجار.
وجملة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، أي: أمرنا بذلك بسبب أنهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي لا تؤاخذهم في مدة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنهم قوم لا يعلمون - وهذه مذمة لهم بأن مثلهم لا يقام له وزن - وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى، فكان اسم الإشارة أصلح طرق التعريف في هذا المقام، جمعا للمعاني المقصودة، وأوجزه.
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك وأن سبب ذلك الغض الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون: للإشارة إلى أن نفي العلم مطرد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم، في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأن عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجرا صنعه وهو يعلم أنه لا يغني عنه.
[7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
استئناف بياني، نشأ عن قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]. ثم عن قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} التوبة:3]- وعن قوله - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] التي كانت تدرجا في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة، لأن ذلك يثير سؤالا في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجب من هذه البراءة، ويسأل عن سببها، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك، وأنه أمران: بعد ما بين العقائد، وسبق الغدر.
(10/27)
والاستفهام ب {كَيْفَ} : إنكاري إنكارا لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل {يَكُونُ} مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء:136]كما دل عليه قوله بعده {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} . وليس ذلك إنكارا على وقوع العهد، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله، وسماه الله فتحا في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وسمي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4].
والمعنى: أن الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك، فكيف يمكن اتفاق أهليهما، أي فما كان العهد المنعقد معهم إلا أمرا موقّتاً بمصلحة. ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علة الإنكار على دوام العهد معهم.
وهذا يؤيد ما فسرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله، وإسناد العهد إلى ضمير المسلمين، في قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ} [التوبة:1].
ومعنى {عِنْدَ} الاستقرار المجازي، بمعنى الدوام أي إنما هو عهد موقت، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية، إذ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة.
واستثناء {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} ، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام بـ {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} ، أي لا يكون عهد المشركين الا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام.
والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام: هم بنو ضمرة، وبنو جذيمة بن الديل، من كنانة؛ وبنو بكر من كنانة.
فالموصول هنا للعهد، وهم أخص من الذين مضى فيهم قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة:4].
والمقصود من تخصيصهم بالذكر: التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم، زيادة على دخولهم في الصلح الأعم، ولم ينقضوا
(10/28)
عهدهم، ولا ظاهروا عدوا على المسلمين، إلى وقت نزول براءة. على أن معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنة النكث لأن المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرد، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12].
وليس المراد كل من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهمه المتوهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مأذونا بأن يعاهد فريقا آخر منهم.
وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} تفريع على الاستثناء. فالتقدير إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، أي ما داموا مستقيمين لكم. والظاهر أن استثناء هؤلاء لأن لعهدهم حرمة زائدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة.
و {مَا} ظرفية مضمنة معنى الشرط، والفاء الداخلة على فاء التفريع. الوفاء الواقعة في قوله: {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} فاء جواب الشرط، وأصل ذلك أن الظرف والمجرور إذا قدم على متعلقه قد يشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية، لأنه قد سبقها العطف بالواو، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كما تكونوا يول عليكم" بجزم الفعلين، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول "ألك أبوان" قال : نعم قال: "ففيهما فجاهد" في روايته بفاءين.
والاستقامة: حقيقتها عدم الاعوجاج، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحب، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال، لأن سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج، فكذلك يطلق على ضده الاستقامة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل للأمر بالاستقامة. وموقع {إِنَّ} أولها، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن {إِنَّ} في مثار هذا تغني غناء فاء وقد أنبأ ذلك، التعليل، أن الاستقامة لهم من التقوى وإلا لم تكن مناسبة للإخبار بأن الله يحب المتقين. عقب الأمر بالاستقامة لهم، وهذا من الإيجاز. ولأن في الاستقامة لهم حفظا للعهد الذي هو من قبيل اليمين.
[8] {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .
(10/29)
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} .
و {كَيْفَ} هذه مؤكدة ل {كَيْفَ} [التوبة:7] التي في الآية قبلها، فهي معترضة بين الجملتين وجملة: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الخ يجوز أن تكون جملة حالية، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7] إخبارا عن دخائلهم.
وفي إعادة الاستفهام إشعار بأن جملة الحال لها مزيد تعلق بتوجه الإنكار على دوام العهد للمشركين، حتى كأنها مستقلة بالإنكار. لا مجرد قيد للأمر الذي توجه إليه الإنكار ابتداء، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته، ابتداء، لأنهم ليسوا أهلا لذلك، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة. وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين، مما قامت عليه القرائن والأمارات، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة. فجملة: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} معطوفة على جملة {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7].
وضمير {يَظْهَرُوا} عائد إلى المشركين في قوله : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:7] ومعنى {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} إن ينتصروا. وتقدم بيان هذا الفعل آنفا عند قوله تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة:و4].والمعنى: لو انتصر المشركون، بعد ضعفهم، وبعد أن جربوا من العهد أنه كان سببا في قوتكم، لنقضوا العهد. وضمير {عَلَيْكُمْ} خطاب للمؤمنين.
ومعنى {لاَ يَرْقُبُوا} لا يوفوا ولا يراعوا، يقال: رقب الشيء، إذا نظر إليه نظر تعهد ومراعاة، ومنه سمي الرقيب، وسمي المرقب مكان الحراسة، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد، لأن من أبطل العمل بشيء فكأنه لم يره وصرف نظره عنه.
والإل: الحلف والعهد؛ ويطلق الإل على النسب والقرابة. وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات، فيصح أن يراد هنا كلا معنييه.
والذمة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى يقال: في ذمتي كذا، أي ألتزم به وأحفظه.
{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .
(10/30)
استئناف ابتدائي، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم، كيدا ولو تمكنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. من يسمع كلاما فيأباه.
والإباية: الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة، فقلوبهم لما نوت الغدر شبهت بمن يطلب منه شيء فيأبى.
وجملة: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} في موضع الحال من واو الجماعة في {يُرْضُونَكُمْ} مقصود منها الذم بأن أكثرهم موصوف، مع ذلك، بالخروج عن مهيع المروءة والرجلة، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة، فجمعوا المذمة الدينية والمذمة العرفية. فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأن ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم، ولأنه قد عرف من وصفهم بالكفر.
[9] {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالأخبار. وهذه الآية وصف القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة: من الاشتراء بآيات الله ثمنا قليلا، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آية أخرى نزلت بعدها لأن نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتى دخلوا في دين الله أفواجا، سنة الوفود وما بعدها، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقوا على الشرك من العرب، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجته، ولكنه بقوا على الشرك لمنافع يجتنبونها من عوائد قومهم: من غارات يشنها بعضهم على بعض، ومحبة الأحوال الجاهلية من خمر وميسر وزنى، وغير ذلك من المذمات واللذات الفاسدة، وذلك شيء قليل "آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة. فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مثل مال بأيديهم، وفرطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة، فلذلك مثل حالهم بحال من اشترى شيئا بشيء، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة [16].
والمراد ب"الآيات" الدلائل، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله: {بِآيَاتِ اللَّهِ} باء التعويض. وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوض يملكه غيره، فجعلت آيات
(10/31)
الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتباع هواهم.
والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولا لا مقتنى جار على طريق الاستعارة تشبيها لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصل من فعل {اشْتَرَوْا} ومن لفظ {ثَمَنًا} استعارتان باعتبارين.
وجملة: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} مفرعة على جملة {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ} لأن إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبب عليه أن يصدوا الناس عن اتباع الإسلام، فمثل حالهم بحال من يصد الناس عن السير في طريق تبلغ إلى المقصود.
ومفعول {صَدُّوا} محذوف لقصد العموم، أي: صدوا كل قاصد.
وجملة: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ابتدائية أيضا، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالأخبار، وأنها لا ينبغي أن تعطف في الكلام، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها.
وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم.
و {سَاءَ} من أفعال الذم، من باب بئس، و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مخصوص بالذم، وعبر عن عملهم بـ {كَانُوا يَعْمَلُونَ} للإشارة إلى أنه دأب لهم ومتكرر منهم.
[10] {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} .
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] لأن انتفاء مراعاة الإل والذمة مع المؤمنين مما يشتمل عليه سوء عملهم، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدئ به للالتمام بمضمون الجملة. وقد أفادت معنى أعم وأوسع مما أفاده قوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة:8] لأن إطلاق الحكم عن التقييد بشرط {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] يفيد إن عدم مراعاتهم حق الحلف والعهد خلق متأصل، سواء كانوا أقوياء أم مستضعفين، وإن ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم. والإل والذمة تقدما قريبا.
(10/32)
{وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} .
عطف على جملة: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} لمناسبة أن إثبات الاعتداء العظيم لهم، نشأ عن الحقد، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]
والقصر إما أن يكون للمبالغة في اعتدائهم، لأنه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم، ولم يلحقوا بهم ضر مع تمكنهم منه، وإما أن يكون قصر قلب، أي: هم المعتدون لا أنتم لأنهم بدأوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الديل من بكر بن وائل مما كان سببا في غزوة الفتح.
[11] {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .
تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد محو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - إلى قوله- {الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 9 ,10] تنبيها لهم على أن تداركهم أمرهم هين عليهم. وفرع على التوبة أنهم يصيرون إخوانا للمؤمنين. ولما كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سببا للأخوة مع المؤمنين، بخلاف مقام قوله قبله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] حيث إن المعقب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصد لهم، فناسب أن يفرع على توبتهم عدم التعرض لهم بسوء. وقد حصل من مجموع الآيتين أن توبتهم توجب أمنهم وأخوتهم.
ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانيا لأنها أخص الفائدتين من توبتهم، فكانت هذه الآية مؤكدة لأختها في أصل الحكم.
وقوله: {فََإِخْوَانُكُمْ} خبر لمحذوف أي: فهم إخوانكم. وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية: للدلالة على أن إيمانهم يقتضي ثبات الأخوة ودوامها، تنبيها على أنهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوة الدينية.
والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز، وأطلقت الأخوة هنا على المودّة
(10/33)
والصداقة.
والظرفية في قوله: {فِي الدِّينِ} مجازية: تشبيها للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكن من الإسلام وأنه يجب ما قبله.
{وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
اعتراض وتذييل، والواو اعتراضية، ومناسبة موقعه عقب قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] أنه تضمن أنهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحتها كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح، فكان قوله: {وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} جامعا للحالين، دالا على أن الآيات المذكورة آنفا في قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] آيات واضحة مفصلة، وأن عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنها إنما يهتدي بها قوم يعلمون، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون. ويفهم منه أنهم إن اشتروا بها ثمنا قليلا فليسوا من قوم يعلمون، فنزل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم، وهو العمل بالعلم، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذا أريد به: لقوم ذوي علم وعقل.
وعطف هذا التذييل على جملة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} لأنه به أعلق، لأنهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين، فصاروا من قوم يعلمون، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصلة.
ومعنى التفصيل تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
[12] {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} .
لماّ استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} - إلى قوله - {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] وإنما كان
(10/34)
ذلك لإبطانهم الغدر، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم ما استقاموا على العهد بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآيات، والذين يستجيبون عطف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد، ويعلنون بما يسخط المسلمين من قولهم، وهذا حال مضاد لحال قوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمَْ} [التوبة:8].
والنكث تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:135]
وعبر عن نقض العهد بنكث الإيمان تشنيعا للنكث، لأن العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمي العهد حلفا.
وزيد قوله: {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} زيادة في تسجيل شناعة نكثهم: بتذكير أنه غدر لعهد، وحنث باليمين.
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محدد كالرمح، ويستعمل مجازا بمعنى الثلب. والنسبة إلى النقص، بتشبيه عرض المرء، الذي كان ملتئما غير منقوص، بالجسد السليم. فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شبه بالجلد الذي أفسد التحامه.
والأمر، هنا: للوجوب، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] ففي هذه الحالة يجب فتالهم ذبا عن حرمة الدين، وقمعا لشرهم من قبل أن يتمردوا عليه.
و {أَئِمَّةَ} جمع إمام، وهو ما يجعل قدوة في عمل يعمل على مثاله، أو على مثال عمله، قال تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] أي مقتدى بهم، وقال لبيد:
ولكلّ قوم سنة وإمامها
والإمام المثال الذي يصنع على شكله، أو قدره، مصنوع، فأئمة الكفر، هنا: الذين بلغوا الغاية فيه، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر.
والمراد بأئمة الكفر: المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يقل: فقاتلوهم، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر، وهي أنهم قدوة لغيرهم، لأن الذين أضمروا النكث يبقون مترددين بإظهاره،
(10/35)
فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون، فكان الناقضون أئمة للباقين.
وجملة: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} تعليل لقتالهم بأنهم استحقوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم، فغدروا. وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطلعين على حكمة الأمر به، فيكون قتالهم لمجرد الامتثال لأمر الله، فلا يكون لهم من الغيظ على المشركين ما يشحذ شدتهم عليهم.
ونفي الأيمان لهم: نفي للماهية الحق لليمين، وهي قصد تعظيمه والوفاء به، فلما لم يوفوا بأيمانهم، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخص أخواصها وهو العمل بما اقتضته.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب. {أَيِّمَةَ} بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء. وقرأ البقية: بتحقيق الهمزتين. وقرأ هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر: بمد بين الهمزتين.
وقرأ الجمهور {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بفتح همزة {أَيْمَانَ} على أنّه جمع يمين. وقرأه ابن عامر - بكسر الهمزة-، أي ليسوا بمؤمنين، ومن لا أيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع.
وعطف {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} عطف قسيم على قسيمه، فالواو فيه بمعنى (أو). فإنه إذا حصل أحد هذين الفعلين: الذين هما نكث الأيمان، والطعن في الدين، كان حصول أحدهما موجبا لقتالهم، أي دون مصالحة، ولا عهد، ولا هدنة بعد ذلك.
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بان ذلك الطعن كان من دأبهم في مدة المعاهدة، فأريد صدهم عن العود إليه. ولم أقف على أنه كان مشروطا على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام، في غير هذه الآية، فكان هذا شرطا عليهم من بعد، لأن المسلمين أصبحوا في قوة.
وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أمر للوجوب.
وجملة {لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} يجوز أن تكون تعليلا لجملة {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا، وظاهر أن القتال يفني كثيرا منهم، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ولم يذكر متعلق فعل {يَنتَهُونَ} ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد، لأنّ
(10/36)
عهدهم لا يقبل بعد أن نكثوا لقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين، لأنه إن كان طعنهم في ديننا حاصلا في مدة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه، وإن كان بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم، فتعين أن المراد: لعلهم ينتهون عن الكفر.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا ابتدائيا لا اتصال لها بجملة {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية، بل ناشئة عن قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ} - إلى قوله - إلى قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:5, 12].
والمعنى: المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون، وقد تحقق ذلك فإن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وبعد يوم حنين، ولم يقع نكث بعد ذلك، ودخل المشركون في الإسلام أفواجا في سنة الوفود.
[13] {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم، وأسرهم، وحصارهم، وسد مسالك النجدة في وجوههم، بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} - إلى قوله - {كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم، وهي قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7]. وقوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا} [التوبة:8]. وقوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8] وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8] وقوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] وقوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقوله: {الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]
فكانت جملة {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} تحذيرا من التراخي في مبادرتهم بالقتال.
ولفظ {أَلاَ} يحتمل أن يكون مجموع حرفين: هما همزة الاستفهام، و (لا) النافية، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحضيض، مثل قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ} [النور:22]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً، على انتفاء مقاتلة المشركين، وهو ما ذهب إليه البيضاوي، فيكون دفعا لأن يتوهّم
(10/37)
المسلمون حرمة لتلك العهود، ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب "الكشاف"، تقريرا على النفي تنزيلا لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في "الكشاف": ومعناه الحض على القتال على سبيل المبالغة. وفي "مغني اللبيب" أن {أَلاَ} التي للاستفهام عن النفي تختص بالدخول على الجملة الاسمية، وسلمه شارحاه، ولا يخفى أن كلام الكشاف ينادي على خلافه.
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون {أَلاَ} حرفا واحدا للتحضيض فهو تحضيض على القتال. وجعل في "المغني" هذه الآية مثالا لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعل موجب هذا التفنن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيرا من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لما أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسمعة النصر. وفي قوله عقبه {أَتَخْشَوْنَهُمْ} ما يزيد هذا وضوحا.
أما نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدم عند قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} [التوبة:4] - وقوله - {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدم.
وأما همهم بإخراج الرسول فظاهره أنه هم حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها إخراجه من مكة أمر قد مضى منذ سنين، ولأن إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أن همهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبه المسلمين إليه. وهو أنهم لما نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهموا أنفسهم منصورين وأنهم إن انتصروا أخرجوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من المدينة.
(والهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرد الهم بإخراج الرسول تدل على أنهم لم يخرجوه وإلا لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهم به، كما في قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلا لما حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: هموا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله
(10/38)
المسلمون حرمة لتلك العهود، ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب "الكشاف"، تقريرا على النفي تنزيلا لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في "الكشاف": ومعناه الحض على القتال على سبيل المبالغة. وفي "مغني اللبيب" أن {أَلاَ} التي للاستفهام عن النفي تختص بالدخول على الجملة الاسمية، وسلمه شارحاه، ولا يخفى أن كلام الكشاف ينادي على خلافه.
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون {أَلاَ} حرفا واحدا للتحضيض فهو تحضيض على القتال. وجعل في "المغني" هذه الآية مثالا لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعل موجب هذا التفنن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيرا من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لما أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسمعة النصر. وفي قوله عقبه {أَتَخْشَوْنَهُمْ} ما يزيد هذا وضوحا.
أما نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدم عند قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} [التوبة:4] - وقوله - {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدم.
وأما همهم بإخراج الرسول فظاهره أنه هم حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها إخراجه من مكة أمر قد مضى منذ سنين، ولأن إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أن همهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبه المسلمين إليه. وهو أنهم لما نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهموا أنفسهم منصورين وأنهم إن انتصروا أخرجوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من المدينة.
(والهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرد الهم بإخراج الرسول تدل على أنهم لم يخرجوه وإلا لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهم به، كما في قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلا لما حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: هموا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله
(10/39)
زيادة في التحريض على قتالهم.
وفرع على هذا التقرير جملة {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحق أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطرا عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأن الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردد في نجاح الامتثال له.
وجيء بالشرط المتعلق بالمستقبل، مع أنه لا شك فيه، لقصد إثارة همتهم الدينية فيبرهنوا على أنهم مؤمنون حقا يقدمون خشية الله على خشية الناس.
[14, 15] {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} .
استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا.
وجزم {يُعَذِّبْهُمُ} وما عطف عليه في جواب الأمر. وفي جعله جوابا وجزاء أن الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحل إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كل فائدة منها الغرض الأهم فصرح به وجعل ما عداه حاصلا بطريق الكناية.
الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين.
الثانية: خزي المشركين وهو يستلزم عزة المسلمين.
الثالثة: نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم.
الرابعة: شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم
(10/40)
فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
الخامسة: إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم، فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
والتعذيب تعذيب القتل والجراحة. وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفا للمسلمين.
والإخزاء: الإذلال، وتقدم في البقرة. وهو هنا الإذلال بالأسر.
والنصر حصول عاقبة القتال المرجوة. وتقدم في أول البقرة.
والشفاء: زوال المرض ومعالجة زواله. أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد، كما استعير ضده وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] قال قيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن يدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
وإضافة ال {صُدُورَ} إلى {قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} دون ضمير المخاطبين يدل على أن الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفة من المؤمنين المخاطبين بالقتال، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم، ولكنهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم، وكانوا يودّون أن يؤذن لهم بقتالهم، فلما أمر الله بنقض عهود المشركين سروا بذلك وفرحوا، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذير من التهاون فيه. فعن مجاهد، والسدي أن القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة، الذين اعتدوا عليهم بالقتال، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه، الملحوح عليهم الأمر بالقتال.
وعطف فعل {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} على فعل {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} ، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساويا لشفاء الصدور، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية، مع بيان متعلق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَا صدْق مع اختلاف
(10/41)
المفهوم، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرة والانشراح بالنصر، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ، وتحرق الحقد. وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين: شفاء صدورهم من عدوهم، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم.
والغيظ: الغضب المشوب بإرادة الانتقام، وتقدم في قوله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ} في سورة آل عمران[119].
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
جملة ابتدائية مستأنفة، لأنه ابتداء كلام ليس مما يترتب على الأمر بالقتال، بل لذكر من لم يقتلوا، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعا، فدل هذا النظم على أنها راجعة إلى قوم آخرين، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا، ولم يقتلوا، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده. وتوبة الله عليهم: هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخر. وإنما لم تفصل الجملة: للإشارة إلى أن مضمونها من بقية أحوال المشركين، فناسب انتظامها مع ما قبلها. فقد تاب الله على أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو (ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة).
والتذييل بجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لإفادة أن الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنه يقبل توبة من تاب إليه تكثيرا للصلاح.
[16] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
{أَمْ} منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر.
والكلام بعد {أَمْ} المنقطعة له حكم الاستفهامة دائما، فقوله: {حَسِبْتُمْ} في قوة (أحسبتم) والاستفهام المقدّر إنكاري.
والخطاب للمسلمين، على تفاوت مراتبهم في مدة إسلامهم، فشمل المنافقين لأنهم أظهروا الإسلام.
وحسبتم: ظننتم. ومصدر حسب، بمعنى ظن الحسبان بكسر الحاء فأما مصدر
(10/42)
حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء.
والترك افتقاد الشيء وتعهّده، أي: أن يترككم الله، فحذف فاعل الترك لظهوره.
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلق: من حال أو مجرور، يدل على الحالة التي يفارق فيها التارك متروكه، كقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ومثل قول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه
وقول كبشة بنت معد يكرب، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صعدة من بلاد اليمن:
وأترك في بيت بصعدة مظلم
وحذف متعلق {تُتْرَكُوا} في الآية: لدلالة السياق عليه، أي أن تتركوا دون جهاد، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة.
والمعنى: كيف تحسبون أن تتركوا، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله.
وجملة {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} الخ في موضع الحال من ضمير {تُتْرَكُوا} أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد، وحصول تثاقل من تثاقلوا، وحصول ترك الجهاد من التاركين.
و {وَلَمَّا} حرف للنفي، وهي أخت (لم). وقد تقدم بيانها والفرق بينها وبين (لم) عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} في سورة آل عمران[142].
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا: علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم، وهو من تعلق العلم الإلهي بالأمور الواقعة، وهو أخص من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع، ويجدر أن يوصف بالتعلق التنجيزي وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} في سورة آل عمران[142].
و(الوليجة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي الدخيلة، وهي الفعلة التي يخفيها فاعلها، فكأنّه يولجها، أي يدخلها في مكمن بحيث لا تظهر، والمراد بها هنا: ما يشمل الخديعة وإغراء
(10/43)
العدو بالمسلمين، وما يشمل اتخاذ أولياء من أعداء الإسلام يخلص إليهم ويفضي إليهم بسر المسلمين، لأن تنكير {وَلِيجَةً} في سياق النفي يعم سائر أفرادها.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق ب {وَلِيجَةً} في موضع الحال المبيّنة.
و {مِنْ} ابتدائية، أي وليجة كائنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين.
وجملة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تذييل لإنكار ذلك الحسبان، أي: لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأن الله خبير بكل ما تعملونه.
[17] {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} .
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل، وهو مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ولمِاَ اتّصل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهو توطئة لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
وتركيب (ما كان لهم أن يفعلوا) يدلّ على أنهم بعداء من ذلك، كما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} في سورة آل عمران[79]، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات.
و {مَسَاجِدَ اللَّهِ} مواضع عبادته بالسجود والركوع: المراد المسجد الحرام وما يتبعه من المسعى، وعرفة، والمشعر الحرام، والجمرات، والمنحر من منى.
وعمر المساجد: العبادة فيها لأنها إنما وضعت للعبادة، فعمرها بمن يحل فيها من المتعبدين، ومن ذلك اشتقت العمرة، والمعنى: ما يحق للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله. وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين: إيماء إلى أن الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله.
وقد جاء الحال في قوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} مبينا لسبب براءتهم من أن
(10/44)
يعمروا مساجد الله، وهو حال من ضمير {يَعْمُرُوا} فبين عامل الضمير وهو {يَعْمرُوا} الداخل في حكم الانتفاء، أي: انتفى تأهلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده.
والمراد بالكفر: الكفر بالله، أي بوحدانيته، فالكفر مرادف للشرك، فالكفر في حد ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابه مساجد الله، لأنها مساجد الله فلا حق لغير الله فيها، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره، وأقام إبراهيم - عليه السلام - أوّل مسجد وهو الكعبة عنوانا على التوحيد، وإعلانا به، كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} في سورة آل عمران [96]، فهذه أول درجة من الحرمان. ثم كون كفرهم حاصلا باعترافهم به موجب لانتفاء أقل حظ من هذه العمارة، وللبراءة من استحقاقها، وهذه درجة ثانية من الحرمان.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك، مثل قولهم في التلبية "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، ومثل سجودهم للأصنام، وطوافهم بها، ووضعهم إياها في جوف الكعبة وحولها وعلى سطحها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بإفراد {مَسْجِدَ اللَّهِ} ، أي المسجد الحرام وهو المقصود، أو للتعريف بالإضافة للجنس. وقرأ الباقون: {مَسَاجِدَ اللَّهِ}، فيعم المسجد الحرام وما عددناه معه آنفا.
وجملة {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ابتداء ذم لهم، وجيء باسم الإشارة لأنهم قد تميزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] بعد قوله: {هُدًىلِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] الآية.
و {حَبِطَتْ} بطلت، وقد تقدّم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} في سورة البقرة [217].
وتقديم {فِي النَّارِ} على {خَالِدُونَ} للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه.
[18] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى
(10/45)
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} .
موقع جملة {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الاستئناف البياني، لأن جملة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17]. لماّ اقتضت إقصاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالا في نفوس السامعين أن يتطلبوا من هم الأحقاء بأن يعمروا المساجد، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائل.
ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأن المقصود إقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعين أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأن مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43 ،44] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين.
واستغنى عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدل عليه من آثار شريعته: وهو الإيمان باليوم الآخر، وإقام الصلاة: وإيتاء الزكاة.
وقصر خشيتهم على التعلق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنهم لا يخافون شيئا غير الله فإنهم قد يخافون الأسد ويخافون العدو، ولكن معناه إذا تردد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفا {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة:13]. فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين.
وهذا من خصائص المؤمنين: فأما المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم، وأما أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كلمه ومجاراة أهواء العامة، وقد ذكرهم الله بقوله: {فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي} [المائدة44].
وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها. ووجه هذا الرجاء أنهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خلقا لهم فيكونوا من أهله، ولذلك قال: {أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} ، ولم
(10/46)
يقل أن يكونوا مهتدين.
وفي هذا حث على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها.
والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عدّت لهم.
[19] {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
ظاهر هذه الآية يقتضي أنها خطاب لقوم سوّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أن كل ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنهّا خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها: أنه لما وقع الكلام على أن المؤمنين هم الأحقاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دل ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملا من الأعمال الخاصة به، فكان ذلك مثار ظن بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساو للقيام بأفضل أعمال الإسلام.
وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية: ما رواه الطبري، والواحدي، عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم "ما بالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج"؛ وقال آخر "بل عمارة المسجد الحرام" وقال آخر "بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم" فزجرهم عمر بن الخطاب وقال: "لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفيته فيما اختلفتم فيه" قال: فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وقد روي أنه سرى هذا التوهم إلى بعض المسلمين، فروي أنّ العباس رام أنّ يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائر؛ وأنّ عثمان بن طلحة رام مثل ذلك، للقيام بحجابة البيت. وروي الطبري، والواحدي: أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر، وأن عليا عيّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم، فقال العباس: "ما
(10/47)
لكم لاتذكرون محاسننا إنا لنعمر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج" فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية.
والاستفهام للإنكار.
و(السقاية) صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.
وكذلك (العمارة) صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا: غير ما في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ} [التوبة:17] وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:18] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.
وتعريف الحاج تعريف الجنس.
وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف ابن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة.
وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدي العلامة الوزير وهي: الديات والحملات، السفارة، الراية، الرفادة، المشورة، الأعنة والقبة، الحكومة وأموال الآلهة، الأيسار.
فأما الديات والحملات: فجمع دية وهي عوض دم القتيل خطأ أو عمدا إذا صولح عليه؛ وجمع - حمالة - بفتح الحاء المهملة - وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم، وكانت لبني تيم بن مرة بن كعب0 ومرة جد قصي، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق.
وأمّا السفارة - بكسر السين وفتحها - فهي السعي بالصلح بين القبائل0 والقائم بها يسمى سفيرا. وكانت لبني عدي بن كعب بن أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب.
وأمّا الراية، وتسمىّ: العقاب - بضم العين - لأنها تخفق فوق الجيش كالعقاب، فهي راية جيش قريش، وكانت لبني أمية، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب.
(10/48)
وأمّا الرّفادة: فهي أموال تخرجها قريش إكراماً للحجيج فيطعمونهم جميع أيّام الموسم يشترون الجزر والطعام والزبيب - للنبيذ - وكانت لبني نوفل بن عبد مناف، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل.
وأمّا المشورة: فهي ولاية دار الندوة وكانت لبني أسد بن عبد العزّى بن قصّي. وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زمعة.
وأما الأعنّة والقبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم. وهم أبناء عم قصي، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد.
وأمّا الحكومة وأموال الآلهة - ولم أقف على حقيقتها - فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام. وأماّ تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع. فكانت لبني سهم وهم أبناء عم لقصي. وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم.
وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جمح وهم أبناء عمّ لقصي، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أمية بن خلف.
وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب، عدا السدانة والسقاية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "ألا إنّ كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة البيت" 1.
وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة: الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء - فلماّ كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعوا للحرب، ثم تداعوا للصلح، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأحدثت مناصب لبعض من قريش غير أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا.
وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان، بل ذكر الإيمان إدماج، للإيماء إلى
ـــــــ
(1) رواه ابن الأثير في "النهاية" في مادة (أثر) ومادة (سقى).
(10/49)
أن الجهاد أثر الإيمان، وهو ملازم للإيمان، فلا يجوز للمؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام. وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان، بل لجعلوها أعظم. وإنما توهموا أنهما عملان يعدلان الجهاد، وفي الشغل بهما عذر للتخلف عن الجهاد، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين.
وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبه به، على أن العملين ومن عملهما لا يساويان العملين الآخرين ومن عملهما. فوقع احتباك في طرفي التشبيه، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وجعلتم سقاية الحاج وعمار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله. ولما ذكرت التسوية في قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} أسندت إلى ضمير العاملين، دون الأعمال: لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات.
وجملة {لاَ يَسْتَوُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا: لبيان ما يسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله: {أَجَعَلْتُمْ} الآية.
وجملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل لجملة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} إلخ، وموقعه هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يرد عليه بما يدل على عدم اهتدائه. وقد تقدم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.
فالوجه عندي في موقع جملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أن موقعها الاعتراض بين جملة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} وجملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [التوبة:20] آلخ.
والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاما بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا
(10/50)
فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أن الإيمان هو الاصل، وأنّ شعبه المتولدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلا إذا كان مع الإيمان، وخاصة الجهاد.
وفيه إيماء إلى أنّه: لولا الجهاد لما كان أهل للسقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإن إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيش الفتح إذ آمن العباس ابن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.
فأمّا رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس: من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} واضح: أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرع بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلت على خلاف ذلك: فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازا باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه من يعمل عملا يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.
وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.
والمعنى: والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.
ونسب إلى ابن وردان أنّه روى عن أبي جعفر أنّه قرأ: {سُقَاةَ الحَاجِّ} بضم السين جمع الساقي وقرأ {وَعَمَرَة} - بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر - وقد اختلف فيها عن ابن وردان.
[20] {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} .
(10/51)
هذه الجملة مبينّة لنفي الاستواء الذي في جملة {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله: {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:19] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.
و(الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة.
والمهاجرة: ترك الموطن والحلول ببلد آخر، وهي مشتقة من الهجر وهو الترك، واشتقت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها - في عرف الشرع - هجرة خاصة: وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشتمل هجرة من هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نيّة الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.
والمفضل عليه محذوف لظهوره: أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم.
والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]. وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أوائل الأنفال [4]. وهي في كل ذلك مستعارة لرفع المقدار. و {عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأن أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.
وجملة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} معطوفة على {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أي: أعظم وهم أصحاب الفوز. وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يعد كالمعدوم.
والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزتهم: وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.
[21،22] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ, خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
بيان للدرجة العظيمة التي في قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:20] فتلك الدرجة
(10/52)
هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم. ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.
والتبشير: الإخبار بخير يحصل للمخبر لم يكن عالما به.
فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع، المفيد للتجدّد، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم، لأّن تجدد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوما للمبشّر (بفتح الشين) وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلا للحاصل.
وكون المسند إليه لفظ الربّ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية: لأنّ معنى الربوبية يرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.
وتقدّمت الرحمة في قوله: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
والرضوان - بكسر - الراء وبضمها - : الرضا الكامل الشديد، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغفران والشكران والعصيان.
والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواع النعيم فيها.
والنعيم: ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة، وهو أخص من النعمة. قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الإنفطار:13] وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
والمقيم المستمّر، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار.
والتنكير في {بِرَحْمَةٍ، وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ، وَنَعِيمٌ} للتعظيم، بقرينة المقام، وقرينة قوله: {مِنْهُ} وقرينة كون تلك مبشرّاً بها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأّن مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيره، وفي هذا التذييل إفادة أن ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من
(10/53)
الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربهم، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - "ما على من دعي من جميع تلك الأبواب من ضرورة".
والأجر: العوض المعطى على عمل، وتقدم في قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} في سورة العقود[5].
[23] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} .
استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم، فإنّه لماّ كان أول السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر، لا جرم تهيّأ المتام لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان: المنافقين من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب، ممن عرفوا بذلك، أو لم يعرفوا وأطلع الله عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وحذّر المؤمنين المطلّعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم ومخالطتهم، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنّهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصا، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم، ولذلك افتتح الخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : إشعاراً بأنّ ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضيات الإيمان وشعاره.
وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة:90] - وقوله- {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة:101] ونظائرهما من الآيات.
روى الطبري عن مجاهد، والواحدي عن الكلبي أنهّم لماّ أمروا بالهجرة وقال العبّاس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا حاجب الكعبة، فلا نهاجر، تعلق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا "أتضيّعوننا" فرقّوا لهم وجلسوا معهم، فنزلت هذه الآية.
ومعنى {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} أحبّوه حبّاً متمكّناً. فالسين والتاء للتأكيد، مثل ما في استقام واستبشر.
(10/54)
حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبّوا الكفر على الإيمان، في ظاهر أمرهم أو باطنه، إذا اطّلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذكر من صفاتهم في هذه السورة، وجعل التحذير من أولئك بخصوص، كونهم آباء وإخواناً تنبيهاً على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أنّ من دونهم أولى بحكم النهي. ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنّهم تابعون فلا يقعدون بعد متبوعيهم.
وقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أريد به الظالمون انفسهم لأنهم وقعوا فيما نهاهم الله، فاستحقّوا العقاب فظلموا أنفسهم بتسبّب العذاب لها، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مرادا به الشرك. وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أنّ ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم. ويجوز أن يكون هم {الظَّالِمُونَ} عائداً إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبّوا الكفر على الإيمان، والمعنى ومن يتولهّم فقد تولّى الظالمين فيكون الظلم على هذا مرادا به الشرك، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء، وللتنبيه على أن جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان.
[24] {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباب المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيحول تعلّقهم بها بينهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام، فلذلك ذكر الأبناء هنا لأنّ التّعلق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان، وذكر غيرهم من قريب القرابة أيضا.
وابتداء الخطاب بـ {قُلْ} يشير إلى غلظه والتوبيخ به.
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين: المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشك وهو {إِنْ} ويفهم منه أنّ
(10/55)
المسترسلين في ذلك الملابسين له هم أهل النفاق، فهم المعرّض لهم بالتهديد في قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
وقد جمعت هذه الآية أصنافا من العلاقات وذويها، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجر إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الدين، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصد عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله. وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصده إلفها عن الغزو. فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجر إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربّه.
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب {أَحَبَّ} لأنّ التفضيل في المحبة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسبّبا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير.
وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم: تنويها بشأنه، ولأن ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف، جعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلف عنها كثير من المنافقين وبعض المسلمين.
و(العشيرة) الأقارب الأدنون، وكأنه مشتق من العشرة وهي الخلطة والصحبة.
وقرأ الجمهور {وَعَشِيرَتُكُمْ} - بصيغة المفرد - وقرأه أبو بكر عن عاصم {وَعَشِيرَتُكُمْ} - جمع عشيرة - ووجهه: أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة، وعن أبي الحسن الأخفش: "إنّما تجمع العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عشيرات"، وهذه دعوى منه، والقراءة رواية فهي تدفع دعواه.
والاقتراف: الاكتساب، وهو مشتقّ من قارف إذا قارب الشيء.
والكساد، قلّة التبايع وهو ضد الرّواج والنّفاق، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد.
وجعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد: لأنّ
(10/56)
تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف، فإيثار هذه الأشياء على محبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر، وإلى القعود عن الجهاد.
والتربّص: الانتظار، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ. وهو المراد بقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبة الأقارب والأموال والمساكن، على محبة الله ورسوله والجهاد.
والأمر: اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدّدين كلّ مذهب محتمل، فأمر الله: يحتمل أن يكون العذاب أو القتل أو نحوهما، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح.
وجملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تذييل، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين.
[25] {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} .
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قدر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمّهم بإخراج الرسول - عليه الصلاة والسلام - من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وأن في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استئناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ
(10/57)
آثروا محبته على محبّة علائقهم الدنيوية.
وأكد الكلام ب {قَدْ} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.
و {مَوَاطِنَ} : جمع موطن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.
{وَيَوْمَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {فِي مَوَاطِنَ} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نَصَرَكُمُ} والتقدير: ونصركم يوم حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلما أضيف اليوم إلى اسم مكان علم أنّه موطن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنه لو لم يعطف لتوهم أن المواطن كلها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأيام كثيرة منها موطن حنين ويوم حنين.
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عاد إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله - عليه الصلاة والسلام - وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفا في قوله تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] ليتنبّهوا إلى أن هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لما خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبة الجهاد على محبة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضدان ولذلك كان موقع قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بديعا لأنه تنبيه على خطئهم في الأدب مع الله المناسب لمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.
و {حُنَيْنٍ} اسم واد بين مكة والطائف قرب ذي المجاز، كانت فيه وقعة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر ألفا، وبين هوازن وثقيف وألفا فهما، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضبا لهزيمة قريش ولفتح مكة، وكان على هوازن مالك بن عوف، أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين فقال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة، ووثقوا بالنصر لقوتهم، فحصلت لهم هزيمة عند أول اللقاء كانت
(10/58)
عتاًباً إلهيا على نسيانهم التوكل على الله في النصر، واعتمادهم على كثرتهم، وذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع قول بعض المسلمين "لن نغلب من قلة" ساءه ذلك، فإنهم لما هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلا كتائب العدو وقد شدّت عليهم وقيل: إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدو فلحقوهم يغنمون منهم، وكانت هوازن قوما رماة فاكثبوا المسلمين بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وتفرّقوا في الوادي، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس عمه أن يصرخ في الناس: يا أصحاب الشجرة - أو السمرة - يعني أهل ربيعة الرضوان - يا معشر المهاجرين - يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار - هلموا إلي، فاجتمع إليه مائة، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس، وتراجع بقية المنهزمين واشتد القتال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الآن حمي الوطيس" فكانت الدائرة على المشركين وهزموا شر هزيمة وغنمت أموالهم وسبيت نساؤهم.
فذلك قوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لما اشتد عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدو عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعة ضيّقة.
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} استعير {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} استعارة تمثيلية تمثيلا لحال من لا يستطيع الخلاص من شدة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضيق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه.
فالباء للملابسة، و {ماَ} مصدرية، والتقدير: ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها: أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح ابن حكيم:
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل
قال الأعلم "أي من الذعر" هو مأخوذ من قول الآخر:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
(10/59)
وهذا أحسن من قول المفسرين أن معنى {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} لم تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرون إليه فكأن الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال: أي لشدة الحال وصعوبتها.
وموقع {ثُم} في قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} موقع التراخي الرتبي، أي: وأعظم مما نالكم من الشر أن وليتم مدبرين.
والتولي: الرجوع، و {مُدْبِرِينَ} حال: إما مؤكدة لمعنى {وَلَّيْتُمْ} أو أريد بها إدبار أخص من التولي، لأن التولي مطلق يكون للهروب، ويكون للفر في حيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولي اصطلاحا حربيا.
[26 ]{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} .
عطف على قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25].
و {ثُمَّ} دالّة على التراخي الرتبي فإن نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين، على أن التراخي الزمني مراد؛ تنزيلا لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدتها، فإن أزمان الشدة تخيل طويلة وإن قصرت.
والسكينة: الثبات واطمئنان النفس وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [248]، وتعليقها بإنزال الله، وإضافتها إلى ضميره: تنويه بشأنها وبركتها، وإشارة إلى أنها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدمات ظاهرة، وإنما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أنفا كرامة لنبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة لندائه الناس، ولذلك قدم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.
وإعادة حرف {عَلَى} بعد حرف العطف: تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين: فسكينة الرسول عليه الصلاة والسلام سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.
والجنود جمع جند. والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو الجماعة المهيّئة
(10/60)
للحرب، وواحده بياء النسب: جندي، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249]. وقد يطلق الجند على الأمة العظيمة ذات القوة، كما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} في سورة البروج [17 ،18]. والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكلون بهزيمة المشركين كما دل عليه فعل أنزل، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذلك قال: {لَمْ تَرَوْهَا} ولكون الملائكة ملائكة النصر أطلق عليها اسم الجنود.
وتعذيبه الذين كفروا: هو تعذيب القتل والأسر والسبي.
والإشارة ب {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} إلى العذاب المأخوذ من {عَذَّبَ} .
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي، عطف على جملة {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26]. وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، وسألوه أن يرد إليهم سيبهم وغنائمهم، فذلك أكبر منة في نصر المسلمين إذ أصبح الجند العدو لهم مسلمين معهم، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم.
والمعنى: ثم تاب الله عليهم، أي على الذين أسلموا منهم فقوله: {يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} دليل المعطوف بثم ولذلك أتي بالمضارع في قوله: {يَتُوبُ اللَّهُ} دون الفعل الماضي: لأن المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم، للإشارة إلى إفادة تجدد التوبة على كل من تاب إلى الله لا يختص بها هوازن فتوبته على هوازن قد عرفها المسلمون، فأعلموا بأن الله يعامل بمثل ذلك كل من ندم وتاب، فالمعنى: ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء.
وجملة: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تذييل للكلام لإفادة أن المغفرة من شأنه تعالى، وأنه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
(10/61)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] الآية، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلة أخرى تقتضي إبعادهم عنه: وهي أنهم نجس، فقد علل فيما مضى بأنهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، فليسوا أهلا لتعمير المسجد المبني للتوحيد، وعلل هنا بأنهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته.
و {نَجَسٌ} صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك، فعلمنا أنها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية.
والنجاسة المعنوية: هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقرا متجنبا من الناس فلا يكون أهلا لفضل ما دام متلبسا بالصفة التي جعلته كذلك، فالمشرك نجس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفا مطيبا لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذر الجسد ملطخا بالنجاسات لأن دينه لا يطلب منه التطهر، ولكن تنظفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم. والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخبر، ولا شك أن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعا عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسية لإزالة خباثة نفسه، وان طهارة الحدث لقريب من هذا.
وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا.
والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة، فقد حضر المشركون موسم الحج فيه وأعلن لهم فيه أنهم لا يعودون إلى الحج بعد ذلك العام، وإنما أمهلوا إلى بقية العام لأنهم قد حصلوا في الموسم، والرجوع إلى إفاقهم متفاوت "فأريد من العام موسم الحج، وإلا فإن نهاية العام بانسلاخ ذي الحجة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2].
وإضافة (العام) إلى ضمير (هم) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب:
(10/62)
فإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى مصر في القابل
وصيغة الحصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لإفادة نفي التردد في اعتبارهم نجسا، فهو للمبالغة في اتصافهم بالنجاسة حتى كأنهم لا وصف لهم إلا النجسية.
ووصف (العام) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه.
وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ} ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام.
ومواجهة المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام.
جعل النهي في صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جعلوا مكلفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب: "لا أرينك ههنا" فليس النهي للمشركين على ظاهره.
والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأن مناسك الحج كلها تتقدمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك، ولذلك لما نزلت "براءة" أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادي في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر. فدل على أن النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحج. ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
عطف على جملة النهي. والمقصود من هذه الجملة: وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحج فينفقون ويهدون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين.
والعيلة: الاحتياج والفقر أي إن خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائل كثيرة من الحج فإن الله سيغنيكم عن ذلك. وقد أغناهم الله بأن هدى للإسلام أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن، فأسلموا عقب ذلك، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكة الطعام والميرة، وأسلم أيضا أهل جدة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها، فحملوا الطعام إلى مكة، وأسلم أهل صنعاء من اليمن، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها.
(10/63)
وقوله: {إِنْ شَاءَ} يفتح لهم باب الرجاء مع التضرع إلى الله في تحقيق وعده لأنه يفعل ما يشاء.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تعليل لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي أن الله يغنيكم لأنه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائل، فلما منعكم من تمكينهم من الحج لم يكن تاركا منفعتكم فقدر غناكم عنهم بوسائل أخرى علمها وأحكم تدبيرها.
[29] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
الظاهر أن هذه الآية استئناف ابتدائي لا تتفرع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبذ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أن في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدي، للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلما أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوما فيوما، واستقل أمره بالمدينة، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحنه نحو المسلمين، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها.
ثم لما اكتمل نصر الإسلام بفتح مكة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسان سادة بلاد الشام في ملك الروم. ففي "صحيح البخاري" عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا وأنهم ينعلون الخيل لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال: افتح افتح. فقلت: أجاء الغساني. قال: بل أشد من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث.
فلا جرم لما أمن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة
(10/64)
والنضير وقد هزموا وكفى الله المسلمين بأسهم وأورثهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام.
وعن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أن السورة نزلت بعد تبوك.
و {مِنْ} بيانية وهي تبين الموصول الذي قبلها.
وظاهر الآية أن القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول، وأن البيان الواقع بعد الصلة بقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحب تلك الصلات، فيقتضي أن الفريق المأمور بقتاله فريق واحد، انتفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وتحريم ما حرم الله، والتدين بدين الحق. ولم يعرف أهل الكتاب بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء.
وبهذا الاعتبار تحير المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأولوها بأن اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنهم ما أمنوا به، إذ أثبت اليهود الجسمية لله تعالى و قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} . وقال كثير منهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].
وأثبت النصارى تعدد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحق، وأن قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء: كقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر. وتكلف المفسرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوع وذلك مبسوط في تفسير الفخر وكله تعسفات.
والذي أراه في تفسير هذه الآية أن المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمت ولكنها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهم أحد أن الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين.
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} .
وأما قوله: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} - إلى قوله - {وَرَسُولُهُ}
(10/65)
فإدماج. فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون شيئا مما حرم الله ورسوله لأنهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله في دينهم ولكنهم لا يدينون دين الحق وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس(1) فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمم المعروف من العالم يومئذ، فقد كانت الروم نصارى، وكان في العرب نصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبكر، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبكر والبحرين، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأن الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم.
ولا تحسبنّ أن عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكل ما صدق عليه اسم الموصول، فإن الواو لا تقيد إلا مطلق الجمع في الحكم فإن اسم الموصول قد يكون مرادا به واحد فيكون كالمعهود باللام، وقد يكون المراد به جنسا أو أجناسا مما يثبت له معنى الصلة أو الصلات، على أن حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:63-64]. فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختص الماصدق على
ـــــــ
(1) المجوس أتباع(زرادشت) صاحب الدين الذي ظهر بفارس في السابع قبل المسيح. وهم يؤمنون بإلهين اثنين إله الخير واسمه (هرمز) وإله الشر واسمه (أهرمز)، وبعضهم يقول إله النور وإله الظلمة. وقد عبدوا النار وأنكروا البعث،وزعموا أن جزاء النفوس يكون بطريقة التجانس للأرواح بأنّ تظهر الروح الصالحة في الذوات الصالحة والروح الشريرة في الحيوانات الذميمة.
(10/66)
طائفة خاصّة بل العبرة بالاتصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى، والتعويل في مثل هذا على القرائن.
وقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان لأقرب صلة منه وهي صلة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأن البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بيانا لجملة الصلة على أن القرينة ترده إلى مرده. وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحق الذي جاء به كتابهم، وإنما دانوا بما حرفوا منه، وما أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتبعوا الإسلام، لأن كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتباع النبي الآتي من بعد {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:81-83].
وقوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} . بمعنى لا يجعلون حراما ما حرمه الله فإن مادة فعل تستعمل في جعل المفعول متصفا بمصدر الفعل، فيفيد قوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنهم يجعلونه مباحا. والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنهم يستبيحون ما حرمه الله على عباده ولما كان ما حرمه الله قبيحا منكرا لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} لا جرم أن الذين يستبيحونه دلوا على فساد عقولهم فكانوا أهلا لردعهم عن باطلهم على أن ما حرم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرمون ذلك.
والمراد (برسوله) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأن الله ما حرم على لسان رسوله إلا ما هو حقيق بالتحريم.
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأن يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائل العرب الذين يستظلون بنصر إحدى هاتين الأمتين الذين تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشام حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
و {حَتَّى} غاية للقتال، أي يستمر قتالكم إياهم إلى أن يعطوا الجزية.
(10/67)
وضمير {يُعْطُوا} عائد إلى {أُوتُوا الْكِتَابَ} .
والجزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض، بنيت على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا، فلذلك كان الظاهر هذا الاسم أنه معرب عن كلمة (كزيت) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في "مفردات القرآن". ولم يذكروها في "معرب القرآن" لوقوع التردد في ذلك لأنهم وجدوا مادة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شك أنها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عرفت في هذه الآية.
وقوله: {عَنْ يَدٍ} تأكيد لمعنى {يُعْطُوا} للتنصيص على الإعطاء و {عَنْ} فيه للمجاوزة. أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها، ومحل المجرور الحال من الجزية. والمراد يد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب أعطى بيده إذا انقاد.
وجملة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حال من ضمير يعطوا.
والصاغر اسم فاعل من صغر - بكسر الغين - صغرا بالتحريك وصغارا. إذا ذل، وتقدم ذكر الصغار في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} في سورة الأنعام[124]، أي وهم أذلاء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد: والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيبا لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتباعهم دين الإسلام. وقد دلت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم، وخالف ابن وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب. وقال لا تقبل منهم جزية ولابد من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب، دون مشركي العرب: لأن حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] - وقوله - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ} [التوبوة:11] - وقوله - {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15]. ولأنهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأن الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
(10/68)
[30] {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
عطف على جملة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] والتقدير: ويقول اليهود منهم عزير ابن الله، ويقول النصارى منهم المسيح ابن الله، تشنيعا على قائليهما من أهل الكتاب بأنهم بلغوا في الكفر غايته حتى ساووا المشركين.
وعزير: اسم حبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية (عزرا) - بكسر العين المهملة - بن (سرايا) من سبط اللاويين، كان حافظا للتوراة. وقد تفضل عليه (كورش) ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه، وذلك في سنة 451 قبل المسيح، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجددوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حفظه، فكان اليهود يعظمون عزرا إلى حد أن أدعى عامتهم أن عزرا ابن الله، غلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم كثير من عامتهم. وأحسب أن الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138].
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعا لأن سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به، وقد ذكر اسم عزرا في الآية بصيغة التصغير، فيحتمل أنه لما عرب عرب بصيغة تشبه صيغة التصغير، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أن تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيبا فيه.
قرأ الجمهور {عُزَيْرٌ} - ممنوعا من التنوين للعجمة - وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم الكسائي ويعقوب: بالتنوين على اعتباره عربيا بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأن التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من "دلائل الإعجاز"، وتأول قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري.
وأما قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور. وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} في سورة البقرة [87]. وعند قوله
(10/69)
تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} في سورة آل عمران [45].
والإشارة ب {ذَلِكَ} إلى القول المستفاد من {قَالَتْ الْيَهُودُ - وَقَالَتْ النَّصَارَى} . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.
و {بِأَفْوَاهِهِمْ} حال من القول، والمراد أنه قول لا يعدو الوجود في اللسان وليس له ما يحققه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذبا كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف:5]. وفي هذا أيضا إلزام لهم بهذا القول، وسد باب تنصلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم.
والمضاهاة: المشابهة، وإسنادها إلى القائلين: على تقدير مضاف ظاهر من كلام، أي يضاهي قولهم.
و {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} هم المشركون: من العرب، ومن اليونان، وغيرهم، وكونهم من قبل النصارى ظاهر، وأما كونهم من قبل اليهود: فلأن اعتقاد بنوة عزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قدمائهم.
وجملة {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} دعاء مستعمل في التعجيب، وهو مركب يستعمل في التعجب من عمل شنيع، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء: أي قتلهم الله قتلا شديدا. وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب.
وجملة {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} مستأنفة. والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتباع الباطل، حتى شبه المكان الذي يصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان، ومعنى {يُؤْفَكُونَ} يصرفون. يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه، قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادة لأن الكاذب يصرف السامع عن الصدق، وقد تقدم ذلك غير مرة.
[31] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
الجملة تقرير لمضمون جملة {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ليبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
(10/70)
وَاحِدًا} الخ، فوزان هذه الجملة وزان جملة {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] بعد جملة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]. والضمير لليهود والنصارى.
والأحبار جمع حبر - بفتح الحاء - وهو العالم من علماء اليهود.
الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنما خص الحبر بعالم اليهود لأن عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين، وخص الراهب بعظيم دين النصرانية لأن دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة.
ومعنى اتخاذهم هؤلاء أربابا أن اليهود ادعوا لبعضهم بنوة الله تعالى وذلك تأليه، وأن النصارى أشد منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملتهم مثل صورة مريم، وصور الحواريين، وصورة يحيى بن زكرياء، والسجود من شعار الربوبية، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله.
وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة انه من الدين، فكانوا يعتقدون أن أحبارهم ورهبانهم يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عديا بن حاتم لما وفد عليه قبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال عدي: لسنا نعبدهم فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه - فقلت: بلى - قال: فتلك عبادتهم" فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإن الأمة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره، ومعنى اتخاذهم أربابا من دون الله أنهم اتخذوهم أربابا دون أن يفردوا الله بالوحدانية، وتخصيص المسيح بالذكر لأن تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر.
وجملة {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} في موضع الحال من ضمير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} ، وهي محط زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأن وصايا كتب الملتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية.
(10/71)
وجملة {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} صفة ثانية ل {إِلَهًا وَاحِدًا} .
وجملة {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} مستأنفة لقصد التنزيه والتبرئ مما افتروا على الله تعالى، ولذلك سمي ذلك إشراكا.
[32] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة، والتألب على مناواة الدين، حين تحققوا أنه في انتشار وظهور فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم، فالضمير في قوله: {يُرِيدُونَ} عائد إلى {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالة النور بنفخ عليه، أو هبوب رياح، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر.
والنور الضوء وقد تقدم عند قوله تعالى: {نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} في سورة الأنعام [91]. والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وصد الناس عن اتباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة. والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمه عليه، فهذا الكلام مركب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنه صالح لتفكيك التشبيه بأن يشبه الإسلام وحده بالنور، ويشبه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور ويشبه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أن آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه. والمثال المشهور للتمثيل الصالح لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ولكن التفريق في تمثيلية الآية أشد استقلالا، بخلاف بيت بشار، كما يظهر بالتأمل.
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أن محاولة إطفائه عبث وأن أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.
والإباء والإباية: الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوله محاول على فعل وهو يمتنع منه، لأنهم لما حاولوا طمس
(10/72)
الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلا وهو يأبى أن يفعله.
والاستثناء مفرغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبى مجرى نفي الإرادة، كأنه قال: ولا يريد الله إلا أن يتم نوره، ذلك أن فعل (أبى) ونحوه فيه جانب نفي لأن إباية شيء جحد له، فقوي جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه. وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل "كرهت إلا أخاك".
وجيء بهذا التركيب هنا لشدة مماحكة أهل الكتاب وتصلبهم في دينهم، ولم يجأ به في سورة الصف[8] إذ قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملّق.
وذكر صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} في قراءة الأعمش وأبي برفع {قليل} في سورة البقرة [249]: أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير {فَشَرِبُوا} على اعتبار تضمين {شَرِبُوا} معنى، فلم يطعموه إلا قليل، ميلا مع معنى الكلام.
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل: ويأبى الله إلا أن يبقي نوره.
و {لَوْ} في {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأن ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيا. والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله. وأما مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتى يبالغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى.
[33] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
بيان لجملة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين، فلا يريد إزالته، ولا يجعل تقديره باطلا وعبثا. وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين.
وفي قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} صيغة قصر، أي هو لا غيره أرسل رسوله بهذا
(10/73)
النور، فكيف يترك معانديه يطفئونه.
واجتلاب اسم الموصول: للإيماء إلى أن مضمون الصلة علة للجملة التي بنيت عليها هذه الجملة وهي جملة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32].
وعبر عن الإسلام {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} تنويها بفضله، وتعريضا بأن ما هم عليه ليس بهدى ولا حق.
وفعل الإظهار إذا عدي ب {عَلَى} كان مضمنا معنى النصر، أو التفضيل، أي لينصره على الأديان كلها، أي ليكون أشرف الأديان وأغلبها، ومنه المظاهرة أي المناصرة، وقد تقدم ذكرها آنفا عند قوله: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة:4].
فالإسلام كان أشرف الأديان: لأن معجزة القرآن، وهو معجزة تدرك بالعقل، ويستوي في إدراك إعجازها جميع العصور، ولخلو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى، وخلي عن وضع التكاليف الشاقة، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم، وقد فصلت ذلك في الكتاب الذي سميته "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
وظهور الإسلام على الدين كله حصل في العالم باتباع أهل الملل إياه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكل حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلقوا بها، وما صلحت بعض أمورهم إلا فيما حاكوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان.
و {لَوْ} في {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وصلية مثل التي في نظيرتها. وذكر المشركون هنا لأن ظهور دين الإسلام أشد حسرة عليهم من كل أمة، لأنهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعوا الأمم للتألب عليه واستنصروا بهم فلم يغنوا عنهم شيئا، ولأن أتم مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها، وزالت منها جميع الأديان الأخرى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبقى دينان في جزيرة العرب" فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محل المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كله كما يظهر بالتأمل.
[34] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
(10/74)
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيرا لهم في نفوسهم، ليكونوا أشداء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدمين: مثل عزيز، بين للمسلمين أن كثيرا من الأحبار والرهبان المتأخرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالئ الخاصة والعامة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وان غرضهم من ذلك حب الخاصة الاستيثار بالسيادة، وحب العامة الاستيثار بالمزية بين العرب.
وافتتاح الجملة بالنداء واقترانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته.
وتقدم ذكر الأحبار والرهبان آنفا.
وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.
والباطل ضد الحق، أي يأكلون أموال الناس أكلا ملابسا للباطل، أي أكلا لا مبرر له، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا} [الفجر:19] - وقال - {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في سورة البقرة [188] وقد تقدم، وكذلك الباطل تقدم هنالك.
والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحق حقه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات.
(10/75)
وسبيل الله طريقه استعير لدينه الموصل إليه، أي إلى رضاه. والصد عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحق في خاصة النفس، وإغراء الناس بالإعراض عن ذلك. فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها، ويضللون العامة في حقيقتها حتى يعلموا بخلافها، وهم يحسبون أنهم متبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضا بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلمون أتباع ملتهم أن الإسلام ليس بدين الحق.
ولأجل ما في الصد من معنى صد الفاعل نفسه أتت صيغة مضارعه بضم العين: اعتبارا بأنه مضاعف متعد، ولذلك لم يجيء في القرآن إلا مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنه يصد غيره، وتقدم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} في سورة الأعراف [45].
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
جملة معطوفة على جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا} والمناسبة بين الجملتين: أن كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضعهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلا لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفية، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أن تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئا من العذاب.
وأما وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة: فذلك أن هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عسرة، وكانت الحاجة إلى العدة والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] وقد ورد في "السيرة" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألف دينار ذهبا على جيش غزوة تبوك وحمل كثير من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية بـ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا شك أنهم من المنافقين.
والكنز - بفتح الكاف - مصدر كنز إذا ادخر مالا، ويطلق على المال من الذهب
(10/76)
والفضة الذي يخزن، من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا.
فالموصول مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قوما بأعيانهم.
ومعنى {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة: إما وجوبا مستمرا كالزكاة، وإما وجوبا عارضا كالنفقة في الحج الواجب، والنفقة في نوائب المسلمين مما يدعو الناس إليه ولاة العدل.
والضمير المؤنث في قوله: {يُنفِقُونَهَا} عائد إلى الذهب والفضة.
والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البر والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل {سَبِيلِ اللَّهِ} بالصدقات الواجبة، لأنه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى إدعاء أنها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.
ووقع في "الموطأ" أن عبد الله بن عمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعد عليه في آية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية ما هو فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : "من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك" فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو بعض الكنز المذموم في الكتاب والسنة وليس كل كنز مذموما.
وشذ أبو ذر فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحمل سبيل الله على وجوه البر، فقال بتحريم كنز المال، وكأنه تأول {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} على معنى ما يسمى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذر بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول: بشر الكانزين بمكاو من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية: وهو أمير الشام، في خلافة
(10/77)
عثمان: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا، واشتد قول أبي ذر على الناس ورأوه قولا لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشى أبو ذر الفتنة في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله.
والفاء في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} داخلة على خبر الموصول، لتنزيل الموصول منزلة الشرط، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر، فضمير الجمع عائد إلى {الَّذِينَ} ويجوز كون الضمير عائدا إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون. والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أن ذكر آكلي الأموال الصادين عن سبيل الله وذكر الكانزين، أمر رسوله بأن ينذر جميعهم بالعذاب، فدلت الفاء على شرط محذوف تقديره: إذا علمت أحوالهم هذه فبشرهم والتبشير مستعار للوعيد على طريقة التهكم.
[35] {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} .
انتصب {يَوْمَ يُحْمَى} على الظرفية ل {عَذَابٍ} [التوبة:34]، لما في لفظ عذاب من معنى يعذبون. وضمير {عَلَيْهَا} عائد إلى {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، بتأويلهما بالدنانير والدراهم، أو عائد إلى {أَمْوَالَ النَّاسِ} [التوبة:34]، و {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، إن كان الضمير في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} [التوبة:34] عائدا إلى {الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} و {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} [التوبة:34].
والحمي شدة الحرارة. يقال: حمي الشيء إذا أشتد حره.
والضمير المجرور بعلى عائد إلى {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، باعتبار أنها دنانير أو دراهم، وهي متعددة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلق الغرض بالفاعل، فكأنه قيل: يوم يحمي الحامون عليها، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره: إذ هو النار التي تحمى، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث، عدي بعلى الدالة على الاستعلاء المجازي لإفادة أن الحمي تمكن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكد معنى التمكن بمعنى الظرفية التي في قوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فصارت الأموال محمية عليها النار وموضوعة في النار. وبإضافة النار إلى جهنم علم أن المحمي هو نار جهنم التي هي أشد نار في الحرارة فجاء تركيبا بديعا من البلاغة والمبالغة في إيجاز.
(10/78)
والكي: أن يوضع على الجلد جمر أو شيء مشتعل.
والجباه: جمع جبهة وهي أعلى الوجه مما يلي الرأس.
والجنوب: جمع جنب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.
والظهور: جمع ظهر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.
والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكي فإن تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام.
وسلك في التعبير عن التعميم مسلك الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلا لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم.
وكيفية إحضار تلك الدراهم والدنانير لتحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في "الموطأ" و"الصحيحين" أنه يمثل له ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول: "أنا مالك أنا كنزك" وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله، وإن كانت قد تداول أعيانها خلق كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر.
وجملة {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ} مقول قول محذوف، وحذف القول في مثله كثير في القرآن، والإشارة إلى المحمي، وزيادة قوله: {لأَنفُسِكُمْ} للتنديم والتغليظ. ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأن الفعل الذي علل بها هو من فعل المخاطب، وهو لا يفعل شيئا لأجل نفسه إلا لأنه يريد به راحتها ونفعها، فلما آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة، بما كان أضعافا مضاعفة من ألم العذاب وجملة {فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} توبيخ وتنديم.
والفاء في {فَذُوقُوا} لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى.
والذوق مجاز في الحس بعلاقة الإطلاق، وتقدم عند قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود[95].
و {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام: أي ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.
(10/79)
وعبر بالموصولية في قوله: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكمات الناس فيه، وليوضح تعيين الأشهر الحرم من قوله: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] بعد ما عقب ذلك من التفاصيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.
والمقصود: ضبط الأشهر الحرم وإبطال ما أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسد أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حرمة ما له حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها.
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه.
والمراد بالشهور: الشهور القمرية بقرينة المقام، لأنها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأن اختلاف أحوال القمر مساعد على اتخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخ الحوادث الماضية، بمجرد المشاهدة، فإن القمر كرة تابعة لنظام الأرض. قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولأن الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ، لأنها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسنتها إلا بعد ظهور علم الفلك والميقات، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة،
(10/80)
وجعلوها حسابا لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلا بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية، وقد كان الحساب الشمسي معروفا عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد، ومعلوم أن الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنها راجعة إلى التحسين، فأما ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي. فألهم الله البشر، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم، أن اتخذوا نظاما لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأن جعلوه مستندا إلى مشاهدات بينة واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلا في قليل، ثم لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر مما خلق الله له نظاما مطردا. وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس:5]، وأن جعلوا توقيتهم اليومي مستندا إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم، لأنهم وجدوه على نظام لا يتغير، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليوم والليلة، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمى هلالا إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شهر آخر، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدة المسماة بالشهر مرتبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كل ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كل ليلة حذو شكل من النجوم سموه بالمنازل. وقد وجدوا ذلك على نظام مطرد، ثم ألهمهم فرقبوا المدة التي عاد فيها الثمر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العد وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهرا فسموا تلك المدة عاما، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهرا، لأن ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أول مرة، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعا للغلط، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلما أراد الله أن يجعل الناس عبادات ومواسم وأعيادا دورية تكون مرة في كل سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبنيه حج البيت كل سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمنا محترما بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلما حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطن لحكمتها، والتمكن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كله مرادا عنده فلذلك قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
(10/81)
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}
فمعنى قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} : أنها كذلك في النظام الذي وضع عليه هذه الأرض التي جعلها مقر البشر باعتبار تمايز كل واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثنى عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلا لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئا مكررا.
{عِنْدَ اللَّهِ} معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول ل {عِدَّةَ} أو حال من {عِدَّةَ} و {فِي كِتَابِ اللَّهِ} صفة ل {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} .
ومعنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ} في تقديره، وهو التقدير الذي به وجدت المقدورات، أعني تعلق القدرة بها تعلقا تنجيزيا كقوله: {كِتَابًا مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] أي قدرا محدّدا، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنه لما خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقا لحساب الزمان كما قال {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولذلك قال هنا {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ف {يَوْمَ} ظرف ل {كِتَابِ اللَّهِ} بمعنى التقدير الخاص، فإنه لما خلق السماوات والأرض كان مما خلق هذا النظام المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأن تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزءا أجزاء، منذ كونه هلالا، إلى ربعه الأول، إلى البدر، إلى الربع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض. ولأن المنازل التي يحل فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأن طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبل أحد عشر طلوعا من أي وقت ابتدئ منه العد من أوقات الفصول، إنما هو باعتبار أحوال أرضية.
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنتها حاصلا من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض
(10/82)
والسماوات معا.
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحج، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحج وذلك هلال المحرم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شك، ألا ترى قول لبيد:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستة لأنه الشهر السادس من السنة العربية.
وقرأ الجمهور {اثْنَا عَشَرَ} بفتح شين {عَشَرَ} وقرأه أبو جعفر {اثْنَا عَشَرَ} بسكون عين {عَشَرَ} مع مد ألف اثنا مشبعا.
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم: ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلا ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمونه رجبا، وأحسب أنهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء لأنهم شذوا كما لم يعتد بالقبيلة التي كانت تحل أشهر السنة كلها، وهي قضاعة. وقد بين إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" .
وتحريم هذه الأشهر الأربعة مما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحج، كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97].
واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل، الواقعة فيه، أو المقارنة له. فتفضيل الأوقات والبقاع إنما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو بإطلاع على مراده، لأن الله إذا فضلها جعلها مظان لتطلب رضاه، مثل كونها مظان إجابة الدعوات، أو مضاعفة الحسنات، كما قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أي من عبادة ألف شهر لمن قبلنا من الأمم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" والله العليم
(10/83)
بالحكمة التي لأجلها فضل زمن على زمن، وفضل مكان على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدرها، فأشبهت الأمور الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديس السبت بالجمعة، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلا في أوقات دينية: لأن الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلا إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنة أو أمكنة أو ناس.
{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المذكور: من عدة الشهور الاثني عشر، وعدة الأشهر الحرم. أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكم فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحة المعرفة.
والدين النظام المنسوب إلى الخالق الذي يدان الناس به، أي يعاملون بقوانينه. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} في سورة آل عمران [19]، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30].
فكون عدة الشهور اثني عشر تحقق بأصل الخلقة لقوله عقبه {فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .
وكون أربعة من تلك الأشهر أشهرا حرما تحقق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله: {اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، فحصل من مجموع ذلك أن كون الشهور اثني عشر وأن منها أربعة حرما اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية.
وجملة: {اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} معترضة بين جملة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} وجملة {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
{فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} .
تفريع على {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فإنّها، لما كانت حرمتها مما شرعه الله، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها.
(10/84)
فالضمير المجرور ب {فِي} عائد إلى الأربعة الحرم: لأنها أقرب مذكور، ولأنه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها، وإلا لكان مجرد اقتضاب بلا مناسبة، ولأن الكسائي والفراء ادعيا أن الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلة من المؤنث مثل هن كما قال {فِيهِنَّ} إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل (ها) يعاملان معاملة الواحد كما قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ومعلوم أن جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث، وقال الكسائي: إنه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي خلون وفيما فوقها "خلت". وعن ابن عباس أنه فسر ضمير فيهن بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده: فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعنى ان حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين {فِيْهَا} و {فِيهِنَّ} وأن الاختلاف بينهما في الآية تفنن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعد عليه، فإن فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب، فكان ظلما للنفس قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] الآية وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:110].
والأنفس تحتمل أنها أنفس الظالمين في قوله: {فَلاَ تَظْلِمُوا} أي لا يظلم كل واحد نفسه. ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي: أن الله جعلها مواقيت للعبادة، فإن لم يكن أحد متلبسا بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أن المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهيا عنها، بل المراد أن المعصية فيها أعظم وأن العمل الصالح فيها أكثر أجرا، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فإن الفسوق منهي عنه في الحج وفي غيره.
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أن الأمة كالنفس من الجسد على حد قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية، وكقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] وإنما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيدا لمنطوق قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] ولمفهوم قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ
(10/85)
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وهي مقيدة بقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]. ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياما من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم، فاستمرت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة، وما كان ليكف القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أول مرة، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود.
والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة: فقال ابن المسيب، وابن شهاب، وقتادة، وعطاء الخراساني حرمت الآية القتال في الأشهر الحرم ثم نسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات، فتكون هذه الآية مكملة لما بقي من مدة حرمة الأشهر الحرم، حتى يعم جميع بلاد العرب حكم الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضرب الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود. وقال عطاء ابن أبي رباح: يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلا أن يبدأ العدو فيها بالقتال ولا نسخ في الآية.
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
أحسب أن موقع هذه الآية موقع الاحتراس من ظن أن النهي عن انتهاك الأشهر الحرم يقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن هم بادأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم، وتعليله بأنهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين.
و {كَافَّةً} كلمة تدل على العموم والشمول بمنزلة (كلّ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكد من أفراد وتثنية وجمع، ولا من تذكير وتأنيث، وكأنه مشتق من الكف عن استثناء بعض الأفراد، ومحلها نصب على الحال من المؤكد بها، فهي في الأول تأكيد لقوله: {الْمُشْرِكِينَ} وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنه تبع لعموم الذوات، أي كل فرق المشركين، فكل فريق وجد في حالة ما، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال، فالمسلمون مأمورون بقتاله، فمن ذلك: كل فريق يكون
(10/86)
كذلك في الأشهر الحرم، وكلّ فريق يكون كذلك في الحرم.
والكاف في {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ} أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلته، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:197].
وجملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} . تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين، لأن المعية هنا معية تأييد على العمل، وليست معية علم، إذ لا تختص معية العلم بالمتقين.
وابتدئت الجملة ب {وَاعْلَمُوا} للاهتمام بمضمونها كما تقدم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية، بحيث يجب أن يعلموه ويعوه.
والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتقين، دون أن يقال واعلموا أن الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم، فيفيد أن المتصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين، لئلا يكون ذكر جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} غريبا عن السياق، فيحصل من ذلك كلام مستقل يجري مجرى المثل وإيجاز يفيد أنهم حينئذ من المتقين، وأن الله يؤيدهم لتقواهم، وأن القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى، وأن المشركين حينئذ هم المعتدون على حرمة الأشهر، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس.
[37] {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37].
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:36] الآية لأن ذلك كالمقدمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه.
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمته وجعلت لشهر آخر فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من نسأ المهموز اللام، ويطلق مصدرا بوزن فعيل مثل نذير من قوله: {كَيْفَ نَذِيرِ} (1) [الملك:17]، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز، أي أخّر، فالنسيء -
ـــــــ
(1) في المطبوعة (فكيف كان نذير) وهو غلط.
(10/87)
بهمزة بعد الياء - في المشهور. وبذلك قرأه جمهور العشرة. وقرأه ورش عن نافع - بياء مشددة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامها في أختها، والأخبار عن النسيء بأنه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة:102].
والنسيء عند العرب تأخير يجعلونه لشهر حرام فيصيرونه حلالا ويحرمون شهرا آخر من الأشهر الحلال عوضا عنه في عامه.
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أن العرب سنتهم قمرية تبعا للأشهر، فكانت سنتهم اثني عشر شهرا قمرية تامة، وداموا على ذلك قرونا طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء.
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل(1) أن العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن. وسكت المفسرون عما نشأ بعد قول العرب هذا، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أن أول من نسألهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأن جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغل في القدم والذي يجب اعتماده أن أول من نسأ النسيء هو حذيفة ابن عبد نعيم أو فقيم - (ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا). وهو الملقب بالقلمس ولا يوجد ذكر بني فقيم في "جمهرة ابن حزم" وقد ذكره صاحب "القاموس" وابن عطية. قال بن حزم أول من نسأ الشهور سرير "كذا ولعله سري" بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة. وفي ابن عطية خلاف ذلك قال: انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ لهم الشهور. ثم خلفه ابنه عباد. ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلام قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب. وفي "تفسير القرطبي" عن الضحاك عن ابن عباس أول من نسأ عمرو بن لحي "أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيب السائبة). وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة.
قال ابن حزم: كل من صارت إليه هذه المرتبة (أي مرتبة النسيء) كان يسمىّ
ـــــــ
(1 ) هكذا يؤخذ من مجموعة كلام الطبري وابن عطية والقربي مع حذف المتداخل.
(10/88)
القلمس. وقال القرطبي: كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه. وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول: اللهم إني ناسيء الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب(1). اللهم إنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر انفروا على اسم الله تعالى. وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب. ولا مرد لما يقول فيقولون أنستنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم وينادي: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرمونه ذلك العام فإذا حجوا في ذي الحجة تركوا المحرم وسموه صفرا فإذا انسلخ ذو الحجة خرجوا في محرم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنه صار صفرا فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجون في شهر صفر عامين ولاء ثم كذلك.
وقال السهيلي في "الروض الأنف" إن تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري، تحريا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته ونسب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أن ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعله تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي، وأحسب أنه اشتباه.
وكان النبي بأيدي بني فقيم(2) من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم.
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة.
وصيغة القصر في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبة الاعتداء والغارات فهو قصر حقيقي، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أن
ـــــــ
(1) وقع في "اللسان" و "القاموس" وفي "تفاسير" ابن عطية والقرطببي والطبري (ولا أجاب). بجيم ولعل معناه لايجيبني أحد فيما أقوله أي لا يرد عليه.
(2 ) فقيم بصيغة التصغير اسم جد.
(10/89)
الذين وضعوه ليسوا إلا كافرين وما هم بمصلحين، وما الذين تابعوهم إلا كافرون كذلك وما هم بمتقين.
ووجه كونه كفرا أنهم يعلمون أن الله شرع لهم الحج ووقته بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسماة بأسماء تميزها عن الاختلاط، فلما وضعوا النسيء قد علموا أنهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعين له، أعني شهر ذي الحجة ولذلك سموه النسيء اسما مشتقا من مادة النساء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقت لهم عن تعمد مثبتين الحل لشهر حرام والحرمة لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به، فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر، فلا دلالة في الآية على أن الأعمال السيئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل.
وحرف {فِي} المفيد الظرفية متعلق بزيادة لأن الزيادة تتعدى بفي {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [الفاطر:1]. فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابه للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنه لما كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحج ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن يكن في ذاته كفرا وهذا كما يقول السلف: إن الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأن ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [143]، أي صلاتكم. على أن إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية مما طفحت به أقوال الكتاب والسنة مع اتفاق جمهور علماء الأمة على أن الأعمال غير الاعتقاد لا تقتضي إيمانا ولا كفراً.
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف، أي زيادة في أحوال أهل الكفر، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضد قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار، فالتأويل الأول يقتضي أن إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أن إطلاق الكفر فيه إيجاز حذف بتقدير مضاف.
(10/90)
وجملة {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمر، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدد.
وجملة {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} بيان لسبب كونه ضلالا.
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدد والاستمرار، أي هم في ضلال متجدد مستمر بتجدد سببه، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى، ومواطأة عدة ما حرم الله.
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أن النسيء كان عمله مطردا بين جميع المشركين من العرب فما وقع في "تفسير الطبري" عن ابن عباس والضحاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنهم ابتدأوا بمتابعته.
وقرأ الجمهور {يُضَلُّ} - بفتح التحتية - وقرأه حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف، ويعقوب - بضم التحتية - على أنهم يضلون غيرهم.
والتنكير والوحدة في قوله: {عَامًا} في الموضعين للنوعية، أي يحلونه في بعض الأعوام ويحرمونه في بعض الأعوام، فهو كالوحدة في قول الشاعر:
يوما بحزوى ويوما بالعقيق
وليس المراد أن ذلك يوما غب فيه، فكذلك في الآية ليس المراد أن النسيء يقع عاما غب عام كما ظنه بعض المفسرين. ونظيره قول أبي الطيب:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
(يريد تارة تدفع عنهم العدو وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب) وإنما يكون ذلك حين حلول العدو بهم وإصابة الفقر والجدب بلادهم، ولذلك فسره المعري في كتاب "معجز أحمد" بأن قال: "فإن قصدهم الروم طردتهم بخيلك وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وإفضالك".
وقد أبقى الكلام مجملا لعدم تعلق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء، ولعل لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين.
ومحلّ الذم هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة. ويتعلق
(10/91)
قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة.
والمواطأة الموافقة، وهي مفاعلة عن الوطئ شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق وطئ الأرجل ومن هذا قولهم (وقوع الحافر على الحافر).
و {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} هي عدة الأشهر الحرم الأربعة.
وظاهر هذا أنه تأويل عنهم وضرب من المعذرة، فلا يناسب عدة في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم، ولكن ذكره ليرتب عليه قوله: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} فإنّه يتفرع على محاولتهم موافقة عدة ما حرم الله أن يحلوا ما حرم الله، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين، وإنما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم، ويفرطون في نفس الحرمة فيحلون الشهر الحرام، ثم يزيدون باطلا آخر فيحرمون الشهر الحلال. فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود.
وتوجيه عطف {فَيُحِلُّوا} على مجرور لام التعليل في قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} هو تنزيل الأمر المترتب على العلة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل، على طريقة التهكم والتخطئة مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
والإتيان بالموصول في قوله: {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} دون أن يعبر بنحو عدة الأشهر الحرم، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعظيما. ففيه تعريض بالتهكم بهم.
والإظهار في قوله: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} دون أن يقال فيحلوه، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالهم حرمة بعض الأشهر الحرم، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنهم يحرمون بعض الأشهر الحلال حفاظا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعالى.
وجملة {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا: لأن ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تملأوه فقيل: لأنهم زين لهم سوء أعمالهم، أي لأن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم فحسن لهم القبيح.
والتزيين التحسين، أي جعل شيء زينا، وهو إذا يسند إلى ما لا تتغير حقيقته فلا
(10/92)
يصير حسنا، يؤذن بأن التحسين تلبيس. وتقدم التزيين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [212]، وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108].
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتى يزول تعجب السامع منها.
وجملة {وَاللَّهُ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} عطف على جملة {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة، لأن التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب، حتى يقلعوا عن ضلالهم، فبعد أن أفيد السائل بأن سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم، أفيد بأن دوامهم عليه لأن الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق، الذين بهما يتفطن الضال لضلاله فيقلع عنه، جزاءا لهم على ما أسلفوه من الكفر، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية.
والإظهار في مقام الإضمار بقوله: {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم، أي: هذا شأن الله جميع الكافرين.
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنما تتلقى عن الوحي الإلهي لأن الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسن له نظامه فبذلك تستقر حرمة كل ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغيير تقشعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو بن لحيّ.
وقد أوحى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن العام الذي يحج فيه يصادف يوم الحج منه يوم تسعة من ذي الحجة، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض، وأن فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" ، قالوا فصادفت حجة أبي بكر سنة تسع أنها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء، فجاءت حجة النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة في الحساب الذي جعله الله يوم خلق السماوات والأرض.
[38] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
(10/93)
الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطئ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية: "لا اختلاف بين العلماء في أن هذه الآية نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن غزوة تبوك، إذ تخلف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون" فالكلام متصل بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] - وبقوله - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى - قوله - {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:29-35] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذ في شدة حاجة إلى الظهر والعدة. فلذلك سميت غزوة العسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسول الله للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلا ورى بما يوهم مكانا غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقب بالوعيد.
فإنّ نحن جرينا على أن نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسرين، كان محمل هذه الآية أنها عتاب على ما مضى وكانت {إِذَا} مستعملة ظرفا للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] وقوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ} [التوبة:92] الآية، فإن قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:75] صالح لإفادة ذلك، وتحذير من العودة إليه، لأنّ قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا} و {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} و {انفِرُوا خِفَافًا} مراد به يستقبل حين يدعون إلى غزوة أخرى، وسنبين ذلك مفصلا في مواضعه من الآيات.
وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقاش: أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتابا على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس، فكانت {إِذَا} ظرفاً
(10/94)
للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] تحذيرا من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كله بعيد ممّا ثبت في "السيرة" وما ترجح في نزول هذه السورة.
و {مَا} في قوله: {مَا لَكُمْ} اسم استفهام إنكاري، والمعنى: أي شيء، و {لَكُمْ} خبر عن الاستفهام أي: شيء ثبت لكم.
و {إِذَا} ظرف تعلق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى: أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه: انفروا، وليس مضمنا معنى الشرط لأنه ظرف مضيّ.
وجملة {اثَّاقَلْتُمْ} في موضع الحال من ضمير الجماعة، وتلك الحالة هي محل الإنكار، أي: ما لكم متثاقلين. يقال: مالك فعلت كذا، ومالك تفعل كذا كقوله: {مَا لَكُمْ لاَ يَتَنَاصَرُونَ} [الصافات:25]،
ومالك فاعلا، كقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88].
والنّفر: الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمر يحدث، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب، ومصدره حينئذ النفير.
وسبيل الله: الجهاد، سمي بذلك لأنه كالطريق الموصل إلى الله، أي إلى رضاه
و {اثَّاقَلْتُمْ} أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة ثاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه.
(والتثاقل) تكلف الثقل، أي إظهار أنه ثقيل لا يستطيع النهوض.
والثقل حالة في الجسم تقتضي شدة تطلبه للنزول إلى اسفل، وعسر انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازا مرسلا، وفيه تعريض بأن بطأهم ليس عن عجز، ولكنه عن تعلق بالإقامة في بلادهم وأموالهم.
وعدي التثاقل ب {إِلَى} لأنّه ضمن معنى الميل والإخلاد، كأنه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها.
والأرض ما يمشي عليه الناس.
ومجموع قوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلبين للعذر عن الجهاد كسلا وجبنا بحال من يطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب
(10/95)
بالالتصاق بالأرض، والتمكن من القعود، فيأبى النهوض فضلا عن السير.
وقوله: {إِلَى الأَرْضِ} كلام موجه بديع: لأن تباطؤهم عن الغزو، وتطلبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتى جعل بعض المفسرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم.
والاستفهام في {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.
و {مِنْ} في {مِنْ الآخِرَةِ} للبدل: أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلا عن الآخرة. ومثل ذلك لا يرضى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة: منافعهما، فإنهم لما حاولوا التخلف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.
واختير فعل {رَضِيتُمْ} دون نحو آثرتم أو فضلتم: مبالغة في الإنكار، لأن فعل رضي بكذا يدل على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكرالصديق في حديث الغار "فشرب حتىّ رضيت".
والمتاع: اسم مصدر تمتع، فهو الالتذاذ والتنعم، كقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] ووصفه ب {قَلِيلٌ} بمعنى ضعيف ودنيء. استعير القليل للتافه.
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مرادا به الشيء المتمتع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.
وحرف {فِي} من قوله: {فِي الآخِرَةِ} دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني {فِي} كما في "التسهيل" و"المغني"، واستشهدوا بهذه الآية أخذا من "الكشاف" ولم يتكلم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو "الكشاف"، وقد تكرر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد[26] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" وهو في التحقيق (من) الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنه ما ظهرت قلته إلا عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أن المقايسة معنى حاصل لاستعمال حرف الظرفية، وليس معنى موضوعا له حرف (في).
(10/96)
[39] {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق، لأن اللوم وقع على تثاقل حصل، ولماّ كان التثاقل مفضيا إلى التخلف عن القتال، صرح بالوعيد والتهديد إن يعودوا لمثل ذلك التثاقل، فهو متعلق بالمستقبل كما هو مقتضى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيدا فقد اقتضى أن خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجب على أعيانهم كلهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض، أي تعين الوجوب عليهم، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام، وأن يكون بسبب كثرة العدو الذي استنفروا لقتاله، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأن جيش العدو كانوا مثلي عدد جيش المسلمين. وعن ابن عباس أن هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية.
وهذا بناء على أن المراد بالعذاب الأليم في قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفه بالأليم، وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله: {بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] فلا يكون في الآية حجة على كون ذلك الجهاد واجبا على الأعيان، ولكن الله توعدهم، إن لم يمتثلوا أمر - الرسول عليه الصلاة والسلام -، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا، فيكون الكلام تهديدا لا وعيدا. وقد يرجح هذا الوجه بأنه قرن بعواقب دنيوية في قوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . والعقوبات الدنيوية مصائب تترتب على إهمال أسباب النجاح وبخاصة ترك الانتصاح بنصائح الرسول - عليه الصلاة والسلام -، كما أصابهم يوم أحد، فالمقصود تهديدهم بأنهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدو في ديارهم فاستأصلوهم وأتي الله بقوم غيرهم.
(والأليم) المؤلم، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، وقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع.
(10/97)
وكتب في المصاحف {إِلاَّ} من قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا} بهمزة بعدها لام ألف على كيفية النطق بها مدغمة، والقياس ان يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف.
والضمير المستتر في {يُعَذِّبْكُمْ} عائد إلى الله لتقدمه في قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وتنكير {قَوْمًا} للنوعية إذ لا تعين لهؤلاء القوم ضرورة أنه معلق على شرط عدم النفير وهم قد نفروا لما استنفروا إلا عددا غير كثير وهم المخلفون.
{وَيَسْتَبْدِلْ} يبدل، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضا كقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [البقرة:108] أي ويستبدل بكم غيركم.
والضمير في {تَضُرُّوهُ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يُعَذِّبْكُمْ} والواو للحال: أي يعذبكم ويستبدل قوما غيركم في حال أن لا تضروا الله شيئا بقعودكم، أي يصبكم الضر ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضر، فصار الكلام في قوة الحصر، كأنه قيل: إلا تنفروا لا تضروا إلا أنفسكم.
وجملة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل للكلام لأنه يحقق مضمون لحاق الضر بهم لأنه قدير عليهم في جملة كل شيء، وعدم لحاق الضر به لأنه قدير على كل شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضر.
[40] {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
استئناف بياني لقوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39] لأن نفي أن يكون قعودهم عن النفير مضرا بالله ورسوله، يثير في نفس السامع سؤالا عن حصول النصر بدون نصير، فبين بأن الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبين أن تقدير قعودهم عن النفير لا يضر الله شيئا.
(10/98)
والضمير المنصوب ب {تَنصُرُوه} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر، لأنه واضح من المقام.
وجملة {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} جواب للشرط، جعلت جوابا له لأنها دليل على معنى الجواب المقدر لكونها في معنى العلة للجواب المحذوف: فإن مضمون {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} قد حصل في الماضي فلا يكون جوابا للشرط الموضوع للمستقبل، فالتقدير: إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إياه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذ ينصره حين لا تنصرونه. وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} الآية.
ويتعلق {إِذْ أَخْرَجَهُ} ب {نَصَرَهُ} أي زمن إخراج الكفار إياه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجرا. وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنهم تسببوا فيه بأن دبروا لخروجه غير مرة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفرت أسباب خروجه ولكنهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصممين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاء جزلا، كما جاء في حديث سراقة بن جعشم.
كتب في المصاحف {إِلاَّ} من قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} بهمزة بعدها لام ألف، على كيفية النطق بها مدغمة، والقياس أن تكتب (إِنْ لا) - بهمزة فنون فلام ألف - لأنّهما حرفان: (إِنْ) الشرطية و(لاَ) النافية، ولكن رسم المصحف سنة متبعة، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متفق عليها، ومثل ذلك كتب {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} في سورة الأنفال [73]. وهم كتبوا قوله: {بَلْ رَانَ} في سورة المطففين [14] بلام بعد الباء وراء بعدها، ولم يكتبوها بباء وراء مشددة بعدها.
وقد أثار رسم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} بهذه الصورة في المصحف خشية توهم متوهم أن {إِلاَّ} هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في "مغني اللبيب": "تنبيه ليس من أقسام (إِلاّ)، (إِلاّ) التي في نحو {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و(لا) النافية ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في "شرح التسهيل" من أقسام إلا ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على "المغني" ولا الشمني. وقال الشيخ محمد
(10/99)
الرصاع في كتاب "الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب" "وقد رأيت لبعض أهل العصر(1) المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب - أي "التسهيل" - أخذ يعتذر عن ابن مالك والإنصاف أن فيه بعض الإشكال". وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على المغني ليس ما في "شرح التسهيل" نصاً في ذلك وهو يوهمه فإنّه عرّف المستثنى بالمخرج بـ(إلاّ) وقال "واحتزرت عن (إلا) بمعنى إن لم ومثّل بالآية، أي فلا إخراج فيها. وقلت عبارة متن "التسهيل" "المستثنى هو المخرج تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها"، ولم يعرج شارحه المرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على "تسهيله"، وعندي أن الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله: "إلاّ تكون استثناء وتكون حرف جزاء أصلها (إنْ لا) نقله صاحب لسان" العرب". وصدروه من مثله يستدعي التنبيه عليه.
و {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من ضمير النصب في {أَخْرَجَهُ} ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى {مِنْ} ، أي ثانيا من اثنين، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: بتواتر الخبر، وإجماع المسلمين كلهم. ولكون الثاني معلوما للسامعين كلهم لم يحتج إلى ذكره، وأيضا لأن المقصود تعظيم هذا النصر مع قلة العدد.
و {إِذْ} التي في قوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بدل من {إِذْ} التي في قوله: { إِذْ أَخْرَجَهُ} فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج، باعتبار الخروج، والكون في الغار.
والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجرين إلى المدينة، وهو غار في جبل ثور خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ.
والغار الثقب في التراب أو الصخر.
و {إِذْ} المضافة إلى جملة {يَقُولُ} بدل من {إِذْ} المضافة إلى جملة {هُمَا فِي الْغَارِ} . بدل اشتمال.
والصاحب هو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب: المتّصف
ـــــــ
(1) أواخر القرن التاسع أن الرصاع توفي سنة894 أربعوتسعين وثمانمائة.
(10/100)
بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سميت الزوجة صاحبة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} في سورة الأنعام [101]. وهذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزينا إشفاقا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرة، أو يرجعوه إلى مكة.
والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] - وقوله - {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12].
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
التفريع مؤذن بأن السكينة أنزلت عقب الحلول في الغار، وأنها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنما كان التأييد بجنود لم يروها نصرا جثمانيا. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بل إن قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إياه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلقة بفعل {نَصَرَهُ} على الترتيب المتقدم، وهي كالاعتراض بين المفرع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أن النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأن نصره كان معجزة خارقا للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسرين في معنى الآية، حتى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إلى أبي بكر، مع الجزم بأن الضمير المنصوب في {أَيَّدَهُ} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمير، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أن المقام لذكر ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إياه، وما جاء ذكر أبي بكر إلا تبعا لذكر ثبات النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فَأَنزَلَ اللَّهُ} مفرعا على {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكل ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديما وتأخيرًا.
والسكينة اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقة من السكون، وقد تقدّم
(10/101)
ذكرها عند قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [248].
والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتق من اسم اليد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة [87].
والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249]، وتقدم آنفا في هذه السورة.
ثم جوز أن تكون جملة {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} معطوفة على جملة {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءه والرصد له في الطرق المؤدية والسبل الموصلة، لا سيما ومن الظاهر أنه قصد يثرب مهاجر أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلا عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أَخْرَجَهُ} والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26].
و(الكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحو ذلك من كل ما يتحدث به الناس ويخبر المرء به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] (أي أبقى التبرئ من الأصنام والتوحيد لله شأن عقبه) وشعارهم وقال: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران:45] أي بأمرعجيب، أو بولد عجيب، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام:115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تفرق بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتفاقهم، وجمع الله كلمة المسلمين، فكلمة الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر.
ومعنى السفلى الحقيرة لأن السفل يكنى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} إن أمر المشركين كان بمظن?ة القوة والشدة لأنهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنهم لما شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علو إلى سفل.
وجملة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنه لما أخبر عن كلمة
(10/102)
الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفرو، إذ ليس المقصود إفادة جعل كلمة الله عليا، لما يشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادة أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.
ومعنى جعلها كذلك: أنه لما تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقر ثبوت كلمة الله.
وقرأ يعقوب، وحده {وَكَلِمَةَ اللَّهِ} بنصب (كلمة) عطفا على {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} فتكون كلمة الله عليا بجعل الله وتقديره.
وجملة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل لمضمون الجملتين: لأن العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضده السفلى.
[41] {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38]، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد. وقد قدمنا أن الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عاما لكل قادر على الغزو: لأنها كانت في زمن مشقة، وكان المغزو عدوا عظيما، فالضير في {انفِرُوا} عام للذين استنفروا فتثاقلوا، وإنما استنفر القادرون، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو، فلا يقتضي هذا الأمر توجه وجوب النفير على كلّ مسلم في كل غزوة، ولا على المسلم العاجز لعمى أو زمانة. أو مرض، وإنما يجري العمل في كل غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير. وفي الحديث "وإذا استنفرتم فانفروا" .
و {خِفَافًا} جمع خفيف وهو صفة مشبهة من الخفة، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة، فيكون سهل التنقل سهل الحمل. والثقال ضد ذلك، وتقدم الثقل آنفا عند قوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38].
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدة، قال قريط بن أنيف العنبري:
(10/103)
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب:
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
وتستعار الخفّة لقلّة العدد، والثقل لكثرة عدد الجيش كما في قول قريط: "زرافات ووحدانا".
وتستعار الخفة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبت في الهجوم. وتستعار الخفة لقلة الأزواد أو قلة السلاح، والثقل لضد ذلك. وتستعار الخفة لقلة العيال، والثقل لضد ذلك وتستعار الخفة للركوب لأن الراكب أخف سيرا، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال. قال النابغة:
على عارفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب(1)
إذ استنزلوا عنهن للضرب ارقلوا ... إلى الموت ارقال الجمال المصاعب
وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولما وقع {خِفَافًا وَثِقَالاً} حالا من فاعل {انفِرُوا}، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو) ، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال.
والمجاهدة المغالبة للعدو، وهي مشتقة من الجهد - بضم - الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاق على الجيش واشتراء الكراع والسلاح، مجاز بعلاقة السببية.
وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معا وجبا عليه، ومن لم يستطع إلا واحدا منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما.
وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأن الجهاد بالأموال أقل حضورا بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد، فكان ذكره أهم بعد ذكر الجهاد مجملا.
والإشارة ب {ذَلِكُمْ} إلى الجهاد المستفاد من {وَجَاهِدُوا} .
ـــــــ
(1 ) أي على خيل عارفات للطعان أي متعودات.
(10/104)
وإبهام {خَيْرٌ} لقصد توقع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عقب بقوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه. وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلا للإشارة إلى أن من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلب تعيين شعبه إلى أعمال النظر والعلم.
[42] {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلفوا واستأذن كثير منهم في التخلف واعتلوا بعلل كاذبة، وهو ناشئ عن قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38].
وانتقل من الخطاب إلى الغيبة لأن المتحدث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45]. ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأن الله أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم.
والعرض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدم في قوله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} في سورة الأعراف[169:] وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} في سورة الأنفال [67] والمراد به الغنيمة.
والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهل حصوله. و {قَاصِدًا} أي وسطا في المسافة غير بعيد. واسم كان محذوف دل عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضا قريبا، والسفر سفرا متوسطا، أو: لو كان ما تدعوهم إليه عرضا قريبا وسفرا.
والشقة - بضم الشين - المسافة الطويلة.
وتعدية {بَعُدَتْ} بحرف (على) لتضمّنه معنى ثقلت، ولذلك حسن الجمع بين فعل {بَعُدَتْ} وفاعله {الشُّقَّةُ} مع تقارب معنييهما، فكأنه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنه شقة، فثقل عليهم السفر، فجاء الكلام موجزا.
وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} يؤذن بأن الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك، فإن حلفهم إنما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ظان كذبهم في أعذارهم.
(10/105)
والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم.
وجملة {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} جواب {لَوْ} .
والخروج الانتقال من المقر إلى مكان قريب أو بعيد ويعدى إلى المكان المقصود ب(إلى)، وإلى المكان المتروك ب(من)، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو. وتقييده بالمعية إشعار بأن أمر الغزو لا يهمهم ابتداء، وأنهم إنما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم: خروج الناصر لغيره، تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان، إذا كانوا قاصدين نصرهم.
وجملة {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} حال، أي يحلفون مهلكين أنفسهم، أي موقعينها في الهلك. والهلك الفناء والموت، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المناسب هنا، أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة، وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ويؤيده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عمر، وتعمدوا الكذب، فأصابهم مطر فدخلوا غارا في جبل فانهجم عليهم الغار فماتوا جميعا.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} حال، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم، لأن الله يعلم كذبهم، أي ويطلع رسوله على كذبهم، فما جنوا من الحلف إلا هلاك أنفسهم.
وجملة {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} سدت مسد مفعولي {يَعْلَمُ} .
[43] {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .
استأذن فريق من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتخلفوا عن الغزوة، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعة وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه حملا للناس على الصدق، إذ كان ظاهر حالهم الإيمان، وعلما بأن المعتذرين إذا ألجئوا إلى الخروج لا يغنون شيئا، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47] فعاتب الله نبييه صلى الله عليه وسلم في أن أذن لهم،
(10/106)
لأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، فيكون ذلك دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاقهم وكذبهم في دعوى الإيمان، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30].
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنه غرض أنف.
وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفة موجب العتاب لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عفوا ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماء إلى أنه ما أذن لهم إلا لسبب تأوله ورجا منه الصلاح على الجلمة بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكر نفسه كالسائل عن العلة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأن ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحذف متعلّق {أَذِنتَ} لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف.
و {حَتَّى} غاية لفعل {أَذِنتَ} لأنه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضي للإذن لهم إلى أن يتبين الصادق من الكاذب.
وفي زيادة {حَتَّى} بعد قوله: {يَتَبَيَّنَ} زيادة ملاطفة بأن العتاب ما كان إلا عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم، وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون. فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون.
[44] {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} .
هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. وموقع التعليل لجملة {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:44] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد.
والمعنى: أن شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف
(10/107)
عن الجهاد، فأما أهل الأعذار: كالعمي، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذين تخلفوا من المؤمنين فقد تخلفوا ولم يستأذنوا في التخلف، لأنهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه.
والاستئذان: طلب الأذن، أي في إباحة عمل وترك ضده، لأن شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادين.
والاستئذان يعدى ب(في). فقوله: {أَنْ يُجَاهِدُوا} في محل جر ب(في) المحذوفة، وحذف الجار مع {أَنْ} مطرد شائع.
ولماّ كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادين، كما قلنا، جاز أن يقال: استأذنت في كذا واستأذنت في ترك كذا. وإنما يذكر غالبا مع فعل الاستئذان الأمر الذي يرغب المستأذن الإذن فيه دون ضده وإن كان ذكر كليهما صحيحاً.
ولماّ كان شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنهم يجاهدون دون استئذان، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرج عليها المفسرون وتكلفوا في إقامة نظم الآية.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} معترضة لفائدة التنبيه على أن الله مطلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتقين كما تقدم في قوله في سورة البقرة [3،2] {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .
[45] {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن تبرئة المؤمنين من أن يستأذنوا في الجهاد: ببيان الذين شأنهم الاستئذان في هذا الشأن، وأنهم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في باطن أمرهم لأن انتفاء إيمانهم ينفي رجاءهم في ثواب الجهاد، فلذلك لا يعرضون أنفسهم له.
وأفادت {إِنَّمَا} القصر. ولما كان القصر يفيد مفاد خبرين بإثبات شيء ونفي ضده كانت صيغة القصر هنا دالة باعتبار أحد مفاديها على تأكيد جملة {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
(10/108)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:44] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكدة لولا أن المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين، فالكلام إطناب لقصد التنويه، والتنويه من مقامات الإطناب.
وحذف متعلق {يَسْتَأْذِنُكَ} هنا لظهوره مما قبله مما يؤذن به فعل الاستئذان في قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44] والتقدير: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا، ولذلك حذف متعلق يستأذنك هنا.
والسامع البليغ يقدر لكل كلام ما يناسب إرادة المتكلم البليغ، وكل على منواله ينسج.
وعطف {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} على الصلة وهي {لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يدل على أن المراد بالارتياب الارتياب في ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع، على تقدير ظهور أمر الإسلام، وأبطنوا الكفر حفاظا على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملتهم، كما قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141].
ولعل أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنهم لكفرهم ما كانوا يقدرون أن المسلمين يغلبون الروم، هذا هو الوجه في تفسير قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} كما آذن به قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
وجيء في قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تجدد نفي إيمانهم، وفي {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم، ولما كان الارتياب ملازما لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يصير بمنزلة أن يقال: الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم.
وفرّع قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} على {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} تفريع المسبب على السبب: لأنّ الارتياب هو الشك في الأمر بسبب التردد في تحصيله، فلترددهم لم يصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعصيان لاستنفاره، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكا يصلح للأمرين، وهو مسلك الاستئذان في القعود، فالاستئذان مسبب على التردد، والتردد مسبّب على
(10/109)
الارتياب وقد دل هذا على أن المقصود من صلة الموصول في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} . هو قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . لأنه المنتج لانحصار الاستئذان فيهم.
و {فِي رَيْبِهِمْ} ظرف مستقر، خبر عن ضمير الجماعة، والظرفية مجازية مفيدة إحاطة الريب بهم، أي تمكنه من نفوسهم، وليس قوله: {فِي رَيْبِهِمْ} متعلقا ب {يَتَرَدَّدُونَ} .
والتردّد حقيقته ذهاب ورجوع متكرر إلى محل واحد، وهو هنا تمثيل لحال المتحير بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجع. وقريب منه قولهم: يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
والمعنى: أنهم لم يعزموا على الخروج إلى الغزو. وفي هذه الآية تصريح للمنافقين بأنهم كافرون، وأن الله أطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين على كفرهم، لأن أمر استئذانهم في التخلف قد عرفه الناس.
[46] {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
عطف على جملة {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45] لأنّ معنى المعطوف عليها: أنهم لم يريدوا الخروج إلى الغزو، وهذا استدلال على عدم إرادتهم الخروج إذ لو أرادوه لأعدوا له عدته. وهذا تكذيب لزعمهم أنهم تهيأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود لأن عدم إعدادهم العدة للجهاد دل على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو.
والعدّة بضم العين: ما يحتاج إليه من الأشياء، كالسلاح للمحارب، والزاد للمسافر، مشتقة من الإعداد وهو التهيئة.
والخروج تقدم آنفا.
والاستدراك في قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} استدراك على ما دل عليه شرط {وَلَوْ} من فرض إرادتهم الخروج تأكيد الانتفاء وقوعه بإثبات ضده، وعبر عن ضد الخروج بتثبيط الله إياهم لأنه في السبب الإلهي ضد الخروج فعبر به عن مسببه، واستعمال الاستدراك كذلك بعد {وَلَوْ} استعمال معروف في كلامهم كقول أبي بن سلمى الضبي:
فلو طار ذو حافر قبلها ...
لطارت ولكنه لم يطر
وقول الغطمّش الضبي:
(10/110)
أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب
إلا أن استدراك ضد الشرط في الآية كان بذكر ما يساوي الضد: وهو تثبيط الله إياهم، توفيرا لفائدة الاستدراك ببيان سبب الأمر المستدرك، وجعل هذا السبب مفرعا على علته: وهي أن الله كره انبعاثهم، فصيغ الاستدراك بذكر علته اهتماما بها، وتنبيها على أن عدم إرادتهم الخروج كان حرمانا من الله إياهم، وعناية بالمسلمين فجاء الكلام بنسج بديع وحصل التأكيد مع فوائد زائدة.
وكراهة الله انبعاثهم مفسرة في الآية بعدها بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47].
والانبعاث: مطاوع بعثه إذا أرسله.
والتثبيط: إزالة العزم. وتثبيط الله إياهم: أن خلق فيهم الكسل وضعف العزيمة على الغزو.
والقعود: مستعمل في ترك الغزو تشبيها للترك بالجلوس.
والقول الذي في {وَقِيلَ اقْعُدُوا} قول أمر التكوين: أي كون فيهم القعود عن الغزو.
وزيادة قوله: {مَعَ الْقَاعِدِينَ} مذمّة لهم: لأن القاعدين هم الذين شأنهم القعود عن الغزو، وهم الضعفاء من صبيان ونساء كالعمي والزمني.
[47] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
استئناف بياني لجملة {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] لبيان الحكمة من كراهية الله انبعاثهم، وهي إرادة الله سلامة المسلمين من إضرار وجود هؤلاء بينهم، لأنهم كانوا يضمرون المكر للملمين فيخرجون مرغمين، ولا فائدة في جيش يغزو بدون اعتقاد أنه على الحق، وتعدية فعل (الخروج) بفي شائعة في الخروج مع الجيش.
والزيادة التوفير.
وحذف مفعول {زَادُوكُمْ} لدلالة الخروج عليه، أي ما زادوكم قوة أو شيئا مما تفيد زيادته في الغزو نصرا على العدو، ثم استثني من المفعول المحذوف الخبال على طريقة
(10/111)
التهكم بتأكيد الشيء بما يشبه ضده فإن الخبال في الحرب بعض من عدم الزيادة في قوة الجيش، بل هو أشد عدما للزيادة، ولكنه ادعى أنه من نوع الزيادة في فوائد الحرب، وأنه يجب استثناؤه من ذلك النفي، على طريقة التهكّم.
والخبال: الفساد، وتفكك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
وحقيقة {أَوْضَعُوا} أسرعوا سير الرِّكاب. يقال: وضع البعير وضعا، إذا أسرع ويقال: أوضعت بعيري، أي سيرته سيرا سريعا. وهذا الفعل مختص بسير الإبل فلذلك ينزل فعل أوضع منزلة القاصر لأن مفعوله معلوم من مادة فعله. وهو هنا تمثيل لحالة المنافقين حين يبذلون جهدهم لإيقاع التخاذل والخوف بين رجال الجيش، وإلقاء الأخبار الكاذبة عن قوة العدو، بحال من يجهد بعيره بالسير لإبلاغ خبر مهم أو إيصال تجارة لسوق، وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 62] وقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:62]. وأصله قولهم: يسعى لكذا، إلا أنه لما شاع إطلاق السعي في الحرص على الشيء خفيت ملاحظة تمثيل الحالة عند إطلاقه لكثرة الاستعمال فلذلك اختير هنا ذكر الإيضاع لعزة هذا المعنى، ولما فيه من الصلاحية لتفكيك الهيئة بأن يشبه الفاتنون بالركب، ووسائل الفتنة بالرواحل.
وفي ذكر {خِلاَلَكُمْ} ما يصلح لتشبيه استقرائهم الجماعات والأفراد بتغلغل الرواحل في خلال الطرق والشعاب.
والخلال: جمع خلل بالتحريك. وهو الفرجة بين شيئين واستعير هنا لمعنى بينكم تشبيها لجماعات الجيش بالأجزاء المتفرّقة.
وكتب كلمة {وَلَا أََوْضَعُوا} في المصحف - بألف بعد همزة أوضعوا - التي في اللام ألف بحيث وقع بعد اللام ألفان فأشبهت اللام ألف لا النافية لفعل {أََوْضَعُوا} ولا ينطق بالألف الثانية في القراءة فلا يقع التباس في ألفاظ الآية. قال الزجاج: وإنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفا. وتبعه الزمخشري، وقال ابن عطية: "يحتمل أن تمطل حركة اللام فتحدث ألف بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقيل: ذلك لخشونة هجاء الأولين"، يعني لعدم تهذيب الرسم عند الأقدمين من العرب. قال الزمخشري: ومثل ذلك كتبوا {لَا أََذْبَحَنَّهُ} في سورة النمل [21] قلت: وكتبوا {لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] بلام ألف لا غير وهي بلصق كلمة {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21]، ولا في نحو
(10/112)
{وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء:73] فلا أراهم كتبوا ألفا بعد اللام ألف فيما كتبوها فيه إلا المقصد، ولعلهم أرادوا التنبيه على أن الهمزة مفتوحة وعلى أنها همزة قطع.
وجملة {يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} في موضع الحال من ضمير {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:46] العائد على الذين لا يؤمنون بالله في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45] المراد بهم المنافقون كما تقدّم.
وبغى يتعدى إلى مفعول واحد لأنه بمعنى طلب، وتقدم في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران [83]. وعدي {يَبْغُونَكُمْ} إلى ضمير المخاطبين هنا على طريقة نزع الخافض، وأصله يبغون لكم الفتنة. وهو استعمال شائع في فعل بغى بمعنى طلب.
والفتنة اختلال الأمور وفساد الرأي، وتقدمت في قوله: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة المائدة [المائدة:71].
وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي في جماعة المسلمين أي من بين المسلمين {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فيجوز أن يكون هؤلاء السماعون مسلمين يصدقون ما يسمعونه من المنافقين. ويجوز ان يكون السماعون منافقين مبثوثين بين المسلمين.
وهذه الجملة اعتراض للتنبيه على أن بغيهم الفتنة أشد خطرا على المسلمين لأن في المسلمين فريقا تنطلي عليهم حيلهم، وهؤلاء هم سذج المسلمين الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثرون ولا يبلغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ.
وجاء {سَمَّاعُونَ} بصيغة المبالغة للدلالة على أن استماعهم تام وهو الاستماع الذي يقارنه اعتقاد ما يسمع كقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41] وعن الحسن، ومجاهد، وابن زيد: معنى {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ، أي جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجمهور المفسرين: معناه: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، قال النحاس الأغلب أن معنى سماع يسمع الكلام ومثله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41]. وأما من يقبل ما يسمعه فلا يكاد يقال فيه إلا سامع مثل قائل.
وجيء بحرف (في) من قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} الدالّ على الظرفية دون حرف(من) فلم يقل ومنكم سماعون لهم أو ومنهم سماعون، لئلا يتوهم تخصيص السماعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر لأنّ المقصود أن السماعين لهم فريقان فريق من
(10/113)
المؤمنين وفريق من المنافقين أنفسهم مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة وهم الأكثر فكان اجتلاب حرف (في) إيفاء بحقّ هذا الإيجاز البديع ولأن ذلك هو الملائم لمحملي لفظ {سَمَّاعُونَ} فقد حصلت به فائدتان.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تذييل قصد منه إعلام المسلمين بأن الله يعلم أحوال المنافقين الظالمين ليكونوا منهم على حذر، وليتوسموا فيهم ما وسمهم القرآن به، وليعلموا أن الاستماع لهم هو ضرب من الظلم.
والظلم هنا الكفر والشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
[48] {لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
الجملة تعليل لقوله: {يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] لأنّها دليل بأن ذلك ديدن لهم من قبل، إذ ابتغوا الفتنة للمسلمين وذلك يوم أحد إذ انخزل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين بعد أن وصلوا إلى أحد، وكانوا ثلث الجيش قصدوا إلقاء الخوف في نفوس المسلمين حين يرون انخزال بعض جيشهم وقال ابن جريج: الذين ابتغوا الفتنة اثنا عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
{وَقَلَّبُوا} بتشديد اللام مضاعف قلب المخفف، والمضاعفة للدلالة على قوة الفعل. فيجوز أن يكون من قلب الشيء إذا تأمل باطنه وظاهره ليطلع على دقائق صفاته فتكون المبالغة راجعة إلى الكم أي كثرة التقليب، أي ترددوا آراءهم وأعلموا المكائد والحيل للإضرار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويجوز أن يكون {وَقَلَّبُوا} من قلب بمعنى فتش وبحث، استعير التقليب للبحث والتفتيش لمشابهة التفتيش للتقليب في الإحاطة بحال الشيء كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف:42] فيكون المعنى، أنهم بحثوا وتجسسوا للاطلاع على شأن المسلمين وإخبار العدوّ به.
واللام في قوله: {لَكَ} على هذين الوجهين لام العلة، أي لأجلك وهو مجمل يبينه قوله: {لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:48]. فالمعنى اتبعوا فتنة تظهر منك، أي في أحوالك وفي أحوال المسلمين.
(10/114)
ويجوز أن يكون {وَقَلَّبُوا} مبالغة في قلب الأمر إذا أخفى ما كان ظاهرا منه وأبدى ما كان خفيا، كقولهم: قلب له ظهر المجن. وتعديته باللام في قوله: {لَكَ} ظاهرة.
و {الأُمُورَ} جمع أمر، وهو اسم مبهم مثل شيء كما في قول الموصلي:
ولكن مقادير جرت وأمور
والألف واللام فيه للجنس، أي أمورا تعرفون بعضها ولا تعرفون بعضا.
و {حَتَّى} غاية لتقليبهم الأمور.
ومجيء الحق حصوله واستقراره والمراد بذلك زوال ضعف المسلمين وانكشاف أمر المنافقين.
والمراد بظهور أمر الله نصر المسلمبن بفتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا. وذلك يكرهه المنافقون.
الظهور والغلبة والنصر.
و {أَمْرُ اللَّهِ} دينه، أي فلما جاء الحق وظهر أمر الله علموا أن فتنتهم لا تضر المسلمين، فلذلك لم يروا فائدة في الخروج معهم إلى غزوة تبوك فاعتذروا عن الخروج من أول الأمر.
[49] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
نزلت في بعض المنافقبن استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن تبوك ولم يبدوا عذرا يمنعهم من الغزو، ولكنهم صرحوا بأن الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45]، وقيل: قال جماعة منهم: ائذن لنا لأنا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذن فإذن لنا لئلا نقع في المعصية. وهذا من أكبر الوقاحة لأن الإذن في هذه الحالة كلا إذن، ولعلهم قالوا ذلك لعملهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إن الجد بن قيس قال: يا رسول الله لقد علم الناس أني مستهتر بالنساء فإني إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهن فأذن لي في التخلف ولا تفتني وأنا أعينك بمالي، فأذن لهم. ولعل كل ذلك كان.
(10/115)
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأي وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {وَلاَ تَفْتِنِّي} كان ما وقع فيه أشد مما تفصى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإن أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعونا مبغوضا للناس. وتقدم بيان {الْفِتْنَةِ} قريبا.
والسقوط مستعمل مجازا في الكون فجأة على وجه الاستعارة: شبه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هوة على حين ظن أنه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب "على الخبير سقطت".
وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنه المقصود من الجملة.
وهذه الجملة تسير مسرى المثل.
وجملة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر. والكفر يستحق جهنم.
وإحاطة جهنم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات. والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45].
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} إثبات إحاطة جهنم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأن شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال.
[50] {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} .
تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لجملة {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
(10/116)
الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، وما بين الجملتين استدلال على كذبهم في ما اعتذروا به وأظهروا الاستئذان لأجله، وبين هنا أن ترددهم هو أنهم يخشون ظهور أمر المسلمين، فلذلك لا يصارحونهم بالإعراض ويودون خيبة المؤمنين، فلذلك لا يحبون الخروج معهم.
والحسنة: الحادثة التي تحسن لمن حلت به واعترته. والمراد بها هنا النصر والغنيمة.
والمصيبة مشتقة من أصاب بمعنى حل ونال وصادف، وخصت المصيبة في اللغة بالحادثة التي تعتري الإنسان فتسوءه وتحزنه. ولذلك عبر عنها بالسيئة في قوله تعالى، في سورة آل عمران [120]: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} . والمراد بها الهزيمة في الموضعين، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} في سورة الأعراف [95].
وقولهم: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} ابتهاج منهم بمصادفة أعمالهم ما فيه سلامتهم فيزعمون أن يقظتهم وحزمهم قد صادفا المحز، إذ احتاطوا له قبل الوقوع في الضرّ.
والأخذ حقيقته التناول، وهو هنا مستعار للاستعداد والتلافي.
والأمر الحال المهم صاحبه، أي: قد استعددنا لما يهمنا فلم نقع في المصيبة.
والتولي حقيقته الرجوع، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} في سورة البقرة [205]. وهو هنا تمثيل لحالهم في تخلصهم من المصيبة، التي قد كانت تحل بهم لو خرجوا مع المسلمين، بحال من أشرفوا على خطر ثم سلموا منه ورجعوا فارحين مسرورين بسلامتهم وبإصابة أعدائهم.
[51] {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
تلقين جواب لقولهم: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [50] المنبي عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلا بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض كما تدل عليه تعدية فعل {كَتَبَ} باللام المؤذنة بأنه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا
(10/117)
الجواب هو أن العدو يفرح بمصاب عدوه لأنه ينكد عدوه ويحزنه، فإذا علموا أن النبيء لا يحزن لما أصابه زال فرحهم.
وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق: وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم، كما قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:104،139]. وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضي ربهم لأنهم واثقون بأن الله يريد نصر دينه.
وجملة {هُوَ مَوْلاَنَا} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، ولنا الرجاء بأنه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العاجل أو الآجل، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {قُلْ} فهي من كلام الله تعالى خبرا في معنى الأمر، أي قل ذلك ولا تتوكلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء، أي اعتمدوا على فضله عليكم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {لَنْ يُصِيبَنَا} أي قل ذلك لهم، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله، أي يؤمنون بأنه مؤيدهم، وليس تأييدهم بإعانتكم، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها. والفاء الداخلة على {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فاء تدلّ على محذوف مفرع عليه اقتضاه تقديم المعمول، أي على الله فليتوكل المؤمنون.
[52] {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} .
تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لما تضمنته جملة {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] الآية، ولذلك لم تعطف عليها، والمبين هو إجمال {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} [التوبة:51] كما تقدم.
والمعنى لا تنتظرون من حالنا إلا حسنة عاجلة أو حسنة آجلة فأما نحن فننتظر من حالكم أن يعذبكم الله في الآخرة بعذاب النار، أو في الدنيا بعذاب على غير أيدينا من عذاب الله في الدنيا: كالجوع والخوف، أو بعذاب بأيدينا، وهو عذاب القتل، إذا أذن الله بحربكم، كما في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ
(10/118)
فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ} [الأحزاب:60] الآية.
والاستفهام مستعمل في النفي بقرينة الاستثناء. ومعنى الكلام توبيخ لهم وتخطئة لتربصهم لأنهم يتربصون بالمسلمين أن يقتلوا، ويغفلون عن احتمال ان ينصروا فكان المعنى: لا تتربصون بنا إلا أن نقتل أو نغلب وذلك إحدى الحسنين.
والتربص: انتظار حصول شيء مرغوب حصوله، وأكثر استعماله. أن يكون انتظار حصول شيء لغير المنتظر (بكسر الظاء) ولذلك كثرت تعدية فعل التربص بالباء لأن المتربص ينتظر شيئا مصاحبا لآخر هو الذي لأجله الانتظار. وأما قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فقد نزلت {بِأَنفُسِهِنَّ} منزلة المغاير للمبالغة في وجوب التربّص، ولذلك قال في "الكشاف": "في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث". وقد تقدم ذلك هنالك، وأما قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فهو على أصل الاستعمال لأنه تربص بأزواجهم.
وجملة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} معطوفة على جملة الاستفهام عطف الخبر على الإنشاء: بل على خبر في صورة الإنشاء، فهي من مقول القول وليس فيها معنى الاستفهام. والمعنى: وجود البون بين الفريقين في عاقبة الحرب في حالي الغلبة والهزيمة.
وجعلت جملة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ} اسمية فلم يقل ونتربص بكم بخلاف الجملة المعطوف عليها: لإفادة تقوية التربص، وكناية عن تقوية حصول المتربص لأن تقوية التربص تفيد قوة الرجاء في حصول المتربص فتفيد قوة حصوله وهو المكنىّ عنه.
وتفرع على جملة {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا} جملة {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} لأنه إذا كان تربص كل من الفريقين مسفرا عن إحدى الحالتين المذكورتين كان فريق المؤمنين أرضى الفريقين بالمتربصين لأن فيهما نفعه وضر عدوه.
والأمر في قوله: {َتَرَبَّصُوا} للتحضيض المجازي المفيد قلة الاكتراث بتربصهم كقول طريف بن تميم العنبري:
فتوسموني إنني أنا ذالكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم
وجملة {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} تهديد للمخاطبين والمعية هنا: معية في التربص، أو في زمانه، وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها كالعلة للحض.
(10/119)
[52] {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
ابتداء كلام هو جواب عن قول بعض المستأذنين منهم في التخلف "وأنا أعينك بمالي". روي أن قائل ذلك هو الجد بن قيس، أحد بني سلمة، الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة:49] كما تقدّم، وكان منافقا. وكأنهم قالوا ذلك مع شدة شحهم لأنهم ظنوا أن ذلك يرضي النبي صلى الله عليه وسلم عن قعودهم عن الجهاد.
وقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي بمال تبذلونه عوضا عن الغزو، أو بمال تنفقونه طوعا مع خروجكم إلى الغزو، فقوله: {طَوْعًا} إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنهم لا ينفقون إلا كرها لقوله تعالى بعد هذا: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
والأمر في {أَنفِقُوا} للتسوية أي: أنفقوا أو لا تنفقوا، كما دلت عليه {أَوْ} في قوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وهو في معنى الخبر الشرطي لأنه في قوة أن يقال: لن يتقبل منكم إن أنفقتم طوعا أو أنفقتم كرها، ألا ترى أنه قد يجيء بعد أمثاله الشرط في معناه كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
والكره أشد الإلزام، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأولى، وانتصب {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير: إنفاق طوع أو إنفاق كره. ونائب فاعل يتقبل: هو {مِنْكُمْ} أي لا يتقبل منكم شيء وليس المقدر الإنفاق المأخوذ من {أَنفِقُوا} بل المقصود العموم.
وجملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} في موضع العلة لنفي التقبل، ولذلك وقعت فيها (إن) المفيدة لمعنى فاء التعليل، لأن الكافر لا يتقبل من عمل البر. والمراد بالفاسقين: الكافرون، ولذلك أعقب بقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54]. وإنما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فكانوا كالمائلين عن الإسلام إلى الكفر. والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم، فلعلهم كانوا يحسبون أن الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من شكهم في أمر الدين، فتوهموا أنهم يعملون
(10/120)
أعمالا تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويبقون على دينهم فلا يتعرضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم:77] إذ حسب أنه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صدق إخبار الرسول بالبعث.
[54] {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
عطف على جملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53] لأن هذا بيان للتعليل لعدم قبول نفقاتهم بزيادة ذكر سببين آخرين ما نعين من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر والفسوق. وهما: أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون. والكفر وإن كان وحده كافيا في عدم القبول، إلا أن ذكر هذين السببين إشارة إلى تمكن الكفر من قلوبهم وإلى مذمتهم بالنفاق الدال على الجبن والتردد. فذكر الكفر بيان لذكر الفسوق، وذكر التكاسل عن الصلاة لإظهار أنهم متهاونون بأعظم عبادة فكيف يكون إنفاقهم عن إخلاص ورغبة. وذكر الكراهية في الإنفاق لإظهار عدم الإخلاص في هذه الخصلة المتحدث عنها.
وقرأ حمزة والكسائي: {يُقْبَلَ مِنْهُمْ} - بالمثناة التحتية - لأن جمع غير المؤنث الحقيقي يجوز فيه التذكير وضدّه.
[55] {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
تفريع على مذمة حالهم في أموالهم، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طمأنينة بلا، بإعلام المسلمين أن ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محل إعجاب المؤمنين، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئا من الحظ العاجل ببيان أن ذلك سبب في عذابهم في الدنيا.
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تعليم الأمة.
ومعنى هذه الآية: أن الله كشف سرا من أسرار نفوس المنافقين بأنه خلق في
(10/121)
نفوسهم شحا وحرصا على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جراء أموالهم، فهم في كبد من جمعها. وفي خوف عليها من النقصان، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة، وتم مراده. وهذا من أشد العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشح مطلقا، إلا أن المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر. ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم، إذ الخلق السيئ يدعو بعضه بعضا، فإن الكفر خلق سيئ فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح، والنفاق يبعث عليه الخلق السيئ من الجبن والبخل، ليتقي صاحبه المخاطر، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفقين إلى الإسلام: مثل حنظلة. ابن أبي عامر الملقب غسيل الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما.
ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكل ما هو مظنة أن ينتفع به الناس، عطف الأولاد بإعادة حرف النفي بعد العاطف، إيماء إلى أن ذكرهم كالتكملة والاستطراد.
واللام في {لِيُعَذِّبَهُمْ} للتعليل: تعلقت بفعل الإرادة للدلالة على أن المراد حكمة وعلة فتغني عن مفعول الإرادة، وأصل فعل الإرادة أن يعدى بنفسه كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ويعدى غالبا باللام كما في هذه الآية. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [النساء:26] وقول كثيّر:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
وربما عدوه باللام وكي مبالغة في التعليل كقول قيس بن عبادة:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وبعض القراء سماها (لام أنْ) - بفتح الهمزة -وتقدم عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [النساء:26].
فقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {يُعَذِّبَهُمْ} ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف {وَتَزْهَقَ} على {لِيُعَذِّبَهُمْ} باعتبار كونه إرادة الله لهم عندما رزقهم الأموال
(10/122)
والأولاد فيعلم منه: أنه أراد موتهم على الكفر، فيستغرق التعذيب بأموالهم وأولادهم حياتهم كلها، لأنهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشح.
وجملة: {وَهُمْ كَافِرُونَ} في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً.
والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100] أي استحسنت مرأى وفرة عدده.
و(الزهوق) الخروج بشدة وضيق، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة.
[56] {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقسم على أنهم من المؤمنين.
فمعنى {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} أي بعض من المخاطبين ولما كان المخاطبون مؤمنين، كان التبعيض على اعتبار اتصافهم بالإيمان، بقرينة القسم لأنهم توجسوا شك المؤمنين في أنهم مثلهم.
والفرق: الخوف الشديد.
واختيار صيغة المضارع في قوله: {وَيَحْلِفُونَ} وقوله: {يَفْرَقُونَ} للدلالة على التجدد وأن ذلك دأبهم.
ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحذف المستدرك استغناء بأداة الاستدراك، وذكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنه تظاهر باطل وبأن الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هو أنهم يفرقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.
وحذف متعلق {يَفْرَقُونَ} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
(10/123)
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً,مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61،60].
وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضا وما هم منكم ولكنهم قوم متصفون بصفة الجبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وقول مساور بن هند في ذم بني أسد:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
فيكون توجيها بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أن اختلاف الخلق مانع من المواصلة والموافقة.
[57] {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
بيان لجملة {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56].
والملجأ: مكان اللجإ، وهو الإيواء والاعتصام.
والمغارات: جمع مغارة، وهي الغار المتسع الذي يستطيع الإنسان الولوج فيه، ولذلك اشتق لها المفعل: الدال على مكان الفعل، من غار الشيء إذا دخل في الأرض. والمدخل مفتعل اسم مكان للإدخال الذي هو افتعال من الدخول. قلبت تاء الافتعال دالا لوقوعها بعد الدال، كما أبدلت في أدان، وبذلك قرأه الجمهور. وقرأ يعقوب وحده {أَوْ مُدَّخَلاً} - بفتح الميم وسكون الدال - اسم مكان من دخل.
ومعنى {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} لانصرفوا إلى أحد المذكورات وأصل ولى أعرض ولما كان الإعراض يقتضي جهتين: جهة ينصرف عنها، وجهة ينصرف إليها، كانت تعديته بأحد الحرفين تعين المراد.
والجموح: حقيقته النفور، واستعمل هنا تمثيلا للسرعة مع الخوف.
والمعنى: أنهم لخوفهم من الخروج إلى الغزو لو وجدوا مكانا مما يختفي فيه المختفي فلا يشعر به الناس لقصدوه مسرعين خشية أن يعزم عليهم الخروج إلى الغزو.
(10/124)
[58] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
عرف المنافقون بالشح كما قال الله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] - وقال - {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] ومن شحهم أنهم يودون أن الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها توزع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يلقونها في أحاديثهم، ويظهرون أنهم يغارون على مستحقيها، ويشمئزون من صرفها في غير أهلها، وإنما يرومون بذلك أن تقصر عليهم.
روي أن أبا الجواظ، من المنافقين، طعن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات بعض ضعفاء الأعراب رعاء الغنم، إعانة لهم، وتأليفا لقلوبهم، فقال: ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين، وقد روي أنه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعدل، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع، فلعل السبب تكرر، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب.
واللمزّ القدح والتعييب مضارعه من باب يضرب، وبه قرأ الجمهور، ومن باب ينصر، وبه قرأ يعقوب وحده.
وأدخلت {فِي} على الصدقات، وإنما اللمز في توزيعها لا في ذواتها: لأن الاستعمال يدل على المراد، فهذا شائع من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها.
ثم إن قوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} يحتمل: أن المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور، أي أن أعطي اللامزون، أي أن الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع، ويحتمل أن الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير {مِنْهُمْ} أي: فإن أعطي المنافقون رضي اللامزون، وإن أعطي غيرهم سخطوا، فالمعنى أنهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلا على فقرائهم ولذلك كره أبو الجواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات.
ولم يذكر متعلق {رَضُوا} ، لأن المراد صاروا راضيين، أي عنك.
(10/125)
ودلت {إِذَا} الفجائية على أن سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده لأنه يكون في غير مظنة سخط، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها.
[59] {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} .
جملة معطوفة على جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] باعتبار ما تفرع عليها من قوله: {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} عطفا ينبئ عن الحالة المحمودة، بعد ذكر الحالة المذمومة.
وجواب {وَلَوْ} محذوف دل عليه المعطوف عليه، وتقديره: لكان ذلك خيرا لهم.
والإيتاء: الإعطاء، وحقيقته إعطاء الذوات ويطلق مجازا على تعيين المواهب كما في {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251] وفي {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].
وقوله: {مَا آتَاهُمْ اللَّهُ} من هذا القبيل، أي ما عينه لهم، أي لجماعتهم من الصدقات بنوطها بأوصاف تحققت فيهم كقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] الآية.
وإيتاء الرسول صلى الله عليه وسلم: إعطاؤه المال لمن يرى أن يعطيه مما جعل الله له التصرف فيه، مثل النفل في المغانم، والسلب، والجوائز، والصلات، ونحو ذلك، ومنه إعطاؤه من جعل الله لهم الحق في الصدقات.
ويجوز أن يكون إيتاء الله عين إيتاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وإنما ذكر إيتاء الله للإشارة إلى أن ما عينه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما عينه الله لهم، كما في قوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي ما أوحي الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم وقوله: {قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1].
وحسب: اسم بمعنى الكافي، والكفاية تستعمل بمعنى الاجتزاء، وتستعمل بمعنى ولي مهم المكفي، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وهي هنا من المعنى الأول.
ورضي إذا تعدى إلى المفعول دل على اختيار المرضي، وإذا عدي بالباء دل على أنه صار راضيا بسبب ما دخلت عليه الباء، كقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38]. وإذا عدي ب(عن) فمعناه أنه تجاوز عن تقصيره أو عن ذنبه {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
(10/126)
اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96].
فالقول هنا مراد به الكلام مع الاعتقاد، فهو كناية عن اللازم مع جواز إرادة الملزوم، فإذا أضمروا ذلك في أنفسهم فذلك من الحالة الممدوحة ولكن لما وقع هذا الكلام في مقابلة حكاية اللمز في الصدقات، واللمز يكون بالكلام دلالة على الكراهية، جعل ما يدل على الرضا من الكلام كناية عن الرضى.
وجملة {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} بيان لجملة {حَسْبُنَا اللَّهُ} لأن كفاية المهم تقتضي تعهد المكفي بالعوائد ودفع الحاجة، والإيتاء فيه بمعنى إعطاء الذوات.
والفضل زيادة الخير والمنافع {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61] والفضل هنا المعطى: من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، بقرينة من التبعيضية، ولو جعلت {مِنْ} ابتدائية لصحت إرادة معنى المصدر.
وجملة {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} تعليل، أي لأننا راغبون فضله.
وتقديم المجرور لإفادة القصر، أي إلى الله راغبون لا إلى غيره، والكلام على حذف مضاف، تقديره: إنا راغبون إلى ما عينه الله لنا لا نطلب إعطاء ما ليس من حقنا.
والرغبة الطلب بتأدب.
[60] {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذه الآية اعتراض بين جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] وجملة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61] الآية. وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات.
والمقصود من أداة الحصر: أن ليس شيء من الصدقات بمستحق للذين لمزوا في الصدقات، وحصر الصدقات في كونها مستحقة للأصناف المذكورة في هذه الآية، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم.
وأما انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معا إلا على طريقة
(10/127)
استعمال المشترك في معنييه.
الفقير صفة مشبهة أي المتصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضده الغني. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} في سورة النساء[135].
والمسكين ذو المسكنة، وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، ولا شك أن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنما النظر فيما إذا جمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل: هو من قبيل التأكيد، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي، وقيل: يراد بكل من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة: الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجا لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلة. والمسكين المحتاج احتياجا يلجئه إلى الضراعة والمذلة، ونسب هذا إلى مالك، وأبي حنيفة، وابن عباس، والزهري، وابن السكيت، ويونس بن حبيب؛ فالمسكين أشد حاجة لأن الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمل ألم الخصاصة، والأكثر إنما يكون ذلك من شدة الحاجة على نفس المحتاج. وقد تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} في سورة النساء [36].
و {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} معناه العاملون لأجلها، أي لأجل الصدقات فحرف (على) للتعليل كما في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] أي لأجل هدايته إياكم. ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف (على) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكن، أي العاملين لأجلها عملا قويا لأن السعاة يتجشمون مشقة وعملا عظيما، ولعل الإشعار بذلك لقصد الإيماء إلى أن علة استحقاقهم مركبة من أمرين: كون عملهم لفائدة الصدقة، وكونه شاقا، ويجوز أن تكون (على) دالة على الاستعلاء المجازي، وهو استعلاء التصرف كما يقال: هو عامل على المدينة، أي العاملين للنبي أو للخليفة على الصدقات أي متمكنين من العمل فيها.
وممن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حمل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هذيل.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} هم الذين تؤلف، أي تؤنس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا
(10/128)
في الإسلام بحدثان عهد، أو من الذين يرغبون في الدخول في الإسلام، لأنهم قاربوا أن يسلموا.
والتأليف: إيجاد الألفة وهي التأنس.
فالقلوب بمعنى النفوس. وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية.
وللمؤلفة قلوبهم أحوال: فمنهم من كان حديث عهد بالإسلام، وعرف ضعف حينئذ في إسلامه، مثل: أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، من مسلمة الفتح؛ ومنهم من هم كفار أشداء، مثل: عامر بن الطفيل، ومنهم من هم كفار، وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل: صفوان بن أمية. فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام، وقد بلغ عدد من عدهم ابن العربي في "الأحكام" من المؤلفة قلوبهم: تسعة وثلاثين رجلا، قال ابن العربي: وعد منهم أبو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه.
و {الرِّقَابِ} العبيد جمع رقبة وتطلق على العبد. قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
و {َفِي} للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير "فك الرقاب" لأن الظرفية جعلت الرقاب كأنها وضعت الأموال في جماعتها. ولم يجر باللام لئلا يتوهم أن الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات، ولكن تبذل تلك الأموال في عنق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة، أو فداء أسرى مسلمين، لأن الأسرى عبيد لمن أسروهم، وقد مضى في سورة البقرة قوله: {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} .
{وَالْغَارِمِينَ} المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يرزأ دائنوهم شيئا من أموالهم، أو يرزأ المدينون ما بقي لهم من مال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أموال من الصدقات في ذلك رحمة للدائن والمدين.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} الجهاد، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور، كل ذلك برا وبحرا.
و {وَابْنَ السَّبِيلِ} الغريب بغير قومه، أضيف إلى {السَّبِيلِ} بمعنى الطريق: لأنّه أولده
(10/129)
الطريق الذي أتى به، ولم يكن مولودا في القوم، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل.
ولفقهاء الأمة في الأحكام المستمدة من هذه الآية طرائق جمة، وأفهام مهمة، ينبغي أن نلم بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة، وإن معانيها لأوفر مما تفي به المقالة.
فأما ما يتعلق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} على معنى الملك أو الاستحقاق، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كل صنف مقدارا من الصدقات، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كل صنف من مقدارها، والذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف، بل التوزيع موكول لاجتهاد ولاة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعلي، وحذيفة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة. وعن مالك أن ذلك مما أجمع عليه الصحابة، قال ابن عبد البر: ولا نعلم مخالفا في ذلك من الصحابة، وعن حذيفة. إنما ذكر الله هذه الأصناف لتعرف وأي صنف أعطيت منها أجزأك. قال الطبري: الصدقة لسد خلة المسلمين أو لسد خلة الإسلام، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم. قلت وهذا الذي اختاره حذاق النظار من العلماء، مثل ابن العربي، وفخر الدين الرازي.
وذهب عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي: إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكل صنف ثمن الصدقات فإن انعدم أحد صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكل صنف ثمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف. واتفقوا على أنه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف.
وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف، وتحديد صفاتها: فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنه موكول إلى العرف، وأن الخصاصة متفاوتة وقد تقدم آنفا. واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيرا، واتفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يعدان مالا يرفع عن صاحبه وصف الفقر.
وأمّا القدرة على التكسب، فقيل لا يعد القادر عليه فقيرا ولا يستحق الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن خويز منداد، ويحيى بن عمر من المالكية. . . ورويت
(10/130)
في ذلك أحاديث رواها الدار قطني، والترمذي، وأبو داوود. وقيل: إذا كان قويا ولا مال له جاز له أخذ الصدقة، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي. والكيا الطبري من الشافعية.
وأما العاملون عليها فهم يتعينون بتعيين الأمير، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة. وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وأما المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها. فأما الصدقات فلهم حق فيها بنص القرآن، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر عطاؤهم في خلافة أبي بكر، وزمن من خلافة عمر، وكانوا يعطون بالاجتهاد، ولم يكونوا يعينون لهم ثمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، وهي مسألة غريبة لأنها مبنية على جواز النسخ بدليل العقل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنية على هذا الأصل نظر. وإنما بناؤها على أنه إذا تعطل المصرف فلمن يرد سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أن نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم. وعن عمر بن الخطاب أنه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل: أن الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي، ولا شك أن عمر قطع إعطاء المولفة قلوبهم مع أن صنفهم لا يزال موجودا، رأى أن الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، ومن العلماء من جعل فعل عمر وسكوت الصحابة عليه إجماعا سكوتيا فجعلوا ذلك ناسخا لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عد الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفا وقال كثير من العلماء: هم باقون إذا وجدوا فإن الإمام ربما احتاج إلى أن يستأنف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي: "الصحيح عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا". أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أن عدم إعطائهم في زمن عمر لأجل عزة الإسلام، وهذا هو الذي صححه المتأخرون. قال ابن الحاجب في "المختصر" "والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم". وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره.
(10/131)
وأما الرقاب فالجمهور على أن معنى {وَفِي الرِّقَابِ} في شراء الرقيق للعتق، ودفع ما على المكاتب من مال تحصل به حريته، وهو رواية المدنيين عن مالك، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصل به حريته، وروى عن مالك من رواية غير المدنيين عنه. وقيل: لا تعطى إلا في إعانة المكاتب على نجومه، دون العتق، وهو قول الليث، والنخعي، والشافعي. واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب، فقيل: لا يجوز، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك. وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصح من المذهب، وهو لابن عبد الحكم، وابن حبيب، خلافا لأصبغ، من المالكية.
وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلا أن يتوبوا. والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يعد من الغارمين عند ابن حبيب، خلافا لابن الموّاز.
وسبيل الله لم يختلف أن الغزو هو المقصود، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو، وإن كانوا أغنياء في بلدهم، وأما الغزاة الأغنياء في بلد الغزو فالجمهور أنهم يعطون. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يعطون. والحق أن سبيل الله يشمل شراء العدة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتيه، ومجانيق، وللحملان، ولبناء الحصون، وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدو، قاله محمد ابن عبد الحكم من المالكية ولم يذكر أن له مخالفا، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أن قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور. وذهب بعض السلف أن الحج من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات، وروي عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق. وهذا اجتهاد وتأويل، قال ابن العربي: "وما جاء أثر قط بإعطاء الزكاة في الحج".
وأما ابن السبيل فلم يختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنه مراد ولو وجد من يسلفه، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحت منة. واختلف في الغني: فالجمهور قالوا: لا يعطى؛ وهو قول مالك، وقال الشافعي وأصبغ: يعطى ولو كان غنيا في بلد غربته.
وقوله: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} منصوب على أنه مصدر مؤكد لمصدر محذوف يدل عليه قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لأنه يفيد معنى فرض الله أو أوجب، فأكد بفريضة من لفظ المقدر ومعناه.
والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده.
(10/132)
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل إما أفاده الحصر ب {إِنَّمَا} في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الخ، أي: والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء، أي أنه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام، الحكيم الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها. والواو اعتراضية لأن الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحققين.
[61] {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين: وهو تعللهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحذر، وما يطلعون عليه من فلتات نفاقهم، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يصدق القالة فيهم، ويتهمهم بما يبلغه عنهم مما هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشك في نفوس المسلمين في كمالات نبيهم عليه الصلاة والسلام.
والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأن قبله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] فكان مقتضى الظاهر أن يقال: "ومنهم الذين يؤذونك" فعدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلا بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه.
وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عد من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك: الجلاس بن سويد، قبل توبته، ونبتل بن الحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن ثابت. فمنهم من قال: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وقال بعضهم: نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنا ما قلنا فيقبل قولنا.
والأذى: الإضرار الخفيف، وأكثر ما يطلق على الضر بالقول والدسائس، ومنه قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} وقد تقدم في سورة آل عمران [111]، وعند قوله تعالى: {وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} في سورة الأنعام [34].
ومضمون جملة: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} عطف خاص على عامّ، لأنّ قولهم ذلك هو
(10/133)
من الأذى.
والأذن الجارحة التي بها حاسة السمع. ومعنى {هُوَ أُذُنٌ} الإخبار عنه بأنه آلة سمع.
والإخبار ب {هُوَ أُذُنٌ} من صيغ التشبيه البليغ، أي كالأذن في تلقي المسموعات لا يرد منها شيئا، وهو كناية عن تصديقه بكل ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود. روي أن قائل هذا هو نبتل بن الحارث أحد المنافقين.
وجملة: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} جملة {قُلْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، على طريقة المقاولة والمحاورة، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظة لهم، وكمدا لمقاصدهم، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يحمل فيه المخاطب كلام المتكلم على غير ما يريده، تنبيها له على أنه الأولى بأن يراد، وقد مضى عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ومنه ما جرى بين الحجاج والقبعثري إذ قال له الحجاج متوعدا إياه "لأحملنك على الأدهم (أراد لألزمنك القيد لا تفارقه فقال القبعثري: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب" فصرف مراده إلى أنه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم. وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يعقبه بالرد والزجر، كما أعقب ما قبله من قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49]. إلى هنا با أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول، حتى لا يبقى للمحكي أثر، وهذا من لطائف القرآن.
ومعنى {أُذُنُ خَيْرٍ} أنه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم، فقبوله ما يسمعه ينفعكم ولا يضركم فهذا أذن في الخير، أي في سماعه والمعاملة به وليس أذنا في الشر.
وهذا الكلام إبطال لأن يكون {أُذُنُ} بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإن الوصف بالأذن لا يختص بمن يقبل الكلام المفضي إلى شر بل هو أعم، فلذلك صح تخصيصه هنا بما فيه خير. وهذا إعمال في غير المراد منه. وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين، فلا يشكل عليك بأن وصف {أُذُنُ} إذا كان مقصودا به الذم كيف يضاف إلى الخبر، لأن محل الذم في هذا الوصف هو قبول كل ما يسمع مما يترتب عليه شر أو خير، بدون تمييز، لأن ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله
(10/134)
ومعاملاته، فأما إذا كان صاحبه لا يقبل إلا الخير، ويرفض ما هو شر من القول، فقد صار الوصف نافعا، لأن صاحبه التزم أن لا يقبل إلا الخير، وأن يحمل الناس عليه. هذا تحقيق معنى المقابلة، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير، فأما حمله على غير هذا المعنى فيصيره إلى أنه من طريقة القول بالموجب على وجه التنازل وإرخاء العنان، أي هو أذن كما قلتم وقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرؤكم مما يبلغه عنكم، وهذا ليس بالرشيق لأن ما كان خيرا لهم قد يكون شرا لغيرهم.
وقرأ نافع وحده {أُذُنُ} - بسكون الذال فيهما - وقرأ الباقون - بضم الذال فيهما-.
وجملة {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} تمهيد لقوله بعده {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} إذ هو المقصود من الجواب لتمحضه للخير وبعده عن الشر بأنه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو، والصفح، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وبأن لا يؤاخذ أحد إلا ببينة، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلغ إليه لأنه لا يعامل إلا بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنة والتهمة.
والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه، يقال: آمن لفلان بمعنى صدقه، ولذلك عدي باللام دون الباء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] فتصديقه إياهم لأنهم صادقون لا يكذبون، لأن الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب، فكما أن الرسول لا يؤاخذ أحدا بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين، فقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ثناء عليه بذلك يتضمن الأمر به، فهو ضد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
وعطف جملة {وَرَحْمَةٌ} على جملتي {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثر لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتى يتمكن من الإيمان من وفقه الله للإيمان منهم، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سبق السيف العذل، فالمراد من الإيمان في قوله: {آمَنُوا} الإيمان بالفعل، لا التظاهر بالإيمان، كما فسر به المفسرون، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر، وهم المنافقون.
وقرأ حمزة - بجر- {وَرَحْمَةٌ} عطفا على خير، أي أذن رحمة، والمآل واحد.
وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير، بالترغيب والترهيب، فرغبهم في الإيمان ليكفروا عن سيئاتهم الفارطة،
(10/135)
ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا. وفي ذكر النبي بوصف {رَسُولَ اللَّهِ} إيماء إلى استحقاق مؤذيه العذاب الأليم، فهو من تعليق الحكم بالمشتق المؤذن بالعلية.
وفي الموصول إيماء إلى أن علة العذاب هي الإيذاء، فالعلة مركبة.
[62] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم، لأن ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة، فلا تغرهم أيمانهم، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي.
والمراد: الحلف الكاذب، بقرينة قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها، على أنه قد علم أن أيمانهم كاذبة مما تقدم في قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
فكاف الخطاب للمسلمين، وذلك يدل على أن المنافقين يحلفون على التبرئي، مما يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول - عليه الصلاة والسلام -، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك، فلذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أي أحق منكم بأن يرضوهما، وسيأتي تعليل أحقية الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيم رسوله، وإرضاء الرسول بتصديقه ومحبته وإكرامه.
وإنما أفرد الضمير في قوله: {أَنْ يُرْضُوهُ} مع أن المعاد اثنان لأنه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذف الخبر إيجاز. ومن نكتة ذلك
(10/136)
الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين، ومنه قول ضابىء بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
التقدير: فإني لغريب وقيار بها غريب أيضا. لأن إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما.
والضمير المنصوب في {يُرْضُوهُ} عائد إلى اسم الجلالة، لأنه الأهم في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ألا ترى أن بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق (إن) الكائنة في الجملة الأولى، دون الجملة الثانية، وهذا الاستعمال هو الغالب.
وشرط {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} ، مستعمل للحث والتوقع لإيمانهم، لأن ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم، فاستعمل الشرط للتوقع وللحث على الإيمان. وفيه أيضا تسجيل عليهم، إن أعادوا مثل صنيعهم، بأنهم كافرون بالله ورسوله، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله.
[63] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} .
هذه الجملة تتنزل من جملة {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] منزلة التعليل، لأن العاقل لا يرضى لنفسه عملا يؤول به إلى مثل هذا العذاب، فلا يقدم على ذلك إلا من لا يعلم أن من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيئّ.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع، لأن عدم علمهم بذلك محقق بضرورة أنهم كافرون بالرسول، وبأن رضى الله عند رضاه ولكن لما كان عدم علمهم بذلك غريبا لوجود الدلائل المقتضية أنه مما يحق أن يعلموه، كان حال عدم العلم به حالا منكرا. وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهم، كقوله في هذه السورة {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104] وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] وقول مويال بن جهم المذحجي، أو مبشر بن هذيل الفزاري:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
فكأنه قيل: فليعلموا أنه من يحادد الله الخ.
والضمير المنصوب ب {أَنَّهُ} ضمير الشأن، وفسر الضمير بجملة {مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ}
(10/137)
إلى آخرها.
والمعنى: ألم يعلموا شأنا عظيما هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم.
وفك الدالان من {يُحَادِدْ} ولم يدغما لأنه وقع مجزوما فجاز فيه الفك والإدغام، والفك أشهر وأكثر في القرآن، وهو لغة أهل الحجاز، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} في سورة الحشر[4] في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم.
والمحادة: المعاداة والمخالفة.
والفاء في {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} لربط جواب شرط {وَمَنْ} .
وأعيدت {أَنَّ} في الجواب لتوكيد {أَنَّ} المذكورة قبل الشرط توكيدا لفظيا، فإنها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيرا لضمير الشأن، كان حكم {أَنَّ} ساريا في الجملتين، بحيث لو لم تذكر في الجواب لعلم أن فيه معناها، فلما ذكرت كان ذكرها توكيدا لها، ولا ضير في الفصل بين التأكيد والمؤكد بجملة الشرط، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرف، إذ لا مانع من ذلك، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:119] وقول الحماسي، وهو أحد الأعراب:
وإن امرءا دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنه لكريم
و {جَهَنَّمَ} تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة البقرة [206].
والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره. والمقصود من الإشارة: تمييزه ليتقرر معناه في ذهن السامع.
و {الخِْزْيٌ} الذلّ والهوان، وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [85].
[64] {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} .
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} [التوبة:62] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
(10/138)
وظاهر الكلام أن الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأن نزول القرآن من الله وأن خبره صدق فلذلك تردد المفسرون في تأويل هذه الآية. وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني "هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره. وفي قوله: {اسْتَهْزِئُوا} دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلا مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنهم لا يظهرون أن ذلك مفروض ففعل {يَحْذَرُ} فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله: {قُلْ اسْتَهْزِئُوا} إذ لا مناسبة بين الحذر الحق وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإن المنافقين لما كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنهم لا يصدقون بذلك فتعين صرف فعل {يَحْذَرُ} إلى معنى: يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائب المجاز. وتأول الزجاج الآية بأن {يَحْذَرُ} خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر. وعلى تأويله تكون جملة {قُلْ اسْتَهْزِئُوا} استئنافا ابتدائيا لا علاقة لها بجملة {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} . ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر.
وضميرا {عَلَيْهِمْ} و {تُنَبِّئُهُمْ} يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها. وتكون {على} بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185].
وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية {تُنَبِّئُهُمْ} إلى ضمير المنافقين: على نزع الخافض، أي تنبئ عنهم، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم.
ويجوز أن يكون تاء {تُنَبِّئُهُمْ} تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} في محل الصفة ل{سُورَةٌ} والرابط محذوف تقديره: تنبئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} استطراد.
ويجوز أن يعود الضميران للمسلمين، ولا يضر تخالف الضميرين مع ضمير {قُلُوبِهِمْ} الذي هو للمنافقين لا محالة، لأن المعنى يرد كل ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه.
واختيرت صيغة المضارع في {يَحْذَرُ} لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله
(10/139)
تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
والسورة: طائفة معينة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب.
والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نبأ الخبر، وتقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}
في سورة الأنعام [34].
والاستهزاء: تقدم في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} في أول البقرة [14].
والإخراج: مستعمل في الإظهار مجازا، والمعنى: أن الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور: مثل سورة المنافقين، وهذه السورة سورة براءة، حتى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ، و وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ} .
والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله: {مَا تَحْذَرُونَ} دون أن يقال: إن الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم: لأن الأهم من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة واف بالأمرين: إظهار سرائرهم، وكونه في سورة تنزل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص [80] {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} بعد قوله: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم:77] أي نرثه ماله وولده.
[65] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} .
الظاهر أنها معطوفة على جملة {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62] أو على جملة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61]، فيكون المراد بجملة {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} [التوبة:62] أنهم يحلفون إن لم تسألهم. فالحلف الصادر منهم حلف على الأعم من براءتهم من النفاق والطعن، وجواب السؤال عن أمور خاصة يتهمون بها جواب يراد منه أن ما صدر منهم ليس من جنس ما يتهمون به، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنه خوض ولعب، يريدون أنه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكاد عملا شاقا من الراحة بالمزح واللعب. وروي أن المقصود من هذه الآية: أن ركبا من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقا، منهم: وديعة بن ثابت العوفي، ومخشي بن حمير الأشجعي، حليف بني سلمة، وقفوا على عقبة في الطريق ينظرون جيش المسلمين
(10/140)
فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا "إنما كنا نخوض ونلعب".
وعندي أن هذا لا يتجه لأن صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعم، مما يسألون عنه في المستقبل، إخبارا بما سيجيبون، فهم يسألون عما يتحدثون في مجالسهم ونواديهم، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] لأنهم كانوا كثيري الانفراد عن مجالس المسلمين. وحذف متعلق السؤال لظهوره من قرينة قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . والتقدير: ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة. ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول، وأنه لما سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية.
والقصر للتعيين: أي ما تحدثنا إلا في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى.
والخوض تقدّم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} في سورة الأنعام [58].
واللعب تقدم في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في الأنعام [32]، ولما كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله: {كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} فلماّ كان اعتذارهم مبهما رد عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ، على نحو قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
والاستفهام إنكاري توبيخي. وتقديم المعمول وهو {أَبِاللَّهِ} على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الرد عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب، فأعلمهم بأن لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلا استهزاء بالله وآياته ورسوله لا يغير أولئك، فقصر الاستهزاء على تعلقه بمن ذكر اقتضى أن الاستهزاء واقع لا محالة لأن القصر قيد في الخبر الفعلي، فيقتضي وقوع الفعل، على ما قرره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل: أنا سعيت في حاجتك وأنه يؤكد بنحو: وحدي، أو لا غيري، وأنه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيري، أي ولا يقال: أنا سعيت في حاجتك وغيري، وكذلك هنا لا يصحّ
(10/141)
أن يفهم أبالله كنتم تستهزئون أم لم تكونوا مستهزئين.
والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم: لأنهم استهزأوا برسوله وبدينه، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه.
[66] {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
لماّ كان قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] اعتذارا عن مناجاتهم، أي إظهارا للعذر الذي تناجوا من أجله، وأنه ما يحتاجه المتعب: من الارتياح إلى المزح والحديث في غير الجد، فلما كشف الله أمر استهزائهم، أردفه بإظهار قلة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبسوا بما هو أشنع وأكبر مما اعتذروا عنه، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان. فإن الله لما أظهر نفاقهم كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله، وهي ارتقاء في توبيخهم، فهي متضمنة توكيدا لمضمون جملة {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنهم تلبسوا بما هو أشد وهو الكفر، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها، على أن شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأن التوبيخ يقتضي التعداد، فتقع الجمل الموبخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد، اثنان، فالمعنى لا حاجة بكم للاعتذار عن التناجي فإنكم قد عرفتم بما هو أعظم وأشنع.
والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وجملة {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} في موضع العلة من جملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} تعليلا للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ} يدل على وقوع الكفر في الماضي، أي قبل الاستهزاء، وذلك أنه قد عرف كفرهم من قبل. والمراد بإسناد الإيمان إليهم: إظهار الإيمان، وإلا فهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا. والمراد بإيمانهم: إظهارهم الإيمان، لا وقوع حقيقته. وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة، أي بعد إيمان هو من شأنكم، وهذا تعريض بأنه الإيمان الصوري غير الحق ونظيره قوله تعالى
(10/142)
الآتي {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة:74] وهذا من لطائف القرآن.
{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} .
جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيرا له بإمكان تدارك حاله.
ولما كان حال المنافقين عجيبا كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة، فأنبأهم أن طائفة منهم قد يعفى عنها إذا طلبت سبب العفو: بإخلاص الإيمان، وإن طائفة تبقى في حالة العذاب، والمقام دال على أن ذلك لا يكون عبثا ولا ترجيحا بدون مرجح، فما هو إلا أن طائفة مرجوة الإيمان، فيغفر عما قدمته من النفاق، وأخرى تصر على النفاق حتى الموت، فتصير إلى العذاب. والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دل عليه المقام وضوحا من قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} - إلى قوله - {عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:67 ،68]. وقوله بعد ذلك: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة:74].
وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية، وذكر المفسرون من هذه الطائفة مخشيا(1) بن حميّر الأشجعي لما سمع هذه الآية تاب من النفاق، وحسن إسلامه، فعد من الصحابة، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه، وقد قيل: إنه المقصود "بالطائفة" دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" . وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسمهم.
والباء في {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} للسببية، والمجرم الكافر.
وقرأ الجمهور {يُعفَ و تُعذبْ} ببناء الفعلين إلى النائب، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب {طَائِفَةً} الثاني.
[67] {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ
ـــــــ
(1) بميم مفتوحة وخاء معجمة ساكنة وياء مشدّدة، وحمير بحاء مهملة مضمومة وميم مفتوحة وتحتية مشددة. وفي "سيرة ابن إسحاق" ومخشن بنون من آخره وبفتح الشين وقد ذكر اسمه آنفاً عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65].
(10/143)
الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
يظهر أن تكون هذه الآية احتراسا عن أن يظن المنافقون أن العفو المفروض لطائفة منهم هو عفو ينال فريقا منهم باقين على نفاقهم، فعقب ذلك ببيان أن النفاق حالة واحدة وأن أصحابه سواء، ليعلم بذلك أن افتراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلا إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاء على النفاق، إلى ما أفادته الآية أيضا من إيضاح بعض أحوال النفاق وآثاره الدالة على استحقاق العذاب، ففصل هاته الجملة عن التي قبلها: إما لأنها كالبيان للطائفة المستحقة العذاب، وإما أن تكون استئنافا ابتدائيا في حكم الاعتراض كما سيأتي عند قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة:69] وإما أن تكون اعتراضا هي والتي بعدها بين الجملة المتقدمة وبين جملة {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة:69] كما سيأتي هنالك.
وزيد في هذه الآية ذكر {وَالْمُنَافِقَاتُ} تنصيصا على تسوية الأحكام لجميع المتصفين بالنفاق: ذكورهم وإناثهم، كيلا يخطر بالبال أن العفو يصادف نساءهم، والمؤاخذة خاصة بذكرانهم، ليعلم الناس أن لنساء المنافقين حظا من مشاركة رجالهن في النفاق فيحذروهن.
و {مِنْ} في قوله: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} اتصالية دالة على معنى اتصال شيء بشيء وهو تبعيض مجازي معناه الوصلة والولاية، ولم يطلق على ذلك اسم الولاية كما أطلق على اتصال المؤمنين بعضهم ببعض في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] لما سيأتي هنالك.
وقد شمل قوله: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} جميع المنافقين والمنافقات، لأن كل فرد هو بعض من الجميع، فإذا كان كل بعض متصلا ببعض آخر، علم أنهم سواء في الأحوال.
وجملة {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} مبينة لمعنى الاتصال والاستواء في الأحوال.
والمنكر: المعاصي لأنها ينكرها الإسلام.
والمعروف: ضدها، لأن الدين يعرفه، أي يرضاه، وقد تقدما في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} في سورة آل عمران[104].
وقبض الأيدي: كناية عن الشح، وهو وصف ذم لدلالته على القسوة، لأن المراد الشح على الفقراء.
(10/144)
والنسيان منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثال ما أمر به، لأن الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرض عنه.
ونسيان الله إياهم مشاكلة أي حرمانه إياهم مما أعد للمؤمنين، لأن ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ.
وجملة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فذلكة للتي قبلها فلذلك فصلت لأنها كالبيان الجامع.
وصيغة القصر في {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قصر ادعائي للمبالغة لأنهم لما بلغوا النهاية في الفسوق جعل غيرهم كمن ليس بفاسق.
والإظهار في مقام الإضمار في قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لزيادة تقريرهم في الذهن لهذا الحكم. ولتكون الجملة مستقلة حتى تكون كالمثل.
[68] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
هذه الجملة إما استئناف بياني ناشئي عن قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، وإما مبينة لجملة {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]. لأن الخلود في جهنم واللعن بيان للمراد من نسيان الله إياهم.
والوعد أعم من الوعيد، فهو يطلق على الإخبار بالتزام المخبر للمخبر بشيء في المستقبل نافع أو ضار أو لا نفع فيه ولا ضر {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ} [يس:52]. والوعيد خاص بالضار.
وفعل المضي هنا: إما للإخبار عن وعيد تقدم وعده الله المنافقين والمنافقات تذكيرا به لزيادة تحقيقه وإما لصوغ الوعيد في الصيغة التي تنشأ بها العقود مثل (بعت ووهبت) إشعارا بأنه وعيد لا يتخلف مثل العقد والالتزام.
والإظهار في مقام الإضمار لتقرير المحكوم عليه في ذهن السامع حتى يتمكن اتصافهم بالحكم.
وزيادة ذكر {َالْكُفَّارَ} هنا للدلالة على أن المنافقين ليسوا بأهون حالا من المشركين إذ قد جمع الكفر الفريقين.
(10/145)
ومعنى {هِيَ حَسْبُهُمْ} أنها ملازمة لهم. وأصل حسب أنه بمعنى الكافي، ولما كان الكافي يلازمه المكفي كني به هنا عن الملازمة، ويجوز أن يكون {حَسِبَ} على أصله ويكون ذكره في هذا المقام تهكما بهم، كأنهم طلبوا النعيم، فقيل: حسبهم نار جهنم.
واللعن: الإبعاد عن الرحمة والتحقير والغضب.
والعذاب المقيم: إن كان المراد به عذاب جهنم فهو تأكيد لقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} لدفع احتمال إطلاق الخلود على طول المدة، وتأكيد للكناية في قوله: {هِيَ حَسْبُهُمْ} وإن كان المراد به عذابا آخر تعين أنه عذاب في الدنيا وهو عذاب الخزي والمذلة بين الناس.
وفي هذه الآية زيادة تقرير لاستحقاق المنافقين العذاب، وأنهم الطائفة التي تعذب إذا بقوا على نفاقهم، فتعين أن الطائفة المعفو عنها هم الذين يؤمنون منهم.
[69] {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} .
قيل هذا الخطاب التفات، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأن آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة، وأن يحق عليهم الخسران.
فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دل عليه ضمير الخطاب، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدر، أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم، فهو في موضع المفعول المطلق الدال على فعله، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب:
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا
أراد: لم أر كاليوم، إلا أن عامل النصب مختلف بين الآية والبيت.
وقيل هذا من بقية المقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] الآية. فيكون ما بينهما اعتراضا بقوله:
(10/146)
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] الخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار.
والإتيان بالموصول لأنه أشمل وأجمع للأمم التي تقدمت مثل عاد وثمود ممن ضرب العرب بهم المثل في القوة.
و {أَشَدَّ} معناه أقوى، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] أو يراد بها العزة وعدة الغلب باستكمال العدد والعدد، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال {أَشَدَّ} كما أوقعت مضافا إليه شديد في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة: منها طيب الأرض للزرع والغرس ورعي الأنعام والنحل، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض عل المعادن من الذهب والفضة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت.
وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع.
والاستمتاع: التمتع، وهو نوال أحد المتاع الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف[24].
والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتع.
والخلاق: الحظ من الخير وقد تقدم عند قوله تعالى: { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} في سورة البقرة [200].
وتفرع {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} على {كَانُوا أَشَدَّ} : لأن المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي.
وتفرّع {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} على ما أفاده حرف الكاف بقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من معنى التشبيه، ولذلك لم تعطف جملة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} بواو العطف، فإنّ هذه
(10/147)
الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرع عليه، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} لولا قصد الموعظة بالفريقين: المشبه بهم، والمشبهين، في إعراض كليهما عن أخذ العدة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين، قصدا للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الإطناب ولو اقتصر على قوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} ولم يذكر قبله {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ} حصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين.
ولذلك لما تقرر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} .
وقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} تأكيد للتشبيه الواقع في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ - إلى قوله - فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} للتنبيه على أن ذلك الجزء بخصوصه، من بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها، هو محل الموعظة والتذكير، فلا يغرهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج، فقدم قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ} وأتى بقوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مؤكدا له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير، ليتأتى التأكيد، ولأن تقديم ما يتمم تصوير الحالة المشبه بها المركبة، قبل إيقاع التشبيه، أشد تمكينا لمعنى المشابهة عند السامع.
وقوله: {كَالَّذِي خَاضُوا} تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله: {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له. أي: وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك، فأنتم وهم سواء، فيوشك أن يحيق بكم ما حاق بهم، وكلامنا في هذين التشبيهين أدق ما كتب فيهما.
و {الَّذِي} اسم موصول، مفرد، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعين أن يكون المراد بـ {الَّذِي} تأويله بالفريق أو الجمع، ويجوز أن يكون {الَّذِي} هنا أصله الذين فخفف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصا بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق
(10/148)
عندهم على الآية، ونحاة الكوفة يجوزونه ولو لم تطل الصلة، كما في الآية، وقد ادعى الفراء: أن {الَّذِي} يكون موصولا حرفيا مؤولا بالمصدر، واستشهد له بهذه الآية، وهو ضعيف.
ولما وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} وفيه تعريض بأن الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم.
والخوض: تقدمت الحوالة على معرفته آنفا.
والحبط: الزوال والبطلان، وتقدم في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} في سورة البقرة[217].
والمراد بأعمالهم: ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه: من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما، ومعنى حبطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم، كقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80] - أي في الدنيا - {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80] - أي في الآخرة - لا مال له ولا ولد، كقوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [الحاقة:29،28].
وفي هذا كله تذكرة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن لا يظنوا أن الله لما أمهل المنافقين قد عفا عنهم.
ولما كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلا خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} قصرا مقصودا به المبالغة.
وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع.
[70] {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
عاد الكلام على المنافقين: فضمير {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} و {مِنْ قَبْلِهِمْ} عائدان إلى
(10/149)
المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} التوبة:65]، أو الضمير في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].
والاستفهام موجه للمخاطب تقريرا عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.
والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} وقد تقدم في سورة العقود[41]، شبه حصول الخبر عند المخبر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم: بلغه الخبر، قال تعالى: {ِلأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} في سورة الأنعام[19].
والنبأ الخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34].
وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} في سورة الأعراف[59].
ونوح: تقدم ذكره عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} في سورة آل عمران [33].
وعاد: تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} في سورة الأعراف [65].
وكذلك ثمود. وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} في سورة البقرة[124].
وإضافة {أَصْحَابِ} إلى {مَدْيَنَ} باعتبار إطلاق اسم مدين على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أن مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعرف:85]. كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة. وقد تقدم ذكر مدين عند قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} في الأعراف[85].
{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} عطف على {أَصْحَابِ مَدْيَنَ} ، أي نبأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة: اسم فاعل من الائتفاك وهو الانقلاب. أي القرى التي انقلبت والمراد بها: قرى صغيرة كانت مساكن قوم لوط وهي: سدوم، وعمورة، وأدمة، وصبويم، وكانت قرى
(10/150)
متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها. وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.
وجملة {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله: {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحق.
وجملة {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} تفريع على جملة {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} ، والمفرع هو مجموع الجملة إلى قوله: {يَظْلِمُونَ} لأن الذي تفرع على إتيان الرسل: أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصم الآذان عن الحق، فأخذهم الله بذلك، ولكن نظم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذ ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماما بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتى جعل ذلك كأنه هو المفرع وجعل المفرع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.
ونفي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} في سورة العقود[6].
وأثبت ظلمهم أنفسهم لهم بأبلغ وجه إذ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدال على تمكن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية.
[71] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
هذه تقابل قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] لبيان أن الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين.
فالجملة معطوفة على جملة {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مقابل قوله: في المنافقين {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67].
وعبر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض للإشارة إلى أن اللحمة
(10/151)
الجامعة بينهم هي ولاية الإسلام، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلدا للآخر ولا تابعا له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأن بعضهم ناشئ من بعض في مذامهم.
وزيد في وصف المؤمنين هنا {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} تنويها بأن الصلاة هي أعظم المعروف.
وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مقابل قوله في المنافقين {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} التوبة:67].
وقوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} مقابل قوله في المنافقين {نَسُوا اللَّهَ} [التوبة:67] لأن الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضد النسيان.
وقوله: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} مقابل قوله في المنافقين {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد (قد) مع الماضي كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
والإشارة للدلالة على أن ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياء به من أجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لجملة {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أي: أنه تعالى لعزته ينفع أولياءه وأنه لحكمته يضع الجزاء لمستحقه.
[72] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
موقع هذه الجملة بعد قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [التوبة:71]، كموقع جملة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [التوبة:68] بعد قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] الآية. وهي أيضا كالاستئناف البياني الناشئ عن قوله: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] مثل قوله في الآية السابقة {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21] الآية.
وفعل المضي في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ} إما لأنه إخبار عن وعد تقدم في آي القرآن قصد من الإخبار به التذكير به لتحقيقه، وإما أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صيغ العقود مثل بعت وتصدقت لكون، تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا
(10/152)
يتخلف. وقد تقدم نظيره آنفا في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} التوبة:68].
والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال: وعدهم الله: لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكن تعلق الفعل بهم فضل تمكن في ذهن السامع.
وتقدم الكلام على نحو قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} عند قوله تعالى: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} في سورة البقرة[25].
وعطف {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} على {جَنَّاتٍ} للدلالة على أن لهم في الجنات قصورا ومساكن طيبة، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25].
و(العدن) الخلد والاستقرار المستمر، فجنات عدن هي الجنات المذكورة قبل، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنن في التعبير والتنويه بالجنات، ولذلك لم يقل: ومساكن طيبة فيها.
وجملة {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} معطوفة على جملة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} . والرضوان - بكسر الراء - ويجوز ضمها. وكسر الراء لغة أهل الحجاز، وضمها لغة تميم. وقرأه الجمهور - بكسر الراء - وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون. وهو مصدر كالرضي وزيادة الألف والنون فيه تدل على قوته، كالغفران والشكران.
والتنكير في {وَرِضْوَانٌ} للتنويع، يدل على جنس الرضوان، وإنما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإن رضوان الله تعالى عظيم.
و {أَكْبَرُ} تفضيل لم يذكر معه المفضل عليه لظهوره من المقام، أي أكبر من الجنات لأن رضوان الله أصل لجميع الخيرات. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية.
و {ذَلِكَ} إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنات والمساكن وصفاتهما والرضوان الإلهي.
(10/153)
والقصر في {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم.
[73] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
لما أشعر قوله تعالى في الآية السابقة {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]. بأن لهم عذابين عذابا أخرويا وهو نار جهنم، تعين أن العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل، فلما أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة، أمر نبيه بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب [61،60] في قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدة ما كشفت فيه دخيلتهم بما تكرر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجهادهم. والجهاد القتال لنصر الدين، وتقدم في قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} في سورة العقود[54].
وقرن المنافقون هنا بالكفار: تنبيها على أن سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقق في المنافقين، فجهادهم كجهاد الكفار، ولأن الله لما قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة:68] وأومأ قوله هنالك بأن لهم عذابا آخر، لا جرم جمعهم عند شرع هذا العذاب الآخر لهم.
فالجهاد المأمور للفريقين مختلف، ولفظ (الجهاد) مستعمل في حقيقته ومجازه. وفائدة القرن بين الكفار والمنافقين في الجهاد: إلقاء الرعب في قلوبهم، فإن كل واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامل معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضدا شوكتهم.
وأما جهادهم بالفعل فمتعذر، لأنهم غير مظهرين الكفر، ولذلك تأول أكثر المفسرين الجهاد بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها، وكان غالب من أقيم عليه الحد في عهد النبوءة من المنافقين. وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم. وحملها الزجاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود، ولكنهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى.
(10/154)
وهذه الآية إيذان للمنافقين بأن النفاق يوجب جهادهم قطعا لشافتهم من بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويعرفهم لحذيفة بن اليمان، وكان المسلمون يعرفون منهم من تكررت بوادر أحواله، وفلتات مقاله. وإنما كان النبي ممسكا عن قتلهم سدا لذريعة دخول الشك في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعمر: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" لأن العامة والغائبين عن المدينة لا يبلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلما كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شك معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعته القبائل وتحققه المسلم والكافر، تمحضت المصلحة في استئصال شافتهم، وانتفعت ذريعة تطرق الشك في أمان المسلمين، وعلم الله أن أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وأنه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها، واقتدى بها كل من في قلبه مرض، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق. والذي يوجب قتالهم أنهم صرحوا بكلمات الكفر، أي صرح كل واحد بما يدل على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدل على أنهم مستخفون بالدين، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية. ولعل من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئة المسلمين لجهاد كل قوم ينقضون عرى الإسلام وهم يزعمون أنهم مسلمون، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنهم لم يكفروا وإنما الزكاة حق الرسول في حياته، وما ذلك إلا نفاق من قادتهم أتبعه دهماؤهم، ولعل هذه الآية كانت سببا في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصهم الإيمان كما ورد في قصة الجلاس بن سويد. وكان قد كفى الله شر متولي كبر النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بموته فكان كل ذلك كافيا عن إعمال الأمر بجهادهم في هذه الآية. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25].
وهذه الآية تدل على التكفير بما يدل على الكفر من قائله أو فاعله دلالة بينة، وإن لم يكن أعلن الكفر.
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أمر بأن يكون غليظا معهم. والغلظة يأتي معناها: عند قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} في هذه السورة [123].
وإنما وجه هذا الأمر إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه جبل على الرحمة
(10/155)
فأمر بأن يتخلى عن جبلته في حق الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل.
وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفار المؤلفة قلوبهم على الإسلام وإنما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثا.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تذييل. وتقدم نظيره مرات. والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان، أي يرجع إليه.
والمصير المكان الذي يصير إليه المرء، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار، والجمع بينهما هنا تفنن.
[74] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
لما كان معظم ما أخذ على المنافقين هو كلمات دالة على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نقل ذلك عنهم تنصلوا منه بالأيمان الكاذبة، عقبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أن ما يتنصلون به تنصل كاذب وأن لا ثقة بحلفهم، وعلى إثبات أنهم قالوا ما هو صريح في كفرهم. فجملة {يَحْلِفُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصل مما نقل عنهم، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم في حلفهم.
وقد تكون الجملة في محل التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وما بعده، وأن ذلك إنما أخر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء، وأتي بالمقصود في صورة جملة حالية. ومعلوم أن القيد هو المقصود من الكلام المقيد. ويرجح هذا أن معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضهم عهد الإسلام، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتصر على إثبات مقابله وهو {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ
(10/156)
الْكُفْرِ} ، ولم يكن لما بعده مزيد اتصال به.
وأياما كان فالجملة مستحقة الفصل دون العطف.
ومفعول ما قالوا محذوف دل عليه قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} .
وأكّد صدور كلمة الكفر منهم، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها، بصيغة القسم ليكون تكذيب قولهم مساويا لقولهم في التأكيد.
وكلمة الكفر الكلام الدال عليه، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركب منه ومن مثله الكلام المفيد، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاما جامعا موجزا كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] وفي الحديث "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
فكلمة الكفر جنس لكل كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها، ما هي إلا أفراد من هذا الجنس كما دل عليه إسناد القول إلى ضمير جماعة المنافقين. فعن قتادة: لا علم لنا بأن ذلك من أي إذ كان لا خبر يوجب الحجة ونتوصل به إلى العلم.
وقيل: المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدل على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير، ومجاهد، وابن إسحاق أن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - بن سويد بن الصامت قال: لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها، فأخبر عنه ربيبه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته، فحلف بالله ما قال ذلك، وقيل: بل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك.
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمع كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا. وقد فعله واحد، أو باعتبار قول واحد وسماع البقية فجعلوا مشاركين في التبعة كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا وإنما قتله واحد من القبيلة، وعلى فرض صحة وقوع كلمة من واحد معين فذلك لا يقتضي أنه لم يشاركه فيها غيره لأنهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه. وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه
(10/157)
وأصحابه ويشاركونه فيه.
وأما إسناد الكفر إلى الجمع في قوله: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} فكذلك.
ومعنى {بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدم في قوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
والهم نية الفعل سواء فعل أم لم يفعل.
ونوال الشيء حصوله، أي هموا بشيء لم يحصلوه والذي هموا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يترصدوا له في عقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليلا يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا وقد أخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها. وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا.
وجملة {وَمَا نَقَمُوا} عطف على {وَلَقَدْ قَالُوا} أي والحال أنهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلام المدينة شيئا يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة.
والنقم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} في سورة الأعراف [126].
قوله: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} استثناء تهكمي. وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ونكتته أن المتكلم يظهر كأنه يبحث عن شيء ينقض حكمه الخبري ونحوه فيذكر شيئا هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنه استقصى فلم يجد ما ينقضه.
وإنما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروب تفانوا فيها قبيل الهجرة وهي حروب بعاث.
(10/158)
والفضل: الزيادة في البذل والسخاء. و {مِنْ} ابتدائية. وفي جعل الإغناء من الفضل كناية عن وفرة الشيء المغني به لأن ذا الفضل يعطي الجزل.
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنه السبب الظاهر المباشر.
[74] {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
التفريع على قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلما أمر بجهادهم والغلظة عليهم وتوعدهم بالمصير إلى النار، فرع على ذلك الإخبار بأن التوبة مفتوحة لهم وأن تدارك أمرهم في مكنتهم، لأن المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرتهم أو أن يصلح حالهم.
والتوبة هي إخلاصهم الأيمان. والضمير يعود إلى الكفار والمنافقين، والضمير في {يَكُ} عائد إلى مصدر {يَتُوبُوا} وهو التوب.
والتولي: الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة. والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر، وفي الآخرة عذاب النار.
وجيء بفعل {يَكُ} في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خير لهم لتأكيد وقوع الخير عند التوبة، والإيماء إلى أنه لا يحصل الخير إلا عند التوبة لأن فعل التكوين مؤذن بذلك.
وحذف نون "يكن" للتخفيف لأنها لسكونها تهيأت للحذف وحسنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله: {وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} في سورة النساء [40].
وجملة {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} عطف على جملة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} الخ فتكون جوابا ثانيا للشرط، ولا يريبك أنها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة. لأنه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإن حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعا للجملة المعطوف عليها.
والمعنى أنهم إن تولوا لم يجدوا من ينصرهم من القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلا من لا يعبأ بهم عددا وعددا. والمراد نفي الولي النافع كما هو
(10/159)
مفهوم الولي وأما من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي.
[75-77] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ ,فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ,فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثراء كثيرا فلما جاءه المصدقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه. وذكروا من قصته أنه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهار للاستغناء عنه حتى مات في خلافة عثمان، وقد قيل: إن قائل ذلك هو معتب بن قشير، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدقن وما بعده مراد بها واحد وإنما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته. ويحتمل أن ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجيء فيه قصة كما تقدم آنفا.
وجملة {لَنَصَّدَّقَنَّ} بيان لجملة {عَاهَدَ اللَّهَ} وفعل {لَنَصَّدَّقَنَّ} أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف.
والإعراض: إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربهم.
و {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} جعل نفاقا عقب ذلك أي إثره ولما ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق.
والضمير المستتر في أعقبهم للمذكور من أحوالهم، أو للبخل المأخوذ من بخلوا، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله: {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} أي جعل فعلهم ذلك سببا في بقاء النفاق في قلوبهم إلى موتهم، وذلك جزاء تمردهم على النفاق. وهذا يقتضي إلى أن ثعلبة أو معتبا مات على الكفر وأن حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عد كلاهما في الصحابة وأولهما فيمن شهد بدرا، وقيل: هما آخران غيرهما وافقا في الاسم. فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبي صلى الله عليه وسلم.: يا رسول الله "نافق حنظلة". وذكر ارتكابه في خاصته ما ظنه معصية ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن
(10/160)
بين له أن ما توهمه ليس كما توهمه، فيكون المعنى أنهم أسلموا وبقوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومئ إلى هذا تنكير {نِفَاقًا} المفيد أنه نفاق جديد وإلا فقد ذكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلا لهم عقب فعلهم هذا.
واللقاء مصادفة الشيء شيئا في مكان واحد. فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنه يوم لقاء الله للحساب، أو إلى يوم الموت لأن الموت لقاء الله كما في الحديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، وفسره بأنه محبة تعرض للمؤمن عند الاحتضار. وقال بعض المتقدمين من المتكلمين: إن اللقاء يقتضي الرؤية، فاستدل على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} في سورة الأحزاب [44] فنقض عليهم الجبائي بقوله: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} في هذه الآية فإن الاتفاق على أن المنافقين لا يرون الله. وقد تصدى الفخر لإبطال النقض بما يصير الاستدلال ضعيفا، والحق أن اللقاء لا يستلزم الرؤية. وقد ذكر في "نفح الطيب" في ترجمة أبي بكر بن العربي قصة في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية.
والباء للسببية أو للتعليل، أي بسبب أخلافهم وعد ربهم وكذبهم.
وعبّر عن كذبهم بصيغة {كَانُوا يَكْذِبُونَ} لدلالة كان على أن الكذب كائن فيهم ومتمكن منهم ودلالة المضارع على تكرره وتجدده.
وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من أحداث الأفعال الذميمة فإنها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكنا من النفس بطبيعة التولد الذي هو ناموس الوجود.
[78] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} .
استئناف لأجل التقرير. والكلام تقرير للمخاطب عنهم لأن كونهم عالمين بذلك معروف لدى كل سامع. والسر ما يخفيه المرء من كلام وما يضمر في نفسه فلا يطلع عليه الناس وتقدم في قوله: {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} في سورة البقرة [274].
والنجوى: المحادثة بخفاء أي يعلم ما يضمرونه في أنفسهم وما يتحادثون به حديث سر لئلا يطلع عليه غيرهم.
(10/161)
وإنما عطفت النجوى على السر مع أنه أعم منها لينبئهم باطلاعه على ما يتناجون به من الكيد والطعن.
ثم عمم ذلك بقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي قوي علمه لجميع الغيوب.
والغيوب جمع غيب وهو ما خفي وغاب عن العيان. وتقدم قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[3].
[79] {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
استئناف ابتدائي، نزلت بسبب حادث حدث في مدة نزول السورة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمان بن عوف بأربعة آلاف درهم، وجاء عاصم بن عدي بأوسق كثيرة من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أعطى عبد الرحمان وعاصم إلا رياء وأحب أبو عقيل أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية.
فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} .
واللمز: الطعن. وتقدم في هذه السورة في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]. وقرأه يعقوب - بضم الميم - كما قرأ قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58].
و {الْمُطَّوِّعِينَ} أصله المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
و {فِي} للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبب.
وعطف الذين لا يجدون إلا جهدهم على المطوعين وهم منهم، اهتماما بشأنهم. والجهد - بضم الجيم - الطاقة. وأطلقت الطاقة على مسببها الناشئ عنها.
وحذف مفعول {يَجِدُونَ} لظهوره من قوله: {الصَّدَقَاتِ} أي لا يجدون ما يتصدقون به إلا جهدهم.
والمراد لا يجدون سبيلا إلى إيجاد ما يتصدقون به إلا طاقتهم، أي جهد أبدانهم. أو يكون وجد هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة، أي غنى فلا يقدر له مفعول، أي الذين
(10/162)
لا مال لهم إلا جهدهم وهذا أحسن.
وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنها تقوم مقام المال.
وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل.
والسخرية: الاستهزاء. يقال: سخر منه، أي حصلت السخرية له من كذا، فمن اتصالية.
واختير المضارع في يلمزون ويسخرون للدلالة على التكرر.
وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسنته المشاكلة لفعلهم، والمعنى أن الله عاملهم معاملة تشبه سخرية الساخر، على طريقة التمثيل، وذلك في أن أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمنا ثم أمره بفضحهم.
ويجوز أن يكون إطلاق سخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل، أي احتقرهم ولعنهم ولما كان كل ذلك حاصلا من قبل عبر عنه بالماضي في {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} .
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عطف على الخبر، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة.
[80] {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
هذا استئناف ابتدائي ليس متصلا بالكلام السابق، وإنما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم، وفي الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لهم.
روى المفسرون عن ابن عباس أنه لما نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. قال فريق منهم: استغفر لنا يا رسول الله، أي ممن صدر منه عمل وبخوا عليه في القرآن دون تصريح بأن فاعله منافق فوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستغفر للذين سألوه. وقال الحسن: كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه، ويقولون: إن أردنا إلا الحسنى. وذلك في معنى الاستغفار، أي طلب محوما عد عليهم أنه ذنب، يريدون أنه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم. وعن الأصم أن عبد الله بن أبي بن سلول لما ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكر الناس له من كل جهة لقيه
(10/163)
رجل من قومه فقال له: ارجع إلى رسول الله يستغفر لك، فقال: ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي. فنزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين [6،5]: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} يعني فتكون هذه الآية مؤكدة لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعا بين الروايات.
وعن الشعبي، وعروة، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة أن عبد الله ابن أبي ابن سلول مرض فسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له ففعل. فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين فنزلت {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6].
والذي يظهر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوحي إليه بآية سورة المنافقين، وفيه أن استغفاره وعدمه سواء في حقهم. تأول ذلك على الاستغفار غير المؤكد وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدره من اعتراضهم عن الإيمان أن يستغفر للمنافقين استغفارا مكررا مؤكدا عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه تعالى فيهديهم إلى الإيمان الحق. بما أن مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجر إلى تعلق هديه بقلوبهم بأقل سبب، فيكون نزول هذه الآية تأييسا من رضى الله عنهم، أي عن البقية الباقية منهم تأييسا لهم ولمن كان على شاكلتهم ممن أطلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار، فالآية تأييس من غير تعيين.
وصيغة الأمر في قوله: {اسْتَغْفِرْ} مستعملة في معنى التسوية المراد منها لازمها وهو عدم الحذر من الأمر المباح، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي ترد صيغة الأمر لإفادتها كثيرا، وعد علماء أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثلوه بقوله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا} [الطور:16].
فأما قوله: {أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فموقعه غريب ولم يعن المفسرون والمعربون ببيانه فإن كونه بعد {لاَ} مجزوما يجعله في صورة النهي، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة. فلا يتأتى منه معنى يعادل معنى التسوية التي استعمل فيها الأمر. ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر.
وتأويل الآية:
(10/164)
إمّا أن تكون {لاَ} نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفا على فعل الأمر فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره الأخفش من البصريين، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص، شيخ أبي حيان، وهو الحق لأنه لو كان مبنيا للزم حالة واحدة، ولأن أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظا في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهمّ.
ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنه لا وجه لجزم الفعل لو كان كذلك، لا سيما والأمر مؤول بالخبر، ثم إن ما أفاده حرف التخيير قد دل على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما.
وإما أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنها قارنت الأمر الدال على إرادة التسوية ويكون المعنى: أمرك بالاستغفار لهم ونهيك عنه سواء، وذلك كناية عن كون الآمر والناهي ليس بمغير مراده فيهم سواء فعل المأمور أو فعل المنهي ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف. والتقدير: نقول لك: استغفر لهم، أو نقول لا تستغفر لهم.
و {سَبْعِينَ مَرَّةً} غير مراد به المقدار من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة. قال "الكشاف": السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر. ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت" . وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب. وأما ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسأزيد على السبعين" فهو توهم من الراوي لمنافاته رواية عمر بن الخطاب، ورواية عمر أرجح لأنه صاحب القصة، ولأن تلك الزيادة لم ترو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي.
وانتصب {سَبْعِينَ مَرَّةً} على المفعولية المطلقة لبيان العدد. وتقدم الكلام على لفظ مرة عند قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في هذه السورة [13].
وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم الله نفاقهم وأعلم نبيه - عليه الصلاة والسلام - بهم. وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغترارا بظاهر حالهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامة المسلمين، والقرآن ينعتهم بسيماههم كيلا يطمئن لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم، فبذلك قضي حق المصالح كلها.
(10/165)
ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] لأن المشركين كفرهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحا، وكفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفرة لهم منوطا بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاما بباطن حاله الذي اقتضت حكمة الشريعة عدم كشفه. وقال في أبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" . فلما نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأن صلاة الجنازة من الاستغفار ولما مات عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد نزول هذه الآية وسأل ابنه عبد الله بن عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فصلى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه، قال له على سبيل الرد "إنما خيرني الله" ، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ} وكذلك في لفظ عدد {سَبْعِينَ مَرَّةً} استقصاء لمظنة الرحمة على نحو ما أصلناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} لانتفاء الغفران المستفاد من قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
والباء للسببية، وكفرهم بالله هو الشرك. وكفرهم برسوله جحدهم رسالته صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عليه كافر.
ومعنى {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أن الله لا يقدر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم، أي بعدهم عن التأمل في أدلة النبوءة، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طبع على قلبه فلا يقبل الهدى فمعنى {لاَ يَهْدِي} لا يخلق الهدى في قلوبهم.
[81] {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .
(10/166)
استئناف ابتدائي، وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلفين خصوص من تخلف عن غزوة تبوك من المنافقين.
ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أن فرحهم بتخلفهم قد قوي لما استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنوا أنهم استغفلوه فقضوا مأربهم ثم حصلوا الاستغفار ظنا منهم بأن معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور.
فالمخلفون هم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلفين بصيغة اسم المفعول لأن النبي خلفهم، وفيه إيماء إلى أنه ما أذن لهم في التخلف إلا لعلمه بفساد قلوبهم وأنهم لا يغنون عن المسلمين شيئا كما قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47].
وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلف نكدا عليهم ونغصا كما وقع للثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم.
والمقعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم.
و {خِلاَفَ} لغة في خلف. يقال: أقام خلاف الحي بمعنى بعدهم، أي ظعنوا ولم يظعن. ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خلف أنه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلهم للغزو، ولذلك جعله بعض المفسرين منصوبا على المفعول له، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول.
وكراهيتهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأن الله أمر بذلك في الآية المتقدمة {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] الآية، ولكونها خصلة أخرى جعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أن فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد.
وقولهم: {تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} خطاب بعضهم بعضا وكانت غزوة تبوك في وقت الحر حين طابت الظلال.
وجملة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} مستأنفة ابتدائية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام.
وكون نار جهنم أشد حرا من حر القيظ أمر معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار عنه.
(10/167)
فتعين أن الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضا بتجهيلهم لأنهم حذروا من حر قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حر أشد. فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنم لأجل قعودهم عن الغزو في الحر، وفيه كناية عرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنم.
وجملة: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} تتميم، للتجهيل والتذكير، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى، ولكنهم لا يفقهون، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة، إذ ليس المراد لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا لأنه لا يخفي عليهم ولو كانوا يفقهون أنهم صائرون إلى النار ولكنهم لا يفقهون ذلك.
[82] {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
تفريع كلام على الكلام السابق من ذكر فرحهم، ومن إفادة قوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81] من التعريض بأنهم أهلها وصائرون إليها.
والضحك هنا كناية عن الفرح أو أريد ضحكهم فرحا لاعتقادهم ترويج حيلتهم على النبي صلى الله عليه وسلم إذ أذن لهم بالتخلف.
والبكاء كناية عن حزنهم في الآخرة فالأمر بالضحك وبالبكاء مستعمل في الإخبار بحصولهما قطعا إذ جعلا من أمر الله أو هو أمر تكوين مثل قوله: {فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] والمعنى أن فرحهم زائل وأن بكاءهم دائم.
والضحك: كيفية في الفم تتمدد منها الشفتان وربما أسفرتا عن الأسنان وهي كيفية تعرض عند السرور والتعجب من الحسن.
والبكاء: كيفية في الوجه والعينين تنقبض بها الوجنتان والأسارير والأنف. ويسيل الدمع من العينين، وذلك يعرض عند الحزن والعجز عن مقاومة الغلب.
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} حال من ضميرهم، أي جزاء لهم، والمجعول جزاء هو البكاء المعاقب للضحك القليل لأنه سلب نعمة بنقمة عظيمة.
وما كانوا يكسبون هو أعمال نفاقهم، واختير الموصول في التعبير عنه لأنه أشمل مع الإيجاز.
وفي ذكر فعل الكون وصيغة المضارع في {يَكْسِبُونَ} ما تقدم في قوله: {وَلَكِنْ
(10/168)
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70].
[83] {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} .
الفاء للتفريع على ما آذن به قوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81] إذ فرّع على الغضب عليهم وتهديدهم عقاب آخر لهم، بإبعادهم عن مشاركة المسلمين في غزواتهم.
وفعل رجع يكون قاصرا ومتعديا مرادفا لأرجع. وهو هنا متعد، أي أرجعك الله.
وجعل الإرجاع إلى طائفة من المنافقين المخلفين على وجه الإيجاز لأن المقصود الإرجاع إلى الحديث معهم في مثل القصة المتحدث عنها بقرينة قوله: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} ولما كان المقصود بيان معاملته مع طائفة، اختصر الكلام، فقيل: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ} ، وليس المراد الإرجاع الحقيقي كما جرت عليه عبارات أكثر المفسرين وجعلوه الإرجاع من سفر تبوك مع أن السورة كلها نزلت بعد غزوة تبوك بل المراد المجازي، أي تكرر الخوض معهم مرة أخرى.
والطائفة: الجماعة وتقدمت في قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} في سورة آل عمران [154]. أو قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء[102].
والمراد بالطائفة هنا جماعة من المخلفين دل عليها قوله: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي إلى طائفة منهم يبتغون الخروج للغزو، فيجوز أن تكون هذه الطائفة من المنافقين أرادوا الخروج للغزو طمعا في الغنيمة أو نحو ذلك. ويجوز أن يكون طائفة من المخلفين تابوا وأسلموا فاستأذنوا للخروج للغزو. وعلى الوجهين يحتمل أن منعهم من الخروج للخوف من غدرهم إن كانوا منافقين أو لمجرد التأديب لهم إن كانوا قد تابوا و آمنوا.
وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم صالح للوجهين.
والجمع بين النفي ب {لَنْ} وبين كلمة {أَبَدًا} تأكيد لمعنى لن لانتفاء خروجهم في المستقبل إلى الغزو مع المسلمين.
وجملة: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} مستأنفة للتعداد عليهم والتوبيخ، أي أنكم تحبون القعود وترضون به فقد زدتكم منه.
وفعل: {رَضِيتُمْ} يدل على أن ما ارتكبوه من القعود عمل من شأنه أن يأباه الناس
(10/169)
حتى أطلق على ارتكابه فعل رضي المشعر بالمحاولة والمراوضة. جعلوا كالذي يحاول نفسه على عمل وتأبى حتى يرضيها كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} [التوبة:38] وقد تقدم ذلك.
وانتصب {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هنا على الظرفية لأن المرة هنا لما كانت في زمن معروف لهم وهو زمن الخروج إلى تبوك ضمنت معنى الزمان. وانتصاب المصدر بالنيابة عن اسم الزمان شائع في كلامهم، بخلاف انتصابها في قوله: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة:13] وفي قوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] كما تقدم. و {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي غزوة تبوك التي تخلفوا عنها.
وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة اقتصر على الإفراد والتذكير ولو كان المضاف إليه غير مفرد ولا مذكر لأن في المضاف إليه دلالة على المقصود كافية.
والفاء في {فَاقْعُدُوا} تفريع على {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} ، أي لما اخترتم القعود لأنفسكم فاقعدوا الآن لأنكم تحبون التخلف.
و {الْخَالِفِينَ} جمع خالف وهو الذي يخلف الغازي في أهله وكانوا يتركون لذلك من لا غناء له في الحرب. فكونهم مع الخالفين تعيير لهم.
[84] {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
لما انقضى الكلام على الاستغفار للمنافقين الناشيء، عن الاعتذار والحلف الكاذبين وكان الإعلام بأن الله لا يغفر لهم مشوبا بصورة التخيير في الاستغفار لهم، وكان ذلك يبقي شيئا من طمعهم في الانتفاع بالاستغفار لأنهم يحسبون المعاملة الربانية تجري على ظواهر الأعمال والألفاظ كما قدمناه في قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} [التوبة:81]، تهيأ الحال للتصريح بالنهي عن الاستغفار لهم والصلاة على موتاهم، فإن الصلاة على الميت استغفار.
فجملة {وَلاَ تُصَلِّ} عطف على جملة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] عطف كلام مراد إلحاقه بكلام آخر لأن القرآن ينزل مراعى فيه مواقع وضع الآي.
وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى المنافقين الذين عرفوا بسيماهم وأعمالهم الماضية الذكر.
(10/170)
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري والترمذي من حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب قال: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله ليصلي عليه، فلما قام رسول الله وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا وكذا، كذا وكذا أعدّد عليه قوله، فتبسم رسول الله وقال: "أخر عني يا عمر" فلما أكثرت عليه قال: "إني خيّرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" . قال: فصلى عليه رسول الله ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله والله ورسوله أعلم اه". وفي رواية أخرى فلم يصل رسول الله على أحد منهم بعد هذه الآية حتى قبض صلى الله عليه وسلم وإنما صلى عليه وأعطاه قميصه ليكفن فيه إكراما لابنه عبد الله وتأليفا للخزرج.
وقوله: {مِنْهُمْ} صفة {أَحَدٍ} . وجملة {مَاتَ} صفة ثانية ل {أَحَدٍ} .
ومعنى {وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} لا تقف عليه عند دفنه لأن المشاركة في دفن المسلم حق على المسلم على الكفاية كالصلاة عليه فترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليهم وحضور دفنهم إعلان بكفر من ترك ذلك له.
وجملة: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تعليلية ولذلك لم تعطف وقد أغنى وجود (إن) في أولها عن فاء التفريع كما هو الاستعمال.
والفسق مراد به الكفر فالتعبير ب {فَاسِقُونَ} عوض (كَافِرُونَ) مجرد تفنن. والأحسن أن يفسر الفسق هنا بالخروج عن الإيمان بعد التلبس به، أي بصورة الإيمان فيكون المراد من الفسق معنى أشنع من الكفر.
وضمائر {إِنَّهُمْ كَفَرُوا} {وَمَاتُوا} {وَهُمْ فَاسِقُونَ} عائدة إلى {أَحَدٍ} لأنّه عام لكونه نكرة في سياق النهي والنهي كالنفي. وأما وصفه بالإفراد في قوله: {مَاتَ} فجرى على لفظ الموصوف لأن أصل الصفة مطابقة الموصوف.
[85] {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون، أي لا تعجبكم. والجملة معطوفة على
(10/171)
جملة النهي عن الصلاة عليهم.
ومناسبة ذكر هذا الكلام هنا أنه لما ذكر ما يدل على شقاوتهم في الحياة الآخرة كان ذلك قد يثير في نفوس الناس أن المنافقين حصلوا سعادة الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد وخسروا الآخرة. وربما كان في ذلك حيرة لبعض المسلمين أن يقولوا: كيف من الله عليهم بالأموال والأولاد وهم أعداؤه وبغضاء نبيه. وربما كان في ذلك أيضا مسلاة لهم بين المسلمين، فأعلم الله المسلمين أن تلك الأموال والأولاد وإن كانت في صورة النعمة فهي لهم نقمة وعذاب، وأن الله عذبهم بها في الدنيا بأن سلبهم طمأنينة البال عليها لأنهم لما اكتسبوا عداوة الرسول والمسلمين كانوا يحذرون أن يغري الله رسوله بهم فيستأصلهم، كما قال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61،60]، ثم جعل ذلك مستمرا إلى موتهم على الكفر الذي يصيرون به إلى العذاب الأبدي.
وقد تقدم نظير هذه الآية في هذه السورة عند ذكر شحهم بالنفقة في قوله: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة:53] الآيتين، فأفيد هنالك عدم انتفاعهم بأموالهم وأنها عذاب عليهم في الدنيا، ثم أعيدت الآية بغالب ألفاظها هنا تأكيدا للمعنى الذي اشتملت عليه إبلاغا في نفي الفتنة والحيرة عن الناس.
ولكن هذه الآية خالفت السابقة بأمور:
أحدها: أن هذه جاء العطف في أولها بالواو والأخرى عطفت بالفاء. ومناسبة التفريع هنالك تقدم بيانها، ومناسبة عدم التفريع هنا أن معنى الآية هذه ليس مفرعا على معنى الجملة المعطوف عليها ولكن بينهما مناسبة فقط.
ثانيهما: أن هذه الآية عطف فيها الأولاد على الأموال بدون إعادة حرف النفي، وفي الآية السالفة أعيدت (لا) النافية، ووجه ذلك أن ذكر الأولاد في الآية السالفة لمجرد التكملة والاستطراد إذ المقام مقام ذم أموالهم إذ لم ينتفعوا بها فلما كان ذكر الأولاد تكملة كان شبيها بالأمر المستقل فأعيد حرف النفي في عطفه، بخلاف مقام هذه الآية فإن أموالهم وأولادهم معا مقصود تحقيرهما في نظر المسلمين.
ثالثهما: أنه جاء هنا قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} بإظهار {أَنْ} دون لام، وفي
(10/172)
الآية السالفة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لِيُعَذِّبَهُمْ} [التوبة:55] بذكر لام التعليل وحذف (أَنْ) بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} - إلى قوله - {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} في سورة النساء [27،26]. وحذف حرف الجر مع (أن) كثير. وهنالك قدرت أن بعد اللام وتقدير (أن) بعد اللام كثير. ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنن على أن تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة، وقيل: تفيد التعليل. وسماها بعض أهل اللغة {لامَ أنْ} ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].
رابعها: أنه جاء في هذه الآية {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} وجاء في الآية السالفة {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] ونكتة ذلك أن الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة. وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84] فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثا.
وبقية تفسير هذه الآية كتفسير سالفتها.
[86] {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتبها في القبول. دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلفين عن الجهاد نفاقا وتخذيلا للمسلمين، ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] ثم قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} [التوبة:42] وكل ذلك مقصود به المنافقون.
ولأجل كون هذه الآية غرضا جديدا ابتدئت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد. والمراد بها هذه السورة، أي سورة براءة، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] فهذا الوصف وصف مقدر شبيه بالحال المقدرة.
وابتدئي بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} .
(10/173)
والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفا وقبيل هذا.
ولماّ كانت السورة ألفاظا وأقوالا صح بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله: {أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} تفسير للسورة و {أَنْ} فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبه بدل البعض من الكل.
وليس المراد لفظ {آمِنُوا} وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:38] الآيات وقوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة:44]. والطول السعة في المال قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25]. وقد تقدم. والاقتصار على الطول يدل على أن أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن. فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادرا ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدل عليه قوله بعد {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة:91]. والمراد بأولي الطول أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس.
وعطف {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} على {اسْتَأْذَنَكَ} لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود. وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأن الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأن ابتدئ ب {ذَرْنَا} المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة. وبأن يكونوا تبعا للقاعدين الذين فيهم العجز والضعفاء والجبناء، لما تؤذن به كلمة {مَعَ} من الإلحاق والتبعية.
وقد تقدم أن (ذر) أمر من فعل ممات وهو (وذر) استغنوا عنه بمرادفه وهو (ترك) في قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} في سورة الأنعام[70].
[87] {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} .
(10/174)
استئناف قصد منه التعجيب من دناءة نفوسهم وقلة رجلتهم بأنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا تبعا للنساء. وفي اختيار فعل {رَضُوا} إشعار بأن ما تلبسوا به من الحال من شأنه أن يتردد العاقل في قبوله كما تقدم في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ} [التوبة:38] وقوله: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة:83].
والخوالف: جمع خالفة وهي المرأة التي تتخلف في البيت بعد سفر زوجها فإن سافرت معه فهي الظعينة، أي رضوا بالبقاء مع النساء.
والطبع تمثيل لحال قلوبهم في عدم قبول الهدى بالإناء أو الكتاب المختوم. والطبع مرادف الختم. وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة[7]. وأسند الطبع إلى المجهول إما للعلم بفاعله وهو الله، وإما للإشارة إلى أنهم خلقوا كذلك وجبلوا عليه وفرع على الطبع انعدام علمهم بالأمور التي يختص بعلمها أهل الأفهام، وهو العلم المعبر عنه بالفقه، أي إدراك الأشياء الخفية، أي فآثروا نعمة الدعة على سمعة الشجاعة وعلى ثواب الجهاد إذ لم يدركوا إلا المحسوسات فلذلك لم يكونوا فاقهين وذلك أصل جميع المضار في الدارين.
وجيء في إسناد نفي الفقاهة عنهم بالمسند الفعلي للدلالة على تقوي الخبر وتحقيق نسبته إلى المخبر عنهم وتمكنه منهم.
[88] {لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} .
افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأن مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلا وتفريعا. فلما كان قعود المنافقين عن الجهاد مسببا على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، كان المؤمنون على الضد من ذلك. وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأن تعلقهم به واتباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرهم، فقيل: {لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} .
وقوله: {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} مقابل قوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة:86].
وقوله: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} مقابل قوله: {وَطُبِعَ عَلَى
(10/175)
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة:87] كما تقدّم.
وفي حرف الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسول كقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [التوبة:41].
وفي قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} تعريض بأن الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين.
و {مَعَهُ} في موضع الحال من {الَّذِينَ} لتدل على أنهم أتباع له في كل حال وفي كل أمر، فإيمانهم معه لأنهم آمنوا به عند دعوته إياهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه، وفيه إشارة إلى أن الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته.
وعطفت جملة: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} على جملة {جَاهَدُوا} ولم تفصل مع جواز الفصل ليدل بالعطف على أنها خبر عن الذين آمنوا، أي على أنها من أوصافهم وأحوالهم لأن تلك أدل على تمكن مضمونها فيهم من أن يؤتى بها مستأنفة كأنها إخبار مستأنف.
والإتيان باسم الإشارة لإفادة أن استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم.
والخبرات: جمع خير على غير قياس. فهو مما جاء على صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامته مثل سرادقات وحمامات.
وجعله كثير من اللغويين جمع (خَيْرَة) بتخفيف الياء مخفف (خَيّرة) المشدد الياء التي هي أنثى (خَيِّر)، أو هي مؤنث (خَيْر) المخفف الياء الذي هو بمعنى أخير. وإنما أنثوا وصف المرأة منه لأنهم لم يريدوا به التفضيل، وعلى هذا كله يكون خيرات هنا مؤولا بالخصال الخيرة، وكل ذلك تكلف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر. والمراد منافع الدنيا والآخرة. فاللام فيه للاستغراق. والقول في {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} كالقول في نظيره في أول سورة البقرة.
[89] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
(10/176)
استئناف بياني لجواب سؤال ينشأ عن الإخبار ب {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} [التوبة:88].
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والتهمم بشأنهم. وتقدم القول في نظير هذه الآية في قوله قبل {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة:72] الآية.
[90] {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
عطفت جملة: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} على جملة {رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ} [التوبة:86]، وما بينهما اعتراض، فالمراد بالمعذرين فريق من المؤمنين الصادقين من الأعراب، كما تدل عليه المقابلة بقوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . وعلى هذا المعنى فسر ابن عباس، ومجاهد، وكثير. وجعلوا من هؤلاء غفارا، وخالفهم قتادة فجعلهم المعتذرين كذبا وهم بنو عامر رهط عامر بن الطفيل، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن خرجنا معك أغارت أعراب طيء على بيوتنا. ومن المعذرين الكاذبين أسد، وغطفان.
وعلى الوجهين في التفسير يختلف التقدير في قوله: {الْمَعْذُورُونَ} فإن كانوا المحقين في العذر فتقدير {الْمُعَذِّرُونَ} أن أصله المعتذرون، من اعتذر أدغمت التاء في الذال لتقارب المخرجين لقصد التخفيف، كما أدغمت التاء في الصاد في قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49]، أي يختصمون.
وإن كانوا الكاذبين في عذرهم فتقدير المعذرون: أنه اسم فاعل من عذر بمعنى تكلف العذر فعن ابن عباس: لعن الله المعذرين. قال الأزهري: ذهب إلى أنهم الذين يعتذرون بلا عذر فكأن الأمر عنده أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً وهو لا عذر له اه. وقال شارح "ديوان النابغة" عند قول النابغة:
ودع أمامة والتوديع تعذير ... أي لا يجد عذرا غير التوديع.
ويجوز أن يكون اختيار صيغة المعذرين من لطائف القرآن لتشمل الذين صدقوا في العذر والذين كذبوا فيه.
والاعتذار افتعال من باب ما استعمل فيه مادة الافتعال للتكلف في الفعل والتصرف
(10/177)
مثل الاكتساب والاختلاق. وليس لهذا المزيد فعل مجرد بمعناه وإنما المجرد هو عذر بمعنى قبل العذر. والعذر البينة والحالة التي يتنصل بها من تبعة أو ملام عند من يتعذر إليه.
وقرأ يعقوب {الْمُعَذِّرُونَ} - بسكون العين وتخفيف الذال -، من أعذر إذا بالغ في الاعتذار.
والأعراب اسم جمع يقال في الواحد: أعرابي - بياء النسب - نسبة إلى اسم الجمع كما يقال مجوسي لواحد المجوس. وصيغة الأعراب من صيغ الجموع ولكنه لم يكن جمعا لأنه لا واحد له من لفظ جمعه فلذلك جعل اسم جمع. وهم سكان البادية.
وأما قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فهم الذين أعلنوا بالعصيان في أمر الخروج إلى الغزو من الأعراب أيضا كما ينبي عنه السياق، أي قعدوا دون اعتذار. فالقعود هو عدم الخروج إلى الغزو. وعلم أن المراد القعود دون اعتذار من مقابلته بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ} .
وجملة {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} عطف على جملة {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ} وهذا فريق آخر من الأعراب خليط من مسلمين ومنافقين {كَذَبُوا} بالتخفيف، أي كانوا كاذبين. والمراد أنهم كذبوا في الإيمان الذي أظهروه من قبل، ويحتمل أنهم كذبوا في وعدهم النصر ثم قعدوا دون اعتذار بحيث لم يكن تخلفهم مترقبا لأن الذين اعتذروا قد علم النبي - عليه الصلاة والسلام - أنهم غير خارجين معه بخلاف الآخرين فكانوا محسوبين في جملة الجيش. وتخلفهم أشد إضرار لأنه قد يفل من حدة كثير من الغزاة.
وجملة {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة لابتداء وعيد.
وضمير {مِنْهُمْ} يعود إلى المذكورين فهو شامل للذين كذبوا الله ورسوله ولمن كان عذره ناشئا عن نفاق وكذب.
وتنكير عذاب للتهويل والمراد به عذاب جهنم.
[91] {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
(10/178)
استئناف بياني لجواب سؤال مقدر ينشأ عن تهويل القعود عن الغزو وما توجه إلى المخلفين من الوعيد. استيفاء لأقسام المخلفين من ملوم ومعذور من الأعراب أو من غيرهم.
وإعادة حرف النفي في عطف الضعفاء والمرضى لتوكيد نفي المؤاخذة عن كل فريق بخصوصه.
والضعفاء: جمع ضعيف وهو الذي به الضعف وهو وهن القوة البدنية من غير مرض.
والمرضى: جمع مريض وهو الذي به مرض. والمرض تغير النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج، ومن المرض المزمن كالعمى والزمانة وتقدم في قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} في سورة النساء [43].
والحرج: الضيق ويراد به ضيق التكليف، أي النهي.
والنصح: العمل النافع للمنصوح وقد تقدم عند قوله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} في سورة الأعراف [79] وتقدم وجه تعديته باللام وأطلق هنا على الإيمان والسعي في مرضاة الله ورسوله والامتثال والسعي لما ينفع المسلمين، فإن ذلك يشبه فعل الموالي الناصح لمنصوحه.
وجملة: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} واقعة موقع التعليل لنفي الحرج عنهم وهذه الجملة نظمت نظم الأمثال. فقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} دليل على علة محذوفة. والمعنى ليس على الضعفاء ولا على من عطف عليهم حرج إذا نصحوا لله ورسوله لأنهم محسنون غير مسيئين وما على المحسنين من سبيل، أي مؤاخذة أو معاقبة. والمحسنون الذين فعلوا الإحسان وهو ما فيه النفع التام.
والسبيل: أصله الطريق ويطلق على وسائل وأسباب المؤاخذة باللوم والعقاب لأن تلك الوسائل تشبه الطريق الذي يصل منه طالب الحق إلى مكان المحقوق ولمراعاة هذا الإطلاق جعل حرف الاستعلاء في الخبر عن السبيل دون حرف الغاية. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وقوله: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} كلاهما في سورة النساء [90]. فدخل في المحسنين هؤلاء الذين نصحوا لله
(10/179)
ورسوله. وليس ذلك من وضع المظهر موضع المضمر لأن هذا مرمى آخر هو أسمى وأبعد غاية.
و {مِنْ} مؤكدة لشمول النفي لكل سبيل.
وجملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل والواو اعتراضية، أي شديد المغفرة ومن مغفرته أن لم يؤاخذ أهل الأعذار بالقعود عن الجهاد. شديد الرحمة بالناس ومن رحمته أن لم يكلف أهل الإعذار ما يشق عليهم.
[92] {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} .
عطف على {الضُّعَفَاءِ} و {الْمَرْضَى} . وإعادة حرف النفي بعد العاطف للنكتة المتقدمة هنالك.
والحمل يطلق على إعطاء ما يحمل عليه، أي إذا أتوك لتعطيهم الحمولة، أي ما يركبونه ويحملون عليه سلاحهم ومؤنهم من الإبل.
وجملة: {قُلْتَ لاَ أَجِدُ} الخ إما حال من ضمير المخاطب في {أَتَوْكَ} وإما بدل اشتمال من فعل {أَتَوْكَ} لأن إتيانهم لأجل الحمل يشتمل على إجابة، وعلى منع.
وجملة {تَوَلَّوا} جواب {إِذَا} ، والمجموع صلة الذين.
والتولي الرجوع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ} [البقرة:142] وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} في سورة البقرة [205].
والفيض والفيضان خروج الماء ونحوه من قراره ووعائه، ويسند إلى المائع حقيقة. وكثيرا ما يسند إلى وعاء المائع، فيقال: فاض الوادي، وفاض الإناء. ومنه فاضت العين دمعا وهو أبلغ من فاض دمعهما، لأن العين جعلت كأنها كلها دمع فائض، فقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} جرى على هذا الأسلوب.
و{مِنَ} لبيان ما منه الفيض. والمجرور بها في معنى التمييز. وقد تقدم في قوله تعالى: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} في سورة المائدة [83].
و {حَزَنًا} نصب على المفعول لأجله، و {أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} مجرور بلام جرّ
(10/180)
محذوف أي حزنوا لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
والآية نزلت في نفر من الأنصار سبعة وقيل: فيهم من غير الأنصار واختلف أيضا في أسمائهم بما لا حاجة إلى ذكره ولقبوا بالبكائين لأنهم بكوا لما لم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان حزنا على حرمانهم من الجهاد. وقيل: نزلت في أبي موسى الأشعري ورهط من الأشعريين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يستحملونه فلم يجد لهم حمولة وصادفوا ساعة غضب من النبي صلى الله عليه وسلم فخلف أن لا يحملهم ثم جاءه نهب إبل فدعاهم وحملهم وقالوا: استغفلنا رسول الله يمينه لا نفلح أبدا، فرجعوا وأخبروه فقال: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير" والظاهر أن هؤلاء غير المعنيين في هذه الآية لأن الأشعريين قد حملهم النبي - عليه الصلاة والسلام - وعن مجاهد أنهم بنو مقرن من مزينه، وهم الذين قيل: إنه نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] الآية.
[93] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
لما نفت الآيتان أن يكون سبيل على المؤمنين الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون والذين لم يجدوا حمولة، حصرت هذه الآية السبيل في كونه على الذين يستأذنون في التخلف وهم أغنياء، وهو انتقال بالتخلص إلى العودة إلى أحوال المنافقين كما دل عليه قوله بعدُ {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة:94]، فالقصر إضافي بالنسبة للأصناف الذين نفي أن يكون عليهم سبيل.
وفي هذا الحصر تأكيد للنفي السابق، أي لا سبيل عقاب إلا على الذين يستأذنونك وهم أغنياء. والمراد بهم المنافقون بالمدينة الذين يكرهون الجهاد إذ لا يؤمنون بما وعد الله عليه من الخيرات وهم أولو الطول المذكورون في قوله: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} [التوبة:86] الآية.
والسبيل: حقيقته الطريق. ومر في قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، وقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} مستعار لمعنى السلطان والمؤاخذة بالتبعة، شبه السلطان والمؤاخذة بالطريق لأن السلطة يتوصل بها من هي له إلى
(10/181)
تنفيذ المؤاخذة في الغير. ولذلك عدي بحرف (على) المفيد لمعنى الاستعلاء، وهو استعلاء مجازي بمعنى التمكن من التصرف في مدخول
(على). فكان هذا التركيب استعارة مكنية رمز إليها بما هو من ملائمات المشبه به وهو حرف (على). وفيه استعارة تبعية.
والتعريف باللام في قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ} تعريف العهد، والمعهود هو السبيل المنفي في قوله تعالى: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] على قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة، أي إنما السبيل المنفي عن المحسنين مثبت للذين يستأذنوك وهم أغنياء. ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في سورة الشورى [42]. فدل ذلك على أن المراد بالسبيل العذاب.
والمعنى ليست التبعة والمؤاخذة إلا على الذين يستأذنوك وهم أغنياء، الذين أرادوا أن يتخلفوا عن غزوة تبوك ولا عذر لهم يخولهم التخلف. وقد سبقت آية {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} من سورة النساء [90]، وأحيل هنالك تفسيرها على ما ذكرناه في هذه الآية.
وجملة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} مستأنفة لجواب سؤال ينشأ عن علة استيذانهم في التخلف وهو أغنياء، أي بعثهم على ذلك رضاهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء. وقد تقدم القول في نظيره آنفا.
وأسند الطبع على قلوبهم إلى الله في هذه الآية بخلاف ما في الآية السابقة {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة:87] لعله للإشارة إلى أنه طبع غير الطبع الذي جبلوا عليه بل هو طبع على طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عماية، ولأجل هذا المعنى فرع عليه {َهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لنفي أصل العلم عنهم، أي يكادون أن يساووا العجماوات.
[94] {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف ابتدائي لأن هذا الاعتذار ليس قاصرا على الذين يستأذنوك في التخلف فإن الإذن لهم يغنيهم عن التبرؤ بالحلف الكاذب، فضمير {يَعْتَذِرُونَ} عائد إلى أقرب معاد
(10/182)
وهو قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:90] فإنهم فريق من المنافقين فهم الذين اعتذروا بعد رجوع الناس من غزوة تبوك وجعل المسند فعلا مضارعا لإفادة التجدد والتكرير.
و {إِذَا} هنا مستعملة للزمان الماضي لأن السورة نزلت بعد القفول من غزوة تبوك وجعل الرجوع إلى المنافقين لأنهم المقصود من الخبر الواقع عند الرجوع.
والخطاب للمسلمين لأن المنافقين يقصدون بأعذارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعيدونها مع جماعات المسلمين. والنهي في قوله: {لاَ تَعْتَذِرُوا} مستعمل في التأييس.
وجملة: {لَنْ نُؤْمِنَ} في موضع التعليل للنهي عن الاعتذار لعدم جدوى الاعتذار، يقال: آمن له إذا صدقه. وقد تقدم في هذه السورة [61] قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}
وجملة: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليل لنفي تصديقهم، أي قد نبأنا الله من أخباركم بما يقتضي تكذيبكم، فالإبهام في المفعول الثاني ل {نَبَّأَنَا} الساد مسد مفعولين تعويل على أن المقام يبينه.
و {مِنْ} اسم بمعنى بعض، أو هي صفة لمحذوف تقديره: قد نبأنا الله اليقين من أخباركم.
وجملة: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} عطف على جملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} ، أي لا فائدة في اعتذاركم فإن خشيتم المؤاخذة فاعملوا الخير للمستقبل فسيرى الله عملكم ورسوله إن أحسنتم؛ فالمقصود فتح باب التوبة لهم، والتنبيه إلى المكنة من استدراك أمرهم. وفي ذلك تهديد بالوعيد إن لم يتوبوا.
فالإخبار برؤية الله ورسوله عملهم في المستقبل مستعمل في الكناية عن الترغيب في العمل الصالح، والترهيب من الدوام على حالهم. والمراد: تمكنهم من إصلاح ظاهر أعمالهم، ولذلك أردف بقوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، أي تصيرون بعد الموت إلى الله. فالرد بمعنى الإرجاع، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ} في سورة الأنعام [62].
والرد: الإرجاع. والمراد به هنا مصير النفوس إلى عالم الخلد الذي لا تصرف فيه لغير الله ولو في ظاهر الأمر. ولما كانت النفوس من خلق الله وقد أنزلها إلى عالم الفناء
(10/183)
الدنيوي فاستقلت بأعمالها مدة العمر كان مصيرها بعد الموت أو عند البعث إلى تصرف الله فيها شبيها برد شيء إلى مقره أو إرجاعه إلى مالكه.
والغيب: ما غاب عن علم الناس. والشهادة: المشاهدة. واللام في {الْغَيْبِ} و {وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق، أي كل غيب وكل شهادة.
والعدول عن أن يقال: لم تردون إليه، أي إلى الله، لما في الإظهار من التنبيه على أنه لا يعزب عنه شيء من أعمالهم، زيادة في الترغيب والترهيب ليعلموا انه لا يخفى على الله شيء.
والإنباء: الإخبار. وما كنتم تعملون: علم كل عمل عملوه.
واستعمل {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في لازم معناه، وهو المجازاة على كل ما عملوه، أي فتجدونه عالما بكل ما عملتموه. وهو كناية؛ لأن ذكر المجازاة في مقام الإجرام والجناية لازم لعموم علم ملك يوم الدين بكل ما عملوه.
[95] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم. ومعناها ناشئ عن مضمون جملة {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة:94] تنبيها على أنهم لا يرعوون عن الكذب ومخادعة المسلمين، فإذا قيل لهم {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة:94] حلفوا على أنهم صادقون ترويجا لخداعهم: وهذا إخبار بما سيلاقي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
و {إِذَا} هنا ظرف للزمن الماضي.
وحذف المحلوف عليه لظهوره، ولتقدم نظيره في قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في قوله: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} في آل عمران[144].
وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم، أي عن عتابهم وتقريعهم، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطبيب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملص من مسبة العتاب ولذعه. ولذلك قال في الآيتين الأخريين {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}
(10/184)
[التوبة:62] {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة:96] لأن ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يعرض المسلمون عنهم.
وأدخل حرف (عن) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم. ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} ، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً.
وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنه أجيبت طلبته حتى إذا تأمل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأسا لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملة المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أو من القول بالموجب.
وجملة: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل للأمر بالإعراض. ووقوع (إن) في أولها مؤذن بمعنى التعليل.
والرجس: الخبث. والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس. فهو رجس معنوي. كقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
والمأوى: المصير والمرجع.
و {جَزَاءً} حال من {جَهَنَّمُ} ، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون.
[96] {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة:95] لأنهم إذا حلفوا لأجل أن يعرض عنهم المسلمون فلا يلومونهم، فإن ذلك يتضمن طلبهم رضى المسلمين.
وقد فرع الله على ذلك أنه إن رضي المسلمون عنهم وأعرضوا عن لومهم فإن الله لا يرضى عن المنافقين. وهذا تحذير للمسلمين من الرضى عن المنافقين بطريق الكناية إذ قد
(10/185)
علم المسلمون أن ما لا يرضي الله لا يكون للمسلمين أن يرضوا به.
والقوم الفاسقون هم هؤلاء المنافقون. والعدول عن الإتيان بضمير (هم) إلى التعبير بصفتهم للدلالة على ذمهم وتعليل عدم الرضى عنهم، فالكلام مشتمل على خبر وعلى دليله فأفاد مفاد كلامين لأنه ينحل إلى: فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
[97] {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب. فلما تقضى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب. وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه، وهو لفظ (الأعراب) للاهتمام به من هذه الجهة، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيرا.
و(أشد) و(أجدر) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر، أي كفار ومنافقي المدينة. وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين.
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة. ومنافقوهم أشد نفاقا من منافقي المدينة.
وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعد عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفورا. ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي، وكان يدعي الإسلام، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الاقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قسمه قال ذو الخويصرة مواجها النبي صلى الله عليه وسلم "اعدل" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ويحك ومن يعدل إن لم أعدل" .
فإن الإعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام، وهم لبعدهم عن مشاهدة أنوار
(10/186)
النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباح مساء أجهل بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي توثر سموا في النفوس البشرية، وإتقانا في وضع الأشياء في مواضعها، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأوضع للتراث العلمي والخلقي؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذر لما عزم على سكنى الربذة: تعهد المدينة كيلا ترتد أعرابيا.
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به.
ويجوز أن يكون {أَشَدُّ} و {أَجْدَرُ} مسلوبي المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفين بهما على طريقة قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]. فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك، من غير إرادة أنهم أشد كفرا ونفاقا من كفار أهل المدينة ومنافقيها. وعلى كلا الوجهين فإن {كُفْرًا وَنِفَاقًا} منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف {أَشَدُّ} . سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن.
والأجدر: الأحق. والجدارة: الأولوية. وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع (أن) المصدرية.
والحدود: المقادير والفواصل بين الأشياء. والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها.
وفي هذا الوصف يظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة. وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، فزيادة قيد (على ما هي عليه) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات.
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم، أي عليم بهم وبغيرهم، وحكيم في تمييز مراتبهم.
[98] {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
(10/187)
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هذا فريق من الأعراب يظهر الإيمان وينفق في سبيل الله. وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفا من الغزو أو حبا للمحمدة وسلوكا في مسلك الجماعة، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكنهم من الانقلاب على أعقابهم. وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق، لأن التقاسيم في المقامات الخطابية والمجادلات تعتمد اختلافا ما في أحوال المقسم، ولا يعبأ فيها بدخول القسم في قسيمه.
فقوله: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} هو في التقسيم كقوله: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99]. ومعنى {يَتَّخِذُ} يعد ويجعل، لأن اتخذ من أخوات جعل. والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة بردا. ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91] فكذلك {يَتَّخِذُ} هنا.
والمغرم: ما يدفع من المال قهرا وظلما، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعدون ذلك كالاتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية. ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام:
فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلم فان المشرفي الفرائض
أي فرائض الزكاة هي السيف، أي يعطون الساعي ضرب السيف بدلا عن الزكاة.
والتربص: الانتظار. والدوائر: جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} في سورة العقود [52].
والباء للسببية كقوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] وجعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف. والتقدير: ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سببا لانتظار الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم.
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو
(10/188)
كامن فيهم من الكفر. وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب.
وجملة: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاء عليهم وتحقير، ولذلك فصلت. والدعاء من الله على خلقه: تكوين وتقدير مشوب بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده. وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} في سورة البقرة [89].
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين.
وإضافة {دَائِرَةُ} إلى {السَّوْءِ} من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم: عشاء الآخرة. إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء. قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق:
فكنت كذئب السوء حين رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس. والسوء - بفتح السين - المصدر، وبضمها الاسم. وقد قرأ الجمهور بفتح السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين. والمعنى واحد.
وجملة: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه.
[99] {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخرين المذكورين في قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] - وقوله - {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98]. قيل: هم بنو مقرن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92] الآية كما تقدم. ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزني - هو ابن مغفل. والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك.
وتقدم قريبا معنى {يَتَّخِذُ} .
(10/189)
و {قُرُبَاتٍ} - بضم القاف وضم الراء -: جمع قربة بسكون الراء. وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقربا عند الله. وجمع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب. قال تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]. ف {قُرُبَاتٍ} هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت ب {عِنْدَ} الدالة على مكان الدنو. و(عِنْدَ) مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبه بدار الكرامة عند الله. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍفِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55،54].
و {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} دعواته. وأصل الصلاة الدعاء. وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالا لما أمره الله بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]. وجاء في حديث ابن أبي أوفى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على آل أبي أوفى" .
ويجوز عطف {صَلَوَاتِ الرَّسُولِ} على اسم الجلالة معمولا ل {عِنْدَ} ، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقربا كائنا في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيها للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سببا لدعاء الرسول لهم. فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين. ويجوز أن يكون {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} عطفا على {قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} ، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول. أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالأنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103].
وجملة: {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه.
وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم (إن) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات. واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول. وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه. وتنكير {قُرْبَة} لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.
وجملة: {سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} واقعة موقع البيان لجملة {إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} ، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة. والقربة عند صلوات
(10/190)
الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته. والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته. وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيرا ما يقال: دخل الجنة. قال تعالى: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:30].
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم. وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.
وقرأ الجمهور {قُرْبَةٌ} بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف.
[100] {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
عقب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذي متطلب الصلاح حذوهم، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويها به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.
فالجملة عطف على جملة: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98].
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معا، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدرا. وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله: {وَالأَنصَارِ} للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين. وفي "أحكام ابن العربي" ما يشبه أن رأيه
(10/191)
أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي: أن السابقين من أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يقصر وصف السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بفخض {وَالأَنصَارِ} .
و {مِنْ} للتبعيض لا للبيان.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد.
وقرأ الجمهور {وَالأَنصَارِ} بالخفض عطفا على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب {وَالأَنصَارُ} بالرفع، فيكون عطفا على وصف {وَالسَّابِقُونَ} ويكون المقسم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم إلى الايمان، أي آمنوا بعد السابقين: ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.
والإحسان: هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازا بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:60] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.
وجملة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خبر عن {وَالسَّابِقُونَ} . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار.
(10/192)
وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (من) مع (تحتها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.
وثبتت (من) في مصحف مكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
[101] {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.
وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم.
وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت. و(من) في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} للتبعيض و(من) في قوله: {مِنْ الأَعْرَابِ} لبيان {مِنْ} الموصولة.
و(من) في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} اسم بمعنى بعض. و {مَرَدُوا} خبر عنه، أو تجعل (من) تبعيضية مؤذنة بمبعض محذوف، تقديره: ومن أهل المدينة جماعة مردوا، كما في قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة النساء [46].
ومعنى مرد على الأمر مرن عليه ودرب به، ومنه الشيطان المارد، أي في الشيطنة.
وأشير بقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} إلى أن هذا القل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستيثار بعلمه ولم يطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبل. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمون، فالمقصود هو قوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} .
وجملة {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ
(10/193)
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف. وفيه أيضا تمهيد لقوله بعده {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} .
وجملة: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} استيناف بياني للجواب على سؤال يثيره قوله: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ، وهو أن يسأل سائل عن أثر كون الله تعالى يعلمهم، فأعلم أنه سيعذبهم على نفاقهم ولا يفلتهم منه عدم علم الرسول - عليه الصلاة والسلام - بهم. والعذاب الموصوف بمرتين عذاب في الدنيا لقوله بعده {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجودها لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله : {ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] أي تأمل تأملا متكررا. ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فأسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذابا شديدا متكررا مضاعفا، كقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] وهذا التكرر تختلف أعدداه باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
والعذاب العظيم: هو عذاب جهنم في الآخرة.
[102] {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
الأظهر أن جملة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} عطف على جملة: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} [التوبة:101]، أي وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة آخرون أذنبوا بالتخلف فاعترفوا بذنوبهم بالتقصير. فقوله: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إيجاز لأنه يدل على أنهم أذنبوا واعترفوا بذنوبهم ولم يكونوا منافقين لأن التعبير بالذنوب بصيغة الجمع يقتضي أنها أعمال سيئة في حالة الإيمان، وكذلك التعبير عن ارتكاب الذنوب بخلط العمل الصالح بالسيئ.
وكان من هؤلاء جماعة منهم الجد بن قيس، وكردم، وأرس بن ثعلبة، ووديعة ابن حزام، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لبابة في عشرة نفر اعترفوا بذنبهم في التخلف عن غزوة تبوك وتابوا إلى الله وربطوا أنفسهم في سواري المسجد النبوي أياما حتى نزلت هذه الآية في توبة الله عليهم.
(10/194)
والاعتراف: افتعال من عرف. وهو للمبالغة في المعرفة، ولذلك صار بمعنى الإقرار بالشيء وترك إنكاره، فالاعتراف بالذنب كناية عن التوبة منه، لأن الإقرار بالذنب الفائت إنما يكون عند الندم والعزم على عدم العود إليه، ولا يتصور فيه الإقلاع الذي هو من أركان التوبة لأنه ذنب مضى، ولكن يشترط فيه العزم على أن لا يعود.
وخلطهم العمل الصالح والسيئ هو خلطهم حسنات أعمالهم بسيئات التخلف عن الغزو وعدم الإنفاق على الجيش.
وقوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} جاء ذكر الشيئين المختلطين بالعطف بالواو على اعتبار استوائهما في وقوع فعل الخلط عليهما. ويقال: خلط كذا بكذا على اعتبار أحد الشيئين المختلطين متلابسين بالخلط، والتركيبان متساويان في المعنى، ولكن العطف بالواو أوضح وأحسن فهو أفصح.
وعسى: فعل رجاء. وهي من كلام الله تعالى المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهي كناية عن وقوع المرجو، وأن الله قد تاب عليهم؛ ولكن ذكر فعل الرجاء يستتبع معنى اختيار المتكلم في وقوع الشيء وعدم وقوعه.
ومعنى: {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي يقبل توبتهم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ} في سورة البقرة[37].
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مناسب للمقام.
[103] {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
لما كان من شرط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما فات وكان التخلف عن الغزو مشتملا على أمرين هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات وهو نفع المسلمين بالمال، فالأنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين.
فهذا وجه مناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها.وقد روي أن الذين اعترفوا بذنوبهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك خذها فتصدق بها وطهرنا
(10/195)
واستغفر لنا، فقال لهم: لم أؤمر بأن آخذ من أموالكم. حتى نزلت هذه الآية فأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم صدقاتهم، فالضمير عائد على آخرين اعترفوا بذنوبهم.
والتاء في {تُطَهِّرُهُمْ} تحتمل أن تكون تاء الخطاب نظرا لقوله: {خُذْ} ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة.
وأياما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي.
والتزكية: جعل الشيء زكيا، أي كثير الخيرات. فقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله: {َتُزَكِّيهِمْ} إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.
والصلاة عليهم: الدعاء لهم. وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إذا جاءه أحد بصدقته يقول: اللهم صل على آل فلان. كما ورد في حديث عبد الله بن أبي أوفى يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه في هذا الشأن بين معنى الصلاة وبين لفظها فكان يسأل من الله تعالى أن يصلي على المتصدق. والصلاة من الله الرحمة، ومن النبي الدعاء.
وجملة: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم، أي بسبب سكن لهم، أي خير. فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل.
والسكن: بفتحتين ما يسكن إليه، أي يطمأن إليه ويرتاح به. وهو مشتق من السكون بالمعنى المجازي، وهو سكون النفس، أي سلامتها من الخوف ونحوه، لأن الخوف يوجب كثرة الحذر واضطراب الرأي فتكون النفس كأنها غير مستقرة، ولذلك سمي ذلك قلقا لأن القلق كثرة التحرك. وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام:96] وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80]، ومن أسماء الزوجة السكن، أو لأن دعاءه لهم يزيد نفوسهم صلاحا وسكونا إلى الصالحات لأن المعصية تردد واضطراب، كما قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، والطاعة اطمئنان ويقين، كما قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وجملة: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل مناسب للأمر بالدعاء لهم. والمراد بالسميع هنا المجيب للدعاء. وذكره للإشارة إلى قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ففيه إيماء إلى التنويه بدعائه. وذكر العليم إيماء إلى أنه ما أمره بالدعاء لهم إلا لأن في دعائه لهم خيرا عظيما وصلاحا
(10/196)
في الأمور.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر ويعقوب {صَلَوَاتِكَ} بصيغة الجمع. وقرأه حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف {صَلاَتَكَ} بصيغة الإفراد. والقراءتان سواء، لأن المقصود جنس صلاته عليه الصلاة والسلام. فمن قرأ بالجمع أفاد جميع أفراد الجنس بالمطابقة لأن الجمع المعرف بالإضافة يعم، ومن قرأ بالإفراد فهمت أفراد الجنس بالالتزام.
[104] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
إن كان الذين اعترفوا بذنوبهم وعرضوا أموالهم للصدقة قد بقي في نفوسهم اضطراب من خوف أن لا تكون توبتهم مقبولة وأن لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رضي عنهم وكان قوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] مشيرا إلى ذلك، وذلك الذي يشعر به اقتران قبول التوبة وقبول الصدقات هنا ليناظر قوله: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:102] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] كانت جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} استينافا بيانيا ناشئا عن التعليل بقوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ} [التوبة:103]، لأنه يثير سؤال من يسأل عن موجب اضطراب نفوسهم بعد أن تابوا، فيكون الاستفهام تقريرا مشوبا بتعجيب من ترددهم في قبول توبتهم. والمقصود منه التذكير بأمر معلوم لأنهم جروا على حال نسيانه، ويكون ضمير {يَعْلَمُوا} عائدا إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
وإن كان الذين اعترفوا بذنوبهم لم يخطر ببالهم شك في قبول توبتهم وكان قوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] مجرد إرشاد من الله لرسوله إلى حكمة دعائه لهم بأن دعاءه يصلح نفوسهم ويقوي إيمانهم كان الكلام عليهم قد تم عند قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]، وكانت جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الاستطراد لترغيب أمثال أولئك في التوبة ممن تأخروا عنها، وكان ضمير {أَلَمْ يَعْلَمُوا} عائدا إلى ما هو معلوم من مقام التنزيل وهو الكلام على أحوال الأمة، وكان الاستفهام إنكاريا.
ونزل جميعهم منزلة من لا يعلم قبول التوبة، لأن حالهم حال من لا يعلم ذلك سواء
(10/197)
في ذلك من يعلم قبولها ومن لا يعلم حقيقة، وكان الكلام أيضا مسوقا للتحضيض.
وقوله: و {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} عطف على {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} ، تنبيها على أنه كما يجب العلم بأن الله يفعل ذلك يجب العلم بأن من صفاته العلى أنه التواب الرحيم، أي الموصوف بالإكثار من قبول توبة التائبين، الرحيم لعباده. ولا شك أن قبول التوبة من الرحمة فتعقيب {التَّوَّابُ} ب {الرَّحِيمُ} في غاية المناسبة.
[105] {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
عطف على جملة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [التوبة:104] الذي هو في قوة إخبارهم بأن الله يقبل التوبة وقل لهم اعملوا، أي بعد قبول التوبة، فإن التوبة إنما ترفع المؤاخذة بما مضى فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات فعمرها بالسيئات فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما توبتهم كان حقا عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود، ولذلك كان حذف مفعول {اعْمَلُوا} لأجل التعويل على القرينة، ولأن الأمر من الله لا يكون بعمل غير صالح. والمراد بالعمل ما يشمل العمل النفساني من الاعتقاد والنية. وإطلاق العمل على ما يشمل ذلك تغليب.
وتفريع {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} زيادة في التحضيض. وفيه تحذير من التقصير أو من ارتكاب المعاصي لأن كون عملهم بمرأى من الله مما يبعث على جعله يرضي الله تعالى.
وذلك تذكير لهم باطلاع الله تعالى بعلمه على جميع الكائنات. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: "هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .
وعطف {وَرَسُولُهُ} على اسم الجلالة لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله وهو الذي يتولى معاملتهم على حسب أعمالهم.
وعطف {َالْمُؤْمِنُونَ} أيضا لأنهم شهداء الله في أرضه ولأن هؤلاء لما تابوا قد رجعوا إلى حضيرة جماعة الصحابة فإن عملوا مثلهم كانوا بمحل الكرامة منهم وإلا كانوا ملحوظين منهم بعين الغضب والإنكار. وذلك مما يحذره كل أحد هو من قوم يرمقونه
(10/198)
شزرا ويرونه قد جاء نكرا.
والرؤية المسندة إلى الله تعالى رؤية مجازية. وهي تعلق العلم بالواقعات سواء كانت ذوات مبصرات أم كانت أحداثا مسموعات ومعاني مدركات، وكذلك الرؤية المسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المعنى المجزي لقوله: {عَمَلَكُمْ} .
وجملة: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من جملة المقول. وهو وعد ووعيد معا على حسب الأعمال، ولذلك جاء فيه {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد تقدم القول في نظيره آنفا.
[106] {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ِلأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين. والمراد بهؤلاء من بقي من المخلفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفا إلى أن يقضي الله بما يشاء. وهؤلاء نفر ثلاثة، هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك. ولم يكن تخلفهم نفاقا ولا كراهية للجهاد ولكنهم شغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق. وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصدقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مرجون لأمر الله. وفي تلك المدة نزلت هذه الآية {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة:71]. وأنزل فيهم قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ - إلى قوله - وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117-119].
وعن كعب ابن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في "صحيح البخاري". على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها. وقد جوز المفسرون عود ضمير {أَلَمْ يَعْلَمُوا} [التوبة:104] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما.
وقوله: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [التوبة:104] (هو) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر. و {عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104] متعلقة ب {يَقْبَلُ} لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها.
(10/199)
فكأنه قيل: يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده. وكان حق تعدية فعل (يقبل) أن يكون بحرف (من). ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال: لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز.
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد ب {عِبَادِهِ} جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان.
والآية دليل على قبول التوبة إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية. وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل، ومختلف فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. مقبولة قطعا. ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق. وادعى الإمام في "المعالم" الإجماع عليه وهي أولى بالقبول. وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري: إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه. وكأن خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحا. وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفية أركانها وشروطها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ(1) السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية في سورة النساء [17].
والأخذ في قوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104] مستعمل في معنى القبول، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذا حقيقيا، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مُرْجَوْنَ} بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجاه بالألف، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره، فيقال في مضارعه المخفف: أرجيته بالياء، كقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51] بالياء، فأصل مرجون مرجيون. وقرأ البقية {مُرْجَئُونَ} بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرىء {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]. واللام في قوله: {ِلأَمْرِ اللَّهِ} للتعليل، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم. وفيه حذف مضاف، تقديره: لأجل انتظار
ـــــــ
(1) في المطبوعة (يعلمون) وهو خطأ.
(10/200)
أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء.
وجملة: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} بيان لجملة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} باعتبار متعلق خبرها وهو {ِلأَمْرِ اللَّهِ} ، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم، وإما توبته عليهم. ويفهم من قوله: {يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أنهم تابوا.
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير. وذنبهم هو التخلف عن النفير العام، كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] الآية. وقبول التوبة عما مضى فضل من الله.
و {إِمَّا} حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء. ومعناها قريب من معنى (أَوْ) التي للتخيير، إلا أن (إما) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو، و(أو) لا تدخلا إلا على ثاني الاسمين. وكان التساوي بين الأمرين مع (إما) أظهر منه مع (أو) لأن (أو) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} في سورة الأعراف [115].
و {يُعَذِّبُهُمْ - و يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فعلان في معنى المصدر حذفت (أن) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" لأن موقع ما بعد (إما) للاسم نحو {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} [مريم:75] و {الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86].
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته.
[107،108] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من
(10/201)
أجلها، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجدا حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم.
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غير مفتتحة بواو العطف، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر. ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله. وقرأها البقية بواو العطف في أولها، فتكون معطوفة على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل من ذكر فيما قبلها. وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد.
وقوله: {الَّذِينَ} مبتدأ وخبره جملة: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} كما قاله الكسائي. والرابط هو الضمير المجرور من قوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ} لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعول صلة الموصول فهو سببي للمبتدأ، إذ التقدير: لا تقم في مسجد اتخذوه ضرارا، أو في مسجدهم، كما قدره الكسائي. ومن أعربوا {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة:109] خبرا فقد بعدوا عن المعنى.
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجدا قرب مسجد قباء لقصد الضرار، وهم طائفة من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف من أهل العوالي. كانوا اثني عشر رجلا سماهم ابن عطية. وكان سبب بنائهم إياه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين. ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة. ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجدا ليخلصوا فيه بأنفسهم، ويعدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة. فانتدب لذلك اثنا عشر رجلا من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعة بن زيد وغيرهم، فبنوه بجانب مسجد قباء، وذلك قبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه" . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيرا.
(10/202)
والضرار: مصدر ضار مبالغة في ضر، أي ضرارا لأهل الإسلام. والتفريق بيم المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غنم وبني سالم عن قباء.
والأرصاد: التهيئة. والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازن، فقوله: {مِنْ قَبْلُ} إشارة إلى ذلك، أي من قبل بناء المسجد.
وجملة: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} معترضة، أو في موضع الحال. والحسنى: الخير.
وجملة: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} معترضة.
وجملة: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمنا. والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام.
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يمنا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين. فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه. وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى. وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي ومالك بن الدخشم ومعن بن عدي فقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه" ، ففعلوا. وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السقف، والجذوع التي تجعل له أعمدة.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم.
وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في
(10/203)
مسجدهم فامتنع، فقوله: {أَحَقُّ} وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقا بصلاته فيه أصلا.
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمجازاتهم ظاهرا في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} أن هذا أسس على ضدها.
وثبت في "صحيح مسلم" وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال: "هو مسجدكم هذا" . يعني المسجد النبوي بالمدينة. وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء. وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدكم، لقوله: {فِيهِ رِجَالٌ} .
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} المسجد الذي هذه صفته لا مسجدا واحدا معينا، فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين المسجد النبوي ومسجد قباء، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار كان ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مسجدهم، ومن مطاعنهم أيضا، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين. وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبه.
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام. وذلك ما انتزعه السهيلي في "الروض الأنف" في فصل تأسيس مسجد قباء إذ قال: "وفي قوله سبحانه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل".
وجملة: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء. وجاء الضمير مفردا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس، كالإفراد في قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]. وفيه تعريض بأن
(10/204)
أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك.
وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدار قطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فقال: "يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم? قالوا: إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: هو ذلك فعليكموه" ، فهذا يعم الأنصار كلهم. ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضا من الأنصار، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار.
وأطلقت المحبة في قوله: {يُحِبُّونَ} كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئا ممكنا يعمله لا محالة. فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقربا إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خلقا لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم.
وجملة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} تذييل. وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقا يحبه الله تعالى. وكفى بذلك تنويها بزكاء أنفسهم.
[109] {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
تفريع على قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسس على التقوى بالصلاة فيه.
وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقا بالصلاة فيه بعد النهي، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مقصد واضعيه رواجا بين الامة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم.
والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير. والاستفهام تقريري.
والتأسيس: بناء الأساس، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص.
(10/205)
والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغفران والكفران، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء. ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة. وهو هنا مطلق على المفعول، أي المبني. وما صدق (من) صاحب البناء ومستحقه، فإضافة البنيان إلى ضمير (مَن) إضافة على معنى اللام. وشبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء، فاستعير له فعل {أُسِّسَ} في الموضعين.
ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية، ورمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء. وفهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفا جرف هار، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرف جرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية. وحرف الاستعلاء ترشيح.
وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المؤسس على شفا جرف هار بساكنه في هوة. وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه. فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها. ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه. فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذكر في مقابله علم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة، كما دلت عليه المقابلة، وأن البنيان الثاني لم يحصل غرض بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد، وكان عدم ثباته مفضيا بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك.
والشفا بفتح الشين وبالقصر -: حرف البئر وحرف الحفرة.
والجرف بضمتين -: جانب الوادي وجانب الهوة.
وهار: اسم مشتق من هار البناء إذا تصدع، فقيل: أصله هور بفتحتين كما قالوا خلف في خالف. وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة والفتح ما قبلها فقلبت ألفا، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفا. وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة
(10/206)
من اللغة مثل قولهم: شاكي السلاح، أصله شائك. ورجل صات عالي الصوت أصله صائت. ويدل لذلك قولهم: انهار ولم يقولوا انهري. وهر مبالغة في هار.
وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل {أُسِّسَ} في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع {بُنْيَانَهُ} في الموضعين. وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب {بُنْيَانَهُ} في الموضعين.
وقرأ الجمهور {جُرُفٍ} - بضم الراء -. وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف بسكون الراء -.
وجملة: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم.
[110] {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
جملة: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ} يجوز أن تكون مستأنفة لتعداد مساوي مسجد الضرار بذكر سوء عواقبه بعد أن ذكر سوء الباعث عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهي الله رسوله عن الصلاة فيه وأمره بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَاراً} [التوبة:107] كأنه قيل: لا تقم فيه ولا يزال ريبة في قلوبهم، ويكون إظهار لفظ {بُنْيَانَهُ} لزيادة إيضاحه. والرابط هو ضمير {قُلُوبِهِمْ} .
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعله الله سببا لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم.
وجعل البنيان ريبة مبالغة كالوصف بالمصدر. والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم. والريبة: الشك، فإن النفاق شك في الدين، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين.
(10/207)
وقوله: {إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، أي يبقى ريبة أبدا إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمقطعة.
وجملة: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق. وهو أن يكون ذلك البناء سبب حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {تُقَطَّعَ} بضم التاء. وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {تَقَطَّعَ} بفتح التاء على أن أصله تتقطع. وقرأ يعقوب {إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ} بحرف (إلى) التي للانتهاء.
[111] {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العسرة، ليكون توطئة وتمهيدا لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنباء الذين أضمروا الكفر نفاقا بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم. والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهما ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ} [التوبة:38] الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.
وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.
وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} ، وأنهم
(10/208)
كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.
والاشتراء: مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} بمشابهة الوعد الاشتراء في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.
ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صيغ الاشتراء أدخلت هنا في {بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} لمشابهة هذا الوعد الثمن. وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.
والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة. وهو المناسب لقوله بعد {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ} ويكون معنى قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختم الرسالة. وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ - إلى قوله - ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ - إلى قوله - لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله: {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} ، وحينئذ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من اتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب. فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل {يُقَاتِلُونَ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
واللام في {لَهُمْ الْجَنَّةَ} للملك والاستحقاق. والمجرور مصدر، والتقدير: بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلا كان هذا البيع من جنس السلم.
وجملة: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول: كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم? فكان جوابه {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخ.
قال الطيبي: "فقوله: {يُقَاتِلُونَ} بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سلم، ومن ثم قيل {بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} ولم يقل بالجنة. وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم
(10/209)
ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة. ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن" اهـ. وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلا عكس ما فسرنا به آنفا.
وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} تفريع على {فَيَقْتُلُونَ} ، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين. وقرأ الجمهور {فَيَقْتُلُونَ} بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس. وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.
و {وَعْدًا} منصوب على المفعولية المطلقة من {اشْتَرَى} ، لأنه بمعنى وعد إذ العوض مؤجل.
و {حَقًّا} صفة {وَعْدًا}. و {عَلَيْهِ} ظرف لغو متعلق ب {حَقًّا} ، قدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.
وقوله: {فِي التَّوْرَاةِ} حال من {وَعْدًا} . والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوبا في التوراة والإنجيل والقرآن(1).
وجملة: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ} في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ، أي وعدا حقا عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملا للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال: ومن أوفى بعهده من الله إنكارا عليه.
و {أَوْفَى} اسم تفضيل من وفى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.
و {مَنْ} تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبوية، أي للابتداء المجازي. وذكر اسم الجلالة عوضا عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال. والعهد: الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد.
وتفرع على كون الوعد حقا على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أن يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة. وأضيف البيع إلى
ـــــــ
(1) من ذلك ما في الاصحاح العشرين من سفر التثنية فهو في أحكام الحرب وما في الاصحاح من سفر يوشع. وفي الفقرة (24) من الاصحاح الثامن عشر من أنجيل لوقا.
(10/210)
ضميرهم إظهارا لاغتباطهم به.
ووصفه بالموصول وصلته {الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} تأكيدا لمعنى {بِبَيْعِكُمْ} ، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.
وجملة: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيه. وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية وبالوصف ب {الْعَظِيمُ} المفيد للأهمية.
[112] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} .
أسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111] فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخبارا لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماما بهذه النعوت اهتماما أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتا مقطوعا، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى.
ف {التَّائِبُونَ} مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقتراف ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [التوبة:117] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] بعد قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة:74] الآية المتقدمة آنفا. وأول التوبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهو {الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111].
و {الْعَابِدُونَ} : المؤدون لما أوجب الله عليهم.
و {الْحَامِدُونَ} : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له.
و {السَّائِحُونَ} : مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعا. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج.
و {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} : هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة
(10/211)
لا تخلو من الركوع والسجود.
و {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} : الذين يدعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوراة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعا فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلام: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، وبعض الصلوات سجودا فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]. ولما جاء بعده {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} فالواو هنا كالتي في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5].
{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازا شائعا على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.
وأطلقت الحدود مجازا على الوصايا والأوامر. فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} . في سورة البقرة [229]. ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف. وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف.
وقال جمع من العلماء: إن الواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن، وسموها واو الثمانية. قال ابن عطية: ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]. وأنكرها أبو علي الفارسي. وقال ابن هشام في "مغني
(10/212)
اللبيب" "وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري، ومن المفسرين كالثعلبي، وزعموا أن العرب إذا عدوا قالوا: ستة سبعة وثمانية، إيذانا بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلوا بآيات إحداها: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ - إلى قوله سبحانه - سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]. ثم قال: الثانية آية الزمر [71] إذ قيل: {فُتِحَتْ} في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة {وَفُتِحَتْ} [الزمر: 73] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية. ثم قال: الثالثة: {وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ} فإنه الوصف الثامن. ثم قال: والرابعة: {وَأَبْكَارًا} في آية التحريم [5] ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي... وأما قول الثعلبي: أن منها الواو في قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] فسهو بين وإنما هذه واو العطف ا هـ. وأطال في خلال كلامه بردود ونقوض.
وقال ابن عطية "وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي(1) وأنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة، فهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو" اهـ.
وقال القرطبي: هي لغة قريش.
وأقول: كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتا ونفيا، وتوجيها ونقضا. والوجه عندي أنه استعمال ثابت، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدل بها. ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامنا في الذكر لا في الرتبة.
وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73].
فإن مجيء الواو لكون أبواب الجنة ثمانية، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية. وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73].
وجملة: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على جملة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:
ـــــــ
(1) قال ابن عطية وكان ممن اسطوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس (أي ديس بن حبوس الذي تملك غرناطة من سنة 320 إلى أن توفي سنة 465).
(10/213)
111] عطف إنشاء على خبر. ومما حسنه أن المقصود من الخبر المعطوف عليه العمل به فأشبه الأمر. والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغهم فكان كلتا الجملتين مرادا منها معنيان خبري وإنشائي. فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].
والبشارة تقدمت مرارا.
[113] {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار، وهو حصول الغفران، فبقي للتخيير غرض آخر وهو حسن القول لمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله، مثل قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن درج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال. ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراض من هم أهل لحسن القول وغلبة الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعا في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معا عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80].
وروى الترمذي والنسائي عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان? فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، إلى قوله تعالى: {لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. قال الترمذي: حديث حسن.
وقال ابن العربي في "العارضة": هو أضعف ما روي في هذا الباب. وأما ما روي
(10/214)
في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء. فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل.
وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر سورة العقود [116].
ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي صلى الله عليه وسلم نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها.
وزيادة {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة، كما هو مفاد (لو) الوصلية، أي فأولى إن لم يكونوا أولى قربى. وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى: {وَاغْفِرْ ِلأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]. ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] الخ.
وقد تقدم الكلام على (لو) الاتصالية عند قوله تعالى: {وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
[114] {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
معطوفة على جملة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] الخ. وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله: {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل. وهذه من مسألة (أن شرع من قبلنا شرع لنا) فلا جرم كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضا بين الآيتين، فلذلك تصدى القرآن للجواب عنه. وقد تقدم آنفا ما روي أن هذه سبب نزول الآية.
والموعدة: اسم للوعد. والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له
(10/215)
للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له. فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه مترددا في عبادة الأصنام لما قال له: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} . وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له، وإما بعد أن مات على الشرك.
والتبرؤ: تفعل من بريء من كذا إذا تنزه عنه، فالتبرؤ مبالغة في البراءة.
وجملة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} استئناف ثناء على إبراهيم. و {أَوَّاهٌ} فسر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.
ولفظ {أَوَّاهٌ} مثال مبالغة: الذي يكثر قول أوه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في "القاموس"، وأشهرها أوه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في شرح التسهيل: وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف بـ (أَوَّاهٌ) كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع. والفعل المشتق منه (أَوَّاهٌ) حقه أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي. وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.
وإتباع (لَأَوَّاهٌ) بوصف (حَلِيمٌ) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.
والحليم: صاحب الحلم. والحلم - بكسر الحاء-: صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الامور، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
[115] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ
(10/216)
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
عطف على جملة: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ} [التوبة:114] لاعتذار عن النبي وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رجاء منهما هدى من استغفرا له، وإعانة له إن كان الله يريده، فلما تبين لهما الثابت على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له. ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]. وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولى قرابتهم قبل هذا النهي. فهذا من باب {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
وفيه تسجيل أيضا لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم الأبعد أن أمهاوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغيانا.
ومعنى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي يتجنبوها. فهنالك يبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح - عليه السلام -: {فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل.
ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة، لأن الله لا يؤاخذ قوما هداهم إلى الحق فيكتبهم ضلالا بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيرها كلاما جامعا تذييلا.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل مناسب للجملة السابقة، ووقوع {إِنَّ} في أولها يفيد معنى التفريع. والتعليل مضمون للجملة السابقة، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد
(10/217)
أن هداهم حتى يبين لهم الحق.
[116] {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115]، ولذلك فصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليما بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضي إلى إضاعة شؤونها.
فافتتاح الجملة ب(إن) مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن (إن) لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل.
ومعنى الملك: التصرف والتدبير. وقد تقدم عند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وزيادة جملتي: {يُحْيِ وَيُمِيتُ} لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره.
وعطف جملة: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم، ولإعلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرم. وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم.
وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} في أول سورة الأنعام [14].
والنصير: الناصر. وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} في سورة البقرة [48].
[117] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما
(10/218)
طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية.
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى {تَابَ} عليه: غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أو لم يكنه، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن أتسى بهم من غيرهم من القبائل.
ووصف المهاجرون والأنصار ب {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسببا في هذه المغفرة.
ومعنى {اتَّبَعُوهُ} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي.
والساعة: الحصة من الزمن.
والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا
(10/219)
الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} اي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فان ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
و {كَادَ} من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عمل كان، واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.
وقرأ الجمهور {تَزِيغُ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ: الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} في سورة آل عمران[8].
وجملة؛ {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطف على جملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} أي تاب على غير هذا الفريق مطلقا، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون {ثُمَّ} على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ} لل {فَرِيقِ} . وجوز كثير من المفسرين أن تكون {ثُمَّ} للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيدا لجملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.
وجملة: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل لما قبلها على التفسيرين.
[119] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ} معطوف {عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة:117] بإعادة حرف الجر لبعد المعطوف عليه، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ} [التوبة:81] الآية، والذين ذكروا في قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة:90] الآية.
(10/220)
والتعريف في {الثَّلاَثَةِ} تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس، وهم: كعب ابن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر. ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعتذروا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم. ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة. وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" طويل أغر وقد ذكره البغوي في "تفسيره".
و {خُلِّفُو} بتشديد اللام مضاعف خلف المخفف الذي هو فعل قاصر، معناه أنه وراء غيره، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء. والمقصود بقي وراء غيره. يقال: خلف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشي يخلف بضم اللام في المضارع، فمعنى {خُلِّفُو} خلفهم مخلف، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم. فيجوز أن يكون {خُلِّفُو} بمعنى خلفوا أنفسهم على طريقة التجريد. ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيا استعير لتأخير البت في شأنهم، أي الذين خلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أيسهم من التوبة كما أيس المنافقين. فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء. وبهذا التفسير فسره كعب بن مالك في حديثه المروي في "الصحيح" فقال: وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. اهـ.
يعني ليس المعنى أنهم خلفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلفهم أحد، أي جعلهم خلفا وهو تخليف مجازي، أي لم يقض فيهم. وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى.
وبناء فعل {خُلِّفُو} للنائب على ظاهره، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم.
وتعليق التخليف بضمير {الثَّلاَثَةِ} من باب تعليق الحكم باسم الذاتز والمراد: تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السياق، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3].
وهذا الذي فسر كعب به هو المناسب للغاية بقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف، وليس غاية لتخلفهم عن الغزو، لأن تخلفهم لا انتهاء له.
(10/221)
وضيق الأرض: استعارة، أي حتى كانت الأرض كالضيقة عليهم، أي عندهم. وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم. فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح:
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل
وقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} حال من {الأَرْضُ} . والباء للملابسة، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة. {ومَا} مصدرية.
و {رَحُبَتْ} اتسعت، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة.
وضيق أنفسهم: استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق. ولذلك يقال للمحزون: ضاق صدره، وللمسرور: شرح صدره.
والظن مستعمل في اليقين والجزم، وهو من معانيه الحقيقية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [46] - وعند قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} في سورة الأعراف[66]، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يوحي به إلى رسوله، أي التجأوا إلى الله دون غيره. وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده.
و {ثُمَّ} هنا للمهلة والتراخي الزمني وليست للتراخي الرتبي، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق، وهو مغن عن جواب (إذا) لأنه يفيد معناه، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية، وباعتبار المعطوف دال على الجواب.
واللام في {لِيَتُوبُوا} للتعليل، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب، أي ليدوموا على التوبة، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر.
وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوتتة عليهم. وجملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تذييل مفيد للامتنان.
(10/222)
[119] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
الظاهر أن هذه الآية خانمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد. ففي "صحيح البخاري" من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال: "فوالله ما أعلم أحدا.. أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وانزل الله على رسوله {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117-119] اه. فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم، وذكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذبا فغضب الله عليهم، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة.
والأمر ب { كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أبلغ في التخلق بالصدق من نحو: اصدقوا. ونظيره {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. وكذلك جعله بعد {من} التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ومنه قوله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67].
[120] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحرس ذاته.
والذين من حول المدينة من الأعراب هم: مزينة، وأشجع، وغفار، وجهينة، وأسلم.
(10/223)
وصيغة {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم براء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا.
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} الخ.
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب.وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. وقال قتادة وجماعة: هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو محكم غير منسوخ. وبذلك جزم ابن بطال من المالكية. قال زيد بن أسلم وجابر ابن زيد: كان هذا حكما عاما في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فصار وجوب الجهاد على الكفاية. وقال ابن عطية: هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخروج. واختاره فخر الدين.
والتخلف: البقاء في المكان بعد الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81].
والرغبة تعدى بحرف (في) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتعدى بحرف (عن) فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:130] وهي هنا معداة ب(عن). أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه ملابسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قربا، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه.
والباء في قوله: {بِأَنْفُسِهِمْ} للملابسة وهي في موضع الحال. نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء للملابسة. وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبسا بها. وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز.
(10/224)
قال في "الكشاف": "أمروا أن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له"اه. وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.
والإشارة ب { ذَلِكَ} إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتا لهم، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله.
والباء في {بِأَنَّهُمْ} للسببية. والظمأ: العطش، والنصب: التعب، والمخصمة: الجوع. وتقدم في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} في سورة العقود[3].
والوطء: الدوس بالأرجل. ولا موطئ: مصدر ميمي للوطء. والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعارا لإذلال العدو وغلبته وإبادته، كقول الحارث بن وعلة الذهلي من شعراء الحماسة:
ووطئتنا وطئا على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم.
والنيل: مصدر ينالون. يقال: نال منه إذا أصابه برزء. وبذلك لا يقدر له مفعول. وحرف {مِنْ} مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية. ورزء العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم.
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. فجملة: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد. والضمير في (به) عائد على (نصَب) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفردا على المتعاطفات ب(أو) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحدا منه. ومعنى: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح، أي جعل الله كل عمل من تلك الأعمال عملا صالحا وإن لم يقصد به عاملوه تقربا إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار
(10/225)
شرف الغاية منها. وذلك بأن جعل لهم عليها ثوابا كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة. وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بوجه الإيجاز.
[121] {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
عطف على جملة {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} ، وهو انتقال من عداد الكلف التي تصدر عنهم بلا قصد في سبيل الله إلى بعض الكلف التي لا تخلو عن استشعار من تحل بهم بأنهم لقوها في سبيل الله، فالنفقة في سبيل الله لا تكون إلا عن قصد يتذكر به المنفق أنه يسعى إلى ما هو وسيلة لنصر الدين، والنفقة الكبيرة أدخل في القصد، فلذلك نبه عليهما وعلى النفقة الصغيرة ليعلم بذكر الكبيرة حكم النفقة الصغيرة لأن العلة في الكبيرة أظهر وكان هذا الإطناب في عد مناقبهم في الغزو لتصوير ما بذلوه في سبيل الله.
وقطع الوادي: هو اجتيازه. وحقيقة القطع: تفريق أجزاء الجسم. وأطلق على الاجتياز على وجه الاستعارة.
والوادي: المنفرج يكون بين جبال أو إكام فيكون منفذا لسيول المياه، ولذلك اشتق من ودي بمعنى سال. وقطع الوادي أثناء السير من شأنه أن يتذكر السائرون بسببه أنهم سائرون إلى غرض ما لأنه يجدد حالة في السير لم تكن من قبل. ومن أجل ذلك ندب الحجيج إلى تجديد التلبية عندما يصعدون شرفا أو ينزلون واديا أو يلاقون رفاقا.
والضمير في {كُتِبَ} عائد إلى {عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]. ولام التعليل متعلقة ب(كتب)، أي كتب الله لهم صالحا ليجزيهم عن أحسن أعمالهم.
ولما كان هذا جزاء عن عملهم المذكور علم أن عملهم هذا من أحسن أعمالهم.
وانتصب {أَحْسَنَ} على نزع الخافض، أي عن أحسن ما كانوا يعملون أو بأحسن ما كانوا يعملون كقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] وأما قوله: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] فالظاهر أنه من غير هذا القبيل
(10/226)
وأن {أَجْرَ} مفعول مطلق.
وفي ذكر {كَانُوا} والإتيان بخبرها مضارعا إفادة أن مثل هذا العمل كان ديدنهم.
[122] {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضا على الجهاد وتنديدا على المقصرين في شأنه، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جندا، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلا حتى تقلص، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المدن التي فتحوها ووكلوا أمر الدولة إليهم.
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يذكر عقبها نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} .
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشئ عن قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} [التوبة:38] ثم عن قوله: {مَا
(10/227)
كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا} [التوبة:120] الخ. ومعنى {أَنْ يَتَخَلَّفُوا} هو أن لا ينفروا، فناسب أن يذكر بعده {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} .
والمراد بالنفير في قوله: {لِيَنْفِرُوا} وقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفر كلهم.
فضمير {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يجوز أن يعود على قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} ، أي ليتفقه المؤمنون. والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر، كما اقتضاه قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} ، فهو عام مراد به الخصوص.
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوم من الكلام من قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} لأن مفهومه وبقيت طائفة ليتفقهوا في الدين، فأعيد الضمير على (طائفة) بصيغة الجمع نظرا إلى معنى طائفة، كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] على تأويل اقتتل جمعهم.
ويجوز أن يكون المراد من النفر في قوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} نفرا آخر غير النفر في سبيل الله، وهو النفر للتفقه في الدين، وتكون إعادة فعل (ينفروا) و(نفر) من الاستخدام بقرينة قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيكون الضمير في قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} عائدا إلى {طَائِفَةٌ} ويكون قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} تمهيدا لقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} .
وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين. والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة.
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي كونه نهيا جازما يقتضي التحريم. وذلك أنه كما كان النفر للغزو واجبا لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبا لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للامة أيضا، فأفاد مجموع الكلامين أن النفر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم
(10/228)
في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو. وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل (انْفِرُوا)، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير (انْفِرُوا).
ولذلك كانت هذه الآية أصلا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبا على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب. وأشعر نفي وجوب النفر على جميع المسلمين وإثبات إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عددا من الذين يبقون للتفقه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأولى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزو، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء. ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة.
ولو لا: حرف تحضيض.
والفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن؛ فالقبيلة فرقة، وأهل البلاد الواحدة فرقة.
والطائفة: الجماعة، ولا تتقيد بعدد. وتقدم عند قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء[102].
وتنكير {طَائِفَةٌ} مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية. وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية.
والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقه. فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله: {لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه.
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين. وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء
(10/229)
في الحديث الصحيح "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم.
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد.
والإنذار: الإخبار بما يتوقع منه شر. والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة. ومنه النذير. وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة[119]. فالإنذار هو الموعظة، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم، لأن التخلية مقدمة على التحلية، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده. ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين.
وحذف مفعول {يَحْذَرُونَ} للتعميم، أي يحذرون ما يحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات. واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين.
[123] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
كان جميع بلاد العرب خلص للإسلام قبل حجة الوداع، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقر نصارى العرب، وكانوا تحت حكم الروم، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وضعت الجزية على أيلة وبصري، وكانت تلك الغزوة إرهابا للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلما استقر بلد للإسلام وكان تجاوره بلاد كفر كان حقا على المسلمين غزو البلاد المجاورة. ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك.
(10/230)
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب. ولعل في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
والغلظة بكسر الغين: الشدة الحسية والخشونة، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة، كقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. قال في "الكشاف": وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر. اه.
قلت: والمقصد من ذلك إلقاء الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين.
ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم. وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة. وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلطة بحيث تظهر وتنال العدو فيحس بها، كقوله تعالى لموسى {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16]. وإنما وقعت هذه المبالغة لما عليه العدو من القوة، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم، وهم أصحاب عدد وعدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة.
ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظهر على كفرهم وهم أشد قربا من المؤمنين في المدينة. وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].
وجملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد.
وافتتحت الجملة ب {اعْلَمُوا} للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الأنفال[41]. والمعية هنا معية النصر والتأييد، كقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم.
[24, 25] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا
(10/231)
الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} .
عطف على قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86] وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات.
وهذه الآية زيدت فيها (ما) عقب (إذا) وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى (إذا) وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقا بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه.
ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} [التوبة: 86]. ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والأعجاز ببلاغتها. فالمراد إذا أنزلت سورة ما من القرآن. وضمير {فَمِنْهُمْ} عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، ولما في قوله قبل هذا {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض.
وقولهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} خطاب بعضهم لبعض على سبيل التهكم بالمؤمنين وبالقرآن، لأن بعض آيات القرآن مصرحة بأن القرآن يزيد المؤمنين إيمانا قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال: 2]. ولعل المسلمين كانوا إذا سمعوا القرآن قالوا: قد ازددنا إيمانا، كقول معاذ بن جبل للأسود بن هلال: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني بمذاكرة القرآن وأمور الدين (رواه البخاري في كتاب الإيمان).
ولما كان الاستفهام في قولهم: {أَيُّكُمْ} للاستهزاء كان متضمنا معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيمانا توهما منهم بأن ما لا يزيدهم إيمانا لا يزيد غيرهم إيمانا، يقيسون على أحوال قلوبهم.
والفاء في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} للتفريع على حكاية استفهامهم بحمله على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه. وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن
(10/232)
تكون السورة تزيد أحدا إيمانا قياسا على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثر من الزيادة، وهو حصول البشر لهم.
وارتقي في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفيا عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقسم الأول المؤمنون زادتهم إيمانا وأكتسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. فالوجه أن تكون جملة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} معطوفة على جملة: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وأن تكون جملة {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} معطوفة على جملة {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً} لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة. أما جملة: {وَهُمْ كَافِرُونَ} فهي حال من ضمير {مَاتُوا} .
وقوبل قوله: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} في جانب المؤمنين بقوله: {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} في جانب المنافقين تحسينا بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى.
هذا وجه نظم الآية على هذا النسج من البلاغة والبديع، وقد أغفل فيما رأيت من التفاسير، فمنها ما سكت عن بيانه. ومنها ما نشرت فيه معاني المفردات وترك جانب نظم الكلام.
والاستبشار: أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} في آل عمران[171]، وتقدم آنفا في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} [التوبة: 111].
والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس.
والرجس: هنا الكفر. وأصله الشيء الخبيث. كما تقدم عند قوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} في سورة العقود[90]. وقوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الإنعام[125].
والمرض في القلوب تقدم في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة[10].
(10/233)
وتعدية {زَادَتْهُمْ} ب{إِلَى}، لأن زاد قد ضمن معنى الضم.
ومعنى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مثل معنى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82].
[126] {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
عطف على جملة {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] إلى آخره فهي من تمام التفصيل.
وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف على طريقة تصدير أدوات الاستفهام. والتصدير للتنبيه على أن الجملة في غرض الاستفهام.
والاستفهام هنا إنكار وتعجيب لعدم رؤيتهم فتنتهم فلا تعقبها توبتهم ولا تذكرهم أمر ربهم. والغرض من هذا الإنكار هو الاستدلال على ما تقدم من ازدياد كفر المنافقين وتمكنه كلما نزلت سورة من القرآن بإيراد دليل واضح ينزل منزلة المحسوس المرئي حتى يتوجه الإنكار على من لا يراه.
والفتنة: اختلال نظام الحالة المعتادة للناس واضطراب أمرهم، مثل الأمراض المنتشرة، والتقاتل، واستمرار الخوف. وقد تقدم ذكرها عند قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة[193].
فمعنى {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ الله الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى، بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم، فعلموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق.
ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم، أو متآلف تصيب أموالهم، أو جوائح تصيب ثمارهم، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين.
وقرأ الجمهور {أَوَلا يَرَوْنَ} بالمثناة التحتية. وقرأ حمزة ويعقوب {أولا ترون}
(10/234)
والتهديد في القرآن. فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيرا إلى عنت معين ولا إلى عنت وقع لآن المصدر لا زمان له بل كان محتملا أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه، ولكن مجيء المصدر منسبكا من الفعل الماضي يجعله مصدرا مقيدا بالحصول في الماضي، ألا ترى أنك تقدره هكذا: عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيها على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم.
والحرص: شدة الرغبة في الشيء والجشع إليه. ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فهم من مقام التشريع، فيقدر: على إيمانكم أو هديكم.
والرؤوف: الشديد الرأفة. والرحيم: الشديد الرحمة، لأنهما صيغتا مبالغة، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو { بالْمُؤْمِنِينَ} .
والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءوف به. يقال: رؤوف رحيم. والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمهما مختلفة. وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} في سورة البقرة[143]. والرحمة في سورة الفاتحة[3].
وتقديم المتعلق على عامليه المتنازعينه في قوله: {بالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتي رأفته ورحمته بهم. وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبيياء: 107] فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم، ولا يقال: بهم رؤوف رحيم.
والفاء في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وان لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه. وقد دل الشرط على مقابله لأن {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان.
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطبوا هم به اعتمادا على قرينة حرف التفريع فقيل له {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ
(10/239)
اللَّهُ}. والتقدير: فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله. فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم.
والتولي: الإعراض والأدبار: وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد.
والحسب: الكافي، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق. وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى.
ومعنى الأمر بأن يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ} أن يقول ذلك قولا ناشئا عن عقد القلب عليه، أي فاعلم أن حسبك الله وقل حسبي الله، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به، ولأن في هذا القول إبلاغا للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم.
والتوكل: التفويض. وهو مبالغة في وكل.
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعينها ولم يؤمر بمجرد التوكل كما أمر في قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
ولا أخبر بأن الله حسبه مجرد إخبار كما في قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62].
وجملة: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مستأنفة للثناء، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية.
وعطفت عليها جملة: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} للثناء بعظيم القدرة لأن من كان ربا للعرش العظيم ثبت أنه قدير، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات، ولذلك وصف بالعظيم، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش، فهو مجرور.
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والأعذار للناس، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان.
وفيهما أيضا إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي، لأن كل وارد قفولا، ولكل طالع أفولا. وقد روي عن أبي بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهدا بالله عز وجل، أي آخر ما نزل من القرآن. وقيل: إن آخر القرآن نزولا آية الكلالة خاتمة سورة النساء. وقيل آخره نزولا قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
(10/240)
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} من سورة البقرة[281].
في "صحيح البخاري" من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخرهما. ومن طريق إبراهيم ابن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري. ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما (فإن زيدا اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما. فلما أملاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكر زيد لفظهما وتذكرهما من سمعهما من الصحابة حين قرأوهما، كيف وقد قال أبي بن كعب: إنهما آخر ما أنزل، فلفظهما ثابت بالإجماع، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصرا على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة.
(10/241)
بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين، فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته ما لا يخفى.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه، فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب، وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب. ولو كانت (ثم) للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم.
وأتي بجملة {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل: ولا يذكرون، قصدا لإفادة التقوى، أي انتفاء تذكرهم محقق.
[127] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة: 124]. والظاهر أن المقصود عطف جملة: {نظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} على جملة: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} . وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة: 124] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم.
وموجب زيادة (ما) بعد (إذا) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه.
ونظر بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية، وهي (إذا). فتعين أن يكون نظر بعضهم إلى بعض حاصلا وقت نزول السورة. ويدل لذلك أيضا قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} أي عن ذلك المجلس. ويدل أيضا على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام. وقد قال تعالى في الآية السابقة {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} . ويدل أيضا على أنهم كاتمون تعجبهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام. فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام.
(10/335)
وجملة: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} بيان لجملة {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} لأن النظر تفاهموا به فيما هو سر بينهم؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي، ففي هذا النظم إيجاز حذف بديع دلت عليه القرينة. والتقدير: وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطلع نبيه - عليه الصلاة والسلام - على دخيلة أمرهم.
وزيادة جملة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرة ولا قربا من الإيمان، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة. وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
وجملة: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} مستأنفة استئنافيا بيانيا، لأن ما أفاده قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحرموا الانتفاع بأبلغ واعظ. وكان ذلك عقابا لهم بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ، أي لا يفهمون الدلائل، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا.
وجعل جماعة من المفسرين قوله: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} دعاء عليهم، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم، ولأنه يأباه تسبيبه بقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيرا يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراها لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد.
[128, 129] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من
(10/336)
أهل المدينة ومن الأعراب، وأمرا للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه. وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة.
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفا رحيما بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن. فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة.
فالخطاب بقوله: {جَاءَكُمْ} وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام.
والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدءهم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وسيجيء أن المقصود العرب.
وافتتاحها بحرفي التأكيد وهما اللام و(قد) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولا من الله، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء، ولأن في هذا التأكيد تسجيلا عليهم مرادا به الإيماء إلى اقتراب الرحيل، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه، وهو تسجيل منه على المؤمنين، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين. على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء: 174] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا
(10/337)
لغرض أهم من إزالة الإنكار.
والمجيء: مستعمل مجازا في الخطاب بالدعوة إلى الدين. شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر. وهو استعمال شائع في القرآن.
والأنفس: جمع نفس، وهي الذات. ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق. يقال: هو قريشي من أنفسهم، ويقال: القريشي مولاهم أو حليفهم، فمعنى {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من صميم نسبكم، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذ لا يعدون العرب ومن حالفهم وتولاهم مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم، وفيه أيضا تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي يبقي منه لكم ذكر حسن.
والعزيز: الغالب. والعزة: الغلبة. يقال عزه إذا غلبه. ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، فإذا عدي بعلي دل على معنى الثقل والشدة على النفس. قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه:
فقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
و {مَا} مصدرية. و {عَنِتُّمْ} : تعبتم. والعنت: التعب، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم. وهذا كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وذكر هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة. ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب. ثم إن ذلك يومي إلى أن شرعه جاء مناسبا لخلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع {مَا} المصدرية السابكة للمصدر نكتة. وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى، وذلك بما لقوه من قتل قومهم، ومن الأسر في الغزوات، ومن قوارع الوعيد
(10/338)
المجلد الحادي عشر
سورة يونس
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. وتلك الخصوصية كرامة ليونس - عليه السلام - وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب"ألر". ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال: آلر الأولى وألر الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك.
وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي "الإتقان" عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي "القرطبي" عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-95] وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي "ابن عطية" عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94-95]. وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى {أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] نزلت في شأن اليهود.
وقال ابن عطية: قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها
(11/5)
بالمدينة. ولم ينسبه إلى معين. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي. وسيأتي التنبيه عليه.
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار، ومائة وعشر في عد أهل الشام.
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21].
أغراض هذه السورة
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38].
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا. فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.
(11/6)
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها.
وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.
وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.
وإثبات عموم العلم لله تعالى.
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب.
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه.
[1] {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .
(11/7)
{الر}
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة، لا محل لها من الإعراب، ولا ينطق بها إلا على حال السكت، وحال السكت يعامل معاملة الوقف، فلذلك لا يمد اسم ما في الآية، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد. ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف: را. ها. يا. طا. حا. التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
اسم الإشارة يجوز أن يكون مرادا به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها.
واسم الإشارة يفسر المقصود منه خبره وهو {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} كما فسره في قوله تعالى: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم: 56] وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [الكهف: 78]. قال في "الكشاف": تصور فراقا بينهما سيقع قريبا فأشار إليه بهذا.
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} في سورة الأنعام[88]. فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به. وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبيء صلى الله عليه وسلم بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبيء آية على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة[يونس: 15] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} فقيل لهم: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه.
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي، كما دل
(11/8)
عليه قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و {آيَاتُ} خبره. وإضافة {آيَاتُ} إلى {الْكِتَابِ} إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق.
ويجوز أن تجعل الإشارة ب {تِلْكَ} إلى حروف {ألر} لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالاعجاز، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم. فيصح أن يجعل (ألر) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبرا عنه. والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف.
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذبون بأن الكتاب منزل من عند الله، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالا إذ هو مركب من حروف كلامهم.
والكتاب: القرآن. فالتعريف فيه للعهد. ويجوز جعل التعريف دالا على معنى الكمال في الجنس، كما تقول: أنتَ الرجل.
والحكيم: وصف إما بمعنى فاعل، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها، مثل قوله: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين، أي محكم، مثل عَتِيد، بمعنى مُعَد.
وإما بمعنى ذي الحكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشئ عن البليغ كقول الأعشى:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
وإما أن يكون وصف بوصف منزله المتكلم به، كما مشى عليه صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {يس~ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [يس: 1, 3].
(11/9)
واختيار وصف {الْحَكِيمِ } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، ولما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك.
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
[2] {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} .
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالا عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبين أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعاد إحالة. وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دعا إليه وتجهيل المتسببين فيه، ولك أن تجعله استئنافا ابتدائيا، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث.
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة.
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على (كان) دون أن يقال: أعجب الناس، هي الدلالة على التعجيب من تعجبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر.
والمعنى: أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعر بأن هذا غير متوقع حصوله.
و {لِلنَّاسِ} متعلق ب {كَانَ} لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم، لأن أصل اللام أن تفيد الملك، ويستعار ذلك للتمكن، أي لتمكن الكون عجبا من نفوسهم.
و {عَجَباً} خبر {كَانَ} مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار.
و {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسم كان، وجيء فيه ب(أَنْ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وحينا
(11/10)
ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقا لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمدا.
والعجب: مصدر عجب، إذا عد الشيء خارجا عن المألوف ناد الحصول. ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيبا جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأولى ويقلع التكذيب من عروقه.
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع، كما في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} في سورة هود [ 72, 73] وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} في سورة الأعراف [63]. وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كان إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء: 95].
وأطلق {النَّاسَ} على طائفة من البشر، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام. وهذا الإطلاق مثل ما في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]. وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: الله أعظم من أن يكون له رسول بشرا، فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .
و {أَنْ} في قوله: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} تفسيرية لفعل {أَوْحَيْنَا} لأن الوحي فيه معنى القول.
و {النَّاسَ} الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم، فهو عموم عرفي. ولكون المراد ب {النَّاسَ} ثانيا غير المراد به أول ذكر بلفظه الظاهر دون أن يقال: أن أنذرهم.
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمر بالتبشير للذين آمنوا بقي {النَّاسَ} المتعلق بهم الإنذار مخصوصا بغير المؤمنين.
وحذف المنذر به للتهويل، ولأنه يعلم حاصله من مقابلته بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
(11/11)
أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} ، وفعل التبشير يتعدى بالباء، فالتقدير: وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق، فحذف حرف الجر مع (أنْ) جريا على الغالب.
والقدم: اسم لما تقدم وسلف، فيكون في الخير والفضل وفي ضده. قال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس إلها ... مع الحسب العادي طمت على البحر
وذكر المازري في المعلم عن ابن الإعرابي: أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة. وهو فعل بمعنى فاعل مثل سلف وثقل. قال ابن عطية: ومن هذه اللفظة قول النبيء صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: "حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط" - يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة" - وفي رواية- " الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وعزتك" . ويروى بعضها إلى بعض. وهذا أحد تأويلين لمعنى "قدمه" . وأصل ذلك في "المعلم على صحيح مسلم" للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل.
والمراد ب {قَدَمَ صِدْقٍ} في الآية قدم خير، وإضافة {قَدَمَ} إلى {صِدْقٍ} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله قدم صدق، أي صادق وهو وصف بالمصدر: فعلى قول الجمهور يكون وصف {صِدْقٍ} ل {قَدَمَ} وصفا مقيدا. وعلى قول ابن الإعرابي يكون وصفا كاشفا.
والصدق: موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد، واشتهر في مطابقة الخبر. ويضاف شيء إلى (صِدْقٍ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 90] وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55].
وقوله: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} تفسير لفعل {أَوْحَيْنَا} . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم. وأيضا في ذكر المفسر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية.
{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} الخ. ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبئ عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 76] أو: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ
(11/12)
مُبِينٌ} فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وقرأه الجمهور: "لسحر" - بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر، أي أن هذا الكلام كلام السحر، أي أنه كلام يسحر به. فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاما غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة، فالإشارة إلى الوحي.
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {لَسَاحِرٌ} فالإشارة إلى رجل من قوله: {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} وهو النبيء -صلى الله عليه وسلم- وإن وصفهم إياه بالسحر ينبئ بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذيانا وباطلا فهرعوا إلى ادعائه سحرا، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالا تستنزل عقول المسحورين. وهذا من عجزهم عن الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه.
والسحر: تخييل ما ليس بكائن كائنا. وقد تقدم عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة[102].
والمبين: اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، أي ظهر، أي سحر واضح ظاهر. وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين.
[3] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية. وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بعث المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبيء سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن إلهتهم التي أشركوا بها فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته.
والخطاب للمشركين، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد، وأوقع عقبه {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 2]، فهو التفات من الغيبة في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} وقوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ} . وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وقوله: {اللَّهُ} خبر {إِنَّ} ، كما دل عليه قوله بعده {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} .
(11/13)
وجملة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو خبر ثان عن {رَبَّكُمُ} .
والتدبير: النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما لقصد له محمودة العاقبة.
والغاية من التدبير الإيجاد والعمل على وفق ما دبر. وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق.
والأمر: جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم. وتقدم في قوله: {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} في سورة براءة[48].
وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم إلهة لا تخلق ولا تعلم؛ كما قال تعالى: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]. ولذلك حسن وقع جملة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} عقب جملة: {الَّذِي خَلَقَ} بتمامها، لأن المشركين جعلوا إلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، أي حماتنا من غضبه. فبعد أن وصف الإله الحق بما هو منتف عن إلهتهم نفي عن إلهتهم وصف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه.
وأكد النفي ب {مِنْ} التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت (مِنْ) على اسمه بحيث لم تبق لإلهتهم خصوصية.
وزيادة {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} احتراس لإثبات شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لإلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده. والشفاعة تقدمت عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة[48]. وكذلك الشفيع تقدم عند قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} في سورة الأعراف[53].
وموقع جملة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ} مثل موقع جملة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} .
وجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ابتدائية فذلكة للجمل التي قبلها ونتيجة لها، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعة عليها، وهي جملة: {فَاعْبُدُوهُ} ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} .
(11/14)
والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز، لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالا مبينا، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شؤونها والمتصرف المطلق مستحق للعبادة نظير الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}[ البقرة: 5] بعد قوله: {لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 2-4].
وفرع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته، والمفرع هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} تأكيدا بفذلكة وتحصيل. والتقدير: إن ربكم الله إلى قوله: {فَاعْبُدُوهُ} ، كقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] إذ وقع قوله: {فَبِذَلِكَ} تأكيدا لجملة {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} . وأوقع بعده الفرع وهو (فَلْيَفْرَحُوا).والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك.
والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم.
وجملة: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ابتدائية للتقريع. وهو غرض جديد، فلذلك لم تعطف، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها.
والتذكر: التأمل. وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته، أي حركته في معلوماته، فهو قريب من التفكر؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقا من مادة الذكر التي هي في الأصل جريان اللفظ على اللسان، والتي يعبر بها أيضا عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعرا بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل.
فلذلك أوثر هنا دون {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقرر في النفوس بالفطرة، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفى في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال.
[4] {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا
(11/15)
يَكْفُرُونَ}
وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذارا وتبشيرا، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السماوات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقا ثانيا. ومما يشير إلى هذا قوله: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، فبدء الخلق هو ما سبق ذكره، وإعادته هي ما أفاده قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال، على أنها يجوز كونها خبرا آخر عن قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ} ، أو عن قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [يونس: 3].
وقد تضمنت هذه الجملة إثبات الحشر الذي أنكروه وكذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم لأجله.
وفي تقديم المجرور في قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} إفادة القصر، أي لا إلى غيره، قطع لمطامع بعضهم القائلين في إلهتهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقا بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلا.
والمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وقد تقدم في قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في سورة العقود[105].
و {جَمِيعاً} حال من ضمير المخاطبين المضاف إليه المصدر العامل فيه.
وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المفعولية المطلقة توكيدا لمضمون الجملة المساوية له، ويسمى مؤكدا لنفسه في اصطلاح النحاة، لأن مضمون: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} الوعد بإرجاعهم إليه وهو مفاد وعد الله، ويقدر له عامل محذوف لأن الجملة المؤكدة لا تصلح للعمل فيه. والتقدير: وعدكم الله وعدا حقا.
وانتصب {حَقّاً} على المفعولية المطلقة المؤكدة لمضمون جملة: {وَعْدَ اللَّهِ} باعتبار الفعل المحذوف. ويسمى في اصطلاح النحاة مؤكدا لغيره، أي مؤكدا لأحد معنيين تحتملهما الجملة المؤكدة.
وجملة: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} واقعة موقع الدليل على وقوع البعث وإمكانه بأنه قد ابتدأ خلق الناس، وابتداء خلقهم يدل على إمكان إعادة خلقهم بعد العدم، وثبوت إمكانه يدفع تكذيب المشركين به، فكان إمكانه دليلا لقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} , وكان الاستدلال
(11/16)
على إمكانه حاصلا من تقديم التذكير ببدء خلق السماوات والأرض كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 17].
وموقع (إن) تأكيد الخبر نظرا لإنكارهم البعث، فحصل التأكيد من قوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أما كونه بدأ الخلق فلا ينكرونه.
وقرأ الجمهور: {إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ} بكسر همزة (إِنَّهُ). وقرأه أبو جعفر بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل محذوفة، أي حق وعده بالبعث لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده فلا تعجزه الإعادة بعد الخلق الأول، أو المصدر مفعول مطلق منصوب بما نصب به {وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته فيكون بدلا من {وَعْدَ اللَّهِ} بدلا مطابقا أو عطف بيان.
ويجوز أن يكون المصدر المنسبك من (أن) وما بعدها مرفوعا بالفعل المقدر الذي انتصب: (حقا) بإضماره. فالتقدير: حق حقا أنه يبدأ الخلق، أي حق بدؤه الخلق ثم إعادته.
والتعليل بقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ إبداء لحكمة البعث وهي الجزاء على الأعمال المقترفة في الحياة الدنيا، إذ لو أرسل الناس على أعمالهم بغير جزاء على الحسن والقبيح لاستوى المحسن والمسيء، وربما كان بعض المسيئين في هذه الدنيا أحسن فيها حالا من المحسنين. فكان من الحكمة أن يلقى كل عامل جزاء عمله. ولم يكن هذا العالم صالحا لإظهار ذلك لأنه وضع نظامه على قاعدة الكون والفساد، قابلا لوقوع ما يخالف الحق ولصرف الخيرات عن الصالحين وانهيالها على المفسدين والعكس لأسباب وآثار هي أوفق بالحياة المقررة في هذا العالم، فكانت الحكمة قاضية بوجود عالم آخر متمحض للكون والبقاء وموضوعا فيه كل صنف فيما يليق به لا يعدوه إلى غيره إذ لا قبل فيه لتصرفات وتسببات تخالف الحق والاستحقاق. وقدم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لشرفه ولياقته بذلك العالم، ولأنهم قد سلكوا في عالم الحياة الدنيا ما خلق الله الناس لأجلهم ولم يتصرفوا فيه بتغليب الفساد على الصلاح.
والباء في {بِالْقِسْطِ} صالحة لإفادة معنى التعدية لفعل الجزاء ومعنى العوض. والقسط: العدل. وهو التسوية بين شيئين في صفة والجزاء بما يساوي المجزي عليه. وتقدم في قوله: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في أول آل عمران[18]. فتفيد الباء أنهم يجزون بما يعادل أعمالهم الصالحة فيكون جزاؤهم صلاحا هنالك وهو غاية النعيم، وأن ذلك الجزاء
(11/17)
مكافأة على قسطهم في أعمالهم في عدلهم فيها بأن عملوا ما يساوي الصلاح المقصود من نظام هذا العالم.
والإجمال هنا بين معنيي الباء مفيد لتعظيم شأن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع الإشارة إلى أنه جزاء مماثل لصلاح أعمالهم.
وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلا زائدا على العدل لأمرين: أحدهما تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قد استحقوه بما عملوا، كقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. ومن أعظم الكرم أن يوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرم هو حقه وأن لا فضل له فيه.
الأمر الثاني: الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جوزوا على قدر جرمهم لكان عذابهم أشد، ولأجل هذا خولف الأسلوب في ذكر جزاء الذين كفروا فجاء صريحا بما يعم أحوال العذاب بقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأنعام: 70]. وخص الشراب من الحميم بالذكر من بين أنواع العذاب الأليم لأنه أكره أنواع العذاب في مألوف النفوس.
وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} في سورة الأنعام[70]. والباء في قوله:
وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للعوض.
وجملة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها استئناف بياني لأنه لما ورد ذكر جزاء المؤمنين على أنه العلة لرجوع الجميع إليه ولم يذكر في العلة ما هو جزاء الجميع لا جرم يتشوف السامع إلى معرفة جزاء الكافرين فجاء الاستئناف للإعلام بذلك.
ونكتة تغيير الأسلوب حيث لم يعطف جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين فيقال: ويجزى الذين كفروا بعذاب الخ كما في قوله: {ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 2] هو الإشارة إلى الاهتمام بجزاء المؤمنين الصالحين وأنه الذي يبادر بالإعلام به وأن جزاء الكافرين جدير بالإعراض عن ذكره لولا سؤال السامعين.
[5] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
(11/18)
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
هذا استئناف ابتدائي أيضا، فضمير (هو) عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [يونس: 3]. وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمنا لعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها. وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديرا مضبوطا ألهم الله البشر للانتفاع به في شؤون كثير من شؤون حياتهم.
فجعل الشمس ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم. وجعل القمر نورا للانتفاع بنوره انتفاعا مناسبا للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل. ولذلك جعل نوره أضعف لينفع به بقدر ضرورة المنتفع، فمن لم يضطر إلى الانتفاع به لا يشعر بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطهم وكمال حياتهم.
والضياء: النور الساطع القوي، لأنه يضيء للرائي. وهو اسم مشتق من الضوء، وهو النور الذي يوضح الأشياء، فالضياء أقوى من الضوء. وياء: (ضياء) منقلبة عن الواو لوقوع الواو إثر كسرة الضاد فقلبت ياء للتخفيف.
والنور: الشعاع، وهو مشتق من اسم النار، وهو أعم من الضياء، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي، فضياء الشمس نور ونور القمر ليس بضياء. هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء، ولكن يكثر في كلام العرب إطلاق بعض هذه الكلمات في موضع بعض آخر بحيث يعسر انضباطه. ولما جعل النور في مقابلة الضياء تعين أن المراد به نور ما.
وقوله: {ضِيَاءً} و {نُوراً} حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما. والتقدير: جعل الأشياء على مقدار عند صنعها.
والضمير المنصوب في (قدره) إما عائد إلى النور فتكون المنازل بمعنى المراتب,
(11/19)
وهي مراتب نور القمر في القوة والضعف التابعة لما يظهر للناس نيرا من كرة القمر، كما في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]. أي حتى نقص نوره ليلة بعد ليلة فعاد كالعرجون البالي. ويكون {مَنَازِلَ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {قَدَّرَهُ} فهو ظرف مستقر، أي تقديرا على حسب المنازل، فالنور في كل منزلة له قدر غير قدره الذي في منزلة أخرى. وإما عائد إلى: (القمر) على تقدير مضاف، أي وقدر سيره، فتكون {مَنَازِلَ} منصوبا على الظرفية.
والمنازل: جمع منزل، وهو مكان النزول. والمراد بها هنا المواقع التي يظهر القمر في جهتها كل ليلة من الشهر. وهي ثمان وعشرون منزلة على عدد ليالي الشهر القمري. وإطلاق اسم المنازل عليها مجاز بالمشابهة وإنما هي سموت يلوح للناس القمر كل ليلة في سمت منها، كأنه ينزل بها. وقد رصدها البشر فوجدوها لا تختلف.
وعلم المهتدون منهم أنها ما وجدت على ذلك النظام إلا بصنع الخالق الحكيم.
وهذه المنازل أمارتها أنجم مجتمعة على شكل لا يختلف، فوضع العلماء السابقون لها أسماء. وهذه أسماؤها في العربية على ترتيبها في الطلوع عند الفجر في فصول السنة. والعرب يبتدئون ذكرها بالشرَطَان وهكذا، وذلك باعتبار حلول القمر كل ليلة في سمت منزلة من هذه المنازل، فأول ليلة من ليالي الهلال للشرطان وهكذا. وهذه أسماؤها مرتبة على حسب تقسيمها على فصول السنة الشمسية. وهي العَوَّاء، السِّمَاك الاعْزل، الغَفْر، الزُّبَاني، الاكليل، القَلْب، الشَّوْلَة، النَعَائم، البَلْدَة، سَعْد الذَّابِح، سَعْد بَلَع، سَعْد السُّعود، سَعْد الأخْبِيَة، الفَرْغ الأعلى، الفَرْغ الأسفل، الحُوت، الشَّرَطَانِ، البُطَيْن، الثُّرَيَا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، ذِرَاع الأسَد، النَّشْرَة، الطَّرْف، الجَبْهَة، الزُّبْرَة، الصَّرْفَة.
وهذه المنازل منقسمة على البروج الاثني عشر التي تحل فيها الشمس في فصول السنة، فلكل برج من الاثني عشر برجا منزلتان وثلث، وهذا ضابط لمعرفة نجومها ولا علاقة له باعتبارها منازل للقمر.
وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب، أي عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر.
والحساب: مصدر حسب بمعنى عد. وهو معطوف على {عَدَدَ} ، أي ولتعلموا الحساب. وتعريفه للعهد، أي والحساب المعروف. والمراد به حساب الأيام والأشهر لأن
(11/20)
حساب السنين قد ذكر بخصوصه. ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر، لأن السنة الشرعية قمرية، ولأن ضمير {قَدَّرَهُ} عائد على {الْقَمَرَ} وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} [الأنعام: 96].
فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة. وفي ذلك رفق بالناس في ضبط أمورهم وأسفارهم ومعاملات أموالهم وهو أصل الحضارة. وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر.
وجملة: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} مستأنفة كالنتيجة للجملة السابقة كلها لأنه لما أخبر بأنه الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وذكر حكمة بعض ذلك أفضى إلى الغرض من ذكره وهو التنبيه إلى ما فيها من الحكمة ليستدل بذلك على أن خالقهما فاعل مختار حكيم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم، كما قال تعالى في هذه السورة
[7] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} .
والباء للملابسة. و(الحق) هنا مقابل للباطل. فهو بمعنى الحكمة والفائدة، لأن الباطل من إطلاقاته أن يطلق على العبث وانتفاء الحكمة فكذلك الحق يطلق على مقابل ذلك. وفي هذا رد على المشركين الذين لم يهتدوا لما في ذلك من الحكمة الدالة على الوحدانية وأن الخالق لها ليس إلهتهم. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38-39].
ولذلك أعقب هذا التنبيه بجملة {نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، فهذه الجملة مستأنفة ابتدائية مسوقة للامتنان بالنعمة، ولتسجيل المؤاخذة على الذين لم يهتدوا بهذه الدلائل إلى ما تحتوي عليه من البيان. ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} . فعلى قراءة نفصل بالنون وهي لنافع والجمهور ورواية عن ابن كثير ففي ضمير صاحب الحال التفات، وعلى قراءة {يُفَصِّلُ } بالتحتية وهي لابن كثير في المشهور عنه وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب أمرها ظاهر.
والتفصيل: التبيين، لأن التبيين يأتي على فصول الشيء كلها. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام [55].
والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار.
(11/21)
وجعل التفصيل لأجل قوم يعلمون، أي الذين من شأنهم العلم لما يؤذن به المضارع من تجدد العلم، وإنما يتجدد لمن هو ديدنه ودأبه، فإن العلماء أهل العقول الراجحة هم أهل الانتفاع بالأدلة والبراهين.
وذكر لفظ (قوم) إيماء إلى أنهم رسخ فيهم وصف العلم، فكان من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون ولا ممن رسخ فيهم العلم.
[6] {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}
استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير. وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة. وهو بما فيه من عطف قوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم.
وتأكيد هذا الاستدلال بحرف {إِنَّ} لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم.
وتقدم القول في شبيهة هذه الآية وهو قوله {ِإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الآية في سورة البقرة [164] وفي خواتم سورة آل عمران.
وشمل قوله: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} الأجسام والأحوال كلها.
وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة [164] {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وفي آية آل عمران [190] {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمانهم من الانتفاع بالآيات، وأن نفعها حاصل للذين يتقون، أي يحذرون الضلال. فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاستدلال بالدلائل.
(11/22)
وقد مر تعليل ذلك عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في أول البقرة [2] على أنه قد سبق قوله في الآية قبلها: {نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5]، وأما آية البقرة وآية آل عمران فهما واردتان في سياق شامل للناس على السواء. وذكر لفظ (قوم) تقدم في الآية قبل هذه.
[7, 8] {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعا بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غلوائهم حتى يلاقوا العذاب. وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم والمصير إليه.
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حصول الخبر.
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن. ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} في هذه السورة [15].
والرجاء: ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوبا وإن كان ذلك كثيرا في كلامهم لكنه ليس بمتعين. فمعنى {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يظنونه ولا يتوقعونه.
ومعنى {رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياة ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعين حصولها، فلهذا جعل الرضي بالحياة الدنيا مذمة وملقيا في مهواة الخسران.
(11/23)
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضي بها يكون مقدار التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة. وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها. وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية، وأعلاها مقام قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "فقلت ما لي وللدنيا" .
والاطمئنان: السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} . وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260].
ومعنى {اطْمَأَنُّوا بِهَا} سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره. وعن قتادة: إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا، لها يرضى، ولها يغضب، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن.
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر. وإنما لم يعد الموصول في قوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.
والمراد بالغفلة: إهمال النظر في الآيات أصلا، بقرينة المقام والسياق وبما تومئ إليه الصلة بالجملة الاسمية {هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} الدالة على الدوام، وبتقديم المجرور في قوله عن: {آيَاتِنَا غَافِلُونَ} من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عنادا ومكابرة. وليس المراد من تعرض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات.
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضار صفاتهم في أذهان السامعين، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجل تلك الأوصاف كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5].
(11/24)
والمأوى: اسم مكان الإيواء، أي الرجوع إلى مصيرهم ومرجعهم.
والباء للسببية. والإتيان ب(ما) الموصولة في قوله: {بِمَا كَسَبُوا} للإيماء إلى علة الحكم، أي أن مكسوبهم سبب في مصيرهم إلى النار، فأفاد تأكيد السببية المفادة بالباء.
والإتيان ب(كان) للدلالة على أن هذا المكسوب ديدنهم.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التكرير، فيكون ديدنهم تكرير ذلك الذي كسبوه.
[9, 10] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر. ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويها بأهلها وإغاضة للكافرين.
وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم.
والهداية: الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه. فمعنى {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. والمقصود الإرشاد التكويني، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها. وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين.
والباء في {بِإِيمَانِهِمْ} للسببية، بحيث إن الإيمان يكون سببا في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} إلى {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7, 8] في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى، بأن يجعل الله للإيمان نورا يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سببا مغناطيسيا لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمال لا يزال يزداد يوما فيوما، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح. وفي الحديث: "قد يكون
(11/25)
في الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فعمر بن الخطاب(1)" . قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون الصواب، وفي الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 2. ولأجل هذا النور كان أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانا لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبيء صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع.
وفي العدول عن اسم الجلالة العلم إلى وصف الربوبية مضافا إلى ضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولى لأولياته فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة.
وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعروج مراتب الكمال.
وجملة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} خبر ثان لذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا. وتقدم القول في نظير {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة [25]. والمراد من تحت منازلهم. والجنات تقدم. والنعيم تقدم في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} في سورة براءة [21].
وجملة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وما عطف عليها أحوال من ضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} .
والدعوى: هنا الدعاء. يقال: دعوة بإلهاء، ودعوى بألف التأنيث.
وسبحان: مصدر بمعنى التسبيح، أي التنزيه. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة [32].
{اللَّهُمَّ} نداء لله تعالى، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي. ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم، كما قال أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء
ـــــــ
(1) أخرجه الشيخان والترمذي. واللفظ له.
(2) رواه الترمذي في "جامعه".
(11/26)
واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر، (وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام) ولكن قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يفيد أن هذا التحميد من دعواهم، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى.
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه، فهو جامع للعبارة عن الكمالات.
والتحية: اسم جنس لما يفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة. وأصلها مشتقة من مصدر حياه إذا قال له عند اللقاء أحياك الله. ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء، كما غلب لفظ السلام، فيشمل: نحو حياك الله، وعم صباحا، وعم مساء وصبحك الله بخير، وبت بخير. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} في سورة النساء [86].
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام، أي لفظ سلام، إخبارا عن الجنس بفرد من أفراده، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم.
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة (سلام)، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام، وهو كلمة السلام عليكم. وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] وأما قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23, 24] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام.
ونكتة حذف كلمة (عليكم) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحية بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخير والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم، بخلاف تحية أهل الدنيا فإنها تقع كثيرا بين المتلاقين الذين لا يعرف بعضهم بعضا فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدث البشر لأجله السلام، وهو معنى تأمين
(11/27)
الملاقي من الشر المتوقع من بين كثير من المتناكرين. ولذلك كان اللفظ الشائع هو لفظ السلام الذي هو الأمان، فكان من المناسب التصريح بأن الأمان على المخاطب تحقيقا لمعنى تسكين روعه، وذلك شأن قديم أن الذي يضمر شرا لملاقيه لا يفاتحه بالسلام، ولذلك جعل السلام شعار المسلمين عند اللقاء تعميما للأمن بين الأمة الذي هو من آثار الاخوة الإسلامية. وكذلك شأن القرى في الحضارة القديمة فإن الطارق إذا كان طارق شر أو حرب يمتنع عن قبول القرى، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
وفيه تنويه بشأن هذا اللفظ الذي هو شعار المسلمين عند ملاقاتهم لما فيه من المعاني الجامعة للإكرام، إذ هو دعاء بالسلامة من كل ما يكدر، فهو أبلغ من أحياك الله لأنه دعاء بالحياة وقد لا تكون طيبة، والسلام يجمع الحياة والصفاء من الأكدار العارضة فيها.
وإضافة التحية إلى ضمير (هم) معناها التحية التي تصدر منهم، أي من بعضهم لبعض.
ووجه ذكر تحيتهم في هذه الآية الإشارة إلى أنهم في أنس وحبور، وذلك من أعظم لذات النفس.
وجملة: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} بقية الجمل الحالية. وجعل حمد الله من دعائهم كما اقتضته {أن} التفسيرية المفسرة به: {آخِرُ دَعْوَاهُمْ} لأن في دعواهم معنى القول إذ جعل آخر أقوال.
ومعنى: {آخِرُ دَعْوَاهُمْ} أنهم يختمون به دعاءهم فهم يكررون {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فإذا أرادوا الانتقال إلى حالة أخرى من أحوال النعيم نهوا دعاءهم بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وسياق الكلام وترتيبه مشعر بأنهم يدعون مجتمعين، ولذلك قرن ذكر دعائهم بذكر تحيتهم، فلعلهم إذا تراءوا ابتدروا إلى الدعاء بالتسبيح فإذا اقترب بعضهم من بعض سلم بعضهم على بعض. ثم إذا راموا الافتراق ختموا دعاءهم بالحمد، فأن تفسيرية لآخر دعواهم، وهي مؤذنة بأن آخر الدعاء هو نفس الكلمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقد دل على فضل هاتين الكلمتين قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمان
(11/28)
خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
[11] {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها. والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعا سريعا، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدين بالبطولة والعجائب، فكانوا لما كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وركبوا رؤوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غرورا بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلا من قبل الله تعالى. وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] وقوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال.
وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كما جاء في الحديث: أن المسلمين قالوا: إلا تستنصر. وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفرون به. فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمعه قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .
وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة، فالخيرات المفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].
(11/29)
فهذه الجملة معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] الآية، فحيث ذكر عذابهم الذي هم أيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمة من حكم تصرف الله في هذا الكون. والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] قوله في آخر هذه {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستعمرا على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذ أراد ثبات بنائه، وأنه لم يقدر توازي الشر في هذا العالم بالخير لطفا منه ورفقا، فالله لطيف بعباده، وفي ذلك منة عظيمة عليهم، وأن الذين يستحقون الشر لو عجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم.
والناس: اسم عام لجميع الناس، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشر كانوا أول من يتبادر من عموم الناس، كما زاده تصريحا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع، فذكر في جانب الشر {يُعَجِّلُ} الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه، وعبر عن تعجيل الله الخير لهم بلفظ {اسْتِعْجَالَهُمْ} الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زيادة السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا، وهو نحو قولهم: استأخر واستقدم واستجلب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7]. ومعناه: تعجلهم الخير، كما حمله عليه في "الكشاف" للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدنه.
فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل، بل هو بمعنى التعجل الكثير، كما في قول سلمى بن ربيعة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت
(أي تعجلت) ، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول، كما في البيت وكما في الحديث: "فاستعجل الموت" .
وانتصب {اسْتِعْجَالَهُمْ} على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه، والعامل فيه {يُعَجِّلُ} .
(11/30)
والمعنى: ولو يعجل الله للناس الشر كما يجعل لهم الخير كثيرا، فقوله: {اسْتِعْجَالَهُمْ} مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله، وفاعل الاستعجال هو الله تعالى كما دل عليه قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} .
والباء في قوله: {بِالْخَيْرِ} لتأكيد اللصوق، كالتي في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. وأصله: استعجالهم الخير، فدلت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين. وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة. وسيجيء في النحل.
وقد جعل جواب (لو) قوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ، وشأن جواب (لو) أن يكون في حيز الامتناع، أي وذلك ممتنع لأن الله قدر لآجال انقراضهم ميقاتا معينا {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 5].
والقضاء: التقدير.
والأجل: المدة المعينة لبقاء قوم. والمعنى: لقضي إليهم حلول أجلهم. ولما ضمن: (قضي) معنى بلغ ووصل عدي ب(إلى). فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها ولا يلتفت إلى غيره في فهمها. وهذا المعنى مثل معنى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كم} في سورة الأنعام [58].
وجملة: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الخ مفرعة على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ} إلى آخرها.
وقرأ الجمهور {لَقُضِيَ} بالبناء للنائب ورفع {أَجَلُهُمْ} على أنه نائب الفاعل. وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب {أَجَلُهُمْ} على أن في (قضى) ضميرا عائدا إلى اسم الجلالة في قوله: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الخ.
وجملة: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} مفرعة على جملة (لو) وجوابها المفيدة انتفاء أن يعجل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم، أي فرط تكبرهم وتعاظمهم.
والعمة: عدم البصر. وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحض، وأما النفي المستفاد من (لو) فحاصل بالتضمن، ولان شأن جواب النفي
(11/31)
أن يكون مسببا على المنفي لا على النفي، والتفريع هنا على مستفاد من النفي. وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يسبب أن يترك الكافرين يعمهون، وبذلك تعرف أن قوله: {فَنَذَرُ} ليس معطوفا على كلام مقدر وإنما التقدير تقدير معنى لا تقدير إعراب، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجا لهم.
وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} تقدم نظيره في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]. والطغيان: الكفر.
والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفا.
[12] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
عطف على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] الآية، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعا لحالهم وتحذيرا من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فلما بين في الآية السابقة وجه تأخير عذاب الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بين في هذه الآية حالهم عندما يمسهم شيء من الضر وعندما يكشف الضر عنهم.
فالإنسان مراد به الجنس، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي، أي الإنسان الكافر، لأن جمهور الناس حينئذ كافرون، إذ كان المسلمون قبل الهجرة لا يعدون بضعة وسبعين رجلا مع نسائهم وأبنائهم الذين هم تبع لهم. وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] وقوله:- {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 6, 7]. ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كل من غفلته.
وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى (الناس) من قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض. ومن المفسرين من جعل اللام في الإنسان للعهد وجعل المراد به أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، واسمه مهشم، وكان مشركا،
(11/32)
وكان أصابه مرض. والضر تقدم في قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} في سورة الأنعام [17].
والدعاء: هنا الطلب والسؤال بتضرع.
واللام في قوله: {لِجَنْبِهِ} بمعنى (على) كقوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]. ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف (على) في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190]. ونحوه قول جابر بن جني التغلبي:
تناوله بالرمح ثم انثنى به ... فخر صريعا لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه.
وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره. وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين.
وموضع المجرور في موضع الحال، ولذلك عطف {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} بالنصب. وإنما جعل الجنب مجرورا باللام ولم ينصب فيقال مثلا مضطجعا أو قاعدا أو قائما لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الأعضاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابسة للدعاء، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون. ولذلك ابتدئ بذكر الجنب، وأما زيادة قوله: {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء.
والجنب: واحد الجنوب. وتقدم في قوله: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} في سورة براءة [35].
والقعود: الجلوس.
والقيام: الانتصاب. وتقدم في قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} في سورة البقرة [20].
(11/33)
"إذا" وهنا لمجرد الظرفية وتوقيت جوابها بشرطها، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة إلهتهم عند الرخاء، بقرينة قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إذ جعلها حالا للمسرفين. وإذ عبر عن عملهم بلفظ {كَانُوا} الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخل في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة.
ولهذا فرع عليه جملة: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لولا ما يعقبها.
والكشف: حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء. وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة. إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء.
والمرور: هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها. شبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال، أي انتقل إلى حال كحال من لم يسبق له دعاؤنا، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج.
و"كأن" مخففة كأن، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب. وعدي الدعاء بحرف "إلى" في قوله: {إِلَى ضُرٍّ} دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله:
دعوت لما نابني مسورا
على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعو إلى من فاجأه ناصرا إلى دفعه.
وجعل "إلى" بمعنى اللام بعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية.
وجملة: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تذييل يعم ما تقدم وغيره، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم.
وتقدم القول في معنى وموقع "كذلك" في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ
(11/34)
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143] وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108]، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء، أي مثل هذا التزيين العجيب زين لكل مسرف عمله.
والإسراف: الإفراط والإكثار في شيء غير محمود. فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون. واختير لفظ: {الْمُسْرِفِينَ } لدلالته على مبالغتهم في كفرهم، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم.
وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غير مرة، أو لأن معرفة المزين لهم غير مهمة هاهنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحسانا شنيطا.
والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دربة تحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل:
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
[13] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}
عاد الخطاب إلى المشركين عودا على بدئه في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 3-5] بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب عنهم حتى حل بهم الهلاك فجأة. وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم.
والجملة معطوفة على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] بما تضمنته من الإنذار بأن الشر قد ينزل بهم ولكن عذاب الله غير معجل، فضرب لهم مثلا بما نزل بالأمم من قبلهم فقضى إليهم بالعذاب أجلهم وقد كانوا يعرفون أمما منهم أصابهم الاستئصال مثل عاد وثمود وقوم نوح.
ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحقيق.
والإهلاك: الاستئصال والإفناء.
(11/35)
والقرون: جمع قرن وأصله مدة طويلة من الزمان، والمراد به هنا أهل القرون. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} في سورة الأنعام [6].
وقوله: {مِنْ قَبْلِكُمْ} حال من القرون.
و {لَمَّا} اسم زمان بمعنى حين على التحقيق، وتضاف إلى الجملة.
والعرب أكثروا في كلامهم تقديم "لما" في صدر جملتها فأشمت بذلك التقديم رائحة الشرطية فأشبهت الشروط لأنها تضاف إلى جملة فتشبه جملة الشرط، ولأن عاملها فعل مضي فبذلك اقتضت جملتين فأشبهت حروف الشرط.
والمعنى: أهلكناهم حينما ظلموا، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا.
وجملة: {وَجَاءَتْهُمْ} معطوفة على جملة: {ظَلَمُوا} .
والبينات: جمع بينة، وهي الحجة على الصدق، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة الأنعام [157].
وجملة: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} معطوفة عليها. ومجموع الجمل الثلاث هو ما وقت به الإهلاك: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} .
وعبر عن انتفاء إيمانهم بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفائه إشارة إلى اليأس من إيمانهم.
وجملة: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} تذييل. والتعريف في {الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين، وبذلك كان إنذارا لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك. والمراد بالإجرام أقصاه، وهو الشرك.
والقول في: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} كالقول في نظيره آنفا. وكذلك ذكر لفظ: {القوم} فهو كما في نظيره في هذه السورة وفي البقرة.
[14] {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
عطف على {أَهْلَكْنَا} وحرف "ثم" مؤذن ببعد ما بين الزمنين، أي ثم
(11/36)
جعلناكم تخلفونهم في الأرض. وكون حرف "ثم" هنا عاطفا جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم، ولأنه عوضهم بهم.
والخلائف: جمع خليفة. وتقدم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} في سورة الأنعام [165]. والمراد ب {الْأَرْضِ} بلاد العرب، فالتعريف فيه للعهد لأن المخاطبين خلفوا عادا وثمودا وطسما وجديسا وجرهما في منازلهم على الجملة.
والنظر: مستعمل في العلم المحقق، لأن النظر أقوى طرق المعرفة، فمعنى {لِنَنْظُرَ} لنعلم، أي لنعلم علما متعلقا بأعمالكم. فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي.
و {كَيْفَ} اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، وهو منصوب ب {نَنْظُرَ} ، والمعنى في مثله: لنعلم جواب كيف تعملون، قال إياس بن قبيصة:
وأقبلت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي "لا أعلم" جواب من "جبانها" .
وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو مما لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم علمها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علما أزليا، كما أن بيت إياس بن قصيبة معناه ليظهر الجبان من الشجاع. وليس المقصود بتعليل الإقدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} في سورة آل عمران [140].
[15] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
عطف على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} [يونس: 11] الخ لأن ذلك ناشئ عن قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] كما تقدم فذلك أسلوب من أساليب التكذيب. ثم حكي في هذه الآية أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم النبيء صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن موحى إليه من الله تعالى
(11/37)
فهم يتوهمون أن القرآن وضعه النبيء صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ولذلك جعلوا من تكذيبهم أن يقولوا له: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} إطماعا له بأن يؤمنوا به مغايرا أو مبدلا إذا وافق هواهم.
ومعنى: {غَيْرِ هَذَا} مخالفه. والمراد المخالفة للقرآن كله بالإعراض عنه وابتداء كتاب آخر بأساليب أخرى، كمثل كتب قصص الفرس وملاحمهم إذ لا يحتمل كلامهم غير ذلك، إذ ليس مرادهم أن يأتي بسور أخرى غير التي نزلت من قبل لأن ذلك حاصل، ولا غرض لهم فيه إذا كان معناها من نوع ما سبقها.
ووصف الآيات ب {بَيِّنَاتٍ} لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها لا بطلب تبديله إذ لا طمع في خير منه.
والتبديل: التغيير. وقد يكون في الذوات، كما تقول: بدلت الدنانير دراهم. ويكون في الاوصاف، كما تقول: بدلت الحلقة خاتما. فلما ذكر الإتيان بغيره من قبل تعين أن المراد بالتبديل المعنى الآخر وهو تبديل الوصف، فكان المراد بالغير في قولهم: {غَيْرِ هَذَا} كلاما غير الذي جاء به من قبل لا يكون فيه ما يكرهونه ويغيظهم. والمراد بالتبديل أن يعمد إلى القرآن الموجود فيغير الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه، وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها، وعبارات البعث والنشر بضدها، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة.
وسموا ما طلبوا الإتيان به قرآنا لأنه عوض عن المسمى بالقرآن، فإن القرآن علم على الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أي ائت بغير هذا مما تسميه قرآنا.
والضمير في {بَدِّلْهُ} عائد إلى اسم الإشارة، أي أو بدل هذا.
وأجمل المراد بالتبديل في الآية لأنه معلوم عند السامعين.
ثم إن قولهم يحتمل أن يكون جدا ويحتمل أن يريدوا به الاستهزاء، وعلى الاحتمالين فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بما يقلع شبهتهم من نفوسهم إن كانوا جادين، أو من نفوس من يسمعونهم من دهمائهم فيحسبوا كلامهم جدا فيترقبوا تبديل القرآن.
وضمير الغيبة في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} راجع إلى الناس المراد منهم المشركون أو راجع إلى: {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} .
وتقديم الظرف في قوله: {إِذَا تُتْلَى} على عامله وهو {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}
(11/38)
للاهتمام بذكر ذلك الوقت الذي تتلى فيه الآيات عليهم فيقولون فيه هذا القول تعجيبا من كلامهم ووهن أحلامهم.
ولكون العامل في الظرف فعلا ماضيا علم أن قولهم هذا واقع في الزمن الماضي، فكانت إضافة الظرف المتعلق به إلى جملة فعلها مضارع وهو {تُتْلَى} دالة على أن ذلك المضارع لم يرد به الحال أو الاستقبال إذ لا يتصور أن يكون الماضي واقعا في الحال أو الاستقبال فتعين أن اجتلاب الفعل المضارع لمجرد الدلالة على التكرر والتجدد، أي ذلك قولهم كلما تتلى عليهم الآيات.
وما صدق {الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هو ما صدق الضمير في قوله: "عليهم"، فكان المقام للإضمار، فما كان الإظهار بالموصولية إلا لأن الذين لا يرجون لقاء الله اشتهر به المشركون فصارت هذه الصلة كالعلم عليهم. كما أشرنا إليه عند قوله آنفا: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 7]، وليس بين الصلة وبين الخبر هنا علاقة تعليل فلا يكون الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر.
ولما كان لاقتراحهم معنى صريح، وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجود، ومعنى التزامي كنائي، وهو أنه غير منزل من عند الله وان الذي جاء به غير مرسل من الله، كان الجواب عن قولهم جوابين، أحدهما: ما لقنه الله بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وهو جواب عن صريح اقتراحهم، وثانيهما: ما لقنه بقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16] وهو جواب عن لازم كلامهم.
وعن مجاهد تسمية أناس ممن قال هذه المقالة وهم خمسة: عبد الله بن أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص ابن عامر، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللات والعزى ومناة وهبل، وليس فيه عيبها.
وقد جاء الجواب عن اقتراحهم كلاما جامعا قضاء لحق الإيجاز البديع، وتعويلا على أن السؤال يبين المراد من الجواب، فأحسوا بامتناع تبديل القرآن من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا جواب كاف، لأن التبديل يشمل الإتيان بغيره وتبديل بعض تراكيبه. على أنه إذا كان التبديل الذي هو تغيير كلمات منه وأغراض ممتنعا كان إبطال جميعه والإتيان بغيره أجدر بالامتناع.
(11/39)
وقد جاء الجواب بأبلغ صيغ النفي وهو {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} أي ما يكون التبديل ملكا بيدي.
و {تِلْقَاءِ} صيغة مصدر على وزن التفعال. وقياس وزن التفعال الشائع هو فتح التاء وقد شذ عن ذلك تلقاء، وتبيان، وتمثال، بمعنى اللقاء والبيان والمثول فجاءت بكسر التاء لا رابع لها، ثم أطلق التلقاء على جهة التلاقي ثم أطلق على الجهة والمكان مطلقا كقوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22]. فمعنى {مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} من جهة نفسي. وهذا المجرور في موضع الحال المؤكدة لجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} وهي المسماة مؤكدة لغيرها إذ التبديل لا يكون إلا من فعل المبدل فليست تلك الحال للتقييد إذ لا يجوز فرض أن يبدل من تلقاء الله تعالى التبديل الذي يرومونه، فالمعنى أنه مبلغ لا متصرف.
وجملة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} تعليل لجملة { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} ، أي ما أتبع إلا الوحي وليس لي تصرف بتغيير. و {مَا} مصدرية. واتباع الوحي: تبليغ الحاصل به، وهو الموصى به.
والإتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للإتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي.
واقتضت "إن" النافية وأداة الاستثناء قصر تعلق الاتباع على ما أوحى الله وهو قصر إضافي، أي لا أبلغ إلا ما أوحي إلي دون أن يكون المتبع شيئا مخترعا حتى أتصرف فيه بالتغيير والتبديل، وقرينة كونه إضافيا وقوعه جوابا لرد اقتراحهم.
فمن رام أن يحتج بهذا القصر على عدم جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج بالكلام عن مهيعه.
وجملة: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} الخ في موضع التعليل لجملة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ولذلك فصلت عنها. واقترنت بحرف "إن" للاهتمام، و"إنّ" تؤذن بالتعليل.
وقوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} ، أي عصيته بالإتيان بقرآن آخر وتبديله من تلقاء نفسي.
ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع.
ولذلك لم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول هنا: إلا ما شاء الله، أو نحو ذلك.
[16] {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
(11/40)
عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايته عن رميهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله. ولكونه جوابا مستقلا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولا عن الأول غير معطوف عليه تنبيها على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول.
وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليل التفت في مطاويه أدلة، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب إذ قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ} تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته، فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله، فكان الاستدلال إبطالا لدعواهم ابتداء وإثباتا لدعواه مالا. وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.
والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب "لو"، فأن جواب "لو" يقتضي استدراكا مطردا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب، فقد يستغني عن ذكره وقد يذكر، كقول أبي بن سلمى بن ربيعة:
فلو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
فتقديره هنا: لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علميا إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغيا إذ جاء كلاما أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثله أحد منهم.
ولذلك فرعت على الاستدلال جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} تذكيرا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الامية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمة والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهارا
(11/41)
بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالا معتادا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارا وتدرجا. فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رباني محض، وان هذا الكلام موحى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.
فما كان هذا الكلام دليلا على المشركين وإبطالا لادعائهم إلا لما بني على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه، ثم لما فرع عليه جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ كان تذكيرا لهم بحالة قبل أن يتلو عليهم القرآن ولولا ذاك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة، أي استدلالا بعين الدعوى لأنهم ينهض لهم أن يقولوا حينئذ: ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.
فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية.
وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية. ولكلمة {تَلَوْتُهُ} هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليا كلاما، ومتلوا، وباعثا بذلك المتلو.
فبالأول تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.
وبالثاني تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 48, 49].
وبالثالث تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته عن الله تعالى.
والتلاوة: قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلغ. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة[102]، وعند قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في سورة الأنفال[2].
(11/42)
و {أَدْرَاكُمْ} عرفكم. وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضا، يقال: دريته ودريت به. وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية سيبويه.
قرأ الجمهور {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} بحرف النفي عطفا على {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به. وقرأه البزي عن ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية، أي بدون ألف بعد اللام فتكون عطفا على جواب "لو" فتكون اللام لاما زائدة للتوكيد كشأنها في جواب "لو". والمعنى عليه: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذبوا.
وتفريع جملة: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ} تفريع دليل الجملة الشرطية وملازمتها لطرفيها.
والعمر: الحياة. اشتق من العمران لأن مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الدنيوي. ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء. وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير {عُمُراً} وليس المراد لبثت مدة عمري، لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدرها قدر عمر متعارف، أي بقدر مدة عمر أحد من الناس. والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن.
وانتصب {عُمُراً} على النيابة عن ظرف الزمان، لأنه أريد به مقدار من الزمان.
واللبث: الإقامة في المكان مدة. وتقدم في قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} في سورة البقرة[259].
والظرفية في قوله: {فِيكُمْ} على معنى في جماعتكم، أي بينكم.
و"قبل" و"بعد" إذا أضيفا للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام، أي من قبل نزوله. وضمير "قَبْلِهِ" عائد إلى القرآن.
وتفريع جملة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل. ولذلك اختير لفظ {تَعْقِلُونَ} لأن العقل هو أول درجات الإدراك. ومفعول {تَعْقِلُونَ} إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه. والتقدير أفلا تعقلون أن مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء
(11/43)
ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمنا طويلا وعمرا مديدا، فكيف تأتى ما هو أعظم من ذلك المعتاد دفعة لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساء، وما عرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس.
وإما أن ينزل {تَعْقِلُونَ} منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، أي أفلا تكونون عاقلين، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله.
[17] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}
لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي أشركوا - إلى قوله -: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس: 13, 14] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. وفي ذلك أيضا توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافا بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15]، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فرع عليه أن المفتري على الله كذبا والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وجد انصبابه على الخصم وحده.
والتفريع صالح للمعنيين، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن.
ومحل: "أو" على الوجهين هو التقسيم، وهو إما تقسم أحوال، وإما تقسم أنواع.
والاستفهام إنكاري. والظلم: هنا بمعنى الاعتداء. وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته.
وجملة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} تذييل، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيل بفتح التحتية فيقتضي أن أولئك مجرمون، وأنهم لا يفلحون.
(11/44)
والفلاح تقدم في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة[5].
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين.
وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها.
[18] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
عطف على جملة: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس: 15] عطف القصة على القصة. فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] حين تتلى عليهم آيات القرآن، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفرا أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر، فلعلهم "كما أوهموا أنه إن أتاهم قرآن غير المتلوا عليهم أو بدل ما يرومون تبديله آمنوا" كانوا إذا أنذرهم النبيء صلى الله عليه وسلم بعذاب الله قالوا: تشفع لنا إلهتنا عند الله. وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث "على معنى فرض ما لا يقع واقعا" "إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى". وهذا كقول العاص بن وائل، وكان مشركا، لخباب بن الأرت، وهو مسلم، وقد تقاضاه أجرا له على سيف صنعه "إذا كان يوم القيامة الذي يخبر به صاحبك "يعني النبيء صلى الله عليه وسلم" فسيكون لي مال فأقضيك منه".
وفيه نزل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] الآية .
ويجوز أن تكون جملة: {وَيَعْبُدُونَ} الخ عطفا على جملة: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [يونس: 17] فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء.
وإيثار اسم الموصول في قوله: {مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفيه تمهيد لعطف
(11/45)
{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة.
واختيار صيغة المضارع في {يَعْبُدُونَ} و {يَقُولُونَ} لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيبا من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فاعترفوا بأن المتصرف هو الله.
وقدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدتها بأنها تلحق بهم وبصبيانهم الضر، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تسلم فقالت: "أما تخشى على الصبية من ذي الشرى1" . فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصادة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام.
وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لهم شفعاء لهم عنده. ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئا اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف. ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه: ما علم الله هذا مني وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء: يعلم الله كذا، حتى صار عند العرب من صيغ اليمين.
و {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} حال من الضمير المحذوف بعد {يَعْلَمُ} العائد على "ما"، إذ التقدير: بما لا يعلمه، أي كائنا في السماوات ولا في الأرض والمقصود من ذكرهما تعميم الامكنة، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب. وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي.
والاستفهام في {أَتُنَبِّئُونَ} للإنكار والتوبيخ والإنباء: الإعلام.
وجملة: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} إنشاء تنزيه، فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت. وتقدم الكلام على نظيره عند قوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} في سورة الأنعام[100].
ـــــــ
(1) الشرى- بفتح الشين المعجمة وألف في آخره- شجر الحنظل. وذو الشرى: صنم كان يعبده بنو دوس. كان بين مكة والطائف. ويسمى أيضاً ذا الكفين.
(11/46)
و"ما" في قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} مصدرية، أي عن إشراكهم، أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتا له.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {تُشْرِكُونَ} بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول وقرأه الباقون بالتحتية على أنها تعقيب للخطاب بجملة {قُلْ} . وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع.
[19] {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
جملة معترضة بين جملة: {وَيَعْبُدُونَ} [يونس: 18] وجملة: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20]. ومناسبة الاعتراض قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18].
وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحكم العمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد.
وحسن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، بخلاف آية سورة البقرة[213]: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} إلى آخره، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيءين مبشرين ومنذرين، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضا عقب ذلك بقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
(11/47)
وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة: 213].
وتقدم القول في: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة[213] والناس: اسم جمع للبشر وتعريفه للاستغراق. والأمة: الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء ما.
والمراد هنا أمة واحدة في الدين. والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحريف. والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف. وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاما على عقولهم، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع، ووضع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعا جبليا كما وضع الإلهامات في أصناف الحيوان. وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام.
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاف الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة. وهذا مما يدخل في معنى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4-6]، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمة واحدة الوحدة في الحق، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك.
ووقوعه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة. فقال النبيء صلى الله عليه وسلم يوم الفتح "كذبوا والله إن استقسما بها قط، وقرأ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] وبهذا الوجه يجعل التعريف في {النَّاسُ} للاستغراق.
(11/48)
ويجوز أن يراد بالناس العرب خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيد كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28]، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد.
وجملة: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} إخبار بأن الحق واحد، وأن ذلك الاختلاف مذموم، وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستئصال المبطل وإبقاء المحق. وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة الشورى[14] بقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} .
والأجل: هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب. وأصرح من ذلك في بيان معنى: "الكلمة" قوله في سورة هود[118]: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وسيأتي بيانها.
وتقديم المجرور في قوله: { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} للرعاية على الفاصلة.
[20] {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .
عطف على جملة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوة.
والضمير في {عَلَيْهِ} عائد للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد. وقد كان ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد، علم المتخاطبون أنه المقصود. ونظير هذا كثير في القرآن.
و"لولا" في قوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حرف تحضيض، وشأن التحضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيض من الطلب وشأن الطلب أن يواجه به المطلوب، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مؤولا بأحد وجهين:
(11/49)
إما أن يكون التفاتا، وأصل الكلام: لولا أنزل عليك وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] أي قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع.
وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعا في أن يردوهم إلى الكفر.
والآية: علامة الصدق. وأرادوا خارقا للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] وقولهم: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهم في حقائق الأشياء، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يستفزه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دروا أن الله قدر نظام الأمور تقديرا، ووضع الحقائق وأسبابها، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها، ولا يضره أن يكذب المكذبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة، وفي الدنيا تارات، كل ذلك يجري على نظم اقتضتها الحكمة لا يحمله على تبديلها سؤال سائل ولا تسفيه سفيه. وهو الحكيم العليم.
فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلا على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله، لأنه لو أرسله لأيده بما يوجب له القبول عند المرسل إليهم. وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وطلبا لصلاحهم، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته. ولذلك أتى في حكاية كلامهم العدول عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {مِنْ رَبِّهِ} إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي "بصيغة اسم الفاعل" للمصطفى "بصيغة المفعول" من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى.
وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى
(11/50)
من مداركهم جوابا فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} ، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره.
والغيب: ما غاب عن حواس الناس من الأشياء، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات. وتفسير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109].
واللام للملك، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله. وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام.
وجملة: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تفريع على جملة: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي ليس دأبي ودأبكم إلا انتظار ما يأتي به الله إن شاء، كقول نوح لقومه: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33].
وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شرا لهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8].
والمعية في قوله: {مَعَكُمْ} مجازية مستعملة في الاشتراك في مطلق الانتظار.
[21] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}
لما حكى تمرد المشركين بين هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء، كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11].
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم، والملقى إليه الكلام هو النبيء صلى الله عليه وسلم
(11/51)
والمؤمنون. وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله: {فَانْتَظِرُوا} [يونس: 20] كما في الحديث تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة .
فالمراد ب {النَّاسَ} الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12].
وقد قيل: إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشا من القحط سبع سنين بدعاء النبيء صلى الله عليه وسلم ثم كشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له. والقحط الذي أصاب قريشا هو المذكور في سورة الدخان. وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى. وقال ابن عباس: هي بطشة يوم بدر. فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيوا، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة.
والإذاقة: مستعملة في مطلق الإدراك استعارة أو مجازا، كما تقدم في قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود[95].
والرحمة: هنا مطلقة على أثر الرحمة، وهو النعمة والنفع، كقوله: {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} .
والضراء: الضر. والمس: مستعمل في الإصابة. والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر، كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض.
و"إذا" في قوله: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ} للمفاجأة، وهي رابطة لجواب "إذا" الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفا ثم إن وقعت شرطا فلا تصلح لأن تكون جوابا لها، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف "إذا" الفجائية، لأن حرف المفاجأة يدل على البدار والإسراع بمضمون الجملة، فيفيد مفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها لربط جواب الشرط بشرطه، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها.
والمكر: حقيقته إخفاء الأضرار وإبرازه في صورة المسالمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} في سورة آل عمران[54].
و {في} من قوله: {فِي آيَاتِنَا} للظرفية المجازية المراد منها الملابسة، أي مكرهم
(11/52)
المصاحب لآياتنا. ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكرا يتعلق بها، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عنادا ومكابرة وحفاظا على دينهم في الشرك.
ولما كان الكلام متضمنا التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكرا، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرمهم بآيات الله.
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضا، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع. والمعنى: أن الله أعجل مكرا بكم منكم بمكركم بآيات الله.
وأسرع: مأخوذ من أسرع المزيد على غير قياس، أو من سرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي.
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر، وحسنته المشاكلة كما تقدم في أية آل عمران.
وجملة: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديدا من الله، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب. وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبيء صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك. والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل، وهو إنذار بالعذاب عليه، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك.
وعبر بالمضارع في {يَكْتُبُونَ} و {يَمْكُرُونَ} للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، فليس في قوله: {مَا تَمْكُرُونَ} التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين.
وقرأه الجمهور {مَا تَمْكُرُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه روح عن يعقوب {مَا يَمْكُرُونَ} بياء الغائب، والضمير ل {الناس} في قوله: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم.
(11/53)
[22, 23] {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
هذه الجملة بدل اشمال من جملة: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} [يونس: 21] إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله. والمقصود من هذه الجملة هو قوله: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان. أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض تعم الله عليهم ثم ضراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تفرج عنهم رحمة بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر، فكان المقصود أن في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] وفي كل شيء له آية، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزا عن أخذهم، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية.
وإسناد التسيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر.
و {حَتَّى} ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله: {دَعَوُا اللَّهَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، والمغيا هم ما في قوله: {يُسَيِّرُكُمْ} من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد "حتى" ومعطوفاتها نهاية ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد "حتى" ينتهي عندها السير المنعم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام.
ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر
(11/54)
الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.
وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعا "للكشاف" بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضا، وما نحوته أنا أليق.
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} للتصريح بأن النعمة شملتهم، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} .
والسير في البر معروف للعرب. وكذلك السير في البحر. كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة. وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك. وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته، والنابغة في داليته.
وقرأ الجمهور {يُسَيِّرُكُمْ} بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء من السير، أي يجعلكم تسيرون. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر {ينشركم} بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء من النشر، وهو التفريق على نحو قوله تعالى: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 2] وقوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل: كانوا أي أهل الكوفة يقرأون {ينشركم} فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها: {يُسَيِّرُكُمْ} "أي بتحتية فسين مهملة فتحتية" فأول من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف، أي أمر بكتبها في مصاحف أهل الكوفة.
(11/55)
و {حَتَّى} غاية للتسيير. وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابه، والجملة والغاية هي مفاد جواب: {إِذَا} وهو قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، إذ حينئذ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة.
والفلك: اسم لمركب البحر، واسم جمع له بصيغة واحدة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} في سورة البقرة[164]. وهو هنا مراد به الجمع.
والجري: السير السريع في الأرض أو في البحر، قال تعالى: {سْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} والظاهر أنه حقيقة فيهما.
والريح مؤنثة في كلام العرب، وتقدم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} في سورة الأعراف[57]. والطيبة: الملائمة الرفيقة بالراكبين.
والطيب: الموصوف بالطيب الشديد. وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء، كقوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، ويقال: طاب له المقام في مكان كذا. ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طيبا.
وجملة: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} جواب {إِذَا} . وفي ذكر جريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب. وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقدير مراد لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته. وضمير {جَاءَتْهَا} عائد إلى {الْفُلْكِ} لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث.
والعاصف: وصف خاص بالريح، أي شديدة السرعة. وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل: نافس وحائض ومرضع، فشاع استعماله كذلك، وذكر وصفا للريح فبقي لا تلحقه التاء. وقالوا: إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب، مثل: لابن، وتامر، وفيه نظر.
ومعنى {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} من كل جهة من جهات الفلك، فالابتداء الذي تفيده: "من" ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك.
ومعنى {أُحِيطَ بِهِمْ} أخذوا وأهلكوا، فالعرب يقولون: أحاط العدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها. ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكا لها صار ترتيب {أُحِيطَ بِهِمْ} استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله
(11/56)
تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] وقوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي هلكت. فمعنى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ظنوا الهلاك.
وجملة: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} جواب: {إِذَا} . ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم. وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد. وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40, 41].
وجملة: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} بيان لجملة {دَعَوُا} لأن مضمونها هو الدعاء.
والإشارة ب {هَذِهِ} إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم.
وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لام توطئة القسم، ونون التوكيد، والتعبير بصيغة {مِنَ الشَّاكِرِينَ} دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام[56].
وأتى بحرف "إذا" الفجائية في جواب "لما" للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة.
والبغي: الاعتداء. وتقدم في قوله: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} في سورة الأعراف. والمراد به هنا الإشراك كما صرح به في نظيرها {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وسمي الشرك بغيا لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلما في آيات كثيرة منها قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم، ولأنه لا يناسب قوله بعد: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر، كقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] الآية.
وزيادة {فِي الْأَرْضِ} لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة. وهو كقوله تعالى: {فَلَمَّا
(11/57)
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكانا للبغي.
وكذلك قوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق، فهو كالتقييد في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق.
وافتتح الخطاب ب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لاستصغاء أسماعهم. والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم.
وصيغة قصر البغي على الكون مضرا بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً } [التوبة: 39]. فمعنى "على" الاستعلاء المجازي المكنى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلى عليه، ولذلك يكثر أن يقولوا: هذا الشيء عليك، وفي ضده: هذا الشيء لك، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].ويقول المقر: لك علي كذا. وقال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاتها أو عليها فجورها
وقال السمؤال اليهودي:
ألي الفضل أم علي إذا حو ... سبت أني على الحساب مقيت
وذلك أن "على" تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق. وفي لحديث: "القرآن حجة لك أو عليك" .
فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله: {بَغْيُكُمْ} وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم: "ركب القوم دوابهم" أي، ركب كل واحد دابته. فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب.
و {مَتَاعٌ} مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو متاع
(11/58)
الحياة الدنيا. وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من "بغيكم". ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة. وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالا طويلا فهلا تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزا وسيؤاخذكم به في الآخرة. وفي كلتا القراءتين وجوه غير ما ذكرنا.
والمتاع: ما ينتفع به انتفاعا غير دائم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24]. والمعنى على كلتا القراءتين واحد، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا.
وجملة: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} عطفت ب"ثُمَّ" لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديدا من مضمون جملة: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
وتقديم المجرور في قوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلا للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله.
وتفريع {فَنُنَبِّئُكُمْ} على جملة: {إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} تفريع وعيد على تهديد. واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع. وفي ذكر {كُنْتُمْ} والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم. والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظا من هذا الوعيد.
[24] {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] المؤذنة بأن
(11/59)
تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد.
والمثل: الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة.
وصيغة القصر لتأكيد المقصود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء. ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ. والمعنى: قصر حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة.
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاما ومصيره حصيدا.
ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه.
فقوله: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فلذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه ما يؤمل منه من زخرف الأرض ونضارتها.
وقوله: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} شبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه.
وقوله: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصناف تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبه به ما ينعم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظا في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته.
(11/60)
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والأكل صح أن تشبه به رغبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيه سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12].
والقول في {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} كالقول في قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22]، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء.
وأمر الله: تقديره وتكوينه. وإتيانه: إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء.
وفي معنى الغاية المستفاد من "حتى" ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارا كثيرة، فذلك طوي في معنى "حتى".
وقوله: {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.
والزخرف: اسم الذهب. وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي.
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارة مكنية. شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان. والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ، قال تعالى: {آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وقال بشار ابن برد:
وخذي ملابس زينة ... ومصبغات وهي أفخر
وذكر {ازَّيَّنَتْ} عقب {زُخْرُفَهَا} ترشيح للاستعارة، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين. و {ازَّيَّنَتْ} أصله تزينت فقلبت التاء زايا؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.
واعلم أن في قوله تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} إشارة لإدارة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم، كقوله تعالى: {حَتَّى
(11/61)
إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه، ويزيد تلك الإشارة وضوحا قوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} المؤذن بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة.
ومعنى: {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة.
والحصيد: المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته. والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها. ومعنى {لَمْ تَغْنَ} لم تعمر، أي لم تعمر بالزرع. يقال: غني المكان إذا عمر. ومنه المغنى للمكان المأهول. وضد أغنى أقفر المكان.
والباء: {بِالْأَمْسِ} للظرفية. والأمس: اليوم الذي قبل يومك. واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن. والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال. وجمعها قول زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما غد عم
وجملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} إلى آخرها تذييل جامع، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام[55].
واللام في: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لام الأجل.
والتفكر: التأمل والنظر، وهو تفعل مشتق من الفكر، وقد مر عند قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام[50]. وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم. وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة.
[25] {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
الجملة معطوفة على جملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، أي
(11/62)
نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها، وندعو إلى دار السلام دار الخلد. ولما كانت جملة: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} تذييلا وكان شأن التذييل أن يكون كاملا جامعا مستقلا جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذ وضع قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو} موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد.
وحذف مفعول {يَدْعُو} لقصد التعميم، أي يدعو كل أحد. والدعوة هي: الطلب والتحريض. وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه.
ودار السلام: الجنة، قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة الأنعام[127].
والهداية: الدلالة على المقصود النافع، والمراد بها هنا خلق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله: {مَنْ يَشَاءُ} بعد قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو} المفيد التعميم فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أن {يَهْدِي} هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر، وهي حصول الاهتداء بالفعل، أي خلق حصوله بأمر التكوين، كقوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وهذا التكوين يقع إما في كل جزيئة من جزيئات الاهتداء على طريقة الأشاعرة، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال، وشؤون الغيب خفية. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
والصراط المستقيم: الطريق الموصل.
[26] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهديا وغير مهدي. ففي هذه الجملة ذكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين، ولك أن تجعلها بدل مفصل من مجمل.
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان علم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن، وأن الحسنى هي دار
(11/63)
السلام. ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة الأنعام[125-127]: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والحسنى: في الأصل صفة أنثى الاحسن، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولم تتبع موصوفها.
وتعريفها يفيد الاستغراق، مثل البشرى، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات. والمعنى: للذين أحسنوا جنس الأحوال الحسنى عندهم، أي لهم ذلك في الآخرة. وبذلك تعين أن ما صدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علما بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة.
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحسنى بالمعنى الذي صار علما بالغلبة، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار، فقيل: هي رضي الله تعالى كما قال: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وقيل: هي رؤيتهم الله تعالى. وقد ورد ذلك عن النبيء صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم" و"جامع الترمذي" عن صهيب عن النبيء صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه" . وهو أصرح ما ورد في تفسيرها.
والرهق: الغشيان. وفعله من باب فرح.
والقتر: لون هو غبرة إلى السواد. ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأئمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوف. وهو من آثار تهيج الكبد من ارتجاف الفؤاد خوفا وتوقعا.
والذلة: الهوان. والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل. والكلام مستعمل في صريحه وكنايته، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة.
(11/64)
وليس معنى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحا لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعا بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلا للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} إلى قوله: {مُظْلِمًا} [يونس: 27].
وجملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} نتيجة للمقدمة، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف.
واسم الإشارة يرجع إلى {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
[27] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
عطف على جملة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26]. وعبر في جانب المسيئين بفعل {كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافا للمعتزلة والخوارج.
وجملة: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} خبر عن {الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} . وتنكير "سيئة" للعموم، أي جزاء كل سيئة بمثلها، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ، كقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
أي كل ضر. وذلك العموم مغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ، أو يقدر مجرور، أي جزاء سيئة منهم، كما قدر في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أي فعليه.
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويرهقهم قتر، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} .
(11/65)
وجملة: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} خبر ثان، أو حال من {الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} ، أو معترضة. وهو تهديد وتأييس.
والعاصم: المانع والحافظ. ومعنى {مِنَ اللَّهِ} من انتقامه وجزائه. وهذا من تعليق الفعل باسم الذات، والمراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].
وجملة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} الخ بيان لجملة {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} بيان تمثيل، أو حال من الضمير في قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ} .
و {أُغْشِيَتْ} معدى غشي إذا أحاط وغطا، فصار بإلهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسا. وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في الأعراف[54]، وقوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} في الأنفال[11].
والقطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور: جمع قطعة، وهي الجزء من الشيء، سمي قطعة لأنه يقتطع من كل غالبا، فهي فعلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية. وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب {قِطْعا} بسكون الطاء. وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81].
وقوله: {مُظْلِماً} حال من الليل. ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلما لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم: ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكن ظلمته. شبهت قترة وجوههم بظلام الليل.
وجملة: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هي كجملة {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26].
[28, 29] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
هذه الجملة معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس: 27] باعتبار كونها معطوفة على جملة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة
(11/66)
بإجمال حالة جامعة للفريقين ثم بتفصيل حالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها.
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعا، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال، ونحشرهم جميعا. وإنما زيد لفظ {يَوْمَ} في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمال عظيمة أريد التذكير به تهويلا وموعظة.
وانتصاب {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} إما على المفعولية بتقدير: اذكر، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} والتقدير: ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعا. وضمير {نَحْشُرُهُمْ} للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات. وقوله: {جَمِيعاً} حال من الضمير البارز في {نَحْشُرُهُمْ} للتنصيص على إرادة عموم الضمير. وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم. ومن نكت ذكر حشر الجميع هنا التنبيه على أن فظيع حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين.
والحشر: الجمع من أمكنة إلى مكان واحد. وتقدم في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} في سورة الأنعام[111].
وقوله: {مَكَانَكُمْ} منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: الزموا مكانكم، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر، نحو: صه، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره، قال عمرو بن الاطنابة:
مكانك تحمدي أو تستريحي
وأمرهم بملازمة المكان تثقيف وحبس. وإذ قد جمع فيه المخاطبون وشركاؤهم علم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين، وهي كون أحد الفريقين عابدا والآخر معبودا.
وقوله: {أَنْتُمْ} تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر، وهو المسوغ
(11/67)
للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان.
والشركاء: الأصنام. وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك، ولذلك أضيف إلى ضميرهم، أي أنتم والذين زعمتم أنهم شركاء. فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم.
وعطف {فَزَيَّلْنَا} بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث. ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارنا لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
وزيل: مضاعف زال المتعدي. يقال: زاله عن موضعه يزيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين، فزيل فعل للمبالغة في الزيل مثل فرق مبالغة في فرق. والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوصل التي كانت بينهم. والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول.
وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبادها.
وجملة: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} عطف على جملة: {فَزَيَّلْنَا} فهو في حيز التعقيب، ويجوز جعلها حالا.
ويقول الشركاء هذا الكلام بخلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم، وذلك مما يزيدهم ندامة. وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم. وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذبا. وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر.
والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مبينا لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادة كاملة وهي العبادة التي يقصد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالما وآمرا بتلك العبادة. ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نفيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} كما تفسره
(11/68)
الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40, 41].
فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها، ويجوز ان يكون نطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولا فكانت عقولها مستحدثة يومئذ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عبدوها. ويفسر هذا قولهم بعد ذلك {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
وجملة: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} مؤكدة بالقسم ليثبتوا البراءة مما ألصق بهم. وجواب القسم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} . وليس قولهم: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة.
وعطفت حملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبر غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم. والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال، كقوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 90-93]. ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مؤكدا لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكدا لما بعده بطريق جواب القسم به. وهذه الآية لم تفسر حق تفسيرها.
والشهيد: الشاهد، وهو المؤيد والمصدق لدعوى مدع، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء: 6].
و"كفى" بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره. وتقدم في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} في سورة النساء[45]. وهو بصيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم. والباء مزيدة للتأكيد. وأصله كفى بالله شهيدا.
وانتصب {شَهِيداً} على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال.
وجملة: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} جواب للقسم."وإنْ" مخففة من "إنّ". واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف.
وجملة: {كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} مفسرة لضمير الشأن. واللام فارقة بين "وإنْ" المؤكدة المخففة و"إنْ" النافية.
(11/69)
وتقديم قوله: {عَنْ عِبَادَتِكُمْ} على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.
[30] {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}
تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 28] إلى هنا. وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله: {نَحْشُرُهُمْ} [يونس: 28] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه. واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية. وعامله {تَبْلُو} ، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه.
و {تَبْلُو} تختبر، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين. و {أَسْلَفَتْ} قدمت، أي عملا أسلفته. والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه، وضده.
وقرأ الجمهور {تَبْلُو} بموحدة بعد المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار.
{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}
يجوز ان تكون معطوفة على جملة: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} فتكون من تمام التذييل، ويكون ضمير "ردوا" عائدا إلى "كُلُّ نَفْسٍ". ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 28] الآية فلا تتصل بالتذييل، أي ونردهم إلينا، ويكون ضمير "ردوا" عائدا إلى الذين أشركوا خاصة. والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه. ويناسب هذا المعنى قوله: {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} فإن فيه إشعارا بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة.
والرد: الإرجاع. والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين.
(11/70)
والمولى: السيد، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك. ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه.
والحق: الموافق للواقع والصدق، أي ردوا إلى الإله الحق دون الباطل. والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى إلحاق، أي إلحاق المولوية، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلا.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح.
والضلال: الضياع.
و {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام، فيجوز أن يكون ما صدق "ما" الموصولة الأصنام، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه، فالتقدير: ما كانوا يكذبون عليه أو له. وضلاله: عدم وجوده على الوصف المزعوم له.
ويجوز أن يكون ما صدق "ما" نفس الافتراء، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه. وضلاله: ظهور نفيه وكذبه.
[31] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية. وهذه الجملة تتنزل الاستدلال لقوله: {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية.
فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة، وبموهبة الحواس، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع،وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية.
والاستفهام تقريري. وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجواب لأن ذلك في صورة الحوار، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين، ولذلك كان من طرق
(11/71)
التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب.
وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تذكير بأحوال الرزق ليكون أقوى حضورا في الذهن، فالرزق من السماء المطر، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ.
و"أم" في قوله: { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر.
ومعنى: {يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} يملك التصرف فيهما، وهو ملك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه.
وأفرد {السَّمْعَ} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس. وأما {الْأَبْصَارَ} فجي به جمعا لأنه اسم، فهو ليس نصا في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} في سورة الأنعام[46].
وإخراج الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البيض؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. و"من" في قوله: {مِنَ الْمَيِّتِ} للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفة والبيض من الحيوان.
والتعريف في {الْحَيَّ} و {الْمَيِّتِ} في المرتين تعريف الجنس.
وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} في سورة آل عمران[27]. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء.
وقوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعبرة في قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 21, 22].
(11/72)
والفاء في قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط، وذلك أنه قصد تسبب قولهم: {اللَّهُ} على السؤال المأمور به النبيء عليه الصلاة والسلام، فنزل فعل {قُلْ} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله، ومنه قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [ الإسراء: 51, 52]. وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 35]. التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي احسن يقولوا. وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يخرجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام. والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور.
ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جاءت الفاء كما في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84, 85] الآيات.
والفاء في قوله: {فَقُلْ} فاء الفصيحة، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. والفاء في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} فاء التفريع، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم.
ومفعول {تَتَّقُونَ} محذوف، تقديره تتقونه، أي بتنزيهه عن الشريك.
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن. وفيه تحد لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحا، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامت عليهم الحجة بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} .
[32] {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، فالفرع من جملة المقول. واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق، الواهب الادراك، الخالق، المدبر، لأن اسم الإشارة قد جمعها. وأومأ إلى
(11/73)
أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها. واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية. و {رَبُّكُمُ} خبر. و {الْحَقُّ} صفة له. وتقدم الوصف بالحق آنفا في الآية مثل هذه.
والفاء في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل، فهو تفريع على تفريع وتقريع بعد تقريع.
و {مَاذَا} مركب من "ما" الاستفهامية و"ذا" الذي هو اسم إشارة. وهو يقع بعد: "ما" الاستفهامية كثيرا. وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لمجرد التأكيد. ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبا من إلزام أن يكون الاسم مزيدا كما هنا. وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة[26]. وانظر ما يأتي عند قوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} في هذه السورة[50].
والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله: {إِلَّا الضَّلالُ} .
و {بَعْدَ} هنا مستعملة في معنى "غير" باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايرة وعند انتفائه. فالمعنى: ما الذي يكون إثر انتفاء الحق.
ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهم عنه تعين أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله: {إِلَّا الضَّلالُ} . فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما. فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل. وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل.
والفاء في {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} للتفريع أيضا، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال.
و {أَنَّى} استفهام عن المكان، أي إلى مكان تصرفكم عقولكم. وهو مكان اعتباري، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقا غير موصلة فهو يصرف من ضلال إلى ضلال. قال ابن عطية: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا.
وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} : الأولى جوابية، والثانية فصيحة، والبواقي تفريعية.
(11/74)
[33] {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعد ما ظهر لهم من الحجج والآيات، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الازل، والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه. والمشبه به هو المشار إليه، وهو حالهم وضلالهم، أي كما شاهدت حقت كلمة ربك، يعني أن فيما شاهدت ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون.
وقوله: {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بدل من "كلمة" أو {من كلمات}. والمراد مضمون جملة: {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
وقرأ نافع، وابن عامر {كلمات ربك} بالجمع. وقرأها الباقون بالأفراد، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين.
والفسق: الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر، وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} في سورة البقرة[26].
ثم يجوز أن يكون المرد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن، فتكون الجملة تذييلا لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق، ولإفادة كون فسقهم علة في أن حقت عليهم كلمة الله، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من {حَقَّتْ} أي كذلك الحق حقت عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143].
وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب.
[24] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى
(11/75)
تُؤْفَكُونَ}
استئناف على طريقة التكرير لقوله قلبه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31]. وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال، وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال إلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن إلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها. وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل، وموقع التكرير يزيده استقلالا.
والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من إلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده، فلذلك أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فصار مجموع الجملتين قصرا لصفة بدء الخلق وإعادته على الله تعالى قصر إفراد، أي دون شركائكم، أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها.
وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع.
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفا عند قوله: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس: 28].
وقوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} كقوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. وأفكه: قلبه. والمعنى: فإلى أي مكان تقلبون. والقلب مجازي وهو إفساد الرأي. و"أنى" هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يحول فيها التفكير. واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضا.
[35] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
هذا تكرير آخر بعد قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34]. وهذا استدلال بنقصان إلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق، ومجموع الجملتين مفيد قصر صفة الهداية إلى
(11/76)
الحق على الله تعالى دون إلهتهم قصر إفراد، كما تقدم في نظيره آنفا. ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويهم على ضعيفهم، ولولا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة أو مضمحلة.
والمراد بالحق الدين، وهو الأعمال الصالحة، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح.
وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم - عليه السلام -: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] وقول موسى - عليه السلام -: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3]. وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية.
وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون إلهتهم. وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح، والأرواح مراد منها الاهتداء، فالمقصود الأعلى هو الهداية. وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطأ وهو جانب الله تعالى، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري، فاتباعه واجب عقلا واتباع غيره لا مصحح له، إذ لا غاية ترجى من اتباعه. وأفعال العقلاء تصان عن العبث.
وقوله: {مَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} أي الذي لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع.
والمراد ب {مَّنْ لا يَهِدِّي} الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء، كما قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42].
وقد اختلف القراء في قوله: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي} فقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بفتح التحتية وفتح إلهاء على أن أصله يهتدي، أبدلت التاء دالا لتقارب
(11/77)
مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى إلهاء الساكنة "ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع وإلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح إلهاء مختلسا بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافا في القراءة".
وقرأ حفص عن عاصم، ويعقوب - بفتح الياء وكسر إلهاء وتشديد الدال - على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على إلهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر عن عاصم - بكسر الياء وكسر إلهاء - بإتباع كسرة الياء لكسرة إلهاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف - بفتح الياء وسكون إلهاء وتخفيف الدال - على أنه مضارع هدى القاصر بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. وأريد بالهدي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها، فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية، ورمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في {لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} .
وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} بمعنى إهداء العروس، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها، فيقال: هديت إلى زوجها.
وجملة: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال. واتباعهم هو عبادتهم إياهم.
ف {مَا} استفهامية مبتدأ، و {لَكُمْ} خبر، واللام للاختصاص. والمعنى: أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلا من مكان إلى مكان.
وقول العرب: مالك? ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه. وفي الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال الناس: "ما له! ما له!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربٌ مَّا له" . فإذا كان المستفهم عنه حالا ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد "مَا له" كما وقع في الحديث.
وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال: {مَا لَكُمْ} : كلام تام، أي أي شيء لكم في عبادة الأوثان.
قال ابن عطية: ووقف القراء {فَمَا لَكُمْ} ثم يبدأ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
(11/78)
وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ولذلك قال بعض النحاة: مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي.
وجملة: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة: {مَا لَكُمْ} من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب. ولك أن تجعل هذه الجملة دليلا على حال محذوفة.
[36] {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}
عطف على جملة: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [يونس: 35] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلها، فبعد أن أمر الله رسوله بأن يحجهم فيما جعلوهم إلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتباع لظن باطل، أي لو هم ليس فيه شبهة حق.
والضمير في قوله: {أَكْثَرُهُمْ} عائد إلى أصحاب ضمير {شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 35] وضمير {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
وإنما عمهم في ضمائر {شُرَكَائِكُمْ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، وخص بالحكم في اتباعهم الظن أكثرهم، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام. وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عقلاء فليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفا ولكنهم أظهروا عبادتها تبعا للهوى وحفظا للسيادة بين قومهم. والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تخيل، ولكن المقصود هو زيادة الاستدال على بطلان عبادتها حتى أن من عبادها فريقا ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها. وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن. ففيه إيقاظ لجمهورهم، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطمئن إليه قلوبهم. وهذا كقوله الآتي: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ}
(11/79)
[يونس: 40].
والظن: يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45, 46]؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك. ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك. وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة. ومنه قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في سورة الأعراف[66]، وقوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} في سورة براءة[118].
وقد أطلق مجازا على الاعتقاد المخطيء، كما في قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقول النبيء عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" .
والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة، قال النبيء عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" . وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12] وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه. وهو العلم المستند إلى دليل راجح مع احتمال الخطأ احتمالا ضعيفا. وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة.
فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه، فمحمل قوله هنا: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئا في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقين من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالا صائبا إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفى فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد.
و {ظَنّاً} منصوب على المفعولية به ل {تَّبِعُ} . ولما كان الظن يقتضي مظنونا كان اتباع الظن اتباعا للمظنون، أي يتبعون شيئا لا دليل عليه إلا الظن، أي الاعتقاد الباطل.
(11/80)
وتنكير {ظَنّاً} للتحقير، أي ظنا واهيا. ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق ردا على اعتقادهم أنهم على الحق.
وجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق.
والحق: هو الثابت في نفس الأمر. والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته، وما دل عليها فعل الله مثل العلم والقدرة والإرادة .
و {شَيْئاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي لا يغني شيئا من الإغناء.
و {مِنَ} للبدلية، أي عوضا عن الحق.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} استئناف للتهديد بالوعيد.
[37] {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبيء صلى الله عليه وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم. ثم انتقل بعد ذلك إلى سؤالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن، وتخلل ذلك كله وصف افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقادا مبينا على سوء النظر والقياس الفاسد، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضا بقياسهم أحوال النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك، فقارعتهم هذه الآية بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله.
فجملة {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36] بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين: شؤون الإلهية وفي شؤون النبوءة، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض
(11/81)
على الغرض والقصة على القصة، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] تكملة للجواب عن قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن، وهي مفيدة المبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله، أي منسوبا إلى الله كذبا وهو آت من غيره، فإن قوله: {مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} أبلغ من أن يقال: ما هو بمفترى، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود، أي ما وجد أن يفترى، أي وجوده مناف لافترائه، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملا صادقا في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال: ما كان ليفترى، بلام الجحود، فحذف لام الجحود على طريقة حذف الجار اطرادا مع "أنْ"، ولما ظهرت "أنْ" هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر {أنْ} ولا تذكر، فلما ذكر فعل "كان" الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصدا للإيجاز.
وإنما عدل عن الإتيان بلام الجحود بأن يقال: ما كان هذا القرآن ليفترى، لأن الغالب أن لام الجحود تقع في نفي كون عن فاعل لا عن مفعول بما تدل علبه اللام من معنى الملك.
واعلم أن الإخبار ب {أَنْ} والفعل يساوي الإخبار بالمصدر، وهو مصدر بمعنى المفعول لأن صلة: {أَنْ} هنا فعل مبني للنائب. والتقدير ما كان هذا القرآن افتراء مفتر، فآل إلى أن المصدر المنسبك من"أن" مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، وهو أيضا أقوى مبالغة من أن يقال: ما كان مفترى، فحصلت المبالغة من جهتين: جهة فعل "كان" وجهة "أن" المصدرية.
و"من" في قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} للابتداء المجازي متعلقة ب {يُفْتَرَى} أي أن يفتريه على الله مفتر. فقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من ضمير {يُفْتَرَى} وهي في قوة الوصف الكاشف.
والافتراء: الكذب، وتقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود[103].
ولما نفي عن القرآن الافتراء أخبر عنه بأنه تصديق وتفصيل، فجرت أخباره كلها
(11/82)
بالمصدر تنويها ببلوغه الغاية في هذه المعاني حتى اتحد بأجناسها.
و {صْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} كونه مصدقا للكتب السالفة، أي مبينا للصادق منها ومميزا له عما زيد فيها وأسيء من تأويلها كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} كما تقدم في سورة العقود[48]. وأيضا هو مصدق "بفتح الدال" بشهادة الكتب السالفة فيما أخذت من العهد على أصحابها أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقا وخاتما. فالوصف بالمصدر صالح للأمرين لأن المصدر يقتضي فاعلا ومفعولا.
والتفصيل: التبيين بأنواعه. والظاهر أن تعريف {الْكِتَابِ} تعريف الجنس فيستغرق الكتب كلها. ومعنى كون القرآن تفصيلا لها أنه مبين لما جاء مجملا في الكتب السالفة، وناسخ لما لا مصلحة للناس في دوام حكمه، ودافع للمتشابهات التي ضل بها أهل الكتاب، فكل ذلك داخل في معنى التفصيل، وهو معنى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} في سورة العقود[48]. وهذا غير معنى قوله: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]في الآية الأخرى.
وجملة: {لا رَيْبَ فِيهِ} مستأنفة ردت مزاعم الذين زعموا أنه مفترى باقتلاع دعوى افترائه، وأنها مما لا يروج على أهل الفطن والعقول العادلة، فالريب المنفي عنه هو أن يكون من أحواله في ذاته ومقارناته ما يثير الريب، ولذلك كان ريب المرتابين فيه ريبا مزعوما مدعى وهم لو راجعوا أنفسهم لوجدوها غير مرتابة. وقد تقدم القول في نظير هذا في طالعة سورة البقرة[2].
وموقع قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} محتمل وجوها أظهرها أنه ظرف مستقر في موضع الخبر عن مبتدإ محذوف هو ضمير القرآن، والجملة استئناف ثان، و"من" ابتدائية تؤذن بالمجيء، أي هو وارد من رب العالمين، أي من وحيه وكلامه، وهذا مقابل قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
[38] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{أَمْ} للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترى من دون الله.
(11/83)
ولما اختصت: {أَمْ} بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدرا معها حيثما وقعت، فالاستفهام الذي تشعر به "أم" استفهام تعجيبي إنكاري، والمعنى: بل أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء.
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب، وبتشريف نسبته إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله. والأمر أمر تعجيز، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن، أي تشابهه في البلاغة وحسن النظم. وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} في سورة البقرة[23].
وقوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هو كقوله في آية البقرة[23]: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ومعنى: {صَادِقِينَ} هنا، أي قولكم أنه افترى، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية.
وحذف مفعول {اسْتَطَعْتُمْ} لظهوره من فعل "ادْعُوا"، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن.
[39] {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
{بَلْ} إضراب انتقالي لبيان كنه تكذيبهم، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ أنهم بادروا إلى تكذيبه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37].
والتكذيب: النسبة إلى الكذب، أو الوصف بالكذب سواء كان عن اعتقاد أم لم يكنه.
(11/84)