الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
الظاهر وبضميره، فالتقدير:وأخذنا، من الذين قالوا:إنا نصارى، ميثاقهم، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر.وقيل:ضمير {مِيثَاقَهُمْ} عائد إلى اليهود، والإضافة على معنى التشبيه، أي من النصارى أخذنا ميثاق اليهود، أي مثله، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبه به.وهذا بعيد، لأن ميثاق اليهود لم يفصل في الآية السابقة حتى يشبه به ميثاق النصارى.
وعبر عن النصارى بـ {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} هنا وفي قوله الآتي: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]تسجيلا عليهم بأن اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله، {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدين بعد عيسى من أتباعه، مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى؛ وأعظم من ذلك كله أن ينصروا النبي المبشر به في التوراة والإنجيل الذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلص الناس من الضلال {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]الآية.فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصة النصارى، فهذا اللقب، وهو النصارى، حجة عليهم قائمة بهم متلبسة بجماعتهم كلها.
ويفيد لفظ {قَالُوا} بطريق التعريض الكنائي أن هذا القول موفى به وأنه يجب أن يوفى به.هذا إذا كان النصارى جمعا لناصري أو نصراني على معنى النسبة إلى النصر مبالغة، كقولهم:شعراني، ولحياني، أي الناصر الشديد النصر؛ فإن كان النصارى اسم جمع ناصري، بمعنى المنسوب إلى الناصري، والناصري عيسى، لأنه ظهر من مدينة الناصرة.فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السلام في كتب اليهود لأنه ظهر بدعوة الرسالة من بلد الناصرة في فلسطين؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه؛ فكل من حاد عن شرعه لم يكن حقيقا بالنسبة إليه إلا بدعوى كاذبة، فلذلك قال {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وقيل:إن النصارى جمع نصراني، منسوب إلى النصر:كما قالوا:شعراني، ولحياني، لأنهم قالوا:نحن أنصار الله.وعليه فمعنى {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أنهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيدوه بفعلهم.
وقد أخذ الله على النصارى ميثاقا على لسان المسيح عليه السلام.وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل.
(5/64)

وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} حقيقة الإغراء حث أحد على فعل وتحسينه إليه حتى لا يتوانى في تحصيله؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم أي لزومهما لهم فيما بينهم، شبه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحدا بعمل يعمله تشبيه معقول بمحسوس.ولما دل الظرف، وهو {بينهم}، على أنهما أغريتا بهم استغني عن ذكر متعلق{أغرينا}وتقدير الكلام:فأغرينا العداوة والبغضاء بهم كائنتين بينهم.ويشبه أن يكون العدول على تعدية " أغرينا " بحرف الجر إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريدا لبيان أن المراد بـ {أغرينا} ألقينا.
وما وقع في الكشاف من تفسير {أغرينا} بمعنى ألصقنا تطوح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغراء، وهو الدهن الذي يلصق الخشب به، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال.والعداوة والضمير المجرور بإضافة بين إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضمائر.
والعداوة والبغضاء اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة، فهما ضدان للمحبة.
وظاهر عطف أحد الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة، أنهما ليسا من الأسماء المترادفة؛ لأن التزام العطف بهذا الترتيب يبعد أن يكون لمجرد التأكيد، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرد التأكيد كقول عدي:
وألفى قولها كذبا ومينا
وقد ترك علماء اللغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء، وتابعهم المفسرون على ذلك؛ فلا تجد من تصدى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفه التونسي، فقال في تفسيره:"العداوة أعم من البغضاء لأن العداوة سبب في البغضاء؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتى تنشأ عنه المباغضة، وقد يتمادى على ذلك"اهـ.
ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب الكليات أنه قال:"العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو."وهو يخالف كلام ابن عرفة.وفي تعليليهما مصادرة واضحة، فإن كانت العداوة أعم من البغضاء زادت فائدة العطف لأنه يصير في معنى الاحتراس، وإن كانت العداوة أخص من البغضاء لم يكن العطف إلا للتأكيد، لأن التأكيد يحصل بذكر لفظ يدل على بعض مطلق من معنى الموكد، فيتقرر
(5/65)

المعنى ولو بوجه أعم أو أخص، وذلك يحصل به معنى التأكيد.
وعندي:أن كلا الوجهين غير ظاهر، والذي أرى أن بين معنيي العداوة والبغضاء التضاد والتباين؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها:معاملة بجفاء، أو قطيعة، أو إضرار، لأن العداوة مشتقة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإن مشتقات مادة "ع د و" كلها تحوم حول التفرق وعدم الوئام.وأما البغضاء فهي شدة البغض، وليس في مادة "ب غ ض" إلا معنى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها.نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب، وهو من علامات الاشتقاق، فإن مقلوب بغض يكون غضب لا غير، فالبغضاء شدة الكراهية غير مصحوبة بعدو، فهي مضمرة في النفس.فإذا كان كذلك لم يصح اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقت واحد فيتعين أن يكون إلقاؤهما بينهم على معنى التوزيع، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاء بين بعض آخر.فوقع في هذا النظم إيجاز بديع، لأنه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد.
ومن اللطائف ما ذكره ابن هشام، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب:
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
أن الزمخشري قال:إنه رأى نفسه في النوم يقول:العداوة مشتقة من عدوة الوادي، أي جانبه، لأن المتعاديين يكون أحدهما مفارقا للآخر فكأن كل واحد منهما على عداوة اه.فيكون مشتقا من الاسم الجامد وهو بعيد.
وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقابا في الدنيا لقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} جزاء على نكثهم العهد.
وأسباب العداوة والبغضاء شدة الاختلاف:فتكون من اختلافهم في نحل الدين بين يعاقبه، وملكانية، ونسطورية، وهراتقة "بروتستانت" ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدنيا، كما كان بين ملوك النصرانية، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم.
فإن قيل:كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلبا على المسلمين? فجوابه:أن العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فرقا، كما قدمناه في سورة النساء[171] عند قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، وذلك الانقسام يجر إليهم العداوة وخذل بعضهم بعضا.ثم إن دولهم كانت منقسمة ومتحاربة، ولم تزل كذلك، وإنما تألبوا في
(5/66)

الحروب الصليبية على المسلمين ثم لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن.وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتحاد بينهم، وكان اختلافهم لطفا بالمسلمين في مختلف عصور التاريخ الإسلامي، على أن اتفاقهم على أمة أخرى لا ينافي تمكن العداوة فيما بينهم، وكفى بذلك عقابا لهم على نسيانهم ما ذكروا به.
وقيل:الضمير عائد على الفريقين، أي بين اليهود والنصارى، ولا إشكال في تجسم العداوة بين وقوله: {وسوف ينبئهم الله} تهديد لأن المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم كقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:135]وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقنه، ويحتمل أن يحصل في الدنيا، فالإنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم.
[16,15] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16]
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة؛ إذ قد تهيأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهل إقامة الحجة عليهم، ولذلك ابتدئ وصف الرسول بأنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب، ثم أعقبه بأنه يعفو عن كثير.
ومعنى {يعفو} يعرض ولا يظهر، وهو أصل مادة العفو.يقال:عفا الرسم بمعنى لم يظهر، وعفاه:أزال ظهوره.ثم قالوا:عفا عن الذنب، بمعنى أعرض، ثم قالوا:عفا عن المذنب، بمعنى ستر عنه ذنبه، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة، أي يبين لكم دينكم ويعفو عن جهلكم.
وجملة {قد جاءكم من الله نور} بدل من جملة {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} بدل اشتمال، لأن مجيء الرسول اشتمل على مجيء الهدى والقرآن، فوزانها وزان "علمه" من قولهم:نفعني زيد علمه، ولذلك فصلت عنها، وأعيد حرف "قد" الداخل على الجملة المبدل منها
(5/67)

زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل، لأن تعلق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلق البدل المطابق.
وضمير{به}راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين.
وسبل السلام:طرق السلامة التي لا خوف على السائر فيها.وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة، مثل وادي السباع، الذي قال فيه سحيم بن وثيل الرياحي:
ومررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه تثية
وأخوف إلا ما وقى الله ساريا فسبيل السلام استعارة لطرق الحق.والظلمات والنور استعارة للضلال والهدى.والصراط المستقيم مستعار للإيمان.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى.كان أعظم ضلال النصارى ادعاؤهم إلهية عيسى عليه السلام، فإبطال زعمهم ذلك هو أهم أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النور وهديهم إلى الصراط المستقيم، فاستأنف هذه الجملة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} استئناف البيان.وتعين ذكر الموصول هنا لأن المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال، لأن ضلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفرا.
وحكى قولهم بما تؤديه في اللغة العربية جملة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسرون حقه من بيان انتزاع المعنى المراد به، من تركيبه، من الدلالة على اتحاد مسمى هذين الاسمين بطريق تعريف كل من المسند إليه والمسند بالعلمية بقرينة السياق الدالة على أن الكلام ليس مقصودا للإخبار بأحداث لذوات، المسمى في الاصطلاح:حمل اشتقاق بل هو حمل مواطأة، وهو ما يسمى في المنطق:حمل "هو هو" ، وذلك حين يكون كل من المسند إليه والمسند معلوما للمخاطب ويراد
(5/68)

بيان أنها شيء واحد، كقولك حين تقول:قال زياد، فيقول سامعك:من هو زياد، فتقول:زياد هو النابغة، ومثله قولك:ميمون هو الأعشى، وابن أبي السمط هو مروان بن أبي حفصة، والمرعث هو بشار، وأمثال ذلك.فمجرد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتحاد، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلف قصدا لتأكيد الاتحاد، فليس في مثل هذا التركيب إفادة قصر أحد الجزأين على الآخر، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئا سوى التأكيد.وكذلك وجود حرف "إن" لزيادة التأكيد، ونظيره قوله رويشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة:
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أن ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه، وهو الأصح؛ أو العكس، وهو قليل، لأن مقام اتحاد المسميين يسوي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر.وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب الكشاف عقب قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} معناه"بت القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير"ومحل الشاهد من كلام الكشاف ما عدا قوله "لا غير" ، لأن الظاهر أن "لا غير" يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التركيب، وهو بعيد.وقد يقال:إنه أراد أن معنى الانحصار لازم بمعنى الاتحاد وليس ناشئا عن صيغة قصر.
ويفيد قولهم هذا أنهم جعلوا حقيقة الإله الحق المعلوم متحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتحاد الاسمين للمسمى الواحد، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهية في ذات عيسى.ولما كانت الحقيقة الإلهية معنونة عند جميع المتدينين باسم الجلالة جعل القائلون اسم الجلالة المسند إليه، واسم عيسى المسند ليدلوا على أن الله اتحد بذات المسيح.
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أن هذا قالوه صراحة عن اعتقاد، إذ سرى لهم القول باتحاد اللاهوت بناسوت عيسى إلى حد أن اعتقدوا أن الله سبحانه قد اتحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى.وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول.وللنصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتحاد أصل، وهو أن الله تعالى جوهر واحد، هو مجموع ثلاثة أقانيم جمع أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها:الأصل، كما في القاموس؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، وانقسموا في بيان اتحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب:مذهب الملكانية وهم الجاثلقية
(5/69)

"الكاثوليك" ، ومذهب النسطورية، ومذهب اليعقوبية.وتفصيله في كتاب المقاصد.وتقدم مفصلا عند تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} في سورة النساء[171}وهذا قول اليعاقبة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البرذعاني، وكان راهبا بالقسطنطينية، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة الملكانية، ويقال لليعاقبة:أصحاب الطبيعة الواحدة، وعليها درج نصارى الحبشة كلهم.ولا شك أن نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة.
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدى القرآن لبيان ردها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة.وقد بينا حقيقة معتقد النصارى في اتحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} في سورة النساء[171]
وبين الله لرسوله الحجة عليهم بقوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} الآية، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم:إن الله هو المسيح، للدلالة على أن الإنكار ترتب على هذا القول الشنيع، فهي للتعقيب الذكري.وهذا استعمال كثير في كلامهم، فلا حاجة إلى ما قيل:إن الفاء عاطفة على محذوف دل عليه السياق، أي ليس الأمر كما زعمتم، ولا أنها جواب شرط مقدر، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئا إلخ.
ومعنى يملك شيئا هنا يقدر على شيء، فالمركب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية، وهذا اللازم متعدد وهو الملك، فاستطاعة التحويل، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} الآية في سورة الفتح[11].وفي الحديث قال رسول الله لعيينه بن حصن: "أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة" لأن الذي يملك يتصرف في مملوكه كيف شاء.
فالتنكير في قوله {شيئا} للتقليل والتحقير.ولما كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضيا نفي الكثير بطريق الأولى، فالمعنى:فمن يقدر على شيء من الله، أي من فعله وتصرفه أن يحوله عنه، ونظيره {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } [يوسف:67]وسيأتي لمعنى "يملك" استعمال آخر عند قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]في هذه السورة، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في هذه السورة[المائدة:41]
(5/70)

وحرف الشرط من قوله {إِنْ أَرَادَ} مستعمل في مجرد التعليق من غير دلالة على الاستقبال، لأن إهلاك أم المسيح قد وقع بلا خلاف، ولأن إهلاك المسيح، أي موته واقع عند المجادلين بهذا الكلام، فينبغي إرخاء العنان لهم في ذلك لإقامة الحجة، وهو أيضا واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الذين قالوا:إن الله أماته ورفعه دون أن يمكن اليهود منه، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157]وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال.والمضارع المقترن بأن وهو {أَنْ يُهْلِكَ} مستعمل في مجرد المصدرية.والمراد بـ {مَنْ فِي الْأَرْضِ} حينئذ من كان في زمن المسيح وأمه من أهل الأرض فقد هلكوا كلهم بالضرورة.والتقدير:من يملك أن يصد الله إذ أراد إهلاك المسيح وأمه ومن في الأرض يومئذ.
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جعل {مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} بمعنى نوع الإنسان، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل {يهلك} على طريقة التغليب؛ فإن بعضها وقع هلكه وهو أم المسيح، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعا، أي إهلاك جميع النوع، لأن ذلك أمر غير واقع ولكنه ممكن الوقوع.
والحاصل أن استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليبا للمعنى الحقيقي، لأن {مَنْ فِي الْأَرْضِ} يعم الجميع وهو الأكثر.ولم يعطه المفسرون حقه من البيان.وقد هلكت مريم أم المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح.
والتذييل بقوله : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} فيه تعظيم شأن الله تعالى.ورد آخر عليهم بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يظهر المسيح، فالله هو الإله حقا، وأنه يخلق ما يشاء، فهو الذي خلق ا لمسيح خلقا غير معتاد، فكان موجب ضلال من نسب له الألوهية.وكذلك قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[18] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
(5/71)

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدل على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى، ثم هو مناقض لمقالاتهم الأخرى.عطف على المقال المختص بالنصارى، وهو جملة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17].وقد وقع في التوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله؛ ففي سفر التثنية أول الفصل الرابع عشر قول موسى: "أنتم أولاد للرب أبيكم".وأما الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح، وبأبي المؤمنين به، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متى في الإصحاح الثالث: "وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"وفي الإصحاح الخامس: "طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".وفي الإصحاح السادس: "وأبوكم السماوي يقوتها".وفي الإصحاح العاشر: "لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم".وكلها جائية على ضرب من التشبيه فتوهمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها.
وعطف {وأحباؤه} على {أبناء الله} أنهم قصدوا أنهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبا عليه.
وقد علم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين: أولهما من ا لشريعة، وهو قوله :{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يعني أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه.روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد:"أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي:"في قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}. وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم، لأن ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للرد به، إذ يصير الرد مصادرة، بل المقصود الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدنيا.فأما اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80].وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى بن مريم مخلصا وشافعا وعرض نفسه للصلب ليكفر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى فحصل الرد عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا.
(5/72)

ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي ينالكم ما ينال سائر البشر.
وفي هذا تعريض أيضا بأن المسيح بشر، لأنه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنه ناله الصلب والقتل.
وجملة قوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} كالاحتراس، لأنه لما رتب على نوال العذاب إياهم أنهم بشر دفع توهم النصارى أن البشرية مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، أي من البشر {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
[19] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
كرر الله موعظتهم ودعوتهم بعد أن بين لهم فساد عقائدهم وغرور أنفسهم بيانا لا يدع للمنصف متمسكا بتلك الضلالات، كما وعظهم ودعاهم آنفا بمثل هذا عقب بيان نقضهم المواثيق.فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:15] الآيات، إلا أنه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكرهم بأن كتبهم مصرحة بمجيء رسول عقب رسلهم، وليريهم أن مجيئه لم يكن بدعا من الرسل إذ كانوا يجيئون على فتر بينهم.وذكر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأن ما ذكر قبل الموعظة هنا قد دل على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة، وما ذكر قبل الموعظة هنالك إنما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون علمه عن الناس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم.وحذف مفعول {يبين} لظهور أن المراد بيان الشريعة.فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزل منزلة تأكيد لجملة {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ} [المائدة:15]، فلذلك فصلت.
وقوله: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} حال من ضمير {يُبَيِّنُ لَكُمْ} ، فهو ظرف مستقر، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بـ {جاءكم}. ويجوز تعلقه بفعل {يبين} لأن البيان انقطع في مدة الفترة.
و "على" للاستعلاء المجازي بمعنى "بعد" لأن المستعلي يستقر بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه، فشبه استقراره بعده باستعلائه عليه، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء.
(5/73)

والفترة: انقطاع عمل ما.وحرف "من" في قوله: {مِنَ الرُّسُلِ} للابتداء، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدة وجود الرسل، أي أيام إرسال الرسل.
والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدين، فكما سمي الرسول رسولا سمي تبليغه مجيئا تشبيها بمجيء المرسل من أحد إلى آخر.
والمراد بالرسل رسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح، أو أريد المسيح خاصة.والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة.وأما غير أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان.
و {أَنْ تَقُولُوا} تعليل لقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ} لبيان بعض الحكم من بعثة الرسول، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة، أو تقريعهم في الدنيا على ما غيروا من شرائعهم، لئلا يكون من معاذيرهم أنهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الديانة، فلعلهم أن يعتذروا بأنهم لما مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنهم لو جاءهم رسول لاهتدوا.فالمعنى أن تقولوا:ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى.وليس المراد أن يقولوا:ما جاءنا رسول إلينا أصلا، فإنهم لا يدعون ذلك، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى.فكان قوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} تعليلا لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ومتعلقا بفعل {ما جاءنا} ووجب تقدير لام التعليل قبل "أن" وهو تقدير يقتضيه المعنى.ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجر قبل "أن" حذفا مطردا، والمقام يعين الحرف المحذوف؛ فالمحذوف هنا حرف اللام.
ويشكل معنى الآية بأن علة إرسال إليهم هي انتفاء أن يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} لا إثباته كما هو واضح، فلماذا لم يقل:أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا.فاختلف النحويون في تقدير ما به يتقوم المعنى في الآيات وغيرها:فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولا لأجله لفعل {جاءكم}، وقدروه: "كراهية أن تقولوا" ، وعليه درج صاحب الكشاف ومتابعوه من جمهور المفسرين؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد "أن" ، والتقدير:أن لا
(5/74)

تقولوا، ودرج عليه بعض المفسرين مثل البغوي؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتمادا على قرينة السياق والمقام.وزعم ابن هشام في مغني اللبيب أنه تعسف، وذكر أن بعض النحويين زعم أن من معاني "أن" أن تكون بمعنى "لئلا" .
وعندي: أن الذي ألجأ النحويين والمفسرين لهذا التأويل هو البناء على أن "أن" تخلص المضارع للاستقبال فتقتضي أن قول أهل الكتاب:ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية، وأنه مقدر حصوله في المستقبل.ويظهر أن إفادة "أن" تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكثرية وليست بمطردة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيان وذكر أن أبا بكر الباقلاني ذهب إليه، بل قد تفيد "أن" مجرد المصدرية كقوله تعالى :{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184]، وقول امرئ القيس:
فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب وأنعسا
فإنه لا يريد أنه ينعس في المستقبل.وأن صرفها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن، فيكون المعنى هنا أن أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الذين اتبعوا الحنيفية، كأمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل، أو قاله اليهود لنصارى العرب.
وقوله: {فقد جاءكم بشير ونذير} الفاء فيه للفصيحة، وقد ظهر حسن موقعها بما قررت به معنى التعليل، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير.ونظير هذا قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
[20ـ22] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}.
عطف القصة على القصص والمواعظ.وتقدم القول في نظائر {وَإِذْ قَالَ} في مواضع منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} في البقرة[30].
(5/75)

ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أن القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحث على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم.
وقدم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم، فذكر نعمة الله عليهم، وعد لهم ثلاث نعم عظيمة:
أولاها:أن فيهم أنبياء، ومعنى جعل الأنبياء فيهم يجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء؛ فيحتمل أنه أراد نفسه، وذلك بعد موت أخيه هارون، لأن هذه القصة وقعت بعد موت هارون؛ فيكون قوله {أنبياء} جمعا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع، لأن الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية، وهذا الجنس انحصر في فرد يومئذ، كقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء.فقد كانت مريم أخت موسى نبية، كما هو صريح التوراة "إصحاح 15 من الخروج" .وكذلك ألداد وميداد كانا نبيين في زمن موسى، كما في التوراة "إصحاح 11 سفر العدد" .وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أن في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال.
والثانية: أن جعلهم ملوكا، وهذا تشبيه بليغ، أي كالملوك في تصرفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبودية التي كانت عليهم للقبط، وجعلهم سادة على الأمم التي مروا بها، من الآموربين، والعناقيين، والحشبونيين، والرفائيين، والعمالقة، والكنعانيين، أو استعمل فعل {جعلكم} في معنى الاستقبال مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] " قصدا لتحقيق الخبر، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم.
والنعمة الثالثة: أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وما صدق "ما" يجوز أن يكون شيئا واحدا مما خص الله به بني إسرائيل، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة، وأيدهم بالنصر في طريقهم، وساق إليهم رزقهم المن والسلوى أربعين سنة، وتولى تربية نفوسهم بواسطة رسله.
وقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هو الغرض من الخطاب، فهو كالمقصد بعد المقدمة، ولذلك كرر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء بـ {يا قوم} لزيادة
(5/76)

استحضار أذهانهم.والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه، أي تهيأوا للدخول.والأرض المقدسة بمعنى المطهرة المباركة، أي التي بارك الله فيها، أو لأنها قدست بدفن إبراهيم عليه السلام في أول قرية من قراها وهي حبرون.وهي هنا أرض كنعان من برية "صين" إلى مدخل "حماةوإلى حبرون" .وهذه الأرض هي أرض فلسطين، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى "حماة" شمالا وإلى "غزةوحبرون" جنوبا.وفي وصفها بـ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} تحريض على الإقدام لدخولها.
ومعنى {كَتَبَ اللَّهُ} قضى وقدر، وليس ثمة كتابة ولكنه تعبير مجازي شائع في اللغة، لأن الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه، كما قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الاهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله، وذلك أن الله وعد إبراهيم أن يورثها ذريته.ووعد الله لا يخلف.
وقوله: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} تحذير مما يوجب الانهزام، لأن ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال.والارتداد افتعال من الرد، يقال:رده فارتد، والرد: إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه.والأدبار:جمع دبر، وهو الظهر.والارتداد:الرجوع، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار، أي الوراء لأنهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره، كما يقولون:نكص على عقبيه، وركبوا ظهورهم، وارتدوا على أدبارهم، وعلى أعقابهم، فعدي بـ {على} الدالة على الاستعلاء، أي استعلاء طريق السير، نزلت الأدبار التي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الذي يسار عليه.
والانقلاب: الرجوع، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران:174].والمراد به هنا مطلق المصير.وضمائر {فيها} و {منها} تعود إلى الأرض المقدسة.
وأرادوا بالقوم الجبارين في الأرض سكانها الكنعانيين،والعمالقة، والحثيين، واليبوسيين، والأموريين.
والجبار:القوي، مشتق من الجبر، وهو الإلزام لأن القوي يجبر الناس على ما يريد.
وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم
(5/77)

بجودة الأرض وبقوة سكانها.وهذا كناية عن مخافتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدسة، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها، وأكدوا الامتناع من دخول أرض العدو توكيدا قويا بمدلول "إن" و "لن" في {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} تحقيقا لخوفهم.
وقوله: {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} تصريح بمفهوم الغاية في قوله: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبارين الذين فيها.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد:"أن الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسسون أرض كنعان التي وعدها الله بني إسرائيل من كل سبط رجلا؛ فعين موسى اثني عشر رجلا، منهم:يوشع بن نون من سبط أفرايم، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا، ولم يسموا بقية الجواسيس.فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكانها معتزين، طوال القامات، ومدنهم حصينة.فلما سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمروا على موسى وقالوا: لو متنا في أرض مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا، فقال يوشع وكالب للشعب:"إن رضي الله عنا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الرب ولا تخافوا من أهلها، فالله معنا.فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم.وقال لموسى:"لا يدخل أحد من سنه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلا يوشع وكالبا وكلكم ستدفنون في هذا القفر، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة".
[23ـ26] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[23] قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [24]قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [25]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[26]}
فصلت هذه الجمل الأربع جريا على طريقة المحاورة كما بيناه سالفا في سورة البقرة.والرجلان هما يوشع وكالب.ووصف الرجلان بأنهم {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله {يخافون} الخوف من العدو؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل.جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمة الخوف وعدم
(5/78)

الشجاعة، فيكون "من" في قوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} اتصالية وهي التي في نحو قولهم:لست منك ولست مني، أي ينتسبون إلى الذين يخافون.وليس المعنى أنهم متصفون بالخوف بقرينة أنهم حرضوا قومهم على غزو العدو، وعليه يكون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أن الله أنعم عليهما بالشجاعة، فحذف متعلق فعل "أنعم" اكتفاء بدلالة السياق عليه.ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوف من الله تعالى، أي كان قولهما لقومها "ادخلوا عليهم الباب" ناشئا عن خوفهما الله تعالى، فيكون تعريضا بأن الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى، ويكون قوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} استئنافا بيانيا لبيان منشأ خوفهما الله تعالى، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما.وهذا يقتضي أن الشجاعة في نصر الدين نعمة من الله على صاحبها.
ومعنى {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة.
و{الباب} يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدسة، أي المسالك التي يسلك منها إلى أرض كنعان، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعرين، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} ، فأرادا:فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم.وقد يسمى الثغر البحري بابا أيضا، مثل باب المندب، وسموا موضعا بجهة بخارى الباب.وحمل المفسرون الباب على المشهور المتعارف، وهو باب البلد الذي في سوره، فقالوا:أرادا باب قريتهم، أي لأن فتح مدينة الأرض يعد ملكا لجميع تلك الأرض.والظاهر أن هذه القرية هي "أريحا" أو "قادش" حاضرة العمالقة يومئذ، وهي المذكورة في سورة البقرة.والباب بهذا المعنى هو دفة عظيمة متخذة من ألواح توصل بجزأي جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادا لتلك الفرجة متى أريد سدها وبأن تفتح عند إرادة فتحها؛ فيسمى السد به غلقا وإزالة السد فتحا.
وبعد أن أمرا القوم باتخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله، ولذلك ذيلا بقولهما: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، لأن الشك في صدق الرسول مبطل للإيمان.
وإنما خاطبوا موسى عقب موعظة الرجلين لهم، رجوعا إلى إبايتهم الأولى التي شافهوا بها موسى إذ قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} ، أو لقلة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكدوا الامتناع الثاني من الدخول بعد المحاورة أشد توكيد دل على شدته في العربية بثلاث مؤكدات: "إن" ، و "لن" ، وكلمة "أبدا".
(5/79)

ومعنى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} إن كان خطابا لموسى أنهم طلبوا منه معجزة كما تعودوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبارين بدعوة موسى.وقيل: أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى، وهذا بعيد، لأنهم ما كانوا يشكون في رسالته، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جوابا عن مقالتهم هذه إلا وصفهم بالفاسقين.والفسق يطلق على المعصية الكبيرة، فإن عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة، ولذلك قال تعالى : {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، وعن عبد الله بن مسعود قال: "أتى المقداد بن الأسود النبي وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال:"يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}". الحديث.
فلا تظنن من ذلك أن هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر، لأن سورة المائدة من آخر ما نزل، وإنما تكلم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدثهم به عن بني إسرائيل، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللفظ.
"قال" أي موسى، مناجيا ربه أو بمسمع منهم ليوقفهم على عدم امتثالهم أمر ربهم {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}، يجوز أن يكون المعنى لا أقدر إلا على نفسي وأخي، وإنما لم يعد الرجلين اللذين قالا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} ، لأنه خشي أن يستهويهما قومهما.والذي في كتب اليهود أن هارون كان قد توفى قبل هذه الحادثة .ويجوز أن يريد بأخيه يوشع بن نون لأنه كان ملازما في شئونه,وسماه الله فتاه في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]الآية.وعطفه هنا على نفسه لأنه كان محرضا للقومعلى دخول القرية .
ومعنى {افْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أن لا تؤاخذنا بجرمهم,لأنه خشي أن يصيبهم عذاب في الدنيا فيهلك الجميع فطلب النجاة,ولا يصح أن يريد الفرق بينهم في الآخرة؛لأنه معلوم أن الله لا يؤاخذ البرئ بذنب المجرم,ولأن براءة موسى وأخيه من الرضا بما فعله قومهم أمر يعلمه الله,ويجوز أن يراد بالفرق بينهم الحكم بينهم وإيقاف الضالين على غلطهم.
وقول الله تعالى له: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الخ جواب عن قول موسى {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمنه كلام موسى: لأن الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الذين عصوا أمره، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعم الجميع، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارا لموسى.فإن
(5/80)

قلت:هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه، فإنه بقي معهم في التيه حتى توفي.قلت:كان ذلك هينا على موسى لأن بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصيصة رسالته، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة، أما هم فكانوا في مشقة.
{يتيهون} يضلون، ومصدره التيه بفتح التاء وسكون الياء والتيه بكسر التاء وسكون التحتية.وسميت المفازة تيهاء وسميت تيها.وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتى بلغوا جبل "نيبو" على مقربة من نهر "الأردن" ، فهنالك توفي موسى عليه السلام وهنالك دفن.ولا يعرف موضع قبره كما في نص كتاب اليهود.وما دخلوا الأرض المقدسة حتى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى.وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنة، لأنهما لم يقولا:لن ندخلها.وأما بقية الرواد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها.
وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تفريع على الإخبار بهذا العقاب، لأنه علم أن موسى يحزنه ذلك، فنهاه عن الحزن لأنهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم.والأسى: الحزن، يقال أسي كفرح إذا حزن.
[27ـ30] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [27] لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [28] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ[29] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [30].
عطف نبأ على نبإ ليكون مقدمة للتحذير من قتل النفس والحرابة والسرقة، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها، وليحسن التخلص مما استطرد من الأنباء والقصص التي هي مواقع عبرة وتنظم كلها في جرائر الغرور.والمناسبة بينها وبين القصة التي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضاد.فأما التماثل فإن في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى:فإن بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إياهم بالدخول إلى الأرض المقدسة، وأحد ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنه لم يكن من المتقين.وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصية؛ فبنو إسرائيل قالوا {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة:24]، وابن آدم قال:
(5/81)

"لأقتلن الذي تقبل الله منه"وأما التضاد فإن في إحداهما إقداما مذموما من ابن آدم، وإحجاما مذموما من بني إسرائيل، وإن في إحداهما اتفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلاف أخوين بالصلاح والفساد.
ومعنى {ابْنَيْ آدَمَ} هنا ولداه، وأما ابن آدم مفردا فقد يراد به واحد من البشر نحو:"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك"، أو مجموعا نحو: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [لأعراف:31]
والباء في قوله {بالحق} للملابسة متعلقا بـ {اتل}. والمراد من الحق هنا الصدق من حق الشيء إذا ثبت، والصدق هو الثابت، والكذب لا ثبوت له في الواقع، كما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].ويصح أن يكون الحق ضد الباطل وهو الجد غير الهزل، أي اتل هذا النبأ متلبسا بالحق، أي بالغرض الصحيح لا لمجرد التفكه واللهو.ويحتمل أن يكون قوله {بالحق} مشيرا إلى ما حف بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه.
و {إذ} ظرف زمان لـ {نبأ} ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قربانا، فينتصب"إذ"على المفعول فيه.
وفعل {قربا} هنا مشتق من القربان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد، وأصله مصدر كالشكران والغفران والكفران، يسمى به ما يتقرب به المرء إلى ربه من صدقة أو نسك أو صلاة، فاشتق من القربان قرب، كما اشتق من النسك نسك، ومن الأضحية ضحى، ومن العقيقة عق.وليس {قربا} هنا بمعنى أدنيا إذ لا معنى لذلك هنا.
وفي التوراة هما "قايين" والعرب يسمونه قابيل وأخوه "هابيل" .وكان قابيل فلاحا في الأرض، وكان هابيل راعيا للغنم، فقرب قابيل من ثمار حرثه قربانا وقرب هابيل من أبكار غنمه قربانا.ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للناس عامة.فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل.والظاهر أن قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من ا لله لآدم.وإنما لم يتقبل الله قربان قابيل لأنه لم يكن رجلا صالحا بل كانت له خطايا.وقيل:كان كافرا، وهذا ينافي كونه يقرب قربانا.
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس، وإنما قرب كل واحد منهما قربانا وليس هو
(5/82)

قربانا مشتركا.ولم يسم الله تعالى المتقبل منه والذي لم يتقبل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة.
وإنما حمله على قتل أخيه حسده على مزية القبول.والحسد أول جريمة ظهرت في الأرض.
وقوله في الجواب: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} موعظة وتعريض وتنصل مما يوجب قتله.يقول: القبول فعل الله لا فعل غيره، وهو يتقبل من المتقي لا من غيره.يعرض به أنه ليس بتقي، ولذلك لم يتقبل الله منه.وآية ذلك أنه يضمر قتل النفس.ولذا فلا ذنب، لمن تقبل الله قربانه، يستوجب القتل.وقد أفاد قول ابن آدم حصر القبول في أعمال المتقين، فإذا كان المراد من المتقين معناه المعروف شرعا المحكي بلفظه الدال عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أن عمل غير المتقي لا يقبل؛ فيحتمل أن هذا كان شريعتهم، ثم نسخ في الإسلام بقبول الحسنات من المؤمن وإن لم يكن متقيا في سائر أحواله؛ ويحتمل أن يراد بالمتقين المخلصون في العمل، فيكون عدم القبول أمارة علة عدم الإخلاص، وفيه إخراج لفظ التقوى عن المتعارف؛ ويحتمل أن يريد بالتقبل تقبلا خاصا، وهو التقبل التام الدال عليه احتراق القربان، فيكون على حد قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، أي هدى كاملا لهم، وقوله: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]، أي الآخرة الكاملة، ويحتمل أن يريد تقبل القرابين خاصة؛ ويحتمل أن يراد المتقين بالقربان، أي المريدين به تقوى الله، وأن أخاه أراد بقربانه بأنه المباهاة.
ومعنى هذا الحصر أن الله لا يتقبل من غير المتقين وكان ذلك شرع زمانهم.
وقوله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الخ موعظة لأخيه ليذكره خطر هذا الجرم الذي أقدم عليه.وفيه إشعار بأنه يستطيع دفاعه ولكنه منعه منه خوف الله تعالى.والظاهر أن هذا اجتهاد من هابيل في استعظام جرم قتل النفس، ولو كان القتل دفاعا.وقد علم الأخوان ما هو القتل بما يعرفانه من ذبح الحيوان والصيد، فكان القتل معروفا لهما، ولهذا عزم عليه قابيل فرأى هابيل للنفوس حرمة ولو كانت ظالمة، ورأى في الاستسلام لطالب قتله إبقاء على حفظ النفوس لإكمال مراد الله من تعمير الأرض.ويمكن أن يكونا تلقيا من أبيهما الوصاية بحفظ النفوس صغيرها وكبيرها ولو كان في وقت الدفاع، ولذلك قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. فقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} يدل على أن الدفاع بما يفضي إلى القتل كان محرما وأن هذا شريعة منسوخة لأن الشرائع تبيح للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه ولو بقتل المعتدي، ولكنه لا يتجاوز الحد الذي يحصل به الدفاع.وأما
(5/83)

حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فذلك في القتال على الملك وقصد التغالب الذي ينكف فيه المعتدي بتسليم الآخر له؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلح الفريقين بالتسليم للآخر وحمل التبعة عليه تجنبا للفتنة، وهو الموقف الذي وقفه عثمان رضي الله عنه رجاء الصلاح.
ومعنى {أريد} أريد من إمساكي عن الدفاع.وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185].فالجملة تعليل للتي قبلها، ولذلك فصلت وافتتحت بـ "إن" المشعرة بالتعليل بمعنى فاء التفريع.
و {تبوء} ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين.والأظهر في معنى قوله: {بإثمي} ما له من الآثام الفارطة في عمره، أي أرجو أن يغفر لي وتحمل ذنوبي عليك.وفي الحديث: "يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه". رواه مسلم فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شرع في الإسلام، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نبوءة.
ومصدر {أَنْ تَبُوءَ} هو مفعول {أريد}، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم.وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: {وإثمك} تذكيرا له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] فعطف قوله: {وإثمك} إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو مما يريده.وكذلك قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} تذكيرا لأخيه بما عسى أن يكفه عن الاعتداء.ومعنى {مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي ممن يطول عذابه في النار، لأن أصحاب النار هم ملازموها.
وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} دلت الفاء على التفريع والتعقيب، ودل "طوع" على حدوث تردد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحسد ودافع الخشية، فعلمنا أن المفرع عنه محذوف، تقديره:فتردد مليا، أو فترصد فرصا فطوعت له نفسه.فقد قيل:إنه بقي زمانا يتربص بأخيه، "وطوع" معناه جعله طائعا، أي مكنه من المطوع.والطوع والطواعية:
(5/84)

ضد الإكراه، والتطويع: محاولة الطوع. شبه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقل والخشية.وشبهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعنيه ويذلل له القتل المتعاصي، فكان "طوع" استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أن نفس قابيل سولت له قتل أخيه بعد ممانعة.وقد سلك في قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} مسلك الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف {فطوعت له نفسه قتل أخيه} ويقتصر على قوله: {فقتله} لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشريرة وقساوة قلبه، إذ حدثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق، فلم يكن ذلك إطنابا.
ومعنى {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} صار، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة، أي صار بذلك القتل ممن خسر الآخرة، ويجوز إبقاء "أصبح" على ظاهرها، أي غدا خاسرا في الدنيا.والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاء، فتفيد أن القتل وقع في الصباح.
[31] {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}.
البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل.وكأن اختيار الغراب لهذا العمل إما لأن الدفن حيلة في الغربان من قبل، وإما لأن الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس.ولعل هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا:غراب البين.
والضمير المستتر في "يريه" إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز، لأنه سبب الرؤية فكأنه مريء.و "كيف" يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية، أو للاستفهام، والمعنى:ليريه جواب كيف يواري.
(5/85)

والسوأة:ما تسوء رؤيته، وهي هنا تغير رائحة القتيل وتقطع جسمه.
وكلمة {ياويلتا} من صيغ الاستغاثة المستعملة في التعجب، وأصله يا لويلتي، فعوضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم:يا عجبا، ويجوز أن يجعل الألف عوضا عن ياء المتكلم، وهي لغة، ويكون النداء مجازا بتنزيل الويلة منزلة ما ينادى، كقوله: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]والاستفهام في {أعجزت} إنكاري.
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أول حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة.وهو أيضا مشهد أول علم اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة، وهو أيضا مشهد أول مظاهر تلقي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبه الناس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتاريخ والدين والخلق.
{فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
القول فيه كالقول في {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30].ومعنى {مِنَ النَّادِمِينَ} أصبح نادما أشد ندامة، لأن {مِنَ النَّادِمِينَ} أدل على تمكن الندامة من نفسه، من أن يقال"نادما".كما تقدم عند قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} في سورة البقرة[35].
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه؛ لم يتفطن لما فيه عليه من مضرة قال تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميت ورأى نفسه يجترئ على قتل أخيه، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلا مبدأ الندامة وحب الكرامة لأخيه.
ويحتمل أن هذا الندم لم يكن ناشئا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه.فجاء في الصحيح: "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل". ويحتمل أن يكون دليلا لمن قالوا: إن القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عباس، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية من سورة النساء[93].
[32] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
(5/86)

فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
يتعين أن يكون {من أجل ذلك} تعليلا لـ {كتبنا} ، وهو مبدأ الجملة، ويكون منتهى التي قبلها قوله{مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة:31].وليس قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} متعلقا بـ "النادمين" تعليلا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله :{فَأَصْبَحَ} [المائدة:31].
و {من} للابتداء.والأجل الجراء والتسبب1 أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب.وقيل:هو خاص باكتساب الجريمة، فيكون مرادفا لجنى وجرم، ومنه الجناية والجريمة.غير أن العرب توسعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق.
والابتداء الذي استعملت له "من" هنا مجازي، شبه سبب الشيء بابتداء صدوره، وهو مثار قولهم:إن من معاني "من" التعليل، فإن كثرة دخولها على كلمة "أجل" أحدث فيها معنى التعليل، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التعليل، كما في قول الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى ألاقي محمدا
واستفيد التعليل من مفاد الجملة.وكان التعليل بكلمة من أجل أقوى منه بمجرد اللام، ولذلك اختير هنا ليدل على أن هذه الواقعة كانت هي السبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه.وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص{ذلك} قصد استيعاب جميع المذكور.
وقرأ الجمهور {من أجل ذلك} بسكون نون "من" وإظهار همزة "أجل" ـ.وقراءة ورش عن نافع بفتح النون وحذف همزة أجل على طريقته.وقرأ أبو جعفر{من اجل ذلك} بكسر نون "من" وحذف همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النون فصارت غير
ـــــــ
1 الجراء ـ بفتح الجيم وتشديد الراء ـ وهو بالمد,وبالقصر:التسبب,مشتق من جر إذا سبب وعلل.
(5/87)

منطوق بها.
ومعنى {كتبنا} شرعنا كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].ومفعول {كتبنا} مضمون جملة {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}. و "أن" من قوله:{أنه} بفتح الهمزة أخت "إن" المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدرية، وضمير "أنه" ضمير الشأن، أي كتبنا عليهم شأنا مهما هو مماثلة قتل نفس واحدة بغير حق لقتل القاتل الناس أجمعين.
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التركيب يتضح ببيان موقع حرف "أن" المفتوح الهمزة المشدد النون، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلا معمولا لعامل قبله يقتضيه، فتعين أن الجملة بعد "أن" بمنزلة المفرد المعمول للعامل، فلزم أن الجملة بعد"أن"مؤولة بمصدر يسبك، أي يؤخذ من خبر "أن" .
وقد اتفق علماء العربية على كون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون أختا لحرف "إن" المكسورة الهمزة، وأنها تفيد التأكيد مثل أختها.
واتفقوا على كون "أن" المفتوحة الهمزة من الموصولات الحرفية الخمسة التي يسبك مدخولها بمصدر.وبهذا تزيد "أن" المفتوحة على "إن" المكسورة.وخبر "أن" في هذه الآية جملة {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الخ.وهي مع ذلك مفسرة لضمير الشأن.ومفعول {كتبنا} مأخوذ من جملة الشرط وجوابه، وتقديره:كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس الخ بقتل الناس أجمعين في عظيم الجرم.
وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسرين والنحويين.ووقع في لسان العرب عن الفراء ما حاصله:إذا جاءت "أن" بعد القول وما تصرف منه وكانت تفسيرا للقول ولم تكن حكاية له نصبتها "أي فتحت همزتها"، مثل قولك:قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف، تفتح "أن" لأنها فسرت "كلاما" ، وهو منصوب، "أي مفعول لفعل "قلت" فمفسره منصوب أيضا على المفعولية لأن البيان له إعراب المبين .فالفراء يثبت لحرف "أن" معنى التفسير علاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدرية، فصار حرف "أن" بالجمع بين القولين دالا على معنى التأكيد باطراد ودالا معه على معنى المصدرية تارة وعلى معنى التفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام.ولعل الفراء ينحو إلى أن حرف "أن" المفتوحة الهمزة مركب من حرفين هما حرف "إن" المكسورة الهمزة المشددة النون، وحرف "أن" المفتوحة الهمزة الساكنة النون التي تكون تارة مصدرية وتارة تفسيرية؛ ففتح
(5/88)

همزته لاعتبار تركيبه من "أن" المفتوحة الهمزة الساكنة النون مصدرية أو تفسيرية، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من "إن" المكسورة الهمزة المشددة النون، وأصله و "أن إن" فلما ركبا تداخلت حروفهما، كما قال بعض النحويين:إن أصل "لن" "لا أن" .
وهذا بيان أن قتل النفس بغير حق جرم فظيع، كفظاعة قتل الناس كلهم.والمقصود التوطئة لمشروعية القصاص المصرح به في الآية الآتية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] الآية.
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أن حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم، لأن لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقهين وتطمينا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيت مصالحها، كمشروعية القصاص، فإنه قد يبدو للأنظار القاصرة أنه مداواة بمثل الداء المتداوى منه حتى دعا ذلك الاشتباه بعض الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلة أنهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر، وهي غفلة دق مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقق المجازاة بالقتل؛ لأن النفوس جبلت على حب البقاء وعلى حب إرضاء القوة الغضبية، فإذا علم عند الغضب أنه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوته الغضبية، ثم علل نفسه بأن ما دون القصاص يمكن الصبر عليه والتفادي منه.وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم، قال قائلهم، وهو قيس بن زهير العبسي:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179].
ومعنى التشبيه في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} حث جميع الأمة على تعقب قاتل النفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه، كل مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامة الناس.فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعا، ألا ترى أنه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية الناس.على أن فيه معنى نفسانيا جليلا، وهو أن الداعي الذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحب الانتقام على دواعي احترام الحق وزجر النفس والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم، فالذي كان من حيلته ترجيح ذلك ا لداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوما إلى هضم الحقوق، فكلما سنحت له الفرصة
(5/89)

قتل، ولو دعته أن يقتل الناس جميعا لفعل.ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقيته، وأنه منظور فيه لحق المقتول بحيث لو تمكن لما رضي إلا بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجب أحد من حكم القصاص قائلا:كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبين لهم أن قاتل النفس عند ولي المقتول كأنما قتل الناس جميعا.وقد ذكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النظر.
ومعنى {وَمَنْ أَحْيَاهَا} من استنقذها من الموت، لظهور أن الإحياء بعد الموت ليس من مقدور الناس، أي ومن اهتم باستنقاذها والذب عنها فكأنما أحيا الناس جميعا بذلك التوجيه الذي بيناه آنفا، أو من غلب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكف عن القتل عند الغضب.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة، وأنهم مع ما شدد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون، كما أشعر به قوله: {بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبينات.وحذف متعلق "مسرفون" لقصد التعميم.والمراد مسرفون في المفاسد التي منها قتل الأنفس بقرينة قوله: {فِي الْأَرْضِ}، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر {فِي الْأَرْضِ} [البقرة:60] " مع ذكر الإفساد.
وجملة{ثم إن كثيرا منهم} عطف على جملة {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ}. و "ثم" للتراخي في الرتبة، لأن مجيء الرسل بالبينات شأن عجيب، والإسراف في الأرض بعد تلك البينات أعجب.وذكر {في الأرض} لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه، كما في قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56].وتقديم {في الأرض} للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهمية شأنها.
وقرأ الجمهور {رُسُلُنَا} بضم السين.وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسكان السين.
[33ـ34] {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(5/90)

تخلص إلى تشريع عقاب المحاربين، وهم ضرب من الجناة بجناية القتل.ولا علاقة لهذه الآية ولا التي بعدها بأخبار بني إسرائيل.نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التفسير، وأخرج عقبه حديث أنس بن مالك في العرنيين.ونص الحديث من مواضع من صحيحه: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل وعرينة1 فأسلموا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوخمنا هذه الأرض، فقال لهم:هذه نعم لنا فاخرجوا فيها فاشربوا ألبانها وأبوالها، فخرجوا فيها فشربوا من أبوالها وألبانها واستصحوا، فمالوا على الراعي فقتلوه واطردوا الذود وارتدوا، فبعث رسول الله في آثارهم.بعث جرير بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم، فما ترجل النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم بمسامير أحميت، ثم حبسهم حتى ماتوا.وقيل:أمر بهم فألقوا في الحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا". قال جماعة: وكان ذلك سنة ست من الهجرة، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة.نقل ذلك مولى ابن الطلاع في كتاب الأقضية المأثورة بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين، وعلى هذا يكون نزولها نسخا للحد الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وحي أم عن اجتهاد منه، لأنه لما اجتهد ولم يغيره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرر به شرع.وإنما أذن الله له بذلك العقاب الشديد لأنهم أرادوا أن يكونوا قدوة للمشركين في التحيل بإظهار الإسلام للتوصل إلى الكيد للمسلمين، ولأنهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة.قال أبو قلابة: "فماذا يستبقى من هؤلاء قتلوا النفس وحاربوا الله ورسوله وخوفوا رسول الله".وفي رواية للطبري: نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. رواه عن ابن عباس والضحاك.والصحيح الأول.وأياما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية.
فالحصر بـ {إنما} في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} الخ على أصح الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العرنيين، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عباس فالحصر أن لا جزاء لهم إلا ذلك، فيكون المقصود من القصر حينئذ أن لا ينقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور
ـــــــ
1 هم سبعة:ثلاثة من عكل.وأربعة من عرينة.وعكل ـبضم العين وسكون الكاف ـ قبيلة من تيم الرباب بن عبد مناف بن طاببخة بن إلياس بن مضر.وعرينة ـبضم العين وفتح الراءقبيلة من قضاعة.
(5/91)

الأربعة.وقد يكون الحصر لرد اعتقاد مقدر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التخفيف منه.وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلا.
وأياما كان سبب النزول فإن الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها، لأن الحصر يفيد تأكيد النسبة.والتأكيد يصلح أن يعد في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنه يجعل الحكم جازما.
ومعنى {يحاربون} أنهم يكونون مقاتلين بالسلاح عدوانا لقصد المغنم كشأن المحارب المبادئ، لأن حقيقة الحرب القتال.ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه، وقد علم أن الله لا يحاربه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته، وهو الرسول، صلى الله عليه وسلم.والمراد بمحاربة الرسول الاعتداء على حكمه وسلطانه، فإن العرنيين اعتدوا على نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذة لتجهيز جيوش المسلمين، وهو قد امتن عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرسول العرنيين كان عقابا على محاربة خاصة هي من صريح البغض للإسلام.ثم إن الله شرع حكما للمحاربة التي تقع في زمن رسول الله وبعده، وسوى عقوبتها، فتعين أن يصير تأويل {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} المحاربة لجماعة المسلمين.وجعل لها جزاء عين جزاء الردة، لأن الردة لها جزاء آخر فعلمنا أن الجزاء لأجل المحاربة.ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفار الذين حاربوا الرسول لأجل عناد الدين؛ فلهذا المعنى عدي {يحاربون} إلى {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ليظهر أنهم لم يقصدوا حرب معين من الناس ولا حرب صف.
وعطف {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} لبيان القصد من حربهم الله ورسوله، فصار الجزاء على مجموع الأمرين، فمجموع الأمرين سبب مركب للعقوبة، وكل واحد من الأمرين جزء سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها.
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة؛ فقال مالك:هي حمل السلاح على الناس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارب بالفتح، سواء في البادية أو في المصر، وقال به الشافعي وأبو ثور.وقيل:لا يكون المحارب في المصر محاربا، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق.والذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة، والذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر.وقد كانت نزلت بتونس قضية لص اسمه "وناس" أخاف أهل
(5/92)

تونس بحيله في السرقة، وكان يحمل السلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقا بباب سويقة.
ومعنى {يسعون في الأرض فسادا} أنهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه، لأن السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللم، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء:19]ويقولون:سعى فلان لأهله، أي اكتسب لهم، وقال تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15]
وصاحب الكشاف جعله هنا بمعنى المشي، فجعل {فسادا} حالا أو مفعولا لأجله، ولقد نظر إلى أن غالب عمل المحارب هو السعي والتنقل، ويكون الفعل منزلا منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله.وجوز أن يكون سعى بمعنى أفسد، فجعل {فسادا} مفعولا مطلقا.ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد.
والفساد:إتلاف الأنفس والأموال، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثياب ونحو ذلك.
و" يقتلوا " مبالغة في يقتلوا، كقول امرئ القيس:
في أعشار قلب مقتل
قصد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديدا عليهم، وكذلك الوجه في قوله {يصلبوا}
والصلب:وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على خشبة ثم قتله عليها طعنا بالرمح في موضع القتل.وقيل:الصلب بعد القتل.والأول قول مالك، والثاني مذهب أشهب والشافعي.
و {من} في قوله :{مِنْ خِلافٍ} ابتدائية في موضع الحال من {أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} ، فهي قيد للقطع، أي أن القطع يبتدئ في حال التخالف، وقد علم أن المقطوع هو العضو المخالف فتعين أنه مخالف لمقطوع آخر وإلا لم تتصور المخالفة، فإذا لم يكن عضو مقطوع سابق فقد تعذر التخالف فيكون القطع للعضو الأول آنفا ثم تجري المخالفة فيما بعد.وقد علم من قوله: {مِنْ خِلافٍ} أنه لا يقطع من المحارب إلا يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه؛ لأنه لو كان كذلك لم يتصور معنى لكون القطع من خلاف.فهذا التركيب من بديع الإيجاز.والظاهر أن كون القطع من خلاف تيسير ورحمة،
(5/93)

لأن ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأن يتوكأ باليد الباقية على عود بجهة الرجل المقطوعة.
قال علماؤنا: "تقطع يده لأجل أخذ المال، ورجله للإخافة؛ لأن اليد هي العضو الذي به الأخذ، والرجل هي العضو الذي به الإخافة، أي المشي وراء الناس والتعرض لهم".
والنفي من الأرض:الإبعاد من المكان الذي هو وطنه لأن النفي معناه عدم الوجود.والمراد الإبعاد، لأنه إبعاد عن القوم الذين حاربوهم.يقال:نفوا فلانا، أي أخرجوه من بينهم، وهو الخليع، وقال النابغة:
ليهنئ لكم أن قد نفيتم بيوتنا
أي أقصيتمونا عن دياركم.ولا يعرف في كلام العرب معنى للنفي غير هذا.وقال أبو حنيفة وبعض العلماء:النفي هو السجن.وحملهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عن قوم كان فيهم بتسليط ضره على قوم آخرين.وهو نظر يحمل على التأويل، ولكن قد بين العلماء أن النفي يحصل به دفع الضر لأن العرب كانوا إذا أخرج أحد من وطنه ذل وخضدت شوكته، قال امرؤ القيس:
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
وذلك حال غير مختص بالعرب فإن للمرء في بلده وقوعه من الإقدام ما ليس له في غير بلده.
على أن من العلماء من قال:ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور.قال أبو الزناد:كان النفي قديما إلى "دهلك" وإلى "باضع" 1وهما جزيرتان في بحر اليمن.
وقد دلت الآية على أمرين:أحدهما التخيير في جزاء المحاربين؛ لأن أصل "أو" الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير، نحو {فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].وقد تمسك بهذا الظاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، والنخعي،
ـــــــ
1 دهلكـ بفتح الدال المهلة وسكزن الهاء وفتح اللام ـجزيرة بين اليمن والحبشة.وباضع بموحدة في أوله وبكسر الضاد المعجمة جزيرة في بحر اليمن.
(5/94)

وأبو حنيفة والمروي عن مالك أن هذا التخيير لأجل الحرابة فإن اجترح في مدة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذ بأشد العقوبة كالقتل قتل دون تخيير، وهو مدرك واضح.ثم ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده.وذهب جماعة إلى أن "أو" في الآية للتقسيم لا للتخيير، وأن المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب:فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن لم يقتل ولا أخذ مالا عزر، ومن أخاف الطريق نفي، ومن أخذ المال فقط قطع، وهو قول ابن عباس، وقتادة،والحسن، والسدي والشافعي.ويقرب خلافهم من التقارب.
والأمر الثاني:أن هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من الناس، كما دل على ذلك قوله بعد: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية وهو بين.ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة.
وقوله: {ذلك لهم خزي في الدنيا} ، أي الجزاء خزي لهم في الدنيا.والخزي:الذل والإهانة {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:194].وقد دلت الآية على أن لهؤلاء المحاربين عقابين:عقابا في الدنيا وعقابا في الآخرة.فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعرنيين، كما قيل به، فاستحقاقهم العذابين ظاهر، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارضة لما ورد في الحديث الصحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمنته آية {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة:12]الخ فقال:"فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".فقوله:"فهو كفارة له"، دليل على أن الحد يسقط عقاب الآخرة، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظا على المحاربين بأكثر من أهل بقية الذنوب، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل، أي لهم خزي في الدنيا إن أخذوا به، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدنيا.
والاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} راجع إلى الحكمين خزي الدنيا وعذاب الآخرة، بقرينة قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ، لأن تأثير التوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيد بما قبل القدرة عليهم.وقد دلت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة؛ فتم الكلام بها لأن الاستثناء كلام مستقل لا يحتاج إلى
(5/95)

زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب، وعند جمهور العلماء.فليس المستثنى مسكوتا عنه كما يقول الحنفية، ولولا الاستثناء لما دلت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة.فلو قيل:فإن تابوا، لم تدل إلا على قبول التوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة.
ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ما كان قبل أن يتحقق المحارب أنه مأخوذ أو يضيق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه، فإن أتى قبل ذلك كله طائعا نادما سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة، لأنه قد دل على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه.ولما لم تتعرض الآية إلى غرم ما أتلفه بحرابته علم أن التوبة لا تؤثر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق الناس من مال أو دم، لأن ذلك معلوم بأدلة أخرى.
وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعحب من سقوط العقاب عنهم.فالفاء فصيحة عما دل عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرم، والمعنى:إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمن تاب قبل أن يقدر عليه فاعلموا أن الله غفور رحيم.
وقد دل قوله {فاعلموا} على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظرا لاستعظامهم هذا العفو.وقد رأيت أن شأن فعل "اعلم" أن يدل على أهمية الخبر، كما سيأتي في قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} في سورة الأنفال[24] وقوله فيها {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41]
[35] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [35]
اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [المائدة:36] الآية.خاطب المؤمنين بالترغيب بعد أن حذرهم من المفاسد، على عادة القرآن في تخلل الأغراض بالموعظة والترغيب والترهيب، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النفوس، كما قال الحريري:"فلما دفنوا الميت، وفات قول ليت، أقبل شيخ من رباوة، متأبطا لهراوة،.فقال:لمثل هذا فليعمل العاملون"، إلخ.فعقب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتقوى
(5/96)

وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله.وقابل قتالا مذموما بقتال يحمد فاعله عاجلا وآجلا.
والوسيلة: كالوصيلة.وفعل وسل قريب من فعل وصل، فالوسيلة: القربة، وهي فعيلة بمعنى مفعوله، أي متوسل بها أي اتبعوا التقرب اليه، أي بالطاعة.
و {إليه} متعلق بـ{ الوسيلة} أي الوسيلة إلى الله تعالى.فالوسيلة اريد بها ما يبلغ به إلى الله، وقد علم المسلمون أن البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنه بلوغ زلفى ورضى.فالتعريف في الوسيلة تعريف الجنس، أي كل ما تعلمون أنه يقربكم إلى الله، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه.فالوسيلة ما يقرب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه.وفي الحديث القدسي:"ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"الحديث.والمجرور في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} متعلق بـ {ابتغوا}. ويجوز تعلقه بـ {الوسيلة}، وقدم على متعلقه للحصر، أي لا تتوسلوا إلا إليه لا إلى غيره فيكون تعريضا بالمشركين لأن المسلمين لا يظن بهم ما يقتضي هذا الحصر.
[36ـ37] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [37]
الأظهر أن هذه الجملة متصلة بجملة {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] اتصال البيان؛ فهي مبينة للجملة السابقة تهويلا للعذاب الذي توعدهم الله به في قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] فإن أولئك المحاربين الذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله، فلما ذكر جزاؤهم عقب بذكر جزاء يشملهم ويشمل أمثالهم من الذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مرادا بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين.
والشرط في قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} مقدر بفعل دلت عليه "أن" ، إذ التقدير:لو ثبت ما في الأرض ملكا لهم؛ فإن "لو" لاختصاصها بالفعل صح الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت "أن" بعدها.وقوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} معطوف على {مَا فِي الْأَرْضِ}، ولا حاجة إلى جعله مفعولا معه للاستغناء عن ذلك بقوله :{معه}. واللام في {لِيَفْتَدُوا بِهِ} مَا فِي الْأَرْضِ لتعليل الفعل المقدر، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه.
(5/97)

وأفرد الضمير في قوله :{به} مع أن المذكور شيئان هما: {مَا فِي الْأَرْضِ } {ومثله}: إما على اعتبار الضمير راجعا إلى {مَا فِي الْأَرْضِ} فقط، ويكون قوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} معطوفا مقدما من تأخير.وأصل الكلام لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه.ودل على اعتباره مقدما من تأخير إفراد الضمير المجرور بالباء.ونكتة التقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض.وإما، وهو الظاهر عندي، أن يكون الضمير عائدا إلى {مِثْلَهُ مَعَهُ} ، لأن ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنه قد اندرج في مثله الذي معه.
ويجوز أن يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في صحة استعماله مفردا مع كونه عائدا إلى متعدد على تأويله بالمذكور؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]أي بين الفارض والبكر، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]إشارة ما ذكر من قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، لأن الإشارة صالحة للشيء وللأشياء، وهو قليل في الضمير، لأن صيغ الضمائر كثيرة مناسبة لما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع، وهو قليل ولكنه فصيح، ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46]أي بالمذكور.وقد جعله في الكشاف محمولا على اسم الإشارة، وكذلك تأوله رؤبة لما أنشد قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
فقال أبو عبيدة: "قلت: لرؤبة إن أردت الخطوط فقل:كأنها، وإن أردت السواد فقل:كأنهما، فقال:"أردت كأن ذلك ويلك".ومنه في الضمير قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء:4].وقد تقدم عند قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة[68]
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم تأكيد لقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.
[39,38] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [39]
جملة معطوفة على جملة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33] {والسارق}
(5/98)

مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه.والتقدير:مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.وقال المبرد:الخبر هو جملة {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ لأن تقديره:والذي سرق والتي سرقت.والموصول إذا أريد منه التعميم ينزل منزلة الشرط أي يجعل "أل" فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15],وقوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16].قال سيبويه: "وهذا إذا كان في الكلام ما يدل على أن المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحكم أو الفرائض نحو {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا}{وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} إذ التقدير في جميع ذلك:وحكم اللاتي يأتين، أو وجزاء السارق والسارقة.
ولقد ذكرها ابن الحاجب في الكافية واختصرها بقوله:"والفاء للشرط عند المبرد وجملتان عند سيبويه، يعني:وأما عند المبرد فهي جملة شرط وجوابه فكأنها جملة واحدة وإلا فالمختار النصب"أشار إلى قراءة عيسى بن عمر {والسارق والسارقة} بالنصب، وهي قراءة شاذة لا يعتد بها فلا يخرج القرآن عليها.وقد غلط ابن الحاجب في قوله:فالمختار النصب.
وقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ضمير الخطاب لولاة الأمور بقرينة المقام، كقوله :{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].وليس الضمير عائدا على الذين آمنوا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:35].وجمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق.وثني الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى؛ فالجمع هنا مراد منه التثنية كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]
ووجه ذكر السارقة مع السارق دفع توهم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيدا بحيث لا يجرى حد السرقة إلا على الرجال، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزنا فلا يجرون عليها الحدود، وهو الداعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وقد سرقت المخزومية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش، فقالوا: "من يشفع لها عند رسول الله إلا زيد بن حارثة، فلما شفع لها أنكر عليه وقال: "أتشفع في حد من حدود الله، وخطب فقال: "إنما أهلك الذين من فبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه،
(5/99)

والله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها".
وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحد وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأئمة المذاهب وليس من غرض المفسر.
وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الرعية وتفاصيلها ولكنه يؤصل تأصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللسان من معرفة حقائقها وتمييزها عما يشابهها.
فالسارق:المتصف بالسرقة.والسرقة معروفة عند العرب مميزة عن الغارة والغصب والاغتصاب والخلسة، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق مما يشح به معظم الناس.
فالسرقة: أخذ أحد شيئا لا يملكه خفية عن مالكه مخرجا إياه من موضع هو حرز مثله لم يؤذن آخذه بالدخول إليه.
والمسروق: ما له منفعة لا يتسامح الناس في إضاعته.وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقل شيء حكم النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد من سرقه.وقد ثبت في الصحيح أنه حكم بقطع يد سارق حجفة بحاء مهملة فجيم مفوحتين "ترس بن جلد" تساوي ربع دينار في قول الجمهور، وتساوي دينارا في قول أبي حنيفة، والثوري، وابن عباس، وتساوي نصف دينار في قول بعض الفقهاء.
ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد.وقد كان قطع يد السارق حكما من عهد الجاهلية، قضى به الوليد بن المغيرة فأقره الإسلام كما في الآية.ولم يرد في السنة خبر صحيح إلا بقطع اليد.وأول رجل قطعت يده في الإسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأول امرأة قطعت يدها المخزومية مرة بنت سفيان.
فاتفق الفقهاء على أن أول ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده.فقال الجمهور:"اليد اليمنى"، وقال فريق:"اليد اليسرى"، فإن سرق ثانية، فقال جمهور الأئمة:"تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة".وقال علي بن أبي طالب:"لا يقطع ولكن يحبس ويضرب".وقضى بذلك عمر بن الخطاب، وهو قول أبي حنيفة.فقال علي:"إني لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكل ويستنجي أو رجله فعلى أي شيء يعتمد"؛ فإن سرق الثالثة والرابعة فقال مالك والشافعي:"تقطع يده الأخرى ورجله الأخرى"، وقال الزهري:"لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل لا يزاد على ذلك"، وبه قال أحمد بن حنبل،
(5/100)

والثوري، وحماد بن سلمة.ويجب القضاء بقول أبي حنيفة فإن الحدود تدرأ بالشبهات وأي شبهة أعظم من اختلاف أئمة الفقه المعتبرين.
والجزاء: المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العمل من خير أو شر، قال تعالى :{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ـإلى قوله جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} في سورة النبأ[31ـ36]، وقال تعالى : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} في سورة الشورى[40]
والنكال:العقاب الشديد الذي من شأنه أن يصد المعاقب عن العود إلى مثل عمله الذي عوقب عليه، وهو مشتق من النكول عن الشيء، أي النكوص عنه والخوف منه.فالنكال ضرب من جزاء السوء، وهو أشده، وتقدم عند قوله تعالى :{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} الآية في سورة البقرة[66].
وانتصب {جزاء} على الحال أو المفعول لأجله، وانتصب {نكالا} على البدل من {جزاء} بدل اشتمال.
فحكمة مشروعية القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود، أي جزاء ليس بانتقام ولكنه استصلاح.وضل من حسب القطع تعويضا عن المسروق، فقال من بيتين ينسبان إلى المعري وليس في "السقط" ولا في "اللزوميات" :
يد بخمس مئين عسجدا وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار ونسب جوابه لعلم الدين السخاوي:
عز الأمانة أغلاها؛ وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليه، أي قبلت توبته.وقد تقدم معناه عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} في سورة البقرة[37].وليس في الآية ما يدل على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه، لأن ظاهر "تاب وتاب الله عليه" أنه فيما بين العبد وبين ربه في جزاء الآخرة؛ فقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} ترغيب لهؤلاء العصاة في التوبة وبشارة لهم.ولا دليل في الآية على إبطال حكم العقوبة في بعض الأحوال كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء:"توبة السارق لا تسقط القطع ولو جاء تائبا قبل القدرة عليه.ويدل لصحة قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية ولا شك أنها تائبة.
(5/101)

قال ابن العربي: "لأن المحارب مستبد بنفسه معتصم بقوته لا يناله الإمام إلا بالإيجاف بالخيل والركاب فأسقط إجزاؤه بالتوبة استنزالا من تلك الحالة كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام.وأما السارق والزاني فهما في قبضة المسلمين،"اهـ.
وقال عطاء:"إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع"، ونقل هذا عن الشافعي، وهو من حمل المطلق على المقيد حملا على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متحد السبب مختلف الحكم.والتحقيق أن آية الحرابة ليست من المقيد بل هي حكم مستفاد استقلالا وأن الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متحد السبب ولا من قبيل المطلق الذي قابله مقيد.
[40] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [40]
استئناف بياني، جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التوبة مع عظم جرمه بأن الله هو المتصرف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو.
[41ـ42] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
استئناف ابتدائي لتهوين تألب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم مما عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين.وافتتح الخطاب بأشرف الصفات وهي صفة الرسالة
(5/102)

عن الله.
وسبب نزول هذه الآيات حدث أثناء مدة نزول هذه السورة فعقبت الآيات النازلة قبلها بها.وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داود، والواحدي في أسباب النزول، والطبري في تفسيره ما محصله:أن اليهود اختلفوا في حد الزاني "حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فدك" ، بين أن يرجم وبين أن يجلد ويحمم1 اختلافا ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكموا رسول الله في شأن ذلك، وقالوا: إن حكم بالتحميم قبلنا حكمه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه، وأن رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة: "ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن"، قالوا:"يحمم ويجلد ويطاف به"، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذبهم وأعلمهم بأن حكم التوراة هو الرجم على من أحصن، فأنكروا، فأمر بالتوراة أن تنشر "أي تفتح طياتها وكانوا يلفونها على عود بشكل إصطواني" وجعل بعضهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم "أي يقرؤها للذين يفهمونها" فقال له رسول الله:"ارفع يدك"فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فقال رسول الله:"لأكونن أول من أحيى حكم التوراة".فحكم بأن يرجم الرجل والمرأة .وفي روايات أبي داود أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} نزل في شأن ذلك، وكذلك روى الواحدي والطبري.
ولم يذكروا شيئا يدل على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} ولعل المنافقين ممن يبطنون اليهودية كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التوراة حكم رجم الزاني فيتخذوا ذلك عذرا لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأحسب أن التجاء اليهود إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ليس لأنهم يصدقون برسالته ولا لأنهم يعدون حكمه ترجيحا في اختلافهم ولكن لأنهم يعدونه ولي الأمر في تلك الجهة وما يتبعها.ولهم في قواعد أعمالهم وتقادير أحبارهم أن يطيعوا ولاة الحكم عليهم من غير أهل ملتهم.فلما اختلفوا في حكم دينهم جعلوا الحكم لغير المختلفين لأن حكم ولي الأمر مطاع عندهم.فحكم رسول الله حكما جمع بين إلزامهم بموجب تحكيمهم وبين إظهار خطئهم في العدول عن حكم كتابهم، ولذلك سماه الله تعالى القسط في قوله :{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}.
ـــــــ
1 معنى يحمّم يلطخ وجهه بالسواد تمثيلا به.
(5/103)

في قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}.
ويحتمل أن يكون ناشئا عن رأي من يثبت منهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه رسول للأميين خاصة.وهؤلاء هم اليهود العيسوية، فيكون حكمه مؤيدا لهم، لأنه يعد كالإخبار عن التوراة، ويؤيده ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن يهوديا زنى بيهودية فقال بعضهم لبعض:"اذهبوا بنا إلى محمد فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتى بالجلد دون الرجم قبلنا واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك، وإما أن يكون ذلك من نوع الاعتضاد بموافقة شريعة الإسلام فيكون ترجيح أحد التأويلين بموافقته لشرع آخر".ويؤيده ما رواه أبو داود والترمذي أنهم قالوا: "ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ وإما أن يكونوا قد عدلوا عن حكم شريعتهم توقفا عند التعارض فمالوا إلى التحكيم.ولعل ذلك مباح في شرعهم، ويؤيده أنه ورد في حديث البخاري وغيره أنهم لما استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم انطلق مع أصحابه حتى جاء المدراس وهو بيت تعليم اليهود وحاجهم في حكم الرجم، وأجابه حبران منهم يدعيان بابني صوريا بالاعتراف بثبوت حكم الرجم، في التوراة؛ وإما أن يكونوا حكموا النبي صلى الله عليه وسلم قصدا لاختباره فيما يدعي من العلم بالوحي، وكان حكم الرجم عندهم مكتوما لا يعلمه إلا خاصة أحبارهم، ومنسيا لا يذكر بين علمائهم، فلما حكم عليهم به بهتوا، ويؤيد ذلك ما ظهر من مرادهم في إنكارهم وجود حكم الرجم.ففي صحيح البخاري أنهم أنكروا أن يكون حكم الرجم في التوراة وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء المدراس فأمر بالتوراة فنشرت فجعل قارئهم يقرأ ويضع يده على آية الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك فأمره أن يرفع يده وقرئت آية الرجم واعترف ابنا صوريا بها.وأياما كان فهذه الحادثة مؤذنة باختلال نظام الشريعة بين اليهود يومئذ وضعف ثقتهم بعلومهم.
ومعنى {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ} نهيه عن أن يحصل له إحزان مسند إلى الذين يسارعون في الكفر.والإحزان فعل الذين يسارعون في الكفر، والنهي عن فعل الغير إنما هو نهي عن أسبابه، أي لا تجعلهم يحزنونك، أي لا تهتم بما يفعلون مما شأنه أن يدخل الحزن على نفسك.وهذا استعمال شائع وهو من استعمال المركب في معناه الكنائي.ونظيره قولهم:لا أعرفنك تفعل كذا، أي لا تفعل حتى أعرفه.وقولهم:لا ألفينك ههنا، ولا أرينك هنا.
وإسناد الإحزان إلى الذين يسارعون في الكفر مجاز عقلي ليست له حقيقة لأن الذين يسارعون سبب في الإحزان، وأما مثير الحزن في نفس المحزون فهو غير معروف في
(5/104)

العرف؛ ولذلك فهو من المجاز الذي ليست له حقيقة.وأما كون الله هو موجد الأشياء كلها فذلك ليس مما تترتب عليه حقيقة ومجاز؛ إذ لو كان كذلك لكان غالب الإسناد مجازا عقليا، وليس كذلك، وهذا مما يغلط فيه كثير من الناظرين في تعيين حقيقة عقلية لبعض موارد المجاز العقلي.ولقد أجاد الشيخ عبد القاهر إذ قال في دلائل الإعجاز:"اعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه صار حقيقة فإنك لا تجد في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان,فاعلا سوى الحق",وكذلك في قوله:
وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل
ويزيدك وجهه حسنا
أن تزعم أن له فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل للهوى وللوجه"اهـ.ولقد وهم الإمام الرازي1 في تبيين كلام عبد القاهر فطفق يجلب الشواهد الدالة على أن أفعالا قد أسندت لفاعل مجازي مع أن فاعلها الحقيقي هو الله تعالى، فإن الشيخ لا يعزب عنه ذلك ولكنه يبحث عن الفاعل الذي يسند إليه الفعل حقيقة في عرف الناس من مؤمنين وكافرين.ويدل لذلك قوله: "إذا أنت نقلت الفعل إليه" أي أسندته إليه.
ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة وفي كل فرصة، فشبه إظهاره المتكرر بإسراع الماشي إلى الشيء، كما يقال:أسرع إليه الشيب، وقوله:إذا نهي السفيه جرى إليه.
وعدي بفي الدالة على الظرفية للدلالة على أن الإسراع مجاز بمعنى التوغل، فيكون "في" قرينة المجاز، كقولهم:أسرع الفساد في الشيء، وأسرع الشيب في رأس فلان.فجعل الكفر بمنزلة الظرف وجعل تخبطهم فيه وشدة ملابستهم إياه بمنزلة جولان الشيء في الظرف جولانا بنشاط وسرعة.ونظيره قوله :{يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ} [المائدة:62]وقوله: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:56] {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61].فهي استعارة متكررة في القرآن وكلام العرب.وسيجيء ما هو أقوى منها وهو قوله :{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52].
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} إلخ بيان للذين يسارعون في الكفر.والذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم هم المنافقون.
ـــــــ
1 في كتابه نهاية الإعجاز.
(5/105)

وقوله : {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} معطوف على قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا}. والوقف على قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}.
وقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} خبر مبتدأ محذوف، تقديره:هم سماعون للكذب.والظاهر أن الضمير المقدر عائد على الفريقين:المنافقين واليهود، بقرينة الحديث عن الفريقين.
وحذف المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتبع فيه الاستعمال، وذلك بعد أن يذكروا متحدثا عنه أو بعد أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوف المبتدأ منها، كقولهم للذي يصيب بدون قصد"رمية من غير رام"وقول أبي الرقيش:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
وقول بعض شعراء الحماسة1:
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
عقب قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
والسماع: الكثير السمع، أي الاستماع لما يقال له.والسمع مستعمل في حقيقته، أي أنهم يصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كذبا، أي أنهم يحفلون بذلك ويتطلبونه فيكثر سماعهم إياه.وفي هذا كناية عن تفشي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق، لأن كثرة السمع تستلزم كثرة القول.والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أن حكم الزنى في التوراة التحميم.
وجملة {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.والمعنى أنهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كتم غرضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن حكم بما يهوون اتبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصوه، أي هم أتباع لقوم متسترين هم القوم الآخرون، وهم أهل خيبر وأهل فدك الذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 قيل هو عبد الله بن الزبيرـ بفتح الزاي وكسر الموحدة ـ الأسدي ـ وقيل:إبراهيم الصولي,وقيل محمد.بن سعيد الكاتب
(5/106)

واللام في {لقوم} للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول.
وجملة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} صفة ثانية {لِقَوْمٍ آخَرِينَ} أو حال، ولك أن تجعلها حالا " من الذين يسارعون في الكفر.وتقدم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} في سورة النساء[46]، وأن التحريف الميل إلى حرف،أي جانب، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر.
وقال هنا : {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، وفي سورة النساء[46] {عَنْ مَوَاضِعِهِ} ، لأن آية سورة النساء في وصف اليهود كلهم وتحريفهم في التوراة.فهو تغيير كلام التوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التوراة أو في ألفاظها.فكان إبعادا للكلام عن مواضعه، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوض بغيره أو لم يعوض.وأما هاته الآية ففي ذكر طائفة معينة أبطلوا العمل بكلام ثابت في التوراة إذ ألغوا حكم الرجم الثابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام، فهذا أشد جرأة من التحريف الآخر، فكان قوله: {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أبلغ في تحريف الكلام، لأن لفظ "بعد" يقتضي أن مواضع الكلم مستقرة وأنه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التوراة.
والإشارة التي في قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} إلى الكلم المحرف.والإيتاء هنا:الإفادة كقوله: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251].
والأخذ: القبول، أي إن أجبتم بمثل ما تهوون فاقبلوه وإن لم تجابوه فاحذروا قبوله.وإنما قالوا:فاحذروا، لأنه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم التي مضوا عليها وفي حكامهم الحاكمين بها.
وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل، وعلامة ذلك التقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه.فذلك معنى قوله: {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدعوة للناس كافة.
وهذا التركيب يدل في كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر ما.ومدلول مفرداته أنك لا تملك، أي لا تقدر على أقل شيء من الله، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون، لأن مادة الملك تدل على تمام القدرة، قال قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهر فتقها
(5/107)

أي شددت بالطعنة كفي، أي ملكتها بكفي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعينية بن حصن: "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة". وفي حديث دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عشيرته: "فإني لا أغني عنكم من الله شيئا".
و " شيئا" منصوب على المفعولية.وتنكير{شيئا} للتقليل والتحقير، لأن الاستفهام لما كان بمعنى النفي كان انتفاء ملك شيء قليل مقتضيا انتفاء ملك الشيء الكثير بطريق الأولى.
والقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} كالقول في قوله :{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ}
والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان.
والخزي تقدم عند قوله تعالى: {إِلَّا خِزْيٌ} في سورة البقرة[85]،وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في سورة آل عمران[192].
وأعاد {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} للتأكيد وليرتب عليه قوله: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}
ومعنى {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أخاذون له، لأن الأكل استعارة لتمام الانتفاع.والسحت بضم السين وسكون الحاء الشيء المسحوت، أي المستأصل.يقال:سحته إذا استأصله وأتلفه.سمي به الحرام لأنه لا يبارك فيه لصاحبه، فهو مسحوت وممحوق، أي مقدر له ذلك، كقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276]، قال الفرزدق:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجنف
والسحت يشمل جميع المال الحرام، كالربا والرشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف " سحت " بسكون الحاء وقرأه الباقون بضم الحاء إتباعا لضم السين.
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[42]}
تفريع على ما تضمنه قوله تعالى : {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} وقوله :{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} ، فإن ذلك دل على حوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التوراة فيه
(5/108)

بالتأويل أو الكتمان، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به.وظاهر الشرط يقتضي أن الله أعلم ورسوله باختلافهم في حكم حد الزنا، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون.وقد قال بذلك بعض المفسرين فتكون هذه الآية من دلائل النبوءة.ويحتمل أن المراد:فإن جاؤوك مرة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.
وقد خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم.ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكم بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلا يعرض الحكم النبوي للاستخفاف.وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشق المقتضي أنه يحكم بينهم إشارة إلى أن الحكم بينهم أولى، ويؤيده قوله بعد: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي بالحق، وهو حكم الإسلام بالحد.وأما قوله: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} فذلك تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتخذوا ذلك حجة علينا، يقولون:ركنا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنا فلا نسمع دعوتكم من بعد.وهذا مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يؤول إلى تنفير رؤسائهم دهماءهم من دعوة الإسلام فطمنه الله تعالى بأنه إن فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرة.ولعل في هذا التطمين إشعارا بأنهم لا طمع في إيمانهم في كل حال.وليس المراد بالضر ضر العداوة أو الأذى لأن ذلك لا يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافا لما فسر به المفسرون هنا.
وتنكير {شيئا} للتحقير كما هو في أمثاله، مثل {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وهو منصوب على المفعولية المطلقة لأنه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئا من الضر، فهو نائب عن المصدر.وقد تقدم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].
والآية تقتضي تخيير حكام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكموهم؛ لأن إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكام مساو إباحته للرسول.واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسالة حكم حكام المسلمين في خصومات غير المسلمين.وقد دل الاستقراء على أن الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكام ملتهم، فإذا تحاكموا إلى حكام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكل ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنه يجب الحكم بينهم "وعلى هذا فالتخيير
(5/109)

الذي في الآية مخصوص بالإجماع" .وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.
فمن العلماء من قال: "حكم هذا التخيير محكم غير منسوخ"، وقالوا: الآية نزلت في قصة الرجم التي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده وذلك أن يهوديا زنى بامرأة يهودية، فقال جميعهم:"لنسأل محمدا عن ذلك".فتحاكموا إليه، فخيره الله تعالى.واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم:كان اليهود بالمدينة يومئذ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمة، فالتخيير باق مع أمثالهم ممن ليس داخلا تحت ذمة الإسلام، بخلاف الذين دخلوا في ذمة الإسلام فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم.وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأن اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فدك وهما يومئذ من دار الحرب في موادعة.
وقال الجمهور:هذا التخيير عام في أهل الذمة أيضا.وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي.قال مالك:"الأعراض أولى".وقيل:"لا يحكم بينهم في الحدود"، وهذا أحد قولي الشافعي.وقيل:"التخيير منسوخ بقوله تعالى بعد: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وعطاء الخراساني.ويبعده أن سياق الآيات يقتضي أنها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخا لأولها.
وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل.والعدل:الحكم الموافق لشريعة الإسلام.وهذا يحتمل أن الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنها شريعة منسوخة بالإسلام.وهذا الذي رواه مالك.وعلى هذا فالقصة التي حكموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنه قصر حكمه على أن بين لليهود حقيقة شرعهم في التوراة، فاتضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرع الإسلام؛ فهو حكم على اليهود بأنهم كتموا.ويكون ما وقع في حديث الموطأ والبخاري:أن الرجل والمرأة رجما، إنما هو بحكم أحبارهم.ويحتمل أن الله أمره أن يحكم بينهم بما في التوراة لأنه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها.ويحتمل أن الله رخص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكموه.وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي.وقائل هذا يقول:"هذا نسخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وهو قول جماعة من التابعين.ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله: {فَاحْكُمْ
(5/110)

بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48].
والذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم:أن الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم.ولذلك فالأمور التي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما هو خاص بذات الذمي من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها مما هو من الحلال والحرام.وهذا لا اختلاف بين العلماء في أن أيمة المسلمين لا يتعرضون لهم بتعطيله إلا إذا كان فيه فساد عام كقتل النفس.
القسم الثاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال التي يستحلونها ويحرمها الإسلام.وهذه أيضا يقرون عليها، قال مالك:"لا يقام حد الزنا على الذميين، فإن زنى مسلم بكتابية يحد المسلم ولا تحد الكتابية".قال ابن خويز منداد:"ولا يرسل الإمام إليهم رسولا ولا يحضر الخصم مجلسه".
القسم الثالث:ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض.وقد أجمع علماء الأمة على أن هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنا لم نعاهدهم على الفساد، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرمات.
القسم الرابع:ما يجري بينهم من المعاملات التي فيها اعتداء بعضهم على بعض:كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوحين.فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين.فقال مالك:"يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبا، لأن في الاعتداء ضربا من الظلم والفساد"، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر.وقال أبو حنيفة:"لا يحكم بينهم حتى يتراضى الخصمان معا".
[43] {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}
(5/111)

هذه الجملة عطف على جملة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42}.والاستفهام للتعجيب، ومحل العجب مضمون قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، أي من العجيب أنهم يتركون كتابهم ويحكمونك وهم غير مؤمنين بك ثم يتولون بعد حكمك إذا لم يرضهم.فالإشارة بقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إلى الحكم المستفاد من {يحكمونك} ، أي جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك.وهذه غاية التعنت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين، كما وصف الله حال المنافقين في قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49,48].ويحتمل أن الاستفهام إنكاري، أي هم لا يحكمونك حقا.ومحل الإنكار هو أصل ما يدل عليه الفعل من كون فاعله جادا، أي لا يكون تحكيمهم صادقا بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم، لأن لديهم التوراة فيها حكم ما حكموك فيه، وهو حكم الله، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم، ولذلك قدروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم، فما هم بمحكمين حقيقة.فيكون فعل{يحكمونك} مستعملا في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه، كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} [التوبة:64]الآية.ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إلى مجموع ما ذكر، وهو التحكيم، وكون التوراة عندهم، أي يتولون عن حكمك في حال ظهور الحجة الواضحة، وهي موافقة حكومتك لحكم التوراة.
وجملة: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يحكمونك}. ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلقه للإشارة إلى أنهم ما آمنوا بالتوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقا.
وضمير {فيها} عائد إلى التوراة، فتأنيثه مراعاة لاسم التوراة وإن كان مسماها كتابا ولكن لأن صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنثة مثل موماة.وتقدم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} في سورة آل عمران[3].
[44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
(5/112)

لما وصف التوراة بأن فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها.ووصفها بالنزول ليدل على أنها وحي من الله، فاستعير النزول لبلوغ الوحي لأنه بلوغ شيء من لدن عظيم، والعظيم يتخيل عاليا، كما تقدم غير مرة.
والنور استعارة للبيان والحق، ولذلك عطف على الهدى، فأحكامها هادية وواضحة، والظرفية.حقيقة، والهدى والنور دلائلهما.ولك أن تجعل النور هنا مستعارا للإيمان والحكمة، كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:132]، فيكون بينه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق، أعم، والعطف لأجل تلك المغايرة بالعموم.
والمراد بالنبيين فيجوز أنهم أنبياء بني إسرائيل، موسى والأنبياء الذين جاءوا من بعده.فالمراد بالذين أسلموا الذين كان شرعهم الخاص بهم كشرع الإسلام سواء، لأنهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحق، إذ لا شك أن الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ألا ترى أن الخمر ما كانت محرمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرمتها التوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنك بالنبي.ولعل هذا هو المراد من وصية إبراهيم لبنيه بقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]كما تقدم هنالك.وقد قال يوسف عليه السلام في دعائه : {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].والمقصود من الوصف بقوله : {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء.ويجوز أن يراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بصيغة الجمع تعظيما له.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا} للأجل وليست لتعدية فعل {يحكم} إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم.والذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائيليين، إلا أن أصله يختص ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، كما قدمناه عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} الآية في سورة البقرة[62].
والربانيون جمع رباني، وهو العالم المنسوب إلى الرب، أي إلى الله تعالى.فعلى هذا يكون الرباني نسبا للرب على غير قياس، كما قالوا:شعراني لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية.وقيل: الرباني العالم المربي، وهو الذي يبتدئ الناس بصغار العلم قبل كباره.ووقع هذا التفسير في صحيح البخاري.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} في سورة آل عمران[79].
والأحبار جمع حبر، وهو العالم في الملة الإسرائيلية، وهو بفتح الحاء وكسرهاـ
(5/113)

، لكن اقتصر المتأخرون على الفتح للتفرقة بينه وبين اسم المداد الذي يكتب به.وعطف {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} على {النبيون} لأنهم ورثة علمهم وعليهم تلقوا الدين.
والاستحفاظ:الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حق الفهم بما دلت عليه آياته.استعير الاستحفاظ الذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه.
فالباء في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} للملابسة، أي حكما ملابسا للحق متصلا به غير مبدل ولا مغير ولا مؤول تأويلا لأجل الهوى.ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان.ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد ما حكاه عياض في المدارك، عن أبي الحسن ابن المنتاب، قال:"كنت عند إسماعيل يوما فسئل:لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فقال: "لأن الله تعالى قال في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فوكل الحفظ إليهم.وقال في القرآن: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر:9]فتعهد الله بحفظه فلم يجز التبديل على أهل القرآن".قال:"فذكرت ذلك للمحاملي، فقال:"لا أحسن من هذا الكلام".
و {من} مبينة لإبهام"م"في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} و {كِتَابِ اللَّهِ} هو التوراة، فهو من الإظهار في مقام الإضمار، ليتأتى التعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى.
وضمير {وكانوا} للنبيين والربانيين والأحبار، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله، أي شهداء على حفظه من التبديل، فحرف"على"هنا دال على معنى التمكن وليس هو"على"الذي يتعدى به فعل شهد، إلى المحقوق كما يتعدى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له، أي المحق، بل هو هنا مثل الذي يتعدى به فعل"حفظ ورقب"ونحوهما، أي وكانوا حفظة على كتاب الله وحراسا له من سوء الفهم وسوء التأويل ويحملون أتباعه على حق فهمه وحق العمل به.
ولذلك عقبه بجملة: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} المتفرعة بالفاء على قوله: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حق الأمانة لا يخشى أحدا في القيام بوجه أمانته ولكنه يخشى الذي استأمنه.فيجوز أن يكون الخطاب بقوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} ليهود زمان نزول الآية، والفاء للتفريع عما حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين، والجملة على هذا الوجه معترضة؛ ويجوز
(5/114)

أن يكون الخطاب للنبيين والربانيين والأحبار فهي على تقدير القول، أي قلنا لهم:فلا تخشوا الناس.والتفريع ناشئ عن مضمون قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}، لأن تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالناس رضوا أم سخطوا، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى.
وتقدم الكلام في معنى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} في سورة البقرة[41].
وقوله : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، لأن معنى خشية الناس هنا أن تخالف أحكام شريعة التوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية الناس، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا عقبت به تلك العظات الجليلة.وعلى الوجهين فالمقصود اليهود وتحذير المسلمين من مثل صنعهم.
و"من"الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاص المخاطب بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، وهم الذين أخفوا بعض أحكام التوراة المعلومة عندهم.والمعنى أنهم اتصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق.ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أن كل من لا يحكم بما أنزل الله يكفر.وقد اقتضى هذا قضيتين:
إحداهما:كون الذي يترك الحكم بما تضمنته التوراة مما أوحاه الله إلى موسى كافرا، أو تارك الحكم بكل ما أنزله الله على الرسل كافرا؛ والثانية قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله.
فأما القضية الأولى:فالذين يكفرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا، لأن الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم، وعبروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر، وهذا مذهب باطل كما قررناه غير مرة.وأما جمهور المسلمين وهم أهل السنة من الصحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضية مجملة، لأن ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة؛ فبيان إجماله بالأدلة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب، ومساق الآية يبين إجمالها.ولذلك قال جمهور العلماء:"المراد بمن لم يحكم هنا خصوص اليهود"، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.أخرجه مسلم في صحيحه.فعلى هذا تكون"من"موصولة، وهي بمعنى لام العهد.والمعنى عليه:ومن ترك الحكم بما أنزل الله تركا
(5/115)

مثل هذا الترك، وهو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته.وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إياهم باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حد الزنى؛ فيكون القصر ادعائيا وهو المناسب لسبب نزول الآيات التي كانت هذه ذيلا لها؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصلة وليس معللا للخبر.وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشرط في لزوم خبره له، أي أن الذين عرفوا بهذه الصفة هم الذين إن سألت عن الكافرين فهم هم لأنهم كفروا وأساءوا الصنع.
وقال جماعة: "المراد من لم يحكم بما أنزل الله من ترك الحكم به جحدا له، أو استخفافا به، أو طعنا في حقيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله، سمعه المكلف بنفسه.وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، ف"من"شرطية وترك الحكم مجمل بيانه في أدلة أخر.وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعية باختياره فإن ذلك الالتزام أشد من المخالفة في الجزيئات، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية.وأعظم منه إلزام الناس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دل على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكفر؛ فقيل عبر بالكفر عن المعصية، كما قالت زوجة ثابت بن قيس: "أكره الكفر في الإسلام"أي الزنى، أي قد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ولا يليق بالمؤمنين، وروى هذا عن ابن عباس.وقال طاووس:"هو كفر دون كفر وليس كفرا ينقل عن الإيمان".وذلك أن الذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى، وليس ذلك بكفر ولكنه معصية، وقد يفعله لأنه لم يره قاطعا في دلالته على الحكم، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير.
وهذه الآية والتي بعدها في شأن الحاكمين.وأما رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مر في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]الآية وبينا وجوهه، وسيأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـإلى قوله بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} في سورة النور[48ـ50].
وأما القضية الثانية:فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم
(5/116)

المعبر عنه مجازا بالكفر، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر، وهو الكفر الذي انضم إليه الجور وتبديل الأحكام.
واعلم أن المراد بالصلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتصاف بنقيضهما، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله.وهذا تأويل ثالث في الآية، لأن الذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره، بأن ترك الحكم بين الناس، أو دعا إلى الصلح، لا تختلف الأمة في أنه ليس بكافر ولا آثم، وإلا للزم كفر كل حاكم في حال عدم مباشرته للحكم، وكفر كل من ليس بحاكم.فالمعنى:ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله.
[45] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [45]
عطفت جملة {كتبنا} على جملة {أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} [المائدة:44]ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدم أنهم غيروا أحكام القصاص كما غيروا أحكام حد الزنى، ففاضلوا بين القتلى والجرحى، كما سيأتي، فلذلك ذيله بقوله :{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، كما ذيل الآية الدالة على تغيير حكم حد الزنى بقوله :{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]
والكتب هنا مجاز في التشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف"على"، أي أوجبنا عليهم فيها، أي في التوراة مضمون {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وهذا الحكم مسطور في التوراة أيضا، كما اقتضت تعدية فعل {كتبنا} بحرف"في"فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وفي هذه إشارة إلى أن هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثقا، كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} في سورة البقرة[282] وقال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من"أن".والمصدر في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الذي هو التعويض، أي كتبنا تعويض النفس بالنفس، أي النفس المقتولة
(5/117)

بالنفس القاتلة، أي كتبنا عليهم مساواة القصاص.وقد اتفق القراء على فتح همزة"أن"هنا، لأن المفروض في التوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها.
وقرأ الجمهور {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وما عطف عليها بالنصب عطفا على اسم"أن"وقرأه الكسائي بالرفع.وذلك جائز إذا استكملت"أن"خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة.
والنفس:الذات، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة[44].والأذن بضم الهمزة وسكون الذال، وبضم الذال أيضا.والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدي عليه، وكذلك في {والعين} الخ.
والباء في قوله: {بِالنَّفْسِ} ونظائره الأربعة باء العوض، ومدخولات الباء كلها أخبار"أن"، ومتعلق الجار والمجرور في كل منها محذوف، هو كون خاص يدل عليه سياق الكلام؛ فيقدر:أن النفس المقتولة تعوض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوض بعين المتلف، أي بأتلافها وهكذا النفس متلفة بالنفس؛ والعين مفقوءة بالعين؛ والأنف مجدوع بالأنف؛ والأذن مصلومة بالأذن.
ولام التعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني.والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاء الجسد كاليد والرجل والإصبع لأن القطع يكون غالبا عند المضاربة بقصد قطع الرقبة، فقد ينبو السيف عن قطع الرأس فيصيب بعض الأعضاء المتصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سن.وكذلك عند الصاولة لأن الوجه يقابل الصائل، قال الحريش بن هلال:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للطام
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف، أي ذات قصاص.
وقصاص مصدر قاصه الدال على المفاعلة، لأن المجني عليه يقلص الجاني، والجاني يقاص المجني عليه، أي يقطع كل منهما التبعة عن الآخر بذلك.ويجوز أن يكون {قصاص} مصدرا بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، والنصب بمعنى المنصوب، أي مقصوص بعضها ببعض.والقصاص:المماثلة، أي عقوبة الجاني بجراح أن يجرح مثل الجرح الذي جنى به عمدا.والمعنى إذا أمكن ذلك، أي أمن من الزيادة
(5/118)

على المماثلة في العقوبة، كما إذا جرحه مأمومة على رأسه فإنه لا يدري حين يضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضربة فلعلها تقضي بموته؛ فينتقل إلى الدية كلها أو بعضها.وهذا كله في جنايات العمد، فأما الخطأ فلم تتعرض له الآية لأن المقصود أنهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية.
وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف {وَالْجُرُوحَ} بالنصب عطفا على اسم"أن".وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب بالرفع على الاستئناف، لأنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم قطع الأعضاء.
وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم، وذلك أن اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حربا، ثم تحاجزوا وانهزمت قريظة، فشرطت النضير على قريظة أن دية النضيري على الضعف من دية القرظي وعلى أن القرظي يقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم.وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85,84].ويجوز أن يقصد من ذلك أيضا تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايل في الدماء الذي كان في الجاهلية وعند اليهود.ولا شك أن تأييد الشريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولا في النفوس.ويدل على أن ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى.وأن المصلحة ملازمة له ولا تختلف باختلاف الأقوام والأزمان، لأن العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشريف الضعيف في القصاص، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب:
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم1
تريد:رضينا بأن يقتل الرجل الذي اسمه"جبر"بالمرء العظيم الذي ليس كفؤا له، ولكن الإسلام أبطل تكايل الدماء.والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النفس بعدة أنفس، وقد قدر شيوخ بني أسد دم حجر والد امرئ القيس بديات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التقدير وقال لهم:"قد علمتم أن حجرا لم يكن ليبوء به شيء"
ـــــــ
1 البت لامرأة من طئ وهو من شعر الحماسة,يقال 'نه لكبشة أخت عمرو بن معد يكرب بنت بهدل الطائي.وجبر هذا اسم قاتل أبيها.
(5/119)

وقال مهلهل حين قتل بجيرا:
بؤ بشسع نعل كليب
والبواء: الكفاء.وقد عدت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأن الرأس قد حواها وإنما يقصد القاتل الرأس ابتداء.
وقوله: {َمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} هو من بقية ما أخبر عنه عن بني إسرائيل، فالمراد بـ {مَنْ تَصَدَّقَ} من تصدق منهم، وضمير {به} عائد إلى ما دلت عليه باء العوض في قوله: {بِالنَّفْسِ} الخ، أي من تصدق بالحق الذي له، أي تنازل عن العوض.وضمير {له} عائد إلى {مَنْ تَصَدَّقَ}. والمراد من التصدق العفو، لأن العفو لما كان عن حق ثابت بيد مستحق الأخذ بالقصاص جعل إسقاطه كالعطية ليشير إلى فرط ثوابه، وبذلك يتبين أن معنى {كَفَّارَةٌ لَهُ} أنه يكفر عنه ذنوبا عظيمة، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمة.
وعاد فحذر من مخالفة حكم الله فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لينبه على أن الترغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأن حكم القصاص شرع لحكم عظيمة:منها الزجر، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه، ومنها التفادي من ترصد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم.فإبطال الحكم بالقصاص يعطل هذه المصالح، وهو ظلم، لأنه غمص لحق المعتدى عليه أو وليه.وأما العفو عن الجاني فيحقق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنه عن طيب نفس، وقد تغشى غباوة حكام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو، فهذا وجه إعادة التحذير عقب استحباب العفو.ولم ينبه عليه المفسرون.وبه يتعين رجوع هذا التحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم.والمراد بالظالمين الكافرون لأن الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكدا للذي في الآية السابقة.ويحتمل أن المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنهم كافرون ظالمون.
[47,46] {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ
(5/120)

أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
عطف على جملة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44]انتقالا إلى أحوال النصارى لقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام التي كتبها الله عليهم، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التوراة: أحدهما: ما حرفوه وترددوا فيه بعد أن حرفوه فشكوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرسول؛ وثانيهما:ما حرفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص.وهذا نوع ثالث:وهو إعراضهم عن حكم الله بالكلية، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام.
والتقفية مصدر قفاه إذا جعله يقفوه، أي يأتي بعده.وفعله المجرد قفا بتخفيف الفاء ومعنى قفاه سار نحو قفاه، والقفا الظهر، أي سار وراءه.فالتقفية الإتباع مشتقة من القفا، ونظيره:توجه مشتقا من الوجه، وتعقب من العقب.وفعل قفي المشدد مضاعف قفا المخفف، والأصل في التضعيف أن يفيد تعدية الفعل إلى مفعول لم يكن متعديا إليه، فإذا جعل تضعيف{قفينا} هنا معديا للفعل اقتضى مفعولين:أولهما:الذي كان مفعولا قبل التضعيف، وثانيهما:الذي عدي إليه الفعل، وذلك على طريقة باب كسا؛ فيكون حق التركيب:وقفيناهم عيسى بن مريم.ويكون إدخال الباء في {بعيسى} للتأكيد، مثل: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وإذا جعل التضعيف لغير التعدية بل لمجرد تكرير وقوع الفعل، مثل جولت وطوفت كان حق التركيب:وقفيناهم بعيسى بن مريم.وعلى الوجه الثاني جرى كلام الكشاف فجعل باء {بعيسى} للتعدية.وعلى كلا الوجهين يكون مفعول {قفينا} محذوفا يدل عليه قوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} لأن فيه ضمير المفعول المحذوف، هذا تحقيق كلامه وسلمه أصحاب حواشيه.
وقوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} تأكيد لمدلول فعل {قفينا} وإفادة سرعة التقفية.وضمير {آثارهم} للنبيين والربانيين والأحبار.وقد أرسل عيسى على عقب زكريا كافل أمه مريم ووالد يحيى.ويجوز أن يكون معنى: {عَلَى آثَارِهِمْ} على طريقتهم وهديهم.والمصدق:المخبر بتصديق مخبر، وأريد به هنا المؤيد المقرر للتوراة.
وجعلها: {بَيْنَ يَدَيْهِْ} لأنها تقدمته، والمتقدم يقال:هو بين يدي من تقدم و {مِنَ التَّوْرَاةِ} بيان {لما}. وتقدم الكلام على معنى التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران.
(5/121)

وجملة: {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} حال.وتقدم معنى الهدى والنور.
{ومصدقا} حال أيضا من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله: {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً} لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التصديق؛ فتصديق عيسى التوراة أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديق حقيقي؛ وتصديق الإنجيل التوراة اشتماله على ما وافق أحكامها فهو تصديق مجازي.وهذا التصديق لا ينافي أنه نسخ بعض أحكام التوراة كما حكى الله عنه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، لأن الفعل المثبت لا عموم له.
والموعظة:الكلام الذي يلين القلب ويزجر عن فعل المنهيات.
وجملة {وليحكم} معطوفة على {آتيناه}. وقرأ الجمهور {وَلْيَحْكُمْ} بسكون اللام وبجزم الفعل على أن اللام لام الأمر.ولا شك أن هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام، فهو مما أمر الله به الذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنصارى، فعلم أن في الجملة قولا مقدرا هو المعطوف على جملة {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيل}، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصفات العظيمة، وقلنا:ليحكم أهل الإنجيل، فيتم التمهيد لقوله بعده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فقرائن تقدير القول متظافرة من أمور عدة.
وقرأ حمزة بكسر لام {ليحكم} ونصب الميم على أن اللام لام كي للتعليل، فجملة {ليحكم} على هذه القراءة معطوفة على قوله: {فِيهِ هُدىً} الخ، الذي هو حال، عطفت العلة على الحال عطفا ذكريا لا يشرك في الحكم لأن التصريح بلام التعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى.وصاحب الكشاف قدر في هذه القراءة فعلا محذوفا بعد الواو، أي وآتيناه الإنجيل، دل عليه قوله قبله: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} ، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام.
والمراد بالفاسقين الكافرون، إذ الفسق يطلق على الكفر، فتكون على نحو ما في الآية الأولى.ويحتمل أن المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنهم يخالفونه فيكون ذما للنصارى في التهاون بأحكام كتابهم أضعف من ذم اليهود.
[48] {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
(5/122)

شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
جالت الآيات المتقدمة جولة في ذكر إنزال التوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن؛ فكان كرد العجز على الصدر لقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]ليبين أن القرآن جاء ناسخا لما قبله، وأن مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام، وليعلمهم أنهم لا يطمعون من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام، فوقع قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لترتيب نزول الكتب السماوية، وتمهيدا لقوله:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ووقع قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} موقع التخلص المقصود، فجاءت الآيات كلها منتظمة متناسقة على أبدع وجه.
والكتاب الأول القرآن، فتعريفه للعهد.والكتاب الثاني جنس يشمل الكتب المتقدمة، فتعريفه للجنس.والمصدق تقدم بيانه.
والمهيمن الأظهر أن هاءه أصلية وأن فعله بوزن فيعل كسيطر، ولكن لم يسمع له فعل مجرد فلم يسمع همن.
قال أهل اللغة: "لا نظير لهذا الفعل إلا هينم إذا دعا أو قرأ، وبيقر إذا خرج من الحجاز إلى الشام، وسيطر إذا قهر.وليس له نظير في وزن مفيعل إلا اسم فاعل هذه الأفعال، وزادوا مبيطر اسم طبيب الدواب"، ولم يسمع بيطر ولكن بطر، ومجيمر اسم جبل، ذكره امرؤ القيس في قوله:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسر المهيمن بالعالي والرقيب، ومن أسمائه تعالى المهيمن.
وقيل:المهيمن مشتق من أمن، وأصله اسم فاعل من آمنه عليه بمعنى استحفظه به، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة، فأصله مؤأمن، فكأنهم راموا أن يفرقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه، لأن هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلة فقلبوا الهمزة الثانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء، كما قالوا في أراق هراق، فقالوا:هيمن.
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيد لبعض ما
(5/123)

في الشرائع مقرر له من كل حكم كانت مصلحته كلية لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدق، أي محقق ومقرر، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصة.
وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي بما أنزل الله إليك في القرآن، أو بما أوحاه إليك، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ما لم ينسخه الله بحكم جديد، لأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لمن قبلنا.فحكم النبي على اليهوديين بالرجم حكم بما في التوراة، فيحتمل أنه كان مؤيدا بالقرآن إذا كان حينئذ قد جاء قوله:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".ويحتمل أنه لم يؤيد ولكن الله أوحى إلى رسوله أن حكم التوراة في مثلهما الرجم، فحكم به، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم.وقد اتصل معنى قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} بمعنى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42]؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]،ولكنه بيان سماه بعض السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحية.
والنهي عن اتباع أهوائهم، أي أهواء اليهود حين حكموه طامعين أن يحكم عليهم بما تقرر من عوائدهم، مقصود منه النهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة، لأن نزول القرآن مهيمنا أبطل ما خالفه، ونزوله مصدقا أيد ما وافقه وزكى ما لم يخالفه.
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله، فالمقصود من هذا النهي:إما إعلان ذلك ليعلمه الناس وييأس الطامعون أن يحكم لهم بما يشتهون، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]مراد به أن يتقرر ذلك في علم الناس، مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:56]وإما تبيين الله لرسوله وجه ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرقا للترجيح، وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لشدة رغبته في هدى الناس قد يتوقف في فصل هذا التحكيم، لأنهم وعدوا أنه إن حكم عليهم بما تقرر من عوائدهم يؤمنون به.فقد يقال: إنهم لما تراضوا عليه لم لا يحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام، فبين الله له أن أمور الشريعة لا تهاون بها، وأن مصلحة احترام الشريعة بين أهلها أرجح من
(5/124)

مصلحة دخول فريق في الإسلام، لأن الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفا لمريديه، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} كالتعليل للنهي، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسكوا بشرعكم.
والشرعة والشريعة:الماء الكثير من نهر أو واد.يقال: شريعة الفرات.وسميت الديانة شريعة على التشبيه، لأن فيها شفاء النفوس وطهارتها.والعرب تشبه بالماء وأحواله كثيرا، كما قدمناه في قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} في سورة النساء[83].
والمنهاج:الطريق الواسع، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء، كقول قيس بن الخطيم:
وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الرشاء مجرد تخييل.ويصح أن يجعل له رديف في المشبه بأن تشبه العوائد المنتزعة من الشريعة، أو دلائل التفريع عن الشريعة، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصل إلى الماء.فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم، فذلك كالمنهاج الموصل إلى غير المورود.وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرق بين حاليهما وبالتأمل يظهر لهم.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الجعل:التقدير، وإلا فإن الله أمر الناس أن يكونوا أمة واحدة على دين الإسلام، ولكنه رتب نواميس وجبلات، وسبب اهتداء فريق وضلال فريق، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبر عنه بالتوفيق أو الخذلان، والميل أو الانصراف، والعزم أو المكابرة.ولا عذر لأحد في ذلك، لأن علم الله غير معروف عندنا وإنما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات.
والأمة:الجماعة العظيمة الذين دينهم ومعتقدهم واحد، هذا بحسب اصطلاح الشريعة.وأصل الأمة في كلام العرب:القوم الكثيرون الذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلمون بلسان واحد، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة الزيادة ولا للتطور من أنفسها.
(5/125)

ومعنى:{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه.والبلاء:الخبرة.والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للناس، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية، كقول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللناس.ومعناه أن الله وكل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول الناس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابق الناس إلى إعمال مواهبهم العقلية فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علما وتقام الأدلة على الاعتقاد الصحيح.وكل ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلة البشر من الصلاحية للخير والإرشاد على حسب الاستعداد، وذلك من الاختبار.ولذلك قال :{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنظر.فيظهر التفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتى يبلغ بعضها درجات عالية، ومن الشرائع التي آتاكموها فيظهر مقدار عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل.
وفرع على : {ليبلوكم} قوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} لأن بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التوفيق أوضح وأجلى.
والاستباق:التسابق، وهو هنا مجاز في المنافسة، لأن الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر، فشابه التسابق.ولتضمين فعل {استبقوا} بمعنى خذوا، أو ابتدروا، عدي الفعل إلى {الخيرات} بنفسه وحقه أن يعدى بإلى، كقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21].وقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي من الاختلاف في قبول الدين.
[49] {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.
يجوز أن يكون قوله: {وَأَنِ احْكُمْ} معطوفا عطف جملة على جملة، بأن يجعل معطوفا على جملة: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، فيكون رجوعا إلى ذلك الأمر لتأكيده، وليبنى عليه قوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} كما بني على نظيره قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]
(5/126)

وتكون"أن"تفسيرية.و"أن"التفسيرية تفيد تقوية ارتباط التفسير بالمفسر، لأنها يمكن الاستغناء عنها، لصحة أن تقول:أرسلت إليه افعل كذا، كما تقول: أرسلت إليه أن افعل كذا.فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب إلى رسوله رتب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:48],فدل على أن الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله.وعطف عليه ما يدل على أن الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلت عليه"أن"التفسيرية في قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فتأكد الغرض بذكره مرتين مع تفنن الأسلوب وبداعته، فصار التقدير:وأنزلنا إليك الكتاب بالحق أن احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به.ومما حسن عطف التفسير هنا طول الكلام الفاصل بين الفعل المفسر وبين تفسيره.وجعله صاحب الكشاف من عطف المفردات.فقال:عطف {َأَنِ احْكُمْ} على {الكتاب} في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [المائدة:48] كأنه قيل:وأنزلنا إليك أن احكم.فجعل"أن"مصدرية داخلة على فعل الأمر، أي فيكون المعنى:وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح:1]، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، وبين في سورة يونس[105] عند قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أن هذا قول سيبويه إذ سوغ أن توصل"أن"المصدرية بفعل الأمر والنهي لأن الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر، والأمر والنهي يدلان على معنى المصدر، وعلله هنا بقوله:"لأن الأمر فعل كسائر الأفعال".والحمل على التفسيرية أولى وأعرب، وتكون"أن"مقحمة بين الجملتين مفسرة لفعل {أنزل} من قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}؛ فإن {أنزل} يتضمن معنى القول فكان لحرف التفسير موقع.
وقوله : {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} هو كقوله قبله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:44].
وقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم مما أملوه، لأن حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله.
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صح ما روي من أن بعض أحبارهم وعدوا النبي بأنه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتبعتهم اليهود اقتداء بهم، فأراه الله أن مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بين غير أتباعه مقدمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود، لأجل ذلك
(5/127)

فإن شأن الإيمان أن لا يقاول الناس على اتباعه كما قدمناه آنفا.والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهم ذلك.
ولذلك فرع عليه قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتبع أهواءهم وتولوا فاعلم، أي فتلك أمارة أن الله أراد بهم الشقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في توليهم حرج.وأراد ببعض الذنوب بعضا غير معين، أي أن بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأن توليهم عن حكمك أمارة خذلان الله إياهم.
وقد ذيله بقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ليهون عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر الناس، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين.
[50] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[50]}
فرعت الفاء على مضمون قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ} [المائدة:49]الخ استفهاما عن مرادهم من ذلك التولي، والاستفهام إنكاري، لأنهم طلبوا حكم الجاهلية.وحكم الجاهلية هو ما تقرر بين اليهود من تكايل الدماء الذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب، وهم أهل جاهلية، فإن بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدم؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية، وهو العدول عن الرجم الذي هو حكم التوراة.
وقرأ الجمهور {يبغون} بياء الغائب، والضمير عائد لـ {من} في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:47].وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنه خطاب لليهود على طريقة الالتفات.
والواو في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} واو الحال، وهو اعتراض، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، أي لا أحسن منه حكما.وهو خطاب للمسلمين، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا.
وقوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} اللام فيه ليست متعلقة بـ {حكما} إذ ليس المراد بمدخولها المحكوم لهم، ولا هي لام التقوية لأن {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ليس مفعولا لـ {حكما} في المعنى.فهذه اللام تسمى لام البيان ولام التبيين، وهي التي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبرا أم إنشاء، وهي الواقعة في نحو قولهم:سقيا لك، وجدعا له، وفي الحديث: "تبا وسحقا لمن بدل بعدي" ، وقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] و {حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]زوذلك أن المقصود التنبيه على المراد من الكلام
(5/128)

.ومنه قوله تعالى عن زليخا: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]لأن تهيؤها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] إذا كان"هيت"اسم فعل مضي بمعنى تهيأت، ومثل قوله تعالى هنا: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. وقد يكون المقصود معلوما فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو {حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]، وهي حينئذ جديرة باسم لام التبيين، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم:سقيا لك ورعيا، ونحوهما، وفي قوله: {هَيْتَ} [يوسف:23] اسم فعل أمر بمعنى تعال.وإنما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية، لأن لام التقوية يصح الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها، وفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلا معها.
[51ـ53] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}.
تهيأت نفوس المؤمنين لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليب الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} الآية، لأن الولاية تنبني على الوفاق والوئام والصلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبعد ما بين الأخلاق الدينية، ولإضمارهم الكيد للمسلمين.وجرد النهي هنا عن التعليل والتوجيه اكتفاء بما تقدم.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.وسبب النهي هو ما وقع من اليهود، ولكن لما أريد النهي لم يقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنهم مأذونون في موالاة النصارى، فلدفع ذلك عطف النصارى على اليهود هنا، لأن السبب الداعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين، وهو اختلاف الدين والنفرة الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.فالنصارى وإن لم تجيء منهم يومئذ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وجد داعيها.
وفي هذا ما ينبه على وجه الجمع بين النهي هنا عن موالاة النصارى وبين قوله فيما
(5/129)

سيأتي {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].ولا شك أن الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قربها، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب.وعن السدي أن بعض المسلمين بعد يوم أحد عزم أن يوالي يهوديا، وأن آخر عزم أن يوالي نصرانيا كما سيأتي، فيكون ذكر النصارى غير إدماج.
وعقبه بقولهك {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أنهم أجدر بولاية بعضهم بعضا، أي بولاية كل فريق منهم بعض أهل فريقه، لأن كل فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم، وليس المعنى أن اليهود أولياء النصارى.وتنوين {بعض} تنوين عوض، أي أولياء بعضهم.وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما.
والولاية هنا ولاية المودة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النصراني والعكس أخذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم"لا يتوارث أهل ملتين".وقال الشافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملة واحدة أخذا بظاهر هذه الآية، وهو مذهب داود.
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، "من"شرطية تقتضي أن كل من يتولاهم يصير واحدا منهم.جعل ولايتهم موجبة كون المتولي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أن ولايتهم دخول في ملتهم، لأن معنى البعضية هنا لا يستقيم إلا بالكون في دينهم.ولما كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتبع الرسول ولم ينافق كان مسلما لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأولها المفسرون بأحد تأويلين:إما بحمل الولاية في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} على الولاية الكاملة التي هي الرضى بدينهم والطعن في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطية: "ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النار".
وإما بتأويل قوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب.قال ابن عطية:"من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم آهـ.وهذا الإجمال في قوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} مبالغة في التحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذ بأن يتولوا اليهود والنصارى، لأن ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذ في حيرة إذ كان حولهم المنافقون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعين لحفظ الجامعة التجرد عن كل ما تتطرق منه الربية إليهم.
(5/130)

وقد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية ولكنه ضلال عظيم، وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين.
وأعظم هذه المراتب القضية التي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة التي سئل عنها فقهاء غرناطة:محمد المواق، ومحمد بن الأزرق، وعلي بن داوود، ومحمد الجعدالة، ومحمد الفخار، وعلي القلصادي، وأبو حامد بن الحسن، ومحمد بن سرحونة، ومحمد المشذالي، وعبد الله الزليجي، ومحمد الحذام، وأحمد ابن عبد الجليل، ومحمد بن فتح، ومحمد بن عبد البر، وأحمد البقني، عن عصابة من قواد الأندلس وفرسانهم لجأوا إلى صاحب قشتالة"بلاد النصارى"بعد كائنة"اللسانة"كذا واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبل جواره وسكنوا أرض النصارى فهل يحل لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأووهم.فأجابوا بأن ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله، هذا ما داموا مصرين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم1.
فاستدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدل على أنهم تأولوها على معنى أنه منهم في استحقاق المقت والمذمة، وهذا الذي فعلوه، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظم أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر.وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التجارة ونحوها.ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلا، وهو المعاملة.وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر، وقد بينا شيئا من تفصيل هذا عند قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة آل عمران[28]
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل للنهي، وعموم القوم الظالمين شمل اليهود والنصارى، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أن اليهود والنصارى من القوم الظالمين بطريق الكناية.والمراد بالظالمين الكافرون.
وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها وقعت في حضرته.والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدم
ـــــــ
1 انظر جامع المعيار.
(5/131)

في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} سورة البقرة[10].أطلق عليه مرض لأنه كفر مفسد للإيمان.
والمسارعة تقدم شرحها في قوله تعالى: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41].وفي المجرور مضاف محذوف دلت عليه القرينة، لأن المسارعة لا تكون في الذوات، فالمعنى:يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم.
والقول الواقع في: {يَقُولُونَ نَخْشَى} قول لسان لأن عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك، حسبما روى عن عطية الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أن الآية نزلت بعد وقعة بدر أو بعد وقعة أحد وأنها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع. وكان بنو قينقاع أحلافا لعبد الله بن أبي بن سلول ولعبادة بن الصامت، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال:"يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أوالي إلا الله ورسوله"، وكان عبد الله بن أبي حاضرا فقال: "أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لابد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر".
ويحتمل أن يكون قولهم: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}، قولا نفسيا، أي يقولون في أنفسهم.فالدائرة المخشية هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين، فيكون هذا القول من المرض الذي في قلوبهم، وعن السدي: "أنه لما وقع انهزام يوم أحد فزع المسلمون وقال بعضهم:ن أخذ من اليهود حلفا ليعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش.وقال رجل: إني ذاهب إلى اليهودي فلان فآوي إليه وأتهود معه".وقال آخر: إني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه، فنزلت الآية".فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلة الثقة بنصر الله، وعلى هذا فهذه الآية تقدم نزولها قبل نزول هذه السورة، فإما أعيد نزولها، وإما أمر بوضعها في هذا الموضع.
والظاهر أن قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} يؤيد الرواية الأولى، ويؤيد محملنا فيها:أن القول قول نفسي.
والدائرة اسم فاعل من دار إذا عكس سيره، فالدائرة تغير الحال، وغلب إطلاقها على تغير الحال من خير إلى شر، ودوائر الدهر:نوبه ودوله، قال تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] أي تبدل حالكم من نصر إلى هزيمة.وقد قالوا في قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6]إن إضافة"دائرة"إلى"السوء"إضافة بيان.قال أبو علي الفارسي:"لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معناه".وأصل تأنيثها للمرة ثم غلبت على التغير ملازمة لصبغة التأنيث.
(5/132)

وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأه الجمهور {يقول} بدون واو في أوله على أنه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل:ماذا يقول الذين آمنوا حينئذ.أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهن اليهود يقول الذين آمنوا.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَيَقُولُ} بالواو وبرفع {يقول} عطفا على {فَعَسَى اللَّهُ} ، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالواو أيضا وبنصب {يقول} عطفا على {أَنْ يَأْتِيَ}. والاستفهام في {أهؤلاء} مستعمل في التعجب من نفاقهم.
و {هؤلاء} إشارة إلى طائفة مقدرة الحصول يوم حصول الفتح، وهي طائفة الذين في قلوبهم مرض.والظاهر أن {الذين} هو الخبر عن {هؤلاء} لأن الاستفهام للتعجب، ومحل العجب هو قسمهم أنهم معهم، وقد دل هذا التعجب على أن المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين.
وجهد الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها، وحقيقة الجهد التعب والمشقة ومنتهى الطاقة، وفعله كمنع.ثم أطلق على أشد الفعل ونهاية قوته لما بين الشدة والمشقة من الملازمة، وشاع ذلك في كلامهم ثم استعمل في الآية في معنى أوكد الأيمان وأغلظها، أي أقسموا أقوى قسم، وذلك بالتوكيد والتكرير ونحو ذلك مما يغلظ به اليمين عرفا.ولم أر إطلاق الجهد على هذا المعنى فيما قبل القرآن.وانتصب {جهد} على المفعولية المطلقة لأنه بإضافته إلى " الأيمان " صار من نوع اليمين فكان مفعولا مطلقا مبينا للنوع.وفي الكشاف في سورة النور جعله مصدرا بدلا من فعله وجعل التقدير:أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا، فلما حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضا عنه قدم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه.
وجملة {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} استئناف، سواء كانت من كلام الذين آمنوا فتكون من المحكي بالقول، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه.وحبطت معناه تلفت وفسدت، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة[217].
[54] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
(5/133)

مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
تقضى تحذيرهم من أعدائهم في الدين، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه، فأقبل على تنبيههم إلى أن ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لم يضر الله شيئا، وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7]، وقوله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]
فجملة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} الخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة :{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} [المائدة:55]، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].فتعقيبها بهذا الاعتراض إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ذريعة للارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق.وأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان بأن الإسلام غني عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {مَنْ يَرْتَدِدْ} بدالين على فك الإدغام، وهو أحد وجهين في مثله، وهو لغة أهل الحجاز، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام.وقرأ الباقون بدال واحدة مشددة بالإدغام، وهو لغة تميم.وبفتح على الدال فتحة تخلص من التقاء الساكنين لخفة الفتح، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة.
والارتداد مطاوع الرد، والرد هو الإرجاع إلى مكان أو حالة، قال تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [صّ:33] وقد يطلق الرد بمعنى التصيير {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70].وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتد عنه اتخاذ دين قبله.
وجملة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الخ جواب الشرط، وقد حذف منها العائد على الشرط الاسمي، وهو وعد بأن هذا الدين لا يعدم أتباعا بررة مخلصين.ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلة الاكتراث بهم، كقوله
(5/134)

تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} وتطمين الرسول والمؤمنين الحق بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيرا منهم.فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمنه حتى كان للشرط جوابان.
وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسود العنسي باليمن، وأصحاب طلحة بن خويلد في بني أسد، وأصحاب مسيلمة ابن حبيب الحنفي باليمامة.ثم إلى ما كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تميم وكندة ونحوهم.قيل:لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد:مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد"جؤاثى"في البحرين"أي من أهل المدن الإسلامية يومئذ".وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالا متأصلة فيه قائمة بنصرته.
وقوله: {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} ، الإتيان هنا الإيجاد، أي يوجد أقواما لاتباع هذا الدين بقلوب تحبه وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الذين ارتدوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم مما كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردة زمن أبي بكر، فإن مجموعهم غير مجموع الذين ارتدوا، فصح أن يكونوا ممن شمله لفظ {بقوم} ، وتحقق فيهم الوصف وهو محبة الله إياهم ومحبتهم ربهم ودينه، فإن المحبتين تتبعان تغير أحوال القلوب لا تغير الأشخاص فإن عمرو بن معد يكرب الذي كان من أكبر عصاة الردة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسية، وهكذا.
ودخل في قوله {بقوم} الأقوام الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة، وعرب العراق ونبطهم، وأهل فارس، والقبط، والبربر، وفرنجة إسبانية، وصقلية، وسردانية، وتخوم فرانسا، ومثل الترك والمغول، والتتار، والهند، والصين، والإغريق، والروم، من الأمم التي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حضارته بين الأمم العظيمة، فكل أمة أو فريق أو قوم تحقق فيهم وصف {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهم من القوم المنوه بهم؛ أما المؤمنون الذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأنا وأقوى إيمانا فأتاهم المؤيدون زرافات ووحدانا.
ومحبة الله عبده رضاه عنه وتيسير الخير له، ومحبة العبد ربه انفعال النفس نحو
(5/135)

تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينه.فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصور عظمة الله تعالى ونعمه حتى تتمكن من قلبه، فمنشؤها السمع والتصور.وليست هي كمحبة استحسان الذات، ألا ترى أنا نحب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدنيا والآخر، وتقوى هذه المحبة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرفاته وهديه، وكذلك نحب الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسمع من حبهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين، وكذلك نحب حاتما لما نسمع من كرمه.وقد قالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك".
والأذلة والأعزة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلق بهما، فالأذلة جمع الذليل وهو الموصوف بالذل.والذل بضم الذال وبكسرها الهوان والطاعة، فهو ضد العز: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]وفي بعض التفاسير:الذل بضم الذال ضد العز وبكسر الذال ضد الصعوبة، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة.والذليل جمعه الأذلة، والصفة الذل {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء:24].ويطلق الذل على لين الجانب والتواضع، وهو مجاز، ومنه ما في هذه الآية.فالمراد هنا الذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع، ولذلك علق به قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. ولتضمين {أذلة} معنى مشفقين حانين عدي بعلى دون اللام، أو لمشاكلة " على " الثانية في قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ}.
والأعزة جمع العزيز فهو المتصف بالعز وهو القوة والاستقلال، ولأجل ما في طباع العرب من القوة صار العز في كلامهم يدل على معنى الاعتداء، ففي المثل من عز بز .وقد أصبح الوصفان متقابلين، فلذلك قال السموأل أو الحارثي:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربية بديعية، وهي المسماة الطباق، وبلغاء العرب يغربون بها، وهي عزيزة في كلامهم، وقد جاء كثير منها في القرآن.وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تسيرها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلا عن بصيرة، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون لينا في كل حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال، قال:
(5/136)

حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وقوله:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}صفة ثالثة، وهي من أكبر العلامات الدالة على صدق الإيمان.والجهاد:إظهار الجهد، أي الطاقة في دفاع العدو، ونهاية الجهد التعرض للقتل، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فاعل لأنه يظهر جهده لمن يظهر له مثله.وقوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} صفة رابعة، وهي عدم الخوف من الملامة، أي في أمر الدين، كما هو السياق.
واللومة الواحدة من اللوم.وأريد بها هنا مطلق المصدر، كاللوم لأنها لما وقعت في سياق النفي فعمت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمم بدخول ال الجنسية لأن"لا"في عموم النفي مثل"ال"في عموم الإثبات، أي لا يخافون جميع أنواع اللوم من جميع اللائمين إذ اللوم منه:شديد، كالتقريع، وخفيف؛ واللائمون:منهم اللائم المخيف، والحبيب:فنفى عنهم خوف جميع أنواع اللوم.ففي الجملة ثلاثة عمومات:عموم الفعل في سياق النفي، وعموم المفعول، وعموم المضاف إليه.وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة.
ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي.وقد عد فقهاؤنا في وصف ا لقاضي أن يكون مستخفا باللائمة على أحد تأويلين في عبارة المتقدمين، واحتمال التأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعا.
وجملة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} تذييل.واسم الإشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة.
و{واسع} وصف بالسعة، أي عدم نهاية التعلق بصفاته ذات التعلق، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} في سورة آل عمران[73].
[55ـ56] {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
(5/137)

جملة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ـإلى آخرها متصلة بجملة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]وما تفرع عليها من قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله ـ {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53,52]وقعت جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] بين الآيات معترضة، ثم اتصل الكلام بجملة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}. فموقع هذه الجملة موقع التعليل للنهي، لأن ولايتهم لله ورسوله مقررة عندهم فمن كان الله وليه لا تكون أعداء الله أولياءه.وتفيد هذه الجملة تأكيدا للنهي عن ولاية اليهود والنصارى.وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم أولياء الله ورسوله بطريقة تأكيد النفي أو النهي بالأمر بضده، لأن قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يتضمن أمرا بتقرير هذه الولاية ودوامها، فهو خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد من"إنما"قصر صفة على موصوف قصرا حقيقيا.
ومعنى كون الذين آمنوا أولياء للذين آمنوا أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} [التوبة:71].وإجراء صفتي {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على الذين آمنوا للثناء عليهم، وكذلك جملة {وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} معطوف على الصفة.وظاهر معنى هذه الجملة أنها عين معنى قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، إذ المراد بـ {راكعون} مصلون لا آتون بالجزء من الصلاة المسمى بالركوع.فوجه هذا العطف:إما بأن المراد بالركوع ركوع النوافل، أي الذين يقيمون الصلوات الخمس المفروضة ويتقربون بالنوافل؛ وإما المراد به ما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي الذين يديمون إقامة الصلاة.بأنهم يؤتون الزكاة مبادرة بالتنويه بالزكاة، كما هو دأب القرآن.وهو الذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه إذ قال: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".ثم أثنى الله عليهم بأنهم لا يتخلفون عن أداء الصلاة؛ فالواو عاطفة صفة على صفة ويجوز أن تجعل الجملة حالا.ويراد بالركوع الخشوع.
ومن المفسرين من جعل {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حالا من ضمير {يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وليس فيه معنى، إذ تؤتى الزكاة في حالة الركوع، وركبوا هذا المعنى على خبر تعددت رواياته وكلها ضعيفة.قال ابن كثير:"وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها".وقال ابن عطية:"وفي هذا القول، أي الرواية، نظر، قال:روى الحاكم وابن مردويه:جاء ابن سلام"أي عبد الله"ونفر من قومه الذين آمنوا"أي من اليهود"فشكوا
(5/138)

للرسول صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم ومنابذة اليهود لهم فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ثم إن الرسول خرج إلى المسجد فبصر بسائل، فقال له : "هل أعطاك أحد شيئا" ، فقال: "نعم خاتم فضة أعطانيه ذلك القائم يصلي" ، وأشار إلى علي، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية، فتلاها رسول الله.وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق.وقيل: نزلت في المهاجرين والأنصار.
وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} دليل على جواب الشرط بذكر علة الجواب كأنه قيل:فهم الغالبون لأنهم حزب الله.
[57ـ58] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الذي قبله، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} [المائدة:51] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميز المسلمين.وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الذين بالمدينة، ولا مدخل للنصارى فيها، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدين.وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً} الخ لما في الصلة من الإيماء إلى تعليل موجب النهي.
والدين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة، فهو عنوان عقل المتدين ورائد أماله وباعث أعماله، فالذي يتخذ دين امرئ هزؤا فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤا ورمقه بعين الاحتقار، إذ عد أعظم شيء عنده سخرية، فما دون ذلك أولى.والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديرا بالموالاة، لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير، ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم الودود.
وأريد بالكفار في قوله: {والكفار} المشركون، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفار.والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الذين أظهروا الإسلام نفاقا مثل رفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، فقد كان بعض المسلمين يوادهما اغترارا بظاهر حالهما.روي عن ابن عباس: أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم. وقال الكلبي: كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا: "صياح مثل صياح العير"
(5/139)

، وتضاحكوا، فأنزل الله هذه الآية.
وقرأ الجمهور {وَالْكُفَّارَ} بالنصب عطفا على {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} المبين بقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب {والكفار} بالخفض عطفا على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، ومآل القراءتين واحد.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه.وذكر هذا الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون، لأن شأن المؤمن الامتثال.وليس للشرط مفهوم هنا، لأن الكلام إنشاء ولأن خبر كان لقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتصديق، ذلك لأن نفي التقوى لا ينفي الإيمان عند من يعتد بع من علماء الإسلام الذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حق الفهم.
وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التامة بمعنى الموافقة في الدين فالأمر بالتقوى، أي الحذر من الوقوع فيما نهوا عنه معلق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر.والحاصل أن الآية مفسرة أو مؤولة على حسب ما تقدم في سالفتها {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
والنداء إلى الصلاة هو الأذان، وما عبر عنه في القرآن إلا بالنداء.وقد دلت الآية على أن الأذان شيء معروف، فهي مؤيدة لمشروعية الأذان وليست مشرعة له، لأنه شرع بالسنة.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} تحقير لهم إذ ليس في النداء إلى الصلاة ما يوجب الاستهزاء؛ فجعله موجبا للاستهزاء سخافة لعقولهم.
[60,59] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [59]قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[60]} هذه الجمل معترضة بين ما تقدمها وبين قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} [المائدة:61]ولا يتضح معنى الآية أتم وضوح ويظهر الداعي إلى أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنه القائل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ
(5/140)

ظُلِمَ} [النساء:148] والقائل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] إلا بعد معرفة سبب نزول هذه الآية، فيعلم أنهم قد ظلموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين.فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال: "جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، إلى النبي فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فلما ذكر عيسى بن مريم قالوا: "لا نؤمن بمن آمن بعيسى ولا نعلم دينا شرا من دينكم وما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم"، فأنزل الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ـإلى قوله ـ وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. فخص بهذه المجادلة أهل الكتاب لأن الكفار لا تنهض عليهم حجتها، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما ينبئ به الموصول وصلته في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية.وكانت هذه المجادلة لهم بأن ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأملوا لا يجدون إلا الإيمان بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام إنكاري وتعجبي.فالإنكار دل عليه الاستثناء، والتعجب دل عليه أن مفعولات {تنقمون} كلها محامد لا يحق نقمها، أي لا تجدون شيئا تنقمونه غير ما ذكر.وكل ذلك ليس حقيقا بأن ينقم.فأما الإيمان بالله وما أنزل من قبل فظاهر أنهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه، وأما الإيمان بما أنزل إلى محمد فكذلك، لأن ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهم أهل الكتاب، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجه النقم منه.وعدي فعل {تنقمون} الى متعلقه بحرف"من"، وهي ابتدائية.وقد يعدى بحرف"على".
وأما عطف قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} فقرأه جميع القراء بفتح همزة"أن"على أنه معطوف على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ}.
وقد تحير في تأويلها المفسرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أن ذلك لا يعترف به أهله، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس مما ينقم على المؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه، وعلى تقدير أن يكون مما ينقم على المؤمنين فليس نقمه عليهم بمحل للإنكار والتعجب الذي هو سياق الكلام.
فذهب المفسرون في تأويل موقع هذا المعطوف مذاهب شتى، فقيل:هو عطف على متعلق {آمنا} أي آمنا بالله، وبفسق أكثركم، أي تنقمون منا مجموع هذين الأمرين.وهذا
(5/141)

يفيت معنى الإنكار التعجبي لأن اعتقاد المؤمنين كون أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقمه فلا يتعجب منه ولا ينكر عليهم نقمه، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فلا يلتئم مع المعطوف عليه، فالجمع بين المتعاطفين حينئذ كالجمع بين الضب والنون، فهذا وجه بعيد.
وقيل:هو معطوف على المستثنى، أي ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، أي تنقمون تخالف حالينا، فهو نقم حسد، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجبي.وهذا الوجه ذكره في الكشاف وقدمه وهو يحسن لو لم تكن كلمة {منا} لأن اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين، إذ ليس من فعلهم ولكن من مصادفة الزمان.
وقيل:حذف مجرور دل عليه المذكور، والتقدير:هل تنقمون منا إلا الإيمان لأنكم جائرون وأكثركم فاسقون، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا.وذكر وجهان آخران غير مرضيين.
والذي يظهر لي أن يكون قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} معطوفا على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكما، أي تنقمون منا أننا آمنا كإيمانكم وصدقنا رسلكم وكتبكم، وذلك نقمه عجيب وأننا آمنا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمكم.وتنقمون منا أن أكثركم فاسقون، أي ونحن صالحون، أي هذا نقم حسد، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين.فظهرت قرينة التهكم فصار في الاستفهام إنكار فتعجب فتهكم، تولد بعضها عن بعض وكلها متولدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية، وبهذا يكمل الوجه الذي قدمه صاحب الكشاف.
ثم اطرد في التهكم بهم والعجب من أفن رأيهم مع تذكيرهم بمساويهم فقال :{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الخ.وشر اسم تفضيل، أصله أشر، وهو للزيادة في الصفة، حذفت همزته تخفيفا لكثرة الاستعمال، والزيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أن المسلمين لهم حظ من الشر، وإنما جرى هذا تهكما باليهود لأنهم قالوا للمسلمين:لا دين شر من دينكم، وهو مما عبر عنه بفعل {تنقمون}. وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال: "قلت فأوجبت".
والإشارة في قوله: {مِنْ ذَلِكَ} إلى الإيمان في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} الخ باعتبار أنه منقوم على سبيل الفرض.والتقدير: ولما كان شأن المنقوم أن يكون شرا بني عليه التهكم في قوله : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ}، أي مما هو أشد شرا.
(5/142)

والمثوبة مشتقة من ثاب يثوب، أي رجع، فهي بوزن مفعولة، سمي بها الشيء الذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمل عمله أو سعي سعاه، وأصلها مثوب بها، اعتبروا فيها التأنيث على تأويلها بالعطية أو الجائزة ثم حذف المتعلق لكثرة الاستعمال.
وأصلها مؤذن بأنها لا تطلق إلا على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه، فلا تطلق على الضرب والشتم لأن ذلك ليس مما يثوب به المرء إلى منزله، ولأن العرب إنما يبنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم، فلا يريدون بالمثوبة إلا عطية نافعة.ويصح إطلاقها على الشيء النفيس وعلى الشيء الحقير من كل ما يثوب به المعطى.فجعلها في هذه الآية تمييزا لاسم الزيادة في الشر تهكم لأن اللعنة والغضب والمسخ ليست مثوبات، وذلك كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
وقول عمرو بن معد يكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} مبتدأ، أريد به بيان من هو شر مثوبة، وفيه مضاف مقدر دل عليه السياق.وتقديره:مثوبة من لعنه الله.والعدول عن أن يقال:أنتم أو اليهود، إلى الإتيان بالموصول للعلم بالمعني من الصلة، لأن اليهود يعلمون أن أسلافا منهم وقعت عليهم اللعنة والغضب من عهد أنبيائهم، ودلائله ثابتة في التوراة وكتب أنبيائهم، فالموصول كناية عنهم.
وأما جعلهم قردة وخنازير فقد تقدم القول في حقيقته في سورة البقرة.وأما كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العجل.
والطاغوت:الأصنام، وتقدم عند قوله تعالى :{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء[51].
وقرأ الجمهور {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} بصيغة فعل المضي في {عبد} وبفتح التاء من {الطاغوت} على أنه مفعول {عبد} ، وهو معطوف على الصلة في قوله :{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}، أي ومن عبدوا الطاغوت.وقرأه حمزة وحده بفتح العين وضم الموحدة وفتح الدال وبكسر الفوقية من كلمة الطاغوت على أن"عبد"جمع عبد، وهو جمع سماعي قليل، وهو على هذه القراءة معطوف على {الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}.
(5/143)

والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتا لهم عن التطاول.على أنه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمان قيام الرسل والنبيين بين ظهرانيهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالا وأجدر بكونهم شرا، فيكون الكلام من ذم القبيل كله.على أن كثيرا من موجبات اللعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف، على أنهم شتموا المسلمين بما زعموا أنه دينهم فيحق شتمهم بما نعتقده فيهم.
[61ـ63] {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
عطف {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} على قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً} [المائدة:58]الآية، وخص بهذه الصفات المنافقون من اليهود من جملة الذين اتخذوا الدين هزؤا ولعبا، فاستكمل بذلك التحذير ممن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين.ولا يصح عطفه على صفات أهل ا لكتاب في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60] لعدم استقامة المعنى، وبذلك يستغنى عن تكلف وجه لهذا العطف.
ومعنى قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أن الإيمان لم يخالط قلوبهم طرفة عين، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك، لشدة قسوة قلوبهم، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما، لأن ذلك هو المتعارف، إذ الحالة إذا تبدلت استمر تبدلها، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم:آمنا، والعرب تقول:خرج بغير الوجه الذي دخل به.
والرؤية في قوله: {وترى} بصرية، أي أن حالهم في ذلك بحيث لا يخفى على أحد.والخطاب لكل من يسمع.
وتقدم معنى {يسارعون} عند قولهك {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}[ المائدة:41].
والإثم:المفاسد من قول وعمل، أريد به هنا الكذب، كما دل عليه قوله: {عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} والعدوان:الظلم، والمراد به الاعتداء على المسلمين إن استطاعوه.
والسحت تقدم في قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42].
(5/144)

و {لولا} تحضيض أريد منه التوبيخ.
و {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} تقدم بيان معناهما في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة:44]الآية.
واقتصر في توبيخ الربانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت، ولم يذكر العدوان إيماء إلى أن العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم، لأن الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه، ضعف.
وجملة {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} مستأنفة، ذم لصنيع الربانيين والأخبار في سكوتهم عن تغيير المنكر، و {يصنعون} بمعنى يعلمون، وإنما خولف هنا ما تقدم في الآية قبلها للتفنن، وقيل:لأن {يصنعون} أدل على التمكن في العمل من {يعملون}.
واللام للقسم.
[64] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} عطف على جملة {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:61]، فإنه لما كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم"اليهود".
ومعنى {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الوصف بالبخل في العطاء لأن العرب يجعلون العطاء معبرا عنه باليد، ويجعلون بسط اليد استعارة للبذل والكرم، ويجعلون ضد البسط استعارة للبخل فيقولون:أمسك يده وقبض يده، ولم نسمع منهم:غل يده، إلا في القرآن كما هنا، وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} في سورة الإسراء[29]، وهي استعارة قوية لأن مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقل الأزمان، فلا جرم أن تكون استعارة لأشد البخل والشح.
(5/145)

واليهود أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذم.فقولهم هذا:إما أن يكون جرى مجرى التهكم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم، كما روي أنهم قالوا ذلك لما كان المسلمون في أول زمن الهجرة في شدة، وفرض الرسول عليهم الصدقات، وربما استعان باليهود في الديات.وكما روي أنهم قالوه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فقالوا: "إن رب محمد فقير وبخيل". وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].ويؤيد هذا قوله عقبه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} وإما أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس؛ فقد روي في سبب نزولها أن اليهود نزلت بهم شدة وأصابتهم مجاعة وجهد، فقال فنحاص ابن عازورا هذه المقالة، فإما تلقفوها منه على عادة جهل العامة، وإما نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنهم يقلدونه ويقتدون به.
وقد ذمهم الله تعالى على كلا التقديرين، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات، ولو كانت على نية إلزام الخصم، والثاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفف من تصرف الله، فقابل الله قولهم بالدعاء عليهم.وذلك ذم على طريقة العرب.
وجملة{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}معترضة بين جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} وبين جملة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وهي إنشاء سب لهم.وأخذ لهم من الغل المجازي مقابلة الغل الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عصية عصت الله ورسوله، وأسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها".
وجملة {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم، ويجوز أن تكون إخبارا بأن الله لعنهم لأجل قولهم هذا، نظير ما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ} في سورة النساء[118,117].
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى.وبسط اليدين تمثيل للعطاء، وهو يتضمن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين.
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجود، وإلا فاليد في حال الاستعارة للجود أو للبخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد، فالتثنية مستعملة في مطلق التكرير، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4]، وقولهم: "لبيك وسعديك". وقال الشاعر:
(5/146)

"أنشده في الكشاف ولم يعزه هو ولا شارحوه":
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
وجملة {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} بيان لاستعارة {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. و {كيف} اسم دال على الحالة وهو مبني في محل نصب على الحال.وفي قوله:{كَيْفَ يَشَاءُ}زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة، مثل العقاب على كفران النعمة، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:27]
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً}.
عطف على جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. وقع معترضا بين الرد عليهم بجملة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وبين جملة {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}. وهذا بيان للسبب الذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة، أي أعماهم الحسد فزادهم طغيانا وكفرا، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم، وتسلية له بأن فرط حنقهم هو الذي أنطقهم بذلك القول الفظيع.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
عطف على جملة {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} عطف الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه.وفي هذا الخبر الإيماء إلى أن الله عاقبهم في الدنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقى البغضاء بين بعضهم وبعض، فهو جزاء من جنس العمل، وهو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمه أمر عداوتهم له، فإن البغضاء سجيتهم حتى بين أقوامهم وأن هذا الوصف دائم لهم شأن الأوصاف التي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلق الحسن.وتقدم القول في نظيره آنفا.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
تركيب {أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} تمثيل، شبه به حال التهيؤ للحرب والاستعداد لها والحزامة في أمرها، بحال من يوقد النار لحاجة بها فتنطفئ، فإنه شاعت استعارات معاني التسعير والحمي والنار ونحوها للحرب، ومنه حمي الوطيس، وفلان مسعر حرب، ومحش حرب، فقوله: {أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ} كذلك، ولا نار في الحقيقة، إذ لم يؤثر عن العرب أن لهم نارا تختص بالحرب تعد في نيران العرب التي يوقدونها لأغراض.وقد وهم من ظنها حقيقة، ونبه المحققون على وهمه.
(5/147)

وشبه حال انحلال عزمهم أو انهزامهم وسرعة ارتدادهم عنها، وإحجامهم عن مصاحبة أعدائهم، بحال من انطفأت ناره التي أوقدها.
ومن بداعة هذا التمثيل أنه صالح لأن يعتبر فيه جمعه وتفريقه، بأن يجعل تمثيلا واحدا لحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين، وقبول التمثيل للتفريق أتم بلاغة.والمعنى أنهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدو، ولو حاربوا أو حوربوا انهزموا، فيكون معنى الآية على هذا كقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112].
وأما ما يروي أن معدا كلها لما حاربوا مذبح يوم"خزازى"، وسيادتهم لتغلب وقائدهم كليب، أمر كليب أن يوقدوا نارا على جبل خزازى ليهتدي بها الجيش لكثرته، وجعلوا العلامة بينهم أنهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على خزازى، فلما دهمتهم مذحج أوقدوا النار فتجمعت معد كلها إلى ساحة القتال وانهزمت مذحج.وهذا الذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله:
ونحن غداة أوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فتلك شعار خاص تواضعوا عليه يومئذ فلا يعد عادة في جميع الحروب.
وحيث لا تعرف نار للحرب تعين الحمل على التمثيل، ولذلك أجمع عليه المفسرون في هذه الآية فليس الكلام بحقيقة ولا كناية.
وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:33].
[65] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [65]
عقب نهيهم وذمهم، بدعوتهم للخير بطريقة التعريض إذ جاء بحرف الامتناع فقال :{لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، والمراد اليهود.والمراد بقوله {آمَنُوا} الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.وفي الحديث: "اثنان يؤتون أجرهم مرتين:رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي" أي عندما بلغته الدعوة المحمدية "فله أجران، ورجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران".
(5/148)

واللام في قوله: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} وقوله: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ} لام تأكيد يكثر وقوعها في جواب"لو"إذا كان فعلا ماضيا مثبتا لتأكيد تحقيق التلازم بين شرط"لو"وجوابها، ويكثر أن يجرد جواب"لو"عن اللام، كما سيأتي عند قوله تعالى :{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} في سورة الواقعة[70].
[66] {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [66]}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} إقامة الشيء جعله قائما، كما تقدم في أول سورة البقرة.واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأن الشيء المضاع يكون ملقى، ولذلك يقال له:شيء لقى، ولأن الإنسان يكون في حال قيامه أقدر على الأشياء، فلذا قالوا: قامت السوق.فيجوز أن يكون معنى إقامة التوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غضبه فلأغدق عليهم نعمة، فاليهود آمنوا بالتوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدم آنفا، وكفروا بالإنجيل ورفضوه، وذلك أشد في عدم إقامته، وبالقرآن.وقد أومأت الآية إلى أن سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن، أي فتحتمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن.
ويحتمل أن يكون المراد:لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة.ويؤيده ما روي في سبب نزول قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} {المائدة:64] كما تقدم.
ومعنى {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} تعميم جهات الرزق، أي لرزقوا من كل سبيل، فأكلوا بمعنى رزقوا، كقوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} [الفجر:19].وقيل:المراد بالمأكول من فوق ثمار الشجر، ومن تحت الحبوب والمقاثي، فيكون الأكل على حقيقته، أي لاستمر الخصب فيهم.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
(5/149)

بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} في سورة الأعراف[96].
واللام في قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} إلخ مثل اللام في الآية قبلها.
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}
إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذام على أكثرهم.
والمقتصد يطلق على المطيع، أي غير مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنه يقتصد في سرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشق الآخر {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}. وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأن المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].
فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنهم بعد الإسلام قسمان سيء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.وقيل:المراد بالمقتصد غير المفرطين في بغض المسلمين، وهو الذين لا آمنوا معهم ولا آذوهم، وضدهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف.فالأولون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيء.ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنه مشتق من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط.والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكر للمسلمين المأخوذ من قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64]
والأظهر أن يكون قوله: {سَاءَ} فعلا بمعنى كان سيئا، و {مَا يَعْمَلُونَ} فاعله، كما قدره ابن عطية.وجعله في الكشاف بمعنى بئس، فقدر قولا محذوفا ليصح الإخبار به عن قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} ، بناء على التزام عدم صحة عطف الإنشاء على الإخبار، وهو محل جدال، ويكون {مَا يَعْمَلُونَ} مخصوصا بالذم، والذي دعاه إلى ذلك أنه رأى حمله على معنى إنشاء الذم أبلغ في ذمهم، أي يقول فيهم ذلك كل قائل.
[67] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
(5/150)

وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
إن موضع هذه الآية في هذه السورة معضل، فإن سورة المائدة من آخر السور نزولا إن لم تكن آخرها نزولا، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريعة وجميع ما أنزل إليه يوم نزولها، فلو أن هذه الآية نزلت في أول مدة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه، كما أنزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95,94] وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ـإلى قوله ـ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:5ـ10]الآيات، فأما وهذه السورة من آخر السور نزولا وقد أدى رسول الله الرسالة وأكمل الدين فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ، فنحن إذن بين احتمالين:
أحدهما أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاص اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء مما يثقل عليه تبليغه.
وثانيهما: أن تكون هذه الآية نزلت من قبل نزول هذه السورة، وهو الذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها.
فأما هذا الاحتمال الثاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة.ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول التي تذكر حوادث كلها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة.وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك، وذكر الطبري خبرين آخرين، فصارت اثني عشر قولا.
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال: "إن هذه الروايات وإن كثرت فإن الأولى حمل الآية على أن الله آمنه مكر اليهود والنصارى، لأن ما قبلها وما بعدها كان كلاما مع اليهود والنصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكون أجنبية عما قبلها وما بعدها"اهـ.وأما ما ورد في الصحيح أن رسول الله كان يحرس حتى نزل {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فلا يدل على أن {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فلعل الذي حدثت به عائشة أن الله أخبر رسوله بأنه عصمه من الناس فلما حكاه الراوي حكاه باللفظ الواقع في هذه الآية.
فتعين التعويل على الاحتمال الأول: فإما أن يكون سبب نزولها قضية مما جرى
(5/151)

ذكره في هذه السورة، فهي على وتيرة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليت بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب.والفريقان متظاهران على الرسول صلى الله عليه وسلم:فريق مجاهر، وفريق متستر، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفار، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الذين هون أمرهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فهم المعنيون من {الناس} في هذه الآية، فالمأمور بتبليغه بعض خاص من القرآن.
وقد علم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الرفق في الأمور ويقول:إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"كما جاء في حديث عائشة حين سلم اليهود عليه فقالوا:السام عليكم، وقالت عائشة لهم:السام عليكم واللعنة"، فلما أمره الله أن يقول لأهل الكتاب {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60,59]الآية، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوء أعلمه الله بأن هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالتي هي أحسن، فتكون هذه الآية مخصصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148].
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعر بمنتهى شرفه، إذ كان واسطة بين الله وخلقه، والمذكر له بالإعراض عمن سوى من أرسله.
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثاني موقع زائد على موقعه في الخطاب الأول، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده، وهو قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ}، كما قال تعالى : {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99].
فكما ثبت جنانه بالخطاب الأول أن لا يهنم بمكائد أعدائه، حذر بالخطاب الثاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم، إذ لعله يزيدهم عنادا وكفرا، كما دل عليه قوله في آخر هذه الآية: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68].
ثم عقب ذلك أيضا بتثبيت جنانه بأن لايهتم بكيدهم بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
(5/152)

النَّاسِ} وأن كيدهم مصروف عنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. فحصل بآخر هذا الخطاب رد العجز على الصدر في الخطاب الأول التي تضمنه قوله: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]فإنهم هم القوم الكافرون والذين يسارعون في الكفر.فالتبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب.وما صدق {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} شيء معهود من آي القرآن، وهي الآي المتقدمة على هذه الآية.وما صدق {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هو كل ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم.
والتبليغ جعل الشيء بالغا.والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله، وهو هنا مجاز في حكاية الرسالة للمرسل بها إليه من قولهم:بلغ الخبر وبلغت الحاجة.والأمر بالتبليغ مستعمل في طلب الدوام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136].ولما كان نزول الشريعة مقصودا به عمل الأمة بها"سواء كان النازل متعلقا بعمل أم كان بغير عمل، كالذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها، لأن ذلك كله إنما نزل لفوائد يتعين العلم بها لحصول الأغراض التي نزلت لأجلها، على أن للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز، وأنه متعبد بتلاوته، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النظر عما يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر"، كان معنى الرسالة إبلاغ ما أنزل إلى من يراد علمه به وهو الأمة كلها، ولأجل هذا حذف متعلق {بلغ} لقصد العموم، أي بلغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته، وهو جميع الأمة، إذ لايدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمة إلى بعض الأحكام، على أن كثيرا من الأحكام يحتاجها جميع الأمة.
والتبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكم تمكنه من معرفته في وقت الحاجة أو فبله، لذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن على الناس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها، ويأمر الناس بقراءته وبالاستمتاع إليه.وقد أرسل مصعبا بن عمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلم الأنصار القرآن.وكان أيضا يأمر السامع مقالته بإبلاغها من لم يسمعها، مما يكفل ببلوغ الشريعة كلها للأجيال من الأمة.ومن أجل ذلك كان الخلفاء من بعده يعطون الناس العطاء على قدر ما معهم من القرآن.ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصحابة، وأكمل تلك المزية عثمان بن عفان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام، وقد كان رسول الله عين لأهل الصفة الانقطاع لحفظ القرآن.
(5/153)

والذي ظهر من تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله، فإذا نزل عليه ليلا أخبر به عند صلاة الصبح.وفي حديث عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].وفي حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك: "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله عند أم سلمة، فقال: "يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك، قالت:"أفلا أرسل إليه فأبشره، قال: "إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة.حتى إذا صلى رسول الله صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا". وفي حديث ابن عباس: "أن رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكة ودعا رسول الله الكتاب فكتبوها من ليلتهم".
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله: {إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والناس، إذ جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم، كما قال في آية آل عمرآن[199] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].وفي تعليق إنزال بأنه من الرب تشريف للمنزل.
والإتيان بلفظ الرب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنه ربه من معنى كرامته، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحث على تناوله والعمل بما فيه.
وعلى جميع الوجوه المتقدمة دلت الآية على أن الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كله، بحيث لا يتوهم أحد أن رسول الله قد أبقى شيئا من الوحي لم يبلغه.لأنه لو ترك شيئا منه لم يبلغه لكان ذلك مما أنزل إليه ولم يقع تبليغه، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن علمنا أن من أهم مقاصدها أن الله أراد قطع تخرص من قد يزعمون أن الرسول قد استبقى شيئا لم يبلغه، أو أنه قد خص بعض الناس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلغه للناس عامة.فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأن القرآن أكثر مما هو في المصحف الذي جمعه أبو بكر ونسخه عثمان، وأن رسول الله اختص بكثير من القرآن عليا بن أبي طالب وأنه أورثه أبناءه وأنه يبلغ وقر بعير، وأنه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الذي يلقبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصي.
وكانت هذه الأوهام ألمت بأنفس بعض المتشيعين إلى علي رضي الله عنه في مدة
(5/154)

حياته، فدعا ذلك بعض الناس، إلى سؤاله عن ذلك.روى البخاري أن أبا جحيفة سأل عليا:"هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند الناس، فقال:"لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة، قلت:وما في الصحيفه، قال: "العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". وحديث مسروق عن عائشة الذي سنذكره ينبئ بأن هذا الهاجس قد ظهر بين العامة في زمانها.وقد يخص الرسول بعض الناس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه، كما كتب إلى علي ببيان العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر، لأنه كان يومئذ قاضيا باليمن، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزكاة لأنه كان بعثه لذلك، فذلك لا ينافي الأمر بالتبليغ لأن ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل، ولأنه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى عمله به، ولأنه لما أمر من سمع مقالته بأن يعيها ويؤديها كما سمعها، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، حصل المقصود من التبليغ؛ فأما أن يدع شيئا من الوحي خاصا بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن الناس فمعاذ الله من ذلك.
وقد يخص أحدا بعلم ليس مما يرجع إلى أمور التشريع، من سر يلقيه إلى بعض أصحابه، كما أسر إلى فاطمة رضي الله عنها بأنه يموت يومئذ وبأنها أول أهله لحاقا به.وأسر إلى أبي بكر رضي الله عنه بأن الله أذن له في الهجرة.وأسر إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان، كما حدث حذيفة بذلك عمر بن الخطاب.وما روي عن أبي هريرة أنه قال:حفظت من رسول الله وعائين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الذي هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للناس، وهو في مرض وفاته، ثم أعرض عنه، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنه لو كان كذلك لما أعرض عنه والله يقول له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمسروق: "ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} الحديث.
وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} جاء الشرط بإن التي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط، لأن عدم التبليغ غير مظنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما فرض هذا
(5/155)

الشرط ليبني عليه الجواب، وهو قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} ليستفيق الذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين، وليبكت من علم الله أنهم سيفترون، فيزعمون أن قرآنا كثيرا لم يبلغه رسول الله الأمة.
ومعنى {لَمْ تَفْعَل} لم تفعل ذلك، وهو تبليغ ما أنزل إليك، وهذا حذف شائع في كلامهم، فيقولون: فإن فعلت، أو فإن لم تفعل.قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] أي إن دعوت ما لا ينفعك، يحذفون مفعول فعلت ولم تفعل لدلالة ما تقدم عليه، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} في سورة البقرة[24].وهذا مما جرى مجرى المثل فلا يتصرف فيه إلا قليلا ولم يتعرض له أئمة الاستعمال.
ومعنى ترتب هذا الجواب على هذا الشرط أنك إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلغ الرسالة، لأن كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتصاف بعدم التبليغ، ولأن المكتوم لا يدرى أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه، وقد ظهر التغاير بين الشرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشرط، إذ تقدير الشرط:إن لم تبلغ ما أنزل، والجزاء، لم تبلغ الرسالة، وذلك كاف في صحة بناء الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأولوه مما في الكشاف وغيره.ثم يعلم من هذا الشرط أن تلك منزلة لا تليق بالرسل، فينتج ذلك أن الرسول لا يكتم شيئا مما أرسل به.وتظهر فائدة افتتاح الخطاب بـ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده، وفائدة اختتامه بقوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر،وأبوجعفر {رسالاته} بصيغة الجمع.وقرأه الباقون :{رسالته} بالإفراد.والمقصود الجنس فهو في سياق النفي سواء مفرده وجمعه.ولا صحة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وأن نحو:لا رجال في الدار، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد، بخلاف نحو لا رجل في الدار.ويظهر أن قراءة الجمع أصرح لأن لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنه يحتمل الجنس والعهد، ولا شك أن نفي اللفظ الذي لا يحتمل العهد أنص في عموم النفي لكن القرينة بينت المراد.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأن المخاطب والسامعين يترقبون عقب الأمر بتبليغ كل ما أنزل إليه، أن يلاقي عنتا وتكالبا عليه من
(5/156)

أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله، لأن المعنى أن هذا ما عليك، فأما ما علينا فالله يعصمك، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأما.على أن الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التقديم من"دلائل الإعجاز"أن مما يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثر؛ الوعد والضمان، لأن ذلك ينفي أن يشك من يوعد في تمام الوعد والوفاء به فهو من أحوج الناس إلى التأكيد، كقول الرجل:أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر اه.ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف :{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72].فقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فيه هذا المعنى أيضا.
والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه.
و {الناس} في الآية مراد به الكفار من اليهود والمنافقين والمشركين، لأن العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه، وإنما يخاف عليه أعداءه لا أحباءه، وليس في المؤمنين عدو لرسوله.فالمراد العصمة من اغتيال المشركين، لأن ذلك هو الذي كان يهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو حصل ذلك لتعطل الهدي الذي كان يحبه النبي للناس، إذ كان حريصا على هدايتهم، ولذلك كان رسول الله، لما عرض نفسه على القبائل في أول بعثته، يقول لهم: "أن تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به أو حتى أبلغ رسالات ربي" . فأما ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك مما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممن أوذي في الله: فقد رماه المشركون بالحجارة حتى أدموه وقد شج وجهه. وهذه العصمة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر وعده بها في القرآن كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137].وفي غير القرآن؛ فقد جاء في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكة أن الله عصمه من المشركين. وجاء في الصحيح عن عائشة أن رسول الله كان يحرس في المدينة، وأنه حرسه ذات ليلة سعد بن أبي وقاص وحذيفة وأن رسول الله أخرج رأسه من قبة وقال لهم: "الحقوا بملاحقكم فإن الله عصمني" ، وأنه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ست للأعرابي غورث بن الحارث الذي وجد رسول الله نائما في ظل شجرة ووجد سيفه معلقا فاخترطه وقال للرسول:"من يمنعك مني"، فقال:"الله"، فسقط السيف من يد الأعرابي .وكل ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية.والذين جعلوا بعض ذلك سببا لنزول هذه الآية قد خلطوا.فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنه لا يتغير مع تغير صنوف الأعداء.
ثم أعقبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ليتبين أن المراد بالناس كفارهم، وليومئ إلى أن سبب عدم هدايتهم هو كفرهم.والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم، فهو وعد لرسوله بأن أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلا لكيد الرسول
(5/157)

والمؤمنين لطفا منه تعالى، وليس المراد الهداية في الدين لأن السياق غير صالح له.
,[68] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
هذا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبته الله على تبليغه بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، فقد كان رسول الله بحب تألف أهل الكتاب وربما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحق.
فيجوز أن تكون جملة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بيانا لجملة {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا بمناسبة قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
والمقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا؛ فأما اليهود فلأنهم مأمورون بإقامة الأحكام التي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمدية، وبإقامة إحكام القرآن المهيمن على الكتاب كله؛ وأما النصارى فلأنهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السلام.
ومعنى {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} نفي أن يكونوا متصفين بشيء من التدين والتقوى لأن خوض الرسول لا يكون إلا في أمر الدين والهدى والتقوى، فوقع هنا حذف صفة {شيء} يدل عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]، أي كل سفينة صالحة، أو غير معيبة.
والشيء اسم لكل موجود، فهو اسم متوغل في التنكير صادق بالقليل والكثير، ويبينه السياق أو القرائن.فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب، ولما وقع في سياق النفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقل حظ من الدين والتقوى ما داموا لم يبلغوا الغاية التي ذكرت، وهي أن يقيموا التوراة والإنجيل والقرآن.والمقصود نفي أن يكون لهم حظ معتد به عند الله، ومثل هذا النفي على تقدير الإعتداد شائع في الكلام، قال عباس بن مرداس.
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي لم أعط شيئا كافيا، بقرينة قوله:ولم أمنع.ويقولون:هذا ليس بشيء، مع أنه
(5/158)

شيء لا محالة ومشار إليه ولكنهم يريدون أنه غير معتد به.ومنه ما وقع في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان، فقال: "ليسوا بشي". وقد شاكل كل هذا النفي على معنى الاعتداد النفي المتقدم في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، أي فما بلغت تبليغا معتدا به عند الله.
والمقصود من الآية إنما هو إقامة التوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما أنزل عليه.وقد أومأت هذه الآية إلى توغل اليهود في مجانبة الهدى لأنهم قد عطلوا إقامة التوراة منذ عصور قبل عيسى، وعطلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه، وأنكروا من جاء به، ثم أنكروا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربهم.والكلام على إقامة التوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [المائدة:66]الخ.
وقد فندت هذه الآية مزاعم اليهود أنهم على التمسك بالتوراة وكانوا يزعمون أنهم على هدى ما تمسكوا بالتوراة ولا يتمسكون بغيرها.وعن ابن عباس أنهم جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ألست تقر أن التوراة حق، قال:"بلى"، قالوا:"فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها". فنزلت هذه الآية.وليس له سند قوي.وقد قال بعض النصارى للرسول صلى الله عليه وسلم في شأن تمسكهم بالإنجيل مثل قول بعض اليهود، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم، وكما في مجادلة بعض وفد نجران.
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، أي من أهل الكتاب، وذلك إما بباعث الحسد على مجيء هذا الدين ونزول القرآن ناسخا لدينهم، وإما بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم.ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتى في المباحث التاريخية والمدنية يحتدون على مدنية الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميزون غيظا ومكابرة حتى ترى العالم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفل إلى دركات التبالة والتجاهل، إلا قليلا ممن اتخذ الإنصاف شعارا، وتباعد عن أن يرمى بسوء الفهم تجنبا وحذارا.
وقد سمى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدين {طغيانا} لأن الطغيان هو الغلو في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللائمين من أهل اليقين.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ؛ فالفاء للفصيحة لتتم التسلية، لأن رحمة الرسول بالخلق تحزنه مما بلغ منهم من زيادة الطغيان والكفر، فنبهت
(5/159)

فاء الفصيحة على أنهم ما بلغوا ما بلغوه إلا من جراء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم.والأسى الحزن والأسف، وفعله كفرح.
وذكر لفظ {القوم} وأتبع بوصف {الكافرين} ليدل على أن المراد بالكافرين هم الذين صار الكفر لهم سجية وصفة تتقوم بها قوميتهم.ولو لم يذكر القوم وقال "فلا تأس على القوم الكافرين" لكان بمنزلة اللقب لهم فلا يشعر بالتوصيف، فكان صادقا بمن كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردد، فذلك مرجو إيمانه.
[69] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [69]
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدق، وإعرابها تابع لدقة الأمرين.فموقعها أدق من موقع نظريتها المتقدمة في سورة البقرة[62] فلم يكن ما تقدم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختص بموقع هذه.ومعناها يزيد دقة على معنى نظيرتها تبعا لدقة موقع هذه.وإعرابها يتعقد إشكاله بوقوع قوله: {والصابئون} بحالة رفع بالواو في حين أنه معطوف على اسم إن في ظاهر الكلام.
فحق علينا أن نخصها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنه معقد معناها.
فاعلم أن هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام:هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتباع دينهم أيامئذ؛ فوقع قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية جوابا لهذا السؤال المقدر.والمراد بالذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون.وإنما المقصود من الإخبار الذين هادوا والصابون والنصارى، وأما التعرض لذكر الذين آمنوا فلاهتمام بهم سنبينه قريبا.
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكدة لجملة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [المائدة:65]الخ، فبعد أن أتبعت تلك الجملة بما أتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيدا للوعد، ووصلا لربط الكلام، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنات النعيم.
(5/160)

فالتصدير بذكر الذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، أن المسلمين هم المثال الصالح في كمال الإيمان والتحرز عن الغرور وعن تسرب مسارب الشرك إلى عقائدهم"كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بقوله: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد من دون الله في أرضكم هذه". فكان المسلمون، لأنهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، أولين في هذا الفصل.
وأما معنى الآية فافتتاحها بحرف"إن"هنا للاهتمام بالخبر لعرو المقام عن إرادة رد إنكار أو تردد في الحكم أو تنزيل غير المتردد منزلة المتردد.
وقد تحير الناظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلا بالله واليوم الآخر؟.وذهب الناظرون في تأويله مذاهب:فقيل: أريد بالذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وهم المنافقون، وقيل:أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد.وقيل:غير ذلك.
والوجه عندي أن المراد بالذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلا بالقلب واللسان لأن هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحق والمتظاهر بالإيمان نفاقا.
فالذي أراه أن يجعل خبر"إن"محذوفا.وحذف خبر"إن"وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في"كتابه".وقد دل على الخبر ما ذكر بعده من قوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ1} إلخ.ويكون قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} عطف جملة على جملة، فيجعل {الَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه، وهو { والصابئون}. وهذا أولى من جعل {والصابئون} مبدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصي عن ذلك، ويكون قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} مبتدأ ثانيا، وتكون"من"موصولة، والرابط للجملة بالتي قبلها محذوفا، أي من آمن منهم، وجملة {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ2} خبرا عن"من"الموصولة، واقترانها بالفاء لأن الموصول شبيه بالشرط.وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10] الآية، ووجود الفاء فيه يعين كونه خبرا عن"من"الموصولة وليس خبرإن ـ
ـــــــ
1 في المطبوع {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الموافقفة لـ[البقرة:62]والمثبت هو المقصود والله أعلم.
(5/161)

على عكس قول ضابي بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقبار بها لغريب
فإن وجود لام الابتداء في قوله لغريب عين أنه خبر"إن"وتقدير خبر عن قبار، فلا ينظر به قوله تعالى"والصابون".
ومعنى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} من آمن ودام، وهم الذين لم يغيروا أديانهم بالإشراك وإنكار البعث؛ فإن كثيرا من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التوراة.ومنهم من جعل عزيرا ابنا لله، وإن النصارى ألهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب.وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة[62].
ثم إن اليهود والنصارى قد أحدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]وقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [القرة:80]، وقول النصارى: "إن عيسى قد كفر خطايا البشر بما تحمله من عذاب الطعن والإهانة والصلب والقتل"، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنهم عطلوا الجزاء وهو الحكمة التي قدر البعث لتحقيقها.
وجمهور المفسرين جعلوا قوله: {والصابئون} مبتدأ وجعلوه مقدما من وتأخير وقدروا له خبرا محذوفا لدلالة خبر"إن"عليه، وأن أصل النظم:أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى لهم أجرهم إلخ، والصابون كذلك، جعلوه كقول ضابي بن الحارث:
فإني وقبار بها لغريب
وبعض المفسرين قدروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة.والذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النظم وأليق بمعنى هذه الآية.
وبعد فمما يجب أن يوقن به إن هذا اللفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكتب في المصاحف، وهم عرب خلص، فكان لنا أصلا نتعرف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالا غير شائع لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أن من الشائع في الكلام أنه إذا أتى بكلام مؤكد بحرف"إن"وأتى باسم إن وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب في ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا ليدلوا بذلك على أنهم أرادوا
(5/162)

عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدر السامع خبرا يقدره بحسب سياق الكلام.ومن ذلك قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]، أي ورسوله كذلك، فإن براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أن آصرة الدين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لما كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك.لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلا بعد أن تستوفي"إن"خبرها، إنما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرا، فأما تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للناظر أنه ينافي المقصد الذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما الدلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم.والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإن الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود.فنبه الكل على أن عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التقديم مع الرفع، ولو لم يقدم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم"إن"فلم يكن عطفه عطف جملة.وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحج مقدما على النصارى ومنصوبا، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.ثم عقب ذلك كله بقوله :{وَعَمِلَ صَالِحاً} وهو المقصود بالذات من ربط السلامة من الخوف والحزن به، فهو قيد في المذكورين كلهم من المسلمين وغيرهم، وأول الأعمال الصالحة تصديق الرسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ـإلى قوله ـ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:12ـ17]
[70] {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله.وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما قابلوا به دعوته ليس بدعا منهم بل ذلك دأبهم جيلا بعد جيل.
وقد تقدم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرة.أولاها في سورة البقرة[83].
(5/163)

والرسل الذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرميا وحزقيال وداود وعيسى.فالمراد بالرسل هنا الأنبياء:من جاء منهم بشرع وكتاب، مثل موسى وداود وعيسى، ومن جاء معززا للشرع مبينا له، مثل يوشع وأشعيا وأرميا.وإطلاق الرسول على النبي الذي لم يجيء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدم، لأنه لما ذكر أنهم قتلوا فريقا من الرسل تعين تأويل الرسل بالأنبياء فإنهم ما قتلوا إلا أنبياء لا رسلا.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا} إلخ انتصب {كلما} على الظرفية لأنه دال على استغراق أزمنة مجيء الرسل إليهم فيدل على استغراق الرسل تبعا لاستغراق أزمنة مجيئهم، إذ استغراق أزمنة وجود شيء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء، فما ظرفية مصدرية دالة على الزمان.
وانتصب"كل"على النيابة عن الزمان لإضافته إلى اسم الزمان المبهم، وهو"ما"الظرفيه المصدرية.والتقدير:في كل أوقات مجيء الرسل إليهم كذبوا ويقتلون.وانتصب {كلما} بالفعلين وهو {كذبوا} و {يقتلون} على التنازع.
وتقديم {كلما} على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلف، لأنهم يريدون بتقديمه الاهتمام به، ليظهر أنه هو محل الغرض المسوقة له جملته، فإن استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرسل في جميع الأوقات دليل على أن التكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلفان، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر، وذلك أظهر في فظاعة حالهم، وهي المقصود هنا.
وبهذا التقديم يشرب ظرف {كلما} معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له، كما تصير أسماء الشرط متقدمة على أفعالها وأجوبتها في نحو {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78] إلا أن {كلما} لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعد في أسماء الشرط لأن"كل"بعيد عن معنى الشرطية.والحق أن إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النحاة تسامح.وقد أطلقه صاحب الكشاف في هذه الآية، لأنه لم يجد لها سببا لفظيا يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} في سورة البقرة[87]، وفي قوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [100]في تلك السورة؛ فإن التقديم فيهما تبع لوقوعهما متصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك، وإن كان قد سكت عليهما في الكشاف لظهور أمرهما في تينك الآيتين.
(5/164)

فالأحسن أن تكون جملة {فَرِيقاً كَذَّبُوا} حالا من ضمير {إليهم} لاقترانها بضمير موافق لصاحب الحال، ولأن المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم، وذلك لا يحصل إلا باعتبار كون المرسل إليهم هذه حالهم مع رسلهم.وليست جملة {فَرِيقاً كَذَّبُوا} وما تقدمها من متعلقها استئنافا، إذ ليس المقصود الإخبار بأن الله أرسل إليهم رسلا بل بمدلول هذا الحال.
وبهذا يظهر لك أن التقسيم في قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ليس لرسول من قوله :{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} بل لـ {رسلا} ، لأننا اعتبرنا قوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} مقدما من تأخير.والتقدير: وأرسلنا إليهم رسلا كذبوا منهم فريقا وقتلوا فريقا كلما جاءهم رسول من الرسل.وبهذا نستغني عن تكلفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني.
وقوله: {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} أي بما لا تحبه.يقال:هوي يهوى بمعنى أحب ومالت نفسه إلى ملابسة شيء.إن بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلا والخسران آجلا، ولولا ذلك لترك الناس وما يهوون، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النفوس من هواها.ولما وصفت بنو إسرائيل بأنهم يكذبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنه لم يخل رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما:وهما التكذيب والقتل.وذلك مستفاد من {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} ، فلم يبق لقوله: {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} فائدة إلا الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنهم يكذبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عذرا من تكليف بمشقة فادحة، أو من حدوث حادث ثائرة، أو من أجل التمسك بدين يأبون مفارقته، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطل بتمردهم فائدة التشريع وفائدة طاعة الأمة لهداتها.
وهذا تعليم عظيم من القرآن بأن من حق الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنها إذا رامت حمل علمائها وهداتها على مسايرة أهوائها، بحيث يعصون إذا دعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حق عليهم الخسران كما حق على بني إسرائيل، لأن في ذلك قلبا للحقائق ومحاولة انقلاب التابع متبوعا والقائد مقودا، وأن قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخلق كانوا غاشين لهم، وزالت
(5/165)

فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المرعي بالهمل والحابل بالنابل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من استرعاه الله رعية فغشها لم يشم رائحة الجنة". فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنهم قابلوا الرسول من أول وهلة بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال قوم شعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87]، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثم انتقضوا عليهم بالتكذيب والتقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم مما لا يهوونه.
وتقديم المفعول في قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا} لمجرد الاهتمام بالتفصيل لأن الكلام مسوق مساق التفصيل لأحوال رسل بني إسرائيل باعتبار ما لاقوه من قومهم، ولأن في تقديم مفعول {يقتلون} رعاية على فاصلة الآي، فقدم مفعول {كذبوا} ليكون المفعولان على وتيرة واحدة.
وجيء في قوله: {يقتلون} بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعه إبلاغا في التعجيب من شناعة فاعليها.
والضمائر كلها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنهم أمة يخلف بعض أجيالها بعضا، وأنها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائد متبعة بحيث يكون الخلف منهم فيها على ما كان عليه السلف؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعلين، فإن الذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الذين اقتصروا على التكذيب.
[71] {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
عطف على قوله: {كَذَّبُوا} [المائدة:70]و {يَقْتُلُونَ} [المائدة:70] لبيان فساد اعتقادهم الناشئ عنه فاسد أعمالهم، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمد بغرور، لا عن فلتة أو ثائرة نفس حتى ينيبوا ويتوبوا.والضمائر البارزة عائدة مثل الضمائر المتقدمة في قوله: {كذبوا} و {يقتلون}. وظنوا أن فعلهم لا تلحقهم منه فتنة.
والفتنة مرج أحوال الناس واضطراب نظامهم من جراء أضرار ومصائب متوالية، وقد تقدم تحقيقها عند قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة[102].وهي قد تكون عقابا من الله للناس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصا لصادق إيمانهم لتعلو بذلك درجاتهم {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]الآية.وسمى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الدجال فتنة، وسمى القرآن مزال الشيطان فتنة {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}.
(5/166)

[الأعراف:]27.فكان معنى الابتلاء ملازما لها.
والمعنى:وظنوا أن الله لا يصيبهم بفتنة في الدنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدر دال عليه السياق، أي ظنوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدنيا فأمنوا عقاب الله في الدنيا بعد أن استخفوا بعذاب الآخرة، وتوهموا أنهم ناجون منه، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنهم نبذوا الفكرة فيه ظهريا وأنهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدنيا وأنهم ضالون في كلا الأمرين.
ودل قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} على أنهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنهم كانوا أحرص على سلامة الدنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم.
وهذا شأن الأمم إذا تطرق إليها الخذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همهم مقصورا على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجل بالفتنة والآجل.
واستعير {عَمُوا وَصَمُّوا} للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأن العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع.فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضل نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النفوس، لأن الانسياق إليه في الجبلة، فتجنبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} مرادا منه معناه الكنائي أيضا، وهو أنهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وقد تأكد هذا المراد بقوله في تذييل الآية {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا بما يَعْمَلُونَ}.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي بعد ذلك الضلال والإعراض عن الرشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله: {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أنهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأن الله لما تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا}، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذميم، لأنهم مصرون على حسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة
(5/167)

أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثاني ولم يذكر أن الله تاب عليهم بعده، فدل على أنهم أعرضوا عن الحق إعراضا شديدا مرة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.
ويتعين أن ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه ا لسلام، والأظهر أنهما حادث الأسر البابلي إذ سلط الله عليهم"بختنصر"ملك"أشور"فدخل بيت المقدس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح.وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحمل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأن توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب"كورش"ملك"فارس"على الآشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمروها فرجعوا وبنوا مسجدهم.
وحادث الخراب الواقع في زمن تيطس القائد الروماني وهو ابن الامبراطور الروماني"وسبسيانوس"فإنه حاصر"أورشليم"حتى اضطر اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضهم بعضا من الجوع، وقتل منهم ألف ألف رجل، وسبى سبعة وتسعين ألفا، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح.ثم قفاه الامبراطور"أدريان"الروماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدم المدينة وجعلها أرضا وخلط ترابها بالملح.فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرقهم في الأرض.
وقد أشار القرآن إلى هذين الحدثين بقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ1 وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا2 مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:4ـ8]وهذا هو الذي اختاره القفال.وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر.
ـــــــ
1 أي على البابليين بانتصار الفرس عليهم وكنتم موالين للفرس.
2 الضمائر راجعة إلى عباد من قوله {عِبَاداً لَنَا}, وأصحاب الضمائر هم غير العباد الأولين.
(5/168)

وقد دلت {ثم} على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأن هنالك عميين وصممين في زمنين سابق ولاحق، ومع ذلك كانت الضمائر المتصلة بالفعلين المعطوفين عين الضمائر المتصلة بالفعلين المعطوف عليهما، والذي سوغ ذلك أن المراد بيان تكرر الأفعال في العصور وادعاء أن الفاعل واحد؛ لأن ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجل بها عليهم توارث السجايا فيهم من حسن أو قبيح، وقد علم أن الذين عموا وصموا ثانية غير الذين عموا وصموا أول مرة، ولكنهم لما كانوا خلفا عن سلف، وكانوا قد أورثوا أخلاقهم أبناءهم اعتبروا كالشيء الواحد، كقولهم:بنو فلان لهم تراث مع بني فلان.
وقوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بدل من الضمير في قوله: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا}، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصلاح منهم في كل عصر بأنهم برآء مما كان عليه دهماؤهم صدعا بالحق وثناء على الفضل.
وإذ قد كان مرجع الضميرين الأخيرين في قوله: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} هو عين مرجع الضميرين الأولين في قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيد تخصيصا من عمومهما، مفيدا تخصيصا من عموم الضميرين اللذين قبلهما بحكم المساواة بين الضمائر، إذ قد اعتبرت ضمائر أمة واحدة، فإن مرجع تلك الضمائر هو قوله: {بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:70].ومن الضروري أن لا تخلوا أمة ضالة في كل جيل من وجود صالحين فيها، فقد كان في المتأخرين منهم أمثال عبد الله بن سلام، وكان في المتقدمين يوشع وكالب اللذين قال الله في شأنها: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23].
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} تذييل.والبصير مبالغة في المبصر، كالحكيم بمعنى المحكم، وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يقع في أفعالهم التي من شأنها أن يبصرها الناس سواء ما أبصره الناس منها أم ما لم يبصروه، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} بفتح نون تكون على اعتبار"أن"حرف مصدر ناصب للفعل.وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوب، وخلف بضم النون على اعتبار"أن"مخففة من"أن"أخت"إن"المكسورة الهمزة.وأنّ
(5/169)

إذا خففت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة.وزعم بعض النحاة أنها مع ذلك عاملة، وأن اسمها ملتزم الحذف، وأن خبرها ملتزم كونه جملة.وهذا توهم لا دليل عليه.وزاد بعضهم فزعم أن اسمها المحذوف ضمير الشأن.وهذا أيضا توهم على توهم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون محذوفا لأنه مجتلب للتأكيد، على أن عدم ظهوره في أي استعمال يفند دعوى تقديره.
[73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} استئناف ابتدائي لإبطال ما عليه النصارى، يناسب الانتهاء من إبطال ما عليه اليهود.
وقد مضى القول آنفا في نظير قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:17] ومن نسب إليه هذا القول من طوائف النصارى.
والواو في قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} واو الحال.والجملة حال من {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} ,أي قالوا ذلك في حال نداء المسيح لبني إسرائيل بأن الله ربه وربهم، أي لا شبهة لهم، فهم قالوا:إن الله اتحد بالمسيح؛ في حال أن المسيح الذي يزعمون أنهم آمنوا به والذي نسبوه إليه قد كذبهم، لأن قوله:{رَبِّي وَرَبَّكُمْ}، يناقض قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ}، لأنه لا يكون إلا مربوبا، وذلك مفاد قوله {ربي} ، ولأنه لا يكون مع الله إله آخر، وذلك مفاد قوله: {وربكم} ، ولذلك عقب بجملة {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}. فيجوز أن تكون هذه الجملة حكاية لكلام صدر من عيسى عليه السلام فتكون تعليلا للأمر بعبادة الله.ووقوع"إن"في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التفريع وتفيد التعليل.وفي حكايته تعريض بأن قولهم ذلك قد أوقعهم في الشرك وإن كانوا يظنون أنهم اجتنبوه حذرا من الوقوع فيما حذر منه المسيح، لأن الذين قالوا:إن الله هو المسيح.أرادوا الاتحاد بالله وأنه هو هو.وهذا قول اليعاقبة كما تقدم آنفا وفي سورة النساء.وذلك شرك لا محالة، بل هو أشد، لأنهم أشركوا مع الله غيره ومزجوه به فوقعوا في الشرك وإن راموا تجنب تعدد الآلهة، فقد أيبطل الله قولهم بشهادة كلام من نسبوا إليه الإلهية إبطالا تاما.
وإن كانت الجملة من كلام الله تعالى فهو تذييل إثبات كفرهم وزيادة تنبيه على
(5/170)

بطلان معتقدهم وتعريض بهم بأنهم قد أشركوا بالله من حيث أرادوا التوحيد.
والضمير المقترن بإن ضمير الشأن يدل على العناية بالخبر الوارد بعده.ومعنى {حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} منعها منه، أي من الكون فيها.
والمأوى:المكان الذي يأوى إليه الشيء، أي يرجع إليه.
وجملة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يحتمل أيضا أن تكون من كلام المسيح عليه السلام على احتمال أن يكون قوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} من كلامه، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا لكلام المسيح على ذلك الاحتمال، أو تذييلا لكلام الله تعالى على الاحتمال الآخر.والمراد بالظالمين المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أي ما للمشركين من أنصار ينصرونهم لينقذوهم من عذاب النار.
فالتقدير:ومأواه النار لا محالة ولا طمع له في التخلص منه بواسطة نصير، فبالأحرى أن لا يتخلص بدون نصير.
[74,73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النصارى، وهي مقالة"الملكانية المسمين بالجعاثليقية"، وعليها معظم طوائف النصارى في جميع الأرض.وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} من سورة النساء[171]، وأن قوله فيها: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} يجمع الرد على طوائف النصارى كلهم.والمراد بـ{قالو}اعتقدوا فقالوا، لأن شأن القول أن يكون صادرا عن اعتقاد، وقد تقدم بيان ذلك.
ومعنى قولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أن ما يعرفه الناس أنه الله هو مجموع ثلاثة أشياء، وأن المستحق للاسم هو أحد تلك الثلاثة الأشياء.وهذه الثلاثة قد عبروا عنها بالأقانيم وهي أقنوم الوجود وهو الذات المسمى الله وسموه أيضا الأب؛ وأقنوم العلم وسموه أيضا الابن، وهو الذي اتحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلها؛ وأقنوم الحياة وسموه الروح القدس.وصار جمهورهم، ومنهم الركوسية طائفة من نصارى العرب، يقولون:إنه لما اتحد بمريم حين حملها بالكلمة تألهت مريم أيضا، ولذلك اختلفوا هل
(5/171)

هي أم الكلمة أم هي أم الله.
فقوله: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} معناه واحد من تلك الثلاثة، لأن العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة، صيغة فاعل مضافا إلى اسم العدد المشتق هو منه لإرادة أنه جزء من ذلك العدد نحو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40],فإن أرادوا أن المشتق له وزن فاعل هو الذي أكمل العدد أضافوا وزن فاعل إلى اسم العدد الذي هو أرقى منه فقالوا:رابع ثلاثة، أي جاعل الثلاثة أربعة.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} عطف على جملة {لَقَدْ كَفَرَ} لبيان الحق في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل.
ويجوز جعل الجملة حالا من ضمير {قالوا} ، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفا للواقع، فيكون كالتعليل لكفرهم في قولهم ذلك، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحق أن يكون غير واحد فإن"من"لتأكيد عموم النفي فصار النفي ب {ما} المقترنة بها مساويا للنفي بـ"لا"النافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصا.
وعدل هنا عن النفي بلا التبرئة فلم يقل:"ولا إله إلا إله واحد"إلى قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} اهتماما بإبراز حرف"من"الدال بعد النفي على تحقيق النفي؛ فإن النفي بحرف"لا ما أفاد نفي الجنس إلا بتقدير حرف"من"، فلما قصدت زيادة الاهتمام بالنفي هنا جيء بحرف"ما"النافية وأظهر بعده حرف"من".وهذا مما لم يتعرض إليه أحد من المفسرين.
وقوله: {إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} يفيد حصر وصف الإلهية في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم.وأما تعيين هذا الواحد من هو، فليس مقصودا تعيينه هنا لأن القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث، وثبتت الوحدانية تعين أن هذا الواحد هو الله تعالى لأنه متفق على إلهيته، فلما بطلت إلهية غيره معه تمحضت الإلهية له فيكون قوله هنا: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} مساويا لقوله في سورة آل عمران[62] {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، إلا أن ذكر اسم الله تقدم هنا وتقدم قول المبطلين:"إنه ثالث ثلاثة"فاستغني بإثبات الوحدانية عن تعيينه.ولهذا صرح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهية في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدد الآلهة.
(5/172)

وقوله :{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عطف على جملة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، أي لقد كفروا كفرا إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم.ومعنى {عَمَّا يَقُولُون} أي عن قولهم المذكور آنفا وهو {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}. وقد جاء بالمضارع لأنه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنما يكون عن شيء مستمر كما ناسب قوله: {قالوا} قوله :{لَقَدْ كَفَرَ} لأن الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزمن الماضي.ومعنى {عَمَّا يَقُولُون} عما يعتقدون، لأنهم لو انتهوا عن القول باللسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك، فلما كان شأن القول لا يصدر إلا عن اعتقاد كان صالحا لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصريح.وأكد الوعيد بلام القسم في قوله: {ليمسن} ردا لاعتقادهم أنهم لا تمسهم النار، لأن صلب عيسى كان كفارة عن خطايا بني آدم.
والمس مجاز في الإصابة، لأن حقيقة المس وضع اليد على الجسم، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتصال، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49]، فهو دال على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدة أو ضعف، وإنما يرجع في الشدة أو الضعف إلى القرينة، مثل{أليم} هنا، ومثل قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49]في الآية الأخرى، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة:
مسسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
أي تتبعنا أصول آبائنا.
والمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} عين المراد بـ {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} فعدل عن التعبير عنهم بضميرهم إلى الصلة المقررة لمعنى كفرهم المذكور آنفا بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} إلخ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئا إلى سبب الحكم المخبر به عنه.وعلى هذا يكون قوله:{منهم} للذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهم السامع أن هذا وعيد لكفار آخرين.
ولما توعدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ}. فالتوبة هي الإقلاع عما هو عليه في المستقبل والرجوع إلى الاعتقاد الحق.والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والندم عما فرط منهم من سوء الاعتقاد.
(5/173)

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل بثناء على الله بأنه يغفر لمن تاب واستغفر ما سلف منه، لأن {غَفُورٌ رَحِيمٌ} من أمثلة المبالغة يدلان على شدة الغفران وشدة الرحمة، فهو وعد بأنهم إن تابوا واستغفروه رفع عنهم العذاب برحمته وصفح عما سلف منهم بغفرانه.
[75] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
استئناف لتبيان وصف المسيح في نفس الأمر ووصف أمه زيادة في إبطال معتقد النصارى إلهية المسيح وإلهية أمه، إذ قد علم أن قولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]أرادوا به إلهية المسيح.وذلك معتقد جميع النصارى.وفرعت طائفة من النصارى يلقبون"بالركوسية""وهم أهل ملة نصرانية صابئة"على إلهية عيسى إلهية أمه ولولا أن ذلك معتقدهم لما وقع التعرض لوصف مريم ولا للاستدلال على بشريتها بأنهما كانا يأكلان الطعام.
فقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها، وهي الإلهية.فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى أنه الله.
وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} صفة لرسول أريد بها أنه مساو للرسل الآخرين الذين مضوا قبله، وأنه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختص فيه بخصوصية لم تكن لغيره في وصف الرسالة.فلا شبهة للذين ادعوا له الإلهية، إذ لم يجيء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل، وما جرت على يديه إلا معجزات كما جرت على أيدي رسل قبله، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيته.وفي هذا نداء على غباوة القوم الذين استدلوا على إلهيته بأنه أحيا الموتى من الحيوان فإن موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حية.
وجملة {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} معطوفة على جملة {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ}. والقصد من وصفها بأنها صديقة نفي أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، وهو وصف الإلهية، لأن المقام لإبطال قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، إذ جعلوا مريم الأقنوم الثالث.وهذا هو الذي أشار إليه قول صاحب الكشاف إذ قال:"أي وما أمه إلا صديقة"
(5/174)

مع أن الجملة لا تشتمل على صيغة حصر.وقد وجهه العلامة التفتزاني في شرح الكشاف بقوله:"الحصر الذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف""أي من مجموع الأمرين".وفي قول التفتزاني:والعطف، نظر.
والصديقة صيغة مبالغة، مثل شريب ومسيك، مبالغة في الشرب والمسك، ولقب امرئ القيس بالملك الضليل، لأنه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه.والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقة من المجرد الثلاثي.فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق، أي صدق وعد ربها، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد الناس.كما وصف إسماعيل عليه السلام بذلك في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54].وقد لقب يوسف بالصديق، لأنه صدق وعد ربه في الكف عن المحرمات مع توفر أسبابها.وقيل:أريد هنا وصفها بالمبالغة في التصديق لقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم:12]، كما لقب أبو بكر بالصديق لأنه أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] ، فيكون مشتقا من المزيد.
وقوله:{كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الذي هو نفي إلهية المسيح وأمه، ولذلك فصلت عن التي قبلها لأن الدليل بمنزلة البيان، وقد استدل على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر، وهي أكل الطعام.وإنما اختيرت هذه الصفة من بين صفات كثيرة لأنها ظاهرة واضحة للناس، ولأنها أثبتتها الأناجيل؛ فقد أثبتت أن مريم أكلت ثمر النخلة حين مخاضها، وأن عيسى أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزا وشرب خمرا، وفي إنجيل لوقا إصحاح 22:"وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأني لا آكل منه بعد، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع".
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} استئناف للتعجيب من حال الذين ادعوا الإلهية لعيسى.والخطاب مراد به غير معين، وهو كل من سمع الحجج السابقة.واستعمل الأمر بالنظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلم بالرؤية في الوضوح والجلاء.وقد تقدمت نظائره.وقد أفاد ذلك معنى التعجيب.ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه السلام.والمراد هو وأهل القرآن.
و {كيف} اسم استفهام معلق لفعل {انظر} عن العمل في مفعولين، وهي في موضع المفعول به لـ {انظر}، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام.وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية، أي انظر ذلك تجد جوابك أنه بيان عظيم الجلاء يتعجب الناظر من وضوحه.والآيات جمع آية، وهي العلامة على وجود
(5/175)

المطلوب، استعيرت للحجة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريقة المكنية، وإثبات الآيات له تخييل، شبهت بآيات الطريق الدالة على المكان المطلوب.
وقوله: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} "ثم"فيه للترتيب الرتبي والمقصود أن التأمل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحق مع وضوحه.و {يؤفكون} يصرفون، يقال:أفكه من باب ضرب، صرفه عن الشيء.
و {أنى} اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين، ويستعمل بمعنى كيف.وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيف"كما"في الكشاف، وعليه فإنما عدل عن إعادة{كيف} تفننا.ويجوز أن تكون بمعنى من أين، والمعنى التعجيب من أين يتطرق إليهم الصرف عن الاعتقاد الحق بعد ذلك البيان البالغ غاية الوضوح حتى كان بمحل التعجيب من وضوحه.وقد علق ـ {إني} فعل {انظر} الثاني عن العمل وحذف متعلق {يؤفكون} اختصارا، لظهور أنهم يصرفون عن الحق الذي بينته لهم الآيات.
[76] {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [76]
لما كان الكلام السابق جاريا على طريقة خطاب غير المعين كانت جملة {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ مستأنفة، أمر الرسول بأن يبلغهم ما عنوا به.
والظاهر أن {أتعبدون} خطاب لجميع من يعبد شيئا من دون الله من المشركين والنصارى.والاستفهام للتوبيخ والتغليط مجازا.
ومعنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} غير الله.فمن للتوكيد، و"دون"اسم للمغاير، فهو مرادف لسوى، أي أتعبدون معبودا هو غير الله، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهية.وليس المعنى أتعبدون معبودا وتتركون عبادة الله.وانظر ما فسرنا به عند قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في سورة الأنعام[108]، فالمخاطبون كلهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتى الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلا لزعمهم أن الله حل فيه فقد عبدوا الله فيه، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلهم.
(5/176)

ولذلك جيء بـ{ما} الموصولة دون"من"لأن معظم ما عبد من دون الله أشياء لا تعقل، وقد غلب "ما" لما لا يعقل.ولو أريد بـ {مَا لا يَمْلِكُ} عيسى وأمه كما في الكشاف وغيره وجعل الخطاب خاصا بالنصارى كان التعبير عنه بـ{ما} صحيحا لأنها تستعمل استعمال"من"، وكثر في الكلام بحيث يكثر على التأويل.ولكن قد يكون التعبير بمن أظهر.
ومعنى {لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} لا يقدر عليه، وحقيقة معنى الملك التمكن من التصرف بدون معارض، ثم أطلق على استطاعة التصرف في الأشياء بدون عجز، كما قال قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهر فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
فإن كفه مملوكة له لا محالة، ولكنه أراد أنه تمكن من كفه تمام التمكن فدفع به الرمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفه.ومن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القوية الثابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [يونس:49] {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت:17].فقد تعلق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات، وذلك لا يكون إلا على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القوية ألا ترى إلى عطف نفي على نفي الملك على وجه الترقي في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة النحل[73].وقد تقدم آنفا استعمال آخر في قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وقدم الضر على النفع لأن النفوس أشد تطلعا إلى دفعه من تطلعها إلى جلب النفع، فكان أعظم ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أن يستدفعوا بها الأضرار بالنصر على الأعداء وبتجنبها إلحاق الإضرار بعابديها.
ووجه الاستدلال على أن معبوداتهم لا تملك ضرا ولا نفعا، وقوع الأضرار بهم وتخلف النفع عنهم.
فجملة {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في موضع الحال، قصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل، سبب النجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهور الحالة، على الله تعالى
(5/177)

قصر ادعاء بمعنى الكمال، أي ولا يسمع كل دعاء ويعلم كل احتياج إلا الله تعالى، أي لا عيسى ولا غيره مما عبد من دون الله.
فالواو في قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} واو الحال.وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق:طريق القصر وطريق ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفة.
[77] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وتقدم تفسير نظيره في آخر سورة النساء.
والغلو مصدر غلا في الأمر:إذا جاوز حده المعروف.فالغلو الزيادة في عمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.
وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} منصوب على النيابة عن مفعول مطلق لفعل {تغلوا} أي غلوا غير الحق، وغير الحق هو الباطل.وعدل عن أن يقال باطلا إلى {غَيْرَ الْحَقِّ} لما في وصف غير الحق من تشنيع الموصوف.والمراد أنه مخالف للحق المعروف فهو مذموم؛ لأن الحق محمود فغيره مذموم.وأريد أنه مخالف للصواب احترازا عن الغلو الذي لا ضير فيه، مثل المبالغة في الثناء على العمل الصالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع.وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة النساء[171].فمن غلو اليهود تجاوزهم الحد في التمسك بشرع التوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.ومن غلو النصارى دعوى إلهية عيسى وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم.ومن الغلو الذي ليس باطلا ما هو مثل الزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنه مكروه.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} عطف على النهي عن الغلو، وهو عطف عام من وجه على خاص من وجه؛ ففيه فائدة عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغلاة من أحبارهم ورهبانهم الذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدليل.فلذلك سمي تغاليهم أهواء، لأنها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنها أهواء فضلوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلوا كثيرا مثل"قيافا"حبر اليهود الذي كفر عيسى عليه
(5/178)

السلام وحكم بأنه يقتل، ومثل المجمع الملكاني الذي سجل عقيدة التثليث.
وقوله: {مِنْ قَبْلُ} معناه من قبلكم.وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبل وبعد وغير وحسب ودون وأسماء الجهات، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنية على الضم حينئذ، ويندر أن تكون معربة إلا إذا نكرت.وقد وجه النحويون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكر بأنها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النادرة، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللغة.
وقوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} مقابل لقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} فهذا ضلال آخر، فتعين أن سواء السبيل الذي ضلوا عنه هو الإسلام.والسواء المستقيم، وقد استعير للحق الواضح، أي قد ضلوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلوا بعد ذلك عن الإسلام.
وقيل:الخطاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} للنصارى خاصة، لأنه ورد عقب مجادلة النصارى وأن المراد بالغلو التثليث، وأن المراد بالقوم الذين ضلوا من قبل هم اليهود.ومعنى النهي عن متابعة أهوائهم النهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم؛ فيكون الكلام تنفيرا للنصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود، لأن النصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنهم على ضلال.
[79,78] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
جملة {لعن} مستأنفة استئنافا ابتدائيا فيها تخلص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النصارى.وهي خبرية مناسبة لجملة {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة:77]، تتنزل منها منزلة الدليل، لأن فيها استدلالا على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النصارى.والمقصود إثبات أن الضلال مستمر فيهم فإن ما بين داود وعيسى أكثر من ألف سنة.
و {على} في قوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكن الملابسة، فهي استعارة تبعية لمعنى باء الملابسة مثل قوله تعالى :{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، قصد منها المبالغة في الملابسة، أي لعنوا بلسان داود، أي بكلامه
(5/179)

الملابس للسانه.وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المزامير أن داود لعن الذين يبدلون الدين، وجاء في المزمور الثالث والخمسين:"الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله كلهم قد ارتدوا معا فسدوا ثم قال أخزيتهم لأن الله قد رفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل"وفي المزمور 109:"قد انفتح علي فم الشرير وتكلموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ثم قال ينظرون إلي وينغضون رؤوسهم ثم قال أما هم فيلعنون وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا أما عبدك فيفرح"ذلك أن بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داود مع ابنه ابشلوم.وكذلك لعنهم على لسان عيسى متكرر في الأناجيل.و"ذلك" إشارة إلى اللعن المأخوذ من لعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور.والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا؛ كأن سائلا يسأل عن موجب هذا اللعن فأجيب بأنه بسبب عصيانهم وعدوانهم، أي لم يكن بلا سبب.وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوعه في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر، أي ليس لعنهم إلا بسبب عصيانهم كما أشار إليه في الكشاف وليس في الكلام صيغة قصر، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثلاثة.وهذه النكتة من غرر صاحب الكشاف.والمقصود من الحصر أن لا يضل الناس في تعليل سبب اللعن فربما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضلال في العناية بالسفاسف والتفريط في المهمات، لأن التفطن لأسباب العقوبة أول درجات التوفيق.ومثل ذلك مثل البله من الناس تصيبهم الأمراض المعضلة فيحسبونها من مس الجن أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائها.
و"ما"في قوله: {بِمَا عَصَوْا} مصدرية، أي بعصيانهم وكونهم معتدين، فعدل عن التعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفعلين مع"ما"المصدرية ليفيد الفعلان معنى تجدد العصيان واستمرار الاعتداء منهم، ولتفيد صيغة المضي أن ذلك أمر قديم فيهم، وصيغة المضارع أنه متكرر الحدوث.فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى.والاعتداء هو إضرار الأنبياء.وإنما عبر في جانب العصيان بالماضي لأنه تقرر فلم يقبل الزيادة، وعبر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر، فإنهم اعتدوا على محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد.
وجملة {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} ، وهو أن يقال كيف تكون أمة كلها متمالئة على العصيان
(5/180)

والاعتداء، فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}. وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أو النفر القليل، فإذا لم يجدوا من يغير عليهم تزايدوا فيها ففشت واتبع فيها الدهماء بعضهم بعضا حتى تعم وينسى كونها مناكر فلا يهتدي الناس إلى الإقلاع عنها والتوبة منها فتصيبهم لعنة الله.وقد روى الترمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال:قال رسول الله:صلى الله عليه وسلم: "كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول:"يا هذا اتق الله ودع ما تصنع"، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ثم قرأ :{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ ـإلى قوله ـ فَاسِقُونَ} [المائدة:78ـ81] ثم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم".
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمة وأن ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهي عندما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التناهي، فالمفاعلة مقدرة وليست حقيقية، والقرينة عموم الضمير في قوله:{فعلوه}، فإن المنكر إنما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر؛ وربما فعل ا لبعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الذي كان فعل منكرا قبله وهكذا، فهم يصانعون أنفسهم.
والمراد بِـ{مَا يَفْعَلُونَ}تركهم التناهي.
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} مع أنه ترك، لأن السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرضا به والمشاركة فيه.
وفي هذا دليل للقائلين من أئمة الكلام من الأشاعرة بأنه لا تكليف إلا بفعل، وأن المكلف به في النهي فعل، وهو الانتهاء، أي الكف، والكف فعل، وقد سمى الله الترك هنا فعلا.وقد أكد فعل الذم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمه.
[80ـ81] {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ[80]وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[81]}
استئناف ابتدائي ذكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا
(5/181)

الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دل على ذلك قوله: {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، لأنه لا يستغرب إلا لكونه صادرا ممن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين.والرؤية في قوله: {ترى} بصرية، والخطاب للرسول.والمراد بـ {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} كثير من يهود المدينة، بقرينة قوله{ترى}، وذلك أن كثيرا من ا ليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقا، نظرا لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عينا ليهود خيبر وقريظة والنضير.ومعنى {يتولون} يتخذونهم أولياء.والمراد بالذين كفروا مشركو مكة ومن حول المدينة من الأعراب الذين بقوا على الشرك.ومن هؤلاء اليهود كعب بن الأشرف رئيس اليهود فإنه كان مواليا لأهل مكة وكان يغريهم بغزو المدينة.وقد تقدم أنهم المراد في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50]
وقوله: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} "أن"فيه مصدرية دخلت على الفعل الماضي وهو جائز، كما في الكشاف كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الاسراء:74]، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذم.والتقدير:لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سخط الله عليهم، فسخط الله مذموم.وقد أفاد هذا المخصوص أن الله قد غضب عليهم غضبا خاصا لموالاتهم الذين كفروا، وذلك غير مصرح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف.ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللعنة التي في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78].وكون ذلك مما قدمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق.
وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} إلخ الواو للحال من قوله: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدم، فالمعنى:ولو كانوا يؤمنون إيمانا صادقا ما اتخذوا المشركين أولياء.والمراد بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه القرآن، وذلك لأن النبي نهى المؤمنين عن موالاة المشركين، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية.وقد تقدم في قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28].وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي، لأن المشركين أعداء الرسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به.وقد تقدم ذلك في سورة آل عمران.
وقوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} هو استثناء القياس، أي ولكن كثيرا من بني
(5/182)

إسرائيل {فاسقون} فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} و {فَاسِقُونَ} كافرون، فلا عجب في موالاتهم المشركين لاتحادهم في مناواة الإسلام.فالمراد بالكثير في قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} عين المراد من قوله: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة.ألا ترى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6,5] وليس ضمير {منهم} عائدا إلى {كثيرا} إذ ليس المراد أن الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلهم.
[82ـ84] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [82] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [83]وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [84]}
فذلكة لما تقدم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين؛ فإن الله شنع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64]، فكررها مرتين وقال:{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80] وقال: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} [المائدة:61] فعلم تلونهم في مضارة المسلمين وأذاهم.وذكر من أحوال النصارى ما شنع به عقيدتهم ولكنه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتخاذ الفريقين أولياء في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]الآية.فجاء قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} الآية فذلكة لحاصل ما تكنه ضمائر الفريقين نحو المسلمين، ولذلك فصلت ولم تعطف.واللام في {لتجدن} لام القسم يقصد منها التأكيد، وزادته نون التوكيد تأكيدا.والوجدان هنا وجدان قلبي، وهو من أفعال العلم، ولذلك يعدى إلى مفعولين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} في سورة البقرة[96].
وانتصب {عداوة} على تمييز نسبة {أشد} الى الناس ومثله انتصاب {مودة}.
وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين، فقد ألف بين اليهود والمشركين بغض الإسلام؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوة من غيرهم،
(5/183)

والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحق ونبذ الباطل.
وقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} أي أقرب الناس مودة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام.وهذان طرفان في معاملة المسلمين.وبين الطرفين فرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطلة.
والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله: {أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا}. فأما من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين.
وقد تقدم الكلام على نظير قوله :{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}في قوله تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14]، المقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم التزموا أن يكونوا أنصارا لله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]، كما تقدم في تفسير نظيره.فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودة المسلمين فيتبعوا دين الإسلام.
وقوله:{ذلك}الإشارة إلى الكلام المتقدم، وهو أنهم أقرب مودة للذين آمنوا.والباء في قوله: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل.والضمير في قوله: {منهم} راجع إلى النصارى.
والقسيسون جمع سلامة لقسيس بوزن سجين.ويقال قس بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية.وقال قطرب:هي بلغة الروم.وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين.
والرهبان هنا جمع راهب، مثل ركبان جمع راكب، وفرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصف على فاعل.والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة.وقال الراغب:الرهبان يكون واحدا وجمعا، فمن جعله واحدا جمعه على رهابين ورهابنة.وهذا مروي عن الفراء.ولم يحك الزمخشري في الأساس أن رهبان يكون مفردا.وأطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي
لو أبصرت رهبان دير بالجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويزل
وإنما كان وجود القسيسين والرهبان بينهم سببا في اقتراب مودتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حسن أخلاق القسيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم.وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمرون الأديرة والصوامع والبيع، وأكثرهم من
(5/184)

عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم.قال النابغة:
لو أنها برزت لأشمط راهب ... عبد الاله صرورة متعبد
لرنا لطلعتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم مما يكون سببا في صلاح أخلاق أهل ملتهم.والاستكبار السين والتاء فيه للمبالغة.وهو يطلق على التكبر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحق، وهما متلازمان.فالمراد من قوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أنهم متواضعون منصفون.وضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير{بِأَنَّ مِنْهُمْ}، أي وأن الذين قالوا إنا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملة النصرانية في ذلك العصر.وقد كان نصارى العرب متحلين بمكارم من الأخلاق.قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصرين:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وظاهر قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أن هذا الخلق وصف للنصارى كلهم من حيث إنهم نصارى فيتعين أن يحمل الموصول على العموم العرفي، وهم نصارى العرب، فإن اتباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضم إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد وورقة بن نوفل وأضرابهم.
وضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عائد إلى {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} لأنه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله: {وأنهم} ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتكون ضمائر الجمع من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا} إلى قوله ـ {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ} [المائدة:83ـ85] تابعة لضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى معادين هي سياق الكلام.ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].فضمير الرفع في{عمروها} الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في "عمروها" الثاني.وكقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
(5/185)

يريد بضمير"أحرزوا"جماعة المشركين، وبضمير"جمعوا"جماعة المسلمين.
ويعضد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما:أن المعني في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستين راهبا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا.وهم بحيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي ممن يحسنون العربية ليتمكنوا من فهم القرآن عند سماعه.وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة اليهم في هذه الآية تذكيرا بفضلهم.وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معينون من النصارى أسلموا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.ولعل الله أعلم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قلوبهم ولم يتمكنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلا شيء قليل تمسكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمى بالإسلام، وهؤلاء يشبه حالهم حال من لم تبلغه الدعوة، لأن بلوغ الدعوة متفاوت المراتب.ولعل هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن.ولا شك أن النجاشي"أصحمة"منهم.وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.والمقصود أن الأمة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودة المسلمين.
والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن.وما أنزل إليه هو القرآن.والخطاب في قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ} للنبي صلى الله عليه وسلم.إن كان قد رأى منهم من هذه صفته، أو هو خطاب لكل من يصح أن يرى.فهو خطاب لغير معين ليعم كل من يخاطب.
وقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} معناه يفيض منها الدمع لأن حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حاوية فيسيل خارجا عنه.يقال: فاض الماء، إذا تجاوز ظرفه.وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين.وقد يسند الفيض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي، فيقال:فاض الوادي، أي فاض ماؤه، كما يقال:جرى الوادي، أي جرى ماؤه.وفي الحديث : "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسناد المجازي فيقولون:فاضت عينه دمعا، بتحويل الإسناد المسمى تمييز النسبة، أي قرينة النسبة المجازية.فأما ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون"من"الداخلة على الدمع هي البيانية التي يجر بها اسم التمييز، لأن ذلك عندهم
(5/186)

ممتنع في تمييز النسبة، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة، قلب قول الناس المتعارف:فاض الدمع من عين فلان، فقيل: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}، فحرف"من"حرف ابتداء.وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت"من"بيانية جارة لاسم التمييز.وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل:طبت النفس.
و"من"في قوله: {مِمَّا عَرَفُوا} تعليلية، أي سبب فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنه الحق الموعود به.فـ"من"قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله :{تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:92]، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بشر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين.و"من"في قوله: {مِنَ الْحَقِّ} بيانية.أي مما عرفوا، وهو الحق الخاص.أو تبعيضية، أي مما عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحق الذي جاء به عيسى والنبيون من قبله.
وجملة {يقولون} حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا.وهذا القول يجوز أن يكون علنا، ويجوز أن يكون في خويصتهم.
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدقوهم.وهذه فضيلة عظيمة لم تحصل إلا في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرة.وتلك الفضيلة أنها المبادرة بتصديق الرسل عند بعثتهم حين يكذبهم الناس بادئ الأمر، كما قال ورقة: "يا ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك". أي تكذيبا منهم.أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى.ففي إنجيل متى عدد 24 من قول عيسى: "ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادة لجميع الأمم".وفي إنجيل يوحنا عدد 15 من قول عيسى:"ومتى جاء المعزى روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء".وإن لكلمة {الحق} وكلمة {الشاهدين} في هذه الآية موقعا لا تغني فيه غيرهما لأنهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام.
وقوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ}، هو من قولهم، فيحتمل أنهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام.وذلك التردد يعرض للمعتقد عند الهم بالرجوع عن اعتقاده وهو المسمى بالنظر؛
(5/187)

ويحتمل أنهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملتهم أو من إخوانهم ويشككهم فيما عزموا عليه، ويحتمل أنهم يقولونه لمن يعيرهم من اليهود أو غيرهم بأنهم لم يتصلبوا في دينهم.فقد قيل:إن اليهود عيروا النفر الذين أسلموا، إذا صح خبر إسلامهم.وتقدم القول في تركيب"ما لنا لا نفعل"عند قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة النساء[75].
وجملة {ونطمع} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {مَا لَنَا لا نُؤْمِنُ}. ويحتمل أن تكون الواو للحال، أي كيف نترك الإيمان بالحق وقد كنا من قبل طامعين أن يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مثل الحواريين، فكيف نفلت ما عن لنا من وسائل الحصول على هذه المنقبة الجليلة.ولا يصح جعلها معطوفة على جملة {نؤمن} لئلا تكون معمولة للنفي، إذ ليس المعنى على ما لنا لا نطمع، لأن الطمع في الخير لا يتردد فيه ولا يلام عليه حتى يحتاج صاحبه إلى الاحتجاج لنفسه بـ {ما لنا لا نفعل}.
[85] {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.[ 85]}
تفريع على قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا...} [المائدة:83] إلى آخر الآية.ومعنى"أثابهم"أعطاهم الثواب.وقد تقدم القول فيه عند تفسير قوله تعالى :{لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} في سورة البقرة[103].
والباء في قوله: {بِمَا قَالُوا} للسببية.والمراد بالقول القول الصادق وهو المطابق للواقع، فهو القول المطابق لاعتقاد القلب، وما قالوه هو ما حكي بقوله تعالى :{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] الآية.وأثاب يتعدى إلى مفعولين على طريقة باب أعطى،فـ {جنات} مفعوله الثاني، وهو المعطى لهم.والإشارة في قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} إلى الثواب المأخوذ من {أثابهم} ولك أن تجعل الإشارة إلى المذكور وهو الجنات وما بها من الأنهار وخلودهم فيها.وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة[68] {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}.
[86] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
هذا تتميم واحتراس، أي والذين كفروا من النصارى وكذبوا بالقرآن هم بضد الذين أثابهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
(5/188)

وأصحاب الجحيم ملازموه.والجحيم جهنم.وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها.يقال:نار جحمة، أي شديدة اللهب.
قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة:
نحن حبسنا بني جديلة في ... نار من الحرب جحمة الضرم
[87ـ88] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدم من الثناء على القسيسين والرهبان.وإذ قد كان من سنتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيبات كالتدهن وترفيه الحالة وحسن اللباس، نبه الله المؤمنين على أن الثناء على الرهبان والقسيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانية.وصادف أن كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمحت نفوسهم إلى التقلل من التعلق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيد الزاهدين صلى الله عليه وسلم.روى الطبري والواحدي أن نفرا تنافسوا في الزهد.فقال أحدهم: "أما أنا فأقوم الليل لا أنام"، وقال الآخر:"أما أنا فأصوم النهار"، وقال الآخر:"أما أنا فلا آتي النساء"، فبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم، فقال : "ألم أنبأ أنكم قلتم كذا.قالوا:بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير، قال:لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فنزلت هذه الآية.ومعنى هذا في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وليس فيه أن ذلك سبب نزول هذه الآية.
وروي أن ناسا منهم، وهم:أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو ذر، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتفقوا على أن يرفضوا أشغال الدنيا، ويتركوا النساء ويترهبوا.فقام رسول الله فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع". فنزلت فيهم هذه الآية..وهذا الخبر يقتضي أن هذا الاجتماع كان في أول مدة الهجرة لأن عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أم العلاء
(5/189)

الأنصارية التي قيل:إنها زوجة زيد بن ثابت، وتوفي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة.وفي رواية:أن ناسا قالوا إن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم على أنفسنا بعض الطيبات فحرم بعضهم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم النوم، وبعضهم النساء؛ وأنهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه.فنزلت هذه الآية.
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال لي رسول الله: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قلت:"إني أفعل ذلك.قال:"فإنك إذا فعلت هجمت عينك ونفهت نفسك.وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر وقم ونم". وحديث سلمان مع أبي الدرداء أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاما فقال لسلمان: "كل فإني صائم"، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال:"نم"، فنام، ثم ذهب يقوم فقال:نم، فنام.فلما كان آخر الليل قال سلمان:قم الآن، وقال سلمان:"إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه".فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له.فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"صدق سلمان" وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أما أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
والنهي إنما هو تحريم ذلك على النفس.أما ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبر على الحرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس.وكذلك الإعراض عن كثير من الطيبات للتطلع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه، وهي حالة تناسي مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيبات دون تشوف ولا تطلع.وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصة أبي الدحداح حين حل رسول الله وأبو بكر وعمر في حائطه وأطعمهم وسقاهم.وعن الحسن البصري: أنه دعي إلى طعامه ومعه فرقد السبخي1 وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمن
ـــــــ
1 فرقد بن يعقوب الأرميني من أصحاب الحسن توفي سنة131نزيل سبخة.
(5/190)

وفالوذ فاعتزل فرقد ناحية.فسأله الحسن:"أصائم أنت"، قال:"لا ولكني أكره الألوان لأني لا أؤدي شكره"، فقال له:الحسن:"أفتشرب الماء البارد"؟، قال:"نعم"، قال:"إن نعمة الله في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ".
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصة بل أن يتركه تشديدا على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به.
ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغوا في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلا إليها وهي كل حال عدا تحريم الزوجة.ولذلك قال مالك فيمن حرم على نفسه شيئا من الحلال أو عمم فقال:"الحلال علي حرام"، أنه لا شيء في شيء من الحلال إلا الزوجة فإنها تحرم عليه كالبتات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم، على حكم الاستثناء في اليمين.ووجهه أن عقد العصمة يتطرق إليه التحريم شرعا في بعض الأحوال، فكان التزام التحريم لازما فيها خاصة، فإنه لو حرم الزوجة وحدها حرمت، فكذلك إذا شملها لفظ عام.ووافقه الشافعي.وقال أبو حنيفة:"من حرم على نفسه شيئا من الحلال عليه تناوله ما لم يكفر كفارة يمين، فإن كفر حل له إلا الزوجة".وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها.
وفي قوله تعالى:{لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} تنبيه لفقهاء الأمة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه،أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية.
ثم أن أهل الجاهلية كانوا قد حرموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام، وقد أبطلها الله بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [لأعراف:32]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام:140]، وقوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ـإلى قوله ـ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:143ـ144]،وغير ذلك من الآيات.وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:2]وكان قصر الزمان واتساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدة نزول هذه السورة، وهي أيام حجة الوداع وما تقدمها وما
(5/191)

تأخر عنها.
وجملة {وَلا تَعْتَدُوا} معترضة، لمناسبة أن تحريم الطيبات اعتداء على ما شرع الله، فالواو اعتراضية.وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلا.
والاعتداء افتعال العدو، أي الظلم.وذكره في مقابلة تحريم الطيبات يدل على أن المراد النهي عن تجاوز حد الإذن المشروع، كما قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَ} [البقرة:229].فلما نهي عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرمات وذلك بالاعتداء على حقوق الناس، وهو أشد الاعتداء، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حق الناس، كتناول الخنزير أو الميتة.ويعم الاعتداء في سياق النهي جميع جنسه مما كانت عليه الجاهلية من العدوان، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأد، وأكل مال اليتيم، وعضل الأيامى، وغير ذلك.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تذييل للتي قبلها للتحذير من كل اعتداء.
وقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} تأكيد للنهي عن تحريم الطيبات وهو معطوف على قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. أي أن الله وسع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة.
واقتصر على الأكل لأن معظم ما حرمه الناس على أنفسهم هو المآكل.وكأن الله يعرض بهم بأن الاعتناء بالمهمات خير من التهمم بالأكل، كما قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]الآية.وبذلك أبطل ما في الشرائع السابقة من شدة العناية بأحكام المأكولات.وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} جاء بالموصول للإيماء إلى علة الأمر بالتقوى، أي لأن شأن الإيمان أن يقتضي التقوى، فلما آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكملوه بالتقوى.روي أن الحسن البصري لقي الفرزدق في جنازة، وكانا عند القبر، فقال الحسن للفرزدق:"ما أعددت لهذا.يعني القبر."شهادة أن لا إله إلا الله كذا سنة".فقال الحسن: "هذا العمود، فأين الإطناب".
[89] {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
(5/192)

فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87]لأن التحريم يقع في غالب الأحوال بأيمان معزومة، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام، كأن يقول:والله لا آكل كذا، أو تجري بسبب غضب.وقيل:إنها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله.روى الطبري والواحدي عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [ المائدة:87]ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عما عزموا عليه من ذلك، كما تقدم آنفا، قالوا: "يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها" ، فأنزل الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية.فشرع الله الكفارة.وتقدم القول في نظير صدر هذه الآية في سورة البقرة.وتقدم الاختلاف في معنى لغو اليمين.وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87]، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين.فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أن حادثة أولئك الذين حرموا على أنفسهم بعض الطيبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلل من أيمانهم.
وقوله :{بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، أي ما قصدتم به الحلف.وهو يبين مجمل قوله في سورة البقرة[225] {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وقرأ الجمهور {عَقَّدْتُمُ} بتشديد القاف.وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بتخفيف القاف.وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر عاقدتم بألف بعد العين من باب المفاعلة.فأما {عقدتم} بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عقد، وكذلك قراءة {عاقدتم} لأن المفاعلة فيه ليست على بابها، فالمقصود منها المبالغة، مثل عافاه الله.وأما قراءة التخفيف فلأن مادة العقد كافية في إفادة التثبيت.والمقصود أن المؤاخذة تكون على نية التوثق باليمين فالتعبير عن التوثق بثلاثة أفعال في كلام العرب:عقد المخفف، وعقد المشدد، وعاقد.
وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إشارة إلى المذكور، زيادة في الإيضاح.والكفارة مبالغة في كفر بمعنى ستر وأزال.وأصل الكفر بفتح الكاف الستر.وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسابة وعلامة.والعرب يجمعون
(5/193)

بينهما غالبا.
وقوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي إذا حلفتم وأردتم التحلل مما حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأن معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحنث.
وعن الشافعي أنه استدل بقوله: {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} على جواز تقديم الكفارة على وقوع الحنث، فيحتمل أنه أخذ بظاهر إضافة {كفارة} إلى {أيمانكم}، ويحتمل أنه أراد أن الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفر قبل الحنث لأنه من تقديم العوض، ولا بأس به.ولا أحسب أنه يعني غير ذلك.وليس مراده أن مجرد الحلف هو موجب الكفارة.وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحة تقديم الكفارة.وأصل هذا ا لحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث.ولم يستدل بالآية.فاستدل بها الشافعي تأييدا للسنة.والتكفير بعد الحنث أولى.
وعقب الترخيص الذي رخصه الله للناس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال :{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}. فأمر بتوخي البر إذا لم يكن فيه حرج ولا ضر بالغير، لأن في البر تعظيم اسم الله تعالى.فقد ذكرنا في سورة البقرة أنهم جرى معتادهم بأن يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلا يندموا عن عزمهم، فكان في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} زجر لهم عن تلك العادة السخيفة.وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلا يعرض الحالف نفسه للحنث.والكفارة ما هي إلا خروج من الإثم.وقد قال تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ:44].فنزهه عن الحنث بفتوى خصه بها.
وجملة {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}.
تذييل.ومعنى {كذلك} كهذا البيان يبين الله، فتلك عادة شرعه أن يكون بينا.وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة:[143].
وتقدم القول في معنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} في سورة البقرة.[21]
[91,90] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
(5/194)

الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله لينظم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله: {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87] المشير إلى أن الله، كما نهى عن تحريم المباح، نهى عن استحلال الحرام وأن الله لما أحل الطيبات حرم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإن الخمر كان طيبا عند الناس، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل:67].والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه.فكانت هذه الآية كالاحتراس عما قد يساء تأويله من قوله: {ا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87].
وقد تقدم في سورة البقرة أن المعول عليه من أقوال علمائنا أن النهي عن الخمر وقع مدرجا ثلاث مرات: الأولى حين نزلت آية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وذلك يتضمن نهيا غير جازم، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشد تقوى.فقال عمر:"اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا".ثم نزلت آية سورة النساء[43] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، فتجنب المسلمون شربها في الأوقات التي يظن بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة؛ فقال عمر: "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا".ثم نزلت الآية هذه.فقال عمر:"انتهينا".
والمشهور أن الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا.وروي أن هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار.روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "أتيت على نفر من الأنصار، فقالوا:"تعال نطعمك ونسقك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر فأتيتهم في حش، وإذا رأس جزور مشوي وزق من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت:"المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته"، فأنزل الله تعالى فيّ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}. وروى أبو داود عن ابن عباس قال :"{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] و {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
(5/195)

وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]نسختهما في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}.
فلا جرم كان هذا التحريم بمحل العناية من الشارع متقدما للأمة في إيضاح أسبابه رفقا بهم واستئناسا لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله : {ِقُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ثم بآية سورة النساء، ثم كر عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}. ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بين له المتكلم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.
وصيغة:هل أنت فاعل كذا.تستعمل للحث على فعل في مقام الاستبطاء، نبه عليه في الكشاف عند قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} في سورة الشعراء[39]، قال:"ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق
"دينار اسم رجل، وكذا عبد رب.وقوله:أخا عون أو عوف نداء، أي يا أخا عون".فتحريم الخمر متقرر قبل نزول هذه السورة، فإن وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان، فكان مما أوصاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينتبذوا في الحنتم والنقير والمزفت والدباء، لأنها يسرع الاختمار إلى نبيذها.
والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب.والمراد بالأزلام الاستقسام بها، لأن عطفها على الميسر يقتضي أنها أزلام غير الميسر.قال في الكشاف:"ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر".وتقدم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3]، والكلام على الأزلام عند قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} في أول هذه السورة[3].وأكد في هذه الآية تحريم ما ذبح على النصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أول السورة والمقرر في الإسلام من أول البعثة.
والمراد بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها، كل بما يتعاطى به من شرب ولعب وذبح
(5/196)

واستقسام.والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي أن هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره، وهو ادعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة.ألا ترى أن الله قال في سورة البقرة[219] في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، فأثبت لهما الإثم، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة، لأن الإثم يقتضي التباعد عن التلبس بهما مثل الرجس.وأثبت لهما المنفعة، وهي صفة تساوي نقيض الرجس، في نظر الشريعة، لأن المنفعة تستلزم حرص الناس على تعاطيهما، فصح أن للخمر والميسر صفتين.وقد قصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس، فما هو إلا قصر ادعائي يشير إلى ما في سورة البقرة[219] من قوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، فإنه لما نبهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قبالة ما فيهما من الإثم حتى كأنهما تمحضا للاتصاف بـ {فِيهِمَا إِثْمٌ} [البقرة:219]، فصح في سورة المائدة أن يقال في حقهما ما يفيد انحصارهما في أنهما فيهما إثم، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113]، أي حسابهم مقصور على الاتصاف بكونه على ربي، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف.وذلك هو ما عبر عنه بعبارة الرجس.
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة، ويطلق على المذمات الباطنة كما في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]،وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33].والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبار الشريعة.وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر، فأفاد المبالغة في الاتصاف به حتى كأن هذا الموصوف عين الرجس.ولذلك أفرد"رجس"مع كونه خبرا عن متعدد لأنه كالخبر بالمصدر.
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيها بما تتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنه هو الذي عملها وتعاطاها.وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان.وذلك مما تأباه النفوس.
والفاء في {فاجتنبوه} للتفريع وقد ظهر حسن موقع هذا التفريع بعد التقدم بما يوجب النفرة منها.والضمير المنصوب في قوله: {فاجتنبوه} عائد إلى الرجس الجامع للأربعة.و {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم
(5/197)

يكونوا قد استمروا على غيرها من المنهيات.وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] وقد بينت ما اخترته في محمل"لعل"وهو المطرد في جميع مواقعها، وأما المحامل التي تأولوا بها"لعل"في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتى في هذه الآية فتأمله.
واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها.ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لمن عصر العنب لاتخاذه خلا، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه.
فأما اجتناب مماسة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو مما اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملا للفظ الرجس على جميع ما يحتمله.وهو قول مالك.ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر.وليس في الأثر ما يحتج به لنجاسة الخمر.ولعل كون الخمر مائعة هو الذي قرب شبهها بالأعيان النجسة، فلما وصفت بأنها رجس حمل في خصوصها على معنييه.وأما ما ورد في حديث أنس أن كثيرا من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها فذلك من المبالغة في التبرؤ منها وإزالة أثرها قبل التمكن من النظر فيما سوى ذلك، ألا ترى أن يعضهم كسر جرارها، ولم يقل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس.على أنهم فعلوا ذلك ولم يؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم.وذهب بعض أهل العلم إلى عدم نجاسة عين الخمر.وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمان، والليث بن سعد، والمزني من أصحاب الشافعي، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحداد القيرواني.وقد استدل سعيد بن الحداد1 على طهارتها بأنها سفكت في طرق المدينة، ولو كانت نجسا لنهوا عنه، إذ قد ورد النهي
ـــــــ
1 أخذ عن سحنون ولد سنة319 وتوفي سنة330.
(5/198)

عن إراقة النجاسة في الطرق.وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنه أقام قولا بطهارة عين الخمر من المذهب.وأقول:الذي يقتضيه النظر أن الخمر ليست نجس العين، وأن مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنما القصد أنها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنه من عمل الشيطان، وبينه بعد بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة}، ولأن النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنما تنزه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس.
وجملة {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} بيان لكونها من عمل الشيطان.ومعنى يريد يحب وقد تقدم بيان كون الإرادة بمعنى المحبة عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل} في سورة النساء[44].
وتقدم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} في هذه السورة[64].
وقوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي في تعاطيهما، على متعارف إضافة الاحكام إلى الذوات، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر، والغيظ والحسرة للخاسر، وما ينشأ عن ذلك من التشائم والسباب والضرب.على أن مجرد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة، لأن الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمر أمة بين أفرادها البغضاء.وفي الحديث لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا.
و"في"من قوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر} للسببية أو الظرفية المجازية، أي في مجالس تعاطيهما.
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فلما في الخمر من غيبوبة العقل، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلب الربح.
وهذه أربع علل كل واحدة منها تقتضي التحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مقتضيا تغليظ التحريم.ويلحق بالخمر كل ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.ويلحق بالميسر كل ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك أنواع القمار كلها أما ما كان من اللهو بدون قمار كالشطرنج دون قمار، فذلك دون الميسر، لأنه يندر أن يصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
(5/199)

ولأنه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالبا، فتدخل أحكامه تحت أدلة أخرى.
والذكر المقصود في قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يحتمل أنه من الذكر اللساني فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم، لأنه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماع خطبه، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئا كثيرا فيه ما يجب على المكلف معرفته.فالسيء الذي يصد عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحق أن يحرم تعاطيه، ويحتمل أن المراد به الذكر القلبي وهو تذكر ما أمر الله به ونهى عنه فإن ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب:أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.فالشيء الذي يصد عن تذكر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي.وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله: {وَعَنِ الصَّلاةِ}.
وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الفاء تفريع عن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية، فإن ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعا بهم إلى مقام الفطن الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كله نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز.
ولذلك اختير الاستفهام بـ"هل"التي أصل معناها"قد".وكثر وقوعها في حيز همزة الاستفهام، فاستغنوا بـ"هل"عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهام مضمن تحقيق الإسناد المستفهم عنه وهو {أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، دون الهمزة إذ لم يقل:أتنتهون، بخلاف مقام قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].وجعلت الجملة بعد"هل"اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأريد معها معناه الكنائي، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه.ولذلك روي أن عمر لما سمع الآية قال:"انتهينا انتهينا".ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أن الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجردا عن الكناية.فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله:"إلا أن الله تعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقلنا:"لا"إن صح عنه ذلك.ولي في صحته شك، فهو خطأ في الفهم أو التأويل.وقد شذ نفر من السلف نقلت
(5/200)

عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يدرى مبلغها من الصحة.ومحملها، إن صحت، على أنهم كانوا يتأولون قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} على أنه نهي غير جازم.ولم يطل ذلك بينهم.
قيل:إن قدامة بن مظعون، ممن شهد بدرا، ولاه عمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمت الشهادة عليه برجل وامرأة.فلما أراد عمر إقامة الحد عليه قال قدامة: "لو شربتها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني".قال عمر:"لم"؟، قال:"لأن الله يقول : {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93]، فقال له عمر: "أخطأت التأويل إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك". ويروى أن وحشيا كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأن جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأولوا التحريم فتلوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، وأن عمر استشار عليا في شأنهم، فاتفقا على أن يستتابوا وإلا قتلوا.وفي صحة هذا نظر أيضا.وفي كتب الأخبار أن عيينة بن حصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلة بني زبيد بالكوفة فقدم له عمرو خمرا، فقال عيينة:"أو ليس قد حرمها الله".قال عمرو:"أنت أكبر سنا أم أنا؟"، قال عيينة:"أنت".قال:"أنت أقدم إسلاما أم أنا؟"، قال:"أنت".قال:"فإني قد قرأت ما بين الدفتين، فوالله ما وجدت لها تحريما إلا أن الله قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ، فقلنا:"لا".فبات عنده وشربا وتنادما، فلما أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن:
جزيت أبا ثور جزاء كرامة ... فنعم الفتى المزدار والمتضيف
قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ... تحية علم1 لم تكن قبل تعرف
وقلت:حلال أن ندير مدامة ... كلون انعقاق البرق والليل مسدف
وقدمت فيها حجة عربية ... ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف
وأنت لنا والله ذي العرش قدوة ... إذا صدنا عن شربها المتكلف
نقول:أبو ثور أحل شرابها ... وقول أبي ثور أسد وأعرف
وحذف متعلق {منتهون} لظهوره، إذ التقدير:فهل أنتم منتهون عنهما، أي عن
ـــــــ
1 كلمة "تحية"ثبتت في طبعة بولاق من الأغاني وفي نسخة مخطوطة منه ولعلها تحريف.
(5/201)

الخمر والميسر، لأن تفريع هذا الاستفهام عن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} يعين أنهما المقصود من الانتهاء.
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد، لأن إقلاع المسلمين عنهما قد تقرر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنهما من مآثر عقائد الشرك، ولأنه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإن ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوازع الشرعي، فلذلك أكد النهي عنهما أشد مما أكد النهي عن الأنصاب والأزلام.
[92] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[92]}
عطفت جملة {وأطيعوا} على جملة {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، وهي كالتذييل، لأن طاعة الله ورسوله تعم ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعم غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب.وكرر {وأطيعوا} اهتماما بالأمر بالطاعة.وعطف {واحذروا} على {أطيعوا} أي وكونوا على حذر.وحذف مفعول{احذروا} لينزل الفعل منزلة اللازم لأن القصد التلبس بالحذر في أمور الدين، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما، لأن الفعل اللازم يقرب معناه من معنى أفعال السجايا، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زنة فعل كفرح ونهم.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} تفريع عن{أطيعوا ـ واحذروا}.والتولي هنا استعارة للعصيان، شبه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصي، بجامع المقاطعة والمفارقة، وكذلك يطلق عليه الإدبار.ففي حديث ابن صياد ولئن أدبرت ليعقرنك الله أي أعترضت عن الإسلام.
وقوله: {فاعلموا} هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأن المعنى:فإن توليتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضر توليكم الرسول لأن عليه البلاغ فحسب، أي وإنما يضركم توليكم، ولولا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولي وبين علمهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلا بالتبليغ.وذكر فعل {فاعلموا} للتنبيه على أهمية
(5/202)

الخبر كما بيناه عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223].
وكلمة {أنما} بفتح الهمزة تقيد الحصر، مثل"إنما"المكسورة الهمزة، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنها فرع عن المكسورة إذ هي أختها.ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر، والمعنى أن أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلغ إليهم.
وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنه رسول من القادر على كل شيء، فلو شاء مرسله لهدى المرسل إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول.
ووصف البلاغ بـ {المبين} استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مؤيدا بالحجة الساطعة.
[93] {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[93]}
هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظن بعض المسلمين أن شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبس بإثم لأن الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنها رجس من عمل الشيطان.فقد كان سبب نزول هذه الآية ما في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء ابن عازب، وابن عبس، أنه لما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر أو قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر.فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها". فأنزل الله هذه الآيات.
وقد يلوح ببادئ الرأي أن حال الذين توفوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقيا بأن يسأل عنه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأن الله لا يؤاخذ أحدا بعمل لم يكن محرما من قبل فعله، وأنه لا يؤاخذ أحدا على ارتكابه إلا بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أن أصحاب
(5/203)

النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر مما ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلما نزل في الخمر والميسر أنهما رجس من عمل الشيطان خشوا أن يكون للشيطان حظ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتوفوا قبل الإقلاع عن ذلك أو ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدة إشفاقهم على إخوانهم.كما سأل عبد الله بن أم مكتوم لما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95]فقال: "يا رسول الله، فكيف وأنا أعمى لا أبصر"فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وكذلك ما وقع لما غيرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس:"فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس"، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي صلاتكم فكان القصد من السؤال التثبت في التفقه وأن لا يتجاوزوا التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.
ونفي الجناح نفي الإثم والعصيان.و"ما"موصولة.و {طعموا} صلة.وعائد الصلة محذوف.وليست"ما"مصدرية لأن المقصود العفو عن شيء طعموه معلوم من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجناح هو على تقدير:في طعم ما طعموه.
وأصل معنى {طعموا} أنه بمعنى أكلوا، قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53].وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طعام.وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عطف في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:من الآية259].ويدل لذلك استثناء المأكولات في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145].ويقال:طعم بمعنى أذاق ومصدره الطعم بضم الطاء اعتبروه مشتقا من الطعم الذي هو حاسة الذوق.وتقدم قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} [البقرة:249].ويقال:وجدت في الماء طعم التراب.ويقال تغير طعم الماء، أي أسن.فمن فصاحة القرآن إيراد فعل {طعموا} هنا لأن المراد نفي التبعة عمن شربوا الخمر وأكلوا لحم الميسر قبل نزول آية تحريمهما.واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب.
وإذ قد عبر بصيغة المضي في قوله {طعموا} تعين أن يكون {إذا} ظرفا للماضي،
(5/204)

وذلك على أصح القولين للنحاة، وإن كان المشهور أن"إذا"ظرف للمستقبل، والحق أن"إذا"تقع ظرفا للماضي.وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في مغني اللبيب.وشاهده قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92]، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11]، وآيات كثيرة.فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتقوا، ويؤول معنى الكلام:ليس عليهم جناح لأنهم آمنوا واتقوا فيما كان محرما يومئذ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلا قبل تحريمهما.
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسرين جاريا على ما ورد في من سبب نزولها في الأحاديث الصحيحة.
ومن المفسرين من جعل معنى الآية غير متصل بآية تحريم الخمر والميسر.وأحسب أنهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنهم رأوا أن سبب نزولها لا يقصرها على قضية السبب بل يعمل بعموم لفظها على ما هو الحق في أن عموم اللفظ لا يخصص بخصوص السبب، فقالوا:رفع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم وحلالها إذا ما اتقوا ما حرم الله عليهم، أي ليس من البر حرمان النفس بتحريم الطيبات بل البر هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189].وفسر به في الكشاف مبتدئا به.وعلى هذا ا لوجه يكون معنى الآية متصلا بآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، فتكون استئنافا ابتدائيا لمناسبة ما تقدم من النهي عن أن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم بنذر أو يمين على الامتناع.
وادعى بعضهم أن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب؛ ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصح أن هذا سبب نزولها.وعلى هذا التفسير يكون {طعموا} مستعملا في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة"إذا"مستعملة في المستقبل، وفعل{طعموا} من التعبير عن ا لمستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة"إذا"، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
ويعكر على هذا التفسير أن الذين حرموا الطيبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهم إلا أن يقال:إن الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم.
(5/205)

وقال الفخر: زعم بعض الجهال أن الله تعالى لما جعل الخمر محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ولا شك أن"إذا"للمستقبل لا للماضي.قال الفخر:وهذا القول مردود بإجماع كل الأمة.وأما قولهم"إذا"للمستقبل، فجوابه أن الحل للمستقبل عن وقت نزول الآية في حق الغائبين.
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على {اتقوا} من عطف الخاص على العام، للاهتمام به، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ، ولأن اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنها مشتقة من التوقي والكف.
وأما عطف"وآمنوا"على"اتقوا"فهو اعتراض للإشارة إلى أن الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله ـ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، وليس المقصود أن نفي الجناح عنهم مقيد بأن يتقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأن لكل عمل أثرا على فعله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدد تعين أن المراد بقوله :{وآمنوا} معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.
وجملة {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} تأكيد لفظي لجملة {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقرن بحرف"ثم"الدال على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5,4]ولذلك لم يكرر قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لأن عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأما جملة {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة {ثُمَّ اتَّقَوْا} وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف"ثم"على التراخي الرتبي.مع زيادة صفة الإحسان.وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهذا يتضمن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة {وآمنوا} هنا.ويشمل فعل
(5/206)

{وأحسنوا} الإحسان إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأن منه إحسانا غير واجب وهو مما يجلب مرضاة الله، ولذلك ذيله بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وقد ذهب المفسرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا} على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال.وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط.وفي جلبها طول.
وقد تقدم أن بعضا من السلف تأول هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتقى الله فيما عد، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرمات، ولا إلى إضرار الناس.وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون، كما تقدم في تفسير آية تحريم الخمر:وأن عمر بن ا لخطاب وعلي بن أبي طالب لم يقبلاه منه.
[94] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
لا أحسب هذه الآية إلا تبيينا لقوله في صدر السورة {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} المائدة:1]، وتخلصا لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيدا لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]جرت إلى هذا التخلص مناسبة ذكر المحرمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصهم، حذرهم وشهوتهم تقواهم.وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يظهر بها في الوجود اختلاف تمسكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأن قوله: {ليبلونكم} ظاهر في الاستقبال، لأن نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلا وهو بمعنى المستقبل.والظاهر أن حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقررا بمثل هذا.وقد روي عن مقاتل:"أن المسلمين في عمرة الحديبية غشيهم صيد كثير في طريقهم، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم، فمنهم المحل ومنهم المحرم، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي، وصيد بعضه بالرماح.ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط، فاختلفت أحوالهم في الإقدام على إمساكه، فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه.فنزلت هذه الآية"اهـ.فلعل هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقا، لتكون
(5/207)

تذكرة لهم في عام حجة الوداع ليحذروا مثل ما حل بهم يوم الحديبية.وكانوا في حجة الوداع أحوج إلى التحذير والبيان، لكثرة عدد المسلمين عام حجة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب، فذلك يبين معنى قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لإشعار قوله :{تناله} بأن ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ.
والخطاب للمؤمنين، وهو مجمل بينه قوله عقبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. قال أبو بكر بن العربي: "اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما أنهم المحلون، قاله مالك؛ الثاني أنهم المحرمون، قاله ابن عباس وغيره"اهـ.وقال في القبس:"توهم بعض الناس أن المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام، وهذه عضلة، إنما المراد به الابتلاء في حالتي الحل والحرمة"اهـ.
ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج.قال ابن العربي في الأحكام:"إن قوله {ليبلونكم} الذي يقتضي أن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد.والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في القلة والكثرة وتباين في الضعف والشدة".يريد أن قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} لا يراد به الإصابة ببلوى، أي مصيبة قتل الصيد المحرم بل يراد ليكلفنكم الله ببعض أحوال الصيد.وهذا ينظر إلى أن قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} شامل لحالة الإحرام والحلول في الحرم.
وقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} هو ابتلاء تكليف ونهي، كما دل عليه تعلقه بأمر مما يفعل، فهو ليس كالابتلاء في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155] وإنما أخبرهم بهذا على وجه التحذير.فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه، وهو التحذير.ويتعين أن يكون هذا الخطاب وجه إليهم في حين ترددهم بين إمساك الصيد وأكله، وبين مراعاة حرمة الإحرام، إذ كانوا محرمين بعمرة في الحديبية وقد ترددوا فيما يفعلون، أي أن ما كان عليه الناس من حرمة إصابة الصيد للمحرم معتد به في الإسلام أو غير معتد به.فالابتلاء مستقبل لأنه لا يتحقق معنى الابتلاء إلا من بعد النهي والتحذير.ووجود نون التوكيد يعين المضارع للاستقبال، فالمستقبل هو الابتلاء.وأما الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حاضر.
والصيد:المصيد، لأن قوله من الصيد وقع بيانا لقوله: {بشي}. ويغني عن الكلام
(5/208)

فيه وفي لفظ"بشيء"ما تقدم من الكلام على نظيره في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].وتنكير {شيء} هنا للتنويع لا للتحقير، خلافا للزمخشري ومن تابعه.
وأشار بقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره.فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحبالات وجوارح، لأن جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد.وكانوا يعدون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحمر الوحشية وبقر الوحش، كما في حديث أبي قتادة أنه:"رأى عام الحديبية حمارا وحشيا، وهو غير محرم، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشد وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به"..إلخ.وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيهم، كما في حديث الموطأ:"عن زيد البهزي أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة فإذا ظبي حاقف فيه سهم الحديث.فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قترة ويمسك قوسه فإذا مر به الصيد رماه بسهم".قال ابن عطية:"وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد".
وقد يقال:حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط.
وجملة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} صفة للصيد أو حال منه.والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلا يتوهم أن التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه.
وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} علة لقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} [المائدة:94] لأن الابتلاء اختبار، فعلته أن يعلم الله منه من يخافه.وجعل علم الله علة للابتلاء إنما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كل من علم الله أنه يخافه، فأطلق علم الله على لازمه، وهو ظهور ذلك وتميزه، لأن علم الله يلازمه التحقق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلا موافقا لما في نفس الأمر، كما بيناه غير مرة؛ أو أريد بقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} التعلق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلفين، بناء على إثبات تعلق تنجيزي لصفة العلم، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في الرسالة الخاقانية.
وقيل: أطلق العلم على تعلقه بالمعلوم في الخارج.ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أن هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين.وقال ابن العربي في القبس:"ليعلم الله مشاهدة ما علمه غيبا من امتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنه، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيب أولا، ثم يخلق المعدوم فيعلمه مشاهدة، يتغير المعلوم ولا يتغير العلم".والباء إما للملابسة أو
(5/209)

للظرفية، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في {يخافه}.
والغيب ضد الحضور وضد المشاهدة، وقد تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] على أحد وجهين هنالك، فتعلق المجرور هنا بقوله:{يخافه} الأظهر أنه تعلق لمجرد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز، كقوله تعالى :{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّئينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [البقرة:61].أي من يخاف الله وهو غائب عن الله، أي غير مشاهد له.وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]
وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنور البصيرة، فإنهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال.وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي: "إنهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني". ومن المفسرين من فسر الغيب بالدنيا.وقال ابن عطية:"الظاهر أن المعنى بالغيب عن الناس، أي في الخلوة.فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، يعني أن المجرور للتقييد، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتقى إنكارهم عليه أو صدهم إياه وأخذهم على يده أو التسميع به، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أن الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم، أي كانوا متمكنين من أخذه بدون رقيب، أو يكون الصيد المحذر من صيده مماثلا لذلك الصيد.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريح بالتحذير الذي أومأ اليه بقوله :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، إذ قد أشعر قوله :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، أن في هذا الخبر تحذيرا من عمل قد تسبق النفس إليه.والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، أي بعد ما قدمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع.والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسماه اعتداء لأنه إقدام على محرم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم.
وقوله: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما، وبما خالف إنذار الله تعالى، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة، فالتوبة معلومة من أصول الاسلام، والكفارة هي جزاء الصيد، لأن الظاهر أن الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي.روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "العذاب الأليم أنه يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية".فالعذاب هو الأذى الدنيوي، وهو يقتضي أن هذه الآية قررت ما كان يفعله
(5/210)

أهل الجاهلية، فتكون الآية الموالية لها نسخا لها.ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدل ذلك على أنه أبطل بما في الآية الموالية، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها.ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم.فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلا التوبة، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديبا، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام، والظاهر أن سلبه كان يأخذه فقراء مكة مثل جلال البدن ونعالها.
[95] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[95]}
استئناف لبيان آية {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة:94] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمنت حكما لم يبق به عمل.وتقدم القول في معنى {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في طالع هذه السورة[المائدة:1].
واعلم أن الله حرم الصيد في حالين:حال كون الصائد محرما، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالا؛ والحكمة في ذلك أن الله تعالى عظم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتخذ لها حرما كما كان الملوك يتخذون الحمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترما بأقصى ما يعد حرمة وتعظيما فلذلك شرع الله حرما للبيت واسعا وجعل الله البيت أمنا للناس ووسع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلا أمنا للعائذ به وبحرمه.قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل فالسند
فالتحريم لصيد حيوان البر، ولم يحرم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر.ثم حرم الصيد على المحرم بحج أو عمرة، لأن الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة.وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأن الغالب أن المحرم لا ينوي الإحرام إلا عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنه لا يصيد إلا
(5/211)

حيوان الحرم.
والصيد عام في كل ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدواب والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه.ويلحق بالصيد الوحوش كلها.قال ابن الفرس:"والوحوش تسمى صيدا وإن لم تصد بعد، كما يقال:بئس الرمية الأرنب، وإن لم ترم بعد".وخص من عمومه ما هو مضر، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير.ودليل التخصيص السنة.وقصد القتل تبع لتذكر الصائد أن في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسى أنه محرم فهو غير متعمد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمد.ولا وجه ولا دليل لمن تأول التعمد في الآية بأنه تعمد القتل مع نسيان أنه محرم.
وقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، حرم جمع حرام، بمعنى محرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبس بالإجرام بحج أو عمرة.ويطلق المحرم على الكائن في الحرم.قال الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما.
أي كائنا في حرم المدينة.فأما الإحرام بالحج والعمرة فهو معلوم، وأما الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة.وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده.فأما حرم مكة فيحرم صيده بالاتفاق.وفي صيده الجزاء.وأما حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي.
وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب.وأما حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرم من ما بين عير أو عائر"جبل"إلى ثور".قيل هو جبل ولا يعرف ثور إلا في مكة.قال النووي:"أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه فقال:من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ".وقيل:"إن الصواب إلى أحد كما عند أحمد والطبراني".وقيل:"ثور جبل صغير وراء جبل أحد".
وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} الخ،"من"اسم شرط مبتدأ، و {قتل} فعل الشرط، و {منكم} صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا.وفائدة إيراد قوله :{منكم} أعرض عن بيانها المفسرون.والظاهر أن وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل
(5/212)

الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدم آنفا.
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدل على أن الجزاء لا يجب إلا إذا قتل الصيد، فأما لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدل على أن الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأن مناط الحكم هو القتل.
وقوله {متعمدا} قيد أخرج المخطئ، أي في صيده.ولم تبين له الآية حكما لكنها تدل على أن حكمه لا يكون أشد من المتعمد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخف ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بينته السنة.قال الزهري: "نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الناسي والمخطئ أنهما يكفران".ولعله أراد بالسنة العمل من عهد النبوة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة.وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار: "إن العمد والخطأ في ذلك سواء،"وقد غلب مالك فيه معنى الغرم، أي قاسه على الغرمز والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوى بينهما.ومضى بذلك عمل الصحابة.
وقال أحمد بن حنبل، وابن عبد الحكم من المالكية، وداود الظاهري، وابن جبير وطاووس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد:"لا شيء على الناسي".وروي مثله عن ابن عباس.
وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وابن جريج: "إن كان متعمدا للقتل ناسيا إحرامه فهو مورد الآية، فعليه الجزاء.وأما المتعمد للقتل وهو ذاكر إحرامه فهذا أعظم من أن يكفر وقد بطل حجه، وصيده جيفة لا يؤكل".
والجزاء العوض عن عمل، فسمى الله ذلك جزاء، لأنه تأديب وعقوبة إلا أنه شرع على صفة الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار.وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرم قاتله ليجبر ما أفاته عليه.وإنما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحل ولم يبحه للناس في حال الإجرام، فمن تعدى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدي جزاء.وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.
وقد دلنا على أن مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قوله عقبه: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}. وإنما سمي جزاء ولم يسم بكفارة لأنه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدر بمثل العمل فسمي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى :{جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26]
(5/213)

وقد أخبر أن الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أن الصيد إما من الدواب وإما من الطير، وأكثر صيد العرب من الدواب، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأما الطير الذي يطير في الجو فنادر صيده، لأنه لا يصاد إلا بالمعراض، وقلما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدواب للأنعام هينة.وأما مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا.وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة.وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن.وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد.والقيمة عند مالك طعام.وقال أبو حنيفة:دارهم.فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدق به، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوما، ولكسر المد يوما كاملا.وقال أبو حنيفة:يشتري بالقيمة هديا إن شاء، وإن شاء اشترى طعاما، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما.
وقد اختلف العلماء في أن الجزاء هل يكون أقل مما يجزئ في الضحايا والهدايا.فقال مالك:لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأن الله تعالى قال:{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.فما لا يجزئ أن يكون هديا من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيرا بين أن يعطي أقل ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاما ولا يعطي من صغار الأنعام.
وقال مالك في الموطأ: "وكل شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره.وإنما مثل ذلك مثل دية الحر الصغير والكبير بمنزلة واحدة".وقال الشافعي وبعض علماء المدينة: "إذا كان الصيد صغيرا كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام"لما رواه مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة.قال الحفيد ابن رشد في كتاب بداية المجتهد:وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود"اهـ.
وأقول:لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأما ما حكم به عمر فلعل مالكا رآه اجتهادا من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. فإن ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر مما يماثله مما يجزئ في الهدايا.فمن العجب قول ابن العربي:
(5/214)

"إن قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا".ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإني لا أعرف للمالكية مخالفا لمالك في هذا.والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدواب، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام.
ولما سمى الله هذا جزاء وجعله مماثلا للمصيد دلنا على ان من تكر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكل دابة قتلها، خلافا لداود الظاهري، فإن الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلا لجميع ما قتله.
وقرأ جمهور القراء: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} بإضافة {جزاء} إلى {مثل}؛ فيكون {جزاء} مصدرا بدلا عن الفعل، ويكون {مِثْلُ مَا قَتَلَ} فاعل المصدر أضيف إليه مصدره.و {مِنَ النَّعَمِ} بيان المثل لا لـ{مَا قَتَلَ}.والتقدير:فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله، أي يكافئ ويعوض ما قتله.وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي.ولك أن تجعل الإضافة بيانية، أي فجزاء هو مثل ما قتل، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.ونظيره قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ:37].وهذا نظم بديع على حد قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، أي فليحرر رقبة.وجعله صاحب الكشاف من إضافة المصدر إلى المفعول أي فليجز مثل ما قتل.وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوض لا العوض لأن العوض يتعدى إليه فعل"جزى"بالباء ويتعدى إلى المعوض بنفسه.تقول:جزيت ما أتلفته بكذا درهما، ولا تقول:جزيت كذا درهما بما أتلفته، فلذلك اضطر الذين قدروا هذا القول إلى جعل لفظ"مثل"مقحما.ونظروه بقولهم:"مثلك لا يبخل"، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري.وسكت صاحب الكشاف عن الخوض في ذلك وقرر القطب كلام الكشاف على لزوم جعل لفظ"مثل"مقحما وأن الكلام على وجه الكناية، يعني نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]وكذلك ألزمه إياه التفتزاني، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأن الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أن عليه جزاء ما قتل.وهو اعتذار ضعيف.فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله.وقد اجترأ الطبري فقال:"أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة عن وجوه تصاريف الكلام العربي".
وقرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، والكسائي، وخلف {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} بتنوين جزاء.ورفع"مثل"على تقدير:فالجزاء هو مثل، على أن الجزاء مصدر أطلق على اسم
(5/215)

المفعول، أي فالمجزي به المقتول مثل ما قتله الصائد.
وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} جملة في موضع الصفة لـ{جزاء} أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه.والمقصد من ذلك أنه لا يبلغ كل أحد معرفة صفة المماثلة بين ا لصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين.وعلى الصائد أن يبحث عمن تحققت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما.ويتعين عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يعينان المثل ويخيرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدران له ما هو قدر الطعام إن اختاره.
وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان.
ووصف {ذَوَا عَدْل} بقوله: {مِنْكُمْ} أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلهم يدعون معرفة خاصة بالجزاء.
وقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} حال من {مِثْلُ مَا قَتَلَ} ، أو من الضمير في"به".والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة.والمنحر:منى والمروة.ولما سماه الله تعالى: {هَدْياً} فله سائر أحكام الهدي المعروفة.ومعني {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنه ينحر أو يذبح حول الكعبة.
وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} عطف على {فَجَزَاءٌ} وسمى الإطعام كفارة لأنه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة.وأما الإطعام فلا يماثل الصيد وإنما هو كفارة تكفر به الجريمة.وقد أجمل الكفارة فلم يبين مقدار الطعام ولا عدد المساكين.فأما مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أن المد من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدره مالك بمد لكل مسكين.وهو قول الأكثر من العلماء.وعن ابن عباس:"تقدير الإطعام أن يقوم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوم الدراهم طعاما".وأما عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد.قال مالك: "أحسن ما سمحت إلي فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدا لكل مسكين".ومن العلماء من قدر لكل حيوان معادلا من الطعام.فعن ابن عباس: "تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكينا، وحمار الوحش بثلاثين"، والأحسن أن ذلك موكول إلى الحكمين.
(5/216)

و{أو} في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة.وكذلك كل أمر وقع بـ"أو"في القرآن فهو من الواجب المخير.والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل:"الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين".وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل:الخيار للحكمين.وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن.ومن العلماء من قال:"إنه لا ينتقل من ا لجزاء إلى كفارة الطعام إلا عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن ا لكفارة إلى الصوم إلا عند العجز عن الإطعام"، فهي عندهم على الترتيب.ونسب لابن عباس. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {كفارة} بالرفع بدون تنوين مضافا إلى طعام كما قرأ {جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. والوجه فيه إما أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل} فنجعل {كفارة} اسم مصدر عوضا عن الفعل وأضيف إلى فاعله، أي يكفره طعام مساكين؛ وإما أن نجعله من الإضافة البيانية، أي كفارة من طعام، كما يقال:ثوب خز، فتكون الكفارة بمعنى المكفر به لتصح إضافة البيان، فالكفارة بينها الطعام، أي لا كفارة غيره فإن الكفارة تقع بأنواع.وجزم بهذا الوجه في الكشاف، وفيه تكلف.وقرأه الباقون بتنوين {كَفَّارَةٌ} ورفع {طَعَامُ} على أنه بدل من {كَفَّارَةٌ}.
وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} عطف على {كَفَّارَة} والإشارة إلى الطعام.والعدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه.وأصل معنى العدل المساواة.وقال الراغب:إنما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا.وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل:هما مترادفان.والإشارة بقوله {ذلك} إلى {طَعَامُ مَسَاكِينَ}. وانتصب {صِيَاماً} على التمييز لأن في لفظ العدل معنى التقدير.
وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين.وقال مالك والشافعي:"يصوم عن كل مد من الطعام يوما".وقال أبو حنيفة:"عن كل مدين يوما"، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور:"لا ينقص عن أعداد الأمداد أياما ولو تجاوز شهرين"، وقال بعض أهل العلم:"لا يزيد على شهرين لأن ذلك أعلى الكفارات".وعن ابن عباس:"يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله: {ليذوق} متعلق بقوله: {فجزاء}، واللام للتعليل، أي جعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره.
والذوق مستعار للإحساس بالكدر.شبه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم
(5/217)

راعوا فيه سرعة اتصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإن الكدر أظهر من مطلق الإدراك.وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذات.ففي القرآن: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان:56].وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطبا جثة حمزة:"ذق عقق".وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112].
والوبال السوء وما يكره إذا اشتد، والوبيل القوي في السوء {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:16].وطعام وبيل:سيء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستوبله الإبل، أي تستوخمه.قال زهير:
إلى كلأ مستوبل متوخم
والأمر: الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمدا.والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلفه من خسارة أو من تعب.
وأعقب الله التهديد بما عود به المسلمين من الرأفة فقال: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} ، أي عفا عما قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.
والانتقام هو الذي عبر عنه بالوبال من قبل، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلما عاد وجب عليه ا لجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور.وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد وجابر بن زيد:"أن المتعمد لا يجب عليه الجزاء إلا مرة واحدة فإن عاد حق عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء".وهذا شذوذ.
ودخلت الفاء في قوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} مع أن شأن جواب الشرط إذا كان فعلا أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرد الاتصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديرا فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جعل الفعل خبرا عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوي، فالتقدير:فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدة ما يناله حتى كأنه لا ينال غيره، أو لقصد التقوي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام.ونظيره:
(5/218)

{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن:13]فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوي مع إيجاز.هذا قول المحققين مع توجيهه، ومن النحاة من قال:إن دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنه جاء على خلاف الغالب.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} تذييل.والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وصف بأنه ذو انتقام، أي لأن من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها.
[96] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[96]}
استئناف بياني نشأ عن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] فإنه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدى مثل ما قتل من النعم، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأن أخذه لا يسمى في العرف قتلا، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنه قد يشك لعل الله أراد القتل بمعنى التسبب في الموت، وأراد بالمثل من النعم المقارب في الحجم والمقدار، فبين الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة، لأن صيد البحر ليس من حيوان الحرم، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر.وقد بينا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]أن أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها.
ومعنى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إبقاء حليته لأنه حلال من قبل الإحرام.والخطاب في {لَكُمْ} للذين آمنوا.والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات، أي أحل لكم قتله، أي إمساكه من البحر.
والبحر يشمل الأنهار والأودية لأن جميعها يسمى بحرا في لسان العرب.وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} الآية.وليس العذب إلا الأنهار كدجلة والفرات.وصيد البحر:كل دواب الماء التي تصاد فيهن فيكون إخراجها منه سبب موتها قريبا أو بعيدا.فأما ما يعيش في البر وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة، ولا خلاف في هذا.أما الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه، عند من يرى أن منه ما لا يؤكل، فليس هذا موضع ذكره، لأن الآتية ليست بمثبتة لتحليل
(5/219)

أكل صيد البحر ولكنها منبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام.
وقوله: {وَطَعَامُهُ} عطف على {صَيْدُ الْبَحْرِ} والضمير عائد إلى {الْبَحْرِ} ، أي وطعام البحر، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد.والمعنى:والتقاط طعامه أو وإمساك طعامه.وقد اختلف في المراد من"طعامه".والذي روي عن جلة الصحابة رضي الله عنهم:"أن طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له".ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا مما لا يلائم سياق الآية.وهؤلاء هم الذين حرموا أكل ما يخرجه البحر ميتا، ويرد قولهم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وحديث جابر في الحوت المسمى العنبر،"حين وجدوه ميتا، وهم في غزوة، وأكلوا منه، وأخبروا رسول الله، وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وانتصب {متاعا} على الحال.والمتاع:ما يتمتع بهز والتمتع: انتفاع بما يلذ ويسر.والخطاب في قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ} للمخاطبين بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} باعتبار كونهم متناولين الصيد، أي متاعا للصائدين وللسيارة.
والسيارة:الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة، مؤنث سيار، والتأنيث باعتبار الجماعة.قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف:19].والمعنى أحل لكم صيد البحر تتمتعون بأكله ويتمتع به المسافرون، أي تبيعونه لمن يتجرون ويجلبونه إلى الأمصار.
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} زيادة تأكيد لتحريم الصيد، تصريحا بمفهوم قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، ولبيان أن مدة التحريم مدة كونهم حرما، أي محرمين أو مارين بحرم مكة.وهذا إيماء لتقليل مدة التحريم استئناسا للمكلفين بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدة، ولو شاء الله لحرمه أبدا.وفي الموطأ:أن عائشة قالت لعروة بن الزبير: "يا بن أختي إنما هي عشر ليال"أي مدة الإحرام"فإن تخلج في نفسك شيء فدعه".تعني أكل لحم الصيد.
وذيل ذلك بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأن المرجع إلى الله ليعد الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء.
والحشر: جمع الناس في مكان.والصيد مراد به المصيد، كما تقدم.
والتحريم متعلق بقتله لقوله قبله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]فلا يقتضي قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} تحريم أكل صيد البر على المحرم إذا
(5/220)

اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إياه، لأنه قد علم أن التحريم متعلق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة.وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمار الذي صاده أبو قتادة، كما في حديث الموطأ عن زيد بن أسلم.وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون.وعلى ذلك مضى عمل الصحابة، وهو قول.
وأما ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على الصعب بن جثامة حمارا وحشيا أهداه إليه وقال له: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". وقد اختلف الفقهاء في محمل هذا الامتناع.فقيل:"يحرم أن يأكله من صيد لأجله لا غير".وهذا قول عثمان بن عفان، وجماعة من فقهاء المدينة، ورواية عن مالك، وهو الأظهر، لأن الظاهر أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما لم نرده عليك إلا أنا حرم" أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لقوله: "لم نرده"، وإنما رده هو وحده.وقيل:"يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره"، وهو قول بعض أهل المدينة، وهو المشهور عن مالك.وكأن مستندهم في ذلك أنه الاحتياط وقيل:لا يأكل المحرم صيدا صيد في مدة إحرامه ويأكل ما صيد قبل ذلك، ونسب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس، وقيل:"يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقا، وإنما حرم الله قتل الصيد"، وهو قول أبي حنيفة.والحاصل أن التنزه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنة بحديث الصعب بن جثامة، وهو محتمل كما علمت.والأصل في الامتناع الحرمة لأنه، لو أراد التنزه لقال: "أما أنا فلا آكله" ، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضب.
[97] {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
استئناف بياني لأنه يحصل به جواب عما يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام، بأن ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حرمت أرض الحرم لأجل تعظيمها، وتذكير بنعمة الله على سكانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها.
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد، فيتعدى إلى مفعول واحد، كما في قوله تعالى :{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} [الأنعام:1]، في سورة الأنعام، ويطلق بمعنى التصيير فتعدى إلى
(5/221)

مفعولين، وكلا المعنيين صالح هنا.والأظهر الأول فإن الله أوجد الكعبة، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياما للناس.فقوله {قياما} منصوب على الحال، وهي حال مقدرة، أي أوجدها مقدرا أن تكون قياما.وإذا حمل {جعل} على معنى التصيير كان المعنى أنها موجودة بيت عبادة فصيرها الله قياما للناس لطفا بأهلها ونسلهم، فيكون {قياما} مفعولا ثانيا لـ {جعل}. وأما قوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فلا يصح جعله مفعولا.
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد.وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] في سورة آل عمران.قالوا:إنه علم مشتق من الكعب، وهو النتوء والبروز، وذلك محتمل.ويحتمل أنهم سموا كل بارز كعبة، تشبيها بالبيت الحرام، إذ كان أول بيت عندهم، وكانوا من قبله أهل خيام، فصار البيت مثلا يمثل به كل بارز.وأما إطلاق الكعبة على"القليس"الذي بناه الحبشة في صنعاء، وسماه بعض العرب الكعبة اليمانية، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله:
فكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه، كما سمى بنو حنيفة مسيلمة رحمان.
وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} بيان الكعبة.قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم، إذ شأن البيان أن يكون موضحا للمبين بأن يكون أشهر من المبين.ولما كان اسم الكعبة مساويا للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبر به عن الكعبة في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] فتعين أن ذكر البيان للتعظيم، فإن البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك.ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب.وذكر البيت هنا لأن هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علما بالغلبة على الكعبة.
والحرام في الأصل مصدر حرم إذا منع، ومصدره الحرام، كالصلاح من صلح، فوصف شيء بحرام مبالغة في كونه ممنوعا.ومعنى وصف البيت بالحرام أنه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة.وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه، وقد تقدم أنه يقال رجل حرام عند قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} في هذه السورة[1]، وأنه يقال:شهر حرام، عند قوله تعالى :{وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]فيها أيضا، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه،
(5/222)

وهو في كل موصوف يدل على أنه مما يتجنب جانبه، فيكون تجنبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك، فيكون وصف مدح، ويكون تجنبه للتنزه عنه فيكون وصف ذم، كما تقول:الخمر حرام.
وقرأ الجمهور {قياما} بألف بعد الياء.وقرأه ابن عامر {قيما} بدون ألف بعد الياء.
والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقل على رجليه، ويستعار للنشاط، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح، لأن شأن من يعمل عملا مهما أن ينهض له، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3].ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره:هو قيم عليه أو قائم عليه، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع.وأما قراءة ابن عامر {قيما} فهو مصدر"قام"على وزن فعل بكسر ففتح مثل شبع.وقد تقدم أنه أحد تأويلين في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَماً} في سورة النساء.وإنما أعلت واوه فصارت ياء لشدة مناسبة الياء للكسرة.وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فعل من الواوي العين.وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة، وهو إسناد مجازي، لأن الكعبة لما جعلها الله سببا في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم، جعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنها سبب القيام لهم.
والناس هنا ناس معهودون، فالتعريف للعهد.والمراد بهم العرب، لأنهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم.وأما ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السكان لا لكون البيت حراما، إلا إذا أريد التسبب البعيد، وهو أنه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحج لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك.
وإنما كانت الكعبة قياما للناس لأن الله لما أمر إبراهيم بأن ينزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة"وهم ذرية إسماعيل"في ذلك المكان لينشأوا أمة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب، لأنه قدر أن تكون تلك الأمة هي أول من يتلقى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحق والأخلاق الفاضلة.فأقام لهم بلدا بعيدا عن التعلق بزخارف الحياة؛ فنشأوا على إباء الضيم، وتلقوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه؛ وأقام
(5/223)

لهم فيه الكعبة معلما لتوحيد الله تعالى، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه وحرمته.ودعا مجاوريهم إلى حجة ما استطاعوا، وسخر الناس لإجابة تلك الدعوة، فصار وجود الكعبة عائدا على سكان بلدها بفوائد التأنس بالوافدين، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق، وبما يجلب التجار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء.وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفافا.وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [ابراهيم:37].فكانت الكعبة قياما لهم يقوم به أود معاشهم.وهذا قيام خاص بأهله.
ثم انتشرت ذرية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهلت بلاد العرب.وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يحدث بين الأمة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة، وهو رجب الذي سنته مضر"وهم معظم ذرية إسماعيل"وتبعهم معظم العرب.وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إياهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائدا بينهم مدة ثلث العام، يصلحون فيها شؤونهم، ويستبقون نفوسهم، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم، فيما نجم من ترات وأحن.فهذا من قيام الكعبة لهم، لأن الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة.
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكانا متسعا شاسعا يحيط بها من جوانبها أميالا كثيرة، وهو الحرم، فكان الداخل فيه آمنا.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].فكان ذلك امنا مستمرا لسكان مكة وحرمها، وأمنا يلوذ اليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذا، ولتحقيق أمنه أمن الله وحوشه ودوابه تقوية لحرمته في النفوس، فكانت الكعبة قياما لكل عربي إذا طرقه ضيم.
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرض لهم أحد بسوء، فكانوا يتجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلغوه إلى من يحتاجونه، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد، فتعطلت التجارة والمنافع.ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجار، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللتين قال الله تعالى فيهما :{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ
(5/224)

الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2,1]وبذلك كله بقيت أمة العرب محفوظة الجبلة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها، فتهيأت بعد ذلك لتلقي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملها إلى الأمم، كما أراد الله تعالى وتم بذلك مراده.
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل: إن الكعبة كانت قياما للناس وهم العرب، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلها لم يعدموا عوائد نفعها.فلما جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال، وبه تكفر الذنوب، فكانت الكعبة من هذا قياما للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسكون به مما جعلت الكعبة له قياما.
وعطف {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} على {الكعبة} شبه عطف الخاص على العام باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها، فإن الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلا من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت.فالتعريف في {الشَّهْرَ} للجنس كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2].ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر.وكذلك عطف {الهدي} و {القلائد}. وكون الهدي قياما للناس ظاهر، لأنه ينتفع ببيعة للحاج أصحاب المواشي من العرب، وينتفع بلحومه من الحاج فقراء العرب، فهو قيام لهم.
وكذلك القلائد فإنهم ينتفعون بها؛ فيتخذون من ظفائرها مادة عظيمة للغزل والنسج، فتلك قيام لفقرائهم.ووجه تخصيصها بالذكر هنا، وإن كانت هي من أقل آثار الحج، التنبيه على أن جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس، حتى أدنى العلائق، وهو القلائد، فكيف بما عداها من جلال البدن ونعالها وكسوة الكعبة، ولأن القلائد أيضا لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجلال والنعال.ونظير هذا قول أبي بكر: "والله لو منعوني عقالا"إلخ...
وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله: {لِتَعْلَمُوا} وتوسط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار اليه، وهو الجعل المأخوذ من قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ}، فتوسط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسط ضمير الفصل، فلذلك كان الكلام شبيها بالمستأنف وما هو بمستأنف، لأن ما صدق اسم الإشارة هو الكلام السابق، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غيرالتعليل،
(5/225)

والتعليل اتصال وليس باستئناف، لأن الاستئناف انفصال.وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلق به لام التعليل إلا قوله: {جَعَلَ}. وليست الإشارة إلا للجعل المأخوذ من قوله :{جَعَلَ}.
والمعنى: جعل الله الكعبة قياما للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ..، أي أن من الحكمة التي جعل الكعبة قياما للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم.فجعل الكعبة قياما مقصود منه صلاح الناس بادىء ذى بدء لأنه المجعولة عليه، ثم مقصود منه علم الناس بأنه تعالى عليم.وقد تكون فيه حكم أخرى لأن لام العلة لا تدل على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدد العلل للفعل الواحد، لأن هذه علل جعلية لا إيجادية، وإنما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدة الاهتمام بها، لأنها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك.فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياما لأجلها.
والمقصود أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض قبل وقوعه لأنه جعل التعليل متعلقا بجعل الكعبة وما تبعها قياما للناس.وقد كان قيامها للناس حاصلا بعد وقت جعلها بمدة، وقد حصل بعضه يتلو بعضا في أزمنة متراخية كما هو واضح.وأما كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنه أولى، ولأن كثيرا من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها.
ووجه دلالة جعل الكعبة قياما للناس وما عطف عليها، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، أنه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم، فلم يدر أحد يومئذ إلا أن إبراهيم اتخذها مسجدا، ومكة يومئذ قليلة السكان، ثم إن الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين اليها، ووقت للناس أشهرا القصد منها وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضار كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة، كما بيناه آنفا.فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام.فلا شك أن الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمة كبيرة، وأن ستحمد تلك الأمة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها.وكان ذلك تمهيدا لما علمه من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجعلهم حملة شريعته إلى الأمم، وما عقب ذلك من عظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام.ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة، أو بالترفع عن
(5/226)

النقص فلا جرم أن يكون عالما بما في السماوات، لأن السماوات إما أن تكون مساوية للأرض في أنه تعالى ليس بمستقر فيها، ولا هي أقرب إليه من الأرض، كما هو الاعتقاد الخاص، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة؛ وإما أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض، لأنا أقرب إليه وهو بها أعنى، فيتم الاستدلال للفريقين.
وأما دلالة ذلك على أنه بكل شيء عليم فلأن فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعا من المعلومات جليلة ودقيقة؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها، فيكون ذلك الجهل معطلا لعلمه بكثير مما يتوقف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياما وما نشأ عن ذلك إلا عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تم تدبير ذلك المقدر.
[98ـ99] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.
استئناف ابتدائي وتذييل لما سبق من حظر الصيد للمحرم وإباحة صيد البحر والامتنان بما جعل للكعبة من النعم عليهم ليطمئنوا لما في تشريع تلك الأحكام من تضييق على تصرفاتهم ليعلموا أن ذلك في صلاحهم، فذيل بالتذكير بأن الله منهم بالمرصاد يجازي كل صانع بما صنع من خير أو شر.وافتتاح الجملة بـ {اعلموا} للاهتمام بمضمونها كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223].وقد استوفى قوله: {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أقسام معاملته تعالى فهو شديد العقاب لمن خالف أحكامه وغفور لمن تاب وعمل صالحا.وافتتاح الجملة بلفظ{اعلموا} للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223]
وجملة {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} معترضة ذيل بها التعريض بالوعيد والوعد.ومضمونها إعذار الناس لأن الرسول قد بلغ إليهم ما أراد الله منهم فلا عذر لهم في التقصير، والمنة لله ولرسوله فيما أرشدهم إليه من خير.
والقصر ليس بحقيقي لأن على الرسول أمورا أخر غير البلاغ مثل التعبد لله تعالى،
(5/227)

والخروج إلى الجهاد، والتكاليف التي كلفه الله بها مثل قيام الليل، فتعين أن معنى القصر:ما عليه إلا البلاغ، أي دون إلجائكم إلى الإيمان، فالقصر إضافي فلا ينافي أن على الرسول أشياء كثيرة.
والإتيان بحرف"على"دون"اللام"ونحوها مؤذن بأن المردود شيء يتوهم أنه لازم للرسول من حيث إنه يدعي الرسالة عن الله تعالى.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} عطف على جملة {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وهي تتميم للتعريض بالوعيد والوعد تذكيرا بأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوي الحكم وليس لإفادة التخصيص لنبو المقام عن ذلك.
وذكر {مَا تُبْدُونَ} مقصود منه التعميم والشمول مع {مَا تَكْتُمُونَ} وإلا فالغرض هو تعليمهم أن الله يعلم ما يسرونه أما ما يبدونه، فلا يظن أن الله لا يعلمه.
[100] {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
لما آذن قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]بأن الناس فريقان: مطيعون وعصاة، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنهم جمع كثير، وأن مثلهم لا يكون على خطأ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجة ضالة يموه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين.فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلة من الأشياء الصالحة، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها.قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وقال السمؤال أو عبد الملك الحارثي:تعيرنا أنا قليل عديدنا
وقد تعجب العنبري إذ لام قومه فقال:
(5/228)

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
قال السدي: "كثرة الخبيث هم المشركون، والطيب هم المؤمنون". وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجة الوداع حين كان المشركون أكثر عددا من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلها نزلت في عام حجة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأن المسلمين قد تطلعوا يومئذ إلى تلك الأصقاع، وقيل: "أريد منها الحرام والحلال من المال"، ونقل عن الحسن.
ومعنى {لا يَسْتَوِي} نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة.والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعين الفاضل من المفضول، فإن جعل أحدهما خبيثا والآخر طيبا يعين أن المراد تفضيل الطيب.وتقدم عند قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} في سورة آل عمران[113].ولما كان من المعلوم أن الخبيث لا يساوي الطيب وأن البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أن المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيب في كل ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أن ثمة خبيثا قد التف في لباس الحسن فتموه على الناظرين، ولذلك قال: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. فكان الخبيث المقصود في الآية شيئا تلبس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته.
فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} من جملة المقول المأمور به النبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم هذا كله، فالكاف في قوله: {أَعْجَبَكَ} للخطاب، والمخاطب بها غير معين بل كل من يصلح للخطاب، مثل{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]، أي ولو أعجب معجبا كثرة الخبيث.وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية.
وليس قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} بمقتض أن كل خبيث يكون كثيرا ولا أن يكون أكثر من الطيب من جنسه، فإن طيب التمر والبر والثمار أكثر من خبيثها، وإنما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرا فتصرفكم عن التأمل من خبثه وتحدوكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها، أو كثرة الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالة.والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} في سورة براءة[55].
وفي تفسير ابن عرفة قال: "وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له: هذه تدل
(5/229)

على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضده، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين، وهما متكاملان.وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة.فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} يدل على أن الكثرة لها اعتبار بحيث إنها ما أسقطت هنا إلا للخبث، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه.ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه".اهـ.
والواو في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} واو الحال، و {لو} اتصالية، وقد تقدم بيان معناهما عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
وتفريع قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} على ذلك مؤذن بأن الله يريد منا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيب، والبحث عن الحقائق، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة، فإن الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يعرف ما هو تقوى دون غيره.
ونظير هذا الاستدلال استدلال العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، لأن مما يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهل إليه الثابت له اكتساب أداته.ولذلك قال هنا {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فخاطب الناس بصفة ليومئ إلى أن خلق العقول فيهم يمكنهم من التمييز بين الخبيث والطيب لاتباع الطيب ونبذ الخبيث.ومن أهم ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء:90]الآية، وأن يميز بين حال الرسول وحال السحرة والكهان وإن كان عددهم كثيرا.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلة الطيب في هذا.
[102,101] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.
استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5/230)

ليست في شؤون الدين ولكنها في شؤون ذاتية خاصة بهم، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدم لهم بيان مهمة الرسول بقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] الصالح لأن يكون مقدمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة، وهي قوله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة:100]فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى.
وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسؤول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في الصحيحين قال: "سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال:"لا تسألونني عن شيء إلا بينت لكم"، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى لغير أبيه، فقال:"يا رسول الله من أبي؟"قال:"أبوك حذافة"أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به"، والسائل هو عبد الله بن حذافة السهمي، كما ورد في بعض روايات الحديث.وفي رواية لمسلم عن أبي موسى:فقام رجل آخر فقال:"من أبي؟"، قال:"أبوك سالم مولى شيبة".وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن أبي هريرة أن رجلا آخر قام فقال:"أين أبي؟".وفي رواية:أين أنا?"فقال:"في النار".
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : "كان قوم، أي من المنافقين، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضل ناقته:"أين ناقتي؟"، ويقول الرجل:"من أبي"، ويقول المسافر:"ماذا ألقى في سفري؟"فأنزل الله فيهم هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . قال الأئمة:"وقد انفرد به البخاري".ومحمله أنه رأي من ابن عباس، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهم إلا أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان، على أن لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين، بخلاف قوله: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} فقد عقب بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
وروى الترمذي والدارقطني عن علي بن أبي طالب: "لما نزلت {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]قالوا: "يا رسول الله في كل عام؟"، فسكت، فأعادوا.فقال:"لا، ولو قلت:نعم لوجبت"، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}"
(5/231)

قال: هذا حديث حسن غريب.وروى الطبري قريبا منه عن أبي أمامة وعن ابن عباس.وتأويل هذه الأسانيد أن الآية تليت عند وقوع هذا السؤال وإنما كان نزولها قبل حدوثه فظنها الراوون نزلت حينئذ.وتأويل المعنى على هذا أن الأمة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا سألوا وأجيبوا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم تعين عليهم العمل بما أجيبوا به.وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره؛ فيكون معنى {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} على هذا الوجه أنها تسوء بعضهم أو تسوءهم في بعض الأحوال إذا شقت عليهم.وروى مجاهد عن ابن عباس:نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.وقال مثله سعيد بن جبير والحسن.
وقوله: {أشياء} تكثير شيء، والشيء هو الموجود، فيصدق بالذات وبحال الذات، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضوال أو عن أحكام بعض الأشياء.
و"أشياء"كلمة تدل على جمع"شيء"، والظاهر أنه صيغة جمع لأن زنة شيء"فعل"، و"فعل"إذا كان معتل العين قياس جمعه أفعال مثل بيت وشيخ.فالجاري على متعارف التصريف أن يكون"أشياء"جمعا وأن همزته الأولى همزة مزيدة للجمع.إلا أن"أشياء"ورد في القرآن هنا ممنوعا من الصرف، فتردد أئمة اللغة في تأويل ذلك، وأمثل أقوالهم في ذلك قول الكسائي:"إنه لما كثر استعماله في الكلام أشبه"فعلاء"، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه، كما منعوا سراويل من الصرف وهو مفرد لأنه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح".
وقال الخليل وسيبويه: "أشياء"اسم جمع"شيء"وليس جمعا، فهو مثل طرفاء وحلفاء فأصله شيئا، فالمدة في آخره مدة تأنيث، فلذلك منع من الصرف، وادعى أنهم صيروه أشياء بقلب مكاني.وحقه أن يقال:شيئاء بوزن"فعلاء"فصار بوزن"لفعاء".
وقوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة {أشياء} ، أي إن تظهر لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم، ولما كانت الأشياء المسؤول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك، وكانت قبل إظهارها غير متميزة كان السؤال عن مجموعها معرضا للجواب بما بعضه يسوء، فلما كان هذا البعض غير معين للسائلين كان سؤالهم عنها سؤالا عن ما إذا ظهر يسوءهم، فإنهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها:ما سرهم جوابه، وهو سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه فأجيب بالذي يصدق نسبه، ومنها ما ساءهم جوابه، وهو سؤال من سأل أين أبي، أو أين أنا فقيل: "له في النار"، فهذا يسوءه لا
(5/232)

محالة.فتبين بهذا أن قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع.والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل، وإلا فإن النهي غير مقيد بحال ما يسوءهم جوابه، بدليل قوله بعده: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} لأن العفو لا يكون إلا عن ذنب وبذلك تعلم أنه لا مفهوم للصفة هنا لتعذر تمييز ما يسوء عما لا يسوء.
وجملة {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} عطف على جملة {لا تَسْأَلوا}، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا} فجعلهم مخيرين في السؤال عن أمثالها، وأن ترك السؤال هو الأولى لهم، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة، وجاء بـ {إن} للدلالة على أن الأولى ترك السؤال عنها لأن الأصل في"إن"أن تدل على أن الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه.
وقوله: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} ظرف.يجوز تعلقه بفعل الشرط وهو {تَسْأَلوا} ، ويجوز تعلقه بفعل الجواب وهو {تُبْدَ لَكُمْ} ، وهو أظهر إذ الظاهر أن حين نزول القرآن لم يجعل وقتا لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتا للجواب عن الأسئلة.وتقديمه على عامله للاهتمام، والمعنى أنهم لا ينتظرون الجواب عما يسألون عنه إلا بعد نزول القرآن، لقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} إلى قوله ـ {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيّ} [الأنعام:50] فنبههم الله بهذا على أن النبي يتلقى الوحي من علام الغيوب.فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقب سؤاله.ووقت نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإن له حالة خاصة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس، كما ورد في حديث يعلى بن أمية في حكم العمرة. ومما يدل لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في صحيح مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لهم صلاة الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن قبلها أمورا عظاما ثم قال:"من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فو الله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.ثم قال:لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر" الحديث، فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحين في حال نزول وحي عليه". وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنه أنزل عليه حينئذ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية.فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتصال الرسول عليه الصلاة والسلام ـ بعالم
(5/233)

الوحي.
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} يحتمل أنه تقرير لمضمون قوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}، أي أن الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزل القرآن.وهذا أظهر لعوذ الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}. ويحتمل أن يكون إخبارا عن عفوه عما سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأن ذلك لا يناسب ما يناسب ما يجب من توقيره.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن، أن يقول سائل:إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأن بعض الأسئلة يسوء جوابه قوما، فهل الأولى ترك السؤال أو إلقاؤه.فأجيب بتفصيل أمرها بأن أمثالها قد كانت سببا في كفر قوم قبل المسلمين.
وضمير {سألها} جوز أن يكون عائدا إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دل عليه فعل {تسألوا}، أي سأل المسألة، فيكون الضمير منصوبا على المفعولية المطلقة.وجرى جمهور المفسرين على تقدير مضاف، أي سأل أمثالها.والمماثلة في ضآلة الجدوى.والأحسن عندي أن يكون ضمير {سألها} عائدا إلى {أشياء}، أي إلى لفظه دون مدلوله.فالتقدير:قد سأل أشياء قوم من قبلكم، وعدي فعل {سأل} إلى الضمير على حذف حرف الجر، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحق من الاستخدام، فإن أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله، نحو قولك:لك درهم ونصفه، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه.والاستخدام أشد من ذلك لأنه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر.
و{ثم}في قوله: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصور المتكلم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها، فتدل على أن الجملة المعطوفة لم يكن يترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم.وقد مرت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة[85].
والباء في قوله: {بها} يجوز أن تكون للسببية، فتتعلق بـ {أصبحوا}، أي كانت تلك المسائل سببا في كفرهم، أي باعتبار ما حصل من جوابها، ويحتمل أن تكون"للتعدية"
(5/234)

تتعلق بـ {كافرين} أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدقوا رسلهم فيما أجابوا به، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص، أي ما كفروا إلا بسببها، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه، فهو تخصيص ادعائي، أو هو تقديم لمجرد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها.وفعل {أصبحوا} مستعمل بمعنى صاروا، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريث فيه لأن الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال.
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام، سألوا مثل هذه المسائل، فلما أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا، مثل ثمود، سألوا صالحا آية، فلما أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها، وهذا شأن أهل الضلالة متابعة الهوى فكل ما يأتيهم مما لا يوافق أهواءهم كذبوا به، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49,48]، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سلام.وقريب مما في هذه الآية ما قدمناه عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} في سورة البقرة[97].فإن اليهود أبغضوا جبريل لأنه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم، وتعطيل بيت القدس، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال.وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى، وكانا مقدسين عند اليهود، فلما شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلها كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متى والإصحاح الثالث من مرقس.
والمقصود من هذا ذم أمثال هذه المسائل بأنها لا تخلو من أن تكون سببا في غم النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يكره ممن يحبه.ولولا أن إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قوم من قبلهم لكانت هذه المسائل محرمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر.
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها، فالحمد لله الذي من باستضوائها.
[103] {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
استئناف ابتدائي جاء فارقا بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما
(5/235)

نوه الله به مما كانوا عليه من شعائر الحج، فإنه لما بين أنه جعل الكعبة قياما للناس وجعل الهدي والقلائد قياما لهم، بين هنا أن أمورا ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيب، فيكون كالبيان لآية {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة:100]، فإن البحيرة وما عطف عليها هنا تشبه الهدي في أنها تحرر منافعها وذواتها حية لأصنامهم كما تهدى الهدايا للكعبة مذكاة، فكانوا في الجاهلية يزعمون أن الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} ، وقال في هذه الآية {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فالتصدي للتفرقة بين الهدى وبين البحيرة والسائبة ونحوهما، كالتصدي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]كما تقدم هنالك.وقد قدمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس:أن ناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية.
ومما يزيدك ثقة بما ذكرته أن الله افتتح هذه الآية بقوله :{مَا جَعَلَ اللَّهُ} لتكون مقابلا لقوله في الآية الأخرى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة:97]ولولا ما توسط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلا أن الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمنه.
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأن أصل"جعل"إذا تعدى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتب كما في قولهم:فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97]فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنها موجودة في الواقع.فنفي جعلها متعين لأن يكون المراد منه نفي الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضب على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئا:ما أمرتك بهذا.فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام:150]فإنه كناية عن الغضب على من حرموه، وليس المراد أن لهم أن يجتنبوه.
وأدخلت"من"الزائدة بعد النفي للتنصيص على أن النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معينة، فقد ساوى أن يقال:لا بحيرة ولا سائبة مع قضاء حق المقام من بيان أن هذا ليس من جعل الله وأنه لا يرضى به فهو حرام.
(5/236)

والبحيرة بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة فعيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبحر الشق.يقال:بحر شق.وفي حديث حفر زمزم أن عبد المطلب بحرها بحرا، أي شقها ووسعها.فالبحيرة هي الناقة، كانوا يشقون أذنها بنصفين طولا علامة على تخليتها، أي أنها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يشرب لبنها إلا ضيف، والظاهر أنه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه، فكل حي من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم.وقد كانت للقبائل أصنام تدين كل قبيلة لصنم أو أكثر.وإنما يجعلونها بحيرة إذا نتجت 1عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة.وقيل:إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكرا.وإذا ماتت حتف أنفها حل أكل لحمها للرجال وحرم على النساء.
والسائبة:البعير أو الناقة يجعل نذرا عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر، فيقول:"أجعله لله سائبة".فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسابة، ولذلك يقال:"عبد سائبة"، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال، وقيل:فاعل بمعنى مفعول، أي مسيب.
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليطعموا من ألبانها أبناء السبيل.وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فقار الظهر، فيقال لها:صريم وجمعه صرم، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث متتابعة سيبوها أيضا فهي سائبة، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم.والظاهر أنه يكون مثلها سائبة.
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى، فتسمى الأم وصيلة لأنها وصلت أنثى بأنثى، كذا فسرها مالك في رواية ابن وهب عنه، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرب بها، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهرا.وقال الجمهور:"الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة"على اختلاف مصطلح القبائل"فالأخير إذا كان ذكرا ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها، أي للطواغيت، وإن أتأمت استحيوهما جميعا وقالوا:وصلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم، وهي التي أبطلها الله تعالى، ولم يتعرضوا لبقية أحوال الشاة.والأظهر أن الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثا، جمعا بين تفسير مالك
ـــــــ
1 نتجت مبني لمفعول وهو يتعدى إلى مفعولين؛فأولهما جعل نائب فاعل وثانيهما المنصوب.
(5/237)

وتفسير غيره، فالشاة تسيب للطواغيت، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلها.وعن ابن إسحاق:الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب: "أن الوصيلة من الإبل إذا بكرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم.وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم.ووقع في سياق البخاري إيهام اغتر به بعض الشارحين ونبه عليه في فتح الباري.وعلى الوجوه كلها فالوصيلة فعلية بمعنى فاعلة.
والحامي هو فحل الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعى ولا ماء.ويقولون: إنه حمى ظهره، أي كان سببا في حمايته، فهو حام.قال ابن وهب عن مالك، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيبونه، فالظاهر أنه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام.
وقوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الاستدراك لرفع ما يتوهمه المشركون من اعتقاد أنها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون.والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنهم يكذبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنهم جميعا يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع.والكذب هو الخبر المخالف للواقع.
والكفار فريقان خاصة وعامة:فأما الخاصة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عمرو بن عامر بن لحي بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشددة الخزاعي، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار، وكان أول من سيب السوائب.ومنهم جنادة بن عوف1.وعن مالك أن منهم رجلا من بني مدلج هو أول من بحر البحيرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيته مع عمرو في النار". رواه ابن العربي.وفي رواية أن عمرو بن لحي أول من بحر البحيرة وسيب
ـــــــ
1 هو جنادة بن أمية بن عوف من بني نالك بن كنانة وهم نسأة الشهور.وجنادة هذا أدركه الإسلام وهو القائم بالنسي.
(5/238)

السائبة.وأصح الروايات وأشهرها عن رسول الله: أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب ولم يذكر البحيرة.
وأما العامة فهم الذين اتبعوا هؤلاء المضلين عن غير بصيرة، وهم الذين أريدوا بقوله : {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}. فلما وصف الأكثر بعدم الفهم تعين أن الأقل هم الذين دبروا هذه الضلالات وزينوها للناس.
والافتراء:الكذب.وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في سورة آل عمران[94].
وفي تسمية ما فعله الكفار من هذه الأشياء افتراء وكذبا ونفي أن يكون الله أمر به ما يدل على أن تلك الأحداث لا تمت إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين:إحداهما:أنها تنتسب إلى الآلهة والأصنام، وذلك إشراك وكفر عظيم.الثانية:أن ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضره أكثر من نفعه، لأن في تسييب الحيوان إضرارا به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى، وربما عدت عليه السباع، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه.وما يحصل من در بعضها للضيف وابن السبيل إنما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافة به.
[104] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}.
الواو للحال.والجملة حال من قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:]103],.أي أنهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذبا، وإذا دعوا إلى اتباع ما أمر الله به حقا أو التدبر فيه أعرضوا وتمسكوا بما كان عليه آباؤهم.فحالهم عجيبة في أنهم يقبلون ادعاء آبائهم أن الله أمرهم بما اختلفوا لهم من الضلالات، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجة لهم في الاولى، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها.
والأمر في قوله: {تَعَالَوْا} مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصد عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه.وتقدم الكلام على فعل"تعال"عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء.
(5/239)

و {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: هو القرآن.وعطف {وَإِلَى الرَّسُولِ} لأنه يرشدهم إلى فهم القرآن.وأعيد حرف "الى" لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلقي {تعالوا} فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي {تعالوا} الحقيقي والمجازي.
وقوله :{قَالُوا حَسْبُنَا} أي كافينا، إذا جعلت"حسب"اسما صريحا و {مَا وَجَدْنَا} هو الخبر، أو كفانا إذا جعلت"حسب"اسم فعل و {مَا وَجَدْنَا} هو الفاعل.وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
و"على"في قوله: {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مجاز في تمكن التلبس، وتقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].
وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الخ، تقدم القول على نظيره في سورة البقرة عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} الآية.
وليس لهذه الآية تعلق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهمه جمع من المفسرين، لأن هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله، فأما الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كله من اتباع ما أنزل الله.فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى.
[105] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسئولين عنه، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعو إلى الدعوة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
و {عليكم} اسم فعل بمعنى الزموا، وذلك أن أصله أن يقال:عليك أن تفعل كذا، فتكون جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، وتكون"على"دالة على استعلاء مجازي، كأنهم
(5/240)

جعلوا فعل كذا معتليا على المخاطب ومتمكنا منه تأكيدا لمعنى الوجوب فلما كثر في كلامهم قالوا:عليك كذا، فركبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير:عليك فعل كذا، لأن تلك الذات لا توصف بالعلو على المخاطب، أي التمكن، فالكلام على تقدير.وذلك كتعلق التحريم والتحليل بالذوات في قوله :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1]ومن ذلك ما روي: "عليكم الدعاء وعلي الإجابة" ومنه قولهم:"علي ألية، وعلي نذر".ثم كثر الاستعمال فعاملوا"على"معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية.وشاع ذلك في كلامهم فسماها النحاة اسم فعل لأنها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص، فكأنك عمدت إلى فعل"الزم"فسميته"على"وأبرزت ما معه من ضمير فألصقته بـ"على"في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتصل بها، وهو ضمير الجر فيقال:عليك وعليكما وعليكم.ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأن الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر.
فقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو بنصب {أنفسكم} أي الزموا أنفسكم، أي احرصوا على أنفسكم.والمقام يبين المحروص عليه، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بينه بقوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ}.
فجملة {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} تتنزل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت، لأن أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغم والأسف على عدم قبول الضالين للاهتداء، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم، فقيل لهم:عليكم أنفسكم، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم، ففعل {يضركم} مرفوع.
وقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ظرف يتضمن معنى الشرط يتعلق بـ {يضركم}. وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى.ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرهم من ضل لأن إثم ضلاله محمول عليهم.
فلا يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة طفحت بها الشريعة.فكان ذلك داخلا في شرط {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. ولما في قوله :{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبين {مَنْ ضَلَّ}، ولما في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} من خفاء
(5/241)

تفاريع أنواع الاهتداء عرض لبعض الناس قديما في هذه الآية فشكوا في أن يكون مفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وقد حدث ذلك الظن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنه قال:سألت عنها أبا ثعلبة الخشني، فقال لي:سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام". وحدث في زمن أبي بكر:أخرج أصحاب السنن أن أبا بكر الصديق بلغه أن بعض الناس تأول الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده". وعن ابن مسعود أنه قرئت عنده هذه الآية فقال: "إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة"أي النصيحة"ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم"يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم".وعنه أيضا:"إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه".وعن عبد الله بن عمر أنه قال:"إنها"أي هذه الآية"ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله قال: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم".
فما صدق هذه الآية هو ما صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فإن معنى الاستطاعة التمكن من التغيير دون ضر يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة.فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك، ويلحق بذلك إذا ظهرت الكابرة وعدم الانتصاح كما دل عليه حديث أبي ثعلبة الخشني، وكذلك إذا خيف حصول الضر للداعي بدون جدوى، كما دل عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفا.
وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} عذر للمهتدي ونذارة للضال.وقدم المجرور للاهتمام بمتعلق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين، وأكد ضمير المخاطبين
(5/242)

بقوله: {جميعا} للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب.والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير، والعذاب للضال المعرض عن الدعوة.
والمرجع مصدر ميمي لا محالة، بدليل تعديته بـ{إلى}، وهو مما جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل، لأن المشهور في الميمي من يفعل بكسر العين أن يكون مفتوح العين.
[106ـ108] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
استؤنفت هذه الآي استئنافا ابتدائيا لشرع أحكام التوثق للوصية لأنها من جملة التشريعات التي تضمنتها هذه السورة، تحقيقا لإكمال الدين، واستقصاء لما قد يحتاج إلى عمله المسلمون.وموقعها هنا سنذكره.
وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة[180] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وتقدم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك.وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصية وأمر بها، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام.وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدم في سورة البقرة.وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظا لحق الميت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقه، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثق لها بالإشهاد، خلافا لما تقدم به من بيان التوثق في التبايع بآية {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]والتوثق في الدين بآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثق للوصية اهتماما بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأن البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذبان عن مصالحهما فيتضح الحق من
(5/243)

خلال سعيهما في إحقاق الحق فيها بخلاف الوصية فإن فيها جانبا واحدا وهو جانب الموصى له لان الموصي يكون قد مات وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك، فكانت معرضة للضياع كلها أو بعضها.
وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خبر عزمه.فقد أوصى نزار بن معد وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبين لهم تفصيل مراده منها.
وقد حدثت في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حادثة كانت سببا في نزول هذه الآية.ولعل حدوثها كان مقارنا لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة.
ذلك أنه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية:هي أن رجلين أحدهما تميم الداري اللخمي والآخر عدي بن بداء، كانا من نصارى العرب تاجرين، وهما من أهل"دارين"وكانا يتجران بين الشام ومكة والمدينة.فخرج معهما من المدينة بديل بن أبي مريم مولى بني سهم وكان مسلما بتجارة إلى الشام، فمرض بديل"قيل في الشام وقيل في الطريق برا أو بحرا"وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوص بالذهب قاصدا به ملك الشام، فلما اشتد مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلغاه مواليه من بني سهم.وكان بديل مولى للعاصي بن وائل السهمي، فولاؤه بعد موته لابنه عمرو ابن العاصي.وبعض المفسرين يقول:"إن ولاء بديل لعمرو بن العاصي والمطلب بن وداعة".ويؤيد قولهم أن المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أن الجام لبديل بن أبي مريم:فلما رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا ما لبديل إلى مواليه.فلما نشروه وجدوا الصحيفة، فقالوا لتميم وعدي:"أين الجام؟فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاما".ثم وجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو ابن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال:"إنه ابتاعه من تميم وعدي".وفي رواية أن تميما لما أسلم في سنة تسع تأثم مما صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع له الخمسمائة الدرهم الصائرة اليه من ثمنه، وطالب عمرو عديا ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه.وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية.وقد ساقه البخاري تعليقا في كتاب الوصايا.ورواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال:"ليس إسناده بصحيح".وهو وإن لم يستوف شروط
(5/244)

الصحة فقد اشتهر وتلقى بالقبول، وقد أسنده البخاري في تاريخه.
واتفقت الروايات على أن الفريقين تقاضوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية في ذلك، فحلف عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على أن تميما وعديا أخفيا الجام وأن بديلا صاحبه وما باعه ولا خرج من يده.ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذ نصراني.وعدي هذا قيل:أسلم، وعده ابن حبان وابن منده في عداد الصحابة، وقيل:مات نصرانيا، ورجح ذلك ابن عطية، وهو قول أبي نعيم، ويروى عن مقاتل، ولم يذكره ابن عبد البر في الصحابة.واحتمل ان يكون نزولها قبل الترافع بين الخصم في قضية الجام، وأن يكون نزولها بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية لتكون تشريعا لما يحدث من أمثال تلك القضية.
و {بينكم} أصل"بين"اسم مكان مبهم متوسط بين شيئين يبينه ما يضاف هو اليه، وهو هنا مجاز في الأمر المتعلق بعدة أشياء، وهو مجرور بإضافة {شهادة} إليه على الاتساع.وأصله"شهادةٌ"بالتنوين والرفع"بينكم"بالنصب على الظرفية.فخرج"بين"عن الظرفية إلى مطلق الاسمية كما خرج عنها في قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94]في قراءة جماعة من العشرة برفع {بينكم}.
وارتفع {شهادة} على الابتداء، وخبره {اثنان}. و {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ظرف زمان مستقبل.وليس في"إذا"معنى الشرط، والظرف متعلق بـ {شهادة} لما فيه من معنى الفعل، أي ليشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان، يعني يجب عليه أن يشهد بذلك ويجب عليهما أن يشهدا لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].و {حِينَ الْوَصِيَّةِ} بدل من {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بدلا مطابقا، فإن حين حضور الموت هو الحين الذي يوصي فيه الناس غالبا.جيء بهذا الظرف الثاني ليتخلص بهذا البدل إلى المقصود وهو الوصية.
وقد كان ا لعرب إذا رأوا علامة الموت على المريض يقولون:"أوص"، وقد قالوا ذلك لعمر بن الخطاب حين أخبر الطبيب أن جرحه في أمعائه.ومعنى حضور الموت حضور علاماته لان تلك حالة يتخيل فيها المرء أن الموت قد حضر عنده ليصيره ميتا، وليس المراد حصول الغرغرة لأن ما طلب من الموصي أن يعمله يستدعي وقتا طويلا، وقد تقدم عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} في سورة البقرة[180].
(5/245)

وقوله: {اثنان} خبر عن {شهادة} ، أي الشهادة على الوصية شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه، والقرينة واضحة والمقصود الإيجاز.فما صدق {اثنان} شاهدان، بقرينة قوله {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}، وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ}. وهذان الشاهدان هما وصيان من الميت على صفة وصيته وإبلاغها، إلا أن يجعل الموصي وصيا غيرهما فيكونا شاهدين على ذلك.والعدل والعدالة متحدان، أي صاحبا اتصاف بالعدالة.
ومعنى {منكم} من المؤمنين، كما هو مقتضى الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، لأن المتكلم إذا خاطب مخاطبه بوصف ثم أتبعه بما يدل على بعضه كان معناه أنه بعض أصحاب الوصف، كما قال الأنصار يوم السقيفة:"منا أمير ومنكم أمير".فالكلام على وصية المؤمنين.وعلى هذا درج جمهور المفسرين، وهو قول أبى موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والأئمة الأربعة.وهو الذي يجب التعويل عليه، وهو ظاهر الوصف بكلمة {منكم} في مواقعها في القرآن.
وقال الزهري، والحسن، وعكرمة:معنى قوله {منكم} من عشيرتكم وقرابتكم.ويترتب على التفسير الأول أن يكون معنى مقابله وهو {مِنْ غَيْرِكُمْ} أنه من غير أهل ملتكم.فذهب فريق ممن قالوا بالتفسير الأول إلى إعمال هذا وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصة، وخصوا ذلك بالذمي، وهو قول أحمد، والثوري، وسعيد بن المسيب، ونسب إلى ابن عباس، وأبي موسى.وذهب فريق إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ونسب إلى زيد بن أسلم.وقد تم الكلام على الصورة الكاملة في شهادة الوصية بقوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآيات..تفصيل للحالة التي تعرض في السفر.و"أو"للتقسيم لا للتخيير، والتقسيم باعتبار اختلاف الحالين:حال الحاضر وحال المسافر، ولذلك اقترن به قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فهو قيد لقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}.
وجواب الشرط في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} محذوف دل عليه قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، والتقدير:إن أنتم ضربتم في الأرض فشهادة آخرين من غيركم، فالمصير إلى شهادة شاهدين من غير المسلمين عند من يراه مقيد بشرط: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}. والضرب في الأرض:السير فيها.والمراد به السفر.وتقدم عند قوله
(5/246)

تعالى: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة آل عمران[156].
ومعنى {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} حلت بكم، والفعل مستعمل في معنى المشارفة والمقاربة، كما في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء:9]، أي لو شارفوا أن يتركوا ذرية.وهذا استعمال من استعمال الأفعال.ومنه قولهم في الإقامة:قد قامت الصلاة.
وعطف قوله {فَأَصَابَتْكُمْ} على {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فكان من مضمون قوله قبله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أعيد هنا لربط الكلام بعد ما فصل بينه من الظروف والشروط.
وضمير الجمع في {أصابتكم} كضمير الجمع في {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.
والمصيبة:الحادثة التي تحل بالمرء من شر وضر، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} في سورة النساء72].
وجملة {تَحْبِسُونَهُمَا} حال من {آخران} عند من جعل قوله :{مِنْ غَيْرِكُمْ} بمعنى من غير أهل دينكم.وأما عند من جعله بمعنى من غير قبيلتكم فإنه حال من{اثنان} ومن{آخران}لأنهما متعاطفان بـ"أو".فهما أحد قسمين، ويكون التحليف عند الاسترابة.والتحليف على هذا التأويل بعيد إذ لا موجب للاسترابة في عدلين مسلمين.
وضمير الجمع في {تَحْبِسُونَهُمَا} كضميري{ضربتم ـ وأصابتكم}.وكلها مستعملة في الجمع البدلي دون الشمولي، لأن جميع المخاطبين صالحون لأن يعتريهم هذا الحكم وإنما يحل ببعضهم.فضمائر جمع المخاطبين واقعة موقع مقتضى الظاهر كلها.وإنما جاءت بصيغة الجمع لإفادة العموم، دفعا لأن يتوهم أن هذا التشريع خاص بشخصين معينين لأن قضية سبب النزول كانت في شخصين؛ أو الخطاب والجمع للمسلمين وحكامهم.
والحبس:الإمساك أي المنع من الانصراف.فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد.ومنه ما يكون بمعنى الانتظار، كما في حديث عتبان بن مالك: "فغدا علي رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه"، أي أمسكناه.وهذا هو المراد في الآية، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادرانكم حتى يتحملا الوصية.وليس المراد به السجن أو ما يقرب منه، لأن الله تعالى قال :{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282].
(5/247)

وقوله: {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة.والإتيان بـ"من"الابتدائية لتقريب البعدية، أي قرب انتهاء الصلاة.وتحتمل الآية أن المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين، وبذلك فسرها جماعة من أهل العلم، فمنهم من قال:هي صلاة العصر.وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف تميما الداري وعدي بن بداء في قضية الجام بعد العصر، وهو قول قتادة وسعيد، وشريح، والشعبي.ومنهم من قال:"الظهر"، وهو عن الحسن.وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم.ونقل عن السدي، وابن عباس،:"أي تحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأن ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته".
وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} عطف على {تَحْبِسُونَهُمَا} فعلم أن حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله.وضمير {يُقْسِمَانِ} عائد إلى قوله: {آخران}. فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم.
وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} تظافرت أقوال المفسرين على أن هذا شرط متصل بقوله :{تَحْبِسُونَهُمَا} وما عطف عليه.واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه ليتأتى الإيجاز، لأنه لو لم يقدم لقيل:أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره.فيقتضي هذا التفسير أنه لو لم تحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحضارهما من بعد الصلاة وقسمهما، فصار ذلك موكولا لخيرة الولي.وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه.
والوجه عندي أن يكون قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان، ومعناه أن الشاهدين يقولان:إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس الموصي، لأن العدالة مظنة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها مما لا يطلع عليه فأكدت مظنة الصدق بالحلف؛ فيكون شرع هذا الكلام على كل شاهد ليستوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حرجا على الشاهدين اللذين توجهت عليهما اليمين من أن اليمين تعريض بالشك في صدقهما، فكان فرض اليمين من قبل الشرع دافعا للتحرج بينهما وبين الولي، لأن في كون اليمين شرطا من عند الله معذرة في المطالبة بها، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجه على من يثبت حقا على ميت أو غائب من أنها لازمة قبل الحكم مطلقا ولو أسقطها الوارث الرشيد.ولم أقف على من عرج على هذا المعنى
(5/248)

من المفسرين إلا قول الكواشي في تلخيص التفسير:"وبعضهم يقف على {يقسمان} ويبتدئ {بالله} قسما ولا أحبه"، وإلا ما حكاه الصفاقسي في"معربه"عن الجرجاني:"أن هنا قولا محذوفا تقديره:فيقسمان بالله ويقولان".ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعا الجرجاني لتقدير هذا القول.ولا أراه حمله عليه إلا جعل قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} من كلام الشاهدين.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم، فإن القسم أولى بالجواب لأنه مقدم على الشرط.
وقوله: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} الخ، ذلك هو المقسم عليه.ومعنى {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمنا، أي عوضا، فضمير به، عائد إلى القسم المفهوم من {يقسمان} وقد أفاد تنكير {ثمنا} في سياق النفي عموم كل ثمن.والمراد بالثمن العوض، أي لا نبدل ما أقسمنا عليه بعوض كائنا ما كان العوض، ويجوز أن يكون ضمير {به} عائدا إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها.
وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} حال من قوله: {ثمنا} الذي هو بمعنى العوض، أي ولو كان العوض ذا قربى، أي ذا قربى منا، و"لو"شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يرضيانه عوضا عن تبديل شهادتهما فأولى ما هو دون ذلك.وذلك أن أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحمية والنصرة للقريب، فذلك تصغر دونه الرشى ومنافع الذات.والضمير المستتر في {كان} عائد إلى قوله: {ثمنا}. ومعنى كون الثمن، أي العوض، ذا قربى أنه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف، وهو من دلالة الاقتضاء لأنه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى، فتعين أن المراد شيء من علائقه يعينه المقام.ونظيره :{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].وقد تقدم وجه دلالة مثل هذا الشرط بـ"لو"وتسميتها وصلية عند قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} من سورة آل عمران[91].
وقوله: {وَلا نَكْتُمُ} عطف على {لانَشْتَرِي}، لأن المقصود من إحلافهما أن يؤديا الشهادة كما تلقياها فلا يغيرا شيئا منها ولا يكتماها أصلا.
وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشاهد وغيره لأن الله لما أمر بأدائها كما هي وحض عليها أضافها إلى اسمه حفظا لها من التغيير، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حين القسم.
(5/249)

وفي قوله: {وَلا نَكْتُمُ} دليل على أن المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف، وهو الإخبار عن أمر خاص يعرض في مثله الترافع.وليس المراد بها اليمين كما توهمه بعض المفسرين فلا نطيل برده فقد رده اللفظ.
وجملة: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب سؤال مقدر بدليل وجود{إذن}، فإنه حرف جواب:استشعر الشاهدان سؤالا من الذي حلفا له بقولهما:لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله، يقول في نفسه:لعلكما لا تبران بما أقسمتما عليه، فأجابا:إنا إذن لمن الآثمين، أي إنا نعلم تبعة عدم البر بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين، أي ولا نرضى بذلك.
والآثم:مرتكب الإثم.وقد علم أن الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافا مع"إذن"الدالة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميت.
وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ} الآية، أي إن تبين أنهما كتما أو بدلا وحنثا في يمينهما، بطلت شهادتهما، لأن قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} فرع عن بطلان شهادتهما، فحذف ما يعبر عن بطلان شهادتهما إيجازا كقوله: {اضْرِبْ1 بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60]أي فضرب فانفجرت.
ومعنى {عثر} اطلع وتبين ذلك، وأصل فعل عثر أنه مصادفة رجل الماشي جسما ناتئا في الأرض لم يترقبه ولم يحذر منه فيختل به اندفاع مشيه، فقد يسقط وقد يتزلزل.ومصدره العثار والعثور، ثم استعمل في الظفر بشيء لم يكن مترقبا الظفر به على سبيل الاستعارة.وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة، فخصوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العثار، وخصوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر، وهو العثور.
ومعنى {اسْتَحَقَّا إِثْماً} ثبت أنهما ارتكبا ما يأثمان به، فقد حق عليهما الإثم، أي وقع عليهما، فالسين والتاء للتأكيد.والمراد بالإثم هو الذي تبرءا منه في قوله :{لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضا لأنفسهما أو لغيرهما، أو بأن يظهر أنهما كتما الشهادة، أي بعضها.وحاصل الإثم أن يتضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت.
ـــــــ
1 في المطبوعة "أن اضرب بعصاك..."الموافقة للآية 160 من الأعراف,والمثبت هو الموافق للشرح.
(5/250)

وقوله: {فآخران} أي رجلان آخران، لأن وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدث عنه، والمتحدث عنه هنا {اثنان}. فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية.ومعنى يقومان مقامهما، أي يعوضان تلك الشهادة.فإن المقام هو محل القيام، ثم يراد به محل عمل ما ولو لم يكن فيه قيام، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محل يقوم فيه العامل، وذلك في العمل المهم.قال تعالى: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي} [يونس:71].فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية.و {من} في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} تبعيضية، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم.
والاستحقاق كون الشيء حقيقا بشيء آخر، فيتعدى إلى المفعول بنفسه، كقوله: {اسْتَحَقَّا إِثْماً}، وهو الشيء المستحق.وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدى الفعل إلى المحقوق ب {على} الدالة على الاستعلاء بمعنى اللزوم له وإن كره، كأنهم ضمنوه معنى وجب كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:105].ويقال:استحق زيد على عمرو كذا، أي وجب لزيد حق على عمرو، فأخذه منه.
وقرأ الجمهور: {استحق عَلَيْهِمُ} بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله :{اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} هو مستحق ما، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغلب وارث الموصي بذلك.فالذين استحق عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم ماله بوجه من وجوه الإرث فحرموا بعضه.وقوله: {عليهم} قائم مقام نائب فاعل {استحق}.
وقوله: {الأوليان} تثنية أولى، وهو الأجدر والأحق، أي الأجدران بقبول قولهما.فما صدقه هو ما صدق {الآخران} ومرجعه إليه فيجوز، أن يجعل خبرا عن {آخران} ، فإن {آخران} لما وصف بجملة {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} صح الابتداء به، أي فشخصان آخران هما الأوليان بقبول قولهما دون الشاهدين المتهمين.وإنما عرف باللام لأنه معهود للمخاطب ذهنا لأن السامع إذا سمع قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} ترقب أن يعرف من هو الأول ى بقبول قوله في هذا الشأن، فقيل له:آخران هما الأوليان بها.ويجوز أن يكون {الأوليان} مبتدأ و {آخَرَانِ يَقُومَانِ} خبره.وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة، لأن السامع يترقب الحكم بعد قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} فإن ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما، فكيف يكون القضاء في ذلك، فعجل الجواب.
(5/251)

ويجوز أن يكون بدلا من {آخران} أو من الضمير في {يقومان} أو خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان.ونكتة التعريف هي على الوجوه كلها.
وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف، {الأوّلين} بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدم والمبتدأ به.فالذين استحق عليهم هم أولياء الموصي حيث استحق الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء، أي الورثة لولا الوصية، وهو مجرور نعت"للذين استحق عليهم".
وقرأ حفص عن عاصم {استحق} بصيغة البناء للفاعل فيكون {الأوليان} هو فاعل {استحق} ،وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} تفريع على قوله: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا}.
ومعنى {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أنهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذين عثر على أنهما استحقا إثما.ومعنى {أحق} أنها الحق، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة.
وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} توكيد للأحقية، لأن الأحقية راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلا واعتداء منهما على مال مبلغي الوصية.والمعنى:وما اعتدينا على الشاهدين في اتهامهما بإخفاء بعض التركة.
وقوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي لو اعتدينا لكنا ظالمين.والمقصود منه الإشعار بأنهما متذكران ما يترتب على الاعتداء والظلم، وفي ذلك زيادة وازع.
وقد تضمن القسم على صدق خبرهما يمينا على إثبات حقهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحق مع الشاهد العرفي، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلغان الوصية.
والكلام في"إذن"هنا مثل الكلام في قوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ}.
والمعنى أنه إن اختلت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحدا أم متعددا.وإنما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بداء، فإن ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما:عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة، وكلاهما من بني سهم، وهما موليا بديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام.فبعض المفسرين يذكر أنهما موليا بديل.وبعضهم يقول:إن مولاه هو عمرو بن العاصي.والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أن له ولاء من بديل، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين.فإن كان صاحب
(5/252)

الحق واحدا حلف وحده وإن كان أصحاب الحق جماعة حلفوا جميعا واستحقوا.ولم يقل أحد أنه إن كان صاحب الحق واحدا يحلف معه من ليس بمستحق، ولا إن كان صاحب الحق ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقون كلهم.فالاقتصار على اثنين في أيمان الأول يين ناظر إلى قصة سبب النزول، فتكون الآية على هذا خاصة بتلك القضية.ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم.وهذا القول يقتضي أن الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بديل بن أبي مريم.وذلك ظاهر بعض روايات الخبر، وفي بعض الروايات ما يقتضي أن الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذ يتعين أن تكون تشريعا لأمثال تلك القضية مما يحدث في المستقبل، فيتعين المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن.
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضر إلا واحدا من المسلمين، أو واحدا من غير المسلمين، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم.وكل ذلك يجرى على أحكامه المعروفة في الأحكام كلها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر.
والمشار إليه في قوله:"ذلك أدنى"إلى المذكور من الحكم من قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} ـ إلى قوله ـ {إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. و {أدنى} بمعنى أقرب، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظن، أي أقوى إلى الظن بالصدق.
وضمير {يأتوا} عائد إلى"الشهداء"، وهم:الآخران من غيركم، والآخران اللذان يقومان مقامهما، أي أن يأتي كل واحد منهم.فجمع الضمير على إرادة التوزيع.
والمعنى أن ما شرع الله من التوثيق والضبط، ومن رد الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظن بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين مما ينفى الغفلة والتساهل، بله الزور والجور مع توقي سوء السمعة.
ومعنى {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ} أن يؤدوا الشهادة.جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان.
ومعنى قوله {عَلَى وَجْهِهَا}، أي على سنتها وما هو مقوم تمامها وكمالها، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيها بوجه الإنسان ، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره.ولما أريد منه معنى الاستعارة لهذا المعنى،
(5/253)

وشاع هذا المعنى في كلامهم، قالوا:جاء بالشيء الفلاني على وجهه، فجعلوا الشيء مأتيا به، ووصفوه بأنه أتي به متمكنا من وجهه، أي من كمال أحواله.فحرف"على"للاستعلاء المجازي المراد منه التمكن، مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].والجار والمجرور في موضع الحال من {الشهادة} ، وصار ذلك قرينة على أن المراد من الوجه غير معناه الحقيقي.
وسنة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبت فيها والتنبه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخف بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيع الحقوق، أي ذلك يعلمهم وجه التثبت في التحمل والأداء وتوخي الصدق، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد.
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذار في الشهادة بالطعن أو المعارضة، فإن في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبت في مطابقة شهادتهم، للواقع لأن المعارضة والإعذار يكشفان عن الحق.
وقوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} عطف على قوله: {أَنْ يَأْتُوا} باعتبار ما تعلق به من المجرورات، وذلك لأن جملة {يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود، ولذلك قدرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة.فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم، وأفادت الجملة المعطوفة وازعا هو توقع ظهور كذبهم.ومعنى {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} أن ترجع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين.فالرد هنا مجاز في الانتقال، مثل قولهم:قلب عليه اليمين، فيعيروا به بين الناس، فحرف"أو"للتقسيم، وهو تقسيم يفيد تفضيل ما أجملته الإشارة في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى} الخ...وجمع {الأيمان} باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها، على أن العرب تعدل عن التثنية كثيرا.ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4].
وذيل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمة فقال: {واتقوا الله} الآية.
وقوله :{واسمعوا} أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازا، كما تقدم في قوله تعالى: {إذ قلتم سمعنا وأطعنا} في هذه السورة[7].
وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر
(5/254)

ونهى، وتحذير من مخالفة ذلك، لأن في اتباع أمر الله هدى وفي الإعراض فسقا .{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي المعرضين عن أمر الله، فإن ذلك لا يستهان به لأنه يؤدي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعد فلا تكونوهم وكونوا من المهتدين.
هذا تفسير الآيات توخيت فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ.وقد نقل الطيبي عن الزجاج أن هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب.وقال الفخر:"روى الواحدي عن عمر:هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام"وقال ابن عطية عن مكي بن أبي طالب:"هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما".قال ابن عطية:"وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها.وذلك بين من كتابه".
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنبت التعرض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها.وأخرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها.
وقد اشتملت على أصلين:أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بداء مع أولياء بديل بن أبي مريم.
فالأصل الأول:من قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}.
والأصل الثاني:من قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} إلى قوله: {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}. ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية مما يتهم فيه الشهود.
وقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية بيان لكيفية الشهادة، وهو يتضمن الأمر بها، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأن الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محل ثقتهم.
وأهم الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة:أحدها:استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين، على رأي من جعله المراد من قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وثانيها:تحليف الشاهد على أنه صادق في شهادته.وثالثها:تغليظ اليمين بالزمان.
فأما الحكم الأول:فقد دل عليه قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وقد بينا أن الأظهر أن الغيرية غيرية في الدين.وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين؛ فذهب الجمهور إلى أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى:
(5/255)

{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]وقوله :{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة :282] وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي.وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة، فمنهم من جعلها خاصة بالشهداة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون.وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه أيام قضائه بالكوفة، وقال:"هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".وهو قول سعيد بن المسيب، وابن جبير، وشريح، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسفيان الثوري، وجماعة، وهم يقولون:لا منسوخ في سورة المائدة، تبعا لابن عباس.ومنهم من تأول قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} على أنه من غير قبيلتكم، وهو قول الزهري، والحسن، وعكرمة.
وقال أحمد ابن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية، فقال بأن شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر ماضية، وزاد فجعلها بدون يمين.والأظهر عندي أن حكم الآية غير منسوخ، وأن قبول شهادة غير المسلمين خاص بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأن وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنها تعرض في حالة لا يستعد لها المرء من قبل فكان معذورا في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثق لها بغير ذلك؛ فكان هذا ا لحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلا في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أن قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مقطعا للحقوق.فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود:اتقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفذون.ولما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلا أن تزكيهم أمته وتسمهم بالصدق وهم كذبوا رسولنا، ولأن من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعل في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصة إذا كانت شهادته في حق لمن يخالفه في الدين، فإننا عهدنا منهم أنهم لا يتوخون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم.قال تعالى حكاية عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فمن أجل ذلك لم يكن مظنة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطا.وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من
(5/256)

قال الله في شأنه: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران:75]ولكن الحكم للغالب.
وأما حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته فلم يرد في المأثور إلا في هذا الموضع؛ فأما الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعا، وهو قول الجمهور.وأما الذين جعلوه محكما فقد اختلفوا، فمنهم من خص اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين، ومنهم من اعتبر بعلة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين.وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة، نعم قد يقال:هذا إذا تعذرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليوم، فلا يبعد أن يكون لتحليف الشاهد المستور الحال وجه في القضاء.والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
وأما حكم تغليظ اليمين فقد أخذ من الآية أن اليمين تقع بعد الصلاة، فكان ذلك أصلا في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ.وفي جميعها اختلاف بين العلماء.وليس في الآية ما يتمسك به بواحد من هذه الثلاثة إلا قوله :{مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} وقد بينت أن الأظهر أنه خاص بالوصية، وأما التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف.
[110,109] {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
جملة {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} استئناف ابتدائي متصل بقوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} ـ إلى قوله ـ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:185].وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، فبدل كثير منهم تبديلا بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم مما أحدثه أممهم بعدهم في الدين مما لم
(5/257)

يأذن به الله، والتخلص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته.وهذا متصل في الغرض بما تقدم من قوله تعالى :{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].فإن في تلك الآيات ترغيبا وترهيبا، وإبعادا وتقريبا، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى، وذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] وتفنن الانتقال إلى هذا المبلغ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجة على النصارى في مشهد يوم القيامة.ولقد جاء هذا مناسبا للتذكير العام بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108].ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلما تكرر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضا بإبطال دعوى أنه ابن لله تعالى.
ولأنه لما تم الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى، فإن الأديان وصايا الله إلى خلقه.قال تعالى :{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13].وقد سماهم الله تعالى شهداء في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
فقوله : {يَوْمَ يَجْمَعُ} ظرف، والأظهر أنه معمول لعامل محذوف يقدر بنحو:اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو يقدر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف، لأن الظرف إذا تقدم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جوابا.وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من التهويل، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طول التعبير فينبغي طيه.ويجوز أن يكون متعلقا بفعل
{قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا..} الخ، أي أن ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة.وأصل نظم الكلام:يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ.فغير نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليورد الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل.والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] وما بينهما اعتراض.ومن البعيد أن يكون الظرف متعلقا بقوله :{لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108] لأنه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة، ولأن جزالة الكلام تناسب استئنافه، ولأن تعلقه به غير واسع المعنى.
ومثله قول الزجاج:إنه متعلق بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:08] على أن {يوم}
(5/258)

مفعول لأجله، وقيل:بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:108] لأن جمع الرسل مما يشتمل عليه شأن الله، فالاستفهام في قوله :{مَاذَا أُجِبْتُمْ} مستعمل في الاستشهاد.ينتقل منه إلى لازمه، وهو توبيخ الذين كذبوا الرسل في حياتهم أو بدلوا وارتدوا بعد مماتهم.
وظاهر حقيقة الإجابة أن المعنى:ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم، أي ماذا تلقوا به دعواتكم، حملا على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [النمل:56].ويحمل قول الرسل: {لا عِلْمَ لَنَا} على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منا.أو هو تأدب مع الله تعالى لأن ما عدا ذلك مما أجابت به الأمم يعلمه رسلهم؛ فلا بد من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى.فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله، أي أن علمك سبحانك أعلى من كل علم وشهادتك أعدل من كل شهادة، فكان جواب الرسل متضمنا أمورا:أحدها:الشهادة على الكافرين من أممهم بأن ما عاملهم الله به هو الحق.الثاني:تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذين لا يجديهم.الثالث تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأن في قولهم: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، تعميما للتذكير بكل ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد.ويقال لمن يسأل عن شيء لا أزيدك علما بذلك، أو أنت تعرف ما جرى.وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده.
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل {لا عِلْمَ لَنَا} بأنهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل: {لا عِلْمَ لَنَا} محمولا على حقيقته ويكون محمل {ماذا} على قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} هو ما أجابوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدقين على تصديقهم أو نقص ذلك، ويعضد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وقول عيسى عليه السلام: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} الآية فإن المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل.وهو تأويل حسن.
وعبر في جواب الرسل بـ {قالوا} المفيد للمضي مع أن الجواب لم يقع، للدلالة على تحقيق أن سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقق بمنزلة الماضي في التحقق.على
(5/259)

أن القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأن زمان الوقوع يكون قد تعين بقرينة سياق المحاورة.
وقرأ الجمهور {الْغُيُوبِ} بضم الغين.وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمة إلى الباء، كما تقدم في بيوت في قوله تعالى :{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} من سورة النساء[15].
وفصل {قالوا} جريا على طريقة حكاية المحاورات،كما تقدم في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30].
وقوله : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ظرف، هو بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} بدل اشتمال، فإن يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها.والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذ هو تقريع اليهود والنصارى الذين ضلوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حب.
فقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} إلى قوله: {لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] استئناس لعيسى لئلا يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الخ...وهذا تقريع لليهود، وما بعدها تقريع للنصارى.والمراد من {اذْكُرْ نِعْمَتِي} الذكر بضم الذال وهو استحضار الأمر في الذهن.والأمر في قوله :{اذكر} للامتنان، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته.ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدها الله على عبده.ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنهم تنقصوها بأقذع مما تنقصوه.
والظرف في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} متعلق بـ {نعمتي} لما فيها من معنى المصدر، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت، وهو وقت التأييد بروح القدس.وروح القدس هنا جبريل على الأظهر.
والتأييد وروح القدس تقدما في سورة البقرة[87] عند قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}.
وجملة {تكلم} حال من الضمير المنصوب بـ {أيدتك} وذلك أن الله ألقى الكلام من الملك على لسان عيسى وهو في المهد، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكونه، وفي ذلك نعمة عليه، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها مما اتهمت به.
والجار والمجرور في قوله: {في المهد} حال من ضمير {تكلم}. و {كهلا}
(5/260)

معطوف على {فِي الْمَهْدِ} لأنه حال أيضا، كقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} [يونس:12] والمهد والكهل تقدما في تفسير سورة آل عمران.وتكليمه كهلا أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس، لأنه الذي يلقى إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه.
وقوله :{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} تقدم القول في نظيره في سورة آل عمران، وكذلك قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ إلى قوله وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} تقدم القول في نظيره هنالك.
إلا أنه قال هنا {فَتَنْفُخُ فِيهَا} وقال في سورة آل عمران[49] {فَأَنْفُخُ فِيهِ}. فعن مكي بن أبي طالب أن الضمير في سورة آل عمران عاد إلى الطير، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائدا إلى ما تقتضيه الآية ضرورة.أي بدلالة الاقتضاء.وذلك أن قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا، وكذلك الضمير المذكر في سورة آل عمران[49] يعود على المخلوق الذي يقتضيه {أخلق} وجعله في الكشاف عائدا إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكل ذلك ناظرا إلى أن الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلق {تنفخ} ، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائرا.
وقرأ نافع وحدهل {فَتَكُونُ طَائِراً} بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران.وتوجيهها هنا أن الضمير جرى على التأنيث فتعين أن يكون المراد وإذ تخلق، أي تقدر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائرا، أي كل هيئة تقدرها تكون واحدا من الطير.
وقرأ البقية"طيرا"بصيغة اسم الجمع باعتبار تعدد ما يقدره من هيئات كهيئة الطير.
وقال هنا {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} ولم يقل: {وَأُحْيِي1 الْمَوْتَى} ، كما قال في سورة آل عمران[49]، أي تخرجهم من قبورهم أحياء، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء، لأن الميت وضع في القبر لأجل كونه ميتا فكان إخراجه من القبر ملزوما لانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر.وقد سمى الله الإحياء خروجا في قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] وقال: {أئذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ
ـــــــ
1 في المطبوعة:"وتحيي"وهو خطأ.
(5/261)

مُخْرَجُونَ} 1[المؤمنون:35].
وقوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ} عطف على {إِذْ أَيَّدْتُكَ} وما عطف عليه.وهذا من أعظم النعم، وهي نعمة العصمة من الإهانة، فقد كف الله عنه بني إسرائيل سنين، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلة أنصاره، فصرفهم الله عن ضره حتى أدى الرسالة، ثم لما استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به، وماتت نفوسهم بغيظها.وقد دل على جميع هذه المدة الظرف في قوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فإن تلك المدة كلها مدة ظهور معجزاته بينهم.وقوله: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} تخلص من تنهية تقريع مكذبيه إلى كرامة المصدقين به.
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إياه على قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، لأن ذلك الادعاء قصدوا به التوسل إلى قتله، لأن حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام، فقد قرنت التوراة السحر وعرافة الجان بالشرك، كما جاء في سفر اللاويين في الإصحاح العشرين.
وقرأ الجمهور {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ} ، والإشارة بـ {هذا} إلى مجموع ما شاهدوه من البينات.وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف{إِلَّا سِحْرٌ}.والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ولا شك أن اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول.
[111] {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}. [المائدة:110]، فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل.فإن إيمان الحواريين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام.
والمراد بالوحي إلى الحواريين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه، فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى.ويجوز أن يكون الوحي الذي أوحي به إلى
ـــــــ
1 في المطبوعة ::أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمخرجون"وهو خطأ.
(5/262)

عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه.وخص الحواريون به هنا تنويها بهم حتى كأن الوحي بالدعوة لم يكن إلا لأجلهم، لأن ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف:14]؛ فكان الحواريون سابقين إلى الإيمان لم يترددوا في صدق عيسى.و {أن} تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريين.
وفصل جملة {قَالُوا آمَنَّا} لأنها جواب ما فيه معنى القول، وهو"أوحينا"، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدم في سورة البقرة، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنه خاطبهم فأجابوه.والخطاب في قولهم :{واشهد} لله تعالى وإنما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم، فحكى الله معناه بما يؤديه قوله: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}. وسمي إيمانهم إسلاما لأنه كان تصديقا راسخا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامة من آمن بالمسيح غيرهم، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى، وهو إيمان الأنبياء والصديقيين، وقد قدمت بيانه في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} في سورة آل عمران[67]، وفي تفسير قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة[132] فارجع إليه.
[113,112] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}
جملة {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلم الله به عيسى يوم يجمع الرسل، فيكون {إذ} ظرفا متعلقا بفعل {قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:111] فيكون مما يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أن سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر {قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]؛ فإن قولهم: {آمنا} قد يتكرر منهم بمناسبات، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى، أو عند ما يشاهدون آيات على يد عيسى، أو يقولونه لإعادة استحضار لإيمان شأن الصديقين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كل معاودة.آمنا واشهد بأننا مسلمون.وأما ما قرر به الكشاف ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به.
(5/263)

ويجوز أن يكون جملة {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} ابتدائية بتقدير:اذكر، على أسلوب قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} في سورة النمل[7]، فيكون الكلام تخلصا إلى ذكر قصة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة:111]وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أن ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشم منه كلفة أن يطيل خطابه طلبا لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود.
وجرى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر:هل تستطيع كذا، على معنى تطلب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأن السائل لا يحب أن يكلف المسؤول ما يشق عليه، وذلك كناية فلم يبق منظورا فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنه يشك في استطاعة المسؤول، وإنما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقق المسؤول أن السائل يعلم استطاعته.ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني: "أن رجلا قال لعبد الله ابن زيد:"أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ".فإن السائل يعلم أن عبد الله ابن زيد لا يشق عليه ذلك.فليس قول الحواريين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلا لفظا من لغتهم يدل على التلطف والتأدب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص.وليس شكا في قدرة الله تعالى ولكنهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس.فإن النفوس بالمحسوس آنس، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] شكا في الحال.وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية، والواحدي، والبغوي خلافا لما في الكشاف.
وقرأ الجمهور: {يستطيع} بياء الغيبة ورفع {ربك}. وقرأه الكسائي {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بتاء المخاطب ونصب الباء الموحدة من قوله: {ربك} على أن {ربك} مفعول به، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربك، فعبر بالاستطاعة عن طلب الطاعة، أي إجابة السؤال.وقيل:هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربك، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف في إعرابه.وفي رواية الطبري عن عائشة قالت:كان الحواريون أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا:هل يستطيع ربك، ولكن قالوا:هل تستطيع ربك.وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}.
(5/264)

واسم {مائدة} هو الخوان الموضوع عليه طعام، فهو اسم لمعنى مركب يدل على طعام وما يوضع عليه.والخوان بكسر الخاء وضمها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل، اتفقوا على أنه معرب.قال الجواليقي:"هو أعجمي".وفي حديث قتادة عن أنس قال: "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط، ولا في سكرجة"، قال فتادة:قلت لأنس:"فعلام كنتم تأكلون"قال:"على السفر"، وقيل:"المائدة اسم الطعام، وإن لم يكن في وعاء ولا على خوان".وجزم بذلك بعض المحققين من أهل اللغة، ولعله مجاز مرسل بعلاقة المحل.وذكر القرطبي أنه لم تكن للعرب موائد إنما كانت لهم السفرة.وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضب:لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله، إنما يعنى به الطعام الموضوع على سفرة.واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به.وسميت سفرة لأنها يتخذها المسافر.وإنما سأل الحواريون كون المائدة منزلة من السماء لأنهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون مما صنع في العالم الأرض ي فتعين أن تكون من عالم علوي.
وقول عيسى حين أجابهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان، ولذلك جاء بـ{إن} المفيدة للشك في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شك في صدق رسولهم، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ، أي ألم تكن غنيا عن طلب الدليل المحسوس.فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه.وقيل:نهاهم عن طلب المعجزات، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة.فأجابوه عن ذلك بأنهم ما أرادوا ذلك لضعف في إيمانهم إنما أرادوا التيمن بأكل طعام نزل من عند الله إكراما لهم، ولذلك زادوا {منها} ولم يقتصروا على {أَنْ نَأْكُلَ} إذ ليس غرضهم من الأكل دفع الجوع بل الغرض التشرف بأكل من شيء نازل من السماء.وهذا مثل أكل أبي من الطعام الذي أكل منه ضيفه في بيته حين انتظروه بالعشاء إلى أن ذهب جزء من الليل، وحضر أبو بكر وغضب من تركهم الطعام، فلما أخذوا يطعمون جعل الطعام يربو فقال أبو بكر لزوجه:"ما هذا يا أخت بني فراس؟".وحمل من الغد بعض ذلك الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه.
ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي بمشاهدة هذه المعجزة فإن الدليل الحسي أظهر في النفس، {ونعلم أن قد صدقنا}، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال
(5/265)

فيحصل لهم العلمان، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، أي من الشاهدين على رؤية هذه المعجزة فنبلغها من لم يشهدها.فهذه أربع فوائد لسؤال إنزال المائدة، كلها درجات من الفضل الذي يرغب فيه أمثالهم.
وتقديم الجار والمجرور في قوله: {عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} للرعاية على الفاصلة.
[115,114] {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}.
إن كان قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:112]من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} الخ...معترضة بين جملة {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111]وجملة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] الآية.
وإن كان قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} [المائدة:112] الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الآية مجاوبة لقول الحواريين: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} الآية على طريقة حكاية المحاورات.
وقوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} اشتمل على نداءين، إذ كان قوله: {ربنا} بتقدير حرف النداء.كرر النداء مبالغة في الضراعة.وليس قوله: {ربنا} بدلا ولا بيانا من اسم الجلالة، لأن نداء {اللهم} لا يتبع عند جمهور النحاة لأنه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال.ومن النحاة من أجاز إتباعه، وأياما كان فإن اعتباره نداء ثانيا أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى: {ربنا} مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران.
وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريين استعطافا لله ليجيب دعاءهم.
ومعنى {تَكُونُ لَنَا عِيداً} أي يكون تذكر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كل سنة عيدا، فإسناد الكون عيدا للمائدة إسناد مجازي، وإنما العيد اليوم الموافق
(5/266)

ليوم نزولها، ولذلك قال: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} ، أي لأول أمة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية.
والعيد اسم ليوم يعود كل سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار.وقد ورد ذكره في كلام العرب.وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم قال العجاج:
كما يعود العيد نصراني
مثل يوم السباسب في قول النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب ... وهو عيد الشعانين عند النصارى.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيدا في قوله لأبي بكر لما نهى الجواري اللاء كن يغنين عند عائشة: "إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا". وسمى يوم النحر عيدا في قوله: "شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة".
والعيد مشتق من العود، وهو اسم على زنة فعل، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة.وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس، لأن قياس الجمع أنه يرد الأشياء إلى أصولها، فقياس جمعه أعواد لكنهم جمعوه على أعياد، وصغروه على عييد، تفرقة بينه وبين جمع عود وتصغيره.
وقوله: {لأولنا} بدل من الضمير في قوله: {لنا} بدل بعض من كل، وعطف{وآخرنا} عليه يصير الجميع في قوة البدل المطابق.وقد أظهر لام الجر في البدل، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأن كون البدل تابعا للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع، ولهذا قال النحاة:"إن البدل على نية تكرار العامل"، أي العامل منوي غير مصرح به.وقد ذكر الزمخشري في المفصل أن عامل البدل قد يصرح به، وجعل ذلك دليلا على أنه منوي في الغالب ولم يقيد ذلك بنوع من العوامل، ومثله بقوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة} [الزخرف:33]، وبقوله في سورة الأعراف[75] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}. وقال في الكشاف في هذه الآية {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من {لنا} بتكرير العامل".وجوز البدل أيضا في آية الزخرف ثم قال:"ويجوز أن يكون
(5/267)

اللامان بمنزلة اللامين في قولك:وهبت له ثوبا لقميصه، يريد أن تكون اللام الأول ى متعلقة بـ {تكون} والثانية متعلقة بـ {عيدا}.
وقد استقريت ما بلغت إليه من موراد استعماله فتحصل عندي أن العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرر مع البدل، وأما العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجر خاصة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} في سورة الأعراف[75]، وآية سورة الزخرف، وقوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99].ذلك لأن حرف ا لجر مكمل لعمل الفعل الذي يتعلق هو به لأنه يعدي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدى إليه بمعنى مصدره، فحرف الجر ليس بعامل قوي ولكنه مكمل للعامل المتعلق هو به.
ثم إن علينا أن نتطلب الداعي إلى إظهار حرف الجر في البدل في مواقع ظهوره.وقد جعل ابن يعيش في شرح المفصل ذلك للتأكيد قال:"لأن الحرف قد يتكرر لقصد التأكيد".وهذا غير مقنع لنا لأن التأكيد أيضا لابد من داع يدعو إليه.
فما أظهر فيه حرف الجر من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إما قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات، وإما دفع اللبس، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلا يتوهم السامع أن من يتوهم أن"من آمن"من المقول وأن"من"استفهام فيظن أنهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم، ومعنى التأكيد حاصل على كل حال لأنه ملازم لإعادة الكلمة.وأما ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام، نحو:أين تنزل أفي الدار أم في الحائط، ومن ذا أسعيد أم علي.
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنهم ذكروا أن عيسى عليه السلام أكل مع الحواريين على مائدة ليلة عيد الفصح، وهي الليلة التي يعتقدون أنه صلب من صباحها.فلعل معنى كونها عيدا أنها صيرت يوم الفصح عيدا في المسيحية كما كان عيدا في اليهودية، فيكون ذلك قد صار عيدا باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحدا لأن المسيحيين وفقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية.
وجملة {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا} جواب دعاء عيسى، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة.وأكد الخبر بـ {إن} تحقيقا للوعد.والمعنى إني منزلها عليكم الآن، فهو
(5/268)

استجابة وليس بوعد.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ} تفريع عن إجابة رغبتهم، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاما بأهمية الإيمان عند الله تعالى، فجعل جزاء إجابته إياهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عذبوا عذابا أشد من عذاب سائر الكفار لأنهم تعاضد لديهم دليل العقل والحس فلم يبق لهم عذر.
والضمير المنصوب في قوله: {لا أُعَذِّبُهُ} ضمير المصدر، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولا به، أي لا أعذب أحدا من العالمين ذلك العذاب، أي مثل ذلك العذاب.
وقد وقفت قصة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنه لا أثر له في المراد من القصة، وهو العبرة بحال إيمان الحواريين وتعلقهم بما يزيدهم يقينا، وبقربهم إلى ربهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم، وعلى ضراعة المسيح الدالة على عبوديته، وعلى كرامته عند ربه إذ أجاب دعوته، وعلى سعة القدرة.وأما تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه.وقد أكثر فيه المفسرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمار بن ياسر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما" الحديث.قال الترمذي: "هذا الحديث رواه غير واحد عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا".
واختلف المفسرون في أن المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل.فعن مجاهد والحسن أنهم لما سمعوا قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل.وقال الجمهور:"نزلت".وهو الظاهر لأن قوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} وعد لا يخلف، وليس مشروطا بشرط ولكنه معقب بتحذير من الكفر، وذلك حاصل أثره عند الحواريين وليسوا ممن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل.
وأما النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل.
[116ـ118] {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
(5/269)

إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{وإذ قال الله} عطف على قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس مما قاله في الدنيا، لأن عبادة عيسى حدثت بعد رفعه، ولقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}. فقد أجمع المفسرون على أن المراد به يوم القيامة.وأن قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} قول يقوله يوم القيامة.وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فرغ من تقريع اليهود من قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] إلى هنا.وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدم عند قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} الآية، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109] والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} يدل على أن الاستفهام متوجه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أن الخبر حاصل لا محالة.فقول قائلين:اتخذوا عيسى وأمه إلهين، واقع.وإنما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضا بالإرهاب والوعيد بتوجه عقوبة إلى من قال هذا القول إن تنصل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنهم المراد بذلك.
والمعنى أنه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنهم زعموا أنهم يتبعون أقوال عيسى وتعاليمه، فلو كان هو القائل لقال:اتخذوني وأمي، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية.والمراد بالناس أهل دينه.
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {اتخذوني} ، وحرف {من} صلة وتوكيد.وكلمة {دون} اسم للمكان المجاوز، ويكثر أن يكون مكانا مجازيا مرادا به المغايرة، فتكون بمعنى"سوى".وانظر ما تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76].والمعنى اتخذوني وأمي إلهين سوى الله.
(5/270)

وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ1 وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهية الله.
وذكر هذا المتعلق إلزاما لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأن النصارى لما ادعوا حلول الله في ذات عيسى توزعت الإلهية وبطلت الوحدانية.وقد تقدم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في هذه السورة[17].
وجواب عيسى عليه السلام بقوله: {سبحانك} تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة.وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهم من تبرئته نفسه، على أنها مقدمة للتبري لأنه إذا كان ينزه الله عن ذلك فلا جرم أنه لا يأمر به أحدا.وتقدم الكلام على {سبحانك} في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} في سورة البقرة[32].
وبرأ نفسه فقال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ؛ فجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} مستأنفة لأنها جواب السؤال.وجملة {سبحانك} تمهيد.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي} مبالغة في التبرئة من ذلك، أي ما يوجد لدي قول ما ليس لي بحق فاللام في قوله: {مَا يَكُونُ لِي} للاستحقاق، أي ما يوجد حق أن أقول.وذلك أبلغ من لم أقله لأنه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول.
والباء في قوله: {بحق} زائدة في خبر {ليس} لتأكيد النفي الذي دلت عليه {ليس}. واللام في قوله: {لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} متعلقة بلفظ {حق} على رأي المحققين من النحاة أنه يجوز تقديم المتعلق على متعلقه المجرور بحرف الجر.وقدم الجار والمجرور للتنصيص على أنه ظرف لغو متعلق{بحق}لئلا يتوهم أنه ظرف مستقر صفة لـ{حق}حتى يفهم منه أنه نفى كون ذلك حقا له ولكنه حق لغيره الذين قالوه وكفروا به، وللمبادرة بما يدل على تنصله من ذلك بأنه ليس له.وقد أفاد الكلام تأكيد كون ذلك ليس حقا له بطريق المذهب الكلامي لأنه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحق له، فعلم أن ذلك ليس حقا له وأنه لم يقله لأجل كونه كذلك.فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنن.
ـــــــ
1 في المطبوعة:"ما لا ينفعهم ولا يضرهم"وهو خطأ,والمثبت هو الموافق للمصحف.
(5/271)

ثم ارتقى في التبرئ فقال: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ، فالجملة مستأنفة لأنها دليل وحجة لمضمون الجملة التي قبلها، فكانت كالبيان فلذلك فصلت.والضمير المنصوب في {قلته} عائد إلى الكلام المتقدم.ونصب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]، فاستدل على انتفاء أن يقوله بأن الله يعلم أنه لم يقله، وذلك لأنه يتحقق أنه لم يقله، فلذلك أحال على علم الله تعالى.وهذا كقول العرب: يعلم الله أني لم أفعل، كما قال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم الله وأني لحرها اليوم صال
ولذلك قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ، فجملة {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} بيان لجملة الشرط {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فلذلك فصلت.
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان ، إنسان وهي الروح الإنسان، وتطلق على الذات.والمعنى هنا:تعلم ما أعتقده، أي تعلم ما أعلمه لأن النفس مقر العلوم في المتعارف.
وقوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} اعتراض نشأ عن {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كل حال.وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرئ والتنصل، فلذلك تكون الواو اعتراضية.
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطلع عليه غيره، أي ولا أعلم ما تعلمه، أي مما انفردت بعمله.وقد حسنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف.
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف؛ فمن العلماء من منع ذلك واليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح المفتاح والتلخيص.وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]من قبيل المتشابه.ومن العلماء من جوز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في التفسير عند قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في سورة الأنعام[54]، ويشهد له تكرر استعماله في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي:"فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي".
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} علة لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ولذلك جيء
(5/272)

بـ"إن"المفيدة التعليل.وقد جمع فيه أربع مؤكدات وطريقة حصر، فضمير الفصل أفاد الحصر، وإن، وصيغة الحصر، وجمع الغيوب، وأداة الاستغراب.
وبعد أن تبرأ من أن يكون أمر أمته بما اختلقوه انتقل فبين أنه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} ، فقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} ارتقاء في الجواب، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ} الخ...صرح هنا بما قاله لأن الاستفهام عن مقاله.والمعنى:ما تجاوزت فيما قلت حد التبليغ لما أمرتني به، فالموصول وصلته هو مقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} وهو مفرد دال على جمل، فلذلك صح وقوعه منصوبا بفعل القول.
و {أن} مفسرة {أمرتني} لأن الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} تفسيرية لـ {أمرتني}. واختير {أمرتني} على"قلت لي"مبالغة في الأدب.ولما كان {أمرتني} متضمنا معنى القول كانت جملة {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} هي المأمور بأن يبلغه لهم فالله قال له: قل لهم اعبدوا الله ربي وربكم.فعلى هذا يكون {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} من مقول الله تعالى لأنه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبر عن ذلك بفعل {أَمَرْتَنِي بِهِ} صح تفسيره بحرف {أن} التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله.فلا حاجة إلى ما تكلف به في الكشاف على أن صاحب الانتصاف جوز وجها آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى، فيكون الله تعالى قال له:"قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم.فلما حكاه عيسى قال:اعبدوا الله ربي وربكم"اهـ.وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالا لحكاية القول بالمعنى.وأقول:هو استعمال فصيح.فال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في سورة الأنعام[6]:"إذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له:فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة"اهـ.وعندي أنه ضعيف في هذه الآية.
ثم تبرأ من تبعتهم فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت مشاهدا لهم ورقيبا يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء.
و {مَا دُمْتُ} "ما"فيه ظرفية مصدرية، و"دام"تامة لا تطلب منصوبا، و {فيهم}
(5/273)

متعلق بـ {دُمْتُ}، أي بينهم، وليس خبرا لـ"دام"على الأظهر، لأن"دام"التي تطلب خبرا هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معين هو مضمون خبرها، أما هي هنا فهي بمعنى البقاء، أي ما بقيت فيهم، أي ما بقيت في الدنيا.
ولذلك فرع عنه قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ، أي فلما قضيت بوفاتي، لأن مباشر الوفاة هو ملك الموت.والوفاة الموت، وتوفاه الله أماته، أي قضى به وتوفاه ملك الموت قبض روحه وأماته.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في سورة آل عمران[55]والمعنى:أنك لما توفيتني قد صارت الوفاة حائلا بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم، ولذلك قال: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ، فجاء بضمير الفصل الدال على القصر، أي كنت أنت الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتصال.والمعنى أنك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت.وقد أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وهداهم بكل وجوه الاهتداء.وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة.
وقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفا على ما تقدم لئلا يكون في حكم جواب {لما}.
وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فوض أمرهم إلى الله فهو أعلم بما يجازيهم به لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم، وغاية ما عرض به عيسى أنه جوز المغفرة لهم رحمة منه بهم.
وقوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ذكر العزيز كناية عن كونه يغفر عن مقدرة، وذكر الحكيم لمناسبته للتفويض، أي المحكم للأمور العالم بما يليق بهم.
[119] {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
جواب عن قول عيسى، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار.والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة.
وجملة {يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} مضاف إليها {يوم}، أي هذا يوم نفع الصدق.وقد قرأ غير نافع من العشرة {يَوْمُ} مضموما ضمة رفع لأنه خبر {هذا}. وقرأه نافع
(5/274)

ـ مفتوحاـ على أنه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية.وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوغ بناءه على الفتح، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر، كقول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية، وهو التحقيق.وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أن مضمونها يحصل فيه، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذ.وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا، فنفع كليهما يظهر يومئذ؛ فأما نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه، وأما نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنب غضبه على الذي يكذبه فلا حيرة في معنى الآية.
والمراد بـ {الصادقين} الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه.ومن أول مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر مما قام عليه الدليل العقلي أو الشرعي.قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [119]
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أن ذلك اليوم يوم الحق فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأن الصدق حسن فلا يكون له في الحق إلا الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحق والباطل فإن الحق قد يجر ضرا لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما أطلع عليه أحد.وأما ما يترتب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة.وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حسن مغبته في الدنيا.
ومعنى نفع الصدق أنه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبر عنه حسن فيكون نفعا محضا وعليه جزاءان، كما في قول عيسى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116] إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإن الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحا لأنه قد حصل قبيحا سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقا أثرا قبيحا مثله.وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخف عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه.
وجملة {لَهُمْ جَنَّاتٌ} مبينة لجملة {ينفع} باعتبار أنها أكمل أحوال نفع الصدق.
(5/275)

وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} صفة لـ {جنات} و {خالدين} حال.وكذلك جملة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
ومعنى {َرَضُوا عَنْهُ} المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنة ورضوانه.وأصل الرضا أنه ضد الغضب، فهو المحبة وأثرها من الإكرام والإحسان.فرضى الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبته في قوله: {يحبهم}. ورضى الخلق عن الله هو محبته وحصول ما أملوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلع.
واسم الإشارة في قوله: {ذلك} لتعظيم المشار إليه، وهو الجنات والرضوان.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]
تذييل مؤذن بانتهاء الكلام، لأن هذه الجملة جمعت عبودية كل الموجودات لله تعالى، فناسبت ما تقدم من الرد على النصارى، وتضمنت أن جميعها في تصرفه تعالى فناسبت كما تقدم من جزاء الصادقين.وفيها معنى التفويض لله تعالى في كل ما ينزل، فآذنت بانتهاء نزول القرآن على القول بأن سورة المائدة أخر ما نزل، وباقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما في الآية من معنى التسليم لله وأنه الفعال لما يريد.وتقديم المجرور باللام مفيد للقصر أي له لا لغيره.
وجيء بالموصول"ما"في قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} دون"من"لأن"ما"هي الأصل في الموصول المبهم فلم يعتبر تغليب العقلاء، وتقديم المجرور بـ"على"في قوله :{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} للرعاية على الفاضلة المبنية على حرفين بينهما حرف مد. {وَمَا فِيهِنَّ} عطف على {ملك} أي لله ما في السماوات والأرض، كما في سورة البقرة[248] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فيفيد قصرها على كونها لله لا لغيره.وليس معطوفا على السماوات والأرض إذ لا يحسن أن يقال: لله ملك ما في السماوات والأرض لأن الملك يضاف إلى الأقطار والآفاق والأماكن كما حكى الله تعالى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51].ويضاف إلى صاحب الملك كما في قوله: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] ويقال:في مدة ملك الآشوريين أو الرومان.
(5/276)

المجلد السادس
سورة الأنعام
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانعام
ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد" .وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت يزيد بن السكن، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام.وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة.
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} إلى قوله: { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:136ـ144]
وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس:أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة، كما رواه عنه عطاء، وعكرمة، والعوفي، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم آنفا.وروي أن قوله تعالى : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52} الآية نزل في مدة حياة أبي طالب، أي قبل سنة عشر من البعثة، فإذا صح كان ضابطا لسنة نزول هذه السورة.وروى الكلبى عن ابن عباس:"أن ست آيات منها نزلت بالمدينة"، ثلاثا من قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] إلى منتهى ثلاث آيات، وثلاثا من قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152,151].وعن أبي جحيفة أن آية {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام:111] مدنية.
وقيل نزلت آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام:93]
(6/5)

الآية بالمدينة،بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي.وقيل:نزلت آية {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [الأنعام:20] الآية، وآية {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] الآية، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي.وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] الآية:"أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] الآية، أي سنة عشر، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها".وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية من هذه السورة[91]:"إن النقاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية".ولكن قال ابن الحصار:"لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة".وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد، والبيهقي، وابن مردويه، والطبراني، عن ابن عباس؛ وأبو الشيخ عن أبي بن كعب.وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم.
وروى سفيان الثوري، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية:نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة.ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن تابع في العقبة الثانية حتى يقال:إنها لقيته قبل الهجرة، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي.فحال هذا الحديث غير بين.ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ.
قالوا:ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها.وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا، فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا، فأنزل الله سورة الأنعام.وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور، ليعلموا أن الله قادر على ذلك، إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة.وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط، فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل:"وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب الخ .
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد:
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
(6/6)

واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها، لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة، فيكون نزول تلك الآيات مسببا على تلك الحوادث، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات.على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه.
وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور.نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات.
وعدد آياتها مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي، ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري.
أغراض هذه السورة
ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنه المتفرد بالإلهية.وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه، ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما.وتنزيه الله عن الولد والصاحبة.قال أبو إسحاق الإسفرائيني:"في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد".
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق، وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى، وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم.ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم، ثم عند البعث.
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكما.
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله.وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق.
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث، وتحقيق أنه واقع، وأنهم يشهدون بعده العذاب، وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها، وسيندمون على ذلك، كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا، فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب.
(6/7)

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه،وأمره بالإعراض عنهم.
وبيان حكمة إرسال الله الرسل،وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات.
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله.وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال.
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية.
وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر.
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات.
وتخللت ذلك قوارع للمشركين، وتنويه بالمؤمنين، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله، وذكر مفاتح الغيب.
قال فخر الدين:"قال الأصوليون أي علماء أصول الدين":السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة."
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله :
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام:136]،وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال:"إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام[140 ] : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ".
ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن
(6/8)

ابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأسماء بنت يزيد.
بسم الله الرحمن الرحيم
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}
جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنها تدل على الحصر.واللام لتعريف الجنس، فدلت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى.وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة.
ثم إن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هنا خبر لفظا ومعنى إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنه عقب بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]إلى آخر السورة،فمن جوز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يجد التأمل.
فالمعنى هنا أن الحمد كله لا يستحقه إلا الله، وهذا قصر إضافي للرد على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيلوه من إسدائها إليهم نعما ونصرا وتفريج كربات، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحد:"اعل هبل لنا العزى ولا عزى لكم".ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا على معنى الكمال وأن حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه.والمقصود هو هو، وهو الرد على المشركين، لأن الأصنام لا تستحق الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}. ولذلك عقبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
والموصول،في محل الصفة لاسم الجلالة، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عم السماوات والأرض وما فيهن من الجواهر والأعراض.وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى.وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت.والجملة الخبرية لا تعلل، لأن الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله.فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعد:
(6/9)

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
وجمع {السماوات} لأنها عوالم كثيرة، إذ كل كوكب منها عالم مستقل عن غيره، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى.وأفرد الأرض لأنها عالم واحد، ولذلك لم يجيء لفظ الأرض في القرآن جمعا.
وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أشار في الكشاف أن"جعل"إذا تعدى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى"خلق".والفرق بينه وبين"خلق"؛ فإن في الخلق ملاحظة معنى التقدير، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب، يعني كون المجعول مخلوقا لأجل غيره أو منتسبا إلى غيره، فيعرف المنتسب إليه بمعونة المقام.فالظلمات والنور لما كانا عرضين كان خلقهما تكوينا لتكيف موجودات السماوات والأرض بهما.ويعرف ذلك بذكر {الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} عقب ذكر {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}, وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض،ولفظ الجعل للظلمات والنور،ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]فإن الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر،ولذلك عقبه بقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] والخلق أعم في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] لأن كل تكوين لا يخلو من تقدير ونظام.
وخص بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين، وهما:الظلمات والنور فقال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما.وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض.فالتفرقة بين فعل"خلق"وفعل"جعل"هنا معدود من فصاحة الكلمات.وإن لكل كلمة مع صاحبتها مقاما، وهو ما يسمى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل"خلق"أليق بإيجاد الذوات، وفعل"جعل"أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها.
والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنهم بيم مشركين وصابئة ومجوس ونصارى، وكلهم قد أثبتوا آلهة غير الله؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض، والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرض ية، والمجوس وهم المانوية ألهوا النور والظلمة، فالنور إله الخير والظلمة إله الشر عندهم.فأخبرهم الله تعالى أنه خالق
(6/10)

السماوات والأرض، أي بما فيهن، وخالق الظلمات والنور.
ثم أن في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضا بحالي المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق، فأن الكفر يشبه الظلمة لأنه انغماس في جهالة وحيرة، والإيمان يشبه النور لأنه استبانة الهدى والحق.قال تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وقدم ذكر الظلمات مراعاة للترتب في الوجود لأن الظلمة سابقة النور، فإن النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة، وكانت الظلمة عامة.وإنما جمع {الظلمات} وأفرد {النور} اتباعا للاستعمال، لأن لفظ"الظلمات"بالجمع أخف، ولفظ"النور"بالإفراد أخف، ولذلك لم يرد لفظ"الظلمات"في القرآن إلا جمعا ولم يرد لفظ"النور"إلا مفردا.وهما معا دالان على الجنس، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتباع الاستعمال، خلافا لما في الكشاف.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
عطفت جملة {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} على جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. فـ {ثم} للتراخي الرتبي الدال على أن ما بعدها يتضمن معنى من نوع ما قبله، وهو أهم في بابه.وذلك شأن"ثم"إذا وردت عاطفة جملة على أخرى، فإن عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك.
والحجة ناهضة على الذين كفروا لأن جميعهم عدا المانوية يعترفون بأن الله هو الخالق والمدبر للكون، ولذلك قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]
والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع {ثم} ودلالة المضارع على التجدد، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأما المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته.فالمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} كل من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكا مثل مشركي العرب والصابة ومن خص غير الله بالإلهية كالمانوية.وهذا المراد دلت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين.
ومعنى {يعدلون} يسوون.والعدل:التسوية.تقول:عدلت فلانا بفلان، إذا سويته
(6/11)

به، كما تقدم في قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95]، فقوله: {بربهم} متعلق بـ {يعدلون} ولا يصح تعليقه بـ{ الَّذِينَ كَفَرُوا} لعدم الحاجة إلى ذلك.وحذف مفعول {يعدلون} ، أي يعدلون بربهم غيره وقد علم كل فريق ماذا عدل بالله.والمراد يعدلونه بالله في الإلهية، وإن كان بعضهم يعترف بأن الله أعظم كما كان مشركوا العرب يقولون:"لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك".وكما قالت الصابئة في الأرواح، والنصارى في الابن والروح القدس.
ومعنى التعجيب عام في أحوال الذين ادعوا الإلهية لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلا للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلا لذلك، لأن محل التعجيب أنه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهية غيره.ومعلوم أن التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم.
[2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}
استئناف لغرض آخر للتعجيب من حال المشركين إذ أنكروا البعث، فإنه ذكرهم ابتداء بخلق السماوات والأرض، وعجب من حالهم في تسويتهم ما لم يخلق السماوات ولا الأرض بالله تعالى في الإلهية.ثم ذكرهم بخلقهم الأول، وعجب من حالهم كيف جمعوا بين الاعتراف بأن الله هو خالقهم الخلق الأول فكيف يمترون في الخلق الثاني.
وأتي بضمير"هو"في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معا، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلقها، أي هو خالقكم لا غيره، من طين لا من غيره، وهو الذي قضى أجلا وعنده أجل مسمى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور.والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنهم لما أنكروه وهو الخلق الثاني نزلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسر كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [ الروم:27] وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15].والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم، فهو كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40].
(6/12)

والخطاب في قوله: {خلقكم} موجه إلى الذين كفروا، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.
وذكر مادة ما منه الخلق بقوله: {مِنْ طِينٍ} لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني، لأنهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابا.وتكررت حكاية ذلك عنهم في القرآن، فقد اعترفوا بأنهم يصيرون ترابا بعد الموت، وهم يعترفون بأنهم خلقوا من تراب، لأن ذلك مقرر بين الناس في سائر العصور، فاستدلوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالا على إمكان البعث، لأن مصيرهم إلى تراب يقرب إعادة خلقهم، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأول، فلذلك قال الله هنا {هو الذي خلقكم من طين} وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان:2]، وأمثال ذلك.
وهذا القدح في استدلالهم يسمى في اصطلاح علم الجدل القول بالموجب، والمنبه عليه من خطأ استدلالهم يسمى فساد الوضع.
ومعنى {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أنه خلق أصل الناس وهو البشر الأول من طين، فكان كل البشر راجعا إلى الخلق من الطين، فلذلك قال: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}. وقال في موضع آخر: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان:2] أي الإنسان المتناسل من أصل البشر.
و {ثم} للترتيب والمهلة عاطفة فعل {قضى} على فعل {خلق} فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة.والمهلة هنا باعتبار التوزيع، أي خلق كل فرد من البشر ثم قضى له أجله، أي استوفاه له، فـ {قضى} هنا ليس بمعنى"قدر"لأن تقدير الأجل مقارن للخلق أو سابق له وليس متأخرا عنه ولكن {قضى} هنا بمعنى"أوفى"أجل كل مخلوق كقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14]، أي أمتناه.ولك أن تجعل"ثم"للتراخي الرتبي.
وإنما اختير هنا ما يدل على تنهية أجل كل مخلوق من طين دون أن يقال إلى أجل، لأن دلالة تنهية الأجل على إمكان الخلق الثاني، وهو البعث، أوضح من دلالة تقدير الأجل، لأن التقدير خفي والذي يعرفه الناس هو انتهاء أجل الحياة، ولأن انتهاء أجل الحياة مقدمة للحياة الثانية.
(6/13)

وجملة {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} معترضة بين جملة {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً}. وجملة {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} ثم أنتم تمترون(.وفائدة هذا الاعتراض إعلام الخلق بأن الله عالم آجال الناس ردا على قول المشركين: {مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
وقد خولفت كثرة الاستعمال في تقديم الخبر الظرف على كل مبتدأ نكرة موصوفة، نحو قوله تعالى: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [صّ:23]، حتى قال صاحب الكشاف:"إنه الكلام السائر، فلم يقدم الظرف في هذه الآية لإظهار الاهتمام بالمسند إليه حيث خولف الاستعمال الغالب من تأخيره فصار بهذا التقديم تنكيره مفيدا لمعنى التعظيم، أي وأجل عظيم مسمى عنده".
ومعنى {مسمى} معين، لأن أصل السمة العلامة التي يتعين بها المعلم.والتعيين هنا تعيين الحد والوقت.
والعندية في قوله: {عنده} عندية العلم، أي معلوم له دون غيره.فالمراد بقوله: {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} أجل بعث الناس إلى الحشر، فإن إعادة النكرة بعد نكرة يفيد أن الثانية غير الأول ى، فصار:المعنى ثم قضى لكم أجلين:أجلا تعرفون مدته بموت صاحبه، وأجلا معين المدة في علم الله.
فالمراد بالأجل الأول عمر كل إنسان، فإنه يعلمه الناس عند موت صاحبه، فيقولون:عاش كذا وكذا سنة، وهو وإن كان علمه لا يتحقق إلا عند انتهائه فما هو إلا علم حاصل لكثير من الناس بالمقايسة.والأجل المعلوم وإن كان قد انتهى فإنه في الأصل أجل ممتد.
والمراد بالأجل الثاني ما بين موت كل أحد وبين يوم البعث الذي يبعث فيه جميع الناس، فإنه لا يعلمه في الدنيا أحد ولا يعلمونه يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45]، وقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} عطفت على جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين} ، فحرف {ثم} للتراخي الرتبي كغالب وقوعها في عطف الجمل لانتقال من خبر إلى أعجب منه، كما تقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1}، أي فالتعجيب حقيق ممن يمترون في أمر البعث مع علمهم بالخلق الأول وبالموت.والمخاطب بقوله:
(6/14)

{أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} هم المشركون.وجيء بالمسند إليه ضميرا بارزا للتوبيخ.
والامتراء الشك والتردد في الأمر، وهو بوزن الافتعال، مشتق من المرية بكسر الميم اسم للشك، ولم يرد فعله إلا بزيادة التاء، ولم يسمع له فعل مجرد.
وحذف متعلق {تمترون} لظهوره من المقام، أي تمترون في إمكان البعث وإعادة الخلق.والذي دل على أن هذا هو المماري فيه قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} إذ لولا قصد التذكير بدليل إمكان البعث لما كان لذكر الخلق من الطين وذكر الأجل الأول والأجل الثاني مرجح للتخصيص بالذكر.
[3] {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
عطف على قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم، فهو يعلم أحوالكم كلها.
فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف.وقوله {الله} خبر عن المبتدأ.وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر، فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ} [الأنعام:1} فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده، ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا.وإذ هو عالم السر والجهر، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما.ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله: {وَهُوَ اللَّهُ} في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره.
وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} متعلق بالكون المستفاد من جملة القصر، أو بما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:1] من معنى الانفراد بالإلهية، كما يقول من يذكر جوادا ثم يقول:هو حاتم في العرب، وهذا لقصد التنصيص على أنه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلها.
وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} جملة مقررة لمعنى جملة {وهو الله} ولذلك
(6/15)

فصلت، لأنها تتنزل منها منزلة التوكيد لأن انفراده بالإلهية في السماوات و في الأرض مما يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية.
ولا يجوز تعليق {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} بالفعل في قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} لأن سر الناس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصة دون السماوات، فمن قدر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيا.
وذكر السر لأن علم السر دليل عموم العلم، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال.والمراد بـ {ما تكسبون} جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد.
والخطاب لجميع السامعين؛ فدخل فيه الكافرون، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب، لأنه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين.
[4] {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}
هذا انتقال إلى كفران المشركين في تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أقيمت عليهم الحجة ببطلان كفرهم في أمر الشرك بالله في الإلهية، وقد عطف لأن الأمرين من أحوال كفرهم ولأن الذي حملهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم هو دعوته إياهم إلى التوحيد، فمن أجله نشأ النزاع بينهم وبينه فكذبوه وسألوه الآيات على صدقه.
وضمائر جمع الغائبين مراد منها المشركون الذين هم بعض من شملته ضمائر الخطاب في الآية التي قبلها، ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم، تنصيصا على ذلك، وإعراضا عن خطابهم، وتمحيضا للخطاب للمؤمنين، وهو من أحسن الالتفات، لأن الالتفات يحسنه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المراد منه تجديد نشاط السامع.وتكون الواو استئنافية وما بعدها كلاما مستأنفا ابتدائيا.
واستعمل المضارع في قوله:{تأتيهم}للدلالة على التجدد وإن كان هذا الإتيان ماضيا أيضا بقرينة المضي في قوله: {إلا كانوا} .
والمراد بإتيانها بلوغها إليهم وتحديهم بها، فشبه البلوغ بمجيء الجائي، كقول النابغة:
(6/16)

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وحذف ما يدل على الجانب المأتي منه لظهوره من قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} ، أي ما تأتيهم من عند ربهم آية من آياته إلا كانوا عنها معرضين.
و {من} في قوله: {مِنْ آيَةٍ} لتأكيد النفي لقصد عموم أنواع الآيات التي أتت وتأتي.و {من} التي في قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} تبعيضية.والمراد بقوله: {مِنْ آيَةٍ} كل دلالة تدل على انفراد الله تعالى بالإلهية.من ذلك آيات القرآن التي لإعجازها لهم كانت دلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من الوحدانية.وكذلك معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام مثل انشقاق القمر.وتقدم معنى الآية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة[39].
وإضافة الرب إلى ضمير{هم}لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحق العبودية، لأن من حق العبد أن يقبل على ما يأتيه من ربه وعلى من يأتيه يقول له:إني مرسل إليك من ربك، ثم يتأمل وينظر، وليس من حقه أن يعرض عن ذلك إذ لعله يعرض عما إن تأمله علم أنه من عند ربه.
والاستثناء مفرغ من أحوال محذوفه.
وجملة {كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في موضع الحال.واختير الإتيان في خبر كان بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن هذا الإعراض متحقق من دلالة فعل الكون، ومتجدد من دلالة صيغة اسم الفاعل لأن المشتقات في قوة الفعل المضارع.والاستثناء دل على أنهم لم يكن لهم حال إلا الإعراض.
وإنما ينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمل، فهو دليل على أن المعرض مكذب للمخبر المعرض عن سماعه.
وأصل الإعراض صرف الوجه عن النظر في الشيء.وهو هنا مجاز في إباء المعرفة، فيشمل المعنى الحقيقي بالنسبة إلى الآيات المبصرات كانشقاق القمر، ويشمل ترك الاستماع للقرآن، ويشمل المكابرة عن الاعتراف بإعجازه وكونه حقا بالنسبة للذين يستمعون القرآن ويكابرونه، كما يجئ في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}. وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة.
(6/17)

[5] {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدر نشأ عن قوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} ، أي إذا تقرر هذا الإعراض ثبت أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم من عند الله، فإن الإعراض علامة على التكذيب، كما قدمته آنفا، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء.ومعناه أن من المعلوم للأمم سوء عواقب الذين كذبوا بالحق الآتي من عند الله فلما تقرر في الآية السابقة أنهم أعرضوا عن آيات الله فقد ثبت أنهم كذبوا بالحق الوارد من الله، ولذلك فرع عليه قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} تأكيدا لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كله وإنذار للمشركين بأن سيحل بهم ما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم ممن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرس.
وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعا محضا وجعل ما يعدها علة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلته كما هو ظاهر الكشاف، وهي مضمون {فَقَدْ كَذَّبُوا} بأن يقدر:فلا تعجب فقد كذبوا بالقرآن، لأن من قدر ذلك أوهمه أن تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن.وهذا تخصيص لعموم قوله: {مِنْ آيَةٍ} بلا مخصص، فإن القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولا، وقد علمت أن {فَقَدْ كَذَّبُوا} هو الجزاء وأن له موقعا عظيما من بلاغة الإيجاز، على أن ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} ما عدا القرآن.وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها.
والفاء في قوله: {فسوف} فاء التسبب على قوله: {كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} ، أي يترتب على ذلك إصابتهم بما توعدهم به الله.
وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل.واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة.والأنباء جمع نبإ، وهو الخبر الذي له أهمية.وأطلق النبأ هنا على تحقيق مضمون الخبر، كقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صّ:88]، أي تحقق نبئه، لأن النبأ نفسه قد علم من قبل.
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو القرآن، كقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُؤاً} فإن القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف، وعذاب الآخرة.فتلك أنباء أنبأهم بها فكذبوه واستهزئوا به فتوعدهم الله بأن تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها.فلما قال لهم: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} علموا أنها أنباء القرآن لأنهم يعلمون أنهم يستهزئون بالقرآن
(6/18)

وعلم السامعون أن هؤلاء كانوا مستهزئين بالقرآن.وتقدم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .
[6] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}
هذه الجملة بيان لجملة {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدل حالها على أنها مسلطة عليهم من الله عقابا لهم على التكذيب.
والرؤية يجوز أن تكون قلبية، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم، ويجوز أن تكون بصرية بتقدير:ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحجر ثمود، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم، وحدثوا عنها الناس حتى توارترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحققتها نفوسهم.
وعلى كلا الوجهين ففعل {يروا} معلق عن العمل في المفعولين أو المفعول، باسم الاستفهام وهو {كم} .
و"كم"اسم للسؤال عن عدد مبهم فلابد بعده من تفسير، وهو تمييزه.كما تقدم في قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ} في سورة البقرة[11].وتكون خبرية فتدل على عدد كبير مبهم ولابد من مفسر هو تمييز للإبهام.فأما الاستفهامية فمفسرها منصوب أو مجرور، وإن كانت خبرية فمفسرها مجرور لا غير، ولما كان"كم"اسما في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفع ونصب وجر، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين لـ {يروا}. و"مِنْ"في قوله: {مِنْ قَبْلِهِمْ} ابتدائية لتأكيد القبلية.وأما"من"في قوله: {مِنْ قَرْنٍ} فزائدة جارة لمميز {كم} الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميزها فإن ذلك يوجب جره ب)من(، كما بيناه عند قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ} في سورة البقرة.
والقرن أصله الزمن الطويل، وكثر إطلاقه على الأمة التي دامت طويلا.قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى}. وفسر القرن بالأمة البائدة.ويطلق القرن على الجيل من الأمة، ومنه حديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" .ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر، وقيل:غير ذلك.
(6/19)

وجملة {مَكَّنَّاهُمْ} صفة لـ {قرن}. وروعي في الضمير معنى القرن لأنه دال على جمع.
ومعنى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} ثبتناهم وملكناهم، وأصله مشتق من المكان.فمعنى مكنه ومكن له، وضع له مكانا.قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً}. ومثله قولهم:أرض له.ويكنى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر.ويقال:هو مكين بمعنى ممكن، فعيل بمعنى مفعول.قال تعالى: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} فهو كناية أيضا بمرتبة ثانية، أو هو مجاز مرسل مرتب على المعنى الكنائي.والتمكين في الأرض تقوية التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} ، وقال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة} الآية.فمعنى مكنه:جعله متمكنا، ومعنى مكن له:جعله متمكنا لأجله، أي رعيا له، مثل حمده وحمد له، فلم تزده اللام ومجرورها إلا إشارة إلى أن الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصير مكنه ومكن له بمعنى واحد، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي.ودليل ذلك قوله تعالى هنا : {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} فإن المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعين أن يكون معنى الفعلين مستويا، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين، إذ التفاوت لا يظهر إلا في شيء واحد، ولأن كون القرون الماضية أقوى تمكنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين، وقد عكس هنا.وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكنه ومكن له، وقول الزمخشري بأن:"مكن له بمعنى جعل له مكانا، ومكنه بمعنى أثبته".وكلام الراغب أمكن عربية.وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة.واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنه يستلزم التقوية.وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة.
و {ما} موصولة معناها التمكين، فهي نائبة عن مصدر محذوف، أي تمكينا لم نمكنه لكم، فتنتصب"ما"على المفعولية المطلقة المبينة للنوع.والمقصود مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم، أي هو أشد من تمكينكم في الأرض.
والخطاب في قوله: {لكم} التفات موجه إلى الذين كفروا لأنهم الممكنون في
(6/20)

الأرض وقت نزول الآية، وليس للمسلمين يومئذ تمكين.والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}. والمعنى أن الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة.وحسبك أن العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمر الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر مما عمرها أهل العصر.
والسماء من أسماء المطر، كما في حديث الموطأ من قول زيد بن خالد:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء"، أي عقب مطر.وهو المراد هنا لأنه المناسب لقوله: {أرسلنا} بخلافه في نحو قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}. والمدرار صيغة مبالغة، مثل منحار لكثير النحر للأضياف، ومذكار لمن يولد له الذكور، من درت الناقة ودر الضرع إذا سمح ضرعها باللبن، ولذلك سمي اللبن الدر.ووصف المطر بالمدرار مجاز عقلي، وإنما المدرار سحابه.وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث.
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله.ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض، وقد كانت حالة معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة، كما علمه الله ودلت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها، ثم تغيرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حل سنين ببلاد عاد؛ أو أرضية، فصار معظمها قاحلا فهلكت أممها وتفرقوا أيادي سبا.
وقد تقدم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة البقرة[25].
والفاء في قوله: {فأهلكناهم} للتعقيب عطف على {مكناهم} وما بعده.ولما تعلق بقوله: {فأهلكناهم} قوله :{بذنوبهم} دل على أن تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا.فالتقدير:فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم، ففيه إيجاز حذف على حد قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} الآية، أي فضرب فانفجرت الخ.ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلا لـ {أهلكنا} الأول على نحو قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} في سورة الأعراف[4].
والإهلاك:الإفناء، وهو عقاب للأمة دال على غضب الله عليها، لأن فناء الأمم لا
(6/21)

يكون إلا بما تجره إلى نفسها من سوء فعلها، بخلاف فناء الأفراد فإنه نهاية محتمة ولو استقام المرء طول حياته، لأن تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقابا إلا فيما يحف به من أحوال الخزي للهالك.
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك مما دل عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا {ِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ، وما قاله بعد ذلك: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} الآية.
وقوله: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}: الإنشاء الإيجاد المبتكر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}. والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان عليها القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا، كما أنشأ قريشا في ديار جرهم، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثمودا بعد عاد في منازل أخرى.والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأن الله مهلكهم ومنشئ من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم.ففيه نذارة بفتح مكة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين.وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق، لأن ذلك أمر مستمر في البشر لا ينتهي، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبابرة المشركين,وأفرد {قرنا} مع أن الفعل الناصب له مقيد بأنه من بعد جمع القرون، على تقدير مضاف، أي أنشأنا من بعد كل قرن من المهلكين قرنا آخرين.
[7] {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} الخ، وما بينهما جملا تعلقت بالجملة الأول ى على طريقة الاعتراض، فلما ذكر الآيات في الجملة الأول ى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضح الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أن ينزل الله عليه كتابا من السماء على صورة الكتب المتعارفة، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لما آمنوا ولا دعوا أن ذلك الكتاب سحر.
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير {كذبوا} في قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
(6/22)

جَاءَهُمْ} أي أنكروا كون القرآن من عند الله، وكونه آية على صدق الرسول، وزعموا أنه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء، فإنهم قالوا: {وْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وقالوا: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} فكان قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} مشتملا بالإجمال على أقوالهم فصح مجيء الحال منه، وما بينهما اعتراض أيضا.
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفرا أم رسالة، وعلى الثاني فالمراد بكتاب سفر أي مثل التوراة.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لا محالة لأن كل كلام ينزل من القرآن موجه إليه لأنه المبلغ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال.وليس يلزم أن يكون المراد كتابا فيه تصديقه بل أعم من ذلك.
وقوله: {فِي قِرْطَاسٍ} صفة لـ"كتاب"، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه.والقرطاس بكسر القاف على الفصيح، ونقل ضم القاف وهو ضعيف.وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رق ومن بردي ومن كاغد، ولا يختص بما كان من كاغد بل يسمى قرطاسا ما كان من رق.ومن الناس من زعم أنه لا يقال قرطاس إلا لما كان مكتوبا وإلا سمي طرسا، ولم يصح.وسمى العرب الأديم الذي يجعل غرضا لمتعلم الرمي قرطاسا فقالوا:سدد القرطاس، أي سدد رميه.قال الجواليقي:"القرطاس تكلموا به قديما"ويقال:إن أصله غير عربي.ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل.وقال:"هو الفرس الأبيض".وقال الآلوسي:"أصله كراسة".ولم يذكروا أنه معرب عن أي لغة، فإن كان معربا فلعله معرب عن الرومية، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم"كارتا".
وقوله: {فلمسوه} عطف على{نزلنا}.واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة، ومن برودة أو حرارة، أو نحو ذلك.فقوله: {بأيديهم} تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازا في التأمل، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب، وللتمهيد لقوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، لأن المظاهر السحرية تخيلات لا تلمس.
وجاء قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} دون أن يقول:لقالوا، كما قال: {فلمسوه} إظهارا في مقام الإضمار لقصد تسجيل أن دافعهم إلى هذا التعنت هو الكفر، لأن الموصول يؤذن
(6/23)

بالتعليل.
ومعنى {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أنهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم.وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلق بالمعاذير الكاذبة.
والمبين:البين الواضح، مشتق من"أبان"مرادف"بان".وتقدم معنى السحر عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة البقرة[102].
[9,8] {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]
عطف على قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} ، لأن هذا خبر عن توركهم وعنادهم، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم، فذلك فرض بإنزال كتاب عليهم من السماء فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حكاية لاقتراح منهم أية يصدقونه بها.وفي سيرة ابن إسحاق أن هذا القول واقع، وأن من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث؛ وأبي ابن خلف، والعاصي بن وائل، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومن معهم، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك".
فقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي لولا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه، لأن ذلك هو الذي يتطلبه المعاند.أما نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع، وفسره قوله تعالى في الآية الأخرى: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} في سورة الفرقان[7].
والضمير عائد إلى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} وإن كان قاله بعضهم،لأن الجميع قائلون بقوله وموافقون عليه.
و {لولا} للتحضيض بمعنى"هلا".والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم.وضمير {عليه} للنبي صلى الله عليه وسلم،ومعاد الضمير معلوم من المقام،لأنه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدث الناس بها تعين أنه المراد من الضمير.ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين
(6/24)

استأذنه في قتل ابن صياد:"إن يكنه فلن تسلط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله".يريد من ضمائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجال لأن الناس كانوا يتحدثون أن ابن صياد هو الدجال.ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه.كما ورد في حديث أبي ذر أنه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم:"اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل".وفي حديث سؤال القبر"فيقال له"أي للمقبور":"ما علمك بهذا الرجل".يعني أن هذا قولهم فيما بينهم، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكا.وقد شافهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإن"لوما"أخت"لولا"في إفادة التحضيض.
وقوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} معناه:لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها يكلمهم لقضي الأمر، أي أمرهم؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق.أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهددهم به.
ومعنى {قضي} تمم، كما دل عليه قوله: {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} ؛ذلك أنه لا تنزل ملائكة غير الذين سخرهم الله للأمور المعتادة مثل الحفظة، وملك الموت، والملك الذي يأتي بالوحي؛ إلا ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذبهم، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر.ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلا لإنزال العذاب بهم، كما نزلت الملائكة في قوم لوط.فمشركو مكة لما سألوا النبي أن يريهم ملكا معه ظنوا مقترحهم تعجيزا، فأنبأهم الله تعالى بأنهم اقترحوا أمرا لو أجيبوا إليه لكان سببا في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه.
ولعل حكمة ذلك أن الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحق بدون هوادة،وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ،فلذلك حجزهم الله عن الاتصال بغير العباد المكرمين الذين شابهت نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية،ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلا في أحوال خاصة،كما قال تعالى عنهم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} ، وكما قال: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} فلو أن الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولناجزوهم جزاء العذاب،ألا ترى أن الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لما لقوا لوطا قالوا: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}. ولما جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشروه واستأنس بهم قالوا: {يَا إِبْرَاهِيمُ
(6/25)

أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وهو نزول الملائكة؛فليس الملائكة تصرف في غير ما وجهوا إليه.
فمعنى الآية أن ما اقترحوه لو وقع لكان سيئ المغبة عليهم من حيث لا يشعرون.وليس المراد أن سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأن الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضالين،إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدي لرغبات الناس مثل ما يتصدى الصانع أو التاجر،ولو أجيبت رغبات بعض المقترحين لرام كل من عرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيعا مدة الإرشاد وتلتف عليه الناس التفافهم على المشعوذين، وذلك ينافي حرمة النبوءة،ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة.وإنما أجاب الله اقتراح الحواريين إنزال المائدة لأنهم كانوا قوما صالحين،وما أرادوا إلا خيرا.ولكن الله أنبأهم أن إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعا لهم من حيث لا يشعرون،فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفقين.وسيأتي عند قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} زيادة بيان لهذا.
ومن المفسرين من فسر {قُضِيَ الْأَمْرُ} بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورية الأصلية وليس هذا بلازم لأنهم لم يسألوا ذلك.ولا يتوقف تحقق ملكيته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة، بل يكفي أن يروه نازلا من السماء مثلا حتى يصاحب النبي عليه الصلاة والسلام حين يدعوهم إلى الإسلام، كما يدل عليه قوله الآتي: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} .
وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} عطف على قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} ،فهو جواب ثان عن مقترحهم،فيه ارتقاء في الجواب،وذلك أن مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر لأنه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلا إذا قارنه ملك يكون معه نذيرا كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه،على أنهم صرحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية،وهو قوله تعالى: {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} ، فجاء هذا الجواب الثاني صالحا لرد الاقتراحين،ولكنه روعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى اللازم لكلامهم فجيء بفعل {جعلنا} المقتضي تصيير شيء آخر أو تعويضه به.فضمير {جعلناه} عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ،أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر وجعلنا الرسول إليهم ملكا
(6/26)

لتعين أن نصور ذلك الملك بصورة رجل،لأنه لا محيد عن تشكله بشكل لتمكن إحاطة أبصارهم به وتحيزه فإذا تشكل فإنما يتشكل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه،وحينئذ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
فجملة {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} من تمام الدليل والحجة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك.
واللبس:خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} في سورة البقرة[42].وقد عدي هنا بحرف"على"لأن المراد لبس فيه غلبة لعقولهم.
والمعنى:وللبسنا على عقولهم،فشكوا في كونه ملكا فكذبوه،إذ كان دأب عقولهم تطلب خوارق العادات استدلالا بها على الصدق،وترك إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق.
و {ما} في قوله: {مَا يَلْبِسُونَ} مصدرية مجردة عن الظرفية،والمعنى على التشبيه،أي وللبسنا عليهم لبسهم الذي وقع لهم حين قالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ،أي مثل لبسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي الكلام احتباك لأن كلا اللبسين هو بتقدير الله تعالى،لأنه حرمهم التوفيق.فالتقدير:وللبسنا عليهم في شأن الملك فيلبسون على أنفسهم في شأنه كما لبسنا عليهم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم إذ يلبسون على أنفسهم في شأنه.وهذا الكلام كله منظور فيه إلى حمل اقتراحهم على ظاهر حاله من إرادتهم الاستدلال،فلذلك أجيبوا عن كلامهم إرخاء للعنان،وإلا فإنهم ما أرادوا بكلامهم إلا التعجيز والاستهزاء، ولذلك عقبه بقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية.
[10] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
عطف على جملة {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} لبيان تفننهم في المكابرة والعناد تصلبا في شركهم وإصرارا عليه،فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلا توسلوا بها.ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
(6/27)

مَلَكٌ} أنهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معا،لأنهم ما قالوه إلا عن يقين منهم أن ذلك لا يكون، فابتدئ الرد عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ}. ثم ثنى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء،والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنهم سيحيق بهم العذاب وأن ذلك سنة الله في كل أمة استهزأت برسول له.
فقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} يدل على جملة مطوية إيجازا، تقديرها:واستهزأوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك، لأن قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} يؤذن بأنه قد استهزئ به هو أيضا وإلا لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنهم من قبله لأن ذلك معلوم.وحذف فاعل الاستهزاء فبني الفعل إلى المجهول لأن المقصود هنا هو ترتب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين.
واللام للقسم،و {قد} للتحقيق،وكلاهما يدل على تأكيد الخبر.والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرع عنه، وهو قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا} الخ،لأن حال المشركين حال من يتردد في أن سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل،إذ لولا ترددهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا،ليستبرئوا لأنفسهم من عذاب متوقع،أو نزلوا منزلة المتردد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم.واستهزاؤهم له أفانين،منها قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} .
ومعنى الاستهزاء تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} في سورة البقرة.وهو مرادف للسخرية في كلام أئمة اللغة، فذكر {استهزئ} أولا لأنه أشهر،ولما أعيد عبر بـ {سخروا} ،ولما أعيد ثالث مرة رجع إلى فعل {يستهزئون} ،لأنه أخف من"يسخرون"وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة.
و {سخروا} بمعنى هزأوا،ويتعدى إلى المفعول بـ {من} ،قيل:لا يتعدى بغيرها.وقيل:يتعدى بالباء.وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ.والأصح أن كلا الفعلين يتعدى بحرف"من"والباء،وأن الغالب في"هزأ"أن يتعدى بالباء،وفي {سخر} أن يتعدى بـ"من".وأصل مادة {سخر} مؤذن بأن الفاعل اتخذ المفعول مسخرا يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدة قرب مادة"سخر"المخفف من مادة التسخير، أي التطويع فكأنه حوله عن حق الحرمة الذاتية فاتخذ منه لنفسه سخرية.
وفعل {حاق} اختلف أئمة اللغة في معناه.فقال الزجاج:"هو بمعنى أحاط"،وتبعه
(6/28)

الزمخشري،وفسره الفراء بمعنى عاد عليه.وقال الراغب:"أصله حق"،أي بمعنى وجب،فأبدل أحد حرفي التضعيف حرف علة تخفيفا،كما قالوا تظنى في تظنن،أي وكما قالوا:تقضى البازي،بمعنى تقضض.والأظهر ما قاله أبو إسحاق الزجاج.
واختير فعل الإحاطة للدلالة على تمكن ذلك منهم وعدم إفلاته أحدا منهم.
وإنما جيء بالموصول في قوله: {بِالَّذِينَ سَخِرُوا} ولم يقل بالساخرين للإيماء إلى تعليل الحكم،وهو قوله: {فحاق}.
و {منهم} يتعلق ب {سخروا} ،والضمير المجرور عائد إلى الرسل،لزيادة تقريركون العقاب لأجلهم ترفيعا لشأنهم.و {ما} في قوله: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} موصولة.والباء في {به} لتعدية فعل الاستهزاء.ووجود الباء مانع من جعل {ما} غير موصولة.وهو ما أطال التردد فيه الكاتبون.
والمراد بـ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ما أنذرهم الرسل به من سوء العاقبة وحلول العذاب بهم، فحصل بذلك فائدة أخرى،وهي أن المستهزئين كانوا يستهزئون بالرسل وخاصة بما ينذرونهم به من حلول العذاب إن استمروا على عدم التصديق بما جاءوا به.فاستهزاؤهم بما أنذروا به جعل ما أنذروا به كالشخص المهزوء به إذا جعلنا الباء للتعدية،أو استهزاؤهم بالرسل بسبب ما أنذروهم به إذا جعلت الباء للسببية.وتقديم الجار والمجرور على الفعل للرعاية على الفاصلة.
[11] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
هذه الجملة وزانها وزان البيان لمضمون الجملة التي قبلها ولذلك فصلت،فإن الجملة التي قبلها تخبر بأن الذين استهزأوا بالرسل قد حاق بهم عواقب استهزائهم، وهذه تحدوهم إلى مشاهدة ديار أولئك المستهزئين.وليس افتتاح هذه الجملة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم منافيا لكونها بيانا لأنه خوطب بأن يقول ذلك البيان.فالمقصود ما بعد القول.
وافتتاحها بالأمر بالقول لأنها واردة مورد المحاورة على قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8].وهذه سلسلة ردود وأجوبة على مقالتهم المحكية آنفا لتضمنها التصميم على الشرك وتكذيب الرسالة،فكانت منحلة إلى شبه كثيرة أريد ردها وتفنيدها فكانت هاته الردود كلها مفتتحة بكلمة {قل} عشر مرات.
(6/29)

و {ثم} للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل،فإن النظر في عاقبة المكذبين هو المقصد من السير،فهو مما يرتقى إليه بعد الأمر بالسير، وأن هذا النظر محتاج إلى تأمل وترسم فهو أهم من السير.
والنظر يحتمل أن يكون بصريا وأن يكون قلبيا،وعلى الاحتماليين فقد علقه الاستفهام عن نصب مفعوله أو مفعوليه.و {كيف} خبر لـ {كان} مقدم عليها وجوبا.
والعاقبة آخر الشيء ومآله وما يعقبه من مسبباته.ويقال:عاقبة وعقبى،وهي اسم كالعافية والخاتمة.
وإنما وصفوا بـ {المكذبين} دون المستهزئين للدلالة على أن التكذيب والاستهزاء كانا خلقين من أخلاقهم،وأن الواحد من هذين الخلقين كاف في استحقاق تلك العاقبة،إذ قال في الآية السابقة: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]وقال في هذه الآية: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
وهذا رد جامع لدحض ضلالاتهم الجارية على سنن ضلالات نظرائهم من الأمم السالفة المكذبين.
[12] {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
جملة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تكرير في مقام الاستدلال،فإن هذا الاستدلال تضمن استفهاما تقريريا،والتقرير من مقتضيات التكرير،لذلك لم تعطف الجملة.ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصودا به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبينه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} في هذه السورة[40].والاستفهام مستعمل مجازا في التقرير.والتقرير هنا مراد به لازم معناه،وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يقتضي إلى إبطال معتقدهم الشرك، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح،والمقصود هو المعنى الكنائي.
ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محققا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر
(6/30)

السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: {لله} تبكيتا لهم،لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة مقدرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية.وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلم واحد.فهؤلاء القوم المقدر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقروا حقية الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجة.وهذا أسلوب متبع في القرآن،فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا،وكمت في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد:16]،وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ـ إلى قوله ـ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91]،وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتب عليه من توبيخ ونحوه،كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ـ إلى قوله ـ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84ـ89].
وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم،وهو ضلال الإشراك.وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما كان دليل الوحدانية السالف دالا على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام،ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} .
وقوله: {لله} خبر مبتدأ محذوف دل عليه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الخ.ويقدر المبتدأ مؤخرا عن الخبر على وزان السؤال لأن المقصود إفادة الحصر.
واللام في قوله: {لله} للملك؛دلت على عبودية الناس لله دون غيره، وتستلزم أن العبد صائر إلى مالكه لا محالة، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحق الخلق.ولا سبب للعبودية أحق وأعظم من الخالقية،ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه.
وهذا استدلال على المشركين بأن غير الله ليس أهلا للإلهية،لأن غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك.وهو تمهيد لقوله بعده: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ،لأن مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها.
وجملة {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} معترضة،وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله.
وفي هذا الاعتراض معان:
(6/31)

أحدها:أن ما بعده لما كان مشعرا بإنذار بوعيد قدم له التذكير بأنه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم،على نحو قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]،والشرك بالله أعظم سوء وأشد تلبسا بجهالة.
والثاني:أن الإخبار بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم ملكه.فالكافر يقول:لو كان ما تقولون صدقا لعجل لنا العذاب،والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم،فكان قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جوابا لكلا الفريقين بأنه تفضل بالرحمة، فمنها رحمة كاملة:وهذه رحمته بعباده الصالحين، ومنها رحمة موقتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضالين.
والثالث:أن ما في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} من التمهيد لما في جملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} من الوعيد والوعد.
ذكرت رحمة الله تعريضا ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين.
الرابع:أن فيه إيماء إلى أن الله قد نجى أمة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذب به الأمم المكذبة رسلها من قبل،وذلك ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]،وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذبيه قضاء عاجلا بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به، كما رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولذلك لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا،وأيد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض.وإذ قد قدر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين،لأن الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوته مكة من مشرك ومسلم،ثم يحشرون على نياتهم،كما ورد في الحديث لما قالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنهلك وفينا الصالحون، قال:نعم،إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم".فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان.وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ
(6/32)

يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال:"أعوذ بسبحات وجهك الكريم".
ومعنى {كتب} تعلقت إرادته،بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلقة تعلقا عاما مطردا بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصا بالنسبة إلى الأزمان والجهات.فلما كان ذلك مطردا شبهت إرادته بالإلزام،فاستعير لها فعل"كتب"الذي هو حقيقة في الإيجاب، والقرينة هي مقام الإلهية،أو جعل ذلك على نفسه لأن أحدا لا يلزم نفسه بشيء إلا اختيارا وإلا فان غيره يلزمه.والمقصود أن ذلك لا يتخلف كالأمر الواجب المكتوب، فإنهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه،كما قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز ... وما قدم فيه العهود ولا كفلاء
حذر الجور والتطاخي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
فالرحمة هنا مصدر،أي كتب على نفسه أن يرحم، وليس المراد الصفة،أي كتب على نفسه الاتصاف بالرحمة، أي بكونه رحيما،لأن الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له، والواجب العقلي لا تتعلق به الإرادة، إلا إذا جعلنا {كتب} مستعملا في تمجز آخر،وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتم المفروض،والقرينة هي هي إلا أن المعنى الأول أظهر في الامتنان،وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حق شكره والمشركين له في ملكه غيره.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش"إن رحمتي سبقت غضبي".
وجملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبب من السبب،فإنه لما أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفرق أجزاء الأجساد أو انعدامها.
ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد.والمراد بالجمع استقصاء متفرق جميع الناس أفرادا وأجزاءا متفرقة.وتعديته بـ {إلى} لتضمينه معنى السوق.وقد تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} في سورة النساء[87].
وضمير الخطاب في قوله: {ليجمعنكم} مراد به خصوص المحجوجين من
(6/33)

المشركين، لأنهم المقصود من هذا القول من أوله؛ فيكون نذارة لهم وتهديدا وجوابا عن أقل ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كما تقدم.
وجملة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} الأظهر عندي أنها متفرعة على جملة {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأن الفاء من قوله: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} للتفريع والسببية.وأصل التركيب:فأنتم لا تؤمنون لأنكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة؛فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.وجعل {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} خبر مبتدأ محذوف.والتقدير:أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون.ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال الكشاف عن صحة ترتب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أن الأمر بالعكس.
وقيل: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}مبتدأ،وجملة{فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} خبره، وقرن بالفاء لأن الموصول تضمن معنى الشرط على نحو قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15].وأشرب الوصول معنى الشرط ليفيد شموله كل من اتصف بمضمون الصلة، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزلة منزلة جملة الشرط،فيفيد أن ذلك مستمر الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقق فيها معنى الصلة.فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز.
ومعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أضاعوها كما يضيع التاجر رأس ماله،فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع.فمعنى {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير،فإنه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور.وذلك أنهم لما أعرضوا عن التدبر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل،فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر.فعدم الإيمان مسبب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع.ويتسبب على عدم الإيمان خسران آخر،وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب،وفي الآخرة بالنجاة من النار،وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس.وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود:22,21]
(6/34)

[13] {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
جملة معطوفه على {لله} من قوله: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12]الذي هو في تقدير الجملة،أي ما في السماوات والأرض لله،وله ما سكن.
والسكون استقرار الجسم في مكان،أي حيز لا ينتقل عنه مدة،فهو ضد الحركة،وهو من أسباب الاختفاء، لأن المختفي يسكن ولا ينتشر.والأحسن عندي أن يكون هنا كناية عن الخفاء مع إرادة المعنى الصريح.ووجه كونه كناية أن الكلام مسوق للتذكير بعلم الله تعالى وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ومحاسبكم عليها يوم يجمعكم إلى يوم القيامة،فهو كقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ـ إلى أن قال ـ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد:8ـ10]فالذي سكن الليل والنهار بعض ما في السماوات والأرض، فلما أعلمهم بأنه يملك ما في السماوات والأرض عطف عليه الإعلام بأنه يملك ما سكن من ذلك لأنه بحيث يغفل عن شمول ما في السماوات والأرض إياه، لأن المتعارف بين الناس إذا أخبروا عن أشياء بحكم أن يريدوا الأشياء المعروفة المتداولة.فهذا من ذكر الخاص بعد العام لتقرير عموم الملك لله تعالى بأن ملكه شمل الظاهرات والخفيات،ففي هذا استدعاء ليوجهوا النظر العقلي في الموجودات الخفية وما في إخفائها من دلالة على سعة القدرة وتصرفات الحكمة الإلهية.
و {في} للظرفية الزمانية،وهي ظرف مستقر،لأن فعل السكون لا يتعدى إلى الزمان تعدية الظرف اللغو كما يتعدى إلى المكان لو كان بمعنى حل واستقر وهو ما لا يناسب حمل معنى الآية عليه.والكلام تمهيد لسعة العلم، لأن شأن المالك أن يعلم مملوكاته.وتخصيص الليل بالذكر لأن الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاء،فهو كقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} [الأنعام:59].وعطف النهار عليه لقصد زيادة الشمول،لأن الليل لما كان مظنة الاختفاء فيه قد يظن أن العالم يقصد الاطلاع على الساكنات فيه بأهمية ولا يقصد إلى الاطلاع على الساكنات في النهار،فذكر النهار لتحقيق تمام الإحاطة بالمعلومات.
وتقديم المجرور للدلالة على الحصر،وهو حصر الساكنات في كونها له لا لغيره،أي في كون ملكها التام له، كما تقدم في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
(6/35)

وقد جاء قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} كالنتيجة للمقدمة،لأن المقصود من الإخبار بأن الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه،وإلا فإن ملك المتحركات المتصرفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حراكا،فظهر حسن وقع قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} عقب هذا.
والسميع:العالم العظيم بالمسموعات أو بالمحسوسات.والعليم:الشديد العلم بكل معلوم.
[14] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}
استئناف آخر ناشئ عن جملة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
وأعيد الأمر بالقول اهتماما بهذا المقول،لأنه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله،فإنه لما تقرر بالقول، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأن مصير كل ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة،لأن ذلك نتيجة لازمه لكونه مالكا لجميع ما احتوته السماوات والأرض، فكان هذا التقرير جاريا على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من أن يعبد غير الله.والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتخذوهم أولياء،كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر"لا أجحد الحق"لدلالة المقام على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلا بعد البعثة بسنين كثيرة،كما استخلصناه مما تقدم في صدر السورة.وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسرين:"أن هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم"، أي هو مثل ما في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]،وهو لعمري مما يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية:إن ظاهر الآية لا يتضمنه كيف ولا بد للاستئناف من نكتة".
والاستفهام للإنكار.وقدم المفعول الأول لـ{أتخذ}على الفعل وفاعله ليكون مواليا للاستفهام لأنه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتخاذ الولي.وشأن همزة الاستفهام بجميع
(6/36)

استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به،وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بد من بيان وجه العناية،وليس مفيدا للتخصيص في مثل هذا لظهور أن داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعين أن يكون لغرض غير ذلك.فمن جعل التقديم هنا مفيدا للاختصاص،أي انحصار إنكار اتخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شراح الكشاف فقد تكلف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه،وكلام الكشاف بريء منه بل الحق أن التقديم هنا ليس إلا للاهتمام بشأن المقدم ليلي أداة الاستفهام فيعلم أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله وليا،وأما ما زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم.ولعل الذي حداهم إلى ذلك أن المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر:64] {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام:40] هو كلمة {غير} المضافة إلى اسم الجلالة،وهي عامة في كل ما عدا الله، فكان الله ملحوظا من لفظ المفعول فكان إنكار اتخاذ الله وليا لأن إنكار اتخاذ غيره وليا مستلزما عدم إنكار اتخاذ الله وليا،لأن إنكار اتخاذ غير الله لا يبقى معه إلا اتخاذ الله وليا؛فكان هذا التركيب مستلزما معنى القصر وآثلا إليه وليس هو بدال على القصر مطابقة، ولا مفيدا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنه لو كان المفعول خلاف كلمة"غير"لما صح اعتبار القصر، كما لو قلت:أزيدا أتتخذ صديقا،لم يكن مفيدا إلا إنكار اتخاذ زيد صديقا من غير التفات إلى اتخاذ غيره،وإنما ذلك لأنك تراه ليس أهلا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك:أتتخذ زيدا صديقا،إلا أنك أردت توجه الإنكار للمتخذ لا للاتخاذ اهتماما به.والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك.
ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابا لكلام هو المقصود منه كما في قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]وقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ـإلى قوله ـ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [لأعراف:140].وأشار صاحب الكشاف في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} الآتي في آخر السورة إلى أن تقديم {غَيْرَ اللَّه} على {أبغي} لكونه جوابا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم.قال الطيبي:"لأن كل تقديم إما للاهتمام أو لجواب إنكار".
والولي:الناصر المدبر،ففيه معنى العلم والقدرة.يقال:تولى فلانا، أي اتخذه ناصرا.وسمي الحليف وليا لأن المقصود من الحلف النصرة.ولما كان الإله هو الذي
(6/37)

يرجع إليه عابده سمي وليا لذلك.ومن أسمائه تعالى الولي.
والفاطر:المبدع والخالق.وأصله من الفطر وهو الشق.وعن ابن عباس:"ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:"أنا فطرتها".وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتخذ وليا،فهو ناظر إلى قوله في أول السورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].وليس يغني عنه قوله قبله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12]لأن ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسباب بقائهم إلى أجل.
وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ} جملة في موضع الحال،أي يعطي الناس ما يأكلونه مما أخرج لهم من الأرض:من حبوب وثمار وكلأ وصيد.وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلم عندهم،لأنهم يعترفون بأن الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة.وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى :{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64,63]
وأما قوله: {وَلا يُطْعَمُ} بضم الياء وفتح العين فتكميل دال على الغنى المطلق كقوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57].ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام.ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء،إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أن الأصنام تنعم بذلك.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
استئناف مكرر لأسلوب الاستئناف الذي قبله.ومثار الاستئنافين واحد ولكن الغرض منهما نختلف، لأن ما قبله يحوم حول الاستدلال بدلالة العقل على إبطال الشرك،وهذا استدلال بدلالة الوحي الذي فيه الأمر باتباع دين الإسلام وما بني عليه اسم الإسلام من صرف الوجه إلى الله،كما قال في الآية الأخرى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران:20]،فهذا إبطال لطعنهم في الدين الذي جاء به المسمى بالإسلام، وشعاره كلمة التوحيد المبطلة للإشراك.
(6/38)

وبني فعل {أمرت} للمفعول،لأن فاعل هذا الأمر معلوم بما تكرر من إسناد الوحي إلى الله.
ومعنى {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أنه أول من يتصف بالإسلام الذي بعثه الله به،فهو الإسلام الخاص الذي جاء به القرآن، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل،بما فيه من وضوح البيان والسماحة،فلا ينافي أن بعض الرسل وصفوا بأنهم مسلمون،كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وقد تقدم بيان ذلك عند ذكر تلك الآية في سورة البقرة[132].
ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممن دعوا إلى الإسلام.ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام، لأن الأول في كل عمل هو الأحرص عليه والأعلق به،فالأولية تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].فإن كونه أولهم معلوم وإنما أراد:أني الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانا.وفي الحديث نحن الآخرون الأولون يوم القيامة".وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} في سورة البقرة[41].
والمقصود من هذا على جميع الوجوه تأييس المشركين من عوده إلى دينهم لأنهم ربما كانوا إذا رأوا منه رحمة بهم ولينا في القول طمعوا في رجوعه إلى دينهم وقالوا إنه دين آبائه.
وقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف على قوله: {قل} ،أي قل لهم ذلك لييأسوا.والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام،لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده،فذكر النهي عن الضد بعد ذلك تأكيد له,وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين.
و {من} تبعيضية،فمعنى {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي من جملة الذين يشركون،ويحتمل أن النهي عن الانتماء إلى المشركين،أي هو أمر بالبراءة منهم فتكون {من} اتصالية ويكون {المشركين} بالمعنى اللقبي،أي الذين اشتهروا بهذا الاسم،أي لا يكن منك شيء فيه صلة بالمشركين، كقول النابغة:
فإني لست منك ولست مني
والتأييس على هذا الوجه أشد وأقوى.
(6/39)

وقد يؤخذ من هذه الآية استدلال للمأثور عن الأشعري:أن الإيمان بالله وحده ليس مما يجب بدليل العقل بل تتوقف المؤاخذة به على بعثة الرسول،لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينكر أن يتخذ غير الله وليا لأنه فاطر السماوات والأرض،ثم أمره أن يقول: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ثم أمره بما يدل على المؤاخذة بقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ـ إلى قوله ـ ٍفَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام:16].
[16,15] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}
هذا استئناف مكرر لما قبله،وهو تدرج في الغرض المشترك بينها من أن الشرك بالله متوعد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة.فقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام:14]الآية رفض للشرك بالدليل العقلي،وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14]الآية،رفض للشرك امتثالا لأمر الله وجلاله.
وقوله هنا{قُلْ إِنِّي أَخَافُ}الآية تجنب للشرك خوفا من العقاب وطمعا في الرحمة.وقد جاءت مترتبة على ترتيبها في نفس الأمر.
وفهم من قوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أن الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى.وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله: {ربي} إيماء إلى أن عصيانه أمر قبيح لأنه ربه فكيف يعصيه.
وأضيف العذاب إلى {يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهويلا له لأن في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين،فيكون اليوم نكالا على المنهزمين،إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب،فذكر {يوم} يثير من الخيال مخاوف مألوفة،ولذلك قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]ولم يقل عذاب الظلة أنه كان عذابا عظيما.وسيأتي بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} في سورة التغابن[9]،وبهذا الاعتبار حسن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب،لأن عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفا.
وقوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة لـ {عذاب} .
(6/40)

و {يُصْرَفْ} مبني للمجهول في قراءة الأكثر،على أنه رافع لضمير العذاب أو لضمير {من} على النيابة عن الفاعل.والضمير المجرور بـ"عن"عائد إلى {من} أي يصرف العذاب عنه،أو عائد إلى العذاب،أي من يصرف هو عن العذاب،وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله: {يُصْرَفْ} .
وقرأه حمزة،والكسائي،وأبو بكر عن عاصم،ويعقوب،وخلف {يَصْرِفْ} بالبناء للفاعل على أنه رافع لضمير{ربي}على الفاعلية.
أما الضمير المستتر في {رحمه} فهو عائد إلى {ربي} ،والمنصوب عائد إلى {من} على كلتا القراءتين.
ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفقه الله لتجنب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدر الله له الرحمة ويسر له أسبابها.
والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} كأنه قال:"أرجو إن أطعته أن يرحمني ربي"،لأن من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة.فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي.وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول.وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فردا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم.
ولذلك عقبه بقوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} والإشارة موجهة إلى الصرف المأخوذ من قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} أو إلى المذكور.وإنما كان الصرف عن العذاب فوزا لأنه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم.قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].و {المبين} اسم فاعل من أبان بمعنى بان.
[17] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
عطف على الجمل المفتتحة بفعل {قُلْ} [الأنعام:15]فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مؤذن بأن المشركين خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضوا له بعزمهم على إصابته بشر وأذى فخاطبه الله بما يثبت نفسه وما يؤيس أعداءه من أن يستزلوه.وهذا كما حكي عن
(6/41)

إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} [الأنعام:81]،ومن وراء ذلك إثبات أن المتصرف المطلق في أحوال الموجودات هو الله تعالى بعد أن أثبت بالجمل السابقة أنه محدث الموجودات كلها في السماء والأرض،فجعل ذلك في أسلوب تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم،ووعده بحصول الخير له من أثر رضى ربه وحده عنه،وتحدي المشركين بأنهم لا يستطيعون إضراره ولا يجلبون نفعه.ويحصل منه رد على المشركين الذين كانوا إذا ذكروا بأن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن أقروا بذلك،ويزعمون أن آلهتهم تشفع عند الله وأنها تجلب الخير وتدفع الشر،فلما أبطلت الآيات السابقة استحقاق الأصنام الإلهية لأنها لم تخلق شيئا،وأوجبت عبادة المستحق الإلهية بحق، أبطلت هذه الآية استحقاقهم العبادة لأنهم لا يملكون للناس ضرا ولا نفعا،كما قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76]وقال عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73,72].
وقد هيأت الجمل السابقة موقعا لهاته الجملة،لأنه إذا تقرر أن خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنه مقدر أحوالهم وأعمالهم،لأن كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحق بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له.فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنه تعالى مقدر أسبابها،واضع نظام حصولها وتحصيلها،وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها.
والمس حقيقته وضع اليد على شيء.وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة، ويستعمل مجازا في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآلة.ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا،فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف،كما في قوله: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73].فالمعنى:وإن يصبك الله بضر أو وإن ينلك من الله ضر.
والضر بضم الضاد هو الحال الذي يؤلم الانسان،وهو من الشر،وهو المنافر للإنسان.ويقابله النفع، وهو من الخير،وهو الملائم.والمعنى إن يقدر الله لك الضر فهلا يستطيع أحد كشفه عنك إلا هو إن شاء ذلك، لأن مقدر انه مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلا قدرة خالقها.
(6/42)

وقابل قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} بقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} مقابلة بالأعم،لأن الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر، للإشارة إلى أن المراد من الضر ما هو أعم،فكأنه قيل:إن يمسسك بضر وشر وإن يمسسك بنفع وخير، ففي الآية احتباك.وقال ابن عطية:"ناب الضر في هذه الآية مناب الشر والشر أعم وهو مقابل الخير.وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة، فإن من باب التكلف أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به ونظر هذا بقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:119,118].اهـ.
وقوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:19]جعل جوابا للشرط لأنه علة الجواب المحذوف والجواب المذكور قبله، إذ التقدير:وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنه على كل شيء قدير في الضر والنفع.وقد جعل هذا العموم تمهيدا لقوله بعده: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].
[18] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
هذه الجملة معطوفة على جملة {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام:17]الآية، والمناسبة بينهما أن مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة.فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرف في أحوال المخلوقات،وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرا على أحد أو خبيرا أو عالما بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه،ولا جرم أن الإله تجب له القدرة والعلم، وهما جماع صفات الكمال، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضر وإحياء وإماتة،وهي تعلقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرا للعرف،وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنها تعلقات لها،وهو التحقيق.
ولذلك تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأن التي قبلها ذكرت كمال تصرفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم كما قدمنا،وهذه الآية أوعت قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء،وذلك أصل جميع الفعل والصنع.
والقاهر الغالب المكره الذي لا ينفلت من قدرته من عدي إليه فعل القهر.
وقد أفاد تعريف الجزأين القصر،أي لا قاهر إلا هو،لأن قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذا،لأنه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما
(6/43)

يدافعها.ومما يشاهد منها دوما النوم وكذلك الموت.سبحان من قهر العباد بالموت.
و {فوق} ظرف متعلق بـ {القاهر} ،وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكا.وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
ولا يفهم من ذلك جهة هي في علو كما قد يتوهم، فلا تعد هذه الآية من المتشابهات.
والعباد:هم المخلوقون من العقلاء، فلا يقال للدواب عباد الله،وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصه بالمخلوقات،وخص العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك.
ومعنى القهر فوق العباد أنه خالق ما لا يدخل تحت قدرهم بحيث يوجد ما لا يريدون وجوده كالموت،ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء،بحيث إن كل أحد يجد في نفسه أمورا يستطيع فعلها وأمورا لا يستطيع فعلها وأمورا يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة، كالمشي لمن خدرت رجله؛فيعلم كل أحد أن الله هو خالق القدر والاستطاعات لأنه قد يمنعها،ولأنه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر،ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة.وقد خلق الله العناصر والقوى وسلط بعضها على بعض فلا تستطيع المدافعة إلا ما خولها الله.
والحكيم:المحكم المتقن للمصنوعات،فعيل بمعنى مفعل،وقد تقدم في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في سورة البقرة [209]وفي مواضع كثيرة.
والخبير:مبالغة في اسم الفاعل من "خبر"المتعدي، بمعنى"علم"،يقال:خبر الأمر،إذا علمه وجربه.وقد قيل:إنه مشتق من الخبر لأن الشيء إذا علم أمكن الإخبار به.
[19] {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}
انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات،إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والى جعل الله حكما بينه وبين مكذبيه،فالجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة
(6/44)

الانتقال ظاهرة.
روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي:أن رؤساء مكة قالوا:"يا محمد ما نرى أحدا مصدقك بما تقول،وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك فأرنا من يشهد أنك رسول الله".فنزلت هذه الآية.
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بينته عند قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:12]ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام.
و"أي"اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام،والمضاف إليه هنا هو {شيء} المفسر بأنه من نوع الشهادة.
و {شيء} اسم عام من الأجناس العالية ذات العموم الكثير،قيل:هو الموجود،وقيل:هو ما يعلم ويصح وجوده.والأظهر في تعريفه أنه الأمر الذي يعلم.ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودا أو صفة موجود أو معنى يتعقل ويتحاور فيه،ومنه قوله تعالى: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [قّ:3,2]
وقد تقدم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة"شيء"ومواقع ضعفها عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].
و {أكبر} هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات،وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى،كقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]وقوله : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} .وقد تقدم في سورة البقرة[217].
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها.
وقوله: {شهادة} تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ما صدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة.فالمعنى:أية شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بـ {أي} فرد من أفراد الشهادات يطلب علم أنه أصدق أفراد جنسه.
والشهادة تقدم بيانها عند قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} في سورة المائدة.
ولما كانت شهادة الله على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم غير معلومة للمخاطبين المكذبين بأنه رسول الله،صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا
(6/45)

الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8]أي أن تشهد الله على كذب الزوج،أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإن لفظ"أشهد الله"من صيغ القسم إلا أنه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازا مرسلا،وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم،وبذلك يظهر موقع قوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ،أي أشهده عليكم.وقريب منه ما حكاه الله عن هود: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [هود:54].
وقوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جواب للسؤال، ولذلك فصلت جملته المصدرة بـ {قل}. وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب مما لا يسع المقرر إنكاره،على نحو ما بيناه في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12].
ووقع قول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جوابا على لسانهم لأنه مرتب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير:قل شهادة الله أكبر شهادة، فالله شهيد بيني وبينكم، فحذف المرتب عليه لدلالة المرتب إيجازا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل.والمعنى:أني أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنني أبلغتكم أنه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم.
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم"شيء"على الله تعالى لأن قوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ} وقع جوابا عن قوله: {أَيُّ شَيْءٍ} فاقتضى إطلاق اسم"شيء"خبرا عن الله تعالى وإن لم يدل صريحا.وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم.وهذا قول الأشعرية خلافا لجهم بن صفوان وأصحابه.
ومعنى {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أنه لما لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلا أن يكلهم إلى حساب الله تعالى.والمقصود:إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة.ووجه ذكر {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أن الله شهيد له،كما هو مقتضى السياق.فمعنى البين أن الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لرد إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات.
وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} عطف على جملة {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ،وهو الأهم فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة.وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل.فعطف {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} من عطف الخاص على العام،
(6/46)

وحذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى.
والإشارة بـ {هَذَا الْقُرْآنُ} إلى ما هو في ذهن المتكلم والسامع.وعطف البيان بعد اسم الإشارة بين المقصود بالإشارة.
واقتصر على جعل علة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأن المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلا الإنذار،فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار،ولذلك قال: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} مصرحا بضمير المخاطبين.ولم يقل:لأنذر به، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشر.على أن لام العلة لا تؤذن بانحصار العلة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدى بها علل كثيرة.
{وَمَنْ بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأن حذفه كثير حسن، كما قال أبو علي الفارسي.
وعموم {من} وصلتها يشمل كل من يبلغه القرآن في جميع العصور.
{أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم.فهي استئناف بعد جملة {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} .خص هذا بالذكر لأن نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قررهم أن شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلغ،وعليهم فيما أعرضوا وكابروا؛استأنف استفهاما على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال:أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أن مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه،والمقرر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام.
وإنما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكد بـ"إن"ولام الابتداء ليفيد أن شهادتهم هذه مما لا يكاد يصدق السامعون أنهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء،فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكدين فيقول:إنهم ليشهدون أن مع الله آلهة أخرى،فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم،فيفيد مثل هذا التركيب إنكارين:أحدهما صريح بأداة الانكار،والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشك السامع في صدوره منهم.
(6/47)

ومعنى {لتشهدون} لتدعونا دعوى تحققونها تحقيقا يشبه الشهادة على أمر محقق الوقوع،فإطلاق {تشهدون} مشاكلة لقوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
والآلهة جمع إله،وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيها على أنها لا تعقل فإن جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنثة.
وقوله: {قُلْ لا أَشْهَدُ} جواب للاستفهام الذي في قوله: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} لأنه بتقدير:قل أإنكم، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرئ المتكلم من أن يشهد بذلك لأن جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنهم مقرون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنه يقول:دعنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإني لا أشهد بذلك.ونظير هذا قوله تعالى : {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:15].
وجملة {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بيان لجملة {قُلْ لا أَشْهَدُ} فلذلك فصلت لأنها بمنزلة عطف البيان، لأن معنى لا أشهد بأن معه آلهة هو معنى أنه إله واحد، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ.
وكلمة {إنما} أفادت الحصر،أي هو المخصوص بالوحدانية.ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرئ من ضده بقوله: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة.
و"ما"في قوله: {مِمَّا تُشْرِكُونَ} يجوز كونها مصدرية، أي من إشراككم.ويجوز كونها موصولة،وهو الأظهر،أي من أصنامكم التي تشركون بها،وفيه حذف العائد المجرور لأن حرف الجر المحذوف مع العائد متعين تقديره بلا لبس،وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور،كقوله تعالى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]أي بتعظيمه،وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي بالجهر به.وظاهر كلام "التسهيل"أن هذا ممنوع،وهو غفلة من مؤلفه اغتر بها بعض شراح كتبه.
[20] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}
جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عام كسائر أخبار القرآن.أظهر الله دليلا على صدق الرسول فيما
(6/48)

جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، فإنه لما جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمن صدق من جاء به،لأنه هو الآية المعجزة العامة الدائمة.وقد علمت آنفا أن الواحدي ذكر أن رؤساء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره؛فإذا كان كذلك كان التعرض لأهل الكتاب هنا إبطالا لما قالوه أنه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته،أي فهم وأنتم سواء في جحد الحق،وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعين أن تجعل المراد بـ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} بعض أهل الكتاب،وهم المنصفون منهم مثل عبدالله بن سلام ومخيريق،فقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحة الدين موثوقا بها عندهم إذا أدوها ولم يكتموها.وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس.
فالضمير المنصوب في قوله: {يعرفونه} عائد إلى القرآن الذي في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} [الأنعام:19].والمراد أنهم يعرفون أنه من عند الله ويعرفون ما تضمنه مما أخبرت به كتبهم، ومن ذلك رسالة من جاء به،وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لما في كتبهم من البشارة به.والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} تشبيه المعرفة بالمعرفة.فوجه الشبه هو التحقق والجزم بأنه هو الكتاب الموعود به،وإنما جعلت المعرفة المشبه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضل عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنه هو ابنه المعروف، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفا.
وقيل:إن ضمير {يعرفونه} عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام:19]، وهذا بعيد.وقيل:الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يجر له ذكر فيما تقدم صريحا ولا تأويلا.ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أن في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجة وهي القرآن.
وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استئناف لزيادة إيضاح تصلب المشركين وإصرارهم، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع
(6/49)

بعد قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87].فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجة وقطع المعذرة،وأنهم مصرون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب، كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الاحقاف:10}.وقيل:أريد بهم أهل الكتاب، أي الذين كتموا الشهادة، فيكون {الَّذِينَ خَسِرُوا} بدلا من {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} .
[21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
عطف على جملة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:20].فالمراد بهم المشركون مثل قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}. وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.والمراد بافترائهم عقيدة الشرك في الجاهلية بما فيها من تكاذيب، وبتكذيبهم الآيات تكذيبهم القرآن بعد البعثة.وقد جعل الآتي بواحدة من هاتين الخصلتين أظلم الناس فكيف بمن جمعوا بينهما.
وجملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تذييل،فلذلك فصلت،أي إذا تحقق أنهم لا أظلم منهم فهم غير مفلحين، لأنه لا يفلح الظالمون فكيف بمن بلغ ظلمه النهاية،فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول.
وموقع"إن"في هذا المقام يفيد معنى التعليل للجملة المحذوفة، كما تقرر في كلام عبد القاهر.وموقع ضمير الشأن معها أفاد الاهتمام بهذا الخبر اهتمام تحقيق لتقع الجملة الواقعة تفسيرا له في نفس السامع موقع الرسوخ.
والافتراء الكذب المتعمد.وقوله"كذبا"مصدر مؤكد له،وهو أعم من الافتراء.والتأكيد يحصل بالأعم، كما قدمناه في قوله تعالى :{وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة[103]،وقد نفى فلاحهم فعم كل فلاح في الدنيا والآخرة، فإن الفلاح المعتد به في نظر الدين في الدنيا هو الإيمان والعمل،وهو سبب فلاح الآخرة.
[22ـ24] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
(6/50)

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
عطف على جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21]، أو على جملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]،فإن مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ} ومضمون جملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ،لأن مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح، ولأن مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك.
وانتصب {يَوْمَ} على الظرفية،وعامله محذوف،والأظهر أنه يقدر مما تدل عليه المعطوفات وهي:نقول، أو قالوا،أو كذبوا،أو ضل،وكلها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف، وليست تلك الأفعال متعلقا بها الظرف بل هي دلالة على المتعلق المحذوف،لأن المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} ، وتصدير تلك الحالة المهولة.
وقدر في الكشاف الجواب مما دل عليه مجموع الحكاية.وتقديره:كان ما كان،وأن حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف.وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلقات.والأحسن عندي أنه إنما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلا فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشد منه بالإبهام إذا كان كل جزء من التفصيل حاصلا به تخويف.وقدر بعض المفسرين:اذكر يوم نحشرهم.ولا نكتة فيه.وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرج عليها.
والضمير المنصوب في {نحشرهم} يعود إلى {منِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21]أو إلى {الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]إذ المقصود بذلك المشركون، فيؤذن بمشركين ومشرك بهم.وللتنبيه على أن الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله: {جميعا} ليدل على قصد الشمول،فإن شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول،فتعين أن ذكر {جميعا} قصد منه التنبيه.على أن الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم،فيكون نظير قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} [يونس:28]وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17].وانتصب{جميعا}هنا على الحال من الضمير.
(6/51)

والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به،لأنهم لو كانوا غائبين لظنوا أنهم لو حضروا لشفعوا،أو أنهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم،فإن الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم.قال النابغة:
يأملن رحلة نصر وابن سيار
وعطف {نقول} بـ{ثم}لأن القول متأخر عن زمن حشرهم بمهلة لأن حصة انتظار المجرم ما سيحل به أشد عليه،ولأن في إهمال الاشتغال بهم تحقيرا لهم.وتفيد{ثم}مع ذلك الترتيب الرتبي.
وصرح بـ {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} لأنهم بعض ما شمله الضمير،أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع.
وأصل السؤال بـ {أين} أنه استفهام عن المكان الذي يحل فيه المسند اليه،نحو:أين بيتك،وأين تذهبون.وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له،فيراد الاستفهام عن سبب عدمه، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة:"أين تقديم الصلاة".وقد يسأل بـ"أين"عن عمل أحد كان مرجوا منه,فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بـ "أين",كأن السائل يبحث عن مكانه تنزيلا له منزلة الغائب المجهول مكانه؛فالسؤال بـ"أين"هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلت عليه آيات أخرى.قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:23,22]
والاستفهام توبيخي عما كان المشركون يزعمونه من أنها تشفع لهم عند الله،أو أنها تنصرهم عند الحاجة، فلما رأوها لا غناء لها قيل لهم:أين شركاؤكم،أي أين عملهم فكأنهم غيب عنهم.
وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلا في اعتقاد المشركين،فلذلك قيل:{شركاؤكم}كقول أحد أبطال العرب لعمرو بن معد يكرب لما حدث عمرو في جمع أنه قتله،وكان هو حاضرا في ذلك الجمع، فقال له:"لا أبا ثور قتيلك يسمع"أي المزعوم أنه قتيلك.
(6/52)

ووصفوا بـ {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تكذيبا لهم؛وحذف المفعول الثاني لـ {تزعمون} ليعم كل ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة؛أما المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب.
والزعم:ظن يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتهم صاحبه، فيقال:زعم،بمعنى أن عهدة الخبر عليه لا على الناقل،وتقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية في سورة النساء[60].وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} في سورة التغابن[7].
وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} عطف على جملة {ثُمَّ نَقُولُ} و"ثم"للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه.
والفتنة أصلها الاختبار،من قولهم:فتن الذهب إذا اختبر خلوصه من الغلث.وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله،لأن مثل ذلك يدل على مقدار ثبات من يناله،فقد يكون ذلك في حالة العيش؛وقد يكون في البغض والحب؛وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور.وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}في سورة البقرة[102].
و {فتنتهم} هنا استثني منها {أَِنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ،فذلك القول إما أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء،فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنها فتنة.فالتقدير:لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلا قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
وإما أن يكون القول المستثنى دالا على فتنتهم،أي على أنهم في فتنة حين قالوه.وأياما كان فقولهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}متضمن أنهم مفتونون حينئذ.
وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر،ويكون في الكلام إيجاز.والتقدير:فافتتنوا في ماذا يجيبون،فكان جوابهم أن قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فعدل عن المقدر إلى هذا التركيب لأنه قد علم أن جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنه أثرها ومظهرها.
ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنه يفضي إلى فتنة صاحبه،أي تجريب حالة نفسه.
(6/53)

ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار.والمراد به السؤال لأن السؤال اختبار عما عند المسؤول من العلم،أو من الصدق وضده، ويتعين حينئذ تقدير مضاف،أي لم يكن جواب فتنتهم،أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلا أن قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
وقرأ الجمهور {لَمْ تَكُنْ} بتاء تأنيث حرف المضارعة.وقرأه حمزة، والكسائي،ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أن {قالوا} هو اسم"كان".وقرأ الجمهور {فِتْنَتَهُمْ} بالنصب على أنه خبر"كان"، فتكون"كان"ناقصة واسمها {إِلَّا أَنْ قَالُوا} وإنما أخر عن الخبر لأنه محصور.
وقرأه ابن كثير،وابن عامر،وحفص عن عاصم بالرفع على أنه اسم"كان"و {أَنْ قَالُوا} خبر"كان"، فتجعل"كان"تامة.والمعنى لم توجد فتنة لهم إلا قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، أي لم تقع فتنتهم إلا أن نفوا أنهم أشركوا.
ووجه اتصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنث على قراءة نصب {فتنتهم} هو أن فاعله مؤنث تقديرا، لأن القول المنسبك من"أن"وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين.قال أبو علي الفارسي:وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَ} [الأنعام:160]،لأن الأمثال لما كانت في معنى الحسنات أنث اسم عددها.
وقرأ الجمهور {ربنا} بالجر على الصفة لاسم الجلالة.وقرأه حمزة،والكسائي،وخلف ـ بالنصب على النداء ـ بحذف حرفه.
وذكرهم الرب بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصل من الشرك،أي لا رب لنا غيره.وقد كذبوا وحلفوا على الكذب جريا على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة،لأن المرء يحشر على ما عاش عليه، ولأن الحيرة والدهش الذي أصابهم خيل إليهم أنهم يموهون على الله تعالى فيتخلصون من العقاب.ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذ،لأن الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أن غيرهم لا تظهر له،ولأن هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا.
وفي صحيح البخاري:أن رجلا قال لابن عباس:"إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، فذكر منها قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42]وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
(6/54)

كُنَّا مُشْرِكِينَ} .فقد كتموا في هذه الآية".فقال ابن عباس:"إن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون تعالوا نقل:ما كنا مشركين،فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا".
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جعل حالهم المتحدث عنه بمنزلة المشاهد،لصدوره عمن لا خلاف في أخباره،فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على النظر إليه كأنه مشاهد حاضر.
والأظهر أن{كيف}لمجرد الحال غير دال على الاستفهام.والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيفهم بها.وقد تقدمت له نظائر منها قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة النساء[50].وجعل كثير من المفسرين النظر هنا نظرا قلبيا فأنه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلقا عن العمل بالاستفهام،أي تأمل جواب قول القائل:"كيف يفترون على الله الكذب؟"تجده جوابا واضحا بينا.
ولأجل هذ التحقق من خبر حشرهم عبر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله: {كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}. وكذلك قوله:{وضل عنهم ما كانوا يفترون}.
وفعل"كذب"يعدى بحرف"على"إلى من يخبر وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ عنه الكاذب كذبا مثل تعديته في هذه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار"، وأما تعديته إلى من يخبره الكاذب خبرا كذبا فبنفسه، يقال:كذبك، إذا أخبرك بكذب.
وضل بمعنى غاب كقوله تعالى: {ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة:10]، أي غيبنا فيها بالدفن.و {ما} موصولة و {يفترون} صلتها،والعائد محذوف،أي يختلقونه وما صدق ذلك هو شركاؤهم.والمراد:غيبة شفاعتهم ونصرهم لأن ذلك هو المأمول منهم فلما لم يظهر شيء من ذلك نزل حضورهم منزلة الغيبة،كما يقال:أخذت وغاب نصيرك، وهو حاضر.
[25] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
عطف جملة ابتدائية على الجمل الابتدائية التي قبلها من قوله:{الَّذِينَ خَسِرُوا
(6/55)

أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20]
والضمير المجرور بـ {من} التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]،أي ومن المشركين من يستمع إليك.وقد انتقل الكلام إلى أحوال خاصة عقلائهم الذين يربأون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التام،وقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5].ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيلون للدهماء أنهم قادرون على مجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان.روى الواحدي عن ابن عباس أنه سمى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب، وعتبة وشيبة ابني ربيعة،وأبا جهل،والوليد بن المغبرة،والنضر بن الحارث،وأمية وأبيا ابني خلف، اجتمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن فلما سمعوه قالوا للنضر:"ما يقول محمد"؟فقال:"والذي جعلها بيته"يعني الكعبة"ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه فما يقول إلا أساطير الأول ين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.يعني أنه قال ذلك مكابرة منه للحق وحسدا للرسول عليه الصلاة والسلام.وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى.وكان يحدث قريشا عن أقاصيص العجم،مثل قصة"رستم"و"إسفنديار"فيستلمحون حديثه،وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس،وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمه فقتل يوم فتح مكة.وروي أن أبا سفيان قال لهم:"إني لأراه حقا".فقال له أبو جهل:"كلا".فوصف الله حالهم بهذه الآية.وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه،فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلى الله عليه وسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة.
و {الأكنة} جمع كنان ـ بكسر الكاف ـ و"أفعلة"يتعين في"فِعال"المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين.والكنان:الغطاء،لأنه يكن الشيء،أي يستره.وهي هنا تخييل لأنه شبهت قلوبهم في عدم خلوص الحق إليها بأشياء محجوبة عن شيء.وأثبتت لها الأكنة تخييلا،وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان.
وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقل المنحرف، فهم لهم عقول وإدراك لأنهم كسائر البشر،ولكن أهواءهم تخير لهم المنع من اتباع الحق، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أن الله يعلم أنهم لا
(6/56)

يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة،على أن خطاب التكليف عام لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس.فالجعل بمعنى الخلق وليس للتحويل من حال إلى حال.وقد مات المسمون كلهم على الشرك عدا أبا سفيان فإنه شهد حينئذ بأن ما سمعه حق، فدلت شهادته على سلامة قلبه من الكنان.
والضمير المنصوب في {أَنْ يَفْقَهُوهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وحذف حرف الجر.والتقدير:من أن يفقهوه،ويتعلق بـ {أكنة} لما فيه من معنى المنع، أي أكنة تمنع من أن يفهموا القرآن.
والوقر بفتح الواو الصمم الشديد وفعله كوعد ووجد يستعمل قاصرا،يقال:وقرت أذنه،ومتعديا يقال:وقر الله أذنه فوقرت.والوقر مصدر غير قياسي لـ"وقرت"أذنه،لأن قياس مصدره تحريك القاف،وهو قياسي لـ"وقر"المتعدي،وهو مستعار لعدم فهم المسموعات.جعل عدم الفهم بمنزلة الصمم ولم يذكر للوقر متعلق يدل على الممنوع بوقر آذانهم لظهور أنه من أن يسمعوه،لأن الوقر مؤذن بذلك،ولأن المراد السمع المجازي وهو العلم بما تضمنه المسموع.
وقوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ} ،وقوله: {فِي آذَانِهِمْ} يتعلقان بـ {جعلنا}. وقدم كل منهما على مفعول {جعلنا} للتنبيه على تعلقه به من أول الأمر.
فإن قلت:هل تكون هاته الآية حجة للذين قالوا من علمائنا:"إن إعجاز القرآن بالصرفة"؟، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجة عليهم،فتكون الصرفة من جملة الأكنة التي جعل الله على قلوبهم.
قلت:لم يحتج بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنك قد علمت أن الأكنة تخييل وأن الوقر استعارة وأن قول النضر:"ما أدري ما أقول"،بهتان ومكابرة،ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} .
وكلمة {كل} هنا مستعملة في الكثرة مجازا لتعذر الحقيقة سواء كان التعذر عقلا كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129]،وذلك أن الآيات تنحصر أفرادها لأنها أفراد مقدرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عام.أم كان المتعذر عادة كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
(6/57)

فإن العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع.
فيتعذر أن يرى القوم كل أفراد ما يصح أن يكون آية،فلذلك كان المراد بـ{كل}معنى الكثرة الكثير، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة:[145].
و {حتى} حرف موضوع لإفادة الغاية،أي أن ما بعدها غاية لما قبلها.وأصل{حتى}أن يكون حرف جر مثل"إلى"فيقع بعده اسم مفرد مدلوله غاية لما قبل"حتى".وقد يعدل عن ذلك ويقع بعد"حتى"جملة فتكون"حتى"ابتدائية، أي تؤذن بابتداء كلام مضمونه غاية لكلام قبل"حتى".ولذلك قال ابن الحاجب في الكافية:"إنها تفيد السببية"،فليس المعنى أن استماعهم يمتد إلى وقت مجيئهم ولا أن جعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم يمتد إلى وقت مجيئهم،بل المعنى أن يتسبب على استماعهم بدون فهم.وجعل الوقر على آذانهم والأكنة على قلوبهم أنهم إذا جاءوك جادلوك.
وسميت {حتى} ابتدائية لأن ما بعدها في حكم كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا.ويأتي قريب من هذا عند قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} في هذه السورة[31]، وزيادة تحقيق لمعنى"حتى"الابتدائية عند قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ـإلى قوله ـ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} [الأعراف:37]الخ في سورة الأعراف.
و {إذا} شرطية ظرفية.و {جاوكء} شرطها،وهو العامل فيها.وجملة {يجادلونك} حال مقدرة من ضمير {جاءوك} أي جاءوك مجادلين،أي مقدرين المجادلة معك يظهرون لقومهم أنهم أكفاء لهذه المجادلة.
وجملة {يقول} جواب{إذا}،وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لزيادة التسجيل عليهم بالكفر،وأنهم ما جاءوا طالبين الحق كما يدعون ولكنهم قد دخلوا بالكفر وخرجوا به فيقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ،فهم قد عدلوا عن الجدل إلى المباهتة والمكابرة.
والأساطير جمع أسطورة بضم الهمزة وسكون السين وهي القصة والخبر عن الماضين.والأظهر أن الأسطورة لفظ معرب عن الرومية:أصله إسطوريا بكسر الهمزة وهو القصة.ويدل لذلك اختلاف العرب فيه،فقالوا:أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير،
(6/58)

كلها بضم الهمزة وإسطارة وإسطار بكسر الهمزة.والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب.ومن أقوالهم:"أعجمي فالعب به ما شئت".وأحسن الألفاظ لها أسطورة لأنها تصادف صيغة تفيد معنى المفعولن أي القصة المسطورة.وتفيد الشهرة في مدلول مادتها مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة.وقيل:الأساطير اسم جمع لا واحد له مثل أبابيل وعباديد وشماطيط.وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب.وقد كانوا لا يميزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة.فقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. يحتمل أنهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير.ويشتمل أنهم أرادوا أن القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير،يعنون أنه لا يستحق أن يكون من عند الله لأنهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت.وسيأتي في سورة الأنفال أن من قال ذلك النضر بن الحارث،وأنه كان يمثل القرآن بأخبار"رستم"و"اسفنديار".
[26] {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26]
عطف على جملة{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}،والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25].ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه.فهو من تعليق الحكم بالذات.والمراد حالة من أحوالها يعينها المقام.وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه،أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه.قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل أصفار
يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر،وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغساني.
وبين قوله:{يَنْهَوْنَ ـ وَيَنْأَوْنَ}الجناس القريب من التمام.
والقصر في قوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنهم يظنون بالنهي والنأي عن القرآن أنهم يضرون النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتبعوه ولا يتبعه الناس،وهم إنما يهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس،فيحملون أوزارهم وأوزار الناس،وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأن ما أرادوا به نكايته
(6/59)

إنما يضرون به أنفسهم.
وأصل الهلاك الموت.ويطلق على المضرة الشديدة لأن الشائع بين الناس أن الموت أشد الضر.فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب.
والنأي:البعد.وهو قاصر لا يتعدى إلى مفعول إلا بحرف جر،وما ورد متعديا بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة.
وعقب قوله:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}بقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم، وإظهارا لضعف عقولهم مع أنهم كانوا يعدون أنفسهم قادة للناس،ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصودا به الإخبار المستقل لأن الناس يعدونهم أعظم عقلائهم.
[28,27] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام لأن في الخبر الواقع بعده تسلية له عما تضمنه قوله: {هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26]فإنه ابتدأ فعقبه بقوله: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:26]ثم أردفه بتمثيل حالهم يوم القيامة.ويشترك مع الرسول في هذا الخطاب كل من يسمع هذا الخبر.
و {لو} شرطية،أي لو ترى الآن،و {إذ} ظرفية،ومفعول {ترى} محذوف دل عليه ضمير {وقفوا} ،أي لو تراهم، و {وقفوا} ماض لفظا والمعني به الاستقبال،أي إذ يوقفون.وجيء فيه بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في خبره.
ومعنى {وقفوا على النار} أبلغوا اليها بعد سير إليها،وهو يتعدى بـ {على}. والاستعلاء المستفاد بـ {على} مجازي معناه قوة الاتصال بالمكان، فلا تدل"على"على أن وقوفهم على النار كان من أعلى النار.وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:30}، وأصله من قول العرب:وقفت راحلتي على زيد، أي بلغت إليه
(6/60)

فحسبت ناقتي عن السير.قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
فحذفوا مفعول"وقفت"لكثرة الاستعمال.ويقال:وقفه فوقف،ولا يقال:أوقفه بالهمزة.
وعطف عليه {فقالوا} بالفاء المفيدة للتعقيب،لأن ما شاهدوه من الهول قد علموا أنه جزاء تكذيبهم بإلهام أوقعه الله في قلوبهم أو بإخبار ملائكة العذاب،فعجلوا فتمنوا أن يرجعوا.
وحرف النداء في قولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} مستعمل في التحسر،لأن النداء يقتضي بعد المنادى،فاستعمل في التحسر لأن المتمنى صار بعيدا عنهم، أي غير مفيد لهم، كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56].
ومعنى {نرد} نرجع إلى الدنيا،وعطف عليه {وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} برفع الفعلين بعد "لا"النافية في قراءة الجمهور عطفا على{نرد}، فيكون من جملة ما تمنوه،ولذلك لم ينصب في جواب التمني إذ ليس المقصود الجزاء،ولأن اعتبار الجزاء مع الواو غير مشهور،بخلافه مع الفاء لأن الفاء متأصلة في السببية.والرد غير مقصود لذاته وإنما تمنوه لما يقع معه من الإيمان وترك التكذيب.وإنما قدم في الذكر ترك التكذيب على الإيمان لأنه الأصل في تحصيل المتمنى على اعتبار الواو للمعية واقعة موقع فاء السببية في جواب التمني.
وقرأه حمزة والكسائي {وَلا نُكَذِّبَ ـ وَنَكُونَ} بنصب الفعلين ـ ،على انهما منصوبان في جواب التمني.وقرأ ابن عامر {وَلا نُكَذِّبُ} بالرفع كالجمهور،على معنى أن انتفاء التكذيب حاصل في حين كلامهم،فليس بمستقبل حتى يكون بتقدير"أن"المفيدة للاستقبال.وقرأ {وَنَكُونَ} بالنصب على جواب التمني، أي نكون من القوم الذين يعرفون بالمؤمنين.والمعنى لا يختلف.
وقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} إضراب عن قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والمعنى بل لأنهم لم يبق لهم مطمع في الخلاص.
وبدا الشيء ظهر.ويقال بدا له الشيء إذا ظهر له عيانا.وهو هنا مجاز في زوال الشك في الشيء، كقول زهير:
(6/61)

بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جاثيا
ولما قوبل {بَدَا لَهُمْ} في هذه الآية بقوله: {مَا كَانُوا يُخْفُونَ} علمنا أن البداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا،أي خطر لهم حينئذ ذلك المخاطر الذي كانوا يخفونه،أي الذي كان يبدو لهم، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يعلنون به فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرحوا معترفين به.ففي الكلام احتباك، تقديره:بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه.وذلك أنهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم،وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم، كما ذكرناه عند قوله تعالى: {لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} في هذه السورة[52]،وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِين} في سورة الحجر[2].وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحير فيها المفسرون وهي لا تلائم نظم الآية، فبعضها يساعده صدرها وبعضها يساعده عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها.
وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة،أي لو أجيبت أمنيتهم وردوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبي ينهاهم عنه،وهو التكذيب وإنكار البعث،وذلك لأن نفوسهم التي كذبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البينات،هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير،وإنما تمنوا ما تمنوا من شدة الهول فتوهموا التخلص منه بهذا التمني فلو تحقق تمنيهم وردوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم فنسوا ما حل بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة.
وفي هذا دليل على أن الخواطر الناشئة عن عوامل الحس دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلا ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزجر والسوط ونحوهما.ويزول بزواله حتى يعاوده مثله.
وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تذييل لما قبله.جيء بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات،أي أن الكذب سجية لهم قد تطبعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإن الكذب سجيتهم.وقد تضمن تمنيهم وعدا،
(6/62)

فلذلك صح إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاص في العام،لأن التذييل يؤذن بشمول ما ذيل به وزيادة.فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمني بل إلى ما تضمنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله.
[29] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
يجوز أن يكون عطفا على قوله: {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]فيكون جواب {لو} ،أي لو ردوا لكذبوا بالقرآن أيضا,ولكذبوا بالبعث كما كانوا مدة الحياة الأولى.ويجوز أن تكون الجملة عطفت على جملة {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]،ويكون ما بين الجملتين اعتراضا يتعلق بالتكذيب للقرآن.
وقوله: {إِنْ هِيَ}" إن"نافية للجنس،والضمير بعدها مبهم يفسره ما بعد الاستثناء المفرغ.قصد من إبهامه الإيجاز اعتمادا على مفسره،والضمير لما كان مفسرا بنكرة فهو في حكم النكرة،وليس هو ضمير قصة وشأن، لأنه لا يستقيم معه معنى الاستثناء،والمعنى إن الحياة لنا إلا حياتنا الدنيا،أي انحصر جنس حياتنا في حياتنا الدنيا فلا حياة لنا غيرها فبطلت حياة بعد ا لموت،فالاسم الواقع بعد {إلا} في حكم البدل من الضمير.
وجملة {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} نفي للبعث،وهو يستلزم تأكيد نفي الحياة غير حياة الدنيا،لأن البعث لا يكون إلا مع حياة.وإنما عطفت ولم تفصل فتكون مؤكدة للجملة قبلها لأن قصدهم إبطال قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يحيون حياة ثانية، وقوله تارة أنهم مبعوثون بعد الموت، فقصدوا إبطال كل باستقلاله.
[30] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
لما ذكر إنكارهم البعث أعقبه بوصف حالهم حين يحشرون إلى الله،وهو حال البعث الذي أنكروه.
والقول في الخطاب وفي معنى {وقفوا} وفي جواب {لو} تقدم في نظريتها آنفا.وتعليق {عَلَى رَبِّهِمْ} بـ {وقفوا} تمثيل لحضورهم المحشر عند البعث.شبهت حالهم في الحضور للحساب بحال عبد جنى فقبض عليه فوقف بين يدي ربه.وبذلك تظهر مزية التعبير بلفظ {ربهم} دون اسم الجلالة.
(6/63)

وجملة {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} استئناف بياني،لأن قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} قد آذن بمشهد عظيم مهول فكان من حق السامع أن يسأل:ماذا لقوا من ربهم، فيجاب: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} الآية.
والإشارة إلى البعث الذي عاينوه وشاهدوه.والاستفهام تقريري دخل على نفي الأمر المقرر به لاختبار مقدار إقرار المسؤول،فلذلك يسأل عن نفي ما هو واقع لأنه إن كان له مطمع في الإنكار تذرع إليه بالنفي الواقع في سؤال المقرر.والمقصود:أهذا حق،فإنهم كانوا يزعمونه باطلا.ولذلك أجابوا بالحرف الموضوع لإبطال ما قبله وهو"بلى"فهو يبطل النفي فهو إقرار بوقوع المنى،أي بلى هو حق، وأكدوا ذلك بالقسم تحقيقا لاعترافهم للمعترف به لأنه معلوم لله تعالى، أي نقر ولا نشك فيه فلذلك نقسم عليه.وهذا من استعمال القسم لتأكيد لازم فائدة الخبر.
وفصل {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} على طريقة فصل المحاورات.والفاء للتفريع عن كلامهم،أوفاء فصيحة، أي إذ كان هذا الحق فذوقوا العذاب على كفركم، أي بالبعث.والباء سببية، و"ما"مصدرية، أي بسبب كفركم، أي بهذا.وذوق العذاب استعارة لإحساسه، لأن الذوق أقوى الحواس المباشرة للجسم، فشبه به إحساس الجلد.
[31] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك، فتلك حالة يستحقون بها أن يقال فيهم:قد خسروا وخابوا.
والخسران تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في هذه السورة[12].والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا.
والذين كذبوا بلقاء الله هم الذين حكي عنهم بقوله: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعا لقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]وما بعده،بأن يقال:قد خسروا، لكن عدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلا وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} الخ.
(6/64)

ولقاء الله هو ظهور آثاره رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا،فلما كان العالم الآخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل المصير إليه مماثلا للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زمانا طويلا، فلذلك سمي البعث ملاقاة الله،ولقاء الله ومصيرا إلى الله،ومجيئا إليه،في كثير من الآيات والألفاظ النبوية،وإلا فإن الناس في الدنيا هم في قبضة تصرف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجل إليهم جزاءهم.قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11].ولكنه لما أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغب ورهب ووعد وتوعد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغبهم ويحذرهم،فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي، وهم لا يلقون حينئذ جزاء عن طاعة ولا عقابا عن معصية لأنه يملى لهم ويؤخرهم،فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر،وهو نظام ظهور الآثار دون ريث،قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49]، فكانوا كعبيد لقوا ربهم بعد أن غابوا وأمهلوا.فاللقاء استعارة تمثيلية:شبهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوه في مدة المغيب.وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"، وفي القرآن {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} .
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} "حتى"ابتدائية،وهي لا تفيد الغاية وإنما تفيد السببية،كما صرح به ابن الحاجب،أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة.ومن ا لمفسرين من جعل مجيء الساعة غاية للخسران، وهو فاسد لأن الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة،فأما في الدنيا ففيهم من لم يخسر شيئا.وقد تقدم كلام على "حتى"الابتدائية عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} في هذه السورة[25].وسيجيء لمعنى"حتى"زيادة بيان عند قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ـإلى قوله ـ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} في سورة الأعراف[37].
والساعة:علم بالغلبة على ساعة البعث والحشر.
والبغتة فعلة من البغت، وهو مصدر بغتة الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقب ولا
(6/65)

إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه.ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار.وهو منتصب على الحال،فإن المصدر يجيء حالا إذا كان ظاهرا تأويله باسم الفاعل،وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة.
وقوله: {قالوا} جواب"إذا".و {يا حسرتنا} نداء مقصود به التعجب والتندم،وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع وينادي ليحضر كأنه يقول:يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك.ومنه قولهم:يا ليتني فعلت كذا،ويا أسفي أو يا أسفا،كما تقدم آنفا.
وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسرهم لأجل أنفسهم، فهم المتحسرون والمتحسر عليهم، بخلاف قول القائل:يا حسرة،فإنه في الغالب تحسر لأجل غيره فهو يتحسر لحال غيره.ولذلك تجيء معه"على"التي تدخل على الشيء المتحسر من أجله داخلة على ما يدل على غير التحسر،كقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ،فأما مع"يا حسرتي، أو يا حسرتا"فإنما تجيء"على"داخلة على الأمر الذي كان سببا في التحسر كما هنا {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} . ومثل ذلك قولهم:يا ويلي ويا ويلتي،قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49]،فإذا أراد المتكلم أن الويل لغيره قال:ويلك،قال تعالى: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف:17]ويقولون:ويل لك.
والحسرة:الندم الشديد،وهو التلهف،وهي فعلة من حسر يحسر حسرا، من باب فرح،ويقال:تحسر تحسرا.والعرب يعاملون اسم المرة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرة،ولكنهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد،كمدلول لام الحقيقة،ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأن المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية.
و {فرطنا} أضعنا.يقال:فرط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه.وهو يتعدى إلى المفعول بنفسه،كما دل عليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].والأكثر أن يتعدى بحرف"في"فيقال فرط في ماله،إذا أضاعه.
و {ما} موصولة ما صدقها الأعمال الصالحة.ومفعول{فرطنا}محذوف يعود إلى {ما} .تقديره:ما فرطناه وهم عام مثل معاده،أي ندمنا على إضاعة كل ما من شأنه أن ينفعنا ففرطناه،وضمير {فيها} عائد إلى الساعة.و"في"تعليلية، أي ما فوتناه من
(6/66)

الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة،ويجوز أن يكون {في} للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير،أي في خيراتها.والمعنى على ما فرطنا في الساعة،يعنون ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح.ويجوز أن يعود ضمير {فيها} على الحياة الدنيا،فيكون"في"للظرفية الحقيقية.
وجملة {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} في موضع الحال من ضمير {قالوا} ،أي قالوا ذلك في حال أنهم يحملون أوزارهم فهم بين تلهف على التفريط في الأعمال الصالحة والإيمان وبين مقاساة العذاب على الأوزار التي اقترفوها،أي لم يكونوا محرومين من خير ذلك اليوم فحسب بل كانوا مع ذلك متعبين مثقلين بالعذاب.
والأوزار جمع وزر بكسر الواو،وهو الحمل الثقيل، وفعله وزر يزر إذا حمل.ومنه قوله هنا: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].وأطلق الوزر على الذنب والجناية لثقل عاقبتها على جانيها.
وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} تمثيل لهيئة عنتهم من جراء ذنوبهم بحال من يحمل حملا ثقيلا.وذكر {عَلَى ظُهُورِهِمْ} هنا مبالغة في تمثيل الحالة،كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].فذكر الأيدي لأن الكسب يكون باليد،فهو يشبه تخييل الاستعارة ولكنه لا يتأتى التخييل في التمثيلية لأن ما يذكر فيها صالح لاعتباره من جملة الهيئة،فإن الحمل على الظهر مؤذن بنهاية ثقل المحمول على الحامل.
ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل؛فإنه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب، وهم إنما وقعوا في هذه الشدة من جراء ذنوبهم فكأنهم يحملونها لأنهم يعانون شدة آلامها.
وجملة {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} تذييل.و"ألا"حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر.و {سَاءَ مَا يَزِرُونَ} إنشاء ذم.و {يزرون} بمعنى يحملون،أي ساء ما يمثل من حالهم بالحمل.و {مَا يَزِرُونَ} فاعل {ساء} .والمخصوص بالذم محذوف،تقديره:حملهم.
[52] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
(6/67)

لما جرى ذكر الساعة وما يلحق المشركين فيها من الحسرة على ما فرطوا ناسب أن يذكر الناس بأن الحياة الدنيا زائلة وأن عليهم أن يستعدوا للحياة الآخرة.فيحتمل أن يكون جوابا لقول المشركين: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29].فتكون الواو للحال،أي تقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ولو نظرتم حق النظر لوجدتم الحياة الدنيا لعبا ولهوا وليس فيها شيء باق، فلعلمتم أن وراءها حياة أخرى فيها من الخيرات ما هو أعظم مما في الدنيا وإنما يناله المتقون،أي المؤمنون،فتكون الآية إعادة لدعواتهم إلى الإيمان والتقوى،ويكون الخطاب في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} التفاتا من الحديث عنهم بالغيبة إلى خطابهم بالدعوة.
ويحتمل أنه اعتراض بالتذييل لحكاية حالهم في الآخرة،فإنه لما حكى قولهم: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]علم السامع أنهم فرطوا في الأمور النافعة لهم في الآخرة بسبب الانهماك في زخارف الدنيا،فذيل ذلك بخطاب المؤمنين تعريفا بقيمة زخارف الدنيا وتبشيرا لهم بأن الآخرة هي دار الخير للمؤمنين،فتكون الواو عطفت جملة البشارة على حكاية النذارة.والمناسبة هي التضادد.وأيضا في هذا نداء على سخافة عقولهم إذ غرتهم في الدنيا فسول لهم الاستخفاف بدعوة الله إلى الحق.فيجعل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} خطابا مستأنفا للمؤمنين تحذيرا لهم من أن تغرهم زخارف الدنيا فتلهيهم عن العمل للآخرة.
وهذا الحكم عام على جنس الحياة الدنيا،فالتعريف في الحياة تعريف الجنس،أي الحياة التي يحياها كل أحد المعروفة بالدنيا،أي الأولى والقريبة من الناس،وأطلقت الحياة الدنيا على أحوالها،أو على مدتها.
واللعب:عمل أو قول في خفة وسرعة وطيش ليست له غاية مفيدة بل غايته إراحة البال وتقصير الوقت واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب،وأكثره أعمال الصبيان.قالوا ولذلك فهو مشتق من اللعاب،وهو ريق الصبي السائل.وضد اللعب الجد.
واللهو ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه ولا يتعب في الاشتغال به عقله، فلا يطلق إلا على ما فيه استمتاع ولذة وملائمة للشهوة.
وبين اللهو واللعب العموم والخصوص الوجهي.فهما يجتمعان في العمل الذي فيه ملاءمة ويقارنه شيء من الخفة والطيش كالطرب واللهو بالنساء.وينفرد اللعب في لعب
(6/68)

الصبيان.وينفرد اللهو في نحو الميسر والصيد.
وقد أفادت صيغة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} قصر الحياة على اللعب واللهو،وهو قصر موصوف على صفة.والمراد بالحياة الأعمال التي يحب الإنسان الحياة لأجلها،لأن الحياة مدة وزمن لا يقبل الوصف بغير أوصاف الأزمان من طول أو قصر،وتحديد أو ضده،فتعين أن المراد بالحياة الأعمال المظروفة فيها.واللعب واللهو في قوة الوصف، لأنهما مصدران أريد بهما الوصف للمبالغة،كقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا القصر ادعائي يقصد به المبالغة،لأن الأعمال الحاصلة في الحياة كثيرة،منها اللهو واللعب، ومنها غيرهما،قال تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20]فالحياة تشتمل على أحوال كثيرة منها الملائم كالأكل واللذات،ومنها المؤلم كالأمراض والأحزان،فأما المؤلمات فلا اعتداد بها هنا ولا التفات اليها لأنها ليست مما يرغب فيه الراغبون،لأن المقصود من ذكر الحياة هنا ما يحصل فيها مما يحبها الناس لأجله,وهو الملائمات.
وأما الملائمات فهي كثيرة، ومنها ما ليس بلعب ولهو، كالطعام والشراب والتدفئ في الشتاء والتبرد في الصيف وجمع المال عند المولع به وقرى الضيف ونكاية العدو وبذل الخير للمحتاج،إلا أن هذه لما كان معظمها يستدعي صرف همة وعمل كانت مشتملة على شيء من التعب وهو منافر.فكان معظم ما يحب الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب،لأنه الأغلب على أعمال الناس في أول العمر والغالب عليهم فيما بعد ذلك.فمن اللعب المزاح ومغازلة النساء، ومن اللهو الخمر والميسر والمغاني والأسمار وركوب الخيل والصيد.
فأما أعمالهم في القربات كالحج والعمرة والنذر والطواف بالأصنام والعتيرة ونحوها فلأنها لما كانت لا اعتداد بها بدون الإيمان كانت ملحقة باللعب،كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]،وقال :{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
فلا جرم كان الأغلب على المشركين والغالب على الناس اللعب واللهو إلا من آمن وعمل صالحا.فلذلك وقع القصر الادعائي في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .
(6/69)

وعقب بقوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ،منه أن أعمال المتقين في الدنيا هي ضد اللعب واللهو، لأنهم جعلت لهم دار أخرى هي خير،وقد علم أن الفوز فيها لا يكون إلا بعمل في الدنيا فأنتج أن عملهم في الدنيا ليس اللهو واللعب وأن حياة غيرهم هي المقصورة على اللهو واللعب.
والدار محل إقامة الناس،وهي الأرض التي فيها بيوت الناس من بناء أو خيام أو قباب.والآخرة مؤنث وصف الآخر بكسر الخاء وهو ضد الأول، أي مقر الناس الأخير الذي لا تحول بعده.
وقرأ جمهور العشرة {وَلَلدَّارُ} بلامين لام الابتداء ولام التعريف،وقرئوا {الْآخِرَةُ} بالرفع.وقرأ ابن عامر {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} بلام الابتداء فقط وبإضافة دار منكرة إلى الآخرة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم:مسجد الجامع،أو هو على تقدير مضاف تكون {الآخرة} وصفا له.والتقدير:دار الحياة الآخرة.
و {خير} تفضيل على الدنيا باعتبار ما في الدنيا من نعيم عاجل زائل يلحق معظمة مؤاخذة وعذاب.
وقوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى الآخرة لكنها ليست لهم بخير مما كانوا في الدنيا.والمراد بـ {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المؤمنون التابعون لما أمر الله به،كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، فإن الآخرة لهؤلاء خير محض.وأما من تلحقهم مؤاخذة على أعمالهم السيئة من المؤمنين فلما كان مصيرهم بعد إلى الجنة كانت الآخرة خيرا لهم من الدنيا.
وقوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} عطف بالفاء على جملة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إلى آخرها لأنه يتفرع عليه مضمون الجملة المعطوفة.والاستفهام عن عدم عقلهم مستعمل في التوبيخ إن كان خطابا للمشركين،أو في التحذير إن كان خطابا للمؤمنين.على أنه لما كان استعماله في أحد هذين على وجه الكناية صح أن يراد منه الأمران باعتبار كلا الفريقين،لأن المدلولات الكنائية تتعدد ولا يلزم من تعددها الاشتراك، لأن دلالتها التزامية،على أننا نلتزم استعمال المشترك في معنييه.
وقرأ نافع،وابن عامر،وحفص،وأبو جعفر،ويعقوب، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ـ بتاء الخطاب ـ على طريقة الالتفات.وقرأه الباقون ـبياء تحتية ـ،فهو على هذه القراءة عائد
(6/70)

لما عاد إليه ضمائر الغيبة قبله، والاستفهام حينئذ للتعجيب من حالهم.
وفي قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} تأييس للمشركين.
[33] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر،ووعده بالنصر، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر،ووعده بإيمان فرق منهم بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ـ إلى قوله ـ يَسْمَعُونَ} .وقد تهيأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام:4]إلى هنا.
و {قد} تحقيق للخبر الفعلي،فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة"إن"في تحقيق الجملة الاسمية.فحرف "قد"مختص بالدخول على الأفعال المتصرفة الخبرية المثبتة المجردة من ناصب وجازم وحرف تنفيس، ومعنى التحقيق ملازم له.والأصح أنه كذلك سواء كان مدخولها ماضيا أو مضارعا،ولا يختلف معنى "قد"بالنسبة للفعلين.وقد شاع عند كثير من النحويين أن "قد"إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل.وقال بعضهم:"إنه مأخوذ من كلام سيبويه"، ومن ظاهر كلام الكشاف في هذه الآية.والتحقيق أن كلام سيبوية لا يدل إلا على أن"قد"يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية.وهذا هو الذي استخلصته من كلامهم وهو المعول عليه عندي.ولذلك فلا فرق بين دخول"قد"على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول،كما صرح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في سورة النور[64].فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد"قد"فعل مضي،وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد"قد"فعلا مضارعا مع ما يضم إلى التحقيق من دلالة المقام،مثل تقريب زمن الماضي من الحال في نحو:قد قامت الصلاة.وهو كناية تنشأ عن التعرض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشك السامع في أنه يقع،ومثل إفادة التكثير مع المضارع تبعا لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدد،كالبيت الذي نسبه سيبوية للهذلي،وحقق ابن بري أنه لعبيد بن الأبرص،وهو:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد
(6/71)

وبيت زهير:
أخا ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
وإفادة استحضار الصورة، كقول كعب:
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء.
والتحقيق أن كلام سيبويه بريء مما حملوه،وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلا من فهم ابن مالك لكلام سيبويه.وقد رده عليه أبو حيان ردا وجيها.
فمعنى الآية علمنا بأن الذي يقولونه يحزنك محققا فتصبر.وقد تقدم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} في سورة البقرة[144]،فكان فيه إجمال وأحلت على تفسير آية سورة الأنعام،فهذا الذي استقر عليه رأيي.
وفعل {نعلم} معلق عن العمل في مفعولين بوجود اللام.
والمراد بـ {الَّذِي يَقُولُونَ} أقوالهم الدالة على عدم تصديقهم الرسول صلى الله عليه وسلم،كما دل عليه قوله بعده :{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [الأنعام:34]،فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيها للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطفا معه.
وقرأ نافع،وأبو جعفر {لَيُحْزِنُكَ}بضم الياء وكسر الزاي ـ.وقرأه الباقون ـ بفتح الباء وضم الزاي ـ يقال:أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حَزن،ويقال:حزنته أيضا.وعن الخليل:أن حزنته، معناه جعلت فيه حُزنا كما يقال:دَهنته.وأما التعدية فليست إلا بالهمزة.قال أبو علي الفارسي:حزنت الرجل، أكثر استعمالا،وأحزنته،أقيس.و {الَّذِي يَقُولُونَ} هو قولهم ساحر،مجنون،كاذب,شاعر.فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازا أو تحاشيا عن التصريح به في جانب المنزه عنه.
والضمير المجعول اسم"إن"ضمير الشأن،واللام لام القسم،وفعل {يحزنك}
(6/72)

فعل القسم،و {الَّذِي يَقُولُونَ} فاعله،واللام في {ليحزنك} لام الابتداء،وجملة {يحزنك} خبر"إن"، وضمائر الغيبة راجعة إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا ـ في قوله ـ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
والفاء في قوله: {فإنهم} يجوز أن تكون للتعليل،والمعلل محذوف دل عليه قوله: {قَدْ نَعْلَمُ} ،أي فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك،أي لأنهم لا يكذبونك.ويجوز كونها للفصيحة،والتقدير:فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنهم لا يكذبونك،فالله قد سلى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأن المشركين لا يكذبونه ولكنهم أهل جحود ومكابرة.وكفى بذلك تسلية.ويجوز أن تكون للتفريع على {قَدْ نَعْلَمُ} ،أي فعلمنا بذلك يتفرع عليه أنا نثبت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنهم لا يكذبونك،وبأن نذكرك بسنة الرسل من قبلك، ونذكرك بأن العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله.
وقرأ نافع،والكسائي،وأبو جعفر {لا يُكْذِِبُونَكَ} ،ـ بسكون الكاف وتخفيف الذال ـ.وقرأه الجمهورـ بفتح الكاف وتشديد الذال ـ.وقد قال بعض أئمة اللغة إن أكذب وكذب بمعنى واحد، أي نسبه إلى الكذب.وقال بعضهم:"أكذبه، وجده كاذبا،كما يقال:أحمده، وجده محمودا".وأما كذّب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب.وعن الكسائي:"أن أكذبه هو بمعنى كذب ما جاء به ولم ينسب المفعول إلى الكذب،وأن كذبه هو نسبه إلى الكذب".وهو معنى ما نقل عن الزجاج معنى كذبته، قلت له:كذبت،ومعنى أكذبته، أريته أن ما أتى به كذب.
وقوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} استدراك لدفع أن يتوهم من قوله: {لا يُكْذِبُونَكَ} على قراءة نافع ومن وافقه أنهم صدقوا وآمنوا،وعلى قراءة البقية {لا يُكَذِّبُونَكَ} أنهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أن الواقع خلاف ذلك،فاستدرك عليه بأنهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتي بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذبين في نفوسهم.
والجحد والجحود،الإنكار للأمر المعروف،أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر،فهو نفي ما يعلم النافي ثبوته،فهو إنكار مكابرة.
وعدل عن الإضمار إلى قوله: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} ذمّاً لهم وإعلاما بأن شأن الظالم الجحد بالحجة، وتسجيلا عليهم بأن الظلم سجيتهم.
(6/73)

وعدي {يجحدون} بالباء كما عدي في قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] لتأكيد تعلق الجحد بالمجحود، كالباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ،وفي قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الاسراء: 59] ،وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يظلع عاثرا
ثم إن الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات.وجحدها إنكار أنها من آيات الله،أي تكذيب الآتي بها في قوله: إنها من عند الله، فآل ذلك إلى أنهم يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يجمع هذا مع قوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} على قراءة الجمهور.والذي يستخلص من سياق الآية أن المراد فإنهم لا يعتقدون أنك كاذب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقب بينهم بالأمين.وقد قال النضر بن الحارث لما تشاورت قريش في شأن الرسول: "يا معشرقريش قد كان محمد فيكم غلاما أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هو بأولئكم".ولأن الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنها من عند الله، ولأن دلائل صدقه بينة واضحة ولكنكم ظالمون.
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحق بدون شبهة.فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنه الحق، وذلك هو الجحود.وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم.ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] فيكون في الآية احتباك.والتقدير: فإنهم لا يكذبونك ولا يكذبون الآيات ولكنهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك، فحذف من كل لدلالة الآخر.
وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به".فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ".ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية.لأن أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء،كما قال ابن العربي في العارضة: "ذلك أنه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة، فقوله: لا نكذبك،استهزاء بإطماع التصديق".
[34] {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا
(6/74)

مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}
عطف على جملة {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] أو على جملة {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء،أي فلا تحزن،أو إن أحزنك ذلك فإنهم لا يكذبونك والحال قد كذبت رسل من قبلك.والكلام على كل تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأن إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله؛ فإنهم كذبوا بالقول والاعتقاد وأما قومه فكذبوا بالقول فقط.وفي الكلام أيضا تأس للرسول بمن قبله من الرسل.
ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة من ذهل طويلا عن تكذيب الرسل لأنه لما أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعد علمه بذلك.و {مِنْ قَبْلِكَ} وصف كاشف لـ {رسل} جيء به لتقرير معنى التأسي بأن ذلك سنة الرسل.
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم،فإن الأمم كذبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها،والعرب كذبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف.
و"ما"مصدرية،أي صبروا على التكذيب،فيجوز أن يكون قوله: {وأوذوا} عطفا على {كذبوا} وتكون جملة {فصبروا} معترضة.والتقدير: ولقد كذبت وأوذيت رسل فصبروا.فلا يعتبر الوقف عند قوله: {عَلَى مَا كُذِّبُوا} بل يوصل الكلام إلى قوله: {نصرنا} ،وأن يكون عطفا على {كُذِّبَتْ رُسُلٌ} ،أي كذبت وأوذوا.ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأن التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله: {عَلَى مَا كُذِّبُوا} .
وقرن فعل {كذبت} بعلامة التأنيث لأن فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجح اتصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة.ومن ثم جاء فعلا {فصبروا} و {كذبوا} مقترنين بواو الجمع،لأن فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير.
وعطف {وأوذوا} على {كذبت} عطف الأعم على الأخص،والأذى أعم من التكذيب،لأن الأذى هو ما يسوء ولو إساءة ما،قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران: 111] ويطلق على التشديد منه.فالأذى اسم اشتق منه آذى إذا جعل له أذى وألحقه
(6/75)

به.فالهمزة به للجعل أو للتصيير.ومصادر هذا الفعل أذى وأذاة وأذية.وكلها أسماء مصادر وليست مصادر.وقياس مصدره الإيذاء لكنه لم يسمع في كلام العرب.فلذلك قال صاحب القاموس: "لا يقال: إيذاء".وقال الراغب: "يقال: إيذاء".ولعل الخلاف مبني على الخلاف في أن القياسي يصح إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقف إطلاقه على سماع نوعه من مادته.ومن أنكر على صاحب القاموس فقد ظلمه.وأياما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته.ولقد يعد على صاحب الكشاف استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة.
و {حتى} ابتدائية أفادت غاية ما قبلها،وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما،فإن النصر كان بإهلاك المكذبين المؤذين،فكان غاية للتكذيب والأذى،وكان غاية للصبر الخاص،وهو الصبر على التكذيب والأذى،وبقي صبر الرسل على أشياء مما أمر بالصبر عليه.
والإتيان في قوله: {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره،فشبه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادي المنتظر.وتقدم بيان هذا عند قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} في هذه السورة[4] .
وجملة {وَلا مُبَدِّلَ} عطف على جملة {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} .
وكلمات الله وحيه للرسل الدال على وعده إياهم بالنصر،كما دلت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة.فالمراد كلمات من نوع خاص،فلا يرد أن بعض كلمات الله في التشريع قد تبدل بالنسخ؛ على أن التبديل المنفي مجاز في النقض، كما تقدم في قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} في سورة البقرة[181] .وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} في هذه السورة[115] .
وهذا تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل،ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم،أي أن إهلاك المكذبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم.
ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل،أي لا تبديل، لأن التبديل لا يكون إلا من مبدل.ومعناه: أن غير الله عاجز عن أن يبدل مراد الله،وأن الله أراد أن لا يبدل كلماته
(6/76)

في هذا الشأن.
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} عطف على جملة {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} ،وهو كلام جامع لتفاصيل ما حل بالمكذبين،وبكيف كان نصر الله رسله.وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك.
والقول في {جاءك} كالقول في {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} ،فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به.
و"من"في قوله: {مِنْ نَبَأِ} إما اسم بمعنى"بعض"فتكون فاعلا مضافة إلى لنبأ،وهو ناظر إلى قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] .والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره: لقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين.والنبأ الخبر عن أمر عظيم، قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2,1] ،وقال: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [صّ: 68,67] وقال في هذه السورة[67] {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
[35] {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
عطف على جملة {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] ،فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزنه ما يقولونه فيه من التكذيب به وبالقرآن حزنا على جهل قومه بقدر النصيحة وإنكارهم فضيلة صاحبها،وحزنا من جراء الأسف عليهم من دوام ضلالهم شفقة عليهم،وقد سلاه الله تعالى عن الحزن الأول بقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وسلاّه عن الثاني بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} الآية.
و {كبر} ككرم،كبرا كعنب: عظمت جثته.ومعنى {كبر} هنا شق عليك.وأصله عظم الجثة،ثم استعمل مجازا في الأمور العظيمة الثقيلة لأن عظم الجثة يستلزم الثقل،ثم استعمل مجازا في معنى"شق"لأن الثقيل يشق جمله.فهو مجاز مرسل بلزومين.
وجيء في هذا الشرط بحرف"إن"الذي يكثر وروده في الشرط الذي لا يظن حصوله للإشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بمظنة ذلك ولكنه على سبيل الفرض.
(6/77)

وزيدت"كان"بعد"إن"الشرطية بينها وبين ما هو فعل الشرط في المعنى ليبقى فعل الشرط على معنى المضي فلا تخلصه"إن"الشرطية إلى الاستقبال،كما هو شأن أفعال الشروط بعد"إن"،فإن "كان"لقوة دلالته على المضي لا تقبله أداة الشرط إلى الاستقبال.
والإعراض المعرف بالإضافة هو الذي مضى ذكره في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] وهو حالة أخرى غير حالة التكذيب،وكلتاهما من أسباب استمرار كفرهم.
وقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} جواب {إِنْ كَانَ كَبُرَ} ،وهو شرط ثان وقع جوابا للشرط الأول.والاستطاعة: القدرة.والسين والتاء فيها للمبالغة في طاع، أي انقاد.
والابتغاء: الطلب.وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران[83] ،أي أن تطلب نفقا أو سلما لتبلغ إلى خبايا الأرض وعجائبها والى خبايا السماء.ومعنى الطلب هنا: البحث.
وانتصب {نفقا} و {سلما} على المفعولين لـ {تبتغي} .
والنفق: سرب في الأرض عميق.
والسلم بضم ففتح مع تشديد اللام ـآلة للارتقاء تتخذ من حبلين غليظين متوازيين تصل بينهما أعواد أو حبال أخرى متفرقة في عرض الفضاء الذي بين الحبلين من مساحة ما بين كل من تلك الأعواد بمقدار ما يرفع المرتقي إحدى رجليه إلى العود الذي فوق ذلك، وتسمى تلك الأعواد درجات.ويجعل طول الحبلين بمقدار الارتفاع الذي يراد الارتقاء إليه.ويسمى السلم مِرْقاة ومِدْرجة.وقد سموا الغرز الذي يرتقي به الراكب على رحل ناقته سلما.وكانوا يرتقون بالسلم إلى النخيل للجذاذ.وربما كانت السلاليم في الدور تتخذ من العود فتسمى المرقاة.فأما الدرج المبنية في العلالي فإنها تسمى سلما وتسمى الدّرَجة كما ورد في حديث مقتل أبي رافع قول عبد الله بن عتيك في إحدى الروايات: "حتى انتهيت إلى درجة له"، وفي رواية: "حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه".
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} صفة {نفقا} أي متغلغلا، أي عميقا.فذكر هذا المجرور لإفادة المبالغة في العمق مع استحضار الحالة وتصوير حالة الاستطاعة إذ من المعلوم أن النفق لا يكون إلا في الأرض.
(6/78)

وأما قوله: {فِي السَّمَاءِ} فوصف به {سلما} ،أي كائنا في السماء،أي واصلا إلى السماء.والمعنى تبلغ به إلى السماء.كقول الأعشى:
ورقيت أسباب السماء بسلم
والمعنى: فإن استطعت أن تطلب آية من جميع الجهات للكائنات.ولعل اختيار الابتغاء في الأرض والسماء أن المشركين سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام آيات من جنس ما في الأرض،كقولهم: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء: 90] ، ومن جنس ما في السماء، كقولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الاسراء: 93] .
وقوله: {بآية} أي بآية يسلمون بها،فهنالك وصف محذوف دل عليه قوله: {إعراضهم} ،أي عن الآيات التي جئتهم بها.
وجواب الشرط محذوف دل عليه فعل الشرط، وهو {استطعت} .
والشرط وجوابه مستعملان مجازا في التأييس من إيمانهم وإقناعهم،لأن الله جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.
ويتعين تقدير جواب الشرط مما دل عليه الكلام السابق،أي فأتهم بآية فإنهم لا يؤمنون بها،كما يقول القائل للراغب في إرضاء ملح.إن استطعت أن تجلب ما في بيتك،أي فهو لا يرضى بما تقصر عنه الاستطاعة بله ما في الاستطاعة.وهو استعمال شائع،وليس فيه شيء من اللوم ولا من التوبيخ،كما توهمه كثير من المفسرين.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} شرط امتناعي دل على أن الله لم يشأ ذلك،أي لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم عليه؛فمفعول المشيئة محذوف لقصد البيان بعد الإبهام على الطريقة المسلوكة في فعل المشيئة إذا كان تعلقه بمفعوله غير غريب وكان شرطا لإحدى أدوات الشرط كما هنا، وكقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [النساء: 133] .
ومعنى {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} لهداهم أجمعين.فوقع تفنن في أسلوب التعبير فصار تركيبا خاصيا عدل به عن التركيب المشهور في نحو قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] للإشارة إلى تمييز الذين آمنوا من أهل مكة على من بقي فيها من المشركين، أي لو شاء لجمعهم مع المؤمنين على ما هدى إليه المؤمنين من قومهم.
والمعنى: لو شاء الله أن يخلقهم بعقول قابلة للحق لخلقهم بها فلقلبوا الهدى،
(6/79)

ولكنه خلقهم على ما وصف في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] الآية، كما تقدم بيانه،وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] ،وبذلك تعلم أن هذه مشيئة كلية تكوينية، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة[148] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} الآية.فهذا من المشيئة المتعلقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلقة بالأمر والتشريع.وبينهما بون، سقط في مهواته من لم يقدر له صون.
وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} تذييل مفرع على ما سبق.
والمراد بـ {الجاهلين} يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضد العلم،كما في قوله تعالى خطابا لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] ،وهو ما حمل عليه المفسرون هنا،ويجوز أن يكون من الجهل ضد الحلم،أي لا تضق صدرا بإعراضهم.وهو أنسب بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} .وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين: جملة {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} وجملة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} .ومع كون هذه الجملة تذييلا للكلام السابق فالمعنى: فلا يكبر عليك إعراضهم ولا تضق به صدرا،وأيضا فكن عالما بأن الله لو شاء لجمعهم على الهدى.وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من علم الحقيقة يختص بحالة خاصة فلا يطرد في غير ذلك من مواقف التشريع.
وإنما عدل عن الأمر بالعلم لأن النهي عن الجهل يتضمنه فيتقرر في الذهن مرتين،ولأن في النهي عن الجهل بذلك تحريضا على استحضار العلم به،كما يقال للمتعلم: لا تنس هذه المسألة.وليس في الكلام نهي عن شيء تلبس به الرسول صلى الله عليه وسلم كما توهمه جمع من المفسرين،وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين.
[36] {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
تعليل لما أفاده قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ـإلى قوله ـ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم،أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع.
ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يؤمئ إلى إرجاء بعد تاييس بأن الله جعل لقوم آخرين قلوبا يفقهون بها وآذانا يسمعون بها فأولئك يستجيبون.
(6/80)

وقوله: {يستجيب} بمعنى يجيب، فالسين والتاء زائدان للتأكيد، وقد تقدم الكلام على هذا الفعل عند قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} في سورة آل عمران[195] .وحذف متعلق {يستجيب} لظهوره من المقام لأن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسول.
ومعنى {يسمعون} ،أنهم يفقهون ما يلقى إليهم من الإرشاد لأن الضالين كمن لا يسمع.فالمقصود سمع خاص وهو سمع الاعتبار.
أما قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} فالوجه أنه مقابل لـ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ولذلك حسن عطف هذه الجملة على جملة {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} .فمعنى الكلام: وأما المعرضون عنك فهم مثل الموتى فلا يستجيبون، كقوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] .فحذف من الكلام ما دل عليه السياق، فإن الذي لا يسمع قد يكون فقدان سمعه من علة كالصمم، وقد يكون من عدم الحياة،كما قال عبد الرحمان بن الحكم الثقفي:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فتضمن عطف {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} تعريضا بأن هؤلاء كالأموات لا ترجى منهم استجابة.وتخلص إلى وعيدهم بأنه يبعثهم بعد موتهم،أي لا يرجى منهم رجوع إلى الحق إلى أن يبعثوا،وحينئذ يلاقون جزاء كفرهم. {والموتى} استعارة لمن لا ينتفعون بعقولهم ومواهبهم في أهم الأشياء،وهو ما يرضي الله تعالى.و {يبعثهم} على هذا حقيقة،وهو ترشيح للاستعارة،لأن البعث من ملائمات المشبه به في العرف وإن كان الحي يخبر عنه بأنه يبعث،أي بعد موته،ولكن العرف لا يذكر البعث إلا باعتبار وصف المبعوث بأنه ميت.
ويجوز أن يكون البعث استعارة أيضا للهداية بعد الضلال تبعا لاستعارة الموت لعدم قبول الهدى على الوجهين المعروفين في الترشيح في فن البيان من كونه تارة يبقى على حقيقته لا يقصد منه إلا تقوية الاستعارة،وتارة يستعار من ملائم المشبه به إلى شبهه من ملائم المشبه،كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران: 103] .فيكون على هذا الوجه في الكلام وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بأن بعض هؤلاء الضالين المكذبين سيهديهم الله تعالى إلى الاسلام،وهم من لم يسبق في علمه حرمانهم من الإيمان.
(6/81)

فعلى الوجه الأول يكون قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} زيادة في التهديد والوعيد.وعلى الوجه الثاني يكون تحريضا لهم على الإيمان ليلقوا جزاءه حين يرجعون إلى الله.ويجوز أن يكون الوقف عند قوله تعالى: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} .وتم التمثيل هنالك.ويكون قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} استطرادا تخلص به إلى قرع أسمائهم بإثبات الحشر الذي يقع بعد ا لبعث الحقيقي،فيكون البعث في قوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} مستعملا في حقيقته ومجازه.وقريب منه في التخلص قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} في سورة البقرة[73] .
[37] {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
عطف على جملة {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] الآيات،وهذا عود إلى ما جاء في أول السورة[4] من ذكر إعراضهم عن آيات الله بقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .ثم ذكر ما تفننوا به من المعاذير من قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] أي وقالوا: لولا أنزل عليه آية،أي على وفق مقترحهم،وقد اقترحوا آيات مختلفة في مجادلات عديدة.ولذلك أجملها الله تعالى هنا اعتمادا على علمها عند الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين،فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} .
فجملة {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وقع عطفها معترضا بين جملة {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] وجملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الخ.وفي الإتيان بفعل النزول ما يدل على أن الآية المسئولة من قبيل ما يأتي من السماء، مثل قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقولهم: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] وشبه ذلك.
وجرد {نزل} من علامة التأنيث لأن المؤنث الذي تأنيثه لفظي بحت يجوز تجريد فعله من علامة التأنيث؛فإذا وقع بين الفعل ومرفوعه فاصل اجتمع مسوغان لتجريد الفعل من علامة التأنيث،فإن الفصل بوحده مسوغ لتجريد الفعل من العلامة.وقد صرح في الكشاف بإن تجريد الفعل عن علامة التأنيث حينئذ حسن.
و {لولا} حرف تحضيض بمعنى"هلا".والتحضيض هنا لقطع الخصم وتعجيزه،
(6/82)

كما تقدم في قوله تعالى آنفا {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] .
وتقدم الكلام على اشتقاق {آية} عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} في سورة البقرة[39] .
وفصل فعل {قل} فلم يعطف لأنه وقع موقع المحاورة فجاء على طريقة ا لفصل التي بيناها في مواضع كثيرة،أولها: قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30] .
وأمر الله رسوله أن يجيبهم بما يعلم منه أن الله لو شاء لأنزل آية على وفق مقترحهم تقوم عليهم بها الحجة في تصديق الرسول،ولكن الله لم يرد ذلك لحكمة يعلمها؛فعبر عن هذا المعنى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} وهم لا ينكرون أن الله قادر،ولذلك سألوا الآية،ولكنهم يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يثبت صدقه إلا إذا أيده الله بآية على وفق مقترحهم.فقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} مستعمل في معناه الكنائي،وهو انتفاء أن يريد الله تعالى إجابة مقترحهم،لأنه لما أرسل رسوله بآيات بينات حصل المقصود من إقامة الحجة على الذين كفروا،فلو شاء لزادهم من الآيات لأنه قادر.
ففي هذه الطريقة من الجواب إثبات للرد بالدليل،وبهذا يظهر موقع الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فإنه راجع إلى المدلول الالتزامي,أي ولكن أكثر المعاندين لا يعلمون أن ذلك لو شاء الله لفعله، ويحسبون أن عدم الإجابة إلى مقترحهم بدل على عدم صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك من ظلمة عقولهم،فلقد جاءهم من الآيات ما فيه مزدجر.
فيكون المعنى الذي أفاده هذا الرد غير المعنى الذي أفاده قوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] فإن ذلك نبهوا فيه على أن عدم إجابتهم فيه فائدة لهم وهو استبقاؤهم،وهذا نبهوا فيه على سوء نظرهم في استدلالهم.
وبيان ذلك أن الله تعالى نصب الآيات دلائل مناسبة للغرض المستدل عليه كما يقول المنطقيون: إن المقدمات والنتيجة تدل عقلا على المطلوب المستدل عليه،وإن النتيجة هي عين المطلوب في الواقع وإن كانت غيره في الاعتبار؛فلذلك نجد القرآن يذكر الحجج على عظيم قدرة الله على خلق الأمور العظيمة، كإخراج الحي من الميت وإخراج الميت
(6/83)

من الحي في سياق الاستدلال على وقوع البعث والحشر.ويسمي تلك الحجج آيات كقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98] ، وكما سيجيء في أول سورة الرعد[2] {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .وذكر في خلال ذلك تفصيل الآيات إلى قوله ـ {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .وكذلك ذكر الدلائل على وحدانية الله باستقلاله بالخلق، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ـإلى قوله ـ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 101ـ105] الخ، وكقوله في الاستدلال على انفراده بأنواع الهداية، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .ولما كان نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام حجة على صدقه في إخباره أنه منزل من عند الله لما اشتمل عليه من العلوم وتفاصيل المواعظ وأحوال الأنبياء والأمم وشرع الأحكام مع كون الذي جاء به معلوم الأمية بينهم قد قضى شبابه بين ظهرانيهم،جعله آية على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به عن الله تعالى، فسماه آيات في قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] فلم يشأ الله أن يجعل الدلائل على الأشياء من غير ما يناسبها.
أما الجهلة والضالون فهم يرومون آيات من عجائب التصاريف الخارقة لنظام العالم يريدون أن تكون علامة بينهم وبين الله على حسب اقتراحهم بأن يحييهم إليها إشارة منه إلى أنه صدق الرسول فيما بلغ عنه، فهذا ليس من قبيل الاستدلال ولكنه من قبيل المخاطرة ليزعموا أن عدم إجابتهم لما اقترحوه علامة على أن الله لم يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة.ومن أين لهم أن الله يرضى بالنزول معهم إلى هذا المجال،ولذلك قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ،أي لا يعلمون ما وجه الارتباط بين دلالة الآية ومدلولها.ولذلك قال في الرد عليهم في سورة الرعد[7] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} فهم جعلوا إيمانهم موقوفا على أن تنزل آية من السماء.وهم يعنون أن تنزيل آية من السماء جملة واحدة.فقد قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] وقالوا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] فرد الله عليهم بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] ، أي لا علاقة بين الإنذار وبين اشتراط كون الإنذار في كتاب ينزل من السماء،لأن الإنذار حاصل بكونه إنذارا مفصلا بليغا دالا على أن المنذر به ما اخترعه من تلقاء نفسه، ولذلك رد
(6/84)

عليهم بما يبين هذا في قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ـإلى قوله ـ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 48ـ51] أي فما فائدة كونه ينزل في قرطاس من السماء مع أن المضمون واحد.
وقال في رد قولهم: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء: 93] {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء: 93] .نعم إن الله قد يقيم آيات من هذا القبيل من تلقاء اختياره بدون اقتراح عليه،وهو ما يسمى بالمعجزة مثل ما سمى بعض ذلك بالآيات في قوله: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ،فذلك أمر أنف من عند الله لم يقترحه عليه أحد.وقد أعطى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من ذلك كثيرا في غير مقام اقتراح من المعرضين،مثل انشقاق القمر،ونبع الماء من بين أصابعه،وتكثير الطعام القليل،ونبع الماء من الأرض بسهم رشقه في الأرض.هذا هو البيان الذي وعدت به عند قوله تعالى: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} في هذه السورة[8] .
ومن ا لمفسرين من جعل معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنهم لا يعلمون أن إنزال الآية على وفق مقترحهم يعقبها الاستئصال إن لم يؤمنوا، وهم لعنادهم لا يؤمنون.إلا أن ما فسرتها به أولى لئلا يكون معناها إعادة لمعنى الآية التي سبقتها، وبه يندفع التوقف في وجه مطابقة الجواب لمقتضى السؤال حسبما توقف فيه التفتزاني في تقرير كلام الكشاف.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تنبيه على أن فيهم من يعلم ذلك ولكنه يكابر ويظهر أنه لا يتم عنده الاستدلال إلا على نحو ما اقترحوه.
وإعادة لفظ {آية} بالتنكير في قوله: {أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} من إعادة النكرة نكرة وهي عين الاولى.وهذا يبطل القاعدة المتداولة بين المعربين من أن اللفظ المنكر إذا أعيد في الكلام منكرا كان الثاني غير الأول.وقد ذكرها ابن هشام في مغني اللبيب في الباب السادس ونقضها.ومما مثل به لإعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى لا غيرها قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] .وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} في سورة النساء[128] .
(6/85)

[38] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
معنى هذه الآية غامض بدءا.ونهايتها أشد غموضا،وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة.فاعلم أن معنى قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ـإلى قوله ـ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أن لها خصائص لكل جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها،أي جعل الله لكل نوع ما به قوامه وألهمه اتباع نظامه وأن لها حياة مؤجلة لا محالة.
فمعنى {أمثالكم} المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها.
وأما معنى قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} أنها صائرة إلى الموت.ويعضده ما روي عن ابن عباس: "حشر البهائم موتها"،أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17] .فموقع هذه الآية عند بعض المفسرين أنها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] ،فيجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام: 37] على أنها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم؛ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ} [الأنعام: 37] على أنها من خطاب الله لهم.أي أن الذي خلق أنواع الأحياء كلها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كل نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم.ويكون تعقيبه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} [الأنعام: 39] الآية واضح المناسبة،أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله.
وأما قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فإن نظرنا إليه مستقبلا بنصه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره؛فأول ما يبدو للناظر أن ضميري {ربهم} و {يحشرون} عائدان إلى {دابة} و {طائر} باعتبار دلالتهما على جماعات الدواب والطير لوقوعهما في حيز حرف"من"المفيدة للعموم في سياق النفي،فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء.وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين: أحدهما أنه بناء على التغليب إذ جاء بعده {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} .الوجه الثاني أنهما عائدان إلى {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي أن الأمم كلها محشورة إلى الله تعالى.
(6/86)

وأحسن من ذلك تأويلا أن يكون الضميران عائدين إلى ما عادت إليه ضمائر الغبيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} ،فيكون موقع جملة {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك.
فإذا وقع الالتفات إلى ما روي من الآثار المتعلقة بالآية كان الأمر مشكلا.فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء "التي لا قرن لها،وفي رواية غيره: الجماء"من الشاة القرناء".وروى أحمد بن حنبل وأبو داود الطيالسي في مسنديهما عن أبي ذر قال: "انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟" ،قلت: "لا"،قال: "لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة" .فهذا مقتض إثبات حشر الدواب ليوم الحساب، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقق انتفاء تكليف الدواب والطير تبعا لانتفاء العقل عنها.وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلا عن عبد الجبار بأنه لما قدم الله أن الكفار يرجعون إليه ويحشرون بين بعده أن الدواب والطير أمم أمثالهم في أنهم يحشرون.والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم.وهذا ظاهر قوله: {يحشرون} لأن غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب، فيناسب أن تكون جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} الآية عطفا على جملة: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ،فإن المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام به من أسباب تهمته فيما جاء به،فلما توعدهم الله بالآية السابقة بأنهم إليه يرجعون زاد أن سجل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب مما أنكروه،وهو إعلامهم بأن الحشر ليس يختص بالبشر بل يعم كل ما فيه حياة من الدواب والطير.فالمقصود من هذا الخبر هو قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} .وأما ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه،أي فالدواب والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلها يوم الحشر،وذلك يقتضي لا محالة أن يقتص لها، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض ما فيها وإعادة أجزاء الحيوان.
وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإن هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدواب من رد فعل ظالمه كيلا يستقر الباطل.فهو من قبيل
(6/87)

ترتب المسببات على أسبابها شبيه بخطاب الوضع،وليس في ذلك ثواب ولا عقاب لانتفاء التكليف ثم تصير الدواب يومئذ ترابا،كما ورد في رواية عن أبي هريرة في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] .قال المازري في المعلم: "واضطرب العلماء في بعث البهائم.وأقوى ما تعلق به من يقول ببعثها قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .وقد قيل: إن هذا كله تمثيل للعدل.ونسبه المازري إلى بعض شيوخه قال: هو ضرب مثل إعلاما للخلق بأن لا يبقى حق عند أحد".
والدابة مشتقة من دب إذا مشى على الأرض،وهي اسم لكل ما يدب على الأرض.وقوله: {فِي الْأَرْضِ في الأرض} صفة قصد منها إفادة التعميم والشمول بذكر اسم المكان الذي يحوي جميع الدواب وهو الأرض، وكذلك وصف {طائر} بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قصد به الشمول والإحاطة،لأنه وصف آيل إلى معنى التوكيد،لأن مفاد {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أنه طائر، كأنه قيل: ولا طائر ولا طائر.والتوكيد هنا يؤكد معنى الشمول الذي دلت عليه"من"الزائدة في سياق النفي،فحصل من هذين الوصفين تقرير معنى الشمول الحاصل من نفي اسمي الجنسين.ونكتة التوكيد أن الخبر لغرابته عندهم وكونه مظنة إنكارهم أنه حقيق بأن يؤكد.
ووقع في المفتاح في بحث إتباع المسند إليه بالبيان أن هذين الوصفين في هذه الآية للدلالة على أن القصد من اللفظين الجنس لا بعض الأفراد وهو غير ما في الكشاف،وكيف يتوهم أن المقصود بعض الأفراد ووجود"من"في النفي نص على نفي الجنس دون الوحدة.
وبهذا تعلم أن ليس وصف {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} واردا لرفع احتمال المجاز في {طائر} كما جنح إليه كثير من المفسرين وإن كان رفع احتمال المجاز من جملة نكت التوكيد اللفظي إلا أنه غير مطرد،ولأن اعتبار تأكيد العموم أولى،بخلاف نحو قولهم: نظرته بعيني وسمعته بأذني.وقول صخر:
شعر واتخذت من شعر صدارها
إذ من المعلوم أن الصدار لا يكون إلا من شعر.
و {أمم} جمع أمة.والأمة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع.قيل: سميت أمة لأن أفرادها تؤم أمما واحدا وهو
(6/88)

ما يجمع مقوماتها.
وأحسب أن لفظ أمة خاص بالجماعة العظيمة من البشر،فلا يقال في اللغة أمة الملائكة ولا أمة السباع.فأما إطلاق الأمم على الدواب والطير في هذه الآية فهو مجاز،أي مثل الأمم لأن كل نوع منها تجتمع أفراده في صفات متحدة بينها أمما واحدة،وهو ما يجمعها وأحسب أنها خاصة بالبشر.
و {دابة} و {طائر} في سياق النفي يراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق،فالإخبار عنهما بلفظ {أمم} وهو جمع على تأويله بجماعاتها،أي إلا جماعاتها أمم،أو إلا أفراد أمم.
وتشمل الأرض البحر لأنه من الأرض ولأن مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابة،كما ورد في حديث سرية سيف البحر قول جابر بن عبد الله: "فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر".
والمماثلة في قوله: {أمثالكم} التشابه في فصول الحقائق والخاصات التي تميز كل نوع من غيره،وهي النظم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات.فالدواب والطير تماثل الأناسي في أنها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها وأنها مخلوقة لله معطاة حياة مقدرة مع تقدير ارازقها وولادتها وشبابها وهرمها، ولها نظم لا تستطيع تبديلها.وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختص به الإنسان.ولذلك لا يصح إن يكون لغير الإنسان نظام دولة ولا شرائع ولا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهن،وكذلك لا يصح أن توصف بمعرفة الله تعالى.وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بهجة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة.وإنما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها ولكنها تحس بأثرها فتبتهج،ولأن في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كل نوع،والخطاب في قوله: {أمثالكم} موجه إلى المشركين.
وجملة {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته.فالكتاب هنا بمعنى المكتوب،وهو المكنى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على وفقه كما تقدم في قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}
(6/89)

[الأنعام: 12] .
وقيل الكتاب بالقرآن.وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير،فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كل شيء.وقد بسط فخر الدين بيان ذلك لاختيار هذا القول وكذلك أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات.
والتفريط: الترك والإهمال،وتقدم بيانه آنفا عند قوله تعالى: {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [لأنعام: 31} .
والشيء هو الموجود.والمراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدل عليه السياق فشمل أحوال الدواب والطير فإنها معلومة لله تعالى مقدرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى.
وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} تقدم تفسيره آنفا في أول تفسير هذه الآية.وفي الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإن الإخبار بأنها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلها.وفي قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتص لبعضها من بعض وهي غير مكلفة، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل.وقد ثبت في الحديث الصحيح: "أن الله شكر للذي سقى الكلب العطشان،وأن الله أدخل امرأة النار في هرة حبستها فماتت جوعا".
[39] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]
يجوز أن تكون الواو للعطف،والمعطوف عليه جملة {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} .والمعنى: والذين كذبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها،أي لا يستجيبون بمنزلة صم وبكم في ظلمات لا يهتدون.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية،أي عاطفة كلاما مبتدأ ليس مرتبطا بجملة معينة من الكلام السابق ولكنه ناشئ عن جميع الكلام المتقدم.فإن الله لما ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرف الناس بوحدانيته ويدلهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أن المكذبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك، وعن التأمل والتفكير
(6/90)

فيه، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] الآية قد تعرضنا إليها آنفا.
والمراد بالذين كذبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموما وخصوصا.
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صم وبكم في ظلام.فالصمم يمنعهم من تلقي هدى من يهديهم، والبكم يمنعهم من الاسترشاد ممن يمر بهم، والظلام يمنعهم من التبصر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.
وإنما قيل في {الظلمات} ولم يوصفوا بأنهم عمي كما في قوله: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97} [ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبهة، فإن الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة.وفي الحديث: "الظلم ظلمات يوم القيامة" .فهذا التمثيل جاء على أتم شروط التمثيل.وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة، كقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفردا.وقد تقدم في صدر السورة، وقيل: للإشارة إلى ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة العناد.
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} خبر ومعطوف عليه.وقوله: {فِي الظُّلُمَاتِ} خبر ثالث لأنه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعددة من العطف وتركه.
وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} استئناف بياني لأن حالهم العجيبة تثير سؤالا وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البينات، فأجيب بأن الله أضلهم فلا يهتدون، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فدل قوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} على أن هؤلاء المكذبين الضالين هم ممن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف، وهذا مرتبط بما تقدم من قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] .
ومعنى إضلال الله تقديره الضلال؛ بأن يخلق الضال بعقل قابل للضلال مصر على ضلالة عنيد عليه فإذا أخذ في مبادئ الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو
(6/91)

خطر له في نفسه خاطر أنه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى غاية التخلق بالضلال فلا ينكف عنه.وهذا مما أشار إليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5,4] ،ودل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" .وكل هذا من تصرف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرف القدر.وله اتصال بناموس التسلسل في تطور أحوال البشر في تصرفات بعقولهم وعوائدهم، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم، ولا يعلم كنهها إلا الله تعالى، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإن الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحث عليه وتسهيله فإن ذلك من فعل الشيطان، كما أن الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأن ذلك فضل من هو أعلم بأهله.ومفعول {يشأ} محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا.
والصراط هو الطريق البين.ومعنى المستقيم أنه لا اعوجاج فيه، لأن السير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولا إلى المقصود.
ومعنى"على"الاستعلاء، وهو استعلاء السائر على الطريق.فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمن عليه العقل يرعوي من غيه ويصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتبع الدين الحق، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحير ولا يخطئ القصد، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير.وهذا التمثيل أيضا صالح لتشبيه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، كما تقدم في نظيره.وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] .فالدين يشبه الصراط الموصل بغير عناء، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط.
[41,40] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي يتضمن تهديدا بالوعيد طردا للأغراض السابقة، وتخلله تعريض بالحث على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذكروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله,وألقي عليهم سؤال أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل
(6/92)

يستمرون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته، ولات حين إيمان.
وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماما به وإلا فإن معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم.وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرة.وورد نظيره في سورة يونس.
وقوله: {أرأيتكم} تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به.وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.
و"رأى"فيه بمعنى الظن.يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفردا أو غيره، مذكرا أو غيره، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالبا ضمير خطاب عائدا إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب.والمعنى أن المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار، فإن من خصائص أفعال باب الظن أنه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحدا "وألحق بأفعال العلم فعلان: فقد، وعدم في الدعاء نحو فقدتني"، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل.
هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب.وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادة مسد المفعولين تفصيا من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرد علامات خطاب لا محل لها من الإعراب، وذلك حفاظا علة متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أن لغرائب الاستعمال أحوالا خاصة لا ينبغي غض النظر عنها إلا إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلمين.ولا يخفى أن ما ذهبوا إليه هو أشد غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متحد.وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} .
وإنما تركت التاء على حالة واحدة لأنه لما جعلت ذات الفاعل ذات المفعول إعرابا وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جاريا مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتماكما، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ، ونحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا باختلاف
(6/93)

حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصارا وتخفيفا، وبذلك تأتى أن يكون هذا التركيب جاريا مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلا لشيوع استعماله استعمالا خاصا لا يغير عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنث ولا تضم في خطاب المثنى والمجموع.
وعن الأخفش: "أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى"أما"بفتح الهمزة، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] فما دخلت الفاء إلا وقد أخرجت"أرأيت"لمعنى"أما"؛ وأخرجته أيضا إلى معنى"أخبرني"فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان".اهـ.
في الكشاف: "متعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذا ب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، ثم بكتهم بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ، أي أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إياه تدعون"اهـ.وجملة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} هي المفعول الثاني لفعل {أرأيتكم} .
واعلم أن هذا استعمال خاص بهذا التركيب الخاص الجاري مجرى المثل، فأما إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه.فمن قال لك: رأيتني عالما بفلان.فأردت التحقق فيه تقول: أرأيتك عالما بفلان.وتقول للمثنى: أرأيتما كما عالمين بفلان، وللجمع أرأيتموكم وللمؤنثة أرأيتك ـ بكسر التاء ـ.
وقرأه نافع في المشهور ـ بتسهيل الهمزة ألفا ـ؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف.وقرأه الكسائي ـ بإسقاط الهمزة ـالتي هي عين الكلمة، فيقول: {أريت} وهي لغة.وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة.
وجملة {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الخ معترضة بين مفعولي فعل الرؤية، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه.
وإتيان العذاب: حلوله وحصوله، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان، فيطلق مجازا على
(6/94)

حصول شيء لم يكن حاصلا.وكذلك القول في إتيان الساعة سواء.
ووجه إعادة فعل {أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} مع كون حرف العطف مغنيا عن إعادة العامل بأن يقال:إن أتاكم عذاب الله أو الساعة، هو ما يوجه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمظهر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنه أقوى استقرارا في ذهن السامع.
والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدال على أمر مهول ليدل تعلق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته.
وقد استشعر الاحتياج إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عرفة في درس تفسيره، ولكنه وجهه بأنه"إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشد يعاد العامل بعد حرف العطف إشعارا بالتفاوت، فإن إتيان العذاب أشد من إتيان الساعة"أي بناء على أن المراد بعذاب الله عذاب الآخرة"أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحق والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامة.وإن أريد بالساعة المدة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدم ومنه متأخر إلى الموت، فالتقدم ظاهر"ا هـ.وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال.
وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين.والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ، فإن الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء.وهذا تهديد وإنذار.
والساعة:علم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتكم الساعة.
وتقديم {أَغَيْرَ اللَّهِ} على عامله وهو {تدعون} لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الرد على الغير.وقد دل الكلام على التعجب، أي تستمرون على هذه الحال.والكلام زيادة في الإنذار.
وجملة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} مستأنفة، وجوابها محذوف دل عليه قوله: {أرأيتكم} لذي هو بمعنى التقرير.فتقدير الجواب:إن كنتم صادقين فأنتم مقرون بأنكم لا تدعون غير الله.ذكرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم، فهم إن توخوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا
(6/95)

التأمل فلا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله إذا شاء شيئا لا يدفعه غيره إلا بمشيئته، لأنهم يعترفون بأن الأصنام إنما تقربهم إلى الله زلفى، فإذا صدقوا وقالوا: اندعوا الله، فقد قامت الحجة عليهم من الآن لأن من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.
ولذلك كان موقع {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال.فحرف"بل"لإبطال دعوة غير الله.أي فأنا أجيب عنكم بأنكم لا تدعون إلا الله.ووجه تولي الجواب عنهم من السائل نفسه أن هذا الجواب لما كان لا يسع المسؤول إلا إقراره صح أن يتولى السائل الجواب عنه، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في هذه السورة[12] .
وتقديم المفعول على {تدعون} للقصر وهو قصر إفراد للرد على المشركين في زعمهم أنهم يدعون الله ويدعون أصنامهم، وهم وإن كانوا لم يزعموا ذلك في حال ما إذا أتاهم عذاب الله أو أتتهم الساعة إلا أنهم لما ادعوه في غير تلك الحالة نزلوا منزلة من يستصحب هذا الزعم في تلك الحالة أيضا.
وقوله: {فيكشف} عطف على {تدعون} ، وهذا إطماع في رحمة الله لعلهم يتذكرون.ولأجل التعجيل به قدم {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وكان حقه التأخير.فهو شبيه بتعجيل المسرة.ومفعول {تدعون} محذوف وهو ضمير اسم الجلالة، أي ما تدعونه.والضمير المجرور بـ"إلى"عائد على {ما} من قوله: {مَا تَدْعُونَ} أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه.وإنما قيد كشف الضر عنهم بالمشيئة لأنه إطماع لا وعد.
وعدي فعل {تدعون} بحرف"إلى"لأن أصل الدعاء نداء فكأن المدعو مطلوب بالحضور إلى مكان اليأس.
ومفعول {شاء} محذوف على طريقة حذف مفعول فعل المشيئة الواقع شرطا، كما تقدم آنفا.
وفي قوله: {إِنْ شَاءَ} إشارة إلى مقابله، وهو إن لم يشأ لم يكشف، وذلك في عذاب الدنيا.وأما إتيان الساعة فلا يكشف إلا أن يراد بإتيانها ما يحصل معها من القوارع والمصائب من خسف وشبهه فيجوز كشفه عن بعض الناس.ومما كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذاب الجوع الذي في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ
(6/96)

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ـإلى قوله ـإِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 10ـ16] فسرت البطشة بيوم بدر.
وجملة {فيكشف} الخ معترضة بين المعطوفين.وقوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} عطف على {إِيَّاهُ تَدْعُونَ} أي فإنكم في ذلك الوقت تنسون ما تشركون مع الله,وهو الأصنام.
وقوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} يجوز أن يكون النسيان على حقيقته، أي تذهلون عن الأصنام لما ترون من هول العذاب وما يقع في نفوسهم من أنه مرسل عليهم من الله فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها.
ويجوز أن يكون مجازا في الترك والإعراض، أي وتعرضون عن الأصنام، إذ لعلهم يلهمون أو يستدلون في تلك الساعة على أن غير الله لا يكشف عنهم من ذلك العذاب شيئا، وإطلاق النسيان على الترك شائع في كلام العرب، كما في قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] ، أي نهملكم كما أنكرتم لقاء الله هذا اليوم.ومن قبيله قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] .
وفي قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} دليل على أن الله تعالى قد يجيب دعوة الكافر في الدنيا تبعا لإجراء نعم الله على الكفار.والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي آئل إلى الاختلاف اللفظي.
[42ـ45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
لما أنذرهم بتوقع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل، ليعلم هؤلاء أن تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك.
وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها.
(6/97)

فجملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} عطف على جملة {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} [الأنعام: 40] ، والواو لعطف الجمل، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافا.وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و"قد"لتوكيد مضمون الجملة، وهو المفرع بالفاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} .نزل السامعون المعرض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقابا من الله تعالى على إعراضهم.
وقوله: {فأخذناهم} عطف على {أرسلنا} باعتبار ما يؤذن به وصف {مِنْ قَبْلِكَ} من معاملة أممهم إياهم بمثل ما عاملك به قومك، فيدل العطف على محذوف تقديره: فكذبوهم.
ولما كان أخذهم بالبأساء والضراء مقارنا لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أن ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أن الله أيد رسله ونصرهم في حياتهم؛ لأن أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان: إحداهما زجرهم عن التكذيب، والثانية: إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذبين.وفيه تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأن الله ناصره على مكذبيه.
ومعنى {أخذناهم} أصبناهم إصابة تمكن.وتقدم تفسير الأخذ عند قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} في سورة البقرة[206] .
وقد ذكر متعلق الأخذ هنا لأنه أخذ بشيء خاص بخلاف الآتي بعيد هذا.
والبأساء والضراء تقدما عند قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} في سورة البقرة[177] .وقد فسر البأساء بالجوع والضراء بالمرض، وهو تخصيص لا وجه له، لأن ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافا كثيرة.ولعل من فسره بذلك اعتبر ما أصاب قريشا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
و"لعل"للترجي.جعل علة لابتداء أخذهم بالبأساء والضراء قبل الاستئصال.
ومعنى {يتضرعون} يتذللون لأن الضراعة التذلل والتخشع، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه، وهي الإيمان بالرسل.
والمراد: أن الله قدم لهم عذابا هينا قبل العذاب الأكبر، كما قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]
وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته؛ وفيه إنذار لقريش بأنهم سيصيبهم البأساء والضراء قبل
(6/98)

الاستئصال، وهو استئصال السيف.وإنما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهارا لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدقين به.وذلك أوقع على العرب، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون.فنزل جميع الأمم منزلتهم، فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ، فإن"لولا"هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة، فليست"لولا"حرف امتناع لوجود.
والتوبيخ إنما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود.ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهم من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعا لمعذرهم.
ويجوز أن تجعل"لولا"هنا للتمني على طريقة المجاز المرسل، ويكون التمني كناية عن الإخبار بمحبة الله الأمر المتمنى فيكون من بناء المجاز على المجاز، فتكون هذه المحبة هي ما عبر عنه بالفرح في الحديث: "الله أفرح بتوبة عبده" الحديث.وتقديم الظرف المضاف مع جملته على عامله في قوله: {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} للاهتمام بمضمون جملته، وأنه زمن يحق أن يكون باعثا على الإسراع بالتضرع مما حصل فيه من البأس.
والبأس تقدم عند قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ} في سورة البقرة[177] .والمراد به هنا الشدة على العدو وغلبته.ومجيء البأس: مجيء أثره، فإن ما أصابهم من البأساء والضراء أثر من آثار قوة قدرة الله تعالى وغلبه عليهم.والمجيء مستعار للحدوث والحصول بعد أن لم يكن تشبيها لحدوث الشيء بوصول القادم من مكان آخر بتنقل الخطوات.
ولما دل التوبيخ أو التمني على انتفاء وقوع الشيء عطف عليه بـ"لمكن"عطفا على معنى الكلام، لأن التضرع ينشأ عن لين القلب فكان نفيه المفاد بحرف التوبيخ ناشئا عن ضد اللين وهو القساوة، فعطف بـ {لمكن} .
والمعنى: ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأن قلوبهم لا تتأثر فشبهت بالشيء القاسي.والقسوة: الصلابة.
وقد وجد الشيطان من طباعهم عونا على نفث مراده فيهم فحسن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم.ومن هنا يظهر أن الضلال ينشأ عن استعداد الله في خلقة النفس.
(6/99)

والتزيين: جعل الشيء زينا.وقد تقدم عند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} في سورة آل عمران[14] .
وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} عطف على جملة {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ} .والنسيان هنا بمعنى الإعراض، كما تقدم آنفا في قوله: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] .وظاهر تفرع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم.و"ما"موصولة ما صدقها البأساء والضراء، أي لما انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم.ومعنى {ذُكِّرُوا بِهِ} أن الله ذكرهم عقابه العظيم بما قدم إليهم من البأساء والضراء.و"لما"حرف شرط يدل على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط.
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} جواب {لما} والفتح ضد الغلق.فالغلق: سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما رواءها بباب ونحوه، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمى غلقا.
والفتح: جعل الشيء الحاجز غير حاجز وقابلا للحجز، كالباب حين يفتح.ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مفتاحا ومغلاقا، وإنما يعقل الفتح بعد تعقل الغلق، ولذلك كان قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} مقتضيا أن الأبواب المراد هاهنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضراء، فعلم أنها أبواب الخير لأنها التي لا تجتمع مع البأساء والضراء.
فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغم كقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] .ومنه تسمية النصر فتحا لأنه إزالة غم القهر.
وقد جعل الإعراض عما ذكروا به وقتا لفتح أبواب الخير، لأن المعنى أنهم لما أعرضوا عن الاتعاظ بنذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير، كما صرح به في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95,94]
وقرأ الجمهور {فتحنا} ـبتخفيف المثناة الفوقية ـ.وقرأه ابن عامر، وأبو جعفر
(6/100)

ورويس عن يعقوب بتشديدها للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله: {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}
ولفظ "كل"هنا مستعمل في معنى الكثرة، كما في قول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... الى كل رجاف من الرمل فارد
أواستعمل في معناه الحقيقي؛ على أنه عام مخصوص، أي أبواب كل شيء يبتغونه، وقد علم أن المراد بكل شيء جميع الأشياء من الخير خاصة بقرينة قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} وبقرينة مقابلة هذا بقوله: {أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [لأعراف: 94] ، فهنالك وصف مقدر، أي كل شيء صالح، كقوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي صالحة.
و {حتى} في قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} ابتدائية.ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] .قال الراغب: "ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} "[يونس: 58] .و"إذا"ظرف زمان للماضي.
ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلهم يتذكرون الله ويوحدونه فتطهر نفوسهم، فابتلاهم الله بالضر والخير ليستقصي لهم سببي التذكر والخوف، لأن من النفوس نفوسا تقودها الشدة ونفوسا يقودها اللين.
ومعنى الأخذ هنا الإهلاك.ولذلك لم يذكر له متعلق كما ذكر في قوله آنفا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} للدلالة على أنه أخذ لا هوادة فيه.
والبغتة فعلة من البغت وهو الفجأة، أي حصول الشيء على غير ترقب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء.فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية.وهنا يصح أن يكون مؤولا باسم الفاعل منصوبا على الحال من الضمير المرفوع، أي مباغتين لهم، أو مؤولا باسم المفعول على أنه حال من الضمير المنصوب، أي مبغوتين، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] .
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "إذا"فجائية.وهي ظرف مكان عند سيبويه، وحرف عند نحاة الكوفة.
والمبلسون اليائسون من الخير المتحيرون، وهو من الإبلاس، وهو الوجوم
(6/101)

والسكوت عند طلب العفو يأسا من الاستجابة.
وجملة {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} معطوفة على جملة {أخذناهم} ، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال.فلم يبق فيهم أحدا.
والدابر اسم فاعل من دبره من باب كتب، إذا مشى من ورائه.والمصدر الدبور ـ بضم الدال ـ، ودابر الناس آخرهم، وذلك مشتق من الدبر، وهو الوراء، قال تعالى: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} [الحجر: 65] .وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأن المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دابره، وهذا مما جرى مجرى المثل، وقد تكرر في القرآن، كقوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66] .
والمراد بالذين ظلموا المشركون، فإن الشرك أعظم الظلم، لأنه اعتداء على حق الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده، وأن الشرك يستتبع مظالم عدة لأن أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم.
وجملة {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} بما اتصل بها.عطف غرض على غرض.ويجوز أن تكون اعتراضا تذييليا فتكون الواو اعتراضية.وأياما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة:
أحدها: أن تكون تلقينا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسله وأولياءهم وإهلاك الظالمين، لأن ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض، ولأن في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم؛ فيكون {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مصدرا بدلا من فعله، عدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات، كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة[2] .
ثانيها: أن يكون {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأن من لوازم الحمد أن يكون على نعمة، فكأنه قيل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا.وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده.
ثالثها: أن يكون إنشاء حمد لله تعالى من قبل جلاله مستعملا في التعجيب من معاملة الله تعالى إياهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حق عليهم العذاب
(6/102)

ويجوز أن يكون إنشاء الله تعالى ثناء على نفسه، تعريضا بالامتنان على الرسول والمسلمين.
واللام في {الحمد} للجنس، أي وجنس الحمد كله الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين.
وفي ذلك كله تنبيه على أنه يحق الحمد لله عند هلاك الظلمة، لأن هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب.وهذ الحمد شكر لأنه مقابل نعمة.وإنما كان هلاكهم صلاحا لأن الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحق والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم.
أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}
استئناف ابتدائي عاد به إلى الجدال معهم في إشراكهم بالله تعالى بعد أن انصرف الكلام عنه بخصوصه من قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19] وما تفنن عقب ذلك من إثبات البعث وإثبات صدق الرسول وذكر القوارع والوعيد إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآيات.وتكرير الأمر بالقول للواحد الذي تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] الآية.
والرؤية قلبية متعدية إلى مفعولين، وليس هذا من قبيل الاستعمال المتقدم آنفا في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية.
واختلاف القراء في {أرأيتم} كاختلافهم في مثله من قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] الآية.
(6/103)

والأخذ: انتزاع الشيء وتناوله من مقره، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام، لأن السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل.ولك أن تجعله تمثيلا لأن الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه، فشبهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئا من مقره.فالهيئة المشبهة هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبهة بها محسوسة.والختم على القلوب تقدم بيانه في سورة البقرة[7] عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات.
والسمع مصدر دال على الجنس فكان في قوة الجمع، فعم بإضافته إلى ضمير المخاطبين ولا حاجة إلى جمعه.
والأبصار جمع بصر، وهو في اللغة العين على التحقيق.وقيل: يطلق البصر على حاسة الإبصار ولذلك جمع ليعم بالإضافة جميع أبصار المخاطبين، ولعل إفراد السمع وجمع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفة أحد اللفظين مفردا والآخر مجموعا عند اقترانهما، فإن في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقل اللسان سرا عجيبا من فصاحة كلام القرآن المعبر عنها بالنظم.وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الاحقاف: 26] .
والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأن القلب سبب إمداد العقل بقوة الإدراك.
وقوله: {مِنْ إِلَهٍ} معلق لفعل الرؤية لأنه استفهام، أي أعلمتم جواب هذا الاستفهام أم أنتم في شك.وهو استفهام مستعمل في التقرير يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه فيوقنوا أنه لا إله غير الله يأتيهم بذلك لأنه الخالق للسمع والأبصار والعقول فإنهم لا ينكرون أن الأصنام لا تخلق، ولذلك قال لهم القرآن: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]
و {من} في موضع رفع على الابتداء، و {إله} خبر {من} ، و {غَيْرُ اللَّهِ} صفة {إله} ، {ويأتيكم} جملة في محل الصفة أيضا، والمستفهم عنه هو إله، أي ليس إله غير الله يأتي بذلك، فدل على الوحدانية.ومعنى {يَأْتِيكُمْ بِهِ} يرجعه، فإن أصل أتى به، جاء به.ولما كان الشيء المسلوب إذا استنقذه منقذ يأتب به إلى مقره أطلق الإتيان بالشيء على
(6/104)

إرجاعه مجازا أو كناية.
والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها.وهذا استعمال قليل في الضمير، ولكنه فصيح.وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} في سورة المائدة[36] ،وعند قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} في سورة النساء[4] .وإيثاره هنا على أن يقال: يأتيكم بها، لدفع توهم عود الضمير إلى خصوص القلوب.
والكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلب الإدراك من قلوبهم لأنهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها، كما أشار إليه قوله آنفا: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] فكان ذلك تنبيها لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع، وناسب هنا أن يهددوا بزوالها بالكلية إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها.
وقوله: {انظر} تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتى أن الناظر يستطيع أن يراها، فأما الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تتنزل منزلة التذييل للآيات السابقة، فإنه لما غمرهم بالأدلة على الوحدانية وصدق الرسول، وأبطل شبههم عقب ذلك كله بالتعجيب من قوة الأدلة مع استمرار الإعراض والمكابرة، وقد تقدم قريب منه عند قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] في سورة النساء.وهذا تذكير لهم بأن الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديرا بأن يعبدوه.
وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية، فهي متحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامها وخاصها، وهي أيضا مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي المقدمات العقلية وغيرها، ومن جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير، بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول.
(6/105)

والتعريف في الآيات للعهد، وهي المعهودة في هذه السورة ابتداء من قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] .
و {ثم} للترتيب الرتبي لأنها عطفت جملة على جملة، فهي تؤذن بأن الجملة المعطوفة أدخل في الغرض المسوق له الكلام، وهو هنا التعجيب من قوة الأدلة وأن استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به.
وجيء بالمسند في جملة {هُمْ يَصْدِفُونَ} فعلا مضارعا للدلالة على تجدد الإعراض منهم.وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم.
و {يصدفون} يعرضون إعراضا شديدا.يقال: صدف صدفا وصدوفا، إذا مال إلى جانب وأعرض عن الشيء.وأكثر ما يستعمل أن يكون قاصرا فيتعدى إلى مفعوله بـ"عن".وقد يستعمل متعديا كما صرح به في القاموس.وقل التعرض لذلك في كتب اللغة ولكن الزمخشري في تفسير قوله تعالى في أواخر هذه السورة {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157] قدر: وصدف الناس عنها، مع أنه لم يتعرض لذلك في الأساس ولا علق على تقديره شارحوه.ولما تقدم ذكر الآيات حذف متعلق {يصدفون} لظهوره، أي صدف عن الآيات.
[47] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}
استئناف للتهديد والتوعد وإعذار لهم بأن إعراضهم لا يرجع بالسوء إلا عليهم ولا يضر بغيرهم، كقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]
والقول في {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} الآية كالقول في نظيريه المتقدمين.
وجيء في هذا وفي نظيره المتقدم بكاف الخطاب مع ضمير الخطاب دون قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية لأن هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ لأنهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله، فإن إتيان العذاب أمكن وقوعا من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك، فكان
(6/106)

التوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم، فاجتلب كاف الخطاب المقصود منه التنبيه دون أعيان المخاطبين.
والبغتة تقدمت آنفا.
والجهرة: الجهر، ضد الخفية، وضد السر.وقد تقدم عنه قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} في سورة البقرة[55] .
وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية، إلا أن البغتة لما كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيا فحسن مقابلته بالجهرة، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبقه علامة ولا إعلام به.والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكسف المحكي في قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: 24] أو يسبقه إعلام به كما في قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] .فإطلاق الجهرة على سبق ما يشعر بحصول الشيء إطلاق مجازي.وليس المراد من البغتة الحاصل ليلا ومن الجهرة الحاصل نهارا.
والاستفهام في قوله: {هَلْ يُهْلَكُ} مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء.والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلا الكافرون.
والمراد بالقوم الظالمين المخاطبون أنفسهم فأظهر في مقام الإضمار ليتأتى وصفهم أنهم ظالمون، أي مشركون، لأنهم ظالمون أنفسهم وظالمون الرسول والمؤمنين.
وهذا يتضمن وعدا من الله تعالى بأنه منجي المؤمنين، ولذلك أذن رسوله بالهجرة من مكة مع المؤمنين لئلا يحل عليهم العذاب تكرمة لهم كما أكرم لوطا وأهله، وكما أكرم نوحا ومن آمن معه، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ثم قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] .
[49,48] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
عطف على جملة {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] .والمناسبة أن صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعللون له بأنهم يرومون آيات على وفق مقترحهم
(6/107)

وأنهم لا يقنعون بآيات الوحدانية، ألا ترى إلى قولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية، فأنبأهم الله بأن إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتلهي بهم باقتراح الآيات.
وعبر بـ {نرسل} دون {أرسلنا} للدلالة على تجدد الإرسال مقارنا لهذين الحالين، أي ما أرسلنا وما نرسل.فقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} حالان مقدرتان باعتبار المستقبل ومحققتان باعتبار الماضي.
والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما أرسلناهم إلا في حالة كونهم مبشرين ومنذرين.
والقصر إضافي للرد على من زعموا أنه إن لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله، فهو قصر قلب، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات.وكنى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأن التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم.
والفاء في قوله: {فَمَنْ آمَنَ} للتفريع، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف الخ.و {مَنْ} الأظهر أنها موصولة كما يرجحه عطف {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا} عليه.ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} .فإن كانت شرطية فاقتران {فَلا خَوْفٌ} بالفاء بين، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط، والاستعمالان متقاربان.
ومعنى {أصلح} فعل الصلاح، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى، لأن الله ما أراد بشرعه إلا إصلاح الناس كما حكى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] .
والمس حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجس، ويستعار لإصابة جسم جسما آخر كما في هذه الآية.
وقد تقدم في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في سورة المائدة[73] .ويستعار أيضا للتكيف بالأحوال كما يقال: به مس من الجنون.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [لأعراف: 201]
وجمع الضمائر العائدة إلى"مَنْْ"مراعاة لمعناها، وأما إفراد فعل {آمن} و {أصلح}
(6/108)

فلرعي لفظها.
والباء للسببية، و"ما"مصدرية، أي بسبب فسقهم.والفسق حقيقته الخروج عن حد الخير.وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى.وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} في سورة البقرة[26] .
وجيء بخبر"كان"جملة مضارعية للإشارة إلى أن فسقهم كان متجددا متكررا، على أن الإتيان بـ"كان"أيضا للدلالة على الاستمرار لأن "كان"إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلت على استمرار الخبر بالقرينة، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] .
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}
لما تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون بنبوءته إلا إذا جاء بآية على وفق هواهم، وأبطلت شبهتهم بقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48] وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممن شمله لفظ المرسلين، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبين لهم أن الرسول هو الذي يتحدى الأمة لأنه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه، وليست الأمة هي التي تتحدى الرسول، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة، فلو ادعى أنه ملك أو أنه بعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناه خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيد ذلك، فأما والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته مما يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم.
فقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض.
وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه، كما تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
وقد تكرر الأمر بالقول من هنا إلى قوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] اثنتي عشرة مرة.
(6/109)

والاقتصار على نفي ادعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] وقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 35] الآية.
وافتتح الكلام بنفي القول ليدل على أن هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأن المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة.
واللام في {لكم} لام التبليغ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجه بالقول كما هنا لظهور أن المواجه بالقول هم المكذبون، ولذلك ورد قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] مجردا عن لام التبليغ.فإذا كان الغرض ذكر المواجه بالقول فاللام حينئذ تسمى لام تعدية فعل القول فالذي اقتضى اجتلاب هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديرا بلام التبليغ.
والخزائن جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدة والحاجة.والمعنى أني ليس لي تصرف مع الله ولا أدعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه.
و {خَزَائِنُ اللَّهِ} مستعارة لتعلق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا.شبهت تلك التعلقات الصلوحية والتنجيزية في حجبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إياهم، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7] ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى مما ينفع الناس، وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] .
وتقديم المسند وهو قوله: {عندي} للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله.
وقوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} عطف على {عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} فهو في حيز القول المنفي.وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإن الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أن تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها
(6/110)

لئلا يتوهم أن المنفي مجموع الأمرين.والمعنى لا أقول أعلم الغيب، أي علما مستمرا ملازما لصفة الرسالة.فأما إخباره عن بعض المغيبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاص، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27,26] وهو داخل تحت قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} .
وعطف {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} على {لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} بإظهار فعل القول فيه، خلافا لقوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} لعله لدفع ثقل التقاء حرفين: "لا"وحرف"إن"الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأن إدعاء مثله من شأنه أن يؤكد، أي لم أدع أني من الملائكة فتقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] ، فنفي كونه ملكا جواب عن مقترحهم أن ينزل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيرا.والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارنا لملك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد.وكانوا يتوهمون أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] .فالمعنى نفي ماهية الملكية عنه لأن لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر.وهذا كما يقول القائل لمن يكلفه عنتا: إني لست من حديد.
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدل الجبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بعد ذلك عن مهيع الآية.وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيرا ما يرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتنزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلم عليها في مظنتها.
وجملة {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما نفى أن يقول هذه المقالات كان المقام مثيرا سؤال سائل يقول: فماذا تدعى بالرسالة وما هو حاصلها لأن الجهلة يتوهمون أن معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرأ منها في قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ} الخ، فيجاب بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي ليست الرسالة إلا التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي.
فمعنى {أتبع} مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره.لأن ذلك من لوازم معنى الاتباع الحقيقي وهو المشي خلف المتبع ـ بفتح الموحدة ـ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى الي إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أو إخبار بالغيب، فالتلقي والتبليغ هو معنى الاتباع، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى.فالقصر
(6/111)

المستفاد هنا إضافي، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة.والغرض من القصر قلب اعتقادهم أن الرسول لا يكون رسولا حتى يأتيهم بالعجائب المسؤولة.وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضل عن إدراكها المعاندون.وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48] .
وإذ قد كان القصر إضافيا كان لا محالة ناظرا إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتباع مقترحاتهم، أي لا أتبع في التبليغ إليكم إلا ما يوحى الي.فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرف الرسول عليه ا لصلاة والسلام على العمل بالوحي حتى يحتج بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأن تلك مسألة مستقلة لها أدلة للجانبين، ولا مساس لها بهذا القصر.ومن توهمه فقد أساء التأويل.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ}
هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} ، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال.
وشبهت حالة من لا يفقه الأدلة ولا يفكك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه.وشبهت حالة من يميز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القوي البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح.وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلتهم وعقم أقيستهم، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أي الحالين أولى بالتخلق.
وقوله: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} استفهام إنكار.وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول، لأنه مترتب عليه لأن عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلا الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرع عليه إنكار عدم تفكرهم في أنهم بأيهما أشبه.والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
والتفكر: جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
(6/112)

الأظهر أنه عطف على قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: 50] لأن ذلك مقدمة لذكر من مثلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون.
وضمير {به} عائد إلى {مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وهو القرآن وما يوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مراد به الإعجاز.
و {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} هم المؤمنون الممثلون بحال البصير.وعرفوا بالموصول لما تدل عليه الصلة من المدح، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم، لأن الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع، خلافا لحال الذين ينكرون الحشر، فلا يخافونه فضلا عن الاحتياج إلى شفعاء.
و {أَنْ يُحْشَرُوا} مفعول { يخافون} ، أي يخافون الحشر إلى ربهم فهم يقدمون الأعمال الصالحة وينتهون عما نهاهم خيفة أن يلقوا الله وهو غير راض عنهم.وخوف الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه.ففي الكلام تعريض بأن المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه.ولذلك قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]
وجملة {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} حال من ضمير {أَنْ يُحْشَرُوا} ، أي يحشروا في هذه الحالة، فهذه الحال داخلة في حيز الخوف.فمضمون الحال معتقد لهم، أي ليسوا ممن يزعمون أن لهم شفعاء عند الله لا ترد شفاعتهم، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله.
وقوله: {مِنْ دُونِهِ} حال من {ولي} و {شفيع} ، والعامل في الحال فعل {يخافون} ، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا.وهو تعريض بالمشركين الذين اتخذوا شفعاء وأولياء غير الله.
وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .ولصاحب الكشاف هنا تكلفات في معنى {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} وفي جعل الحال من ضمير {يحشروا} حالا لازمة، ولعله يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنهم يرجى تقواهم، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث.
(6/113)

[52] {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}
عطف على قوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] لأنه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبرو المشركين.فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها، كما أن تلك أنسب بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا، فلذلك لم يسلك طريق الإضمار، فيقال: ولا تطردهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء داعيا إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجيراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنهم أولى بذلك المجلس، كما قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] .
روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي: "أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا.قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان، لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} "أهـ.وسمى الواحدي بقية الستة: وهم صهيب، وعمار بن ياسر، والمقداد ابن الأسود، وخباب بن الأرت.وفي قول ابن مسعود: "فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله"إجمال بينه ما رواه البيهقي أن رؤساء قريش قالوا لرسول الله: "لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم جمع جبة جلسنا إليك وحادثناك".فقال: "ما أنا بطارد المؤمنين" .فقالوا: "فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت"، فقال: "نعم"، طمعا في إيمانهم.فأنزل الله هذه الآية".ووقع في سنن ابن ماجة عن خباب أن قائل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، وأن ذلك سبب نزول الآية، وقال ابن عطية: "هو بعيد لأن الآية مكية.وعيينة والأقرع إنما وفدا مع وفد بني تميم بالمدينة سنة الوفود".اهـ.قلت: ولعل ذلك وقع منهما فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية التي نزلت في نظير اقتراحهما.
وفي سنده أسباط بن نصر أو نضر، ولم يكن بالقوي، وفيه السدي ضعيف.وروي مثله في بعض التفاسير عن سلمان الفارسي، ولا يعرف سنده.وسمى ابن إسحاق أنهم المستضعفون من المؤمنين وهم: خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار مولى صفوان بن
(6/114)

أمية ابن مُحرّث، وصهيب وأشباههم، وأن قريشا قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] .
وذكر الواحدي في أسباب النزول: "أن هذه الآية نزلت في حياة أبي طالب.فعن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: "لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وعبيدنا وعتقاءنا كان أعظم في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له.فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه، فقال عمر بن الخطاب: "لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله هذه الآيات".فلما نزلت أقبل عمر يعتذر.والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأن أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك.وسماه طردا تأكيدا لمعنى النهى، وذلك لحكمة: وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك، لأن الله اطلع على سرائرهم فعلم أنهم لا يؤمنون، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وليظهر لهم أن أولئك الضعفاء خير منهم، وأن الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين، وأن الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]
ومعنى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلانا بالقول، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله، إذ لم يكن يومئذ نفاق وإنما ظهر المنافقون بالمدينة.
والغداة: أول النهار.والعشي من الزوال إلى الصباح.والباء للظرفية.والتعريف فيهما تعريف الجنس.والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله.فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة.وكما يقال: الحمد لله بكرة وأصيلا، وقيل: أريد بالدعاء الصلاة.وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس.فالمعنى ولا تطرد المصلين، أي المؤمنين.
وقرأ الجمهور {بِالْغَدَاةِ} بفتح الغين وبألف بعد الدال ـ.وقرأه ابن عامرـ بضم
(6/115)

الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال ـ وهي لغة في الغداة.
وجملة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من الضمير المرفوع في {يدعون} ، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله، أي لا يريدون حظا دنيويا.
والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم.ويطلق الوجه على الذات كلها مجازا مرسلا.
والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف، أي يريدون رضى الله، أي لايريدون إرضاء غيره.ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الانسان: 9] ،وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وتقدم في سورة البقرة[115] .فمعنى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أنهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضا من الدنيا.وقد قيل: إن قريشا طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق، إلا أن هذا لم يرد به أثر صحيح، فالأظهر أن قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ثناء عليهم بكمال إيمانهم، وشهادة لهم بأنهم مجردون عن الغايات الدنيوية كلها، وليس المقصود به الرد على المشركين.
وجملة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تعليل للنهي عن طردهم، أو إبطال لعلة الهم بطردهم، أو لعلة طلب طردهم.فإن إبطال علة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلا للنهي، ولذا فصلت هذه الجملة.
والحساب: عد أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبع الأحوال بعد الأفراد.ومنه جاء معنى الحسبة بكسر الحاء، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدها.ويقال: حاسب فلانا على أعماله إذا استقراها وتتبعها.قال النابغة:
يحاسب نفسه بكم اشتراها
فالحساب هنا مصدر حاسب.والمراد به تتبع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء.
وضمير الجمع في قوله: {مِنْ حِسَابِهِمْ} وقوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} يجوز أن يكونا عائدين إلى {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وهو معاد مذكور، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله: {فتطردهم} .فالمعنى أنهم أهل الحق في مجلسك لأنهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين، وأن حضور
(6/116)

أولئك في مجلسك يصد كبراء المشركين عن الإيمان، أي أن ذلك مدحوض تجاه حق المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه.
وقيل معنى {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ} أن المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر، قالوا: يا محمد إن هؤلاء إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون مأكولا وملبوسا عندك، فقال الله تعالى: ما يلزمك إلا اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] .فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم.والقصد من هذا تبكيت المشركين على طريقة إرخاء العنان، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين.و {حسابهم} على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله.
ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكته معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضمير {فتطردهم} عائدا إل المؤمنين.ويختلف معاد الضميرين اعتمادا على ما يعينه سياق الكلام، كقوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] ، وقول عباس بن مرداس في وقعة حنين:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا
أي أحرز المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم.
والمعنى: ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بك أو على عدم الإيمان شيء، فإن ذلك موكول إلي فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقا لأجل تحصيل إيمان المشركين، فيكون من باب قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] .
وعلى هذا ا لوجه يجوز كون إضافة {حسابهم} من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي محاسبتك إياهم.ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرهم وضعفهم.
و {عليك} خبر مقدم.و"على"فيه دالة على معنى اللزوم والوجوب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هم أو كان بحيث يهم بإجابة صناديد قريش لما سألوه، فيكون تنبيها على أن تلك المصلحة مدحوضة.
(6/117)

و"من"في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي، وهو الحرف الذي بتقديره بني اسم "لا"على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس.
وتقديم المسندين على المسند إليهما في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تقديم غير واجب لأن للابتداء بالنكرتين هنا مسوغا، وهو وقوعهما في سياق النفي، فكان تقديم المجرورين هنا اختياريا فلابد له من غرض.والغرض يحتمل مجرد الاهتمام ويحتمل الاختصاص.وحيث تأتى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام، ولذلك جرى عليه كلام الكشاف.وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليفيد أن حسابهم على غيره وهو الله تعالى.وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي، وهو مفاد خفي على كثير لقلة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي.ومثاله المشهور قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] فإنهم فسروه بأن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي خمور الجنة، فالقصر قصر قلب.
وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكدات.وهي "مِنْ"البيانية، و"مِنْ"الزائدة، وتقديم المعمول، وصيغة الحصر في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، والتأكيد بالتتميم بنفي المقابل في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، فإنه شبيه بالتوكيد الفظي.وكل ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم.
ويفيد هذا الكلام التعريض برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام حين ما يحضرون وأوهموا أن ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به والكون من أصحابه، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقصي أصحابه عن مجلسه ليعلم السائلون أنهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أن الله أطلع رسوله صلى ا لله عليه وسلم على كذبهم، وأنهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خويصتهم، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .وقد صرح بذلك في قوله بعد: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] .وإذ كان القصر ينحل على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين، أي عدم حسابهم مقصور عليك، فحسابهم على أنفسهم إذ كل نفس بما كسبت رهينة.
(6/118)

وقد دل على هذا أيضا قوله بعده: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} فإنه ذكر لاستكمال التعليل، ولذلك عطف على العلة، لأن مجموع مدلول الجملتين هو العلة، أي حسابهم ليس عليك كما أن حسابك ليس عليهم بل على نفسك، إذ كل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى.فكما أنك لا تنظر إلا إلى أنهم مؤمنون، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه.وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق.
وفي قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تعريض بالمشركين بأنهم أظهروا أنهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى ا لله عليه وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنهم يؤمنون به فيكثر متبعوه.
ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى: بل حسابهم على الله وحسابك على الله، لأن هذا غير مناسب لسياق الآية، ولأنه يصير به قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} مستدركا في هذا المقام، ولذلك لم يتكرر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} في سورة الشعراء[113] لأن ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله، فتنبه.
ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دل عليه حرف"على"في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} غير واضح، لأننا إذا سلمنا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام شبه اعتقاد لزوم تتبع أحوالهم فقلب ذلك الاعتقاد بالقصر، لا نجد ذلك بالنسبة إلى {لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن.
وقدم البيان على المبين في قوله: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} لأن الأهم في المقامين هو ما يختص بالمخاطب المعرض فيه بالذين سألوه الطرد لأنه المقصود بالذات، وإنما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدم.
وقوله: {فتطردهم} منصوب في جواب النهي الذي في قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} .وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} لوقوع طول الفصل بين التفريع والمفرع عليه.فحصل بإعادة فعل {فتطردهم} غرضان لفظي ومعنوي.على أنه
(6/119)

يجوز أن يجعل {فتطردهم} منصوبا في جواب النفي من قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم.
وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،عطف على {فتطردهم} متفرع عليه، أي فتكون من الظالمين بطردهم، أي فكونه من ا لظالمين منتف تبعا لانتفاء سببه وهو الطرد.
وإنما جعل طردهم ظلما لأنه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلما لهم.وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنهم ظالمون مفرطون على الظلم؛ ويجوز أن يجعل قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،منصوبا في جواب النهي، ويجعل قوله: {فتطردهم} جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل؛ فكان قوله: {فتطردهم} كالمقدمة لقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ،وليس مقصود بالذات للجوابية؛ فالتقدير: فتكون من الظالمين بطردهم.
[53] {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}
الواو استئنافية كما هي في نظائره.والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع لما شعر بقصة أومأ إليها قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضون البقاء في ضلالة تكبرا عن غشيان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين، فأجيب بأن هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلقهم.
وقعت هذه الجملة اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلا للبيان، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض، وهي الواو الاعتراضية، وتسمى الاستئنافية؛ فبين الله أن داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعت كبرا وعجبا وغرورا بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم، وظلم لأصحاب الحق، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتشبيه مقصود منه التعجيب من ا لمشبه بأنه بلغ الغاية في العجب.
(6/120)

واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من"فتنا"كما يعود الضمير على المصدر في نحو: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي فتنا بعضهم ببعض فتونا يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلم أن يقربه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيها في غرائبه وفظاعته إلا أن يشبهه بنفسه إذ لا أعجب منه، على حد قولهم: والسفاهة كاسمها.
وليس ثمة إشارة إلى شيء متقدم مغاير للمشبه.وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه.وقد تقدم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143] .
والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون، أي فتنا عظماء المشركين في استمرار شركهم وشرك مقلديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دل عليه قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] فإن ذلك لا يقوله غير المشركين، وكما يؤيده قوله تعالى في تذييله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .
والقول يحتمل أن يكون قولا منهم في أنفسهم أو كلاما قالوه في ملئهم.وأياما كان فهم لا يقولونه إلا وقد اعتقدوا مضمونه، فالقائلون {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هم المشركون.
واللام في قوله: {ليقولوا} لام التعليل، ومدخولها هو أثر العلة دال عليها بعد طيها على طريقة الإيجاز.والتقدير: فتناهم ليروا لأنفسهم شفوفا واستحقاقا للتقدم في الفضائل اغترارا بحال الترفه فيعجبوا كيف يدعى أن الله يمن بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحط منهم، وكيف يعدون هم دونهم عند الله، وهذا من الغرور والعجب الكاذب.ونظيره في طي العلة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقدمت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي ليظهر الجبان والشجاع فأعلمهما.
والاستفهام مستعمل في التعجب والإنكار، كما هو في قوله: {أَُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25] .والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} في سورة الأنبياء[36] .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر.
(6/121)

وقولهم: {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قالوه على سبيل التهكم ومجاراة الخصم، أي حيث اعتقد المؤمنون أن الله من عليهم بمعرفة الحق وحرم صناديد قريش، فلذلك تعجب أولئك من هذا الاعتقاد، أي كيف يظن أن الله يمن على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي.وهذا كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة.وقد حدث بالمدينة مثل هذا.روى البخاري أن الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما بايعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وجهينة فقال له رسول الله: "أرأيت إن كانت أسلم وغفار ومزينة وجهينة خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان أخابوا وخسروا" أي أخاب بنو تميم ومن عطف عليهم "فقال: نعم قال: فو الذي نفسي بيده إنهم لخير منهم.
وفي الآية معنى آخر، وهو أن يكون القول مضمرا في النفس، وضمير {ليقولوا} عائدا إلى المؤمنين الفقراء، فيكونوا هم البعض المفتونين، ويكون البعض المجرور بالباء صادقا على أهل النعمة من المشركين، وتكون إشارة {هؤلاء} راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمن إعطاء المال وحسن حال العيش، ويكون الاستفهام مستعملا في التحير على سبيل الكناية، والإشارة إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله.والمعنى: وكذلك الفتون الواقع لعظماء المشركين، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكبارا عن مساواتهم، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربهم فيعجبون كيف من الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمن بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربهم.وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنه سماه فتنة، فعلم أنه خاطر غير حق، وبأن قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} مشير إلى إبطال هذه الشبهة.ذلك بأنها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعد الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة، المترتب عليه ترتب المسبب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى، بالرزق في الدنيا المترتب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات.فالرزق الدنيوي لا تسبب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنه من مسببات الأحوال المادية فالله أعلم بشكر الشاكرين، وقد أعد لهم جزاء شكرهم، وأعلم بأسباب رزق المرزوقين المحظوظين.فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشئ عن سوء النظر وترك التأمل في الحقائق
(6/122)

وفي العلل ومعلولاتها.وكثيرا ما عرضت للمسلمين وغيرهم شبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلب الأشياء من مظانها وقعدت بهم عن رفو أخلالهم في الحياة الدنيا أو غرتهم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
ولا شك أن الذين استمعوا القرآن ممن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا، فمن أجل ذلك تأهلوا لامتلاك العالم ولاقوا.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} ابتدائية.و"بين"ظرف يدل على التوسط، أي من الله عليهم مختارا لهم من وسطنا، أي من عليهم وتركنا، فيؤول إلى معنى من دوننا.
وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} تذييل للجملة كلها، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول، ولذلك فصل.والاستفهام تقريري.وعدي {أعلم} بالباء لأنه بصيغة التفضيل صار قاصرا.والمعنى أن الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك من على الذين أشاروا إليه بقولهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بمنة الإيمان والتوفيق.
ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة، فهو يلطف بهم ويسهل لهم الإيمان ويحببه إليهم ويزينه في قلوبهم ويزيدهم يوما فيوما تمكنا منه وتوفيقا وصلاحا، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أن رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزاتهم دون نياتهم.فهذا التذييل ناظرا إلى قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] .
وقد علم من قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أنه أيضا أعلم بأضدادهم.ضد الشكر هو الكفر، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبرين لا هم لهم إلا تحقير الإسلام والمسلمين، وقد استفرغوا وسعهم ولبهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين.ففي الكلام تعريض بالمشركين.
[54] {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
(6/123)

الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
عطف على قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وهو ارتقاء في إكرام الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.فهم المراد بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} .
ومعنى {يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} أنهم يوقنون بأن الله قادر على أن ينزل آيات جمة.فهم يؤمنون بما نزل من الآيات وبخاصة آيات القرآن وهو من الآيات، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] .
وقوله: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قيل: معناه حيهم بتحية الإسلام، وهي كلمة"سلام عليكم"، وقيل: أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادة طلب المشركين طردهم.
وقد أكرمهم الله كرامتين الأولى أن يبدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزية لهم، لأن شأن السلام أن يبتدئه الداخل، ثم يحتمل أن هذا حكم مستمر معهم كلما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه للمرة التي يبلغهم فيها هذه البشارة، فنزل هو منزلة القادم عليهم لأنه زف إليهم هذه البشرى.
والكرامة الثانية هي بشارتهم برضى الله عنهم بأن غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا.وهذا الخبر وإن كان يعم المسلمين كلهم فلعله لم يكن معلوما، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم.
والسلام: الأمان، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنه مسالم لا محارب لأن العرب كانت بينهم دماء وترات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحن وحفائظ فيؤمن أحدهما الآخر بقوله: السلام عليكم، أو سلام، أو نحو ذلك.وقد حكاها الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملا في التكرمة.ومصدر سلم التسليم.والسلام اسم مصدر، وهو يأتي في الاستعمال منكرا مرفوعا ومنصوبا، ومعرفا باللام مرفوعا لا غير.فأما تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية، فهو على اعتباره اسما بمعنى الأمان، وساغ الابتداء به لأن المقصود النوعية لا فرد معين.وإنما لم يقدم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه، أنه طارق خير لا طارق شر.فهو
(6/124)

من التقديم لضرب من التفاؤل.وأما تعريفه مع الرفع فلدخول لام التعريف الجنس عليه.
وكلمة"على"في الحالتين للدلالة على تمكن التلبس بالأمان، أي الأمان مستقر منكم متلبس بكم، أي لا تخف.
وأما إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم، فهو مفعول مطلق أتى بدلا من فعله.تقديره: سلمت سلاما، فلذلك لا يؤتى معه بـ"على".ثم أنهم يرفعونه أيضا على هذا الاعتبار فلا يأتون معه بـ"على"لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع، لأنه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعين تقدير مبتدأ، أي أمركم سلام، على حد {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] .والرفع أقوى، ولذلك قيل: إن إبراهيم رد تحية أحسن من تحية الملائكة، كما حكي بقوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] .وقد ورد في رد السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى، كقوله تعالى: {إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة: 26] وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الرد أحسن دلالة.فأما التعريف والتنكير فهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.ولذلك جاء في القرآن ذكر عيسى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] وجاء أنه قال: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] .
وجملة {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهي أول المقصود من المقول، وأما السلام فمقدمة للكلام.وجوز بعضهم أن تكون كلاما ثانيا.وتقدم تفسير نظيره في قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} في هذه السورة[12] .فقوله هنا: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تمهيد لقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} الخ.
وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} قرأه نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بفتح الهمزة على أنه بدل من {الرحمة} بدل اشتمال، لأن الرحمة العامة تشتمل على غفران ذنب من عمل ذنبا ثم تاب وأصلح.وقرأه الباقون ـ بكسر الهمزة ـ على أن يكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متوقع عن مبلغ الرحمة."وَمْن"شرطية، وهي أدل على التعميم من الموصولة.والباء في قوله: {بجهالة} للملابسة، أي ملتبسا بجهالة.والمجرور في موضع الحال من ضمير {عمل} .
والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء ما.وتطلق على ما يقابل الحلم، وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء[17] .والمناسب هنا هو المعنى الثاني، أي من عمل سوءا عن حماقة من نفسه وسفاهة،
(6/125)

لأن المؤمن لا يأتي السيئات إلا عن غلبة هواه رشده ونهاه.وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة.وأما حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أن الجاهل بالذنب غير مؤاخذ، فلا قوة لتفريع قوله: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} عليه، إلا إذا أريد ثم تفطن إلى أنه عمل سوءا.
والضمير في قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} عائد إلى {سوءا} أي بعد السوء، أي بعد عمله.ولك أن تجعله عائدا إلى المصدر المضمون في "عَمِلَ"مثل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
ومعنى {أصلح} صير نفسه صالحة، أو أصلح عمله بعد أن أساء.وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} في سورة المائدة[39] .وعند قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} في سورة ا لبقرة[160] .
وجملة {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط، أي هو شديد المغفرة والرحمة، وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح.
وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ـ بكسر همزة ـ {فَأِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على أن الجملة مؤكدة بـ {إن} فيعلم أن المراد أن الله قد غفر لمن تاب لأنه كثير المغفرة والرحمة.وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب {فأَنه} بفتح الهمزة ـ على أنها"أنّ"المفتوحة أخت"إنّ"، فيكون ما بعدها مؤولا بمصدر.والتقدير: فغفرانه ورحمته.وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر، أي له، أي ثابت لمن عمل سوءا ثم تاب.
[55] {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
الواو استئنافية كما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] .والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئا بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] .
والتفصيل: التبيين والتوضيح، مشتق من الفصل، وهو تفرق الشيء عن الشيء.ولما كانت الأشياء المختلطة إذا فصلت يتبين بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم، وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومن هذا القبيل أيضا تسمية الإيضاح تبيينا وإبانة، فإن أصل الإبانة القطع.والمراد بالتفصيل الإيضاح، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة
(6/126)

على المقصود منها.
والآيات: آيات القرآن.والمعنى نفصل الآيات ونبينها تفصيلا مثل هذا التفصيل الذي لا فوقه تفصيل، وهو تفصيل يحصل به علم المراد منها بينا.
وقوله: {ولتستبين} عطف على علة مقدرة دل عليها قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} لأن المشار إليه التفصيل البالغ غاية البيان، فيعلم من الإشارة إليه أن الغرض منه اتضاح العلم للرسول.فلما كان ذلك التفصيل بهذه المثابة علم منه أنه علة لشيء يناسبه وهو تبين الرسول ذلك التفصيل، فصح أن تعطف عليه علة أخرى من علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي استبانته سبيل المجرمين.فالتقدير مثلا: وكذلك التفصيل نفصل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها، ولتستبين سبيل المجرمين، ففي الكلام إيجاز الحذف.
وهكذا كلما كان استعمال"كذلك"نفعل بعد ذكر أفعال عظيمة صالحا الفعل المذكور بعد الإشارة لأن يكون علة لأمر من شأنه أن يعلل بمثله صح أن تعطف عليه علة أخرى كما هنا، وكما في قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] بخلاف ما لا يصلح، ولذلك فإنه إذا أريد ذكر علة بعده ذكرت بدون عطف، نحو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] .
و {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} طريقهم وسيرتهم في الظلم والحسد والكبر واحتقار الناس والتصلب في الكفر.
والمجرمون هم المشركون.وضع الظاهر موضع المضمر للتنصيص على أنهم المراد ولإجراء وصف الإجرام عليهم.وخص المجرمين لأنهم المقصود من هذه الآيات كلها لإيضاح خفي أحوالهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب ـ بتاء مثناة فوقية في أول الفعل ـ على أنها تاء خطاب.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف ـ بياء الغائب ـ، ثم إن نافعا، وأبا جعفر قرأ {سَبِيلَ} بفتح اللام ـ على أنه مفعول {تستبين} فالسين والتاء للطلب.وقرأه البقية ـ برفع اللام ـ على أنه فاعل "يستبين"أو"تستبين".فالسين والتاء ليسا للطلب بل للمبالغة مثل استجاب.
(6/127)

وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، عن عاصم ـ برفع ـ {سَبِيلُ} على أن تاء المضارعة تاء المؤنثة.لأن السبيل مؤنثة في لغة عرب الحجاز، وعلى أنه من استبان القاصر بمعنى بان فـ {سبيل} فاعل {تستبين} ، أي لتتضح سبيلهم لك وللمؤمنين.
[56] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى إبطال الشرك بالتبرئ من عبادة أصنامهم فإنه بعد أن أبطل إلهية الأصنام بطريق الاستدلال من قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] الآية.وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية.جاء في هذه الآية بطريقة أخرى لإبطال عبادة الأصنام وهي أن الله نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن عبادتها وعن اتباع أهواء عبدتها.
وبني {نهيت} على صيغة المجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور المراد، أي نهاني الله.وهو يتعدى بحرف"عن"فحذف الجر حذفا مطردا مع"أن".وأجري على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكي اعتقادهم، أو لأنهم عبدوا الجن وبعض البشر فغلب العقلاء من معبوداتهم.
ومعنى {تدعون} تعبدون وتلجئون إليهم في المهمات، أي تدعونهم.و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من المفعول المحذوف، فعامله {تدعون} .وهو حكاية لما غلب على المشركين من الاشتغال بعبادة الأصنام ودعائهم عن عبادة الله ودعائه، حتى كأنهم عبدوهم دون الله، وإن كانوا إنما أشركوهم بالعبادة مع الله ولو في بعض الأوقات.وفيه نداء عليهم باضطراب عقيدتهم إذ أشركوا مع الله في العبادة من لا يستحقونها مع أنهم قائلون بأن الله هو مالك الأصنام وجاعلها شفعاء لكن ذلك كالعدم لأن كل عبادة توجهوا بها إلى الأصنام قد اعتدوا بها على حق الله في أن يصرفوها إليه.
وجملة {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} استئناف آخر ابتدائي، وقد عدل عن العطف إلى الاستئناف ليكون غرضا مستقلا.وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملا للاتباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ضلالتهم
(6/128)

كطلب طرد المؤمنين عن مجلسه.
والأهواء جمع هوى، وهو المحبة المفرطة.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} في سورة البقرة[120] .وإنما قال: {لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} دون لا أتبعكم للإشارة إلى أنهم في دينهم تابعون للهوى نابذون لدليل العقل.وفي هذا تجهيل لهم في إقامة دينهم على غير أصل متين.
وجملة {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} جواب لشرط مقدر، أي إن اتبعت أهواءكم إذن قد ضللت.وكذلك موقع "إذن"حين تدخل على فعل غير مستقبل فإنها تكون حينئذ جوابا لشرط مقدر مشروط بـ"إن"أو"لو"مصرح به تارة، كقول كثير:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
ومقدر أخرى كهذه الآية، وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] .
وتقدم جواب"إذن"على"إذن"في هذه الآية للاهتمام بالجواب.ولذلك الاهتمام أكد بـ {قد} مع كونه مفروضا وليس بواقع، للإشارة إلى أن وقوعه محقق لو تحقق الشرط المقدر الذي دلت عليه "إذن".
وقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} عطف على {قَدْ ضَلَلْتُ} ، عطف عليه للدلالة على أنه جزاء آخر للشرط المقدر، فيدل على أنه إن فعل ذلك يخرج عن حاله التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى الكون في حالة الضلال، وأفاد مع ذلك تأكيد مضمون جملة {قَدْ ضَلَلْتُ} لأنه نفى عن نفسه ضد الضلال فتقررت حقيقة الضلال على الفرض والتقدير.
وتأكيد الشيء بنفي ضده طريقة عربية قد اهتديت إليها ونبهت عليها عند قوله تعالى: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} في هذه السورة[140] .ونظيره قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79] .
وقد أتي بالخبر بالجار والمجرور فقيل: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ولم يقل: وما أنا مهتد، لأن المقصود نفي الجملة التي خبرها {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، فإن التعريف في {المهتدين} عريف الجنس، فإخبار المتكلم عن نفسه بأنه من المهتدين يفيد أنه واحد من الفئة التي تعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنه مهتد إفادة بطريقة تشبه طريقة الاستدلال.فهو
(6/129)

من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه.وهي أبلغ من التصريح.قال في الكشاف في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] : قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم.وقال عند قوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} في سورة الشعراء[136] .فإن قلت لو قيل: أوعظت أو لم تعظ، كان أخصر، والمعنى واحد.قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الواعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلة الاعتداد بوعظه من قوله: أم لم تعظ.وقال الخفاجي إن أصل هذا لابن جني.
ولهذا كان نفي هذا الخبر مفيدا نفي هذه النسبة الكنائية فكانت أبلغيته في النفي كأبلغيته في الإثبات، لأن المفاد الكنائي هو هو.ولذلك فسره في الكشاف بقوله: "وما أنا من الهدى في شيء".ولم يتفطن لهذه النكتة بعض الناظرين نقله عنه الطيبي فقال: إنه لما كان قولك: هو من المهتدين، مفيدا في الإثبات أن للمخبر عنه حظوظا عظيمة في الهدى فهو في النفي يوجب أن تنفى عنه الحظوظ الكثيرة، وذلك يصدق بأن يبقى له حظ قليل.وهذا سفسطة خفيت عن قائلها لأنه إنما تصح إفادة النفي ذلك لو كانت دلالة المثبت بواسطة القيود اللفظية، فأما وهي بطريق التكنية فهي ملازمة للفظ إثباتا ونفيا لأنها دلالة عقلية لا لفظية.ولذا قال التفتازاني: "هو من قبيل تأكيد النفي لا نفي التأكيد"فهو يفيد أنه قد انسلخ عن هذه الزمرة التي كان معدودا منها وهو أشد من مطلق الاتصاف بعدم الهدى لأن مفارقة المرء فئته بعد أن كان منها أشد عليه من اتصافه بما يخالف صفاتهم قبل الاتصال بهم.
وقد تقدم قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة[67] ، وأحلنا بسطه على هذا الموضع.
[57] {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}
استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيد للأدلة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيد للأدلة السابقة أيضا، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه
(6/130)

بقولهم: ساحر، مجنون، شاعر، أساطير الأولين، ولييأسوا أيضا من إدخال الشك عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنه على يقين من أمر ربه لا يتزعزع.وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حل بالأمم من قبلهم بأنه لو كان صدقا لعجل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ويقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [صّ: 16] ، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] ، وأكد الجملة بحرف التأكيد لأنهم ينكرون أن يكون على بينة من ربه.
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
والبينة في الأصل وصف مؤنث بين، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بينة أو حجة بينة.ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسما للحجة المثبتة للحق التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضا، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البينة، أي اليقين.وهو أنسب بـ {على} الدالة على التمكن، كقولهم فلان على بصيرة، أي أني متمكن من اليقين في أمر الوحي.
ويجوز أن يكون المراد بالبينة القرآن، وتكون"على"مستعملة في الملازمة مجازا مرسلا لأن الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أني لا أخالف ما جاء به القرآن.
و {مِنْ رَبِّي} صفة لـ {بينة} يفيد تعظيمها وكمالها.و"مِنْ"ابتدائية، أي بينة جائية الي من ربي، وهي الأدلة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيره، ويجوز أن تكون"مِنْ"اتصالية، أي على يقين متصل بربي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أني آمنت بإله واحد دلت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرقني شك.وهذا حينئذ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.
وجملة {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في موضع الحال من {بينة} .وهي تفيد التعجب منهم أن كذبوا بما دلت عليه البينة.ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} ، أي أنا على بينة وأنتم كذبتم بما دلت عليه البينات فشتان بيني وبينكم.
(6/131)

والضمير في قوله: {به} يعود إلى البينة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ما صدقها اليقين أو القرآن على وجه جعل"منِْ"ابتدائية، أي وكذبتم باليقين مكابرة وعنادا، ويعود إلى ربي على وجه جعل "منِْ"اتصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربي وكذبتم به مع أن دلائل توحيده بينة واضحة.ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة.
والباء التي عدي بها فعل {كذبتم} هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] .فلذلك يدل فعل التكذيب إذا عدي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القوي.ولعل الاستعمال أنهم لا يعدون فعل التكذيب بالباء إلا إذا أريد تكذيب حجة أو برهان مما يحسب سبب تصديق، فلا يقال: كذبت بفلان، بل يقال: كذبت فلانا قال تعالى: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23]
والمعنى التعريضي بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيناه.
وقوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئناف بياني لأن حالهم في الإصرار على التكذيب مما يزيدهم عنادا عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقص عقائدهم فكانوا يقولون: لو كان قولك حقا فأين الوعيد الذي توعدتنا.فإنهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] فأمر بأن يجيب أن يقول: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} .
والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء.فإذا أريد ذكر الأمر المعجل عدي إليه بالباء.والباء فيه للتعدية.والمفعول هنا محذوف دل عليه قوله: {مَاعِنْدِي} .والتقدير: تستعجلونني به.وأما قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه} [النحل: 1] فالأظهر أن ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أول سورة النحل.
ومعنى {مَا عِنْدِي} أنه ليس في مقدرتي، كما يقال: ما بيدي كذا.فالعندية مجاز عن التصرف بالعلم والمقدرة.والمعنى: أني لست العليم القدير، أي لست إلها ولكنني عبد مرسل أقف عند ما أرسلت به.
(6/132)

وحقيقة"عِنْدَ"أنها ظرف المكان القريب.وتستعمل مجازا في استقرار الشيء لشيء وملكه إياه، كقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] .وتستعمل مجازا في الاحتفاظ بالشيء، كقوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف: 85] {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} [ابراهيم: 46] ولا يحسن في غير ذلك1.
والمراد بـ {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} العذاب المتوعد به.عبر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخرا مدخرا لهم وأنهم يستعجلونه وأنه واقع بهم لا محالة، لأن التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله: {تستعجلون} في نفسه وعيدا.وقد دل على أنه بيد الله وأن الله هو الذي يقدر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأن تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنهم توهموا من توعد النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أنه توعدهم بعقاب في مقدرته.فجعلوا تأخره إخلافا لتوعده، فرد عليهم بأن الوعيد بيد الله، كما سيصرح به في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} .فقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له.وعلى وجه كون ضمير {به} للقرآن، فالمعنى كذبتهم بالقرآن وهو بينة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزا لي وذلك ليس بيدي.
وجملة {يَقُصُّ الْحَقَّ} حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر {يَقُصُّ} بضم القاف وبالصاد المهملة ـ فهو من الاقتصاص، وهو اتباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحق، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أن وعده واقع لا محالة
ـــــــ
1 أردت بهذا أن استعمال"عند"مجازا في غير ما ذكرنا مشكوك في صحة استعماله في كلام العرب,فقول أبي فراس:
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ليس بجار على الاستعمال
وأما قول المعري:
أعندي وقد مارست كل خفية يصدق واش أو يخيب آمل
فهو أقرب للاستعمال بأن يكون"عند"حقيقة في المكان,أي المكان القريب مني يريد مجلسه,أي لا يقع تصديق ذلك في مقامي.وأما قول الشاعر:
عندي اصطبار وأما أنني جزع
يوم النوى فلبعد كاد يبريني
فلا يعرف قائله,ويظهر أنه مولَّد وهو من شواهد المسائل النحوية.
(6/133)

فهو لا يخبر إلا بالحق.و {الحق} منصوب على المفعولية به على الاحتمالين.
وقرأ الباقون {يقض} بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة ـ على أنه مضارع"قضى"، وهو في المصحف بغير ياء.فاعتذر عن ذلك بأن الياء حذفت في الخط تبعا لحذفها في اللفظ في حال الوصل، إذ هو غير محل وقف، وذلك مما أجري فيه الرسم على اعتبار الوصل على النادر كما كتب {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] .قال مكي: "قراءة الصاد أي المهملة أحب إلي لاتفاق الحرميين: "أي نافع وابن كثير"عليها ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء الموحدة فيه، يعني أن يقال: يقص بالحق.وتأويله بأنه نصب على نزع الخافض نادر.وأجاب الزجاج بأن {الحق} منصوب على المفعولية المطلقة، أي القضاء الحق، وعلى هذه القراءة ينبغي أن لا يوقف عليه لئلا يضطر الواقف إلى إظهار الياء فيخالف الرسم المصحفي.
وجملة {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي يقص ويخبر بالحق، وهو خير من يفصل بين الناس، أو يقضي بالحق، وهو خير من يفصل القضاء.
والفصل يطلق بمعنى القضاء.قال عمر في كتابه إلى أبي موسى فإن فصل القضاء يورث الضغائن.ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [صّ: 20] وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] .فمعنى {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} يشمل القول الحق والقضاء العدل.
[58] {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}
استئناف بياني لأن قوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57] يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول: فلو كان بيدك إنزال العذاب بهم ماذا تصنع، فأجيب بقوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآية.وإذ قد كان قوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدِي} الخ استئنافا بيانيا فالأمر بأن يقوله في قوة الاستئناف البياني لأن الكلام لما بني كله على تلقين الرسول ما يقوله لهم فالسائل يتطلب من الملقن ماذا سيلقن به رسوله إليهم.ومعنى {عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} تقدم آنفا، أي لو كان في علمي حكمته وفي قدرتي فعله.وهذا كناية عن معنى لست إلها ولكنني عبد أتبع ما يوحى إلي.
وقوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} جواب {لو} .فمعنى {قضي} تم وانتهى.
(6/134)

والأمر مراد به النزاع والخلاف.فالتعريف فيه للعهد، وبني {قُضِيَ الْأَمْرُ} للمجهول لظهور أن قاضيه هو من بيده ما يستعجلون به.
وتركيب"قضي الأمر"شاع فجرى مجرى المثل، فحذف الفاعل ليصلح التمثل به في كل مقام، ومنه قوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] وقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] ؛ ولذلك إذا جاء في غير طريقة المثل يصرح بفاعله كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] .
وذلك القضاء يحتمل أمورا: منها أن يأتيهم بالآية المقترحة فيؤمنوا، أو أن يغضب فيهلكهم، أو أن يصرف قلوبهم عن طلب ما لا يجيبهم إليه فيتوبوا ويرجعوا.
وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} تذييل، أي الله أعلم مني ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله، لأنه العليم الخبير الذي عنده ما تستعجلون به.والتعبير {بالظالمين} إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون في شركهم إذ اعتدوا على حق الله، وظالمون في تكذيبهم إذ اعتدوا على حق الله ورسوله، وظالمون في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
[59] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
عطف على جملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58] على طريقة التخلص.والمناسبة في هذا التخلص هي الإخبار بأن الله أعلم بحالة الظالمين، فإنها غائبة عن عيان الناس، فالله أعلم بما يناسب حالهم من تعجيل الوعيد أو تأخيره، وهذا انتقال لبيان اختصاصه تعالى بعلم الغيب وسعة علمه ثم سعة قدرته وأن الخلق في قبضة قدرته.وتقديم الظرف لإفادة الاختصاص، أي عنده لا عند غيره.والعندية عندية علم واستئثار وليست عندية مكان.
والمفاتح جمع مِفْتَح ـ بكسر الميم ـ وهو الآلة التي يفتح بها المغلق، وتسمى المفتاح.وقد قيل: إن مفتح أفصح من مفتاح، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76] .
(6/135)

والغيب ما غاب على علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان لمغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء.
و {مَفَاتِحُ الْغَيْب} هنا استعارة تخييلية تنبني على مكنية بأن شبهت الأمور المغيبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يدخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال بحيث لا يعلم ما فيها إلا الذي بيده مفاتحها.وأثبتت لها المفاتح على سبيل التخييلية.والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب، فقوله: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بمنزلة أن يقول: عنده علم ا لغيب الذي لا يعلمه غيره.
ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، لأن علمها كلها خاص به تعالى، وأما الأمور التي لها أمارات مثل أمارات الأنواء وعلامات الأمراض عند الطبيب فتلك ليست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة.وغموضها متفاوت والناس في التوصل إليها متفاوتون ومعرفتهم بها من قبيل الظن لا من قبيل اليقين فلا تسمى علما، وقيل: المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يغلق على ما فيه ثم يفتح عند الحاجة إلى ما فيه، ونقل هذا عن السدي، فيكون استعارة مصرحة والمشبه هو العلم بالغيب شبه في إحاطته وحجبه المغيبات ببيت الخزن تشبيه معقول بمحسوس.
وجملة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} مبينة لمعنى {عنده} ، فهي بيان للجملة التي قبلها ومفيدة تأكيدا للجملة الأولى أيضا لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرد الاهتمام فأعيد ما فيه طريق متعين كونه للقصر.وضمير {يعلمها} عائدإلى {مَفَاتِحُ الْغَيْب} على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء.تقديره: لا يعلم مكانها إلا هو، لأن العلم لا يتعلق بذوات المفاتح، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيبات، ونفي علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيبات.
ومعنى {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أي علما مستقلا به، فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] فلذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه فكان راجعا إلى علمه هو.والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" .
(6/136)

وجملة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} عطف على جملة {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، أو على جملة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، لأن كلتيهما اشتملت على إثبات علم لله ونفي علم عن غيره، فعطفت عليهما هذه الجملة التي دلت على إثبات علم الله تعالى، دون نفي علم غيره وذلك علم الأمور الظاهرة التي قد يتوصل الناس إلى علم بعضها، فعطف هذه الجملة على جملة {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} لإفادة تعميم علمه تعالى بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وظهور ما في البر للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر.وذكر البر والبحر لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكرة، لأن البر هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءا من الأرض سواء كان الماء ملحا أم عذبا.والعرب تسمي النهر بحرا كالفرات ودجلة.والموصول للعموم فيشمل الذوات والمعاني كلها.
وجملة {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} عطف على جملة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة.فإحاطة العلم بالخفايا مع كونها من أضعف الجزئيات مؤذن بإحاطة العلم بما هو أعظم أولى به.وهذه من معجزات القرآن فإن الله علم ما يعتقده الفلاسفة وعلم أن سيقول بقولهم من لا رسوخ له في الدين من أتباع الإسلام فلم يترك للتأويل في حقيقة علمه مجالا، إذ قال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} كما سنبين الاختيار في وجه إعرابه.
والمراد بالورقة ورقة من الشجر.وحرف"مَنْ"زائد لتأكيد النفي ليفيد العموم نصا.وجملة {يعلمها} في موضع الحال من {ورقة} الواقعة في حيز النفي المستغنية بالعموم عن الصفة.وذلك لأن الاستثناء مفرغ من أحوال، وهذه الحال حال لازمة بعد النفي حصل بها مع الفعل المنفي الفائدة الاستثناء من عموم الأحوال، أي ما تسقط من ورقة في حالة إلا حالة يعلمها.
والأظهر في نظم قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} أن يكون {ورقة} في محل المبتدأ مجرور بـ {مِنْ} الزائدة، وجملة {تسقط} صفة لـ {ورقة} مقدمة عليها فتعرب حالا، وجملة {إِلَّا يَعْلَمُهَا} خبر مفرغ له حرف الاستثناء. {وَلا حَبَّةٍ} عطف على المبتدأ بإعادة حرف النفي، و {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} صفة لـ {حبة} ، أي ولا حبة من بذور النبت مظروفة في طبقات الأرض إلى أبعد عمق يمكن، فلا يكون {حبة} معمولا لفعل {تسقط} لأن
(6/137)

الحبة التي تسقط لا تبلغ بسقوطها إلى ظلمات الأرض. {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} معطوفان على المبتدأ المجرور بـ {مِنْ} .والخبر عن هذه المبتدآت الثلاثة هو قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} لوروده بعد الثلاثة، وذلك ظاهر وقوع الإخبار به عن الثلاثة، وأن الخبر الأول راجع إلى قوله: {مِنْ وَرَقَةٍ} .
والمراد بالكتاب المبين العلم الثابت الذي لا يتغير، وما عسى أن يكون عند الله من آثار العلم من كتابة أو غيرها لم يطلعنا على كنهها.
وقيل: جر {حبة} عطف على {ورقة} مع إعادة حرف النفي، و {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} وصف لـ {حبة} .وكذلك قوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} بالجر عطفا على {حبة} و {ورقة} ، فيقتضي أنها معمولة لفعل {تسقط} ، أي ما يسقط رطب ولا يابس، ومقيدة بالحال في قوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} .
وقوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} تأكيد لقوله: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} لأن المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى سواء كان الكتاب حقيقة أم مجازا عن الضبط وعدم التبديل.وحسن هذا التأكيد تجديد المعنى لبعد الأول بالمعطوفات وصفاتها، وأعيد بعبارة أخرى تفننا.
وقد تقدم القول في وجه جمع {ظلمات} عند قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في هذه السورة[1] .و {مبين} إما من أبان المتعدي، أي مبين لبعض مخلوقاته ما يريده كالملائكة، أو من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان، أي بين، أي فصل بما لا احتمال فيه ولا تردد.
وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكليات والجزئيات.وهذا متفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلا القرآن في نحو قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] .وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أن الله يعلم الكليات خاصة ولا يعلم الجزئيات، زعما منهم بأنهم ينزهون العلم الأعلى عن التجزي؛ فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى وأنكروا تعلق علمه بجزئيات الموجودات.وهذا هو المأثور عنهم عند العلماء.وقد تأوله عنهم ابن رشد الحفيد ونصير الدين الطوسي.وقال الإمام الرازي في المباحث المشرقية1: "ولا بد من تفصيل مذهب الفلاسفة فإن اللائق
ـــــــ
1 كذا نسب إليه الحكيم السلكوتي في"الرسالة المعروفة بالخاقانية".رسالة مخطوطة في مكتبتنا.
(6/138)

بأصولهم أن يقال: الأمور أربعة أقسام؛ فإنها إما أن لا تكون متشكلة ولا متغيرة، وإما أن تكون متشكلة غير متغيرة، وإما أن تكون متغيرة غير متشكلة؛ وإما أن تكون متشكلة ومتغيرة معا.فأما ما لاتكون متشكلة ولا متغيرة فإنه تعالى عالم به سواء كان كليا أو جزئيا.وكيف يمكن القول بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات منها مع اتفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول.
وأما المتشكلة غير المتغيرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم، لأن إدراك الجسمانيات لا يكون إلا بالآت جسمانية.
وأما المتغيرة غير المتشكلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة، فإنها غير معلومة له لأن تعلقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنها لما كانت متغيرة يلزم من تغيرها العلم.
وأما ما يكون متشكلا ومتغيرا فهو الأجسام الكائنة الفاسدة1.وهي يمتنع أن تكون مدركة له تعالى للوجهين"أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث"اهـ.
وقد عد إنكار الفلاسفة أن الله يعلم الجزئيات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام.وهي: إنكار علم الله بالجزئيات؛ وإنكار حشر الأجساد، والقول بقدم العالم.ذكر ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة فمن يوافقهم في ذلك من ا لمسلمين يعتبر قوله كفرا، لكنه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدا إلا بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قوله ويأبى أن يرجع عنه فحينئذ يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا حكم بردته.
[60] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
عطف جملة {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} على جملة {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] انتقالا من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأن ذلك كله من دلائل الإلهية تعليما لأوليائه ونعيا على المشركين أعدائه.وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم
ـــــــ
1 يعني التي يعتريها الكون والفساد.
(6/139)

صفاته في ضمن دليل وحدانيته.وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت.
فقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة، أي هو الذي يتوفى الأنفس دون الأصنام فإنها لا تملك موتا ولا حياة.
والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] واللاحق من قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64] ويقتضيه طريق القصر.ولما كان هذا الحال غير خاص بالمشركين علم منه أن الناس فيه سواء.
والتوفي حقيقته الإماتة، لأنه حقيقة في قبض الشيء مستوفى.وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل.إلا ترى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42] .وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في سورة آل عمران[55] .
والمراد بقوله: {يتوفاكم} ينيمكم بقرينة قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} ، أي في النهار، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه.وفائدته أنه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتم التقريب في قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} .
ومعنى {جرحتم} كسبتم، وأصل الجرح تمزيق جلد الحي بشيء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب.وتقدم في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} في سورة العقود[45] .وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسم الجوارح لأنها تجرح الصيد ليمسكه الصائد.قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [4] وتقدم في سورة العقود.كما سموها كواسب، كقول لبيد:
غضفا كواسب ما يمن طعامها
فصار لفظ الجوارح مرادفا للكواسب؛ وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح، وهو المراد هنا.وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] .
وجملة {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين.
(6/140)

ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعيا للغالب، لأن النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب، ففي الإخبار أنه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين، وتهديد للمشركين.
وجملة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} معطوفة على {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} فتكون"ثم"للمهلة الحقيقية، وهو الأظهر.ولك أن تجعل"ثم"للترتيب الرتبي فتعطف على جملة {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} ، أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردكم ويمهلكم.وهذا بفريق المشركين أنسب.
و"في"للظرفية.والضمير للنهار.والبعث مستعار للإفاقة من النوم لأن البعث شاع في إحياء الميت وخاصة في اصطلاح القرآن {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] وحسن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفي للنوم تقريبا لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم، فكل من الاستعارتين مرشح للأخرى.
واللام في {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} لام التعليل لأن من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعمر الحي، وهو أجله الذي أجلت إليه حياته يوم خلقه، كما جاء في الحديث: "يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله". فالأجل معدوم بالأيام والليالي، وهي زمان النوم واليقظة.والعلة التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتحادها فقد يكون لفعل الله حكم عديدة.فلا إشكال في جعل اللام للتعليل.
وقضاء الأجل انتهاؤه.ومعنى كونه مسمى أنه معين محدد.والمرجع مصدر ميمي، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت، لأن الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرف بإرادتها.ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة، وهذا أظهر.
وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت، فالمهلة في"ثم"ظاهرة، أو بعد الحشر، فالمهلة لأن بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمنا، كما ورد في حديث الشفاعة.
[62,61] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}
(6/141)

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}
عطف على جملة {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [الأنعام: 60] ، وتقدم تفسير نظيره آنفا.والمناسبة هنا أن النوم والموت خلقهما الله فغلبا شدة الإنسان كيفما بلغت فبين عقب ذكرهما أن الله هو القادر الغالب دون الأصنام.فالنوم قهر، لأن الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم، والموت قهر وهو أظهر، ومن الكلم الحق: سبحان من قهر العباد بالموت.6
{ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}
{ويرسل} عطف على { القاهر} ، فيعتبر المسند إليه مقدما على الخبر الفعلي، فيدل على التخصيص أيضا بقرينة المقام، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره.والقصر هنا حقيقي، فلا يستدعي رد اعتقاد مخالف.والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحق ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي.
ومعنى {على} في قوله: {عليكم} الاستعلاء المجازي، أي إرسال قهر وإلزام، كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5] ، لأن سياق الكلام خطاب للمشركين كما عملت، ومثله قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10,9]
و {عليكم} متعلق بـ {يرسل} فعلم، أن المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم: حفظت عليه فعله كذا.وهو ضد نسي.ومنه قوله تعالى: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [قّ: 4] .وليس هو من حفظ الرعاية والتعهد مثل قوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] .
فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشر.وورد في الحديث الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"الحديث.
وقوله: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} غاية لما دل عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء، أي فينتهي الإحصاء بالموت، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح.
فقوله: {رُسُلُنَا} في قوة النكرة لأن المضاف مشتق فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفا، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفى رسل غير الحفظة المرسلين على العباد، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أن الثانية غير الأولى.وظاهر
(6/142)

قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أن عددا من الملائكة يتولى توفي الواحد من الناس.وفي الآية الأخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، وسمي في الآثار عزرائيل، ونقل عن ابن عباس: "أن لملك الموت أعوانا".فالجمع بين الآيتين ظاهر.
وعلق فعل التوفي بضمير {أحدكم} الذي هو في معنى الذات.والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتوفي، وهو الحياة، أي توفت حياته وختمتها، وذلك بقبض روحه.
وقرأ الجمهور {تَوَفَّتْهُ} بمثناة فوقية بعد الفاء ـ.وقرأ حمزة وحده {تَوَفَّاه رُسُلُنَا} وهي في المصحف مرسومةـ بنتأة بعد الفاء ـ فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة.وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات.والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير.
وجملة {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} حال.والتفريط: التقصير في العمل والإضاعة في الذوات.والمعنى أنهم لا يتركون أحدا قد تم أجله ولا يؤخرون توفيه.
والضمير في قوله: {ردوا} عائد إلى {أحد} باعتبار تنكيره الصادق بكل أحد، أي ثم يرد المتوفون إلى الله.والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة، أي ردوا إلى حكمه من نعيم وعذاب، فليس في الضمير التفات.
والمولى هنا بمعنى السيد، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد.
و {الحق} بالجرـ صفة لـ {مولاهم} ، لما في {مولاهم} من معنى مالكهم، أي مالكهم الحق الذي لا يشوب ملكه باطل يوهن ملكه.وأصل الحق أنه الأمر الثابت فإن كل ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالا متفاوتا، وذلك يوهن الملك ويضعف حقيته.
وجملة {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع.
وقدم المجرور في قوله: {لَهُ الْحُكْمُ} للاختصاص، أي له لا لغيره، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إما حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره، وإما إضافي للرد على المشركين، أي ليس لأصنامكم حكم معه، وإن كان المراد من
(6/143)

الحكم الحساب، أي الحكم المعهود يوم القيامة، فالقصر حقيقي.وربما ترجح هذا الاحتمال بقوله عقبه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أي ألا له الحساب، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخر جزاؤه.
وهذا يتضمن وعدا ووعيدا لأنه لما أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدمة وكان المخاطبون فريقين: فريق صالح وفريق كافر، وذكر أنهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة؛ فالصالحون لا يحبون المهلة والكافرون بعكس حالهم، فعجلت المسرة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}
[63ـ64] {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي.ولما كان هذا الكلام تهديدا وافتتح بالاستفهام التقريري تعين أن المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين.وأصرح من ذلك قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .
وإعادة الأمر بالقول للاهتمام، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] الآية.والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.
والظلمات قيل على حقيقتها، فيتعين تقدير مضاف، أي من إضرار ظلمات البر والبحر، فظلمات البر ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدو للسائر وللقاطن، أي ما يحصل في ظلمات البر من الآفات.وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدو.وقيل: "أطلقت الظلمات مجازا على المخاوف الحاصلة في البر والبحر، كما يقال: يوم مظلم إذا حصلت فيه شدائد".ومن أمثال العرب: "رأى الكواكب مُظْهِراً"، أي أظلم عليه يومه إظلاما في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتى صار كأنه ليل يرى فيه الكواكب.والجمع على الوجهين روعي فيه تعدد أنواع ما يعرض من الظلمات، على أننا قدمنا في أول السورة أن الجمع في لفظ الظلمات جرى على قانون الفصاحة.وجملة {تدعونه} حال من الضمير المنصوب في {يُنَجِّكُمْ} .
وقرئ {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد ـ لنافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف.وقرأه يعقوب ـ بالتخفيف ـ.
(6/144)

والتضرع: التذلل، كما تقدم في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} في هذه السورة[42] .وهو منصوب على الحال مؤولا باسم الفاعل.والخفية ـ بضم الخاء وكسرها ـ ضد الجهر.وقرأه الجمهور بضم الخاء.وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة.وعطف {خفية} على {تضرعا} إما عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدرا مؤولا باسم الفاعل، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنه مبين لنوع الدعاء، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدو من الناس أو الوحوش.
وجملة {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} في محل نصب بقول محذوف، أي قائلين.وحذف القول كثير في القرآن إذا دلت عليه قرينة الكلام.واللام في {لئن} الموطئة للقسم,واللام في {لنكونن} لام جواب القسم.وجيء بضمير الجمع إما لأن المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كل واحد عن نفسه وعن رفاقه.وإما أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل: ركب القوم خيلهم، وإنما ركب كل واحد فرسا.
وقرأ الجمهور {أَنْجَيْتَنَا} بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية ـ.وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف {أَنْجَانَا} بألف بعد الجيم ـوالضمير عائد إلى {مَنْ} في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} .
والإشارة بـ {هذه} إلى الظلمة المشاهدة للمتكلم باعتبار ما ينشأ عنها، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدة، أو إلى حالة يعبر عنها بلفظ مؤنث مثل الشدة أو الورطة أو الربقة.
والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلما وجد لذلك سبيلا.وقد كان العرب يرون الشكر حقا عظيما ويعيرون من يكفر النعمة.
وقولهم: {مِنَ الشَّاكِرِينَ} أبلغ من أن يقال: لنكونن شاكرين، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] .
وجملة {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} تلقين لجواب الاستفهام من قوله: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} أن يجيب عن المسؤولين، ولذلك فصلت جملة {قل} لأنها جارية مجرى القول في المحاورة، كما تقدم في هذه السورة.وتولى الجواب عنهم لأن هذا الجواب لا يسعهم إلا الاعتراف به.
(6/145)

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص، أي الله ينجيكم لا غيره، ولأجل ذلك صرح بالفعل المستفهم عنه.ولولا هذا لاقتصر على {قُلِ اللَّهُ} .والضمير في {منها} للظلمات أو للحادثة.
وزاد {مِنْ كُلِّ كَرْبٍ} لإفادة التعميم، وأن الاقتصار على ظلمات البر والبحر بالمعنيين لمجرد المثال.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام عن ابن عامر، ويعقوب {يُنْجِيكُمْ} بسكون النون وتخفيف الجيم ـ على أنه من أنجاه، فتكون الآية جمعت بين الاستعمالين.وهذا من التفنن لتجنب الإعادة.ونظيره {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] .وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر، وخلف، وعاصم، وحمزة، والكسائي {يُنَجِّيكُمْ} بالتشديد ـ مثل الأولى.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} للترتيب الرتبي لأن المقصود أن إشراكهم مع اعترافهم بأنهم لا يلجأون إلا إلى الله في الشدائد أمر عجيب، فليس المقصود المهلة.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم، أي أنتم الذين تتضرعون إلى الله باعترافكم تشركون به من قبل ومن بعد، من باب {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ، ومن باب: لو غيرك قالها، ولو ذات سوار لطمتني.
وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تجدد شركهم وأن ذلك التجدد والدوام عليه أعجب.
والمعنى أن الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون.وبين {الشاكرين} و {تشركون} الجناس المحرف.
[65] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}
استئناف ابتدائي عقب به ذكر النعمة التي في قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} .بذكر القدرة على الانتقام، تخويفا للمشركين.وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبين عند قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] .
(6/146)

والمعنى قل للمشركين، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون.والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنها معلومة، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأن القادر من شأنه أن يخاف بأسه فالخبر مستعمل في التعريض مجازا مرسلا مركبا، أو كناية تركيبية.وهذا تهديد لهم، لقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] .
وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر، فإفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأن غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته، فالقصر المستفاد إضافي.والتعريف في {القادر} تعريف الجنس، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب.
والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان.
و {يلبسكم} مضارع لَبَسَه ـ بالتحريك ـ أي خلطه، وتعدية فعل {يلبسكم} إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومرجه، أي اضطراب شؤونهم، فإن استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سميت استقامة أمور الناس نظاما.وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء، ولذلك سمي مرجا ولبسا.وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمة، ولذلك يقرن الهرج وهو القتل بالمرج، وهو الخلط فيقال: هم في هرج ومرج، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة.
وانتصب {شِيَعَا} على الحال من الضمير المنصوب في {يلبسكم} .والشيع جمع شيعة ـ بكسر الشين ـ وهي الجماعة المتحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متفقون عليه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] .وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83] أي من شيعة نوح.
وتشتت الشيع وتعدد الآراء أشد في اللبس والخلط، لأن اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام.
وعطف عليه {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل.فالبأس هو القتل والشر، قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] والإذاقة استعارة للألم.
(6/147)

وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية.وقد وقع منه الأخير فإن المشركين ذاقوا بأس المسلمين يوم بدر وفي غزوات كثيرة.
في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزلت {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" .قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك" ، قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله: "هذا أهون، أو هذا أيسر" .اهـ.واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعم العذاب إذا نزل على الكافرين من هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وفي الحديث قالوا: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون"؟قال: "نعم إذا كثر الخبث" وفي الحديث الآخر: "ثم يحشرون على نياتهم" .ومعنى قوله: "هذه أهون" ،أن القتل إذا حل بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنه أهون لأنه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين.وفي الحديث: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية" .وبعض العلماء فسر الحديث بأنه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين.ويتجه عليه أن يقال: لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين، فلعله لأنه أوحي إليه أن ذلك يقع في المسلمين، ولكن الله وعده أن لا يسلط عليهم عدوا من غير أنفسهم.وليست استعاذته بدالة على أن الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولا أنها تهديد للمشركين والمؤمنين، كما ذهب إليه بعض السلف، إلا على معنى أن مفادها غير الصريح صالح للفريقين لأن قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا.وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملا في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحا وكناية ولا يناسب المجاز المركب المتقدم بيانه.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}
استئناف ورد بعد الاستفهامين السابقين.
وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه، وقد مضى في تفسير قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة النساء[50] .
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى.فالمراد بالآيات آيات القرآن.وتقدم معنى التصريف عند قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ
(6/148)

يَصْدِفُونَ} في هذه السورة[46] .
و {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلها تتذكر وترعوي.
وتقدم القول في معنى"لعل"عند قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة[21] .
وتقدم معنى الفقه عند قوله تعالى: {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء[78] .
[67,66] {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
عطف على {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} [الأنعام: 65] ، أي لعلهم يفقهون فلم يفقهوا وكذبوا.وضمير {به} عائد إلى العذاب في قوله: {عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} [الأنعام: 65] ، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأن الله يعذبهم لأجل إعراضهم.
والتعبير عنهم بـ {قومك} تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم، كقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ، وقال طرفة:
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وتقدم وجه تعدية فعل"كذب"بالباء عند قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في هذه السورة[57] .
وجملة {وَهُوَ الْحَقُّ} معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذابا الخ.
وقد تحقق بعض ذلك بعذاب من فوقهم وهو عذاب القحط، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر.
ويجوز أن يكون ضمير به عائدا إلى القرآن، فيكون قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} رجوعا بالكلام إلى قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] ، أي كذبتم بالقرآن، على وجه جعل"مِنْ"في قوله: {مِنْ رَبِّي} [الأنعام57] ابتدائية كما تقدم، أي كذبتم بآية القرآن وسألتم نزول العذاب تصديقا لرسالتي وذلك ليس بيدي.ثم اعترض بجمل كثيرة.
(6/149)

أولاها: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] ، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد، ثم بنى عليه قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} فكأنه قيل: قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو الحق قل لست عليكم بوكيل.
وقوله: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} إرغام لهم لأنهم يرونه أنهم لما كذبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه، فأعلمهم الله أنه لا يغيظه ذلك وأن عليه الدعوة فإن كانوا يغيظون فلا يغيظون إلا أنفسهم.
والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر، وهو الحفيظ.وتقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173] .
وتعديته بـ"على"لتضمنه معنى الغلبة والسلطة، أي لست بقيم عليكم يمنعكم من التكذيب، كقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى: 48] وجملة {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} يثير سؤالهم أن يقولوا: فمتى ينزل العذاب.فأجيبوا بقوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} .
والنبأ: الخبر المهم، وتقدم في هذه السورة.فيجوز أن يكون على حقيقته، أي لكل خبر من أخبار القرآن، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول، أي لكل مخبر به، أي ما أخبروا به من قوله: {أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] الآية.
والمستقر وقت الاستقرار، فهو اسم زمانه، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتق من غير الثلاثي.والاستقرار بمعنى الحصول، أي لكل موعود به وقت يحصل فيه.وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى.وقد يكون المستقر هنا مستعملا في الانتهاء والغاية مجازا، كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ} [يّس: 38] ، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكل مستقر.وعن السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب.
وعطف {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} على جملة: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} .أي تعلمونه، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم.وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا.
[68] {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(6/150)

عطف على جملة {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] .والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول، فلم يقل: وإذا رأيتهم فأعرض عنهم، يدل على أن الذين يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذبوا بالقرآن أو بالعذاب.فعموم القوم أنكروا وكذبوا دون خوض في آيات القرآن، فأولئك قسم، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذى وأقذع، وأشد كفرا وأشنع، وهم المتصدون للطعن في القرآن.وهؤلاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتى يرعووا عن ذلك.ولو أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن جميع المكذبين لتعطلت الدعوة والتبليغ.
ومعنى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} إذا رأيتهم في حال خوضهم.
وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوما خائضين لأن الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنه أمر غريب، إذ شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين، فأمر الله إياه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس.وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته، أي فأعرض عنهم لأنهم يخوضون في آياتنا.
وهذه الآية أحسن ما يمثل به، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء، ألا ترى أن الأمر بالإعراض حدد بغاية حصول ضد الصلة.وهي أيضا أعدل شاهد لصحة ما فسر به القطب الشيرازي في شرح المفتاح قول السكاكي: "أو أن تومئ بذلك إلى وجه بناء الخبر"بأن وجه بناء الخبر هو علته وسببه، وإن أبى التفتزاني ذلك التفسير.
والخوض حقيقته الدخول في الماء مشيا بالرجلين دون سباحة ثم استعير للتصرف الذي فيه كلفة أو عنت، كما استعير التعسف وهو المشي في الرمل لذلك.واستعير الخوض أيضا للكلام الذي فيه تكلف الكذب والباطل لأنه يتكلف له قائله، قال الراغب: وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، قال تعالى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65} {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} التوبة: 69] {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] .فمعنى {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} يتكلمون فيها بالباطل والاستهزاء.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء[140] {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} .
(6/151)

والإعراض تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63] .
والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنه يلزمه الإعراض الحقيقي غالبا، فإن هم غشوا مجلس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج: "فجعل إذا استهزأوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزأوا فيقوم".وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلهم يرجعون عن عنادهم.
و {حتى} غاية للإعراض لأنه إعراض فيه توقيف دعوتهم زمانا أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضر توقيف الدعوة زمانا، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلها لأنها تمحضت للمصلحة.
وإنما عبر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنهم لا يتحدثون إلا فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية.
و {غيرِه} صفة لـ {حديث} .والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثا حسبما اقتضاه وصف {حديث} بأنه غيره.
وقوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} عطف حالة النسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض.وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلنا على أن النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظا لعمل الشيطان.كما ورد أن التثاؤب من الشيطان، وليس هذا من وسوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان في ذلك، فالنسيان من الإعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه، عند جمهور علماء السن?ة من الأشاعرة وغيرهم.قال ابن العربي في الأحكام: "إن كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم من النسيان"أهـ.وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني فيما حكاه نور الدين السيرازي في شرح للقصيدة النونية لشيخه تاج الدين السبكي.ويتعين أن مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر مما حكاه عنه القرطبي: وقد نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم من ركعتين في الصلاة الرباعية، ونسي آيات من بعض السور تذكرها لما سمع قراءة رجل في صلاة الليل، كما في الصحيح.وفي الحديث الصحيح: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلغها.وليس نظرنا في جواز ذلك وإنما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنه يقتضي أن للشيطان حظا له أثر في نفس
(6/152)

الرسول، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها.وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان، وكون ذات الجنب من الشيطان.وقد قال أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [صّ: 41] ، وحينئذ فالوجه أن الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخل بتبليغ ولا توقع في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأن الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.
ويجوز أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة، فإنما يتعلق به من تلك الإعراض ما لا أثر للشيطان فيه.وقد يدل لهذا ما ورد في حديث شق الصدر: "أن جبريل لما استخرج العلقة قال: "هذا حظ الشيطان منك"، يعني مركز تصرفاته، فيكون الشيطان لا يتوصل إلى شيء يقع في نفس نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتى ينسى مثل ما ورد في حديث الموطأ حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكل بلالا بأن يكلأ لهم الفجر، فنام بلال حتى طلعت الشمس، فإن النبي قال: "إن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام" .فأما نوم النبي والمسلمين عدا بلالا فمان نوما معتادا ليس من عمل الشيطان.والى هذا الوجه أشار عياض في الشفاء.وقريب منه ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر، فخرج ليعلم الناس فتلاحى رجلان فرفعت.فإن التلاحي من عمل الشيطان، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الوسوسة، وأما ما دونها مثل الإنساء والنزغ فلا يلزم أن يعصم منه.وقد يفرق بين الأمرين: أن الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك.
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكرت فلا تقعد معهم، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة إلى عبادة، ومن أسلوب في الدعوة إلى أسلوب آخر، فليس إنساء الشيطان إياه إيقاعا في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان، ولذلك قال: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي بعد أن تتذكر الأمر بالإعراض.فالذكرى اسم للتذكر وهو ضد النسيان، فهي اسم مصدر، أي إذا أغفلت بعد هذا فقعدت إليهم فإذا
(6/153)

تذكرت فلا تقعد، وهو ضد فأعرض، وذلك أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وقرأ الجمهور {يُنْسِيَنَّكَ} بسكون النون وتخفيف السين ـ.وقرأه ابن عامر ـ بفتح النون وتشديد السين ـ من التنسية، وهي مبالغة في أنساه.ومن العلماء من تأول هذه الآية بأنها مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] قال أبو بكر بن العربي: "إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه".
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أن خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنه خوض إنكار للحق ومكابرة للمشاهدة.
[69] {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
لما كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتبع الله النهي السابق بالعفو عما تتلقفه أسماع المؤمنين من ذلك عفوا، فتكون الآية عذرا لما يطرق أسماع المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين.
والمراد بـ {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} المؤمنون، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول المتقين، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملا لجميع المسلمين كما كان قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] حكمه شاملا لبقية المسلمين بحكم التبع.وقال جمع من المفسرين: "كانت آية {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وجاء قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأن المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم".ونسب هذا إلى ابن عباس، والسدي، وابن جبير، فيكون عموم الموصول في قوله: {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} مخصوصا بما اقتضته الآية التي قبلها.
وروى البغوي عن ابن عباس قال: "لما نزلت {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] قال المسلمون: "كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا.فأنزل الله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}
(6/154)

يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعة ما يقولون في حال مجانبتكم إياهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم.
وقوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} تقدم تفسير نظيره آنفا، وهو قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] .
ثم الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات.فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} على وزان ما تقدم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] ، أي ما على الذين يتقون أن يحاسبوا الخائضين، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلفهم الله بذلك لأنهم لا يستطيعون زجر المشركين، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] أي ما على الذين يتقون تبعة حساب المشركين، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه.
وقوله: {وَلَكِنْ ذِكْرَى} عطفت الواو الاستدراك على النفي، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى.والذكرى اسم مصدر ذكر بالتشديد بمعنى وعظ، كقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [قّ: 8] ، أي عليهم إن سمعوهم يستهزئون أن يعظوهم ويخوفوهم غضب الله فيجوز أن يكون"ذكرى"منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله.والتقدير: ولكن يذكرونهم ذكرى.ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعا على الابتداء، والتقدير: ولكن عليهم ذكرى.
وضمير {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {حسابهم} أي لعل الذين يخوضون في الآيات يتقون، أي يتركون الخوض.وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي.ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} ,أي ولكن عليهم الذكرى لعلهم يتقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلهم يستمرون على تقواهم.
وعن الكسائي: "المعنى ولكن هذه ذكرى"، أي قوله: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان، إذ ليس على المتقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنا ذكرناهم بالإعراض عنهم لعلهم يتقون سماعهم.
(6/155)

والجمهور على أن هذه الآية ليست بمنسوخة.وعن ابن عباس والسدي: "أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء[140] {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} بناء على رأيهم أن قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] كما تقدم آنفا.
[70] {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}
عطف على جملة {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء: 63] أو على جملة {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69] .وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه.وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار.
و {ذر} فعل أمر.قيل: لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول.فتصاريفه هذه مماثلة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادة ترك تجنبا للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه.وجعله علماء التصريف مثالا واويا لأنهم وجدوه محذوف أحد الأصول، ووجدوه جاريا على نحو يعد ويرث فجزموا بأن المحذوف منه الفاء وأنها واو.وإنما حذفت في نحو ذر ودع مع أنها مفتوحة العين اتباعا للاستعمال، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل، بخلاف حذف يعد ويرث.
ومعنى"ذر"اترك، أي لا تخالط.وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، وقول طرفة:
فذرني وخلقي إنني لك شاكر ... ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد
أي لا تبال بهم ولا تهتم بضلالهم المستمر ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم، أو لا تعبأ بهم وذكرهم به، أي لا يصدك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم.
(6/156)

والدين في قوله: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} يجوز أن يكون بمعنى الملة، أي ما يتدينون به وينتحلونه ويتقربون به إلى الله، كقول النابغة:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
أي اتخذوه لعبا ولهوا، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
وإنما لم يقل اتخذوا اللهو واللعب دينا لمكان قوله: {اتخذوا} فإنهم لم يجعلوا كل ما هو من اللهو واللعب دينا لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا دينا فجمعول له أشياء من اللعب واللهو وسموها دينا.
ويجوز أن يكون المراد من الدين العادة، كقول المثقب العبدي:
تقول وقد درأت لها وظيني
أهذا دينه أبدا وديني أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحق، وذلك في معاملتهم الرسول.صلى الله عليه وسلم.
واللعب واللهو تقدم تفسيرهما في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في هذه السورة[32].
والذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا فريق عرفوا بحال هذه الصلة واختصت بهم، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات؛ فيوجز أن يكون المراد بهم المشركين كلهم بناء على تفسير الدين بالملة والنحلة فهم أعم من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق.وهذا يناسب تفسير {ذر} بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم، أي وذكرهم بالقرآن، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقا من المشركين سفهاء اتخذوا دأبهم اللعب واللهو، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي.
{وغرتهم} أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنوا أنها لا حياة بعدها وأن نعيمها دائم لهم بطرا منهم.وتقدم تفسير الغرور عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران[196].
(6/157)

وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أن همهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يكتسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة، أي غرتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29].
والضمير المجرور في {وَذَكِّرْ بِهِ} عائد على القرآن لأن التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب.وذلك إنما يكون بالقرآن فيعلم السامع أن ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام، ويدل عليه قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45].وحذف مفعول {ذكر} لدلالة قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} أي وذكرهم به.
وقوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لـ {ذكر} وهو الأظهر، أي ذكرهم به إبسال نفس بما كسبت، فإن التذكير يتعدى إلى مفعولين من باب أعطى لأن أصل فعله المجرد يتعدى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدى إلى مفعولين هما"هم"و {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} .وخص هذا المصدر من بين الأحداث المذكر بها لما فيه من التهويل.ويجوز أن يكون {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} على تقدير لام الجر تعليلا للتذكير، فهو كالمفعول لأجله فيتعين تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة.والتقدير: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ، وقد تقدم في آخر سورة النساء[176].وجوز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.
ووقع لفظ"نفس"وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5]ـأي كل نفس ـ علمت نفس ما أحضرت، أي كل نفس.
والإبسال: الإسلام إلى العذاب، وقيل: السجن والارتهان، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا.وأصله من البسل وهو المنع والحرام.قال ضمرة النهشلي:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
وأما الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي:
وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق
ومعنى {بِمَا كَسَبَتْ} بما جنت.فهو كسب الشر بقرينة {تُبْسَلَ}
(6/158)

وجملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ في موضع الحال من {نفس} لعموم {نفس} ، أو في موضع الصفة نظرا لكون لفظه مفردا.
والولي: الناصر.والشفيع: الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب.وقد تقدم الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في هذه السورة[14]، والشفاعة عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} في سورة البقرة[48].
وجملة {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} عطف على جملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} .و {تعدل} مضارع عدل إذا فدى شيئا بشيء وقدره به.فالفداء يسمى العدل كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} في سورة البقرة[48].وجيء في الشرط بـ {إنْ} المفيدة عدم تحقق حصول الشرط لأن هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال.
والعدل في قوله: {كُلَّ عَدْلٍ} مصدر عدل المتقدم.وهو مصدره القياسي فيكون {كل} منصوبا على المفعولية المطلقة كما في الكشاف، أي وإن تعط كل عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لـ {تعدل} لأن فعل"عدل"يتعدى للعوض بالباء وإنما يتعدى بنفسه للمعوض وليس هو المقصود هنا.فلذلك منع في الكشاف أن يكون {كُلَّ عَدْلٍ} مفعولا به، وهو تدقيق.و {كل} هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل، أي للفداء حصر حتى يحاط به كله.وقد تقدم استعمال"كل"بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} في سورة البقرة[145].
وقوله: {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي لا يؤخذ منها ما تعدل به.فقوله: {منها} هو نائب الفاعل لـ {يؤخذ} .وليس في {يؤخذ} ضمير العدل لأنك قد علمت أن العدل هنا بمعنى المصدر، فلا يسند إليه الأخذ كما في الكشاف، فقد نزل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدر له مفعول كأنه قيل: لا يؤخذ منها أخذ.والمعنى لا يؤخذ منها شيء.وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلص به من القهر والغلب، وهو الناصر والشفيع والفدية.فهي كقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} .في سورة البقرة[48].
وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام يثير
(6/159)

سؤال سائل يقول: فما حال الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا من حال النفوس التي تبسل بما كسبت، فأجيب بأن أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة، والتعريف للجزأين أفاد القصر، أي أولئك هم المبسلون لا غيرهم.وهو قصر مبالغة لأن إبسالهم هو أشد إبسال يقع فيه الناس فجعل ما عداه كالمعدوم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أن أولئك المبسلون العادمون وليا وشفيعا وقبول فديتهم هم الذين أبسلوا بما كسبوا، أي ذلك هو الإبسال الحق لا ما تعرفونه في جرائركم وحروبكم من الإبسال، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدم آنفا في شعره، فهذا كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]
وجملة {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} بيان لمعنى الإبسال أو بدل اشتمال من معنى الإبسال، فلذلك فصلت.
والحميم: الماء الشديد الحرارة، ومنه الحمة بفتح الحاء العين الجارية بالماء الحار الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل.وفي الحديث: "مثل العالم مثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء" .وخص الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنهم يعطشون فلا يشربون إلا ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش.
والباء في {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} للسببية، و"ما"مصدرية.
وزيد فعل"كان"ليدل على تمكن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأن فعل مادة الكون تدل على الوجود، فالإخبار به عن شيء مخبر عنه بغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنه أفاد الوجود في الزمن الماضي، وذلك مستعمل في التمكن.
[71] {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين، فقد كان
(6/160)

المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة.كما ورد في خبر سعيد ابن زيد وما لقي من عمر بن الخطاب.وقد روي أن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام، وأن الآية نزلت في ذلك، ومعنى ذلك أن الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلا فإن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة.وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يرضونه بما أحب كما ورد في خبر أبي طالب.
والاستفهام إنكار وتأييس، وجيء ـبنون المتكلم ومعه غيره ـ لأن الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلهم.و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بـ {ندعوا} .والمراد بما لا ينفع ولا يضر الأصنام، فإنها حجارة مشاهد عدم نفعها وعجزها عن الضر، ولو كانت تستطيع الضر لأضرت بالمسلمين لأنهم خلعوا عبادتها وسفهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها، فلما جعلوا عدم النفع ولا الضر علة لنفي عبادة الأصنام فقد كنوا بذلك عن عبادتهم النافع الضار وهو الله سبحانه.
وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} عطف على {ندعوا} فهو داخل في حيز الإنكار.والرد: الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه، كقوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [صّ: 33].
والأعقاب جمع عقب وهي مؤخر القدم.وعقب كل شيء طرفه وآخره ويقال: رجع على عقبه وعلى عقبيه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنه كان جاعلا إياه وراءه فرجع.
وحرف"على"فيه للاستعلاء، أي رجع على طريق جهة عقبه، كما يقال: رجع وراءه، ثم استعمل تمثيلا شائعا في التلبس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبها ثم عاد إليها وتلبس بها، وذلك أن الخارج إلى سفر أو حاجة فإنما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القدمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيه، فيمثل حاله بحال من رجع على عقبيه.وفي الحديث: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم".فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتد إلى الشرك بعد أن أسلم بحال من خرج في مهم فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له.وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يقال: ونرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
وقد أضيف "بعد"إلى {إِذْ هَدَانَا} وكلاهما اسم زمان، فإن"بعد"يدل على الزمان المتأخر عن شيء كقوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]و"إذا"يدل على زمان معرف بشيء، فـ"إذا"اسم زمن متصرف مراد به الزمان وليس مفعولا فيه.والمعنى بعد الزمن
(6/161)

الذي هدانا الله فيه، ونظيره: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} في سورة آل عمران[8].
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} ارتقى في تمثيل حالهم لو فرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدق، بقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} ، وهو تمثيل بهيئة متخيلة مبنية على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسوسين.فالكاف في موضع الحال من الضمير في {نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} ، أي حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكدة لما في {نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} من معنى التمثيل بالمرتد على أعقابه.
والاستهواء استفعال، أي طلب هوى المرء ومحبته، أي استجلاب هوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلب.وقربه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية.فقال: استهواه بمعنى أهواه مثل استزل بمعنى أزل.ووقع في الكشاف أنه استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمة اللغة ولم يذكره هو في الأساس مع كونه ذكر {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} ولم ينبه على هذا من جاء بعده.
والعرب يقولون: استهوته الشياطين، إذا اختطفت الجن عقله فسيرته كما تريد.وذلك قريب من قولهم: سَحَرتْه، وهم يعتقدون أن الغيلان هي سحرة الجن، وتسمى السعالى أيضا، واحدتها سَعْلاة، ويقولون أيضا: استهامته الجن إذا طلبت هيامه بطاعتها.
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} متعلق بـ {استهوته} ، لأنه يتضمن معنى ذهبت به وضل في الأرض.وذلك لأن الحالة التي تتوهمها العرب استهواء الجن يصاحبها التوحش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكبا رأسه لا ينتصح لأحد، كما وقع لكثير من مجانينهم ومن يزعمون أن الجن اختطفتهم.ومن أشهرهم عمرو بن عدي الأيادي اللخمي ابن أخت جذيمة بن مالك ملك الحيرة.وجوز بعضهم أن يكون {فِي الْأَرْضِ} متعلقا بـ {حيران} ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول.
و {حيران} حال من {الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} وهو وصف من الحيرة، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل.يقال: حار يحار إذ تاه في الأرض فلم يعلم الطريق.وتطلق مجازا على التردد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه، وانتصب {حيران} على الحال من {الذي} .
وجملة {لَهُ أَصْحَابٌ} حال ثانية، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجن.فجملة {يدعونه} صفة لـ {أصحاب} .
(6/162)

والدعاء: القول الدال على طلب عمل من المخاطب.والهدى: ضد الضلال.أي يدعونه إلى ما فيه هداه.وإيثار لفظ {الهدى} هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبهة.ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية
كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} في سورة البقرة[17].ولذلك كان لتعقيبه بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وقع بديع.وجوز في الكشاف أن يكون الهدى مستعارا للطريق المستقيم.
وجملة {ائتنا} بيان لـ {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} لأن الدعاء فيه معنى القول.فصح أن يبين بما يقولونه إذا دعوه، ولكونها بيانا فصلت عن التي قبلها، وإنما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكين التمثيل من ذهن السامع، لأن المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يفهم منه أنه ضال لأن من خلق المجانين العناد والمكابرة.فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتهم في صحبته ومحبتهم إياه، فيقولون: ايتنا، حتى إذا تمكنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته.
وقد شبهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فرض ارتداده إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إياه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدونه عنه، بحال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجن، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلا عارفا بمسالكها، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبهة بها، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون، ويشبه الكفر بالهيام في الأرض، ويشبه المشركون الذين دعوهم إلى الارتداد بالشياطين وتشبه دعوة الله الناس للإيمان ونزول الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى.وعلى هذا التفسير يكون {الذي} صادقا على غير معين، فهو بمنزلة المعرف بلام الجنس.وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق حين كان كافرا وكان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه.
[72,73] {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}
(6/163)

جملة {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} مستأنفة استئناف تكرير لما أمر أن يقوله للمشركين حين يدعون إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقد روي أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اعبد آلهتنا زمنا ونعبد إلهك زمنا.وكانوا في خلال ذلك يزعمون أن دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر.وهي {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فجيء بتعريف الجزأين، وضمير الفصل، وحرف التوكيد، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكدات، لأن القصر بمنزلة مؤكدين إذ ليس القصر إلا تأكيدا على تأكيد، وضمير الفصل تأكيد، و"إن"تأكيد، فكانت مقتضى حال المشركين المنكرين أن الإسلام هدى.
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى، وهو الدين الموصى به، وهو هنا الإسلام، بقرينة قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} .وقد وصف الإسلام بأنه {هُدَى اللَّهِ} في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} في سورة البقرة[120]، أي القرآن هو الهدى لا كتبهم.
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس، وهو قصر إضافي لأن السياق لرد دعوة المشركين إياهم الرجوع إلى دينهم المتضمنة اعتقادهم أنه هدى، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل، بخلاف ما في سورة البقرة.
وجملة {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} عطف على المقول.وهذا مقابل قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56]، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
واللام في {لنسلم} أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرد التأكيد.وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادة الأمر ومادة الإرادة.وسماها بعضهم لام أن ـ بفتح الهمزة وسكون النون ـ قال الزجاج: "العرب تقول: أمرتك بأن تفعل وأمرتك أن تفعل وأمرتك لتفعل".فالباء للإلصاق، وإذا حذفوها فهي مقدرة مع "أنْ".وأما أمرتك لتفعل، فاللام للتعليل، فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الأمر.يعني وأغنت العلة عن ذكر المعلل.وقيل: "اللام بمعنى الباء"، وقيل: "زائدة"، وعلى كل تقدير فـ"أنْ"مضمرة بعدها، أي لأجل أن نسلم.والمعنى: وأمرنا بالإسلام، أي أمرنا أن أسلموا.وتقدم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء[26].
(6/164)

واللام في قوله: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} متعلقة بـ {نسلم} لأنه معنى تخلص له قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} .وقد تقدم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة البقرة[131].وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العلم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقيته.
وقوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} إن جعلت"أن"فيه مصدرية على قول سيبويه، إذ يسوغ دخول"أن"المصدرية على فعل الأمر فتفيد الأمر والمصدرية معا لأن صيغة الأمر لم يؤت بها عبثا، فنقول المعربين: "إنه يتجرد عن الأمرية"، مرادهم به أنه تجرد عن معنى فعل الأمر إلى معنى المصدرية فهو من عطف المفردات.وهو إما عطف على {لنسلم} بتقدير حرف جر محذوف قبل"أن"وهو الباء.وتقدير الحرف المحذوف يدل عليه معنى الكلام، وإما عطف على معنى {لنسلم} لأنه وقع في موقع بأن نسلم، كما تقدم عن الزجاج.فالتقدير: أمرنا بأن نسلم، ثم عطف عليه {وَأَنْ أَقِيمُوا} أي وأمرنا بأن أقيموا، والعطف على معنى اللفظ وموقعه استعمال عربي، كقوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10]إذ المعنى إن تؤخرني أصدق وأكن.
وإن جُعلت"أن"فيه تفسيرية فهو من عطف الجمل.فيقدر قوله: {أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} بأمرنا أن أسلموا لنسلم {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي لنقيم فيكون في الكلام احتباك.
وأظهر من هذا أن تكون"أن"تفسيرية.وهي تفسير لما دلت عليه واو العطف من تقدير العامل المعطوف عليه، وهو {وأمرنا} ، فإن {أمرنا} فيه معنى القول دون حروفه فناسب موقع"أن"التفسيرية.
وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة[3].
و {اتقوه} عطف على {أقيموا} ويجري فيه ما قرر في قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا} .
والضمير المنصوب عائد إلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو من الكلام الذي أمروا بمقتضاه بأن قال الله للمؤمنين: أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة واتقوه.ويجوز أن يكون محكيا بالمعنى بأن قال الله: اتقون، فحكي بما يوافق كلام النبي المأمور بأن يقوله بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ، كما في حكاية قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117].
وجمع قوله: {واتقوه} جميع أمور الدين، وتخصيص إقامة الصلاة بالذكر
(6/165)

للاهتمام.
وجملة {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} إما عطف على جملة {اتقوه} عطف الخبر على الإنشاء فتكون من جملة المقول المأمور به بقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} ، أي وقل لهم وهو الذي إليه تحشرون، أو عطف على {قل} فيكون من غير المقول.وفي هذا إثبات للحشر على منكريه وتذكير به للمؤمنين به تحريضا على إقامة الصلاة والتقوى.
واشتملت جملة {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} على عدة مؤكدات وهي: صيغة الحصر بتعريف الجزأين، وتقديم معمول {تحشرون} المفيد للتقوي لأن المقصود تحقيق وقوع الحشر على من أنكره من المشركين وتحقيق الوعد والوعيد للمؤمنين، والحصر هنا حقيقي إذ هم لم ينكروا كون الحشر إلى الله وإنما أنكروا وقوع الحشر، فسلك في إثباته طريق الكناية بقصره على الله تعالى المستلزم وقوعه وأنه لا يكون إلا إلى الله، تعريضا بأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئا.
وجملة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} عطف على {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، والقصر حقيقي إذ ليس ثم رد اعتقاد لأن المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء التي في السماء والأرض كما قدمناه في أول السورة.فالمقصود الاستدلال بالقصر على أنه هو المستحق للعبادة لأن الخلائق عبيده كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17}
والباء من قوله: {بالحق} للملابسة، والمجرور متعلق بـ {خلق} أو في موضع الحال من الضمير.
والحق في الأصل مصدر"حق"إذا ثبت، ثم صار اسما للأمر الثابت الذي لا ينكر من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل مثل فلان عدل.والحق ضد الباطل.فالباطل اسم لضد ما يسمى به الحق فيطلق الحق إطلاقا شائعا على الفعل أو القول الذي هو عدل وإعطاء المستحق ما يستحقه، وهو حينئذ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادف الجور والظلم، ويطلق ا لحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حد الإتقان والصواب، ويرادف الحكمة والحقيقة، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعب.والحق في هذه الآية بالمعنى الثاني، كما في قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39]بعد قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] وكقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران: 191].فالله تعالى أخرج
(6/166)

السماوات والأرض وما فيهن من العدم إلى الوجود لحكم عظيمة وأودع في جميع المخلوقات قوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها ورتبها على نظم عجيبة تحفظ أنواعها وتبرز ما خلقت لأجله، وأعظمها خلق الإنسان وخلق العقل فيه والعلم، وفي هذا تمهيد لإثبات الجزاء إذ لو أهملت أعمال المكلفين لكان ذلك نقصانا من الحق الذي خلقت السماوات والأرض ملابسة له، فعقب بقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} .
وجملة {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} معطوفة على التي قبلها لمناسبة ملابسة الحق لأفعاله تعالى فبينت ملابسة الحق لأمره تعالى الدال عليه {يقول} .والمراد بـ {يَوْمَ يَقُولُ كُنْ} يوم البعث، لقوله بعده {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} .
وقد أشكل نظم قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} ، وذهب فيه المفسرون طرائق.والوجه أن قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ظرف وقع خبره مقدما للاهتمام به، والمبتدأ هو {قوله} ويكون {الحق} صفة للمبتدأ.وأصل التركيب: وقوله الحق يوم يقول: كن فيكون.ونكتة الاهتمام بتقديم الظرف الرد على المشركين المنكرين وقوع هذا التكوين بعد العدم.
ووصف القول بأنه الحق للرد على المشركين أيضا.وهذا القول هو عين المقول لفعل {يَقُولُ كُنْ} ، وحذف المقول له {كن} لظهوره من المقام، أي يقول لغير الموجود الكائن: كن.وقوله: {فيكون} اعتراض، أي يقول لما أراد تكوينه {كن} فيوجد المقول له {كن} عقب أمر التكوين.
والمعنى أنه أنشأ خلق السماوات والأرض بالحق، وأنه يعيد الخلق الذي بدأه بقول حق، فلا يخلو شيء من تكوينه الأول ولا من تكوينه الثاني عن الحق.ويتضمن أنه قول مستقبل، وهو الخلق الثاني المقابل للخلق الأول، ولذلك أتي بكلمة {يوم} للإشارة إلى أنه تكوين خاص مقدر له يوم معين.
وفي قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} صيغة قصر للمبالغة، أي هو الحق الكامل لأن أقوال غيره وإن كان فيها كثير من الحق فهي معرضة للخطأ وما كان فيها غير معرض للخطأ فهو من وحي الله أو من نعمته بالعقل والإصابة، فذلك اعتداد بأنه راجع إلى فضل الله.ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: "قولك الحق ووعدك الحق" .
(6/167)

والمراد بالقول كل ما يدل على مراد الله تعالى وقضائه في يوم الحشر، وهو يوم يقول كن، من أمر تكوين، أو أمر ثواب، أو عقاب، أو خبر بما اكتسبه الناس من صالح الأعمال وأضدادها، فكل ذلك من قول الله في ذلك اليوم وهو حق.وخص من بين الأقوال أمر التكوين لما اقتضاه التقديم من تخصيصه بالذكر كما علمت.
وللمفسرين في إعراب هذه الآية وإقامة المعنى من ذلك مسالك أخرى غير جارية على السبل الواضحة.
وقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} جملة مستقلة وانتظامها كانتظام جملة {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} إلا أن في تقديم المسند إليه على المسند قصر المسند إليه على المسند، أي الملك مقصور على الكون له لا لغيره لرد ما عسى أن يطمع فيه المشركون من مشاركة أصنامهم يومئذ في التصرف والقضاء.والمقصود من هذا الظرف تهويل ذلك اليوم.
والنفخ في الصور مثل ضرب للأمر التكويني بحياة الأموات الذي يعم سائر الأموات، فيحيون به ويحضرون للحشر كما يحضر الجيش بنفخ الأبواق ودق الطبول.والصور: البوق.وورد في الحديث: "أن الملك الموكل بنفخ الصور هو إسرافيل، ولا يعلم كنه هذا النفخ إلا الله تعالى".ويوم النفخ في الصور هو يوم يقول: كن فيكون، ولكنه عبر عنه هنا بـ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} لإفادة هذا الحال العجيب، ولأن اليوم لما جعل ظرفا للقول عرف بالإضافة إلى جملة {يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} .ولما جعل اليوم ظرفا للملك ناسب أن يعرف اليوم بما هو من شعار الملك والجند.
وقد انتصب {يَوْمَ يُنْفَخُ} على الظرفية، والعامل فيه للاستقرار الذي في قوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ} .ويجوز أن يجعل بدلا من {يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ويجعل {وَلَهُ الْمُلْكُ} عطفا على {قَوْلُهُ الْحَقُّ} على أن الجميع جملة واحدة.
وعن ابن عباس: "الصور هنا جمع صورة"، أي ينفخ في صور الموجودات.
ولما انتهى المقصود من الإخبار عن شؤون من شأن الله تعالى أتبع بصفات تشير إلى المحاسبة على كل جليل ودقيق ظاهر وباطن بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .وجاء أسلوب الكلام على طريقة حذف المخبر عنه في مقام تقدم صفاته.فحذف المسند إليه في مثله تبع لطريقة الاستعمال في تعقيب الأخبار بخبر أعظم منها يجعل فيه المخبر عنه مسندا
(6/168)

إليه ويلتزم حذفه.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} في سورة آل عمران[97]، فلذلك قال هنا: {عَالِمُ الْغَيْبِ} فحذف المسند إليه ثم لم يحذف المسند إليه في قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
والغيب: ما هو غائب.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[3]، وعند قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في هذه السورة[59].
والشهادة: ضد الغيب، وهي الأمور التي يشاهدها الناس ويتوصلون إلى عملها يقال: شهد، بمعنى حضر، وضده غاب، ولا تخرج الموجودات عن الاتصاف بهذين الوصفين، فكأنه قيل: العالم بأحوال جميع الموجودات.والتعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق، أي عالم كل غيب وكل شهادة.
وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} عطف على قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} .وصفة {الحكيم} تجمع إتقان الصنع فتدل على عظم القدرة مع تعلق العلم بالمصنوعات.وصفة {الخبير} تجمع العلم بالمعلومات ظاهرها وخفيها.فكانت الصفتان كالفذلكة لقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ولقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
[74] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
عطف على الجمل السابقة التي أولاها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]المشتملة على الحجج والمجادلة في شأن إثبات التوحيد وإبطال الشرك، فعقبت تلك الحجج بشاهد من أحوال الأنبياء بذكر مجادلة أول رسول أعلن التوحيد وناظر في إبطال الشرك بالحجة الدامغة والمناظرة الساطعة، ولأنها أعدل حجة في تاريخ الدين إذ كانت مجادلة رسول لأبيه ولقومه، وكانت أكبر حجة على المشركين من العرب بأن أباهم لم يكن مشركا ولا مقرا للشرك في قومه، وأعظم حجة للرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءهم بالإقلاع عن الشرك.
والكلام في افتتاح القصة بـ {إذ} بتقدير اذكر تقدم عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30].
و {آزر} ظاهر الآية أنه أبو إبراهيم.ولا شك أنه عرف عند العرب أن أبا إبراهيم
(6/169)

اسمه آزر فإن العرب كانوا معتنين بذكر إبراهيم عليه السلام ونسبه وأبنائه.وليس من عادة القرآن التعرض لذكر أسماء غير الأنبياء فما ذكر اسمه في هذه الآية إلا لقصد سنذكره.ولم يذكر هذا الاسم في غير هذه الآية.والذي في كتب الإسرائيليين أن اسم أبي إبراهيم"تارح"ـ بمثناة فوقية فألف فراء مفتوحة فحاء مهملة ـ.قال الزجاج: "لا خلاف بين النسابين في أن اسم أبي إبراهيم تارح".وتبعه محمد ابن الحسن الجويني الشافعي في تفسير النكت.وفي كلامهما نظر لأن الاختلاف المنفي إنما هو في أن آزر اسم لأبي إبراهيم ولا يقتضي ذلك أنه ليس له اسم آخر بين قومه أو غيرهم أو في لغة أخرى غير لغة قومه.ومثل ذلك كثير.وقد قيل: "إن "آزر"وصف".قال الفخر: "قيل معناه الهرم بلغة خوازرم، وهي الفارسية الأصلية".وقال ابن عطية عن الضحاك: "آزر"الشيخ".وعن الضحاك: "أن اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس"آزر".وقال ابن إسحاق ومقاتل والكلبي والضحاك: "اسم أبي إبراهيم تارح وآزر لقب له مثل يعقوب الملقب إسرائيل"، وقال مجاهد: "آزر"اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقب به".وأظهر منه أن يقال: أنه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن بيته.
وعن سليمان التيمي والفراء: "آزر"كلمة سب في لغتهم بمعنى المعْوَج، أي عن طريق الخير".وهذا وهم لأنه يقتضي وقوع لفظ غير عربي ليس بعلم ولا بمعرب في القرآن.فإن المعرب شرطه أن يكون لفظا غير علم نقله العرب إلى لغتهم.وفي تفسير الفخر: "أن من الوجوه أن يكون"آزر"عم إبراهيم وأطلق عليه اسم الأب لأن العم قد يقال له: أب.ونسب هذا إلى محمد بن كعب القرظي.وهذا بعيد لا ينبغي المصير إليه فقد تكرر في القرآن ذكر هذه المجادلة مع أبيه، فيبعد أن يكون المراد أنه عمه في تلك الآيات كلها.
قال الفخر: وقالت الشيعة: "لا يكون أحد من آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجداده كافرا.وأنكروا أن"آزر"أب لإبراهيم وإنما كان عمه.وأما أصحابنا فلم يلتزموا ذلك".قلت: هو كما قال الفخر من عدم التزام هذا وقد بينت في"رسالة"لي في طهارة نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكفر لا ينافي خلوص النسب النبوي خلوصا جبليا لأن الخلوص المبحوث عنه هو الخلوص مما يتعير به في العادة.والذي يظهر لي أنه: أن "تارح"لقب في بلد غربة بلقب"آزر"باسم البلد الذي جاء منه، ففي "معجم ياقوت"ـ آزرـ بفتح الزاي وبالراء ـ ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز.
(6/170)

وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أن بلد تارح أبي إبراهيم هو"أور الكلدانيين ".وفي "معجم ياقوت""أور"ـ بضم الهمزة وسكون الواوـ من أصقاع رامهرمز من خورستان".ولعله هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكانه.وفي سفر التكوين أن تارح خرج هو وابته إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان وأنهما مرا في طريقهما ببلد"حاران"وأقاما هناك ومات تارح في حاران.فلعل أهل حاران دعوه آزر لأنه جاء من صقع آزر.وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدل على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ نُبِّئ في حاران في حياة أبيه.
ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه.
ولذا فالأظهر أن يكون {آزر} في الآية منادى وأنه مبني على الفتح.ويؤيد ذلك قراءة يعقوب {آزر} مضموما.ويؤيده أيضا ما روي: "أن ابن عباس قرأه أإزرـ بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ـ، وروي: "عنه أنه قرأه ـ بفتح الهمزتين ـ وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إياه خطاب غلظة، فذلك مقتضي ذكر اسمه العلم.
وقرأ الجمهور {آزر} بفتح الراء ـ وقرأه يعقوب ـ بضمهاـ.واقتصر المفسرون على جعله في قراءة ـ فتح الراء ـ بيانا من {أبيه} ، وقد علمت أنه لا مقتضي له.
والاستفهام في {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} استفهام إنكار وتوبيخ.
والظاهر أن المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه، وهو موقف غلظة، فيتعين أنه كان عندما أظهر أبوه تصلبا في الشرك.وهو ما كان بعد أن قال له أبوه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46]وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} الآيات في سورة مريم[42].
و {تتخذ} مضارع اتخذ، وهو افتعال من الأخذ، فصيغة الافتعال فيه دالة على التكلف للمبالغة في تحصيل الفعل.قال أهل اللغة: قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفا ولينوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا: تخذ بمعنى اتخذ، وقد قرئ بالوجهين قوله تعالى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]و {لَتَخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} فأصل فعل اتخذ أن يتعدى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالا، وقد وعدنا عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤاً} في سورة البقرة[67] بأن نبين استعمال"اتخذ"وتعديته في هذه السورة.ومعنى تتخذ هنا تصطفي وتختار؛ فالمراد أتعبد أصناما.
(6/171)

وفي فعل {تتخذ} إشعار بأن ذلك شيء مصطنع مفتعل وأن الأصنام ليست أهلا للإلهية.وفي ذلك تعريض بسخافة عقله أن يجعل إلهه شيئا هو صنعه.
والأصنام جمع صنم، والصنم الصورة التي تمثل شكل إنسان أو حيوان، والظاهر أن اعتبار كونه معبودا داخل في مفهوم اسم صنم كما تظافرت عليه كلمات أهل اللغة فلا يطلق على كل صورة، وفي شفاء الغليل: "أن صنم معرب عن"شمن"، وهو الوثن، أي مع قلب في بعض حروفه، ولم يذكر اللغة المعرب منها، وعلى اعتبار كون العبادة داخلة في مفهوم الاسم يكون قوله: {أصناما} مفعول {تتخذ} على أن تتخذ متعد إلى مفعول واحد على أصل استعماله ومحل الإنكار هو المفعول، أي {أصناما} ، ويكون قوله: {آلهة} حالا من {أصناما} مؤكدة لمعنى صاحب الحال، أو بدلا من {أصناما} .وهذا الذي يناسب تنكير {أصناما} لأنه لو كان مفعولا أول لـ {تتخذ} لكان معرفا لأن أصله المبتدأ.وعلى احتمال أن الصنم اسم للصورة سواء عبدت أم لم تعبد يكون قوله: {آلهة} مفعولا ثانيا لـ {تتخذ} على أن {تتخذ} مضمن معنى تجعل وتصير، أي أتجعل صورا آلهة لك كقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
وقد تضمن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنه أنكر عليه شيئين: أحدهما جعله الصور آلهة مع أنها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية، وثانيهما تعدد الآلهة ولذلك جعل مفعولا {تتخذ} جَمْعَين، ولم يقل: أتتخذ الصنم إلها.
وجملة {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ} مبينة للإنكار في جملة {تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} .وأكد الإخبار بحرف التأكيد لما يتضمه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بينا، وذلك مما ينكره المخاطب؛ ولأن المخاطب لما لم يكن قد سمع الإنكار عليه في اعتقاده قبل ذلك يحسب نفسه على هدى ولا يحسب أن أحدا ينكر عليه ما هو فيه، ويظن أن إنكار ابنه عليه لا يبلغ إلى حد أن يراه وقومه في ضلال مبين.فقد يتأوله بأنه رام منه ما هو أولى.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أن ضلال أبيه وقومه صار كالشيء المشاهد لوضوحه في أحوال تقرباتهم للأصنام من الحجارة فهي حالة مشاهد ما فيها من الضلال.وعليه فقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع الحال.ويجوز كون الرؤية علمية، وقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع المفعول الثاني.
وفائدة عطف {وقومك} على ضمير المخاطب مع العلم بأن رؤيته أباه في ضلال
(6/172)

يقتضي أن يرى مماثليه في ضلال أيضا لأن المقام مقام صراحة لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام ولينبئه من أول وهلة علة أن موافقة جمع عظيم إياه على ضلاله لا تعضد دينه ولا تشكك من ينكر عليه ما هو فيه.و {مبين} اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي ظاهر.ووصف الضلال بـ {مبين} نداء على قوة فساد عقولهم حيث لم يتفطنوا لضلالهم مع أنه كالمشاهد المرئي.
ومباشرته إياه بهذا القول الغليظ كانت في بعض مجادلاته لأبيه بعد أن تقدم له بالدعوة بالرفق، كما حكى الله عنه في موضع آخر {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ـ إلى قوله ـ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 42ـ47].فلما رأى تصميمه على الكفر سلك معه الغلظة استقصاء لأساليب الموعظة لعل بعضها أن يكون أنجع في نفس أبيه من بعض فإن للنفوس مسالك ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال له في موضع آخر {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما ينافي البرور به لأن المجاهرة بالحق دون سب ولا اعتداء لا تنافي البرور.ولم يزل العلماء يخطئون أساتذتهم وأئمتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص.وقد قال أرسطاليس في اعتراض على أفلاطون: "أفلاطون صديق والحق صديق لكن الحق أصدق".على أن مراتب بر الوالدين متفاوتة في الشرائع.وقد قال أبناء يعقوب: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95].
[75] {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
عطف على جملة {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74} .فالمعنى وإذ نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إرادة لا إرادة أوضح منها في جنسها والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى الإرادة المأخوذ من قوله: {نري إبراهيم} أي مثل ذلك الإراء العجيب نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.وهذا على طريقة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].وقد تقدم بيانه في سورة البقرة، فاسم الإشارة في مثل هذا الاستعمال يلازم الإفراد والتذكير لأنه جرى مجرى المثل.
(6/173)

وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إشارة إلى حجة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.
والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدل بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، فإبراهيم عليه السلام ابتديء في أول أمره بالإلهام إلى الحق كما ابتديء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة.ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي.وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9].
والملكوت اتفق أئمة اللغة على أنه مصدر كالرغبوت والرحموت والرهبوت والجبروت.وقالوا: إن الواو والتاء فيه للمبالغة.وظاهره أن معناه الملك ـ بكسر الميم ـ لأن مصدر ملك الملك ـ بكسر الميم ـ ولما كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه الملك القوي الشديد.ولذلك فسره الزمخشري بالربوبية والإلهية.وفي اللسان: "مُلْك الله وملكوته سلطانُه ولفلان ملكوت العراق، أي سلطانه وملكه.وهذا يقتضي أنه مرادف للملك ـ بضم الميم ـ وفي طبعة "اللسان"في بولاق رقمت على ميم ملكه ضمة.
وفي الإتقان عن عكرمة وابن عباس: أن الملكوت كلمة نبطية.فيظهر أن صيغة"فعلوت"في جميع الموارد التي وردت فيها أنها من الصيغ الدخلية في اللغة العربية، وأنها في النبطية دالة على المبالغة، فنقلها العرب إلى لغتهم لما فيها من خصوصية القوة.ويستخلص من هذا أن الملكوت يطلق مصدرا للمبالغة في الملك، وأن الملك "بالضم"لما كان ملكا"بالكسر"عظيما يطلق عليه أيضا الملكوت.
فأما في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنه من إطلاق المصدر وإراءة اسم المفعول، وهو المملوك، كالخلق على المخلوق، إما من الملك ـ بكسر الميم ـ أو من الملك ـ بضمهاـ.
وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى"في".والمعنى ما يشمله الملك أو الملك، والمراد ملك الله.والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفا يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرف فيما كشفنا له سوانا.
وعطف قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} على قوله: {وكذلك} لأن {وكذلك} أفاد كون المشبه به تعليما فائقا.ففهم منه أن المشبه به علة لأمر مهم هو من جنس المشبه به.
(6/174)

فالتقدير: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليعلم علما وفق لذلك التفهيم، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين.وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ1 الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في هذه السورة[56].
والموقن هو العالم علما لا يقبل الشك، وهو الإيقان.والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته.وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أبلغ من أن يقال: وليكون موقنا كما تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في هذه السورة[56].
[56ـ57] {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{فَلَمَّا جَنَّ} تفريع على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75] بقرينة قوله: {رَأى كَوْكَباً} فإن الكوكب من ملكوت السماوات,وقوله في المعطوف عليه {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75].فهذه الرؤية الخاصة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب في إبكات لقومه ملجئ إياهم للاعتراف بفساد معتقدهم، هي فرع من تلك الإراءة التي عمت ملكوت السماوات والأرض،لأن العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبب،ولذلك نعد جعل الزمخشري {فَلَمَّا جَنَّ} عطفا على قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ} [الأنعام: 74]،وجعله ما بينهما اعتراضا،غير رشيق.
وقوله: {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي أظلم الليل إظلاما على إبراهيم، أي كان إبراهيم محوطا بظلمة الليل، وهو يقتضي أنه كان تحت السماء ولم يكن في بيت.
ويؤخذ من قوله بعده {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أنه كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها
ـــــــ
1 في المطبوعة: "نصرف",وهو خطأ,والمثبت هو الموافق للمصحف.
(6/175)

أصناما.وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم.
يقال: جنه الليل، أي أخفاه، وجنان الليل ـ بفتح الجيم ـ، وجنه: ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد.يقال: جنه الليل، وهو الأصل.ويقال: جن عليه الليل، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتى صارت كأنها غطاء، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جن الليل قاصرا بمعنى أظلم.
وظاهر قوله: {رَأى كَوْكَباً} أنه حصلت له رؤية الكواكب عرضا من غير قصد للتأمل وإلا فإن الأفق في الليل مملوء كواكب، وأن الكواكب كان حين رآه واضحا في السماء مشرقا بنوره، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء.فالظاهر أنه رأى كوكبا من بينها شديد الضوء.فعن زيد بن علي أن الكوكب هو الزهرة.وعن السدي أنه المشتري.ويجوز أن يكون نظر الكواكب فرأى كوكبا فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، أي فضرب فانفلق.وجملة {رَأى كَوْكَباً} جواب {لما} .والكوكب: النجم.
وجملة {قَالَ هَذَا رَبِّي} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن مضمون جملة {رَأى كَوْكَباً} وهو أن يسأل سائل: فماذا كان عندما رآه، فيكون قوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} جوابا لذلك.
واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكن إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس {هَذَا رَبِّي ـ هَذَا رَبِّي} يعين أن يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمرا مطلوبا مبحوثا عنه فإذا عثر عليه أشير إليه، وذلك كالإشارة في قوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56]،وقوله: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]ولم يقل فهو الذي لمتنني.ولعل منه قوله: {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65]إذ لم يقتصروا على"بضاعتنا ردت إلينا".وفي"صحيح البخاري"قال الأحنف بن قيس: "ذهبت لأنصر هذا الرجل"يعني علي بن أبي طالب"ولم يتقدم له ذكر، لأن عليا وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفين، وسيأتي قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]يعني كفار قريش، وفي حديث سؤال القبر: "فيقال له ما علمك بهذا الرجل""يعني الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصح هنا أن يجعل مستعملا في معنييه الصريح والكناية.
(6/176)

وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنه لم يقل: هذا رب.فدل على أن إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنه لا يرى تعدد الآلهة ليصل بهم إلى التوحيد واستبقى واحدا من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله.
وظاهر قوله: {قال} إنه خاطب بذلك غيره، لأن القول حقيقته الكلام، وإنما يساق الكلام إلى مخاطب.
ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذ رتب قوله: {فَلَمَّا جَنَّ} على قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]ورتب ذلك كله على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74]الآية، ولقوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وإنما يقوله لمخاطب، ولقوله عقب ذلك {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، ولأنه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدل به على براءته مما يشركون مع أنه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لولا أن ذلك هو مدعى قومه؛ فدل ذلك كله على أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقي الحجة ولا ينفروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعا من قومه وأراد الاستدلال عليهم.
وقوله: {هَذَا رَبِّي} أي خالقي ومدبري فهو مستحق عبادتي.قاله على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنه موافق لهم ليهشوا إلى ذلك ثم يكر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحق.ولا يريبك في هذا أن صدور ما ظاهره كفر على لسانه ـ عليه السلام ـ لأنه لما رأى أنه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحق وهو لا يعتقده، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإنه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من الناس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى.وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي.
وعلى هذا فالآية تقتضي أن قومه يعبدون الكواكب وأنهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعا في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام وأن الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنها صور للكواكب وتماثيل لها على حسب تخيلاتهم
(6/177)

وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء، ويحتمل أنهم عبدوا الكواكب وعبدوا صورا أخرى على أنها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة.على أن الصابئة يعتقدون أن الكواكب روحانيات تخدمها.
وأفل النجم أفولا: غاب، والأفول خاص بغياب النيرات السماوية، يقال: أفل النجم وأفلت الشمس، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب وراء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية، فلا يقال: أفلت الشمس أو أفل النجم إذا احتجب بسحاب.
وقوله: {لا أُحِبُّ} الحب فيه بمعنى الرضى والإرادة، أي لا أرضى بالآفل إلها، أولا أريد الآفل إلها.وقد علم أن متعلق المحبة هو إرادته إلها له بقوله: {هَذَا رَبِّي} .وإطلاق المحبة على الإرادة شائع في الكلام، كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108].وقدره في الكشاف بحذف مضاف، أي لا أحب عبادة الآفلين.
وجاء بـ {الآفلين} بصيغة جمع الذكور العقلاء المختص بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أن الكواكب عاقلة متصرفة في الأكوان، ولا يكون الموجود معبودا إلا وهو عالم.
ووجه الاستدلال بالأفول على عدم استحقاق الإلهية أن الأفول مغيب وابتعاد عن الناس، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلما أفل النجم كان في حالة أفوله محجوبا عن الاطلاع على الناس، وقد بنى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيبا عن هذا العالم، يعني أن ما يغيب لا يستحق أن يتخذ إلها لأنه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه.وليس الاستدلال منظورا فيه إلى التغير لأن قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغير وانتفاء صفة الإلهية، ولأن الأفول ليس بتغير في ذات الكوكب بل هو عرض للأبصار المشاهدة له، أما الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعا لهم.
ولأجل هذا احتج بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإن البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكن الأفول السابق غير مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول إن هذا البازغ كان من قبل آفلا.
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً} الخ عطف على جملة محذوفة دل عليها الكلام.والتقدير: فطلع القمر فلما رآه بازغا، فحذفت الجملة للإيجاز وهو يقتضي أن القمر طلع بعد أفول الكوكب، ولعله اختار لمحاجة قومه الوقت الذي يغرب فيه الكوكب ويطلع القمر
(6/178)

بقرب ذلك، وأنه كان آخر الليل ليعقبهما طلوع الشمس.وأظهر اسم {القمر} لأنه حذف معاد الضمير.والبازغ: الشارق في ابتداء شروقه، والبزوغ ابتداء الشروق.
وقوله: {هَذَا رَبِّي} أفاد بتعريف الجزأين أنه أكثر ضوءا من الكوكب فإذا كان استحقاق الإلهية بسبب النور فالذي هو أشد نورا أولى بها من الأضعف.واسم الإشارة مستعمل في معناه الكنائي خاصة وهو كون المشار إليه مطلوبا مبحوثا عنه كما تقدم آنفا.
وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} قصد به تنبيه قومه للنظر في معرفة الرب الحق وأنه واحد، وأن الكوكب والقمر كليهما لا يستحقان ذلك مع أنه عرض في كلامه بأن له ربا يهديه وهم لا ينكرون عليه ذلك لأنهم قائلون بعدة أرباب.وفي هذا تهيئة لنفوس قومه لما عزم عليه من التصريح بأن له ربا غير الكواكب.ثم عرض بقومه أنهم ضالون وهيأهم قبل المصارحة للعلم بأنهم ضالون، لأن قوله: {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} يدخل على نفوسهم الشك في معتقدهم أن يكون ضلالا، ولأجل هذا التعريض لم يقل: لأكونن ضالا، وقال: {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ليشير إلى أن في الناس قوما ضالين، يعني قومه.
وإنما تريث إلى أفول القمر فاستدل به على انتفاء الهيئة ولم ينفها عنه بمجرد رؤيته بازغا مع أن أفوله محقق بحسب المعتاد لأنه أراد أن يقيم الاستدلال على أساس المشاهدة على ما هو المعروف في العقول لأن المشاهدة أقوى.
وقوله: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي في الصباح بعد أن أفل القمر، وذلك في إحدى الليالي التي يغرب فيها القمر قبيل طلوع الشمس لأن الظاهر أن هذا الاستدلال كله وقع في مجلس واحد.
وقوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} باسم إشارة المذكر مع أن الشمس تجري مجرة المؤنث لأنه اعتبرها ربا، فروعي في الإشارة معنى الخبر، فكأنه قال: هذا الجرم الذي تدعونه الشمس تبين أنه هو ربي.
وجملة {هَذَا أَكْبَرُ} جارية مجرى العلة لجملة {هَذَا رَبِّي} المقتضية نقض ربوبية الكوكب والقمر وحصر الربوبية في الشمس ونفيها عن الكوكب والقمر، ولذلك حذف المفضل عليه لظهوره، أي هو أكبر منهما، يعني أن الأكبر الأكثر إضاءة أولى باستحقاق الإلهية.
وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، إقناع لهم بأن لا يحاولوا موافقته
(6/179)

إياهم على ضلالهم لأنه لما انتفى استحقاق الإلهية عن أعظم الكواكب التي عبدوها فقد انتفى عما دونها بالأحرى.
والبريء فعيل بمعنى فاعل من بَرِىَء ـ بكسر الراء لا غيرـ يبرأ بفتح الراء لا غير بمعنى تفصى وتنزه ونفى المخالطة بينه وبين المجرور بـ"مِنْ".ومنه {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 3] {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].فمعنى قوله: {بريء} هنا أنه لا صلة بينه وبين ما يشركون.والصلة في هذا المقام هي العبادة إن كان ما يشركون مرادا به الأصنام، أو هي التلبس والاتباع إن كان ما يشركون بمعنى الشرك.
والأظهر أن"ما"في قوله: {مَا تُشْرِكُونَ} موصولة وأن العائد محذوف لأجل الفاصلة، أي ما تشركون به، كما سيأتي في قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80]لأن الغالب في فعل البراءة أن يتعلق بالذوات، ولئلا يتكرر مع قوله بعده: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .ويجوز أن تكون"ما"مصدرية، أي من إشراككم، أي لا أتقلده.
وتسميته عبادتهم الأصنام إشراكا لأن قومه كانوا يعترفون بالله ويشركون معه في الإلهية غيره كما كان إشراك العرب وهو ظاهر آي القرآن حيث ورد فيها الاحتجاج عليهم بخالق السماوات والأرض، وهو المناسب لضرب المثل لمشركي العرب بشأن إبراهيم وقومه، ولقوله الآتي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
وجملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} بمنزلة بدل الاشتمال من جملة {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، لأن البراءة من الإشراك تشتمل على توجيه الوجه إلى الله، وهو إفراده بالعبادة.والوجه في قوله: {وجهي} حقيقة.و {وجهت} مشتق من الجهة والوجهة، أي صرفته إلى جهة، أي جعلت كذا جهة له يقصدها.يقال: وجهه فتوجه إلى كذا إذا ذهب إليه.ويقال للمكان المقصود وجهة بكسر الواو، وكأنهم صاغوه على زنة الهيئة من الوجه لأن القاصد إلى مكان يقصده من نحو وجهه، وفعلوه على زنة الفعلة بكسر الفاء لأن قاصد المكان بوجهه تحصل هيئة في وجهه وهي هيئة العزم وتحديق النظر.فمعنى {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} صرفته وأدرته.وهذا تمثيل: شبهت حالة إعراضه عن الأصنام وقصده إلى إفراد الله تعالى بالعبادة بمن استقيل بوجهه شيئا وقصده وانصرف عن غيره.
وأتي بالموصول في قوله: {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ليومىء إلى علة توجهه إلى عبادته، لأن الكواكب من موجودات السماء، والأصنام من موجودات الأرض فهي
(6/180)

مفطورة لله تعالى.
وفعل"وجه"يتعدى إلى المكان المقصود بإلى، وقد يتعدى باللام إذا أريد أنه انصرف لأجل ذلك الشيء، فيحسن ذلك إذا كان الشيء المقصود مراعى إرضاؤه وطاعته كما تقول: توجهت للحبيب، ولذلك اختير تعدية هنا باللام، لأن في هذا التوجه إرضاء وطاعة.
وفطر: خلق، وأصل الفطر الشق.يقال فطر فطورا إذا شق قال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]أي اختلال، شبه الخلق بصناعة الجلد ونحوه، فإن الصانع يشق الشيء قبل أن يصنعه، وهذا كما يقال: الفتق والفلق، فأطلق الفطر على إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة تؤهل للفعل.
و {حنيفا} حال من ضمير المتكلم في {وجهت} .وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة البقرة[135].
وجملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} عطف على الحال، نفى عن نفسه أن يكون متصلا بالمشركين وفي عدادهم.
فلما تبرأ من أصنامهم تبرأ من القوم، وقد جمعهما أيضا في سورة الممتحنة[4] {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وأفادت جملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيدا لجملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} ، وإنما عطفت لأنها قصد منها التبرىء من أن يكون من المشركين.
وهذا قد جرينا فيه على أن قول إبراهيم لما رأى النيرات {هَذَا رَبِّي} هو مناظرة لقومه واستدراج لهم، وأنه كان موقنا بنفي إلهيتها، وهو المناسب لصفة النبوءة أن يكون أوحي إليه ببطلان الإشراك وبالحجج التي احتج بها على قومه.ومن المفسرين من قال: إن كلامه ذلك كان نظرا واستدلالا في نفسه لقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} ، فإنه يشعر بأنه في ضلال لأنه طلب هداية بصيغة الاستقبال أي لأجل أداة الشرط، وليس هذا بمتعين لأنه قد يقوله لتنبيه قومه إلى أن لهم ربا بيده الهداية، كما بيناه في موضعه، فيكون كلامه مستعملا في التعريض.على أنه قد يكون أيضا مرادا به الدوام على الهداية والزيادة فيها، على أنه قد يكون أراد الهداية إلى إقامة الحجة حتى لا يتغلب عليه قومه.
(6/181)

فإذا بنينا على أن ذلك كان استدلالا في نفسه قبل الجزم بالتوحيد فإن ذلك كان بإلهام من الله تعالى، فيكون قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]معناه نريه ما فيها من الدلائل على وجود الصانع ووحدانيته قبل أن نوحي إليه ويكون قوله: {رَأى كَوْكَباً} بمعنى نظر في السماء فرأى هذا الكوكب ولم يكن نظر في ذلك من قبل، ويكون قوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} قولا في نفسه على نحو ما يتحدث به المفكر في نفسه، وهو حديث النفس، كقول النابغة في كلب صيد:
قالت له النفس إني لا أرى طمعا ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
وقول العجاج في ثور وحشي:
ثم انثنى وقال في التفكير ... إن الحياة اليوم في الكرور
وقوله: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وقوله: { لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} كل ذلك مستعمل في حقائقه من الاعتقاد الحقيقي.وقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ} هو ابتداء خطابه لقومه بعد أن ظهر الحق له فأعلن بمخالفته قومه حينئذ.
[80] {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]
لما أعلن إبراهيم ـ عليه السلام ـ معتقده لقومه أخذوا في محاجته، فجملة {وحاجه} عطف على جملة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79].
وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلة بالإخبار بمضمونها مع أن تفرع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام.
والمحاجة مفاعلة متصرفة من الحجة، وهي الدليل المؤيد للدعوى.ولا يعرف لهذه المفاعلة فعل مجرد بمعنى استدل بحجة، وإنما المعروف فعل حج إذا غلب في الحجة، فإن كانت احتجاجا من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أن محاول الغلب في الحجة لا بد أن يتلقى من خصمه ما يرد احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجة، أو المفاعلة فيه للمبالغة.والأولى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجة بينهم وبين إبراهيم.
وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: "أن صيغة المفاعلة تقتضي أن المجعول فيها
(6/182)

فاعلا هو البادىء بالمحاجة، وأن بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة البقرة[258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} حيث قال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأن إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمروذ بدأ المحاجة.ولم يذكر أئمة اللغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة.ويجوز أن يكون المراد هنا أنهم سلكوا معه طريق الحجة على صحة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجة.وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلق به غرض لأن الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحق.وحذف متعلق {حاجه} لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} الآيات.
وقد ذكرت حججهم في مواضع من القرآن، منها قوله في سورة الأنبياء[52ـ56] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُون قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ـ إلى قوله ـ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ،وقوله في سورة الشعراء[73,72] {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} الآيات،وفي سورة الصافات[85ـ98] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ـإلى قوله ـ فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} وكلها محاجة حقيقية، ويدخل في المحاجة ما ليس بحجة ولكنه مما يرونه حججا بأن خوفوه غضب آلهتهم، كما يدل عليه قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} الآية.والتقدير: وحاجه قومه فقالوا: كيت وكيت.
وجملة {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} جواب محاجتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة[30]، فإن كانت المحاجة على حقيقة المفاعلة فقوله: {أتحاجوني} غلق لباب المجادلة وختم لها، وإن كانت المحاجة مستعملة في الاحتجاج فقوله: {أتحاجوني} جواب لمحاجتهم، فيكون كقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20].والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.
و {في} لظرفية المجازية متعلقة بـ {تحاجوني} ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف، لأن المحاجة لا تكون في الذوات، فتعين تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدالة على أنه واحد، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]أي في استئصالهم.
(6/183)

وجملة {وَقَدْ هَدَانِ} حال مؤكدة للإنكار، أي لا جدوى لمحاجتكم إياي بعد أن هداني الله إلى الحق، وشأن الحال المؤكدة للإنكار أن يكون اتصاف صاحبها بها معروفا عند المخاطب.فالظاهر أن إبراهيم نزلهم في خطابه منزلة من يعلم أن الله هداه كناية على ظهور دلائل الهداية.
وقرأ نافع،وابن عامر،وأبوجعفر {أتحاجوني} بنون واحدة خفيفة ـ وأصله أتحاجونني ـ بنونين ـ فحذفت إحداهما للتخفيف، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي.قال: "لأن الأولى نون الإعراب وأما الثانية فهي موطئة لياء المتكلم فيجوز حذفها تخفيفا، كما قالوا، لَيْتِي في لَيْتَني".وذهب سيبوية أن المحذوفة هي الأولى لأن الثانية جلبت لتحمل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة، وأياما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف.وعن أبي عمرو بن العلاء: "أن هذه القراءة لحن"، فإن صح ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه، أو أخطأ من عزاه إليه.وقرأه البقية بتشديد النون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضا، ولذلك تمد الواو لتكون المدة فاصلة بين التقاء الساكنين، لأن المدة خفة وهذا الالتقاء هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حدة.
وحذفت ياء المتكلم في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ} للتخفيف وصلا ووقفا في قراءة نافع من رواية قالون، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة.وقد تقدم في قوله تعالى: {أُُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} معطوف على {أتحاجوني} فتكون إخبارا، أو على جملة {وَقَدْ هَدَانِ} فتكون تأكيدا للإنكار.وتأكيد الإنكار بها أظهر منه لقوله: {وَقَدْ هَدَانِ} لأن عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه.فقومه إما عالمون به أو منزلون منزلة العالم، كما تقدم في قوله: {وَقَدْ هَدَانِ} ،وهو يؤذن بأنهم حاجوه في التوحيد وخوفوه بطش آلهتهم ومسهم إياه بسوء، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجتهم إياه وبين نفي خوفه من آلهتهم، ولا بين هدى الله إياه وبين نفي خوفه آلهتهم، فتعين أنهم خوفوه مكر آلهتهم.ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54].
و"ما"من قوله: {مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهية.
والضمير في قوله: {به} يجوز أن يكون عائدا على اسم الجلالة فتكون الباء
(6/184)

لتعدية فعل {تشركون} ، وأن يكون عائدا إلى"ما"الموصولة فتكون الباء سببية، أي الأصنام التي بسببها أشركتم.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} استثناء مما قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعا بمعنى لكن.وهو ظاهر كلام الطبري، وهو الأظهر فإنه لما نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهم منه السامعون أنه لا يخاف شيئا استدرك عليه بما دل عليه الاستثناء المنقطع، أي لكن أخاف مشيئة ربي شيئا مما أخافه، فذلك أخافه.وفي هذا الاستدارك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنه يخشى ربه المستحق للخشية إن كان قومه لا يعترفون برب غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدمين.
وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متصلا مفرغا عن مستثنى منه محذوف دل عليه الكلام، فقدره الزمخشري من أوقات، أي لا أخاف ما تشركون به أبدا، لأن الفعل المضارع المنفي يتعلق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنه كالنكرة المنفية، أي إلا وقت مشيئة ربي شيئا أخافه من شركائكم، أي بأن يسلط ربي بعضها علي فذلك من قدرة ربي بواسطتها لا من قدرتها علي.وجوز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالا عامة، أي إلا حال مشيئة ربي شيئا أخافه منها.
وجملة {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} استئناف بياني لأنه قد يختلج في نفوسهم: كيف يشاء ربك شيئا تخافه وأنت تزعم أنك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلا شك في أمرك، فلذلك فصلت، أي إنما لم آمن إرادة الله بي ضرا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنه أعلم بحكمة إلحاق الضر.أو النفع بمن يشاء من عباده.وهذا مقام أدب مع الله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وجملة {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} معطوفة على جملة {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} .وقدمت همزة الاستفهام على فاء العطف.
والاستفهام إنكار لعدم تذكرهم مع وضوح دلائل التذكر.والمراد التذكر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية، وفي صفات الإله الحق التي دلت عليها مصنوعاته.
[81] {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(6/185)

عطفت جملة {وَكَيْفَ أَخَافُ} على جملة {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} ل[الأنعام: 80]ليبين لهم أن عدم خوفه من آلهتهم أقل عجبا من عدم خوفهم من الله تعالى، وهذا يؤذن بأن قومه كانوا يعرفون الله وأنهم أشركوا معه في الإلهية غيره فلذلك احتج عليهم بأنهم أشركوا بربهم المعترف به دون أن ينزل عليهم سلطانا بذلك.
و {كيف} استفهام إنكاري، لأنهم دعوه إلى أن يخاف بأس الآلهة فأنكر هو عليهم ذلك وقلب عليهم الحجة، فأنكر عليهم أنهم لم يخافوا الله حين أشركوا به غيره بدون دليل نصبه لهم فجمعت {كيف} الإنكار على الأمرين.
قالوا وفي قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} يجوز أن تكون عاطفة على جملة {أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} فيدخل كلتاهما في حكم الإنكار، فخوفه من آلهتهم منكر، وعدم خوفهم من الله منكر.
ويجوز أن تكون الواو للحال فيكون محل الإنكار هو دعوتهم إياه إلى الخوف من آلهتهم في حال إعراضهم عن الخوف ممن هو أعظم سلطانا وأشد بطشا، فتفيد"كيف"مع الإنكار معنى التعجيب على نحو قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].ولا يقتضي ذلك أن تخويفهم إياه من أصنامهم لا ينكر عليهم إلا في حال إعراضهم عن الخوف من الله لأن المقصود على هذا إنكار تحميق ومقابلة حال بحال، لا بيان ما هو منكر وما ليس بمنكر، بقرينة قوله في آخره {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} .وهذا الوجه أبلغ.
و {مَا أَشْرَكْتُمْ} موصولة والعائد محذوف، أي ما أشركتم به.حذف لدلالة قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80]عليه،والموصول في محل المفعول"به"، لـ {مَا أَشْرَكْتُمْ} .
وفي قوله: {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ} حذفت"من"المتعلقة بـ {تخافون} لاطراد حذف الجار مع"أن"،أي من إشراككم، ولم يقل: ولا تخافون الله،لأن القوم كانوا يعرفون الله ويخافونه ولكنهم لم يخافوا الإشراك به.و {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} موصول مع صلته مفعول {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ} .
ومعنى {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ} لم يخبركم بإلهية الأصنام التي عبدتموها ولم يأمركم بعبادتها خبرا تعلمون أنه من عنده فلذلك استعار لذلك الخبر التنزيل تشبيها لعظم قدره
(6/186)

بالرفعة، ولبلوغه إلى من هم دون المخبر، بنزول الشيء العالي إلى أسفل منه.
والسلطان: الحجة لأنها تتسلط على نفس المخاصم،أي لم يأتكم خبر منه تجعلونه حجة على صحة عبادتكم الأصنام.
والفاء في قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} تفريع على الإنكار،والتعجيب فرع عليهما استفهاما ملجئا إلى الاعتراف بأنهم أولى بالخوف من الله من إبراهيم من آلهتهم.والاستفهام بـ {أي} للتقرير بأن فريقه هو وحده أحق بالأمن.
والفريق: الطائفة الكثيرة من الناس المتميزة عن غيرها بشيء يجمعها من نسب أو مكان أو غيرهما، مشتق من فرق إذا ميز.والفرقة أقل من الفريق،وأراد بالفريقين هنا قومه ونفسه، فأطلق على نفسه الفريق تغليبا، أو أراد نفسه ومن تبعه إن كان له أتباع ساعتئذ، قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]،أو أراد من سيوجد من أتباع ملته،كما يناسب قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
والتعريف في {الأمن} للجنس، وهو ضد الخوف، وجملة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مستأنفة ابتدائية، وجواب شرطها محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: فأجيبوني، وفيه استحثاث على الجواب.
[82] {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
هذه الجملة من حكاية كلام إبراهيم على ما ذهب إليه جمهور المفسرين فيكون جوابا عن قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} [الأنعام: 81].تولى جواب استفهامه بنفسه ولم ينتظر جوابهم لكون الجواب مما لا يسع المسؤول إلا أن يجيب بمثله، وهو تبكيت لهم.قال ابن عباس: "كما يسأل العالم ويجيب نفسه بنفسه، أي بقوله: "فإن قلت قلت".وقد تقدمت نظائره في هذه السورة.
وقيل: ليس ذلك من حكاية كلام إبراهيم،وقد انتهى قول إبراهيم عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بل هو كلام مستأنف من الله تعالى لابتداء حكم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تصديقا لقول إبراهيم.
وقيل: هو حكاية لكلام صدر من قوم إبراهيم جوابا عن سؤال إبراهيم {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} [الأنعام: 81].ولا يصح لأن الشأن في ذلك أن يقال: قال الذين
(6/187)

آمنوا الخ، ولأنه لو كان من قول قومه لما استمر بهم الضلال والمكابرة إلى حد أن ألقوا إبراهيم في النار.
وحذف متعلق فعل {آمنوا} لظهوره من الكلام السابق.والتقدير: الذين آمنوا بالله.
وحقيقة {يلبسوا} يخلطوا، وهو هنا مجاز في العمل بشيئين متشابهين في وقت واحد.شبه بخلط الأجسام كما في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42].
والظلم: الاعتداء على حق صاحب حق، والمراد به هنا إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]لأنه أكبر الاعتداء،إذ هو اعتداء على المستحق المطلق العظيم، لأن من حقه أن يفرد بالعبادة اعتقادا وعملا وقولا لأن ذلك حقه على مخلوقاته.ففي الحديث: "حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" .وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك.في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} شق ذلك على المسلمين وقالوا: "أينا لم يظلم نفسه"!.فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]"أهـ.وذلك أن الشرك جمع بين الاعتراف لله بالإلهية والاعتراف لغيره بالربوبية أيضا.ولما كان الاعتراف لغيره ظلما كان إيمانهم بالله مخلوطا بظلم وهو إيمانهم بغيره، وحمله على هذا المعنى هو الملائم لاستعارة اسم الخلط لهذا المعنى لأن الإيمان بالله وإشراك غيره في ذلك كلاهما من جنس واحد وهو اعتقاد الربوبية فهما متماثلان،وذلك أظهر في وجه الشبه، لأن شأن الأجسام المتماثلة أن يكون اختلاطها أشد فإن التشابه أقوى أحوال التشبيه عند أهل البيان.والمعنى الذين آمنوا بالله ولم يشركوا به غيره في العبادة.
وحمل الزمخشري الظلم على ما يشمل المعاصي، لأن المعصية ظلم للنفس كما في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]تأويلا للآية على أصول الاعتزال لأن العاصي غير آمن من الخلود في النار فهو مساو للكافر في ذلك عندهم، مع أنه جعل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} إلى آخره من كلام إبراهيم، وهو إن كان محكيا من كلام إبراهيم لا يصح تفسير الظلم منه بالمعصية إذ لم يكن إبراهيم حينئذ داعيا إلا للتوحيد ولم تكن له بعد شريعة، وإن كان غير محكي من كلامه فلا يناسب تفسيره فيه بالمعصية، لأن تعقيب كلام إبراهيم به مقصود منه تأييد قوله وتبيينه، فالحق أن الآية غير محتاجة للتأويل
(6/188)

على أصولهم نظرا لهذا الذي ذكرناه.
والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} للتنبيه على أن المسند إليه جدير بالمسند من أجل ما تقدم من أوصاف المسند إليه وهذا كقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5].
وقوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} أشارت اللام إلى أن الأمن مختص بهم وثابت، وهو أبلغ من أن يقال: آمنون.والمراد الأمن من عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه وما عذبت به الأمم الجاحدة، ومن عذاب الآخرة إذ لم يكن مطلوبا منهم حينئذ إلا التوحيد.والتعريف في {الأمن} تعريف الجنس،وهو الأمن المتقدم ذكره، لأنه جنس واحد،وليس التعريف تعريف العهد حتى يجيء فيه قولهم: إن المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثانية عين الأولى إذ لا يحتمل هنا غير ذلك.
وقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} معطوف على قوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} عطف جزء جملة على الجملة التي هي في حكم المفرد،فيكون {مهتدون} خبرا ثانيا عن اسم الإشارة عطف عليه بالواو على إحدى الطريقتين في الأخبار المتكررة.
والضمير للفصل ليفيد قصر المسند على المسند إليه، أي الاهتداء مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم دون غيرهم، أي أن غيرهم ليسوا بمهتدين، على طريقة قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104].وفيه إشارة إلى أن المخبر عنهم لما نبذوا الشرك فقد اهتدوا.
ويجوز أن يكون قوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} جملة، بأن يكون ضمير الجمع مبتدأ و"مهتدون"خبره، والجملة معطوفة على جملة {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} ،فيكون خبرا ثانيا عن اسم الموصول، ويكون ذكر ضمير الجمع لأجل حسن العطف لأنه لما كان المعطوف عليه جملة اسمية لم يحسن أن يعطف عليه مفرد في معنى الفعل، إذ لا يحسن أن يقال: أولئك لهم الأمن ومهتدون؛فصيغ المعطوف في صورة الجملة.وحينئذ فالضمير لا يفيد اختصاصا إذ لم يؤت به للفصل، وهذا النظم نظير قوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد: 2]
على اعتبار {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عطفا على {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما بينهما حال، وهذا من محسنات الوصل كما عرف في البلاغة، وهو من بدائع نظم الكلام العربي.
(6/189)

[83] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
عطف على جملة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80]. {وتلك} إشارة إلى جميع ما تكلم به إبراهيم في محاجة قومه، وأتي باسم إشارة المؤنث لأن المشار إليه حجة فأخبر عنه بحجة فلما لم يكن مشار إليه محسوس تعين أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير، كقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].وإضافة الحجة إلى اسم الجلالة للتنويه بشأنها وصحتها.
و {آتيناها} في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر.
وحقيقة الإيتاء الإعطاء، فحقه أن يتعدى إلى الذوات،ويكون بمناولة اليد إلى اليد.قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]، ولذلك يقال: اليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي المعطاة.ويستعمل مجازا شائعا في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتا أم معاني.يقال: آتاه الله مالا، ويقال: آتاه الخليفة إمارة {آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258], {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [صّ: 20]فإيتاء الحجة إلهامه إياها وإلقاء ما يعبر عنها في نفسه، وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه.
و {على} للاستعلاء المجازي، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكن من المغلوب، وهي متعلقة"بحجتنا"خلافا لمن منعه.يقال: هذا حجة عليك وشاهد عليك، أي تلك حجتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم، ويجوز أن يتعلق بـ {آتيناها} لما يتضمنه الإيتاء من معنى النصر.
وجملة {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} حال من ضمير الرفع في {آتيناها} أو مستأنفة لبيان أن مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتى وتكرمة له.
ورفع الدرجات تمثيل لتفضيل الشأن،شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقي في سلم إذا ارتفع من درجة إلى درجة، وفي جميعها رفع،وكل أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه،فالتفضيل يشبه الرفع، والفضائل المتفاوتة تشبه الدرجات،ووجه الشبه عزة حصول ذلك لغالب الناس.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، بإضافة {درجات} إلى {مَنْ} .فإضافة الدرجات إلى اسم الموصول باعتبار ملابسة المرتقي في الدرجة لها لأنها
(6/190)

إنما تضاف إليه إذا كان مرتقيا عليها، والإتيان بصيغة الجمع في {درجات} باعتبار صلاحية {مَنْ نَشَاءُ} لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة، ودل فعل المشيئة على أن التفاضل بينهم بكثرة موجبات التفضيل، أو الجمع باعتبار أن المفضل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله.وقرأه البقية ـ بتنوين ـ {دَرَجَاتٍ} ـ، فيكون تمييزا لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازا في التفضيل.والدرجات مجازا في الفضائل المتفاوتة.
ودل قوله: {مَنْ نَشَاءُ} على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} يثير سؤالا، يقول: لماذا يرفع بعض الناس دون بعض، فأجيب بأن الله يعلم مستحق ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلق علمه.فحكيم بمعنى محكم، أي متقن للخلق والتقدير.وقدم {حكيم} على {عليم} لأن هذا التفضيل مظهر للحكمة ثم عقب بـ {عليم} ليشير إلى أن ذلك الإحكام جار على وفق العلم.
[84ـ87] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
جملة {ووهبنا} عطف على جملة {آتيناها} [الأنعام: 83]لأن مضمونها تكرمة وتفضيل.وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامة الحجج على فساده وعلى أن الصالحين كلهم كانوا على خلافه.
والوهب والهبة: إعطاء شيء بلا عوض، وهو هنا مجاز في التفضل والتيسير.
ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنه ولد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوج في حياته فكان قرة عين لإبراهيم.
وقد مضت ترجمة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124].وترجمة إسحاق، ويعقوب، عند قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
(6/191)

بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]وقوله: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]كل ذلك في سورة البقرة.
وقوله: {كُلّاً هَدَيْنَا} اعتراض، أي كل هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التنوين في"كل"تنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المختار.
وفائدة ذكر هديهما التنويه بإسحاق ويعقوب، وأنهما نبيان نالا هدى الله كهديه إبراهيم، وفيه أيضا إبطال للشرك، ودمغ لقريش ومشركي العرب، وتسفيه لهم بإثبات أن الصالحين المشهورين كانوا على ضد معتقدهم، كما سيصرح به في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
وجملة {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} عطف على الاعتراض، أي وهدينا نوحا من قبلهم.وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى، وإشارة إلى أن الهدى هو الأصل، ومن أعظم الهدى التوحيد كما علمت.وانتصب {نوحا} على أنه مفعول مقدم على {هدينا} للاهتمام، و {مِنْ قَبْلُ} حال من {نوحا} .وفائدة ذكر هذا الحال التنبيه على أن الهداية متأصلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب.وبني {قَبْلُ} على الضم، على ما هو المعروف في"قبل"وأخوات غير من حذف ما يضاف إليه قبل وينوى معناه دون لفظه.وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} في سورة آل عمران[33].
وقوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِهِ} حال من داود، و {داود} مفعول"هدينا"محذوفا.وفائدة هذا الحال التنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم، والتنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذريته.والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأن نوحا أقرب مذكور، ولأن لوطا من ذرية نوح، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التوراة.ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرية إبراهيم لشدة اتصاله به، كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرية إبراهيم منصوبا على المدح بتقدير فعل لا على العطف.
وداود تقدم شيء من ترجمته عند قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} في سورة البقرة[251].ونكملها هنا بأنه داود بن يسي من سبط يهوذا من بني إسرائيل.ولد بقرية بيت لحم سنة 1085 قبل المسيح، وتوفي في أورشليم سنة 1015.وكان في شبابه راعيا لغنم
(6/192)

أبيه.وله معرفة بالنغم والعزف والرمي بالمقلاع.فأوحى الله إلى"شمويل"نبي بني إسرائيل أن يبارك داود بن يسي، ويمسحه بالزيت المقدس ليكون ملكا على بني إسرائيل، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنه سيصير ملكا على إسرائيل بعد موت"شاول"الذي غضب الله عليه.فلما مسحه "شمويل"في قرية بيت لحم دون أن يعلم أحد خطر لشاول، وكان مريضا، أن يتخذ من يضرب له بالعود عندما يعتاده المرض، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه.ولما حارب جند"شاول"الكنعانيين كما تقدم في سورة ا لبقرة، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني"جالوت"بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه، فلذلك صاهره شاول بابنته "ميكال"، ثم أن"شاول"تغير على داود، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته، ولما قتل"شاول"سنة 1055 بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داود ملكا عليهم.وجعل مقر ملكه"حَبْرُون"، وبعد سبع سنين قتل ملك إسرائيل الذي خلف شاول فبايعت الإسرائيليون كلهم داود ملكا عليهم، ورجع إلى أورشليم، وآتاه الله النبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمى عند اليهود بالمزامير.
وسليمان تقدمت ترجمته عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في سورة البقرة[102].
وأيوب نبي أثبت القرآن نبوءته.وله قصة مفصلة في الكتاب المعروف بكتاب أيوب، من جملة كتب اليهود.ويظن بعض المؤرخين أن أيوب من ذرية"ناحور"أخي إبراهيم.وبعضهم ظن أنه ابن حفيد عيسو بن إسحاق ابن إبراهيم، وفي كتابه أن أيوب كان ساكنا بأرض عوص"وهي أرض حوران بالشام، وهي منازل بني عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهم أصول عاد "وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان، وقد ورد ذكر البلدان في كتاب أيوب وبعض المحققين يظن أنه من صنف عربي وأنه من عوص، كما يدل عليه عدم التعرض لنسبته في كتابه، والاقتصار على أنه كان بأرض عوص"الذين هم من العرب العاربة".وزعموا أن كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربية، وأن موسى ـ عليه السلام ـ نقله إلى العبرانية.وبعضهم يظن أن المكلام المنسوب إليه كان شعرا ترجمه موسى في كتابه وأنه أول شعر عرف باللغة العربية الأصلية.وبعضهم يقول: هو أول شعر عرفه التاريخ، ذلك لأن كلامه وكلام أصحابه الثلاثة الذين عزوه على مصائبه جار على طريقة شعرية لا محالة.
(6/193)

ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف.
وموسى وهارون وزكريا، تقدمت تراجمهم في سورة البقرة.وترجمة عيسى تقدمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.ويحيى تقدمت ترجمته في آل عمران.
وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} اعتراض بين المتعاطفات، والواو للحال، أي وكذلك الوهب الذي وهبنا لإبراهيم والهدي الذي هدينا ذريته نجزي المحسنين مثله، أو وكذلك الهدي الذي هدينا ذرية نوح نجزي المحسنين مثل نوح، فعلم أن نوحا أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية، فأما إحسان نوح فيكون مستفادا من هذا الاعتراض، وأما إحسان إبراهيم فهو مستفاد مما أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كل الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم.
ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله: {هدينا} الاول والثاني، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين، أي بمثله، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديين من ذرية نوح أو من ذرية إبراهيم.فالمعنى أنهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء.
وأما إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم إيليا، ويسمى في بلاد العرب باسم إلياس أو "مار إلياس"وهو إلياس التشبي1.وذكر المفسرون أنه إلياس بن فنحاص بن إلعاز، أو ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي.كان موجودا في زمن الملك"آخاب"ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح.وهو إسرائيلي من سكان"جِلْعاد"ـ بكسر الجيم وسكون اللام ـ صقع جبلي في شرق الأردن ومنه بعلبك.وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جاد.وهذان السبطان هما سكان صقع جِلْعاد، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لما عبدوا الاوثان في زمن الملك"آخاب"وعبدوا"بَعْل"صنم الكنعانيين.وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم.أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النبوءة، ثم رفع الله إلياس في عاصفة إلى السماء فلم ير له أثر بعد، وخلفه اليسع في النبوءة في زمن الملك
ـــــــ
1 نسبة إلى تشبي مدينة الأرض التي أعطيت لسبط نفتالي كمكا في سفر العدد.
(6/194)

"تهورام"بن"آخاب"ملك إسرائيل.
وقوله: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} اعتراض.والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، أي كل هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحاق ومن بعده.
وأما إسماعيل فقد تقدمت ترجمته في سورة البقرة.
واليسع اسمه بالعبرانية إليشع ـ بهمزة قطع مكسورة ولام بعدها تحتية ثم شين معجمة وعين ـ وتعريبه في العربية اليسع ـ بهمزة وصل ولام ساكنة في أوله بعدها تحتية مفتوحة ـ في قراءة الجمهور.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف "الليسع"ـ بهمزة وصل وفتح اللام مشددة بعدها تحتية ساكنة ـ بوزن ضَيْغَم، فهما لغتان فيه.وهو ابن"شافاط"من أهل"آبل محولة".كان فلاحا فاصطفاه الله للنبوءة على يد الرسول إلياس في مدة"آخاب"وصحب إلياس.ولما رفع إلياس لازم سيرة إلياس وظهرت له معجزات لبني إسرائيل في"أريحا"وغيرها.وتوفي في مدة الملك"يوءاش"ملك إسرائيل وكانت وفاته سنة أربعين وثمانمائة 840 قبل المسيح ودفن بالسامرة.والالف واللام في اليسع من أصل الكلمة، ولكن الهمزة عوملت معاملة همزة الوصل للتخفيف فأشبه الاسم الذي تدخل عليه اللام التي للمح الأصل مثل العباس، وما هي منها.
وأما يونس فهو ابن متى، واسمه في العبرانية"يونان بن أمتاي"، وهو من سبط"زَبُولون".ويجوز في نونه في العربية الضم والفتح والكسر.ولد في بلدة"غاث ايفر"من فلسطين، أرسله الله إلى أهل"نَيْنَوَى"من بلاد أشور.وكان أهلها يومئذ خليطا من الآشوريين واليهود الذين في أسر الآشوريين، ولما دعاهم إلى الإيمان فأبوا توعدهم بعذاب، فتأخر العذاب فخرج مغاضبا وذهب إلى"يافا"فركب سفينة للفينيقيين لتذهب به إلى ترشيش"مدينة غربي فلسطين إلى غربي صور وهي على البحر ولعلها من مراسي الوجه البحري من مصر أو من مراسي برقة لأنه وصف في كتب اليهود أن سليمان كان يجلب إليه الذهب والفضة والقرود والطواويس من ترشيش، فتعين أن تكون لترشيش تجارة مع الحبشة أو السودان، ومنها تصدر هذه المحصولات.وقيل هي طرطوشة من مراسي الأندلس.وقيل "قرطاجنة"مرسى إفريقية قرب تونس.وقد قيل في تواريخنا أن تونس كان اسمها قبل الفتح الإسلامي ترشيش.وهذا قريب لأن تجارتها مع السودان قد تكون أقرب"فهال البحر على السفينة وثقلت وخيف غرقها، فاقترعوا فكان يونس ممن خاب في القرعة فرمي
(6/195)

في البحر والتقمه حوت عظيم فنادى في جوفه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الانبياء: 87]، فاستجاب الله له، وقذفه الحوت على الشاطئ.وأرسله الله ثانيا إلى أهل نينوى وآمنوا وكانوا يزيدون على مائة ألف.وكانت مدته في أول القرن الثامن قبل الميلاد.ولم نقف على ضبط وفاته.وذكر ابن العربي في الأحكام في سورة الصافات أن قبره بقرية جلجون بين القدس وبلد الخليل، وأنه وقف عليه في رحلته.وستأتي أخبار يونس في سورة يونس وسورة الأنبياء وسورة الصافات.
وأما لوط فهو ابن هاران بن تارح، فهو ابن أخي إبراهيم.ولد في"أور الكلدانيين".ومات أبوه قبل تارح، فاتخذ تارح لوطا في كفالته.ولما مات تارح كان لوط مع إبراهيم ساكنين في أرض حاران "حوران"بعد أن خرج تارح أبو إبراهيم من أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان.وهاجر إبراهيم مع لوط إلى مصر لقحط أصاب بلاد كنعان، ثم رجعا إلى بلاد كنعان، وافترق إبراهيم ولوط بسبب خصام وقع بين رعاتهما، فارتحل لوط إلى"سدوم"، وهي من شرق الأردن إلى أن أوحي إليه بالخروج منها حين قدر الله خسفها عقابا لأهلها فخرج إلى"صوغر"مع ابنته ونسله هناك، وهم"المؤابيون"و "بنو عمون".
وقوله: {وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} جملة معترضة، والواو اعتراضية، والتنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أولئك المذكوريين من إسحاق إلى هنا.و"كل"يقتضي استغراق ما أضيف إليه.وحكم الاستغراق أن يثبت الحكم لكل فرد فرد لا للمجموع.والمراد تفضيل كل واحد منهم على العالمين من أهل عصره عدا من كان أفضل منه أو مساويا له، فاللام في {العالمين} للاستغراق العرفي، فقد كان لوط في عصر إبراهيم وإبراهيم أفضل منه.وكان من غيرهما من كانوا في عصر واحد ولا يعرف فضل أحدهم على الآخر.وقال عبد الجبار: "يمكن أن يقال: المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين.ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من الآخر كلام في غرض آخر لا تعلق له بالأول"اهـ.ولا يستقيم لأن مقتضى حكم الاستغراق الحكم على كل فرد فرد.
وتتعلق بهذه الآية مسألة مهمة من مسائل أصول الدين.وهي ثبوت نبوءة الذين جرى ذكر أسمائهم فيها، وما يترتب على ثبوت ذلك من أحكام في الإيمان وحق النبوة.وقد أعرض عن ذكرها المفسرون وكان ينبغي التعرض لها لأنها تتفرع إلى مسائل تهم طالب
(6/196)

العلوم الإسلامية معرفتها، وأحق مظنة بذكرها هو هذه الآية وما هو بمعنى بعضها.فأما ثبوت نبوءة الذين ذكرت أسماؤهم فيها فلأن الله تعالى قال بعد أن عد أسماءهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءةَ} .فثبوت النبوءة لهم أمر متقرر لأن اسم الإشارة {أولئك} قريب من النص في عوده إلى جميع المسمين قبله مع ما يعضده ويكمله من النص بنبوءة بعضهم في آيات تماثل هذه الآية، مثل آية سورة النساء[163] {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآيات، ومثل الآيات من سورة مريم [41] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} الآيات.
وللنبوءة أحكام كثيرة تتعلق بموصوفها وبمعاملة المسلمين لمن يتصف بها: منها معنى النبي والرسول، ومعنى المعجزة التي هي دليل تحقق النبوءة أو الرسالة لمن أتى بها، وما يترتب على ذلك من وجوب الإيمان بما يبلغه عن الله تعالى من شرع وآداب، ومسائل كثيرة من ذلك مبسوطة في علم الكلام فليرجع إليها.إنما الذي يهمنا من ذلك في هذا التفسير هو ما أومأ به قوله تعالى في آخرها: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].فمن علم هذه الآيات في هذه السورة وكان عالما بمعناها وجب عليه الإيمان بنبوءة من جرت أسماؤهم فيها.
وقد ذكر علماؤنا أن الإيمان بأن الله أرسل رسلا ونبأ أنبياء لإرشاد الناس واجب على الجملة، أي إيمانا بإرسال أفراد غير معينين، أو بنبوءة أفراد غير معننين دون تعيين شخص معين باسمه ولا غير ذلك مما يميزه عن غيره إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في"الرسالة": "الباعث"صفة لله تعالى"الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم".فإرسال الرسل جائز في حق الله غير واجب، وهو واقع على الإجمال دون تعيين شخص معين.وقد ذكر"صاحب المقاصد"أن إرسال الرسل محتاج إليه، وهو لطف من الله بخلقه وليس واجبا عليه.وقالت المعتزلة وجمع من المتكلمين "أي من أهل السنة"مما وراء النهر بوجوب إرسال الرسل عليه تعالى.
ولم يذكر أحد من أئمتنا وجوب الإيمان بنبي معين غير محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الخلق كافة.قال أبو محمد بن أبي زيد: "ثم ختم أي الله الرسالة والنذارة والنبوءة بمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم الخ"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب من سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" الخ.فلم يعين رسلا مخصوصين.وقال في جواب سؤاله عن الإسلام "الإسلام أن تشهد أن لا إله
(6/197)

إلا الله وأن محمدا رسول الله" .
فمن علم هذه الآيات وفهم معناها وجب عليه الاعتقاد بنبوءة المذكورين فيها.ولعل كثيرا لا يقرأونها وكثيرا ممن يقرأونها لا يفهمون مدلولاتها حق الفهم فلا يطالبون بتطلب فهمهما واعتقاد ما دلت عليه إذ ليس ذلك من أصول الإيمان والإسلام ولكنه من التفقه في الدين.
قال القاضي عياض في فصل"سابع"من فصول الباب الثالث من القسم الرابع من كتاب الشفاء: "وهذا كله"أي ما ذكره من إلزام الكفر أو الجرم الموجب للعقوبة لمن جاء في حقهم بما ينافي ما يجب لهم"فيمن تكلم فيهم"أي الأنبياء أو الملائكة"بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين"أي على مجموعهم لا على جميعهم ـ قاله الخفاجي ـ يريد بالجميع كل فرد فرد"ممن حقفنا كونه منهم ممن نص عليه في كتابه أو حققنا علمه بالخبر المتواتر والإجماع القاطع والخبر المشتهر المتفق عليه"الواو في هذا التقسيم بمعنى أو".فأما من لم يثبت الإخبار بتعيينه ولا وقع الإجماع على كونه من الأنبياء كالخضر، ولقمان، وذي القرنين، ومريم، وآسية"امرأة فرعون"وخالد بن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس، فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه"أهـ.
فإذا علمت هذا علمت أن ما وقع في أبيات ثلاثة نظمها البعض، ذكرها الشيخ إبراهيم البيجوري في مبحث الإيمان من شرحه على جوهرة التوحيد:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا1 منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس.هود.شعيب، صالح وكذا ... ذو الكفل، آدم، بالمختار قد ختموا
لا يستقيم إلا بتكلف، لأن كون معرفة ذلك حتما يقتضي ظاهره الاصطلاحي أنه واجب، وهذا لا قائل به فإن أراد بالحتم الأمر الذي لا ينبغي إهماله كان متأكدا لقوله: على كل ذي التكليف.فلو عوضه بكل ذي التعليم.ولعله أراد بالحتم أنه يتحتم على من علم ذلك عدم إنكار كون هؤلاء أنبياء بالتعيين، ولكن شاء بين وجوب معرفة شيء وبين منع إنكاره بعد أن يعرف.
ـــــــ
1 أراد الآية {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} وهي بواو العطف فلو قال: وتلك حجتنا عدت ثمانية منهم وعشراً الخ .
(6/198)

فأما رسالة هود وصالح وشعيب فقد تكرر ذكرها في آيات كثيرة.
وأما معرفة نبوءة ذي الكفل ففيها نظر إذ لم يصرح في سورة الأنبياء بأكثر من كونه من الصابرين والصالحين.واختلف المفسرون في عدة من الأنبياء، ونسب إلى الجمهور القول بأنه نبي.وعن أبي موسى الأشعري ومجاهد: "أن ذا الكفل لم يكن نبيا".وسيأتي ذكر ذلك في سورة الأنبياء.
وأما آدم فإنه نبي منذ كونه في الجنة فقد كلمه الله غير مرة.وقال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]فهو قد أهبط إلى الأرض مشرفا بصفة النبوءة.وقصة ابني آدم في سورة المائدة دالة على أن آدم بلغ لأبنائه شرعا لقوله تعالى فيها { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 27ـ29].
فالذي نعتمده أن الذي ينكر نبوءة معين ممن سمي في القرآن في عداد الأنبياء في سورة النساء وسورة هود وسورة الأنعام وسورة مريم، وكان المنكر محققا علمه بالآية التي وصف فيها بأنه نبي ووقف على دليل صحة ما أنكره وروجع فصمم على إنكاره، إن ذلك الإنكار يكون كفرا لأنه أنكر معلوما بالضرورة بعد التنبيه عليه لئلا يعتذر بجهل أو تأويل مقبول.
واعلم أني تطلبت كشف القناع عن وجه الاقتصار على تسمية هؤلاء الأنبياء من بين سائر الأنبياء من ذرية إبراهيم أو ذرية نوح،"على الوجهين في معاد ضمير {ذريته} "فلم يتضح لي وتطلبت وجه ترتيب أسمائهم هذا الترتيب، وموالاة بعض هذه الأسماء لبعض في العطف فلم يبد لي، وغالب ظني أن من هذه الوجوه كون هؤلاء معروفون لأهل الكتاب وللمشركين الذين يقتبسون معرفة الأنبياء من أهل الكتاب، وأن المناسبة في ترتيبهم لا تخلو من أن تكون ناشئة عن الابتداء بذكر أن إسحاق ويعقوب موهبة لإبراهيم وهما أب وابنه، فنشأ الانتقال من واحد إلى آخر بمناسبة للانتقال، وأن توزيع أسمائهم على فواصل ثلاث لا يخلو عن مناسبة تجمع بين أصحاب تلك الأسماء في الفاصلة الشاملة لأسمائهم.ويجوز أن خفة أسماء هؤلاء في تعريبها إللا العربية حروفا ووزنا لها أثر في إيثارها
بالذكر دون غيرها من الأسماء نحو"شمعون وشمويل وحزقيال ونحميا"، وأن المعدودين في هذه الآيات الثلاث توزعوا الفضائل إذ منهم الرسل والأنبياء والملوك وأهل
(6/199)

الأخلاق الجليلة العزيزة من الصبر وجهاد النفس والجهاد في سبيل الله والمصابرة لتبليغ التوحيد والشريعة ومكارم الأخلاق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آخر الآيات {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءةَ} [الأنعام: 89] ومن بينهم أصلا الأمتين العربية والإسرائيلية.
فلما ذكر إسحاق ويعقوب أردف ذكرهما بذكر نبيين من ذرية إسحاق وإسحاق ويعقوب، وهما أب وابنه من الأنبياء هما داود وسليمان مبتدءا بهما على بقية ذرية إسحاق ويعقوب، لأنهما نالا مجدين عظيمين مجد الآخرة بالنبوءة ومجد الدنيا بالملك.ثم أردف بذكر نبيين تماثلا في أن الضر أصاب كليهما وأن انفراج الكرب عنهما بصبرهما.وهما أيوب ويوسف.ثم بذكر رسولين أخوين هما موسى وهارون، وقد أصاب موسى مثل ما أصاب يوسف من الكيد له لقتله ومن نجاته من ذلك وكفالته في بيت الملك، فهؤلاء الستة شملتهم الفاصلة الأولى المنتهية بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
ثم بذكر نبيين أب وابنه وهما زكريا ويحيى.فناسب أن يذكر بعدهما رسولان لا ذرية لهما، وهما عيسى وإلياس، وهما متماثلان في أنهما رفعا إلى السماء.فأما عيسى فرفعه مذكور في القرآن، وأما إلياس فرفعه مذكور في كتب الإسرائيليين ولم يذكره المفسرون من السلف.وقد قيل: إن إلياس هو إدريس وعليه فرفعه مذكور في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} في سورة مريم[57].وابتدئ بعيسى عطفا على يحيى لأنهما قريبان ابنا خالة، ولأن عيسى رسول وإلياس نبي غير رسول.وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثانية المنتهية بقوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .وعطف اليسع لأنه خليفة إلياس وتلميذه، وأدمج بينه وبين إلياس إسماعيل تنهية بذكر النبي الذي إليه ينتهي نسب العرب من ذرية إبراهيم.وختموا بيونس ولوط لأن كلا منهما أرسل إلى أمة صغيرة.وهؤلاء الأربعة تضمنتهم الفاصلة الثالثة المنتهية بقوله: {وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} .
وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ} عطف على قوله: {كلا} .فالتقدير: وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.وجعل صاحب الكشاف"مِن"اسما بمعنى بعض، أي وهدينا بعض آبائهم على طريقته في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46].وقدر ابن عطية ومن تبعه المعطوف محذوفا تقديره: ومن آبائهم جمعا كثيرا أو مهديين كثيرين، فتكون"مِن"تبعيضية متعلقة بـ {هدينا} .
(6/200)

والذريات جمع ذرية، وهي من تناسل من الآدمي من أبناء أدنين وأبنائهم فيشمل أولاد البنين وأولاد البنات.ووجه جمعه إرادة أن الهدى تعلق بذرية كل من له ذرية من المذكورين للتنبيه على أن في هدي بعض الذرية كرامة للجد، فكل واحد من هؤلاء مراد وقوع الهدي في ذريته.وإن كانت ذرياتهم راجعين إلى جد واحد وهو نوح عليه السلام.ثم إن كان المراد بالهدى المقدر الهدى المماثل للهدى المصرح به، وهو هدى النبوءة، فالآباء يشمل مثل آدم وإدريس عليهم ـ السلام ـ فإنهم آباء نوح.والذريات يشمل أنبياء بني إسرائيل مثل يوشع ودانيال.فهم من ذرية نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، والأنبياء من أبناء إسماعيل ـ عليه السلام ـ مثل حنظلة بن صفوان وخالد بن سنان، وهودا، وصالحا من ذرية نوح، وشعيبا، من ذرية إبراهيم.والإخوان يشمل بقية الأسباط أخوة يوسف.
وإن كان المراد من الهدى ما هو أعم من النبوءة شمل الصالحين من الآباء مثل هابيل ابن آدم.وشمل الذريات جميع صالحي الأمم مثل أهل الكهف، قال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13]، ومثل طالوت ملك إسرائيل، ومثل مضر وربيعة فقد ورد أنهما كانا مسلمين.رواه الديلمي عن ابن عباس.ومثل مؤمن آل فرعون وامرأة فرعون.ويشمل الإخوان هاران ابن تارح أخا إبراهيم، وهو أبو لوط، وعيسو أخا، يعقوب وغير هؤلاء ممن علمهم الله تعالى.
والاجتباء الاصطفاء والاختيار، قالوا هو مشتق من الجبى، وهو الجمع، ومنه جباية الخراج.وجبي الماء في الحوض الذي سميت منه الجابية، فالافتعال فيه للمبالغة مثل الاضطرار، ووجه الاشتقاق أن الله اختارهم فجعلهم موضع هديه لأنه أعلم حيث يجعل رسالته ونبوءته وهديه.
وعطف قوله: {وهديناهم} على {اجتبيناهم} عطفا يؤكد إثبات هداهم اهتماما بهذا الهدي، فبين أنه هدى إلى صراط مستقيم، أي إلى ما به نوال ما يعمل أهل الكمال لنواله، فضرب الصراط المستقيم مثلا لذلك تشبيها لهيئة العامل لينال ما يطلبه من الكمال بهيئة الساعي على طريق مستقيم يوصله إلى ما سار بدون تردد ولا تحير ولا ضلال، وذكر من ألفاظ المركب الدال على الهيئة المشبه بها بعضه وهو الصراط المستقيم لدلالته على جميع الألفاظ المحذوفة للإيجاز.
والصراط المستقيم هو التوحيد والإيمان بما يجب الإيمان به من أصول الفضائل
(6/201)

التي اشتركت فيها الشرائع، والمقصود مع الثناء عليهم التعريض بالمشركين الذين خالفوا معتقدهم، كما دل عليه قوله بعد ذلك: {هُدَى اللَّهِ ـإلى قوله ـ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
[88] {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استئناف بياني، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم.والإشارة إلى الهدى الذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها، وخصوصا المذكور آخرا بقوله: {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87].وقد زاد اسم الإشارة اهتماما بشأن الهدي إذ جعل كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمال تمييز، وأخبر عن الهدى بأنه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال، وفيه تعريض بما عليه المشركون مما يزعمونه هدى ويتلقونه عن كبرائهم، أمثال عمرو بن لحي الذي وضع لهم عبادة الأصنام، ومثل الكهان وأضرابهم.وقد جاء هذا الكلام على طريقة الفذلكة لأحوال الهداية التي تكرر ذكرها كأبيات حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
إلى أن قال بعد أبيات سبعة في محامد ذلك الصعلوك:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} جملة في موضع الحال من {هُدَى اللَّهِ} .والمراد بـ {مَنْ يَشَاءُ} الذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهديه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلعهم إليه وتدرجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحي أو التوفيق والإلهام الصادق.ففي قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من الإبهام ما يبعث النفوس على تطلب هدى الله تعالى والتعرض لنفحاته، وفيه تعريض بالمشركين الذين أنكروا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم حسدا، ولذلك أعقبه بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تفظيعا لأمر الشرك وأنه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغا عظيما مثل هؤلاء المعدودين المنوه بهم.والواو للحال.و"حبط"معناه تلف.أي بطل ثوابه.وقد تقدم في قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} في سورة البقرة[217]
(6/202)

[89] {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
استئناف ابتدائي للتنويه بهم، فهي فذلكة ثانية، لأن الفذلكة الأولى راجعة إلى ما في الجمل السابقة من الهدى وهذه راجعة إلى ما فيها من المهديين.
واسم الإشارة لزيادة الاعتناء بتمييزهم وإخطار سيرتهم في الأذهان.والمشار إليهم هم المعينون بأسمائهم والمذكورون إجمالا في قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام: 87].و {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} خبر عن اسم الإشارة.
والمراد بالكتاب الجنس: أي الكتب.وإيتاء الكتاب يكون بإنزال ما يكتب، كما أنزل على الرسل وبعض الانبياء، وما أنزل عليهم يعتبر كتابا، لأن شأنه أن يكتب سواء كتب أم لم يكتب.وقد نص القرآن على أن إبراهيم كانت له صحف بقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]وكان لعيسى كلامه الذي كتب في الإنجيل.ولداود الكلام الصادر منه تبليغا عن الله تعالى، وكان نبيا ولم يكن رسولا، ولسليمان الأمثال، والجامعة، والنشيد المنسوب في ثلاثتها أحكام أمر الله بها.ويقال: إن إدريس كتب الحكمة في صحف وهو الذي يسميه الإسرائيليون"أخنوخ"ويدعوه القبط"توت"ويدعوه الحكماء"هُرْمس".ويكون إيتاء الكتاب بإيتاء النبي فهم وتبيين الكتب المنزلة قبله، كما أوتي أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى أمثال يحيى فقد قال تعالى له: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
والحكم هو الحكمة، أي العلم بطرق الخير ودفع الشر.قال تعالى في شأن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12] ، ولم يكن يحيى حاكما أي قاضيا، وقد يفسر الحكم بالقضاء بالحق.كما في قوله تعالى في شأن داود وسليمان: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79].
وإيتاء هذه الثلاث على التوزيع، فمنهم من أوتي جميعها وهم الرسل منهم والأنبياء الذين حكموا بين الناس مثل داود وسليمان، ومنهم من أوتي بعضها وهم الأنبياء غير الرسل والصالحون منهم غير الأنبياء، وهذا باعتبار شمول اسم الإشارة لآبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
والفاء في قوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ} عاطفة جملة الشرط على جملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
(6/203)

الْكِتَابَ} عقبت بجملة الشرط وفرعت عليها لأن الغرض من الجمل السابقة من قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74]هو تشويه أمر الشرك بالاستدلال على فساده بنبذ أهل الفضل والخير إياهن فكان للفاء العاطفة عقب ذلك موقع بديع من أحكام نظم الكلام.
وضمير {بها} عائد إلى المذكورات: الكتاب والحكم والنبوة.والإشارة في قوله: {هؤلاء} إلى المشركين من أهل مكة، وهي إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين، كما ورد في حديث سؤال القبر: "فيقال له ما علمك بهذا الرجل؟" يعني النبي صلى الله عليه وسلم".وفي البخاري قال الأحنف بن قيس: "ذهبت لأنصر هذا الرجل""يعني علي بن أبي طالب".
وقد تقصيت مواقع آي القرآن فوجدته يعبر عن مشركي قريش كثيرا بكلمة هؤلاء ،كقوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29]ولم أر من نبه عليه من قبل.
وكفر المشركين بنبوءة أولئك الأنبياء تابع لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك حكى الله عنهم بعد أنهم {قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
ومعنى {وَكَّلْنَا بِهَا} وفقنا للإيمان بها ومراعاتها والقيام بحقها.فالتوكيل هنا استعارة، لأن حقيقة التوكيل إسناد صاحب الشيء تدبير شيئه إلى من يتولى تدبيره ويكفيه كلفة حفظه ورعاية ما به بقاؤه وصلاحه ونماؤه.يقال: وكلته على الشيء ووكلته بالشيء فيتعدى بعلى وبالباء.وقد استعير في هذه الآية للتوفيق إلى الإيمان بالنبوءة والكتاب والحكم والنظر في ما تدعو إليه ورعايته تشبيها لتلك الرعاية برعاية الوكيل، وتشبيها للتوفيق إليها بإسناد النظر إلى الوكيل، لأن الوكالة تقتضي وجود الشيء الموكل بيد الوكيل مع حفظه ورعايته، فكانت استعارة {وكلنا} لهذا المعنى إيجازا بديعا يقابل ما يتضمنه معنى الكفر بها من إنكارها الذي فيه إضاعة حدودها.
والقوم هم المؤمنون الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبمن قبله من الرسل وما جاءهم من الكتب والحكم والنبوءة.والمقصود الأول منهم المؤمنون الذين كانوا بمكة ومن آمن من الأنصار بالمدينة إذ كانت هذه السورة قد نزلت قبيل الهجرة.وقد فسر في الكشاف القوم بالأنبياء المتقدم ذكرهم وادعى أن نظم الآية حمله عليه، وهو تكلف لا حامل إليه.
ووصف القوم بأنهم {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} للدلالة على أنهم سارعوا إلى الإيمان بها بمجرد دعوتهم إلى ذلك فلذلك جيء في وصفهم بالجملة الاسمية المؤلفة من اسم"ليس"
(6/204)

وخبرها لأن ليس بمنزلة حرف نفي إذ هي فعل غير متصرف فجملتها تدل على دوام نفي الكفر عنهم، وأدخلت الباء في خبر"ليس"لتأكيد ذلك النفي فصار دوام نفي مؤكدا.
والمعنى إن يكفر المشركون بنبوءتك ونبوءة من قبلك فلا يضرك كفرهم لأنا قد وفقنا قوما مؤمنين للإيمان بك وبهم، فهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على إعراض بعض قومه عن دعوته.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بمعاد الضمير: الكتاب والحكم والنبوة.
[90] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها، ولأنها وقعت موقع التكرير لمضمون الجملتين التين قبلها: جملة {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87]وجملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ} [الأنعام: 89].وحق التكرير أن يكون مفصولا، وليبنى عليها التفريع في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ} [الأنعام: 89]فإنهم الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم.
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضبه التكرير من الاهتمام بالخبر.
وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الذين هداهم الله على المذكورين تفصيلا وإجمالا، لأن المهذبين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فإن من آبائهم آدم وهو الأب الجامع للبشر كلهم، فأريد بالهدى هدى البشر، أي الصرف عن الضلالة، فالقصر حقيقي.ولا نظر لصلاح الملائكة لأنه صلاح جبلي.وعدل عن ضمير المتكلم إلى اسم الجلالة الظاهر لقرن هذا الخبر بالمهابة والجلالة.
وقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} تفريع على كمال ذلك الهدى، وتخلص إلى ذكر حظ محمد صلى الله عليه وسلم من هدى الله بعد أن قدم قبله مسهب ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى علو منزلة
(6/205)

محمد صلى الله عليه وسلم وأنها منزلة جديرة بالتخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدمين، وأنه جمع هدى الأولين، وأكملت له الفضائل، وجمع له ما تفرق من الخصائص والمزايا العظيمة.وفي إفراده بالذكر وترك عده مع الأولين رمز بديع إلى فذاذته وتفرد مقداره، ورعي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة، ولذلك قدم امجرور وهو {بهداهم} على عامله، للاهتمام بذلك الهدى لأنه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا، فلا يليق به الاقتداء بهدى هو دون هداهم.ولأجل هذا لم يسبق للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممن تحنفوا في الجاهلية أو تتنصروا أو تهودوا.فقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن عمرو بن نفيل قبل النبوة في بلده وعرض عليه أن يأكل معه من سفرته، فقال زيد: "إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم"توهما منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يدين بدين الجاهلية، وألهم الله محمدا عليه الصلاة والسلام السكوت عن إجابته إلهاما لحفظ السر المدخر فلم يقل له إني لا أذبح على نصب.ولقي ورقة بن نوفل غير مرة بمكة.ولقي بحيرا الراهب.ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرسالة.
والاقتداء افتعال من القدوة ـ بضم القاف وكسرهاـ وقياسه على الإسوة يقتضي أن الكسر فيه أشهر.وقال في المصباح: "الضم أكثر".ووقع في"المقامات"للحريري: "وقدوة الشحاذين"فضُبط بالضم.وذكره الواسطي في"شرح ألفاظ المقامات"في القاف المضمومة، وروى فيه فتح القاف أيضا، وهو نادر.والقدوة هو الذي يعمل غيره مثل عمله، ولا يعرف له في اللغة فعل مجرد فلم يسمع إلا اقتدى.وكأنهم اعتبروا القدوة اسما جامدا واشتقوا منه الافتعال للدلالة على التكلف كما اشتقوا من اسم الخريف اخترف، ومن الأسوة ائتسى، وكما اشتقوا من اسم النمر تنمر، ومن الحجر تحجر.وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى.يقال: لي في فلان قدوة كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6].
وفي قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} تعريض للمشركين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا من الرسل.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم يؤذن بأن الله زوى إليه فضيلة من فضائلهم التي اختص كل واحد بها سواء ما اتفق منه واتحد، أو اختلف وافترق، فإنما يقتدى بما أطلعه الله عليه من فضائل الرسل وسيرهم،وهو الخلق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]
(6/206)

ويشمل هداهم ما كان منه راجعا إلى أصول الشرائع، وما كان منه راجعا إلى زكاء النفس وحسن الخلق.وأما ما كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاما جزئية من كل ما أبلغه الله إياه بالوحي ولم يأمره باتباعه في الإسلام ولا بين له نسخه، فقد اختلف علماؤنا في أن الشرائع الإلهية السابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.
وأرى أن أصل الاستدلال لهذا أن الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه ـالصلاةوالسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدل على أنه شرع للتشديد على أصحابه عقوبة لهم، ولا ما يدل على عدم العمل به، فإن ذلك يدل على أن الله تعالى يريد من ا لمسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه، مثل أصل التيسير ولا يقتضي القياس على حكم إسلامي ما يناقض حكما من شرائع من قبلنا.ولا حجة في الآيات التي فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع من قبله مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123]ومثل قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13]، لأن المقصود من ذلك أصول الديانة وأسس التشريع التي لا تختلف فيها الشرائع، فمن استدل بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فاستدلاله ضعيف.قال الغزالي في المستصفى: "أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على الواحدانية والصفات لأنه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمرا بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة فدل أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم"اهـ.ومعنى هذا أن الآية لا تقوم حجة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى حجية شرع من قبلنا على الصفات التي ذكرتها آنفا.وفي صحيح البخاري في تفسير سورة "ص~"عن العوام قال: "سألت مجاهدا عن سجدة ص~ فقال: سألت ابن عباس: "من أين سجدت؟"أي من أي دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية، يريد أنها حكاية عن سجود داود وليس فيها صيغة أمر السجود"فقال: "أوما تقرأ { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله".
والمذاهب في هذه المسألة أربعة: المذهب الأول: مذهب مالك فيما حكاه ابن بكير وعبد الوهاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب مالك: أن شرائع من قبلنا تكون
(6/207)

أحكاما لنا، لأن الله أبلغها إلينا.والحجة على ذلك ما يثبت في الصحاح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الربيع بنت النضر حين كسرت ثنية جارية عمدا أن تكسر ثنيتها فراجعته أمها وقالت: والله لا تكسر ثنية الربيع فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" ، وليس في كتاب الله حكم القصاص في السن إلا ما حكاه عن شرع التوراة بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ـ إلى قوله ـ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].وما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول في كتابه {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]وإنما قاله الله حكاية عن خطابه لموسى ـ عليه السلام ـ، وبظاهر هذه الآية لأن الهدى مصدر مضاف فظاهره العموم، ولا يسلم كون السياق مخصصا له كما ذهب إليه الغزالي.ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبي حنيفة مثل هذا.وكذلك نقل عنهم ابن حزم في كتابه"الإعراب في الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس"1.وفي "توضيح"صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعينه.ونقله القرطبي عن كثير من أصحاب الشافعي.وهو منقول في كتب الحنفية عن عامة أصحاب الشافعي.
المذهب الثاني: ذهب أكثر الشافعية والظاهرية: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا.واحتجوا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48].ونسب القرطبي هذا القول للكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي.وفي "توضيح"صدر الشريعة نسبة مثل هذا القول لجماعة من أصحابهم.
الثالث: إنما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123].ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول.
الرابع: لا يلزم إلا اتباع شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها.ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول.قال ابن رشد في المقدمات: "وهذا أضعف الأقوال".
والهاء في قوله: {اقتده} ساكنة عند جمهور القراء، فهي هاء السكت التي تجلب عند الوقف على الفعل المعتل اللام إذا حذفت لامه للجازم، وهي تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقد ثبتت في المصحف لأنهم كانوا يكتبون أواخر الكلم على مراعاة
ـــــــ
1 مخطوط في مكتبتنا.
(6/208)

حال الوقف.وقد أثبتها جمهور القراء في الوصل، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وهو وارد في الكلام الفصيح.والأحسن للقارئ أن يقف عليها جريا على الأفصح، فجمهور القراء أثبتوها ساكنة ما عدا رواية هشام عن ابن عامر فقد حركها بالكسر، ووجه أبو علي الفارسي هذه القراءة بأنها تجعل الهاء ضمير مصدر"اقتد"، أي اقتد الاقتداء، وليست هاء السكت، فهي كالهاء في قوله تعالى: {عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]أي لا أعذب ذلك العذاب أحدا.وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، بحذف الهاء في حالة الوصل على القياس الغالب.
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}
استئناف عقب به ذلك البيان العظيم الجامع لأحوال كثير من الأمم.والإيماء إلى نبوءة جمع من الأنبياء والصالحين، وبيان طريقة الجدل في تأييد الدين، وأنه ما جاء إلا كما جاءت ملل تلك الرسل، فلذلك ذيله الله بأمر رسوله أن يذكر قومه بأنه يذكرهم.كما ذكرت الرسل أقوامهم، وأنه ما جاء إلا بالنصح لهم كما جاءت الرسل.وافتتح الكلام بفعل {قل} للتنبيه على أهميته كما تقدم في هذه السورة غير مرة.وقدم ذلك بقوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لست طالب نفع لنفسي على إبلاغ القرآن، ليكون ذلك تنبيها للاستدلال على صدقه لأنه لو كان يريد لنفسه نفعا لصانعهم ووافقهم.قال في الكشاف في سورة هود عند قوله تعالى حكاية عن هود[51] {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} ."ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم النصيحة والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع وما دام يتوهم شيء منها لم تنفع ولم تنجع"اهـ.
قلت: وحكى الله عن نوح مثل هذا في قوله في سورة هود [29] {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .وقال لرسوله أيضا في سورة الشورى[23] {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .فليس المقصود من قوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} رد اعتقاد معتقد أو نفي تهمة قيلت ولكن المقصود به الاعتبار ولفت النظر إلى محض نصح الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته وأنها لنفع الناس لا يجر منها نفعا إلى نفسه.
والضمير في قوله: {عليه} وقوله: {إن هو} راجع إلى معروف في الأذهان؛ فإن معرفة المقصود من الضمير مغنية عن ذكر المعاد مثل قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32]، وكما في حديث عمر في خبر إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم: "فنزل صاحبي
(6/209)

الانصاري يوم نوبته فضرب بأبي ضربا شديدا فقال: أثم هو".الخ.والتقدير: لا أسألكم على التبليغ أو الدعاء أجرا وما دعائي وتبليغي إلا ذكرى بالقرآن وغيره من الأقوال.
والذكرى اسم مصدر الذكرـ بالكسرـ، وهو ضد النسيان، وتقدم آنفا.والمراد بها هنا ذكر التوحيد والبعث والثواب والعقاب.
وجعل الدعوة ذكرى للعالمين، لأن دعوته صلى الله عليه وسلم عامة لسائر الناس.وقد أشعر هذا بأن انتفاء سؤال الأجر عليه لسببين: أحدهما أنه ذكرى لهم ونصح لنفعهم فليس محتاجا لجزاء منهم، ثانيهما: أنه ذكرى لغيرهم من الناس وليس خاصا بهم.
[91] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}
وجود واو العطف في مصدر هذه الجملة ينادي على أنها نزلت متناسقة مع الجمل التي قبلها، وأنها وإياها واردتان في غرض واحد هو إبطال مزاعم المشركين، فهذا عطف على جملة {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]، وأنها ليست ابتدائية في غرض آخر.فواو الضمير في قوله: {قدروا} عائد على ما عاد إليه اسم الإشارة في قوله: {هَؤُلاءِ} [الأنعام: 89]كما علمت آنفا.ذلك أن المشركين لما استشعروا نهوض الحجة عليهم في نزول القرآن بأنه ليس بدعا مما نزل على الرسل، ودحض قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7]توغلوا في المكابرة والجحود فقالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وتجاهلوا ما كانوا يقولونه عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ وما يعلمونه من رسالة موسى عليه السلام وكتابه.فروى الطبري عن ابن عباس ومجاهد: أن قائل ذلك هم المشركون من قريش.
وقد جاءت هذه الآية في هذا الموقع كالنتيجة لما قبلها من ذكر الأنبياء وما جاءوا به من الهدى والشرائع والكتب، فلا جرم أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، قد جاءوا إفكا وزورا وأنكروا ما هو معلوم في أجيال البشر بالتواتر.وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31].ومن أئمة التفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود، واختلفوا في أنه معين أو غير معين، فعن ابن عباس أيضا، وسعيد ابن جبير، والحسن، والسدي: أن قائل: {مَا
(6/210)

أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} بعض اليهود.وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أن قائل ذلك مالك بن الصيف القرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة، وكان سمينا وأنه جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين فغضب وقال: "والله ما أنزل الله على بشر من شيء.وعن السدي: "أن قائله فنحاص اليهودي".ومحمل ذلك كله على أن قائل ذلك منهم قاله جهلا بما في كتبهم فهو من عامتهم، أو قاله لجاجا وعنادا.وأحسب أن هذه الروايات هي التي ألجأت رواتها إلى ادعاء أن هذه الآيات نزلت بالمدينة، كما تقدم في الكلام على أول هذه السورة.
وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 89]الآية، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين.وحقيق {قدروا} عينوا القدر وضبطوه أي، علموه علما عن تحقق.
والقدرـ بفتح فسكون ـ مقياس الشيء وضابطه، ويستعمل مجازا في علم الأمر بكنهه وفي تدبير الأمر.يقال: قدر القوم أمرهم يقدُرونه ـ بضم الدال ـ في المضارع، أي ضبطوه ودبروه.وفي الحديث قول عائشة: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن".وهو هنا مجاز في العلم الصحيح، أي ما عرفوا الله حق معرفته وما علموا شأنه وتصرفاته حق العلم بها، فانتصب {حق} على النيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو {قدره} ، والإضافة هنا من إضافة الصفة إلى الموصوف.والأصل: ما قدروا الله قدره الحق.
و {إذ قالوا} ظرف، أي ما قدروه حين قالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لأنهم لما نفوا شأنا عظيما من شؤون الله، وهو شأن هديه الناس وإبلاغهم مراده بواسطة الرسل، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى التي هي صفة الكلام، وجهلوا رحمته للناس ولطفه بهم.
ومقالهم هذا يعم جميع البشر لوقوع النكرة في سياق النفي لنفي الجنس، ويعم جميع ما أنزل باقترانه بـ {من} في حيز النفي للدلالة على استغراق الجنس أيضا، ويعم إنزال الله تعالى الوحي على البشر بنفي المتعلق بهذين العمومين.
والمراد بـ {شيء} هنا شيء من الوحي، ولذلك أمر الله نبيه بأن يفحمهم باستفهام تقرير وإلجاء بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} فذكّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب,وهو رسالة موسى ومجيئه بالتوراة وهي تدرس بين اليهود
(6/211)

في البلد المجاور مكة، واليهود يترددون على مكة في التجارة وغيرها، وأهل مكة يترددون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم، وبهذا لم يذكرهم الله برسالة إبراهيم عليه السلام لأنهم كانوا يجهلون أن الله أنزل عليه صحفا فكان قد يتطرقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته.وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخر الآية بقوله: {قُلِ اللَّهُ} فقد ثبت أن الله أنزل على أحد من البشر كتابا فانتقض قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} على حسب قاعدة نقض السالبة الكلية بموجبة جزئية.وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام، وإلا فإن القرآن كله مأمور النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والنور: استعارة للوضوح والحق، فإن الحق يشبه بالنور، كما يشبه الباطل بالظلمة.قال أبو القاسم علي التنوخي:
وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع
ولذلك عطف عليه {هدى} .ونظيره قوله في سورة المائدة[44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} .ولو أطلق النور على سبب الهدى لصح لولا هذا العطف، كما قال تعالى عن القرآن: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].وقد انتصب {نورا} على الحال.
والمراد بالناس اليهود، أي ليهديهم، فالتعريف فيه للاستغراق، إلا أنه استغراق عرفي، أي الناس الذين هم قومه بنو إسرائيل.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} يجوز أن يكون صفة سببية للكتاب، ويجوز أن يكون معترضا بين المتعاطفات.
قرأ {تَجْعَلُونَهُ ـو تُبْدُونَ ـوَتُخْفُونَ} بتاء الخطاب ـ من عدا ابن كثير، وأبا عمرو، ويعقوب، من العشرة، فإما أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعين أن يكون خطابا لليهود على طريقة الإدماج "أي الخروج من خطاب إلى غيره"تعريضا باليهود وإسماعا لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، أو هو التفات من طريق الغيبة الذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب.وحقه أن يقال يجعلونه ـ بياء المضارع للغائب ـ كما قرأ غير هؤلاء الثلاثة القراء.وإما أن يكون خطابا للمشركين.ومعنى كونهم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنهم سألوا
(6/212)

اليهود عن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التوراة من التمسك بالسبت، أي دين اليهود، وكتموا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من بعد، فأسند الإخفاء والإبداء إلى المشركين مجازا لأنهم كانوا مظهرا من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء.ولعل ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم من أسلم من الأوس والخزرج، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأعزوا المشركين بما يزيدهم تصميما على المعارضة.وقد قدمت ما يرجح أن سورة الأنعام نزلت في آخر مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وذلك يوجب ظننا بأن هذه المدة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدعوة الإسلامية بمكة حين بلغت إلى المدينة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {يَجْعَلُونَهُ ،ويُبْدُونَهَا ، وَيُخْفُونَ} بالتحتية ـ فتكون ضمائر الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلم، وهو يهود الزمان الذين عرفوا بذلك.
والقراطيس جمع قرطاس.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} في هذه السورة[7].وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رق أو كاغد أو خرقة.أي تجعلون الكتاب الذي أنزل على موسى أوراقا متفرقة قصدا لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر.
وقوله: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} صفة لقراطيس،أي تبدون بعضها وتخفون كثيرا منها، ففهم أن المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض.
وهذه الصفة في محل الذم فإن الله أنزل كتبه للهدى، والهدى بها متوقف على إظهارها وإعلانها، فمن فرقها ليظهر بعضا ويخفي بعضا فقد خالف مراد الله منها.فأما لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذموما، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة.
وفي "جامع العتبية"في سماع ابن القاسم عن مالك: "سئل مالك ـ رحمه الله ـ عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف، فكره ذلك كراهية شديدة وعابها وقال لا يفرق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرقونه ولا أرى ذلك"أهـ.قال ابن رشد في البيان والتحصيل: "القرآن أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء حتى كمل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا، فهذا وجه كراهية مالك لتفريقه".أهـ.
قلت: ولعله إنما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرق أجزاء المصحف
(6/213)

الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظن أن ذلك الجزء هو القرآن كله، ومعنى قول مالك: وقد جمعه الله، أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجما، فدل ذلك على أن الله أراد جمعه فلا يفرق أجزاء.وقد أجاز فقهاء المذهب تجزئة القرآن للتعلم ومس جزئه على غير وضوء، ومنه كتابته في الألواح.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} في موضع الحال من كلام مقدر دل عليه قوة الاستفهام لأنه في قوة أخبروني، فإن الاستفهام يتضمن معنى الفعل.
ووقوع الاستفهام بالاسم الدال على طلب تعيين فاعل الإنزال يقوي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمن اسم الاستفهام فعلا وفاعلا مستفهما عنهما، أي أخبروني عن ذلك وقد علمكم الله بالقرآن الذي أنكرتم كونه من عند الله، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئا، ولو أنصفتم لوجدتم وأمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه.وهذا الخطاب أشد انطباقا على المشركين لأنهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التشريع ونظامه فلما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام علم ذلك من آمن علما راسخا، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدعوة ومن مخاليطهم من المسلمين، وقد وصفهم الله بمثلها في آيات أخرى، كقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49].
ويجوز أن تكون جملة {وعلمتم} عطفا على جملة {أَنْزَلَ الْكِتَابَ} على اعتبار المعنى كأنه قيل: وعلمكم ما لم تعلموا.ووجه بناء فعل {علمتم} للمجهول ظهور الفاعل، ولأنه سيقول: {قُلِ اللَّهُ} .
فإا تأولنا الآية بما روي من قصة مالك بن الصيف المتقدمة فالاستفهام بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} تقريري، إما لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد، مثل فساد اطراد التعريف أو انعكاسه؛ وإما لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنهم أظهروا أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التقرير {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ولا يسعهم إلا أن يقولوا: الله، فإذا اعترفوا بذلك فالذي أنزل على موسى كتابا لم لا ينزل على محمد مثله، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]الآية.
(6/214)

ثم على هذا القول تكون قراءة {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} بالفوقيةجارية على الظاهر، وقراءته بالتحية من قبيل الالتفات.ونكتته أنهم لما أخبر عنهم بهذا الفعل الشنيع جعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب.
والمخاطب بقوله: {وعلمتم} على هذا الوجه هم اليهود، فتكون الجملة حالا من ضمير {تجعلونه} ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أن الله علمكم على لسان محمد ما لم تكونوا تعلمون، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به.
ويجيء على قراءة {يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} بالتحتية ـ أن يكون الرجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتا أيضا.وحسنه أنه لما أخبر عنهم بشيء حسن عاد إلى مقام الخطاب، أو لأن مقام الخطاب أنسب بالامتنان.
واعلم أن نظم الآية صالح للرد على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين.فعلى الرواية الأولى فواو الجماعة في"قدروا ـ وقالوا"عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء، وعلى الرواية الثانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معين على طريقة التعريض بشخص من باب: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله"، وذلك من قبيل عود الضمير على غير مذكور اعتمادا على أنه مستحضر في ذهن السامع.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ} جواب الاستفهام التقريري.وقد تولى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأن المسؤول لا يسعه إلا أن يجيب بذلك لأنه لا يقدر أن يكابر، على ما قررته في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} في هذه السورة[12].
والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى.وإذا كان {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} معطوفا على جملة {أنزل} كان الجواب شاملا له، أي الله علمكم ما لم تعلموا فيكون جوابا عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حد قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه سئل من يبكيه فقال: ضارع.
وعطف {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} بثم للدلالة على الترتيب الرتبي، أي أنهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلة فتركهم وخوضهم بعد التبليغ هو الاولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
(6/215)

وقوله: {فِي خَوْضِهِمْ} متعلق بـ {ذرهم} .وجملة {يلعبون} حال من ضمير الجمع.
وتقدم القول في {ذر} في قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 70].
والخوض تقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68].واللعب تقدم في {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً} في هذه السورة[70].
[92] {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
{وَهَذَا كِتَابٌ} عطف على جملة {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91],أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسي وهذا كتاب أنزلناه.والإشارة إلى القرآن لأن المحاولة في شأنه من ادعائهم نفي نزوله من عند الله، ومن تبكيتهم بإنزال التوراة، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان.
وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز وبناء فعل {أنزلنا} على خبر اسم الإشارة، وهو {كتاب} الذي هو عينه في المعنى، لإفادة التقوية، كأنه قيل: وهذا أنزلناه.
وجعل {كتاب} الذي حقه أن يكون مفعول {أنزلنا} مسندا إليه، ونصب فعل {أنزلنا} لضميره، لإفادة تحقيق إنزاله بالتعبير عنه مرتين، وذلك كله للتنويه بشأن هذا الكتاب.
وجملة {أنزلناه} يجوز أن تكون حالا من اسم الإشارة، أو معترضة بينه وبين خبره.و {مبارك} خبر ثان.والمبارك اسم مفعول من باركه، وبارك عليه، وبارك فيه، وبارك له، إذا جعل له البركة.والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال: باركه.قال تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8]،ويقال: بارك فيه، قال تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10]
ولعل قولهم: "بارك فيه"إنما يتعلق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه، وأما"باركه"فيتعلق به ما كانت البركة صفة له، و"بارك عليه"جعل البركة متمكنة منه،"وبارك له"جعل أشياء مباركة لأجله، أي بارك فيما له.
(6/216)

والقرآن مبارك لأنه يدل على الخير العظيم، فالبركة كائنة به، فكأن البركة جعلت في ألفاظه، ولأن الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدنيا وفي الآخرة، ولأنه مشتمل على ما في العمل به كمال النفس وطهارتها بالمعارف النظرية ثم العملية.فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهومه.قال فخر الدين: "قد جرت سنه الله تعالى بأن الباحث عنه"أي عن هذا الكتاب"المتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة.وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم"يعني التفسير.
و {رمصدق} خبر عن {كتاب} بدون عطف.والمصدق تقدم عند قوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة البقرة[97]، وقوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} في سورة آل عمران[50].و {الذي} من قوله: {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} اسم موصول مراد به معنى جمع.وإذ قد كان جمع الذي وهو الذين لا يستعمل في كلام العرب إلا إذا أريد به العاقل وشبهه، نحو {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا.فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلا الذي المفرد، نحو قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]
والمراد بـ {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من كتب الانبياء، وأخصها التوراة والإنجيل والزبور، لأنها آخر ما تداوله الناس من الكتب المنزلة على الانبياء، وهو مصدق الكتب النازلة قبل هذه الثلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى.
ومعنى كون القرآن مصدقها من وجهين، أحدهما: أن في هذه الكتب الوعد بمجيء الرسول المقفى على نبوءة أصحاب تلك الكتب، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودل على أنها من عند الله.
وثانيهما: أن القرآن مصدق أنبيائها وصدقها وذكر نورها وهداها، وجاء بما جاءت به من أصول الدين والشريعة.ثم إن ما جاء به من الأحكام التي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها.وأما ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشريعة فذلك قد يبين فيه أنه لأجل اختلاف المصالح، أو لأن الله أراد التيسير بهذه الأمة.
ومعنى {بَيْنَ يَدَيْهِ} ما سبقه.وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة البقرة[97]، وعند قوله: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في سورة آل عمران[50].
(6/217)

وأما جملة {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} فوجود واو العطف في أولها مانع من تعليق {لتنذر} بفعل {أنزلناه} ، ومن جعل المجرور خبرا عن {كتاب} خلافا للتفتزاني، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال، فوجود لام التعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر لـ {كتاب} ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها، والوجه عندي أنه معطوف على مقدر ينبئ عنه السياق.والتقدير: ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين.ومثل هذا التقدير يطرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدر.وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح.ونظيره قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} في سورة إبراهيم[52].
ووقع في الكشاف: "أن {ولتنذر} معطوف على ما دلت عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار"أهـ.وهذا وإن استتب في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم، لأن لفظ"بلاغ"اسم ليس فيه ما يشعر بالتعليل، و"للناس"متعلق به واللام فيه للتبليغ لا للتعليل، فتعين تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به.
والإنذار: الإخبار بما فيه توقع ضر، وضده البشارة.وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة[119].واقتصر عليه لأن المقصود تخويف المشركين إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
وأم القرى: مكة، وأم الشيء استعارة شائعة في الأمر الذي يرجع إليه ويلتف حوله، وحقيقة الأم الأنثى التي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها، وشاعت استعارة الأم للأصل والمرجع حتى صارت حقيقة، ومنه سميت الراية أما، وسمي أعلى الرأس أم الرأس، والفاتحة أم القرآن.وقد تقدم ذلك في تسمية الفاتحة.وإنما سميت مكة أم القرى لأنها أقدم القرى وأشهرها وما تقرت القرى في بلاد العرب إلا بعدها، فسماها العرب أم القرى، وكان عرب الحجاز قبلها سكان خيام.
وإنذار أم القرى بإنذار أهلها، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقد دل عليه قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي القبائل القاطنة حول مكة مثل خزاعة، وسعد بن بكر، وهوازن، وثقيف، وكنانة.
ووجه الاقتصار على أهل مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام
(6/218)

والجدال معهم من قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، إذ السورة مكية وليس في التعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتى نتكلف الادعاء أن {مَنْ حَوْلَهَا} ، مراد به جميع أهل الأرض.
وقرأ الجمهور {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} بالخطاب، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم {وَلِيُنْذِرَ} بياء الغائب ـ على أن يكون الضمير عائدا إلى {كتاب} .
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} احتراس من شمول الإنذار المؤمنين الذين هم يومئذ بمكة وحولها المعروفون بهذه الصلة دون غيرهم من أهل مكة، ولذلك عبر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللقب لهم، وهو مميزهم عن أهل الشرك لأن أهل الشرك أنكروا الآخرة.وليس في هذا الموصول إيذان بالتعليل، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنهم لم يكونوا من أهل مكة يومئذ.
وأخبر عن المؤمنين بأنهم يؤمنون بالقرآن تعريضا بأنهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنهم أحقاء بضده وهو البشارة.
وزادهم ثناء بقوله: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} إيذانا بكمال إيمانهم وصدقه، إذ كانت الصلاة هي العمل المختص بالمسلمين، فإن الحج كان يفعله المسلمون والمشركون، وهذا كقوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة: 3,2]ولم يكن الحج مشروعا للمسلمين في مدة نزول هذه السورة.
[93] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
لما تقضى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي، الناشئ عن مقالهم الباطل، إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، وعقب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرسل وإنزال الوحي على بشر، وهو إثبات أن هذا الكتاب منزل من
(6/219)

الله، عقب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشرائع الضالة في أحوالهم التي شرعها لهم عمرو بن لحي من عبادة الاصنام، وزعمهم أنهم شفعاء لهم عند الله، وما يستتبع ذلك من البحيرة، والسائبة، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وغير ذلك.فهم ينفون الرسالة تارة في حين أنهم يزعمون أن الله أمرهم بأشياء فكيف بلغهم ما أمرهم الله به في زعمهم، وهم قد قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].فلزمهم أنهم قد كذبوا على الله فيما زعموا أن الله أمرهم به لأنهم عطلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرسالة فجاءوا بأعجب مقالة.
وذكر من استخفوا بالقرآن فقال بعضهم: أنا أوحي إلي، وقال بعضهم: أنا أقول مثل قول القرآن، فيكون المراد بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} تسفيه عقائد أهل الشرك والضلالة منهم على اختلافها واضطرابها.ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما رموه به من الكذب على الله حين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]لأن الذي يعلم أنه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادعاء الوحي باطلا لا يقدم على ذلك، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان: "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله".
والاستفهام إنكاري فهو في معنى النفي، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصلات.ومساقه هنا مساق التعريض بأنهم الكاذبون إبطالا لتكذيبهم إنزال الكتاب، وهو تكذيب دل عليه مفهوم قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92]لاقتضائه أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذبون به؛ ومنهم الذي قال: أوحي إلي؛ ومنهم الذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله؛ ومنهم من افترى على الله كذبا فيما زعموا أن الله أمرهم بخصال جاهليتهم.ومثل هذا التعريض قوله تعالى في سورة العقود[60] {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه} الآيةعقب قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 57]الآية.
وتقدم القول في {وَمَنْ أَظْلَمُ} عند قوله تعالى {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه} في سورة البقرة[114].
والافتراء: الاختلاق،وتقدم في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
(6/220)

الْكَذِب} في سورة العقود[103].
{ومن} موصولة مراد به الجنس، أي كل من افترى أو قال، وليس المراد فردا معينا، فالذين افتروا على الله كذبا هم المشركون لأنهم حللوا وحرموا بهواهم وزعموا أن الله أمرهم بذلك، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذبا.
و {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} عطف على صلة {من} ، أي كل من ادعى النبوءة كذبا، ولم يزل الرسل يحذرون الناس من الذين يدعون النبوءة كذبا كما قدمته.روي أن المقصود بهذا مسيلمة متنبئ أهل اليمامة، قاله ابن عباس وقتادة وعكرمة.وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادعى النبوءة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأن السورة مكية.والصواب أن مسيلمة لم يدع النبوءة إلا بعد أن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بعده فلما رجع خائبا ادعى النبوءة في قومه.
وفي "تفسير"ابن عطية أن المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسي المتنبي بصنعاء.وهذا لم يقله غير ابن عطية.وإنما ذكر الطبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة فإن الأسود العنسي ما ادعى النبوءة إلا في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.والوجه أن المقصود العموم ولا يضره انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت ما وانطباق الآية عليه.
وأما {مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ،فقال الواحدي في "أسباب النزول"،: "عن ابن عباس وعكرمة: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكة، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وقال: "أنا أقول مثل ما أنزل الله"، استهزاء، وهذا أيضا لا ينثلج له الصدر لأن عبد الله بن أبي سرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة وهذه السورة مكية.وذكر القرطبي عن عكرمة، وابن عطية عن الزهراوي والمهدوي أنها: نزلت في النضر ابن الحارث كان يقول: "أنا أعارض القرآن".وحفظوا له أقوالا، وذلك على سبيل الاستهزاء.وقد رووا أن أحدا من المشركين قال: "إنما هو قول شاعر وإني سأنزل مثله"؛ وكان هذا قد تكرر من المشركين كما أشار إليه القرآن، فالوجه أن المراد بالموصول العموم ليشمل كل من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل.
وقولهم {مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} إما أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا: {يأّيُهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وإما أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام، فعبر الله عنه بقوله {ماأَنْزَلَ اللَّهُ} كقوله:
(6/221)

{قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157]
{ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}
عطفت جملة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْت} على جملة {مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباًْ} لأن هذه وعيد بعقاب لأولئك الظالمين المفترين على الله والقائلينُ"أوحِيَ إِلَيْنَا"والقائلين: {سأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .
فـ {الظالمون} في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} يشمل أولئك ويشمل جميع الظالمين المشركين، ولذلك فالتعريف في {الظالمون} تعريف الجنس المفيد للاستغراق.
والخطاب في {ترى} للرسول صلى الله عليه وسلم، أو كل من تأتى منه الرؤية فلا يختص به مخاطب.
ثم الرؤية المفروضة يجوز أن يراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة، وأن تكون علمية إذا كانت الحالة المحكية من أحوال النزع وقبض أرواحهم عند الموت.
ومفعول {ترى} محذوف دل عليه الظرف المضاف.والتقدير: ولو ترى الظالمين إذ هم في غمرات الموت، أي وقتهم في غمرات الموت، ويجوز جعل"إذ"اسما مجردا عن الظرفية فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الاعراف: 86] فيكون التقدير، ولو ترى زمن الظالمون في غمرات الموت.ويتعين على هذا الاعتبار جعل الرؤية علمية لأن الزمن لا يرى.
والمقصود من هذا الشرط تهويل هذا الحال، ولذلك حذف جواب"لو"كما هو الشأن في مقام التهويل.ونظائره كثيرة في القرآن.والتقدير: لرأيت أمرا عظيما.
والغمرة بفتح الغين ما يغمر أي يغم من الماء فلا يترك للمغمور مخلصا.وشاعت استعارتها للشدة تشبيها بالشدة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السيل حتى صارت الغمرة حقيقية عرفية في الشدة الشديدة.
وجمع الغمرات يجوز أن يكون لتعدد الغمرات بعدد الظالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها.ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنه أصناف من الشدائد هي لتعدد أشكالها وأحوالها لا يعبر عنها باسم مفرد.فيجوز أن يكون هذا وعيدا بعذاب يلقونه في الدنيا في وقت النزع.ولما كان للموت سكرات جعلت غمرة الموت
(6/222)

غمرات.
و"في"للظرفية المجازية للدلالة على شدة ملابسة الغمرات لهم حتى كأنها ظرف يحويهم ويحيط بهم.
فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراته هي آلام النزع.
وتكون جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم.فيكون إطلاق الغمرات مجازا مفردا ويكون الموت حقيقة.ومعنى بسط اليد تمثيلا للشدة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيدي.والأنفس بمعنى الارواح، أي أخرجوا أرواحكم من أجسادكم، أي هاتوا أرواحكم، والأمر للإهانة والإرهاق إغلاظا في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين، وفيه إشارة إلى أنهم يجزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النزع جزاء في الدنيا على شركهم، وقد كان المشركون في شك من البعث فتوعدوا بما لا شك فيه، وهو حال قبض الأرواح بأن الله يسلط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدو وعنف وتذيقهم عذابا في ذلك.وذلك الوعيد يقع من نفوسهم موقعا عظيما لأنهم كانوا يخافون شدائد النزع وهو كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]الآية، وقوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} على هذا صادر من الملائكة.
ويجوز أن يكون هذا وعيدا بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام: 94]؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة.والمقصود من التمثيل تقريب الحالة وإلا فإن أهوالهم يومئذ أشد من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التمثيل دلالة على هول الألم.وهذا كما يقال: وجدت ألم الموت، وقول أبي قتادة في وقعة حنين: "فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت"، وقول الحارث بن هشام المخزومي:
وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
وجملة {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} حال،أي والملائكة مادون أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثاني، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأول، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين.ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المس والإيلام، كقوله: {لئِنْ
(6/223)

بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} [المائدة: 28]
وجملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} مقول لقول محذوف.وحذف القول في مثله شائع، والقول على هذا من جانب الله تعالى.والتقدير: نقول لهم: أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات.والأمر للتعجيز، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لان هذا الحال قبل دخولهم النار.ويجوز إبقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعا في حين دخولهم النار.
والتعريف في {الْيَوْمَ} للعهد وهو يوم القيامة الذي فيه هذا القول، وإطلاق اليوم عليه مشهور، فإن حمل الغمرات على النزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت، أي وقت قبض أرواحهم.
وجملة {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} الخ استئناف وعيد، فصلت للاستقلال والاهتمام، وهي من قول الملائكة.و {تجزون} تعطون جزاء، والجزاء هو عوض العمل وما يقابل به من أجر أو عقوبة.قال تعالى {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ: 26]، وفي المثل: المرء مجزي بما صنع إن خيرا فخير وإن شرا فشر.يقال: جزاه يجزيه فهو جاز.وهو يتعدى بنفسه إلى الشيء المعطى جزاء، ويتعدى بالباء إلى الشيء المكافأ عنه، كما في هذه الآية.ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة يونس[27] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} متأولا على معنى الإضافة البيانية.أي جزاء هو سيئة، وأن مجرور الباء هو السيئة المجزى عنها، كما اختاره ابن جني.وقال الاخفش: "الباء فيه زائدة لقوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} "[الشورى: 30].ويقال: جازى بصيغة المفاعلة.قال الراغب: "ولم يجئ في القرآن: جازى".
والهون: الهوان، وهو الذل.وفسره الزجاج بالهوان الشديد، وتبعه صاحب الكشاف، ولم يقله غيرهما من علماء اللغة.وكلام أهل اللغة يقتضي أن الهون مرادف الهوان، وقد قرأ ابن مسعود {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهَوَانِ} وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والملك، أي العذاب المتمكن في الهون الملازم له.
والباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ} باء العوض لتعدية فعل {تجزون} إلى المجزي عنه.ويجوز جعل الباء للسببية، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم، ويعلم أن الجزاء على ذلك، و"ما"مصدرية.ثم إن كان هذا القول صادرا من جانب الله تعالى فذكر اسم
(6/224)

الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل.والأصل بما كنتم تقولون علي.
وضمن {تقولون} معنى تكذبون، فعلق به قوله {عَلَى اللَّهِ} ، فعلم أن هذا القول كذب على الله كقوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44]الآية، وبذلك يصح تنزيل فعل {تقولون} منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول لأن المراد به أنهم يكذبون، ويصح جعل غير الحق مفعولا لـ {تقولون} ، وغير الحق هو الباطل، ولا تكون نسبته إلى الله إلا كذبا.
وشمل {بمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ} الأقوال الثلاثة المتقدمة في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباًًـ إلى قوله ـ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وغيرها.
و {غَيْرَ الْحَقِّ} حال من"ما"الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به لـ {تقولون} .
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ} عطف على {كنتم تقولون} .أي وباستكباركم عن آياته.والاستكبار: الإعراض في قلة اكتراث، فبهذا المعنى يتعدى إلى الآيات، أو أريد من الآيات التأمل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته، أي تستكبرون عن التدبر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات.
وجواب"لو"محذوف لقصد التهويل.والمعنى: لرأيت أمرا مفظعا.وحذف جواب"لو"في مثل هذا المقام شائع في القرآن.وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} في سورة البقرة[165].
[94] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
إن كان القول المقدر في جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]قولا من قبل الله تعالى كان قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} عطفا على جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب: أخرجوا أنفسكم، ويقال لهم: لقد جئتمونا فرادى.فالجملة في محل النصب بالقول المحذوف.وعلى احتمال أن يكون {غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} حقيقة، أي في حين النزع يكون فعل {جئتمونا} من التعبير بالماضي
(6/225)

عن المستقبل القريب، مثل: قد قامت الصلاة، فإنهم حينئذ قاربوا أن يرجعوا إلى محض تصرف الله فيهم.
وإن كان القول المقدر قول الملائكة فجملة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} عطف على جملة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 93]فانتقل الكلام من خطاب المعتبرين بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذ.
فعلى الوجه الأول يكون {جئتمونا} حقيقة في الماضي لأنهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله.و"قد"للتحقيق.
وعلى الوجه الثاني يكون الماضي معبرا به عن المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه، وتكون"قد"ترشيحا للاستعارة.
وإخبارهم بأنهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأن مجيئهم معلوم لهم ولكنه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا ينذرون به على لسان الرسول فينكرونه وهو الرجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله.وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنهم لا يصيرون إليه، على نحو قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39]، وقول الراجز:
قد يصبح الله إمام الساري
والضمير المنصوب في {جئتمونا} ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} .
و {فرادى} حال من الضمير المرفوع في {جئتمونا} أي منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الاولى من مال وولد وأنصار، والأظهر أن"فرادى"جمع فردان مثل سكارى لسكران.وليس فرادى المقصور مرادفا لفراد المعدول لأن فراد المعدول يدل على معنى فردا فردا، مثل ثلاث ورباع من أسماء العدد المعدولة.وأما فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد.ووجه جمعه هنا أن كل واحد منهم جاء منفردا عن ماله.
وقوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأول فهو في موضع المفعول المطلق.و"ما"المجرورة بالكاف مصدرية.فالتقدير: كخلقنا إياكم، أي جئتمونا معادين مخلوقين كما خلقناكم أول مرة، فهذا كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ
(6/226)

الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: 15]
والتخويل: التفضل بالعطاء.قيل: أصله إعطاء الخول ـ بفتحتين ـ وهو الخدم، أي إعطاء العبيد.ثم استعمل مجازا في إعطاء مطلق ما ينفع، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره.
و"ما"موصولة ومعنى تركهم إياه وراء ظهورهم بعدهم عنه تمثيلا لحال البعيد عن الشيء بمن بارحه سائرا، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثل القاصد للشيء بأنه بين يديه، ويقال للأمر الذي يهيئه المرء لنفسه: قد قدمه.
{وتركتم} عطف على {جئتمونا} وهو يبين معنى {فرادى} إلا أن في الجملة الثانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لان كلا الخبرين مستعمل في التخطئة والتنديم، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود.فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل.وأبو البقاء جعل الجملة حالا من الواو في {جئتمونا} فيصير ترك ما خولوه هو محل التنكيل.
وكذلك القول في جملة {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} أنها معطوفة على {جِئْتُمُونَاـ وَتَرَكْتُمْ} لأن هذا الخبر أيضا مراد به التخطئة والتلهيف، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام عللوا أنفسهم بأن آلهتهم تشفع لهم عند الله.وقد روى بعضهم: "أن النضر بن الحارث قال ذلك"، ولعله قاله استسخارا أو جهلا، وأن الآية نزلت ردا عليه، أي أن في الآية ما هو رد عليه لا أنها نزلت لإبطال قوله لأن هذه الآيات متصل بعضها ببعض، وفي قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} بيان أيضا وتقرير لقوله {فرادى} .
وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} تهكم بهم لأنهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقب، أي يرى شيئا فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27]، بناء على أن نفي الوصف عن شيء يدل غالبا على وجود ذلك الشيء، فكان في هذا القول إيهام أن شفعاءهم موجودون سوى أنهم لم يحضروا، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدال على الحال دون الماضي ليشير إلى أن انتفاء رؤية الشفعاء حاصل إلى الآن، ففيه إيهام أن رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل، وذلك زيادة في التهكم.
(6/227)

وأضيف الشفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنه أريد شفعاء معهودون، وهم الآلهة التي عبدوها وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} .
والزعم: القول الباطل سواء كان عن تعمد الباطل كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا، وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]،وقد تقدم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة.
وتقديم المجرور في قوله: {فِيكُمْ شُرَكَاءُ} للاهتمام الذي وجهه التعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أن الخالق هو الله تعالى فهو المستحق للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة، يعني لو ادعوا للأصنام شيئا مغيبا لا يعرف أصل تكوينه لكان العجب أقل، لكن العجب كل العجب من ادعائهم لهم الشركة في أنفسهم، لأنهم لما عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقا لأجل الخالقية، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أن الأصنام شركاء لله في أنفس خلقه، أي في خلقهم، فلذلك علقت النفوس بالوصف الدال على الشركة.
وتقدم معنى الشفاعة عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقر[48].
وجملة {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} استئناف بياني لجملة: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} لأن المشركين حين يسمعون قوله: {مَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} يعتادهم الطمع في لقاء شفعائهم فيتشوفون لأن يعلموا سبيلهم، فقيل لهم: لقد تقطع بينكم تأييسا لهم بعد الإطماع التهكمي، والضمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم.
وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم ـ بفتح نون ـ {بَيْنَكُمْ} .فـ"بين"على هذه القراءة ظرف مكان دال على مكان الاجتماع والاتصال فيما يضاف هو إليه.وقرأ البقية ـ بضم نون ـ {بَيْنُكُمْ} على إخراج"بين"عن الظرفية فصار اسما متصرفا وأسند إليه التقطع على طريقة المجاز العقلي.
وحذف فاعل تقطع على قراءة الفتح لأن المقصود حصول التقطع، ففاعله اسم مبهم
(6/228)

مما يصلح للتقطع وهو الاتصال.فيقدر: لقد تقطع الحبل أو نحوه.قال تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].وقد صار هذا التركيب كالمثل بهذا الإيجاز.وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطع مستعارا للبعد وبطلان الاتصال تبعا لاستعارة الحبل للاتصال، كما قال امرؤ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
فمن ثم حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصار كالمثل.وقدر الزمخشري المصدر المأخوذ من {تقطع} فاعلا، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل، أي وقع التقطع بينكم.وقال التفتزاني: "الأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس، أي تقطع الأمر بينكم".
وقريب من هذا ما يقال: إن"بينكم"صفة أقيمت مقام الموصوف الذي هو المسند إليه، أي أمر بينكم، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضمير الذي لم يذكر معاده لكونه معلوما من الفعل كقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32]، لكن هذا لا يعهد في الضمير المستتر لأن الضمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنما دعا إلى تقديره وجود معاده الدال عليه.فأما والكلام خلي عن معاد وعن لفظ الضمير فالمتعين أن نجعله من حذف الفاعل كما قررته لك ابتداء، ولا يقال: إن {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ليس فيه لفظ ضمير إذ التاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنث لانا نقول: التحقيق أن التاء في الفعل المسند إلى الضمير هي الفاعل.
وعلى قراءة الرفع جعل {بينكم} فاعلا، أي أخرج عن الظرفية وجعل اسما للمكان الذي يجتمع فيه ما صدق الضمير المضاف إليه اسم المكان، أي انفصل المكان الذي كان محل اتصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الذي كان محل اجتماع.والمكانية هنا مجازية مثل {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
وقوله: {وَضَلَّ عَنْكُمْ} عطف على {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وهو من تمام التهكم والتأييس.ومعنى ضل: ضد اهتدى، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لما تقطع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم.و"ما"موصولية ما صدقها الشفعاء لاتحاد صلتها وصلة {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ، أي الذين كنتم تزعمونهم شركاء، فحذف مفعولا الزعم لدلالة نظيره عليهما في قوله: {زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ,وعبر عن الآلهة بـ"ما"الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها، وفسر ابن عطية وغيره ضل بمعنى غاب وتلف وذهب،
(6/229)

وجعلوا"ما"مصدرية، أي ذهب زعمكم أنها تشفع لكم.وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع.
[95ـ96] {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
استئناف ابتدائي انتقل به من تقرير التوحيد والبعث والرسالة وأفانين المواعظ والبراهين التي تخللت ذلك إلى الاستدلال والاعتبار بخلق الله تعالى وعجائب مصنوعاته المشاهدة، على انفراده تعالى بالإلهية المستلزم لانتفاء الإلهية عما لا تقدر على مثل هذا الصنع العجيب، فلا يحق لها أن تعبد ولا أن تشرك مع الله تعالى في العبادة إذ لا حق لها في الإلهية، فيكون ذلك إبطالا لشرك المشركين من العرب، وهو مع ذلك إبطال لمعتقد المعطلين من الدهريين منهم بطريق الأولى، وفي ذلك امتنان على المقصودين من الخطاب وهم المشركون بقرينة قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، أي فتكفرون النعمة.وفيه علم ويقين للمؤمنين من المصدقين واستزادة لمعرفتهم بربهم وشكرهم.
وافتتاح الجملة بـ {إن} مع أنه لا ينكر أحد أن الله هو فاعل الأفعال المذكورة هنا، ولكن النظر والاعتبار في دلالة الزرع على قدرة الخالق على الإحياء بعد الموت كما قدر على إماتة الحي، لما كان نظرا دقيقا قد انصرف عنه المشركون فاجترأوا على إنكار البعث، كان حالهم كحال من أنكر أو شك في أن الله فالق الحب والنوى، فأكد الخبر بحرف"إن".
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات هذا الوصف دوامه لأنه وصف ذاتي لله تعالى، وهو وصف الفعل أو وصف القدرة وتعلقاتها في مصطلح من لا يثبت صفات الأفعال،ولما كان المقصود الاكتفاء بدلالة فلق الحب والنوى على قدرة الله على إخراج الحي من الميت، والانتقال من ذلك إلى دلالته على إخراج الحي من الميت في البعث، لم يؤت في هذا الخبر بما يقتضي الحصر إذ ليس المقام مقام القصر.
والفلق: شق وصدع بعض أجزاء الشيء عن بعض، والمقصود الفلق الذي تنبثق منه وشائج النبت والشجر وأصولها، فهو محل العبرة من علم الله تعالى وقدرته وحكمته.
والحب اسم جمع لما يثمره النبت، واحده حبة.والنوى اسم جمع نواة، والنواة قلب التمرة.ويطلق على ما في الثمار من القلوب التي منها ينبت شجرها مثل العنب
(6/230)

والزيتون، وهو العجم بالتحريك اسم جمع عجمة.
وجملة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} في محل خبر ثان عن اسم"إن"تتنزل منزلة بيان المقصود من الجملة قبلها وهو الفلق الذي يخرج منه نبتا أو شجرا ناميا ذا حياة نباتية بعد أن كانت الحبة والنواة جسما صلبا لا حياة فيه ولا نماء.فلذلك رجح فصل هذه الجملة عن التي قبلها إلا أنها أعم منها لدلالتها على إخراج الحيوان منماء النطفة أو من البيض، فهي خبر آخر ولكنه بعمومه يبين الخبر الأول، فلذلك يحسن فصل الجملة، أو عدم عطف أحد الأخبار.
وعطف على {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} لأنه إخبار بضد مضمون {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} وصنع آخر عجيب دال على كمال القدرة وناف تصرف الطبيعة بالخلق، لأن الفعل الصادر من العالم المختار يكون على أحوال متضادة بخلاف الفعل المتولد عن سبب طبعي، وفي هذا الخبر تكملة بيان لما أجمله قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ، لأن فلق الحب عن النبات والنوى عن الشجر يشمل أحوالا مجملة، منها حال إثمار النبات والشجر: حبا ييبس وهو في قصب نباته فلا تكون فيه حياة، ونوى في باطن الثمار يبسا لا حياة فيه كنوى الزيتون والتمر، ويزيد على ذلك البيان بإخراج البيض واللبن والمسك واللؤلؤ وحجر"البازهر"من بواطن الحيوان الحي، فظهر صدور الضدين عن القدرة الإلهية تمام الظهور.
وقد رجح عطف هذا الخبر لأنه كالتكملة لقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي يفعل الأمرين معا كقوله بعده: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} .وجعله في"الكشاف"عطفا على: {فَالِقُ الْحَبِّ} بناء على أن مضمون قوله: {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} ليس فيه بيان لمضمون: {فَالِقُ الْحَبِّ} لأن فلق الحب ينشأ عنه إخراج الحي من الميت لا العكس، وهو خلاف الظاهر لأن علاقة وصف: {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} بخبر {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أقوى من علاقته بخبر: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} .
وقد جيء بجملة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فعلية للدلالة على أن ها الفعل يتجدد ويتكرر في كل آن، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتفاق.
وجيء في قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} اسما للدلالة على الدوام والثبات، فحصل بمجموع ذلك أن كلا الفعلين متجدد وثابت، أي كثير وذاتي، وذلك لأن أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه فكان في الأسلوب شبه الاحتباك.
(6/231)

والإشارة بـ {ذلكم} لزيادة التمييز وللتعريض بغباوة المخاطبين المشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه المنفرد بالإلهية، أي ذلكم الفاعل الأفعال العظيمة من الفلق وإخراج الحي من الميت والميت من الحي هو الذي يعرفه الخلق باسمه العظيم على أنه الإله الواحد، المقصور عليه وصف الإلهية فلا تعدلوا به في الإلهية غيره، ولذلك عقب بالتفريع بالفاء قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
والأفك ـ بفتح الهمزة ـ مصدر أفكه يأفكه، من باب ضرب، إذا صرفه عن مكان أو عن عمل، أي فكيف تصرفون عن توحيده.
و"أنى"بمعنى من أين.وهو استفهام تعجيبي إنكاري، أي لا يوجد موجب يصرفكم عن توحيده.وبني فعل {تؤفكون} للمجهول لعدم تعين صارفهم عن توحيد الله، وهو مجموع أشياء: وسوسة الشيطان، وتضليل قادتهم وكبرائهم، وهوى أنفسهم.
وجملة "ذلكم الله"مستأنفة مقصود منها الاعتبار، فتكون جملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} اعتراضا.
و {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} يجوز أن يكون خبرا رابعا عن اسم"إن"، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة، فيكون قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} اعتراضا.
والإصباح ـ بكسر الهمزةـ في الأصل مصدر أصبح الأفق، إذا صار ذا صباح.وقد سمى به الصباح، وهو ضياء الفجر فيقابل الليل وهو المراد هنا.
وفلق الإصباح استعارة لظهور الضياء في ظلمة الليل، فشبه ذلك بفلق الظلمة عن الضياء، كما استعير لذلك أيضا السلخ في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يّس: 37].فإضافة {فالق} إلى {الإصباح} حقيقية وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز.وسنبينه في الآية الآتية لأن اسم الفاعل له شائبة الاسمية فيضاف إضافة حقيقية، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظية.وهو هنا لما كان دالا على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنه إنما يشبه المضارع في الوزن وزمن الحال أو الاستقبال.وقد يعتبر فيه المفعولية على التوسع فحذف حرف الجر، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض، ولذلك سموا الصبح فلقاـ بفتحتين ـ بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكن، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أن المفلوق هو الليل ولذلك فسروه فالق ظلمة الإصباح أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة
(6/232)

الغبش، فإن فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنة بالنعمة، لأن الظلمة عدم والنور وجود.والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهرا للقدرة إلا إذا تسلط على موجود وهو الإعدام، وفلق الإصباح نعمة أيضا على الناس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم.
{وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً} عطف على {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} .
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجر {الليل} لمناسبة الوصفين في الاسمية والإضافة.وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. {وجعل} بصيغة فعل المضي وبنصب {الليل} .
وعبر في جانب الليل بمادة الجعل لأن الظلمة عدم فتعلق القدرة فيها هو تعلقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق.والمعنى أن الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النور مستمرا في الأفق فجعله عارضا مجزءا أوقاتا لتعود الظلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النصب والعمل فيستجموا راحتهم.
والسكن ـ بالتحريك ـ على زنة مرادف اسم المفعول مثل الفلق على اعتباره مفعولا بالتوسع بحذف حرف الجر وهو ما يسكن إليه، أي تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب، والسكون فيه مجاز.وتسمى الزوجة سكنا والبيت سكنا قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل: 80]، فمعنى جعل الليل سكنا أنه جعل لتحصل فيه راحة النفس من تعب العمل.
وعطف {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على {الليل} بالنصب رعيا لمحل الليل لأنه في محل المفعول لـ {جاعل} بناء على الإضافة اللفظية.والعطف على المحل شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم"إن"، ونصب المعطوف على خبر ليس المجرور بالباء.
والحسبان في الأصل مصدر حسب ـ بفتح السين ـ كالغُفران، والشُكران، والكُفران، أي جعلها حسابا، أي علامة حساب للناس يحسبون بحركاتها أوقات الليل والنهار، والشهور، والفصول، والأعوام.وهذه منة على الناس وتذكير بمظهر العلم والقدرة، ولذلك جعل للشمس حسبان كما جعل للقمر، لأن كثيرا من الأمم يحسبون شهورهم
(6/233)

وأعوامهم بحساب سير الشمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها.والعرب يحسبون بسير القمر في منازله.وهو الذي جاء به الإسلام، وكان العرب في الجاهلية يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة، فموقع المنة أعم من الاعتبار الشرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري، وإنما استقام ذلك للناس بجعل الله حركات الشمس والقمر على نظام واحد لا يختلف، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته، وهذا بحسب ما يظهر للناس منه ولو اطلعوا على أسرار ذلك النظام البديع لكانت العبرة به أعظم.
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنه في معنى اسم الفاعل، أي حاسبين.والحاسب هم الناس بسبب الشمس والقمر.
والإشارة بـ {ذلك} إلى الجعل المأخوذ من {جاعل} .
والتقدير: وضع الأشياء على قدر معلوم كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
والعزيز: الغالب، القاهر، والله هو العزيز حقا لأنه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلها.والعليم مبالغة في العلم، لأن وضع الأشياء على النظام البديع لا يصدر إلا عن عالم عظيم العلم.
[97] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
عطف على جملة {وَجَاعَلَ اللَّيْلِ سَكَناً} [الأنعام: 96]، وهذا تذكير بوحدانية الله، وبعظيم خلقة النجوم، وبالنعمة الحاصلة من نظام سيرها إذ كانت هداية للناس في ظلمات البر والبحر يهتدون بها.وقد كان ضبط حركات النجوم ومطالعها ومغاربها من أقدم العلوم البشرية ظهر بين الكلدانيين والمصريين القدماء.وذلك النظام هو الذي أرشد العلماء إلى تدوين علم الهيئة.
والمقصود الأول من هذا الخبر الاستدلال على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فلذلك صيغ بصيغة القصر بطريق تعريف المسند والمسند إليه، لأن كون خلق النجوم من الله وكونها مما يهتدى بها لا ينكره المخاطبون ولكنهم لم يجروا على ما يقتضيه من إفراده بالعبادة.
(6/234)

والنجوم جمع نجم، وهو الكوكب، أي الجسم الكروي المضيء في الأفق ليلا الذي يبدو للعين صغيرا، فليس القمر بنجم.
و {جعل} هنا بمعنى خلق، فيتعدى إلى مفعول واحد و {لكم} .متعلق بـ {جعل} ، والضمير للبشر كلهم، فلام {لكم} للعلة.
وقوله: {لِتَهْتَدُوا بِهَا} علة ثانية لـ {جعل} فاللام للعلة أيضا، وقد دلت الأولى على قصد الامتنان، فلذلك دخلت على ما يدل على الضمير الدال على الذوات، كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]،واللام الثانية دلت على حكمة الجعل وسبب الامتنان وهو ذلك النفع العظيم.ولما كان الاهتداء من جملة أحوال المخاطبين كان موقع قوله: {لتهتدوا} قريبا من موقع بدل الاشتمال بإعادة العامل، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} في سورة المائدة[114].
والمراد بالظلمات: الظلمة الشديدة، فصيغة الجمع مستعملة في القوة.وقد تقدم أن الشائع أن يقال: ظلمات، ولا يقال: ظلمة، عند قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} في سورة البقرة[17].
وإضافة {ظلمات} إلى {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} على معنى"في"لأن الظلمات واقعة في هذين المكانين، أي لتهتدوا بها في السير في الظلمات.ومن ينفي الإضافة على معنى"في"يجعلها إضافة على معنى اللام لأدنى ملابسة كما في"الكوكب الخرقاء"1.والإضافة لأدنى ملابسة، إما مجاز لغوي مبنى على المشابهة، فهو استعارة على ما هو ظاهر كلام "المفتاح"في مبحث البلاغة والفصاحة إذ جعل في قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44]"إضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك"أهـ.فاستعمل فيه الإضافة التي هي على معنى لام الملك فهو استعارة تبعية؛ وإما مجاز عقلي على رأي التفتزاني في موضع آخر إذ قال في "كوكب الخرقاء": "حقيقة الإضافة اللامية الاختصاص الكامل، فالإضافة لأدنى ملابسة تكون مجازا حكميا".ولعل التفتزاني يرى الاختلاف في المجاز باختلاف قرب الإضافة لأدنى ملابسة من معنى الاختصاص وبعدها منه كما يظهر الفرق بين المثالين، على أن قولهم: لأدنى ملابسة،
ـــــــ
1 في قول الشاعر الذي لم يعرف اسمه :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
سُهيلٌ أذاعت غزلها في القرائب
(6/235)

يؤذن بالمجاز العقلي لأنه إسناد الحكم أو معناه إلى ملابس لما هو له.
وجملة {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.واللام للتعليل متعلق بـ {فصلنا} كقوله:
ويوم عقرت للعذاري مطيتي
أي فصلنا لأجل قوم يعلمون.
وتفصيل الآيات تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} في هذه السورة[55].وجعل التفصيل لقوم يعلمون تعريضا بمن لم ينتفعوا من هذا التفصيل بأنهم قوم لا يعلمون.
والتعريف في {الآيات} للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.
والعلم في كلام العرب إدراك الأشياء على ما هي عليه، قال السموأل أو عبد الملك الحارثي:
فليس سواء عالم وجهول
وقال النابغة:
وليس جاهل شيء مثل من علما
والذين يعلمون هم الذين انتفعوا بدلائل الآيات، وهم الذين آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
[98] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98]
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفس واحدة كما هو معلوم لهم، فالذي أنشأ الناس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره مما أشركوا به، والنظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات.قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21]
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غير من خلقهم على نحو ما قررته في الآية قبل هذه.
والإنشاء: الإحداث والإيجاد.والضمير المنصوب مراد به البشر كلهم.والنفس
(6/236)

الواحدة هي آدم عليه السلام.
وقوله: {فمستقر} الفاء للتفريع عن {أنشأكم} ، وهو تفريع المشتمل عليه المقارن على المشتمل.
وقرأه الجمهور {مستقر} بفتح القاف ـ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن يعقوب بكسر القاف.فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدرا ميميا، و {مستودع} كذلك، ورفعهما على أنه مبتدأ حذف خبره، تقديره: لكم أو منكم، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فأنتم مستقر ومستودع.والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به، أي فتفرع عن إنشائكم استقرار واستيداع، أي لكم.
وعلى قراءة ـ كسر القاف ـ يكون المستقر اسم فاعل.والمستودع اسم مفعول من استودعه بمعنى أودعه، أي فمستقر منكم أقررناه فهو مستقر، ومستودع منكم ودعناه فهو مستودع.والاستقرار هو القرار، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب.يقال: استقر في المكان بمعنى قر.وتقدم عند قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} في هذه السورة[67].
والاستيداع: طلب الترك، وأصله مشتق من الودع، وهو الترك على أن يسترجع المستودع.يقال: استودعه مالا إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتفاقهم على انهما متقابلان.فعن ابن مسعود: "المستقر الكون فوق الأرض، والمستودع الكون في القبر".وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيها لهم بأن حياة الناس في الدنيا يعقبها الوضع في القبور وأن ذلك الوضع استيداع موقت إلى البعث الذي هو الحياة الأولى ردا على الذين أنكروا البعث.
وعن ابن عباس: "المستقر في الرحم والمستودع في صلب الرجل"، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا، وقاله مجاهد والضحاك وعطاء وإبراهيم النخعي، وفسر به الزجاج.قال الفخر: "ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا".وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصدر أعرضنا عن التطويل بها.وقال الطبري: "إن الله لم يخصص معنى دون غيره"، ولا شك أن من بني آدم مستقرا في الرحم ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر
(6/237)

على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر مستودع على ظهر الأرض، فكل مستقر أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أهـ.
وقال ابن عطية: "الذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى الدنيا ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى الحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار.وهو في كل رتبة بين هذين الظرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها".اهـ.
والأظهر أن لا يقيد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء، لأن المقصود التذكير بالحياة الثانية، ولأن الأظهر أن الواو ليست للتقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودعها.وإيثار التعبير بهذين المصدرين ما كان إلا لإرادة توفير هذه الجملة.
وعلى قراءة ـ كسر القاف ـوهو اسم فاعل. {ومستودع} اسم مفعول، والمعنى هو هو.
وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} تقرير لنظيره المتقدم مقصود به التذكير والإعذار.
وعدل عن"يعلمون"إلى {يفقهون} لأن دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبر، فإن المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبر عن علمها بأنه فقه، بخلاف دلالة النجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكررة، وتعريضا بأن المشركين لا يعلمون ولا يفقهون، فإن العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، والفقه هو إدراك الأشياء الدقيقة.فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين، ولذلك قال بعد هذا: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
[99] {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
(6/238)

وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
القول في صيغة القصر من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} الخ كالقول في نظيره السابق.و"مِن"في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يستحيل ماء.فالسماء اسم لأعلى طبقات الجو حيث تتكون الأمطار.وتقدم في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة البقرة.وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله: {فأخرجنا} على طريقة الالتفات.
والباء للسببية جعل الله الماء سببا لخروج النبات، والضمير المجرور بالباء عائد إلى الماء.
والنبات اسم لما ينبت، وهو اسم مصدر نبت، سمي به النابت على طريقة المجاز الذي صار حقيقة شائعة فصار النبات اسما مشتركا مع المصدر.
و {شيء} مراد به صنف من النبات بقرينة إضافة {نبات} إليه.والمعنى: فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النبت.فإن النبت جنس له أنواع كثيرة؛ فمنه زرع وهو ما له ساق لينة كالقصب، ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنخل، والعنب؛ ومنه نجم وأب وهو ما ينبت لاصقا بالتراب، وهذا التعميم يشير إلى أنها مختلفة الصفات والثمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق، وهي كلها نابتة من ماء السماء الذي هو واحد، وذلك آية على عظم القدرة، قال تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]وهو تنبيه للناس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى التي سببت اختلاف أحوالها.
والفاء في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فاء التفريع.
وقوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} تفصيل لمضمون جملة {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} ، فالفاء للتفصيل، و"من"ابتدائية أة تبعيضية، والضمير المجرور بها عائد إلى النبات، أي فكان من النبت خضر ونخل وجنات وشجر، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه.
والخضر: الشيء الذي لونه أخضر، يقال: أخضر وخضر كما يقال: أعور وعور، ويطلق الخضر اسما للنبت الرطب الذي ليس بشجر كالقصيل والقضب.وفي الحديث: "وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت
(6/239)

خاصرتاها"الحديث.وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} ، فإن الحب يخرج من النبت الرطب.
وجملة {نُخْرِجُ مِنْهُ} صفة لقوله: {خضرا} لأنه صار اسما، و"من"اتصالية أو ابتدائية، والضمير المجرور بها عائد إلى {خضرا} .
والحب: هو ثمر النبات، كالبر والشعير والزراريع كلها.
والمتراكب: الملتصق بعضه على بعض في السنبلة، مثل القمح وغيره، والتفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضا.
وجملة {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} عطف على {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} .ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية، وقوله: {مِنَ النَّخْلِ} خبر مقدم و {قنوان} مبتدأ مؤخر.
والمقصود بالإخبار هنا التعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجة، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات، على أن موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنة.
والتعريف في {النخل} تعريف العهد الجنسي، وإنما جيء بالتعريف فيه للإشارة إلى أنه الجنس المألوف المعهود للعرب، فإن النخل شجرهم وثمره قوتهم وحوائطه منبسط نفوسهم، ولك أن تجعله حالا من {النخل} اعتدادا بالتعريف اللفظي كقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً} ، ويجوز أن يكون {مِنْ طَلْعِهَا} بدل بعض من {النخل} بإعادة حرف الجر الداخل على المبدل منه.
و {قنوان} بكسر القاف ـ جمع قنو ـ بكسر القاف ـأيضا على المشهور فيه عند العرب غير لغة قيس وأهل الحجاز فإنهم يضمون القاف.فقنوان بالكسر جمع تكسير.وهذه الصيغة نادرة، غير جمع فُعَل"بضم ففتح"وفُعْل"بضم فسكون"وفَعْل"بفتح فسكون"إذا كانا واويي العين وفعال.
والقنو: عرجون التمر، كالعنقود للعنب، ويسمى العذق ـ بكسر العين ـ ويسمى الكباسة ـ بكسر الكاف ـ.
(6/240)

والطلع: وعاء عرجون التمر الذي يبدو في أول خروجه يكون كشكل الاترجة العظيمة مغلقا على العرجون، ثم ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعا، ويسمى حينئذ الإغريض، ثم يصير قنوا.
و {دانية} قريبة.والمراد قريبة التناول كقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23].والقنوان الدانية بعض قنوان النخل خصت بالذكر هنا إدماجا للمنة في خلال التذكير بإتقان الصنعة فإن المنة بالقنوان الدانية أتم، والدانية هي التي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول، ولا حاجة لذكر البعيدة التناول لأن الذكرى قد حصلت بالدانية وزادت بالمنة التامة.
و {جنات} بالنصب عطف على {خضرا} .وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفع {جنات} لم يصح.
وقوله: {مِنْ أَعْنَابٍ} تمييز مجرور بـ {من} البيانية لأن الجنات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريب تمرا، وبهذا الاعتبار عدي فعل الإخراج إلى الجنات دون الاعناب، فلم يقل وأعنابا في جنات.والأعناب جمع عنب وهو جمع عنبة، وهو في الأصل ثمر شجر الكرم.ويطلق على شجرة الكرم عنب على تقدير مضاف، أي شجرة عنب، وشاع ذلك فتنوسي المضاف.قال الراغب: "العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه"اهـ.ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ولكن يطلق بالجمع، يقال: عنب، مراد به الكرم، كما في قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} [عبس: 28,27]، ويقال: أعناب كذلك، كما هنا، وظاهر كلام الراغب أنه يقال: عنبة لشجرة الكرم، فإنه قال: "العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة".
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} ـبالنصب ـ عطف على {جنات} والتعريف فيهما الجنس كالتعريف في قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ} .والمراد بالزيتون والرمان شجرهما.وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثم أطلقا على شجرتيهما كما تقدم في الأعناب.وهاتان الشجرتان وإن لم تكونا مثل النخل في الأهمية عند العرب إلا أنهما لعزة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التفكه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذكرا في مقام التذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنته.وكانت شجرة الزيتون موجودة بالشام وفي سينا، وشجرة الرمان موجودة بالطائف.
وقوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} حال ومعطوف عليه، والواو للتقسيم بقرينة أن الشيء
(6/241)

الواحد لا يكون مشتبها وغير متشابه، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه.وهما حالان من"الزيتون والرمان"معا، وإنما أفرد ولم يجمع اعتبارا بإفراد اللفظ.والتشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء، وهما مشتقان من الشبه.والجمع بينهما في الآية للتفنن كراهية إعادة اللفظ، ولأن اسم الفاعل من التشابه أسعد بالوقف لما فيه من مد الصوت بخلاف {مشتبه} .وهذا من بديع الفصاحة.
والتشابه: التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال، أي بعض شجره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا، أو بعض ثمره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا، فالتشابه مما تقارب لونه أو طعمه أو شكله مما يتطلبه الناس من أحواله على اختلاف أميالهم، وعد التشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلبه الناس من الصفات على اختلاف شهواتهم، فمن أعواد الشجر غليظ ودقيق، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك، وهذا كقوله تعالى: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4].والمقصود من التقييد بهذه الحال التنبيه على أنها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة.
ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدم من قوله: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} ، فإن جميع ذلك مشتبه وغير متشابه.وجعله الزمخشري حالا من {الزيتون} لأنه المعطوف عليه وقدر لـ {الرمان} حالا أخرى تدل عليها الأولى، بتقدير: والرمان كذلك.وإنما دعاه إلى ذلك أنه لا يرى تعدد صاحب الحال الواحدة ولا التنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوف في قول الازرق بن طرفة الباهلي، جوابا لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القشيري: "أنت لص ابن لص":
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني
ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأن التنبيه إلى ما في بعض النبات من دلائل الاختيار يوجه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها.
وجملة {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} بيان للجمل التي قبلها المقصود منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته، والضمير المضاف إليه في {ثمره} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {مشتبها} من تخصيص أو تعميم.
والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره.
(6/242)

والثمر: الجنى الذي يخرجه الشجر.وهوـ بفتح الثاء والميم ـ في قراءة الأكثر، جمع ثَمَرة بفتح الثاء والميم وقرأه حمزة والكسائي وخلف ـبضم الثاء والميم ـوهو جمع تكسير، كما جمعت: خشبة على خشب، وناقة على نوق.
واليَنْع: الطِّيبُ والنضج.يقال: ينع بفتح النون يينع بفتح النون وكسرها ويقال: أَيْنَعَ يُونِع يَنْعَا بفتح التحتية بعدها نون ساكنة.
و {إذا} ظرف لحدوث الفعل، فهي بمعنى الوقت الذي يبتدئ فيه مضمون الجملة المضاف إليها، أي حين ابتداء أثماره.وقوله: {وينعه} لم يقيد بإذا أينع لأنه إذا ينع فقد تم تطوره وحان قطافه فلم تبق للنظر فيه عبرة لأنه قد انتهت أطواره.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ} علة للأمر بالنظر.وموقع"إن"فيه موقع لام التعليل، كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
والإشارة بـ {ذلكم} إلى المذكور كله من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ـإلى قوله ـ وَيَنْعِهِ} فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور، كما تقدم في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة[68].
{ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وصف للآيات.واللام للتعليل، والمعلل هو ما في مدلول الآيات من مضمن معنى الدلالة والنفع.وقد صرح في هذا بأن الآيات إنما تنفع المؤمنين تصريحا بأنهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97]وقوله: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98]، وإتماما للتعريض بأن غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين.
[100] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}
عطف على الجمل قبله عطف القصة على القصة، فالضمير المرفوع في {جعلوا} عائد إلى {قومك} من قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66].
وهذا انتقال إلى ذكر شرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجن شركاء لله في عبادتهم كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك.وقد كان دين العرب في الجاهلية خليطا
(6/243)

من عبادة الأصنام ومن الصابئية عبادة الكواكب وعبادة الشياطين، ومجوسية الفرس، وأشياء من اليهودية، والنصرانية، فإن العرب لجهلهم حينئذ كانوا يتلقون من الأمم المجاورة لهم والتي يرحلون إليها عقائد شتى متقاربا بعضها ومتباعدا بعض، فيأخذونه بدون تأمل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإن العلم الصحيح هو الذائد عن العقول من أن تعشش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهلية عبادة الأصنام وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجن والشياطين ونحو ذلك.
فكان العرب يثبتون الجن وينسبون إليهم تصرفات، فلأجل ذلك كانوا يتقون الجن وينتسبون إليها ويتخذون لها المعاذات والرقي ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسمية الله على بعض الذبائح.وكانوا يعتقدون أن الكاهن تأتيه الجن بالخبر من السماء، وأن الشاعر له شيطان يوحي إليه الشعر، ثم إذا أخذوا في تعليل هذه التصرفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهية الله تعالى تعللوا لذلك بأن للجن صلة بالله تعالى فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله من أمهات سروات الجن، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158] وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 149ـ152].ومن أجل ذلك جعل كثير من قبائل العرب شيئا من عبادتهم للملائكة وللجن.قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41,40].
والذين زعموا أن الملائكة بنات الله هم قريش وجهينة وبنو سلمة وخزاعة وبنو مليح.وكان بعض العرب مجوسا عبدوا الشيطان وزعموا أنه إله الشر وأن الله إله الخير، وجعلوا الملائكة جند الله والجن جند الشيطان.وزعموا أن الله خلق الشيطان من نفسه ثم فوض إليه تدبير الشر فصار إله الشر.وهم قد انتزعوا ذلك من الديانة المزدكية القائلة بإلهين إله للخير وهو يزدان.وإله للشر وهو أهرمن وهو الشيطان.
فقوله: {الجن} مفعول أول {جعلوا} و {شركاء} مفعوله الثاني، لأن الجن المقصود من السياق لا مطلق الشركاء، لأن جعل الشركاء لله قد تقرر من قبل.و {لله} متعلق بـ {شركاء} .وقدم المفعول الثاني على الأول لأنه محل تعجيب وإنكار فصار لذلك أهم وذكره أسبق.
وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} للاهتمام والتعجيب من خطل
(6/244)

عقولهم إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته لأن المشركين يعترفون بأن الله هو خالق الجن، فهذا التقديم جرى على خلاف مقتضى الظاهر لأجل ما اقتضى خلافه.وكلام"الكشاف"يجعل تقديم المجرور في الآية للاهتمام باعتقادهم الشريك لله اهتماما في مقامه وهو الاستفظاع والإنكار التوبيخي.وتبعه في "المفتاح"إذ قال في تقديم بعض المعمولات على بعض: "للعناية بتقديمه لكونه نصب عينك كما تجدك إذا قال لك أحد: عرفت شركاء لله، يقف شعرك وتقول: لله شركاء.وعليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} "أهـ.فيكون تقديم المجرور جاريا على مقتضى الظاهر.
والجن ـ بكسر الجيم ـاسم لموجودات من المجردات التي لا أجسام لها ذات طبع ناري، ولها آثار خاصة في بعض تصرفات تؤثر في بعض الموجودات ما لا تؤثره القوى العظيمة.وهي من جنس الشياطين لا يدرى أمد وجود أفرادها ولا كيفية بقاء نوعها.وقد أثبتها القرآن على الإجمال، وكان للعرب أحاديث في تخيلها.فهم يتخيلونها قادرة على التشكل بأشكال الموجودات كلها ويزعمون أنها إذا مست الإنسان آذته وقتلته.وأنها تختطف بعض الناس في الفيافي، وأن لها زجلا وأصواتا في الفيافي، ويزعمون أن الصدى هو من الجن، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 71]، وأنها قد تقول الشعر، وأنها تظهر للكهان والشعراء.
وجملة {وخلقهم} في موضع الحال والواو للحال.والضمير المنصوب في {خلقهم} يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {جعلوا} ، أي وخلق المشركين، وموقع هذه الحال التعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم، من قبيل {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]،وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة والتعجيب على هذا الوجهة من جعلهم ذلك مع أن الله خالقهم في نفس الأمر فكيف لا ينظرون في أن مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهية إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]فالتعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم.ويجوز أن يكون ضمير {وخلقهم} عائدا إلى الجن لصحة ذلك الضمير لهم باعتبار أن لهم عقلا، وموقع الحال التعجيب من ضلال المشركين أن يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنهم مخلوقون لله تعالى، فإن المشركين قالوا: "إن الله خالق الجن"،كما تقدم، وأنه لا خالق إلا هو، فالتعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم.فالتقدير: وخلقهم كما في علمهم، أي وخلقهم بلا نزاع.وهذا الوجه أظهر.
(6/245)

وجملة {وخرقوا} عطف على جملة {وجعلوا} والضمير عائد على المشركين.
وقرأ الجمهور {وخَرَقُوا} بتخفيف الراءـ، وقرأه نافع، وأبو جعفر ـ بتشديد الراءـ.
والخرق: أصله القطع والشق.وقال الراغب: "هو القطع والشق على سبيل الفساد من غير تدبر"ومنه قوله تعالى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71].وهو ضد الخلق، فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق، والخرق بغير تقدير.ولم يقيده غيره من أئمة اللغة.وأيا ما كان فقد استعمل الخرق مجازا في الكذب كما استعمل فيه افترى واختلق من الفري والخلق.وفي"الكشاف": "سئل الحسن عن قوله تعالى: {وخرقوا} فقال: "كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول بعضهم: "قد خرقها والله".وقراءة نافع تفيد المبالغة في الفعل لأن التفعيل يدل على قوة حصول الفعل.فمعنى {خرقوا} كذبوا على الله على سبيل الخرق، أي نسبوا إليه بنين وبنات كذبا، فأما نسبتهم البنين إلى الله فقد حكاها عنهم القرآن هنا.والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات.وليس المراد اليهود في قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولا النصارى في قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِْ} [توبة: 30].كما فسر به جميع المفسرين، لان ذلك لا يناسب السياق ويشوش عود الضمائر ويخرم نظم الكلام.فالوجه أن المراد أن بعض المشركين نسبوا لله البنين وهم الذين تلقنوا شيئا من المجوسية لأنهم لما جعلوا الشيطان متولدا عن الله تعالى إذ قالوا إن الله لما خلق العالم تفكر في مملكته واستعظمها فحصل له عجب تولد عنه الشيطان، وربما قالوا أيضا: إن الله شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان، فقد لزمهم أن الشيطان متولد عن الله تعالى عما يقولون، فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى.
ولعل بعضهم كان يقول بأن الجن أبناء الله والملائكة بنات الله، أو أن في الملائكة ذكورا وإناثا، ولقد ينجر لهم هذا الاعتقاد من اليهود فإنهم جعلوا الملائكة أبناء الله.فقد جاء في أول الإصحاح السادس من سفر التكوين: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا وإذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم".وأما نسبتهم البنات إلى الله فهي مشهورة في العرب إذ جعلوا الملائكة إناثا، وقالوا: هن بنات الله.
ـــــــ
1 في المطبوعة : "عيسى ابن الله"وهوخطأ,والمثبت هو الموافق لرسم المصحف .
(6/246)

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بـ {خرقوا} ، أي اختلقوا اختلاقا عن جهل وضلالة، لأنه اختلاق لا يلتئم مع العقل والعلم فقد رموا بقولهم عن عمى وجهالة.فالمراد بالعلم هنا العلم بمعناه الصحيح، وهو حكم الذهن المطابق للواقع عن ضرورة أو برهان.
والباء للملابسة، أي ملابسا تخريقهم غير العلم فهو متلبس بالجهل بدءا وغاية، فهم قد اختلقوا بلا داع ولا دليل ولم يجدوا لما اختلقوه ترويجا، وقد لزمهم به لازم الخطل وفساد القول وعدم التئامه، فهذا موقع باء الملابسة في الآية الذي لا يفيد مفاده غيره.
وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} مستأنفة تنزيها عن جميع ما حكي عنهم.فـ {سبحان} مصدر منصوب على أنه بدل من فعله.وأصل الكلام أسبح الله سبحانا.فلما عوض عن فعله صار"سبحان الله"بإضافته إلى مفعوله الأصلي، وقد تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} في سورة البقرة[32].
ومعنى {تعالى} ارتفع، وهو تفاعل من العلو.والتفاعل فيه للمبالغة في الاتصاف.والعلو هنا مجاز، أي كونه لا ينقصه ما وصفوه به، أي لا يوصف بذلك لان الاتصاف بمثل ذلك نقص وهو لا يلحقه النقص فشبه التحاشي عن النقائص بالارتفاع، لان الشيء المرتفع لا تلتصق به الأوساخ التي شأنها أن تكون مطروحة على الأرض، فكما شبه النقص بالسفالة شبه الكمال بالعلو، فمعنى"تعالى عن ذلك"أنه لا يتطرق إليه ذلك.
وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} متعلق بـ {تعالى} ، فـ"عن"للمجاوزة.وقد دخلت على اسم الموصول، أي عن الذي يصفونه.
والوصف: الخبر عن أحوال الشيء وأوصافه وما يتميز به، فهو إخبار مبين مفصل للأحوال حتى كأن المخبر يصف الشيء وينعته.
واختير في الآية فعل {يصفون} لأن ما نسبوه إلى الله يرجع إلى توصيفه بالشركاء والأبناء، أي تباعد عن الاتصاف به.وأما كونهم وصفوه به فذلك أمر واقع.
[101] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى، وهي تفيد مع ذلك
(6/247)

تقوية التنزيه في قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]فتتنزل منزلة التعليل لمضمون ذلك التنزيه بمضمونها أيضا، وبهذا الوجه رجح فصلها على عطفها فإن ما يصفونه هو قولهم: إن له ولدا وبنات، لأن ذلك التنزيه يتضمن نفي الشيء المنزه عنه وإبطاله، فعلل الإبطال بأنه خالق أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدعون بنوة الجن والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجن ولا الملائكة فلماذا لم تدعوا البنوة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها.فهذا الإبطال بمنزلة النقض في علم الجدل والمناظرة.
وقوله: {بديع} خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدم الحديث عن شيء ثم يعقب بخبر عنه مفرد، كما تقدم في مواضع.وتقدم الكلام على {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عند قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة البقرة[117,116].
والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبداع السماوات والأرض لأن خلق المحل يقتضي خلق الحال فيه، فالمشركون يقولون بأن الملائكة في السماء وأن الجن في الأرض والفيافي، فيلزمهم حدوث الملائكة والجن وإلا لوجد الحال قبل وجود المحل، وإذا ثبت الحدود ثبت انتفاء البنوة لله تعالى، لأن ابن الإله لا يكون إلا إلها فيلزم قدمه، كيف وقد ثبت حدوثه، ولذلك عقب قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116]بقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} في سورة البقرة[116]، وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} في أول هذه السورة[1].
وجملة {أَنَّى يَكُونُ} تتنزل منزلة التعليل لمضمون التنزيه من الإبطال، وإنما لم تعطف على التي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأن الجملة الأولى أبطلت دعواهم من جهة فساد الشبهة فكانت بمنزلة النقض في المناظرة.وهذه الجملة أبطلت الدعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنها من جهة خطأ الدليل، لأن قولهم بأن الملائكة بنات الله والجن أبناء الله يتضمن دليلا محذوفا على البنوة وهو أنهم مخلوقات شريفة، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدعوى وهو انتفاء الزوجة التي هي أصل الولادة، فهذا الإبطال الثاني بمنزلة المعارضة في المناظرة.و {أنى} بمعنى من أين وبمعنى كيف.
(6/248)

والواو في {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} واو الحال لأن هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال.
والصاحبة: الزوجة لأنها تصاحب الزوج في معظم أحواله.وقد جعل انتفاء الزوجة مسلما لأنهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولد، وهذا مبني على المحاجة العرفية بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة.
وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عطف على جملة {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} باعتبار ظاهرها وهو التوصيف بصفات العظمة والقدرة، فبعد أن أخبر بأنه تعالى مبدع السماوات والأرض أخبر أنه خالق كل شيء، أي كل موجود فيشمل ذوات السماوات والأرض، وشمل ما فيهما، والملائكة من جملة ما تحويه السماوات، والجن من جملة ما تحويه الأرض عندهم، فهو خالق هذين الجنسين، والخالق لا يكون أبا كما علمت.ففي هذه الجملة إبطال الولد أيضا، وهذا إبطال ثالث بطريق الكلية بعد أن أبطل إبطالا جزئيا، والمعنى أن الموجودات كلها متساوية في وصف المخلوقية، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين.
وجملة {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثابتة لله تعالى، فهي جملة معطوفة على جملة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} باعتبار ما فيها من التوصيف لا باعتبار الرد.ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ} دون أن يقول "به"لأن التذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلة الدلالة بنفسها لأنها تشبه الأمثال في كونها كلاما جامعا لمعان كثيرة.
[102] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
وقوع اسم الإشارة بعد إجراء الصفات والأخبار المتقدمة، للتنبيه على أن المشار إليه حقيق بالأخبار والأوصاف التي ترد بعد اسم الإشارة، كما تقدم عند قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95]قبل هذا، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
والمشار إليه هو الموصوف بالصفات المضمنه بالأخبار المتقدمة، ولذلك استغني عن اتباع اسم الإشارة ببيان أو بدل، والمعنى: ذلكم المبدع للسماوات والأرض والخالق
(6/249)

كل شيء والعليم بكل شيء هو الله، أي هو الذي تعلمونه.وقوله: {ربكم} صفة لاسم الجلالة.وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} حال من {ربكم} أو صفة.وقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} صفة لـ {ربكم} أو لاسم الجلالة، وإنما لم نجعله خبرا لأن الإخبار قد تقدم بنظائره في قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} .
وجملة {فاعبدوه} مفرعة على قوله: {رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقد جعل الأمر بعبادته مفرعا على وصفه بالربوبية والوحدانية لأن الربوبية مقتضية استحقاق العبادة، والانفراد بالربوبية يقتضي تخصيصه بالعبادة، وقد فهم هذا التخصيص من التفريع.
ووجه أمرهم بعبادته أن المشركين كانوا معرضين عن عبادة الله تعالى بحيث لا يتوجهون بأعمال البر في اعتقادهم إلا إلى الأصنام فهم يزورونها ويقربون إليها القرابين وينذرون لها النذور ويستعينون بها ويستنجدون بنصرتها، وما كانوا يذكرون الله إلا في موسم الحج، على أنهم قد خلطوه بالتقرب إلى الأصنام إذ جعلوا فوق الكعبة"هُبَل"، وجعلوا فوق الصفا والمروة"أسافا ونائلة".وكان كثير منهم يهل"لمناة"في منتهى الحج، فكانوا معرضين عن عبادة الله تعالى، فلذلك أمروا بها صريحا، وأمروا بالاقتصار عليها بطريق الإيماء بالتفريع.
وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يجوز أن تكون معطوفة على الصفات المتقدمة فتكون جملة {فاعبدوه} معترضة، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {فاعبدوه} بناء على جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس"وهو الحق"، على وجه تكميل التعليل للأمر بعبادته دون غيره، بأنه متكفل بالأشياء كلها من الخلق والرزق والإنعام وكل ما يطلب المرء حفظه له، فالوجه عبادته ولا وجه لعبادة غيره، فإن اسم الوكيل جامع لمعنى الحفظ والرقابة، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
[103] {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
جملة ابتدائية لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه، فلعظمته جل عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين، وذلك تعريض بانتفاء الإلهية عن الأصنام التي هي أجسام محدودة محصورة متحيزة، فكونها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهية ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار، وكذلك الكواكب التي عبدها بعض العرب، وأما الجن
(6/250)

والملائكة وقد عبدوهما فإنهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكل الناس ولا في كل الأوقات إلا أن المشركين يزعمون أن الجن تبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها.قال شمر بن الحارث الضبي:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
ويتوهمون أن الملائكة يظهرون لبعض الناس، يتلقون ذلك عن اليهود.
والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب.ويطلق مجازا على شعور الحاسة بالمحسوس أو العقل بالمعقول يقال: أدرك بصري وأدرك عقلي تشبيها لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيه المعقول بالمحسوس، ويقال: أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله، ولا يقال: أدرك فلان بدون تقييد، واصطلح المتأخرون من المتكلمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكا، وجعلوا الإدراك جنسا في تعريف التصور والتصديق، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدراكة.
وأما قوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فيجوز أن يكون إسناد الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} .ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعارا للتصرف لان الإدراك معناه النوال.
والأبصار جمع بصر، وهو اسم للقوة التي بها النظر المنتشرة في إنسان العين الذي في وسط الحدقة وبه إدراك المبصرات.والمعنى: لا تحيط به أبصار المبصرين لان المدرك في الحقيقة هو المبصر لا الجارحة، وإنما الجارحة وسيلة للإدراك لأنها توصل الصورة إلى الحس المشترك في الدماغ.والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصية الإله الحق عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم، فإن الله لا يرى وأصنامهم ترى، وتلك الخصوصية مناسبة لعظمته تعالى، فإن عدم إحاطة الأبصار بالشيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار، فعموم النكرة في سياق النفي يدل على انتفاء أن يدركه شيء من أبصار المبصرين في الدنيا كما هو السياق.
ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يرى في الآخرة، كما تمسك به نفاة الرؤية، وهم المعتزلة لان للأمور الآخرة أحوالا لا تجري على متعارفنا، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة.ومن حاول ذلك فقد تكلف ما لا يتم كما صنع الفخر في"تفسيره".
(6/251)

والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلمين؛ فأثبته جمهور أهل السنة لكثرة ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة مع اتفاقهم على أنها رؤية تخالف الرؤية المتعارفة.وعن مالك ـرحمه الله ـ "لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكفار بالحجاب في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]".وعنه أيضا: "لم ير الله في الدنيا لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي".وأما المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة.وقد اتفقنا جميعا على التنزيه عن المقابلة والجهة، كما اتفقنا على جواز الانكشاف العلمي التام للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحق تعالى، وعلى امتناع ارتسام صورة المرئي في العين أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لان أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدنيا.وقد تكلم أصحابنا بأدلة الجواز وبأدلة الوقوع، وهذا مما يجب الإيمان به مجملا على التحقيق.وأدلة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التفسير ومرجعها جميعا إلى إعمال الظاهر أو تأويله.
ثم اختلف أئمتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فنفي ذلك جمع من الصحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم وتمسكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة.وأثبتها الجمهور، ونقل عن أبي بن كعب وابن عباس ـرضي الله عنهماـ، وعليه يكون العموم مخصوصا.وقد تعرض لها عياض في"الشفاء".وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بجواب اختلف الرواة في لفظه، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقة الأمر إتماما لمراده ولطفا بعباده.
وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} معطوف على جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إما لان فعل {يدرك} استعير لمعنى ينال، أي لا تخرج عن تصرفه كما يقال: لحقه فأدركه، فالمعنى يقدر على الابصار، أي على المبصرين، وإما لاستعارة فعل {يدرك} لمعنى يعلم يعلم لمشاكلة قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي لا تعلمه الأبصار.وذلك كناية عن العلم بالخفيات لأن الأبصار هي العدسات الدقيقة التي هي واسطة إحساس الرؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى.وجمعه باعتبار المدركين.
وفي قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} محسن الطباق.
وجملة {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} معطوفة على جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فهي صفة
(6/252)

أخرى.أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهم أن من لا تدركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه.
واللطيف: وصف مشتق من اللطف أو من اللطافة.يقال: لطف بفتح الطاء بمعنى رفق، وأكرم، واحتفى.ويتعدى بالباء وباللام باعتبار ملاحظة معنى رفق أو معنى أحسن.ولذلك سميت الطرفة والتحفة التي يكرم بها المرء لطفا"بالتحريك"، وجمعها ألطاف.فالوصف من هذا لاطف ولطيف؛ فيكون اللطيف اسم فاعل بمعنى المبالغة يدل على حذف فعل من فاعله، ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].ويقال لَطُف ـ بضم الطاء ـأي دق وخف ضد ثقل وكثف.
واللطيف: صفة مشبهة أو اسم فاعل.فإن اعتبرت وصفا جاريا على لطف بضم الطاء فهي صفة مشبهة تدل على صفة من صفات ذات الله تعالى، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته، فيكون اختيارها للتعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصراحة والرشاقة في الكلمة لأنها أقرب مادة في اللغة العربية تقرب معنى وصفه تعالى بحسب ما وضعت له اللغة من متعارف الناس، فيقرب أن تكون من المتشابه، وعليه فتكون أعم من مدلول جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فتتنزل من الجملة التي قبلها منزلة التذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئية بالكلية فيزيد الوصف قبله تمكنا.وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في"الكشاف"لأنه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب، واستحسنه الفخر وجوزه الراغب والبيضاوي، وهو الذي ينبغي التفسير به في كل موضع اقترن فيه وصف اللطيف بوصف الخبير كالذي هنا والذي في سورة الملك.
وإن اعتبر اللطيف اسم فاعل من لطَف ـ بفتح الطاء ـ فهو من أمثلة المبالغة يدل على وصفه تعالى بالرفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك، فيدل على صفة من صفات الأفعال.وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسرين والمبينين لمعنى اسمه اللطيف في عداد الأسماء الحسنى.وهذا المعنى هو المناسب في كل موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفردا معدى باللام أو بالباء نحو {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19].وبه فسر الزمحشري قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} فلله دره، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفا مستقلا عما قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره.
(6/253)

و"خبير"صفة مشبهة من خبر ـ بضم الباء ـ في الماضي، خبرا بضم الخاء وسكون الباء بمعنى علم وعرف، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور التي شأنها أن يخبر عنها علما موافقا للواقع.
ووقوع الخبير بعد اللطيف على المحمل الأول وقوع صفة أخرى هي أعم من مضمون {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، فيكمل التذييل بذلك ويكون التذييل مشتملا على محسن النشر بعد اللف؛ وعلى المحمل الثاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللطيف، أي هو الرفيق المحسن الخبير بمواقع الرفق والإحسان وبمستحقيه.
[104] {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} هذا انتقال من محاجة المشركين، وإثبات الوحدانية لله بالربوبية من قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ـإلى قوله ـ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 95ـ103].فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام مقول لفعل أمر بالقول في أول الجملة، حذف على الشائع من حذف القول للقرينة في قوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنه كالتوقيف والشرح والفذلكة للكلام السابق فيقدر: قل يا محمد قد جاءكم بصائر.
وبصائر جمع بصيرة؛ والبصيرة: العقل الذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أن البصر إدراك العين الذي تتجلى به الاجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها.وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شبه بمجيء شيء كان غائبا، تنويها بشأن ما حصل عندهم بأنه كالشيء الغائب المتوقع مجيئه كقوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الاسراء: 81].وخلو فعل"جاء"عن علامة التأنيث مع أن فاعله جمع مؤنث لأن الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقا أو جمع مؤنث يجوز اقترانه بتاء التأنيث وخلوه عنها.
و"من"ابتدائية تتعلق بـ"جاء"أو صفة لـ {بصائر} ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السير من جانبه تعالى، وهو منزه عن المكان والزمان، فالابتداء مجاز لغوي، أو هو مجاز بالحذف بتقدير: من إرادة ربكم.والمقصود التنويه بهذه التعاليم والذكريات التي بها البصائر، والحث على العمل بها، لأنها مسداة إليهم ممن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ،
(6/254)

مع ما في ذكر الرب وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.
ولذلك فرع عليه قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها"فمن أبصر فلنفسه أبصر"، أي من علم الحق فقد علم علما ينفع نفسه، {وَمَنْ عَمِيَ} أي ضل عن الحق فقد ضل ضلالا وزره على نفسه.
فاستعير الإبصار في قوله: {أبصر} للعلم بالحق والعمل به لأن المهتدي بهذا الهدي الوارد من الله بمنزلة الذي نور له الطريق بالبدر أو غيره، فأبصره وسار فيه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون {أبصر} تمثيلا موجزا ضمن فيه تشبيه هيئة المرشد إلى الحق إذا عمل بما أرشد به، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره.
واستعير العمى في قوله: {عمي} للمكابرة والاستمرار على الضلال بعد حصول ما شأنه أن يقلعه لأن المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهدي هاد خريت.ويجوز اعتبار التمثيلية فيه أيضا كاعتبارها في ضده السابق.
واستعمل اللام في الأول استعارة للنفع لدلالتها على الملك وإنما يملك الشيء النافع المدخر للنوائب، واستعيرت"على"في الثاني للضر والتبعة لان الشيء الضار ثقيل على صاحبه يكلفه تعبا وهو كالحمل الموضوع على ظهره، وهذا معروف في الكلام البليغ.قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الاسراء: 15]، وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} ، ولأجل ذلك سمي الإثم وزرا كما تقدم في قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]،وقد جاء اللام في موضع"على"في بعض الآيات، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7].
وفي الآية محسن جناس الاشتقاق بين"البصائرو"أبصر"، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر.وفيها محسن المطابقة بين قوله: {أبصر} و {عمي} ، وبين "اللام"و"على".
ويتعلق قوله: {لنفسه} بمحذوف دل عليه فعل الشرط.وتقديره: فمن أبصر فلنفسه أبصر.واقترن الجواب بالفاء نظرا لصدره إذ كان اسما مجرورا وهو غير صالح لأن يلي أداة الشرط.
(6/255)

وإنما نسج نظم الآية على هذا النسج للإيذان بأن {لنفسه} مقدم في التقدير على متعلقه المحذوف.والتقدير: فلنفسه أبصر، ولولا قصد الإيذان بهذا التقديم لقال: فمن أبصر أبصر لنفسه، كما قال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الاسراء: 7]والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره، لأنهم كانوا يحسبون أنهم يغيظون النبي صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إياهم إلى الهدى، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب"الكشاف"، بخلاف آية {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الاسراء: 7]، فإنهم حكت كلاما خوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهمون أن إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضر الله.
والكلام على قوله: {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} نظير الكلام على قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} .وعدي فعل {عمي} بحرف"على"لأن العمى لما كان مجازا كان ضرا يقع على صاحبه.
وجملة {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} تكميل لما تضمنه قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} ، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود علي ضركم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنب ضركم فلا تحسبوا أنكم حتى تمكرون بي بالإعراض عن ا لهدى والاستمرار في الضلال.
والحفيظ: الحارس ومن يجعل إليه نظر غيره وحفظه، وهو بمنزلة الوكيل إلا أن الوكيل يكون مجعولا له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ، والحفيظ أعم لأنه يكون من جانبه ومن جانب مواليه.وهذا قريب من معنى قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]
والإتيان بالجملة الاسمية هنا دقيق، لان الحفيظ وصف لا يفيد غيره مفاده، فلا يقوم مقامه فعل حفظ، فالحفيظ صفة مشبهة يقدر لها فعل منقول إلى فعل بضم العين لم ينطق به مثل الرحيم.
ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميه اختصاصا خلافا لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التفتزاني مال إليه، وسكت عنه السيد الجرجاني وهو وقوف مع الظاهر.وتقديم {عليكم} على {بحفيظ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
[105] {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
(6/256)

جملة معترضة تذييلا لما قبلها.والواو اعتراضية فهو متصل بجملة {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104]التي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير"قل"كما تقدم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى التصريف المأخوذ من قوله: {نُصَرِّفُ الْآياتِ} .أي ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات.وتقدم نظيره غير مرة وأولها قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143].
والقول في تصريف الآيات تقدم في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} في هذه السورة.
وقوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} معطوف على {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} وقد تقدم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} من هذه السورة[55].ولكن ما هنا يخالف ما تقدم مخالفة ما فإن قول المشركين للرسول عليه الصلاة والسلام {درست} لا يناسب أن يكون علة لتصريف الآيات، فتعين أن تكون اللام مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالتي في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} بالقصص: 8].المعنى فكان لهم عدوا.وكذلك هنا، أي نصرف الآيات مثل هذا التصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدراسة والتعليم فيقولوا: درست.والمعنى: أنا نصرف الآيات ونبينها تبيينا من شأنه أن يصدر من العالم الذي درس العلم فيقول المشركون درست هذا وتلقيته من العلماء والكتب، لإعراضهم عن النظر الصحيح الموصل إلى أن صدور مثل هذا التبيين من رجل يعلمونه أميا لا يكون إلا من قبل وحي من الله إليه، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]وهم قد قالوا ذلك من قبل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات، فشبه ترتب قولهم على التصريف بترتب العلة الغائية، واستعير لهذا المعنى الحرف الموضوع للعلة على وجه الاستعارة التبعية، ولذلك سمى بعض النحويين مثل هذه اللام لام الصيرورة، وليس مرادهم أن الصيرورة معنى من معاني اللام ولكنه إفصاح عن حاصل المعنى.
والدراسة: القراءة بتمهل للحفظ أو للفهم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} في سورة آل عمران[79].وفعله من باب نصر.يقال: درس الكتاب، أي تعلم.وقد تقدم في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، وقال: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169].وسمي بيت تعلم اليهود المدراس، وسمي
(6/257)

البيت الذي يسكنه التلامذة ويتعلمون فيه المدرسة.والمعنى يقولون: تعلمت، طعنا في أمية الرسول عليه الصلاة والسلام لئلا يلزمهم أن ما جاء به من ا لعلم وحي من الله تعالى.
وقرأ الجمهور {دَرَسْتَ} بدون ألف وبفتح التاءـ.وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو"دَارَسْتَ"ـ على صيغة المفاعلة وبفتح التاء ـأي يقولون: قرأت وقرئ عليك، أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم في عملهم.وقرأه ابن عامر ويعقوب"دَرَسَتْ"ـ بصيغة الماضي وتاء التأنيث ـأي الآيات، أي تكررت.
وأما اللام في قوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فهي لام التعليل الحقيقية.
وضمير {نبينه} عائد إلى القرآن لأنه ما صدق {الآيات} ، ولأنه معلوم من السياق.
والقوم هم الذين اهتدوا وآمنوا كما تقدم في قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97]، والكلام تعريض كما تقدم.
والمعنى أن هذا التصريف حصل منه هدى للموفقين ومكابرة للمخاذيل، كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
[106ـ107] {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
استئناف في خطاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم، فابتداؤه بالأمر باتباع ما أوحي إليه يتنزل منزلة المقدمة للأمر بالإعراض عن المشركين، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام، لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه؛ فالمقصود من الأمر الدوام على اتباعه.والمعنى: أعرض عن المشركين اتباعا لما أنزل إليك من ربك.والمراد بما أوحي إليه القرآن.
والاتباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي، ثم استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100].ثم استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار، ويتعدى فعله إلى ذات المتبع فيقال: اتبعت فلانا بهذه
(6/258)

المعاني الثلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأن الاتباع لا يتعلق بالذات.
وإطلاق الاتباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنه جاء بالأمر والنهي وأمر الناس باتباعه، واستعمل أيضا في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل، لأن من يتبع أحدا يلازمه.ومنه سمي الرئي من الجن في خرافات العرب تابعة، ومنه سمى من لازم الصحابي وروى عنه تابعيا.
فيجوز أن يكون الاتباع في الآية مرادا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم، فالاتباع المأمور به اتباع في شيء مخصوص، وهذا مأمور به غير مرة، فالأمر بالفعل مستمر في الأمر بالدوام عليه.
ويجوز أن يكون أمرا بملازمة الدعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لين ولا هوادة حتى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إياه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرص على إيمانهم واعتقاد أن محاولة إيمانهم لا جدو لها.فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطابا للمشركين، أو أمرا بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك، فيكون الكلام شدا لساعد النبي صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله، وهذا هو المناسب لقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108]كما سنبينه.وقد تقدم شيء من هذا آنفا عند قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50].وليس المراد من الأمر بالاتباع الأمر باتباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقا، لأنه لا مناسبة له بهذا السياق، وفي الإتيان بلفظ {ربك} دون اسم الجلالة تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتلطف معه.
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معترضة، والمقصود منها إدماج التذكير بالوحدانية لزيادة تقرها وإغاظة المشركين.
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم، فإن الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدعوة لأي صنف من الناس، وكل آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم، ألا ترى كل آية من هذه الآيات قد تلتها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشرك كقوله تعالى في سورة النساء[63] {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} وقد تقدم.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} عطف على جملة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .
(6/259)

وهذا تلطف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشرك وقلة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم، فذكره الله بأن الله قادر على أن يحول قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ولكن الله أراد أن يحصل الإيمان ممن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليميز الله الخبيث من الطيب وتظهر مراتب النفوس في ميادين التلقي، فأراد الله أن تختلف النفوس في الخير والشر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيات الخلقة والخلق والنشأة والقبول، وعن مراتب اتصال العباد بخالقهم ورجائهم منه.فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتبة خلقية، وخلقية، واجتماعية، تهيأت في أزمنة وأحوال هيأتها لهم، فلما بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضلال وعراقتهم فيه، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه، ولم يجعل الله إيمان الناس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة، ولذلك رد الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]الآية.وفي قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]في سورة الزخرف1، لأن هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الذين لم يشأ الله أن يرشدهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب"لو"على الطريقة المعروفة.والتقدير: ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا.وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} في هذه السورة[35].
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأن ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكسارا كأنه انكسار من عهد إليه بعمل فلم يتسن له ما يريده من حسن القيام، فذكره الله تعالى بأنه قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة وأنه لم يبعثه مكرها لهم ليأتي بهم مسلمين، وإنما بعثه مبلغا
ـــــــ
1في المطبوعة: "فصلت" وهو خطأ.
(6/260)

لرسالته فمن آمن فلنفسه ومن كفر فعليها.
والحفيظ: القيم الرقيب، أي لم نجعلك رقيبا على تحصيل إيمانهم فلا يهمنك إعراضهم عنك وعدم تحصيل ما دعوتهم إليه إذ لا تبعة عليك في ذلك، فالخبر مسوق مساق التذكير والتسلية، لا مساق الإفادة لان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الله ما جعله حفيظا على تحصيل إسلامهم إذ لا يجهل الرسول ما كلف به.
وكذلك قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} تهوين على نفس الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة التذكير لينتفي عنه الغم الحاصل له من عدم إيمانهم.
فإن أريد ما أنت بوكيل منا عليهم كان تتميما لقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ1 عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ؛ وإن أريد ما أنت بوكيل منهم على تحصيل نفعهم كان استيعابا لنفي أسباب التبعة عنه في عدم إيمانهم، يقول: ما أنت بوكيل عليهم وكلوك لتحصيل منافعهم كإيفاء الوكيل بما وكله عليه موكله، أي فلا تبعة عليك منهم ولا تقصير لانتفاء سببي التقصير إذ ليس مقامك مقام حفيظ ولا وكيل.فالخبر أيضا مستعمل في التذكير بلازمه لا في حقيقته من إفادة المخبر به، وعلى كلا المعنيين لا بد من تقدير مضاف في قوله: {عليهم} ، أي على نفعهم.
والجمع بين الحفيظ والوكيل هنا في خبرين يؤيد ما قلناه آنفا في قوله تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].من الفرق بين الوكيل والحفيظ فاذكره.
[108] {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
عطف على قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]يزيد معنى الإعراض المأمور به بيانا، ويحقق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدوام على متابعة الدعوة بالقرآن، فإن النهي عن سب أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنب المسلمين سب ما يدعونهم من دون الله.
والسب: كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة، بالباطل أو بالحق، وهو مرادف الشتم.وليس من السب النسبة إلى خطإ في الرأي أو العمل، ولا
ـــــــ
1 في المطبوعة: "أرسلناك".
(6/261)

النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين.
والمخاطب بهذا النهي المسلمون لا الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول لم يكن فحاشا ولا سبابا لأن خلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الذي ينزله، وإنما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربما تجاوزوا الحد ففرطت منهم فرطات سبوا فيها أصنام المشركين.
روى الطبري عن قتادة قال: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم".وهذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفقه بنظم الآية.وأما ما روى الطبري عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98]قال المشركون: "لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك ، فنزلت هذه الآية في ذلك"، فهو ضعيف لأن علي بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عباس.ومن البعيد أن يكون ذلك المراد من النهي في هذه الآية، لأن ذلك واقع في القرآن فلا يناسب أن ينهى عنه بلفظ {ولا تسبوا} وكان أن يقال: ولا تجهروا بسب الذين يدعون من دون الله مثلا.كما قال في الآية الأخرى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الاسراء: 110].وكذا ما رواه عن السدي أنه لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: "ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته"،فانطلق نفر من سادتهم إلى أبي طالب وقالوا: "أنت سيدنا، وخاطبوه بما راموا، فدعا أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "هؤلاء قومك وبنو عمك يريدون أن تدعهم وآلهتهم ويدعوك وإلهك، وقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك".ولم يقل السدي أن ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنه جعله تفسيرا للآية، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن علي بن أبي طلحة.
قال الفخر: "ههنا إشكالان هما: أن الناس اتفقوا على أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة فكيف يصح أن يقال: إن سبب نزول هذه الآية كذا، وأن الكفار كانوا مقرين بالله تعالى وكانوا يقولون: عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله فكيف يعقل إقدام الكفار على شتم الله تعالى"أهـ.
وأقول: يدفع الإشكال الأول أن سبب النزول ليس يلزم أن يكون مقارنا للنزول فإن السبب قد يتقدم زمانه ثم يشار إليه في الآية النازلة فتكون الآية جوابا عن أقوالهم.وقد أجاب الفخر بمثل هذا عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111]
(6/262)

الآية.ويدفع الإشكال الثاني أن المشركين قالوا لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنهجون إلهك، ومعناه أنهم ينكرون أن الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرحمن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]فهم ينكرون أن الله أمره بذم آلهتهم لأنهم يزعمون أن آلهتهم مقربون عند الله، وإنما يزعمون أن شيطانا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسب الأصنام، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لما فتر الوحي في ابتداء البعثة: ما أرى شيطانه إلا ودعه، وكان ذلك سبب نزول سورة الضحى.
وجواب الفخر عنه: "بأن بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون، أو أن المراد أنهم يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فأجرى الله شتم الرسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]"أهـ.فإن في هذا التأويل بعدا لا داعي إليه.
والوجه في تفسير الآية أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم مما يدل على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} في سورة الأعراف[179].وأما ما عداه من نحو قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فليس من الشتم ولا من السب لأن ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصديا للشتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذم والتعبير لآلهة المشركين، كما روي في"السيرة"أن عروة بن مسعود الثقفي جاء رسولا من أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكان من جملة ما قاله: "وأيم الله لكأني بهؤلاء"يعني المسلمين"قد انكشفوا عنك"، وكان أبو بكر الصديق حاضرا، فقال له أبو بكر: "امصص بظر اللات"إلى آخر الخبر.
ووجه النهي عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل، وينهض به المحق ولا يستطيعه المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما.وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق.على أن سب آلهتهم لما كان يحمي غيظهم ويزيد تصلبهم قد عاد منافيا لمراد الله من الدعوة، فقد قال لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ"وجادلهم بالتي هي أحسن"، وقال لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ"فقولا له قولا لينا"، فصار السب عائقا عن المقصود
(6/263)

من البعثة، فتمحض هذا السب للمفسدة ولم يكن مشوبا بمصلحة.وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إقضاؤه إلى مفسدة لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض.وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا، وتحققا واحتمالا.وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها.
وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ.قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنه إن سب المسلمون أصنامه أو أمور شريعته أن يسب هو الإسلام أو النبي عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم لأنه بمنزلة البعث على المعصية اه.أي على زيادة الكفر.ولسيس من السب إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكن السب أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذمة من سب الله تعالى أو سب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعد سبا وإن تجاوزوا ذلك عد سبا، ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: "ما به كفر وغير ما به كفر".
وقد احتج علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكية، وهو الملقب بمسألة سد الذرائع.قال ابن العربي: "منع الله في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور ولأجل هذا تعلق علماؤنا بهذه الآية في سد الذرائع وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور".وقال في تفسير سورة الأعراف[163] عند قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} : قال علماؤنا: هذه الآية أصل إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك ـ رضي الله عنه ـ وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهماـ مع تبحرهما في الشريعة، وهو كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور"أهـ.وفسر المازري في باب بيوع الآجال من "شرحه للتلقين"سد الذريعة بأنه منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز"أهـ,والمراد: سد ذرائع الفساد، كما أفصح عنه القرافي في "تنقيح الفصول"وفي "الفرق الثامن والخمسين"فقال: "الذريعة: الوسيلة إلى الشيء.ومعنى سد الذرائع حسم مادة وسائل الفساد.وأجمعت الأمة على أن الذرائع ثلاثة أقسام: أحدها: معتبر إجماعا كحفر الآبار في
(6/264)

طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.وثانيها: ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع لخشية الخمر، وكالشركة في سكنى الدور خشية الزنا.وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، فاعتبر مالك ـرضي الله عنه ـ الذريعة فيها وخالفه غيره"أهـ.وعنى بالمخالف الشافعي وأبا حنيفة ـ رضي الله عنهماـ.
وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة الوسائل والمقاصد، فهذه القاعدة شعبة من قاعدة إعطاء الوسيلة حكم المقصد خاصة بوسائل حصول المفسدة.ولا يختلف الفقهاء في اعتبار معنى سد الذرائع في القسم الذي حكى القرافي الإجماع على اعتبار سد الذريعة فيه.وليس لهذه القاعدة عنوان في أصول الحنفية والشافعية، ولا تعرضوا لها بإثبات ولا نفي، ولم يذكرها الغزالي في"المستصفى"في عداد الأصول الموهومة في خاتمة القطب الثاني في أدلة الأحكام.
و {عَدْواً} بفتح العين وسكون الدال وتخفيف الواوـ في قراءة الجمهور، وهو مصدر بمعنى العدوان والظلم، وهو منصوب على المفعولية المطلقة لـ"يسبوا"لأن العدو هنا صفة للسب، فصح أن يحل محله في المفعولية المطلقة بيانا لنوعه.وقرأ يعقوب {عدوا} بضم العين والدال وتشديد الواوـ وهو مصدر كالعدو.
ووصف سبهم بأنه عدو تعريض بأن سب المسلمين أصنام المشركين ليس من الاعتداء، وجعل ذلك السب عدوا سواء كان مرادا به الله أم كان مرادا به من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأن الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر الله تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من ضمير {يسبوا} ، أي عن جهالة، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبه، ويسبونه غير عالمين بأنهم يسبون الله لأنهم يسبون من أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبهم سب الله تعالى لأنه الذي أمره بما جاء به.
ويجوز أن يكون {بِغَيْرِ عِلْمٍ} صفة لـ {عَدْوا} كاشفة، لأن ذلك العدو لا يكون إلا عن غير علم بعظم الجرم الذي اقترفوه، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته.
وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} معناه كتزييننا لهؤلاء سوء عملهم زينا لكل أمة
(6/265)

عملهم، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ـإلى قوله ـ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100ـ108].فإن اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدنيا بعناية أصنامهم.فعلى هذه السنة وبمماثل هذا التزيين زين الله أعمال الأمم الخالية مع الرسل الذين بعثوا فيهم فكانوا يشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربهم الذي بعثهم إليهم، فلما شبه بالمشار إليه تزيينا علم السامع أن ما وقعت إليه افشارة هو من قبيل التزيين.وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطريقة التي في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]ونظائره، لأن ما بعده يتعلق بأحوال غير المتحدث عنهم بل بأحوال أعم من أحوالهم.وفي هذا الكلام تعريض بالتوعد بأن سيحل بمشركي العرب من العذاب مثل ما حل بأولئك في الدنيا.
وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنه خلقهم بعقول يحسن لديها مثل ذلك الفعل، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107].وذلك هو القانون في نظائره.
والتزيين تفعيل من الزين، وهو الحسن، أو من الزينة، وهي ما يتحسن به الشيء.فالتزيين جعل الشيء ذا زينة أو إظهاره زينا أو نسبته إلى الزين.وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزين وإن لم يكن كذلك، فالتفعيل فيه للنسبة مثل التفسيق.وفي قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]بمعنى جعله زينا، فالتفعيل للجعل لأنه حسن في ذاته.
ولما في قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من التعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقب الكلام بـ {ثم} المفيدة الترتيب الرتبي في قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، لأن ما تضمنته الجملة المعطوفة بـ {ثم} أعظم مما تضمنته المعطوف عليها، لأن الوعيد الذي عطفت جملته بـ {ثم} أشد وأنكى فإن عذاب الدنيا زائل غير مؤيد.والمعنى وأعظم من ذلك أنهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم.والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ {ربهم} لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوفون ما يطوفون ثم يقعون في يد مالكهم.
والإنباء: الإعلام، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم.وقد استعمل هنا في لازم
(6/266)

معناه، وهو التوبيخ والعقاب، لأن العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه.والفاء للتفريع عن المرجع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرجوع إليه.
[109] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}
عطفت جملة {وأقسموا} على جملة {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]الآية.والضمير عائد إلى القوم في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]مثل الضمائر التي جاءت بعد تلك الآية ومعنى {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} آية غير القرآن.وهذا إشارة إلى شيء من تعللاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدامغة لهم، كانوا قد تعللوا به في بعض توركهم على الإسلام.فروى الطبري وغيره عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، يزيد بعضهم على بعض: "أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون، أو مثل آية صالح، أو مثل آية عيسى ـ عليهم السلام ـ، وأنهم قالوا لما سمعوا قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]أقسموا أنهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما توعدوا ليوقنن أجمعون، وأن رسول الله عليه ـالصلاة والسلام ـ سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا، حرصا على أن يؤمنوا.فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأن هذه السورة جمعت كثيرا من أحوالهم ومحاجاتهم.
والكلام على قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} هو نحو الكلام على قوله في سورة العقود[53] {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} .والأيمان تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} في سورة البقرة[225].
وجملة {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} إلخ مبينة لجملة {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} .واللام في {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} موطئة للقسم، لأنها تدل على أن الشرط قد جعل شرطا في القسم فتدل على قسم محذوف غالبا، وقد جاءت هنا مع قعل القسم لأنها صارت ملازمة للشرط الواقع جوابا للقسم فلم تنفك عنه مع وجود فعل القسم.واللام في {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} لام القسم، أي لام جوابه.
والمرا بالآية ما اقترحوه على الرسول صلى الله عليه وسلم يعنون بها خارق عادة تدل على أن الله
(6/267)

أجاب مقترحهم ليصدق رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فلذلك نكرت {آية} ، يعني: أية آية كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم.ومجيء الآية مستعار لظهورها لأن الشيء الظاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء.وتقدم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في سورة البقرة[39].
ومعنى كون الآيات عند الله أن الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شبهت بالأمور المدخرة عنده، وأنه إذا شاء إبرزها للناس، فكلمة {عند} هنا مجاز.استعمل اسم المكان الشديد القرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازا مرسلا، لأن الاستئثار من لوازم حالة المكان الشديد القرب عرفا، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59].
والحصر بـ {إنما} رد على المشركين ظنهم بأن الآيات في مقدور النبي صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئا فجعلوا عدم إجابة النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحهم آية أمارة على انتفاء نبوءته، فأمره الله أن يجيب بأن الآيات عند الله لا عند الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، والله أعلم بما يظهره من الآيات.
وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قرأ الأكثر"أنها"ـ بفتح همزة ـ"أن".وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن ابي بكر بكسر همزة"إن".
وقرأ الجمهور {لا يُؤْمِنُونَ} بياء الغيبة ـ.وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف ـ بتاء الخطاب ـ، وعليه فالخطاب للمشركين.
وهذه الجملة عقبة حيرة للمفسرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولنأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها، ثم نعقبه بأقوال المفسرين.فالذي يلوح لي أن الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واو العطف وأن تكون واو الحال.فأما وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} كلام مستقل، وهي كلام مستقل وجهه الله إلى المؤمنين، وليست من القول المأمور به النبي عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} .
والمخاطب بـ {يشعركم} الأظهر أنه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنون،
(6/268)

وذلك على قراءة الجمهور قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} بياء الغيبة ـ.والمخاطب بـ {يشعركم} المشركون على قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف {لا تُؤْمِنُونَ} بتاء الخطاب ـ، وتكون جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} .
{وإما} استفهامية مستعملة في التشكيك والإيقاظ، لئلا يغرهم قسم المشركين ولا تروج عليهم ترهاتهم، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التوبيخ ولا التغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليظهم، إذ لم يثبت أن المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أن يجابوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} وهي في سورة يونس[يونس: 97,96]وهي نازلة قبل سورة الأنعام، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدين وتلونهم في اختلاق المعاذير.والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأن الاستفهام من شأنه أن يهئ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهب لوعي ما يرد بعده.
والإشعار: الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفى ويدق.يقال: شعر فلان بكذا، أي علمه وتفطن له، فالفعل يقتضي متعلقا به بعد مفعوله ويتعين أن قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} هو المتعلق به، فهو على تقدير باء الجر.والتقدير: بأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فحذف الجار مع"أن"المفتوحة حذف مطرد.
وهمزة"أن"مفتوحة في قراءة الجمهور.والمعنى أمشعر يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي بعدم إيمانهم.
فهذا بيان المعنى والتركيب، وإنما العقدة في وجود حرف النفي من قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} لأن {مَا يُشْعِرُكُمْ} بمعنى قولهم: ما يدريكم، ومعتاد الكلام في نظير هذا التركيب أن يجعل متعلق فعل الدراية فيه هو الشيء الذي شأنه أن يظن المخاطب وقوعه، والشيء الذي يظن وقوعه في مثل هذا المقام هو أنهم يؤمنون لأنه الذي يقتضيه قسمهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ} فلما جعل متعلق الشعور نفي إيمانهم كان متعلقا غريبا بحسب العرف في استعمال نظير هذا التركيب.
والذي يقتضيه النظر في خصائص الكلام البليغ وفروقه أن لا يقاس قوله: {وَمَا
(6/269)

يُشْعِرُكُمْ} على ما شاع من قول العرب {مَا يُدْرِيكَ} ، لأن تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتى جرى مجرى المثل باستعمال خاص لا يكادون يخالفونه كما هي سنة الأمثال أن لا تغير عما استعملت فيه، وهو أن يكون اسم "ما"فيه استفهاما إنكاريا، وأن يكون متعلق يدريك هو الأمر الذي ينكره المتكلم على المخاطب.فلو قسنا استعمال {مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} على استعمال"ما يدريكم"لكان وجود حرف النفي منافيا للمقصود، وذلك مثار تردد علماء التفسير والعربية في محمل "لا"في هذه الآية.فأما حين نتطلب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب"ما يدريكم"وإلى إيثار تركيب {مَا يُشْعِرُكُمْ} فإننا نعلم أن ذلك العدول لمراعاة خصوصية في المعدول إليه بأنه تركيب ليس متبعا فيه طريق مخصوص في الاستعمال، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظم في استعمال الأدوات والأفعال ومفاعيلها ومتعلقاتها1.
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التنبيه والتشكيك في الظن، ونحمل فعل {يشعركم} على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العلم، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباته سواء في الفرض الذي اقتضاه الاستفهام، فكان المتكلم بالخيار بين أن يقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن يقول: إنها إذا جاءت يؤمنون.وإنما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنه الطرف الراجح الذي ينبغي اعتماده في هذا الظن.
هذا وجه الفرق بين التركيبين.وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا ينبغي لصاحب علم المعاني غض النظر عنها، وكثيرا ما بين عبد القاهر اصنافا منها فليلحق هذا الفرق بأمثاله.
ـــــــ
1 اعلم أن قولهم ما يدريك له ثلاثة استعمالات.أحدها: أن يكون به"الرد"على المخاطب في ظن يظنه فيقال له ما يدرريك أنه كذا فيجعل متعلق فعل الدراية هو الظن الذي يريد المتكلم رده على المخاطب وهذا الاستعمال يجري فيه تركيب ما يدريك وما أدراك وما تصرف منهما مجرى المثل فلا يغير عن استعماله,ويكون الاستفهام فيه انكاريا,ويلزم أن يكون متعلق الدراية على نحو ظن المخاطب من إثبات أو نفي نحو ما يدريك أنه يفعل وما يدريك أنه لا يفعل.
ثانيها: أن يرد بعد فعل الدراية حرف الرجاء نحو: ما يدريك لعله يزكى,إذا كان المخاطب غافلا عن ظنه وهو الاستعمال اذي على مثله خرج الخليل قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بناء على ترادف فعل يشعركم وفعل يدريكم.ثالثها: نحو وما أدراك ما القارعة,مما وقع بعده"ما"الاستفهامية لقصد التهويل.
(6/270)

وإن أبيت إلا قياس {مَا يُشْعِرُكُمْ} على"ما يدريكم"سواء، كما سلكه المفسرون فاجعل الغالب في استعمال"ما يدريك"هو مقتضى الظاهر في استعمال {مَا يُشْعِرُكُمْ} واجعل تعليق المنفي بالفعل جريا على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب.وأما وجه كون الواو في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} واو الحال فتكون"ما"نكرة موصوفة بجملة {يشعركم} .ومعناها شيء موصوف بأنه يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون.وهذا الشيء هو ما سبق نزوله من القرآن، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97,96]، وكذلك ما جربوه من تلون المشركين في التفصي من ترك دين آبائهم، فتكون الجملة حالا، أي والحال أن القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيمانهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12].وإني لأعجب كيف غاب عن المفسرين هذا الوجه من جعل "ما"نكرة موصوفة في حين أنهم تطرقوا إلى ما هو أغرب من ذلك.
فإذا جعل الخطاب في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} خطابا للمشركين، كان الاستفهام للإنكار والتوبيخ ومتعلق فعل {يشعركم} محذوفا دل عليه قوله: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} .والتقدير: وما يشعركم أننا نأتيكم بآية كما تريدون.
ولا نحتاج إلى تكلفات تكلفها المفسرون، ففي الكشاف: أن المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنوا مجيئها فقال الله تعالى: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، أي أنكم لا تدرون أني أعلم أنهم لا يؤمنون.وهو بناء على جعل {مَا يُشْعِرُكُمْ} مساويا في الاستعمال لقولهم: {مَا يُدْرِيكَ} .
وروى سيبويه عن الخليل: أن قوله تعالى: {أنها} معناه لعلها، أي لعل آية إذا جاءت لا يؤمنون بها.وقال: تأتى"أن"بمعنى لعل، يريد ان في لعل لغة تقول: لأن، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الاخيرة نونا، وأنهم قد يحذفون اللام الاولى تخفيفا كما يحذفونها في قولهم: علك أن تفعل، فتصير"أن"أي "لعل".وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللغة، وأنشدوا أبياتا.
وعن الفراء، والكسائي، وأبي علي الفارسي: أن"لا"زائدة، كما ادعوا زيادتها في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الانبياء: 95].
وذكر ابن عطية: "أن أبا علي الفارسي جعل {أنها} تعليلا لقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} أي لا
(6/271)

يأتيهم بها لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي على أن يكون {عند} كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه.
وعلى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبي بكر، في إحدى روايتين عنه {إنها} بكسر الهمزةـ يكون استئنافا.وحذف متعلق {يشعركم} لظهوره من قوله: {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} .والتقدير: وما يشعركم بإيمانهم إنهم لا يؤمنون إذا جاءت آية.
وعلى قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف ـ بتاء المخاطب ـ.فتوجيه قراءة خلف الذي قرأ"إنها"ـ بكسر الهمزة ـ، أن تكون جملة {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ} الخ خطابا موجها إلى المشركين.وأما على قراءة ابن عامر وحمزة اللذين قرآ {أنها} بفتح الهمزة ـ بأن يجعل ضمير الخطاب في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} موجها إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على {يشعركم} .
[110] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]فتكون بيانا لقوله: {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]أي بأن نعطل أبصارهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصرون ما تحتوى عليه الآية من الدلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدلالة فيتعطل تصديقهم بها، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم، وذلك أنهم قد خلقت عقولهم نابية عن العلم الصحيح بما هيأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين، ومن نشأتها بين أهل الضلال وتلقي ضلالتهم، كما بينته آنفا.فعبر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السليمة بأنه تقليب لعقولهم وأبصارهم، ولأنها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السليمة، وليس داعي الشرك فيها تقليبا عن حالة كانت صالحة لأنها لم تكن كذلك حينا، ولكنه تقليب لأنها جاءت على خلاف ما الشأن أن تجيء عليه.
وضمير {به} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} [الأنعام: 109]فإنهم عنوا آية غير القرآن.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية مما اقترحوا.والمعنى ونقلب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية التي تجيئهم مثلما لم يؤمنوا بالقرآن من قبل، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في
(6/272)

الدنيا، وهو الخذلان.
ويجوز أن تكون جملة {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} مستأنفة والواو للاستئناف، أو أن تكون معطوفة على جملة {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].والمعنى: ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم، أي في نار جهنم، كناية عن تقليب أجسادهم كلها.وخص من أجسادهم أفئدتهم وأبصارهم لأنها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات، كقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، أي سحروا الناس بما تخيله لهم أعينهم.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} على هذا الوجه للتعليل كقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
وأقول: هذا الوجه يناكده قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} إذ ليس ثمة مرتان على هذا الوجه الثاني، فيتعين تأويل {أَوَّلَ مَرَّةٍ} بأنها الحياة الاولى في الدنيا.
والتقليب مصدر قلب الدال على شدة قلب الشيء عن حاله الأصلية.والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42]، وقولهم: قلب ظهر المجن، وقريب منه قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدها لأنه يشبه قلب ذات الشيء.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} الظاهر أنها للتشبيه في محل حال من ضمير {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، و"ما"مصدرية.والمعنى: لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أول مرة.والضمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنه معلوم من السياق كما في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، أي أن المكابرة سجيتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لا يؤمنون في المستقبل بآية أخرى إذا جاءتهم.وعلى هذا الوجه يكون قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} معترضا بالعطف بين الحال وصاحبها.ويجوز أن يجعل التشبيه للتقليب فيكون حالا من الضمير في {نقلب} ، أي نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلبناها فلم يؤمنوا به أول مرة إذ جمحوا عن الإيمان أول ما دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام، ويصير هذا التشبيه في قوة البيان للتقليب المجعول حالا من انتفاء إيمانهم بأن سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائما لأن الله حرمهم إصلاح قلوبهم.
وجوز بعض المفسرين أن تكون الكاف للتعليل على القول بأنه من معانيها، وخرج
(6/273)

عليه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].فالمعنى: نقلب أفئدتهم لأنهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أول ما تحداهم، فنجعل أفئدتهم وأبصارهم مستمرة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله، واستخفافهم بالمبادرة إلى التكذيب قبل التأمل الصادق.
وتقديم الأفئدة على الأبصار لأن الأفئدة بمعنى العقول، وهي محل الدواعي والصوارف، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجه الحواس إلى الأشياء وتأمل منها.والظاهر أن وجه الجمع بين الأفئده والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأن الأفئدة تختص بإدراك الآيات العقلية المحضة، مثل آية الأمية وآية الإعجاز.ولما لم تكفهم الآيات العقلية ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنها مقلبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئية مبصرة، كأن يرقى في السماء وينزل عليهم كتابا في قرطاس، وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنهم لو جاءتهم آية مبصرة لما آمنوا لأن أبصارهم مقلبة أيضا مثل تقليب عقولهم.
وذكر {أول} مع أنه مضاف إلى {مرة} إضافة الصفة إلى الموصوف لأن أصل"أول"اسم تفضيل.واسم التفضيل إذا أضيف إلى النكرة تعين فيه الإفراد والتذكير، كما تقول: خديجة أول النساء إيمانا ولا تقول أولى النساء.
والمراد بالمرة مرة من مرتي مجيء الآيات، فالمرة الأولى هي مجيء القرآن، والمرة الثانية هي مجيء الآية المقترحة، وهي مرة مفروضة.
{ونذرهم} عطف على {نقلب} .فحقق أن معنى {نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} نتركها على انقلابها الذي خلقت عليه، فكانت مملوءة طغيانا ومكابرة للحق، وكانت تصرف أبصارهم عن النظر والاستدلال، ولذلك أضاف الطغيان إلى ضميرهم للدلالة على تأصله فيهم ونشأتهم عليه وأنهم حرموا لين الأفئدة الذي تنشأ عنه الخشية والذكرى.
والطغيان والعمه تقدما عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة[15].
والظرفية من قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ} مجازية للدلالة على إحاطة الطغيان بهم، أي بقلوبهم.وجملة {ونذرهم} معطوفة على {نقلب} .وجملة {يعمهون} حال من الضمير المنصوب في قوله: {ونذرهم} .وفيه تنبيه على أن العمه ناشئ عن الطغيان.
(6/274)

المجلد السابع
تابع سورة الأنعام
...
بسم الله الرحمن الرحيم
[111] {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
جملة {وَلَوْ أَنَّنَا} معطوفة على جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] باعتبار كون جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} عطفا على جملة {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109]، فتكون ثلاثتها ردا على مضمون جملة {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ} [الأنعام: 109] آية إلخ، وبيانا لجملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].
روي عن ابن عباس: أن المستهزئين، الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، من أهل مكة. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون لك أو ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم: أحق ما تقول، وقيل: إن المشركين قالوا: لا نؤمن لك حتى يحشر قصي فيخبرنا بصدقك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا" فنزل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} للرد عليهم. وحكى الله عنهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 90-92] في سورة الإسراء. وذكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم، لأنهم اقترحوا ذلك.
وقوله {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} يشير إلى مجموع ما سألوه وغيره. والحشر: الجمع، ومنه {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17]. وضمن معنى البعث والإرسال فعدي بعلى كما قال تعالى {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5]. {وَكُلُّ شَيْءٍ} يعم الموجودات كلها. لكن المقام يخصصه بكل شيء مما سألوه، أو من جنس خوارق العادات والآيات، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى، في ريح عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الاحقاف: 25] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى}.
وقوله {قُبُلاً} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء، وهو
(7/5)

بمعنى المقابلة والمواجهة، أي حشرنا كل شيء من ذلك عيانا. وقرأه الباقون بضم القاف والباء وهو لغة في قبل بمعنى المواجهة والمعاينة؛ وتأولها بعض المفسرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال، وغير مناسبة للمعنى.
و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} هو أشد من {لا يُؤْمِنُونَ} تقوية لنفي إيمانهم، مع ذلك كله، لأنهم معاندون مكابرون غير طالبين للحق، لأنهم لو طلبوا الحق بإنصاف لكفتهم معجزة القرآن، إن لم يكفهم وضوح الحق فيما يدعو إليه الرسول عليه الصلاة والسلام. فالمعنى: الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن، فكيف إذا لم يكن ذلك. والمقصود انتفاء إيمانهم أبدا.
{وَلَوْ} هذه هي المسماة {وَلَوْ} الصهيبية، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في سورة الأنفال [23].
وقوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء من عموم الأحوال التي تضمنها عموم نفي إيمانهم، فالتقدير: إلا بمشيئة الله، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعا، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أراد الله ذلك بفتح مكة وما بعده. ففي قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} تعريض بوعد المسلمين بذلك، وحذفت الباء مع "أَن".
ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار: لأن اسم الجلالة يومئ إلى مقام الإطلاق وهو مقام {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، ويومئ إلى أن ذلك جرى على حسب الحكمة لأن اسم الجلالة يتضمن جميع صفات الكمال.
والاستدراك بقوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} راجع إلى قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} المقتضي أنهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم: ذلك أنهم ما سألوا الآيات إلا لتوجيه بقائهم على دينهم، فإنهم كانوا مصممين على نبذ دعوة الإيمان، وإنما يتعللون بالعلل بطلب الآيات استهزاء، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال، فبين الله لهم أنه إذا شاء إيمانهم آمنوا. فالجهل على هذا المعنى: هو ضد العلم. وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} من أن ذلك سيكون، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية. وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدل على أن منهم عقلاء يحسبون ذلك.
ويجوز أن يكون الاستدراك راجعا إلى ما تضمنه الشرط وجوابه: من انتفاء إيمانهم
(7/6)

مع إظهار الآيات لهم، أي لا يؤمنون، ويزيدهم ذلك جهلا على جهلهم، فيكون المراد بالجهل ضد الحلم، لأنهم مستهزئون، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنهم يرجى إيمانهم، لو ظهرت لهم الآيات، وبهذا التفسير يظهر موقع الاستدراك.
فضمير {يَجْهَلُونَ} عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضمائر التي قبله.
[112] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.
اعتراض قصد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والواو واو الاعتراض، لأن الجملة بمنزلة الفذلكة، وتكون للرسول صلى الله عليه وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه، وتصلبهم في نبذ دعوته، فأنبأه الله: بأن هؤلاء أعداؤه، وأن عداوة أمثالهم لمثله سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلهم، فما منهم أحد إلا كان له أعداء، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبي عليه الصلاة والسلام بدعا من شأن الرسل. فمعنى الكلام: ألست نبيا وقد جعلنا لكل نبي عدوا إلى آخره.
والإشارة بقوله {وَكَذَلِكَ} إلى الجعل المأخوذ من فعل {جَعَلْنَا} كما تقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]. فالكاف في محل نصب على أنه مفعول مطلق لفعل {جَعَلْنَا}.
وقوله {عَدُوّاً} مفعول {جَعَلْنَا} الأول، وقوله {لِكُلِّ نَبِيٍّ} المجرور مفعول ثان ل {جَعَلْنَا} وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به، لأنه الغرض المقصود من السياق، إذ المقصود الإعلام بأن هذه سنة الله في أنبيائه كلهم، فيحصل بذلك التأسي والقدوة والتسلية؛ ولأن في تقديمه تنبيها من أول السمع على أنه خبر، وأنه ليس متعلقا بقوله {عَدُوّاً} كيلا يخال السامع أن قوله {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ} مفعول لأنه يحول الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشياطين، أو عن تعيين العدو للأنبياء من هو، وذلك ينافي بلاغة الكلام.
و {شَيَاطِينَ} بدل من {عَدُوّاً} وإنما صيغ التركيب هكذا: لأن المقصود الأول الإخبار بأن المشركين أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعرب {شَيَاطِينَ} مفعولا ل {جَعَلَ} و {لِكُلِّ نَبِيٍّ} ظرفا لغوا متعلقا بـ {عَدُوّاً} فقد أفسد المعنى.
(7/7)

والعدو: اسم يقع على الواحد والمتعدد، قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
والشيطان أصله نوع من الموجودات المجردة الخفية، وهو نوع من جنس الجن، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] ويطلق الشيطان على المضلل الذي يفعل الخبائث من الناس على وجه المجاز. ومنه شياطين العرب لجماعة من خباثهم، منهم: ناشب الأعور، وابنه سعد بن ناشب الشاعر، وهذا على معنى التشبيه، وشاع ذلك في كلامهم.
والإنس: الإنسان وهو مشتق من التأنس والإلف، لأن البشر يألف بالبشر ويأنس به، فسماه إنسا وإنسانا.
و"شياطين الإنس" استعارة للناس الذين يفعلون فعل الشياطين: من مكر وخديعة. وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير "من" التبعيضية مجازا، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين، فهم شياطين، وهم بعض الإنس، أي أن الإنس: لهم أفراد متعارفة، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشياطين، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخص من وجه إلى الأعم من وجه، وشياطين الجن حقيقة، والإضافة حقيقية، لأن الجن منهم شياطين، ومنهم غير شياطين، ومنهم صالحون، وعداوة شياطين الجن للأنبياء ظاهرة، وما جاءت الأنبياء إلا للتحذير من فعل الشياطين، وقد قال الله تعالى لآدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117].
وجملة {يُوحِي} في موضع الحال، يتقيد بها الجعل المأخوذ من {جَعَلْنَا} فهذا الوحي من تمام المجعول.
والوحي: الكلام الخفي، كالوسوسة، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النفس من حديث يزور في صورة الكلام.والبعض الموحي: هو شياطين الجن، يلقون خواطر المقدرة على تعليم الشر إلى شياطين الإنس، فيكونون زعماء لأهل الشر والفساد.
والزخرف: الزينة، وسمي الذهب زخرفا لأنه يتزين به حليا، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي القول الزخرف: أي المزخرف، وهو من الوصف بالجامد الذي في معنى المشتق، إذ كان بمعنى الزين. وأفهم وصف القول
(7/8)

بالزخرف أنه محتاج إلى التحسين والزخرفة، وإنما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حد ذاته، وذلك أنه كان يفضي إلى ضر يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضر، خشية أن ينفر عنه من يسوله لهم، فذلك التزيين ترويج يستهوون به النفوس، كما تموه للصبيان اللعب بالألوان والتذهيب.
وانتصب {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} على النيابة عن المفعول المطلق من فعل {يُوحِي} لأن إضافة الزخرف إلى القول، الذي هو من نوع الوحي، تجعل {زُخْرُفَ} نائبا عن المصدر المبين لنوع الوحي.
والغرور: الخداع والإطماع بالنفع لقصد الإضرار، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران [196]. وانتصب {غُرُوراً} على المفعول لأجله لفعل {يُوحِي} ، أي يوحون زخرف القول ليغروهم.
والقول في معنى المشيئة من قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} كالقول في {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه.
والضمير المنصوب في قوله {فَعَلُوهُ} عائد إلى الوحي. المأخوذ من {يُوحِي} أو إلى الإشراك المتقدم في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] أو إلى العداوة المأخوذة من قوله: {لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً}
والضمير المرفوع عائد إلى {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ}، أو إلى المشركين، أو إلى العدو، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءهم، وهو ترك إعراض عن الاهتمام بغرورهم، والنكد منه، لا إعراض عن وعظهم ودعوتهم، كما تقدم في قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} والواو بمعنى مع.
{وَمَا يَفْتَرُونَ} موصول منصوب على المفعول معه. وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة.
[113] {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.
عطف قوله: {وَلِتَصْغَى} على {غُرُوراً} لأن {غُرُوراً} في معنى
(7/9)

ليغروهم. واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر، أي ولصغي، أي ميل قلوبهم إلى وحيهم. فتقوم عليهم الحجة. ومعنى {تَصْغَى} تميل، يقال: صغى يصغى صغيا، ويصغو صغوا بالياء وبالواو ووردت الآية على اعتباره بالياء لأنه رسم في المصحف بصورة الياء. وحقيقته الميل الحسي؛ يقال: صغى، أي مال، وأصغى أمال. وفي حديث الهرة: أنه أصغى إليها الإناء، ومنه أطلق: أصغى بمعنى استمع، لأن أصله أمال سمعه أو أذنه، ثم حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وهو هنا مجاز في الإتباع وقبول القول.
والذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون وخص من صفات المشركين عدم إيمانهم بالآخرة، فعرفوا بهذه الصلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشياطين لهم. وهذا الوصف أكبر ما أضر بهم، إذ كانوا بسببه لا يتوخون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلب الخير، بل يتبعون أهواءهم وما يزين لهم من شهواتهم، معرضين عما في خلال ذلك من المفاسد والكفر، إذ لا يترقبون جزاء عن الخير والشر، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشياطين، ولا تصغى إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين.
وعطف {وَلِيَرْضَوْهُ} على {وَلِتَصْغَى} وإن كان الصغي يقتضي الرضى ويسببه، فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرر لام التعليل، فخولف مقتضى الظاهر، للدلالة على استقلاله بالتعليل، فعطف بالواو وأعيدت اللام لتأكيد الاستقلال، فيدل على أن صغي أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلا لأنهم رضوه.
وعطف {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} على {وَلِيَرْضَوْهُ} كعطف {وَلِيَرْضَوْهُ} على {وَلِتَصْغَى}.
والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة، قال تعالى بعد هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] فذكر هنالك لـ {يَكْسِبُونَ} مفعولا لأن الكسب يعم الخير والشر، ولم يذكر هنا لـ {يَقْتَرِفُونَ} مفعولا لأنه لا يكون إلا اكتساب الشر، ولم يقل: سيجزون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم. يقال: قرف واقترف وقارف. وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم. وحكوا أنه يقال: قرف فلان لعياله، أي كسب، ولا أحسبه صحيحا.
وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسمية في قوله {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} للدلالة على تمكنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه.
(7/10)

[114] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السياق كما في قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] أي يقولون، وقوله المتقدم آنفا {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين. وتكذيبهم وتعنتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكما بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركهم وما يفترون، وأعلمه بأنه ما كلفه أن يكون وكيلا لإيمانهم، وبأنهم سيرجعون إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كله لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطابا كالجواب عن أقوالهم وتوركاتهم، فيفرع عليها أنه لا يطلب حاكما بينه وبينهم غير الله تعالى الذي إليه مرجعهم، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكرا، فتقدير القول متعين لأن الكلام لا يناسب إلا أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام.
والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقترحاتهم، فهو من عطف التلقين بالفاء، كما جاء بالواو في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر[64] {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} فكأن المشركين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات، فأجابهم بأنه لا يضع دين الله للتحاكم، ولذلك وقع الإنكار أن يحكم غير الله تعالى، مع أن حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصلا بالحق، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم. ومن موجبات التقديم كون المقدم يتضمن جوابا لرد طلب طلبه المخاطب، كما أشار إليه صاحب الكشاف في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 164] في هذه السورة. والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي ظننتم ذلك فقد ظننتم منكرا.
وتقديم {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} على {أَبْتَغِي} لأن المفعول هو محل الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في هذه السورة [14].
والحكم: الحاكم المتخصص بالحكم الذي لا ينقض حكمه، فهو أخص من
(7/11)

الحاكم، ولذلك كان من أسمائه تعالى: الحكم، ولم يكن منها: الحاكم. وانتصب {حَكَماً} على الحال.
والمعنى: لا أطلب حكما بيني وبينكم غير الله الذي حكم حكمه عليكم بأنكم أعداء مقترفون.
وتقدم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران [83].
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التحاكم إليه. وقد فصل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبروه فتعلموا منه صدقي، وأن القرآن من عند الله. وقد صيغت جملة الحال على الاسمية المعرفة الجزأين لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر. فالمعنى: والحال أنه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره، ونكتة ذلك أن في القرآن دلالة على أنه من عند الله بما فيه من الإعجاز، وبأمية المنزل عليه. وأن فيه دلالة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام تبعا لثبوت كونه منزلا من عند الله، فإنه قد أخبر أنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به، فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدلالة على الأمرين: أنه من عند الله، والحكم للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق.
والمراد بالكتاب القرآن، والتعريف للعهد الحضوري، والضمير في {إِلَيْكُمُ} خطاب للمشركين، فإن القرآن أنزل إلى الناس كلهم للاهتداء به، فكما قال الله: {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] وفي قوله: {إِلَيْكُمُ} هنا تسجيل عليهم بأنه قد بلغهم فلا يستطيعون تجاهلا.
والمفصل المبين: وقد تقدم ذكر التفصيل عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في هذه السورة [55].
وجملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} معطوفة على القول المحذوف، فتكون استئنافا مثله، أو معطوفة على جملة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي} أو على جملة {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} فهو عطف تلقين عطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام
(7/12)

المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كون القرآن حقا، وأنه من عند الله.
والمراد بالذين آتاهم الله الكتاب: أحبار اليهود، لأن الكتاب هو التوراة المعروف عند عامة العرب، وخاصة أهل مكة، لتردد اليهود عليها في التجارة. ولتردد أهل مكة على منازل اليهود بيثرب وقراها. ولكون المقصود بهذا الحكم أحبار اليهود خاصة قال: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ولم يقل: أهل الكتاب.
ومعنى علم الذين أوتوا الكتاب بأن القرآن منزل من الله: أنهم يجدونه مصدقا لما في كتابهم، وهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرس كتابهم على أحد منهم، إذ لو درسه لشاع أمره بينهم، ولأعلنوا ذلك بين الناس حين ظهور دعوته، وهم أحرص على ذلك، ولم يدعوه. وعلمهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأن العناد والحسد يصدانهم عن ذلك. وقيل: المراد بالذين آتاهم الله الكتاب: من أسلموا من أحبار اليهود، مثل عبد الله بن سلام، ومخيريق، فيكون الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} لعهد. وعن عطاء: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}. هم رؤساء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فيكون الكتاب هو القرآن.
وضمير {أَنَّهُ} عائد إلى الكتاب الذي في قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} وهو القرآن.
والباء في قوله {بِالْحَقِّ} للملابسة، أي ملابسا للحق، وهي ملابسة الدال للمدلول، لأن معانيه، وأخباره، ووعده، ووعيده، وكل ما اشتمل عليه، حق.
وقرأ الجمهور {مُنَزَّلٌ} بتخفيف الزاي. وقرأ ابن عامر وحفص بالتشديد والمعنى متقارب أو متحد، كما تقدم في قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} في أول سورة آل عمران [3].
والخطاب في قوله {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون التفريع على قوله: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي فلا تكن من الممترين في أنهم يعلمون ذلك، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر: هذا ما لا شك فيه، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، لأن غريبا اجتماع علمهم وكفرهم به، ويجوز أن يكون خطابا لغير معين، ليعم كل من يحتاج إلى
(7/13)

مثل هذا الخطاب، أي فلا تكونن أيها السامع من الممترين، أي الشاكين في كون القرآن من عند الله، فيكون التفريع على قوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي فهذا أمر قد اتضح، فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، والمقصود من الكلام المشركون الممترون، على طريقة التعريض، كما يقال: إياك أعني واسمعي يا جارة. ومنه قوله تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، والتفريع فيه كما في الوجه الثاني.
وعلى كل الوجوه كان حذف متعلق الامتراء لظهوره من المقام تعويلا على القرينة، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثلاثة غير متعارضة، صح أن يكون جميعها مقصودا من الآية، لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصل إليه منها. وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع، ويجيء مثله في آيات كثيرة، وهو من خصائص القرآن.
[115] {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
هذه الجملة معطوفة على جملة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: 114] لأن تلك الجملة مقول قول مقدر، إذ التقدير: قل أفغير الله أبتغي حكما باعتبار ما في تلك الجملة من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114] فلما وصف الكتاب بأنه منزل من الله، ووصف بوضوح الدلالة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114] ثم بشهادة علماء أهل الكتاب بأنه من عند الله بقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114]، أعلم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن هذا الكتاب تام الدلالة، ناهض الحجة، على كل فريق: من مؤمن وكافر، صادق وعده ووعيده، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة: {وجَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} وما بينهما اعتراض، كما سنبينه.
والمراد بالتمام معنى مجازي: إما بمعنى بلوغ الشيء إلى أحسن ما يبلغه مما يراد منه، فإن التمام حقيقته كون الشيء وافرا أجزاءه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصفات التي تراد من نوعه؛ وإما بمعنى التحقق فقد يطلق التمام على حصول المنتظر وتحققه، يقال: تم ما اخبر به فلان، ويقال: أتم وعدهن أي حققه، ومنه
(7/14)

قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] أي عمل بهن دون تقصير ولا ترخص، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] أي ظهر وعده لهم بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أي محقق دينه ومثبته، لأنه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازا أيضا.
وقوله {كَلِمَاتٍ رَبُّكَ} قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: كلمة بالإفراد فقيل: المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن، وهو قول جمهور المفسرين ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعل الجملة معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114]. فأما على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله، والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العرب: كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن الكلمات على الكتب السماوية في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] أي كتبه. وأما على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات، أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أن كل غرض جاء في القرآن فقد جاء وافيا بما يتطلبه القاصد منه. واستبعد ابن عطية أن يكون المراد من {كَلِمَاتٍ رَبُّكَ} بالجمع أو الإفراد القرآن واستظهر أن المراد منها: قول الله، أي نفذ قوله وحكمه. وقريب منه ما أثر عن ابن عباس أنه قال: كلمات الله وعده. وقيل: كلمات الله: أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وفسر به في الكشاف، وهو قريب من كلام ابن عطية، لكن السياق يشهد بأن تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.
وانتصب {صِدْقاً وَعَدْلاً} على الحال، عند أبي علي الفارسي، بتأويل المصدر باسم الفاعل، أي صادقة وعادلة، فهو حال من {كَلِمَاتٍ} وهو المناسب لكون التمام بمعنى التحقق. وجعلهما الطبري منصوبين على التمييز، أي تمييز النسبة، أي تمت من جهة الصدق والعدل، فكأنه قال: تم صدقها وعدلها، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشيء أحسن ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطية: هذا غير صواب. وقلت: لا وجه لعدم تصويبه.
والصدق: المطابقة للواقع في الإخبار، وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد، والنفوذ
(7/15)

في الأمر والنهي، فيشمل الصدق كلما ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق. ويطلق الصدق مجازا على كون الشيء كاملا في خصائص نوعه.
والعدل: إعطاء من يستحق ما يستحق، ودفع الاعتداء والظلم على المظلوم، وتدبير أمور الناس بما فيه صلاحهم. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} في سورة النساء [58]. فيشمل العدل كل ما في كلمات الله: من تدبير شؤون الخلائق في الدنيا والآخرة.
فعلى التفسير الأول للكلمات أو الكلمة، يكون المعنى: أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب: في وضوح الدلالة، وبلاغة العبارة، وأنه الصادق في أخباره، العادل في أحكامه، لا يعثر في أخباره على ما يخالف الواقع، ولا في أحكامه على ما يخالف الحق؛ فذلك ضرب من التحدي والاحتجاج على أحقية القرآن. وعلى التفسيرين الثاني والثالث، يكون المعنى: نفذ ما قاله الله، وما وعد وأوعد، وما أمر ونهى، صادقا ذلك كله، أي غير متخلف، وعادلا، أي غير جائر. وهذا تهديد للمشركين بأن سيحق عليهم الوعيد، الذي توعدهم به، فيكون كقوله تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] أي تم ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها، وقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6] أي حقت كلمات وعيده.
ومعنى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} نفي جنس من يبدل كلمات الله، أي من يبطل ما أراده في كلماته.
والتبديل تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} من سورة البقرة [61]، وتقدم هناك بيان أنه لا يوجد له فعل مجرد، وأن أصل مادته هو التبديل.
والتبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر، فيكون في الذوات كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [ابراهيم: 48] وقال النابغة:
عهدت بها حيا كراما فبدلت ... خناظيل آجال النعاج الجوافل
ويكون في الصفات كقوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55].
ويستعمل مجازا في إبطال الشيء ونقضه، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}.
(7/16)

[الفتح: 15] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه، وهو قوله {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] وذلك أن النقض يستلزم الإتيان بشيء ضد الشيء المنقوض، فكان ذلك اللزوم هو علاقة المجاوز وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} في سورة البقرة [181]. وقد استعمل في قوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التمام من قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل.
فإن كان المراد بالكلمات القرآن، كما تقدم، فمعنى انتفاء المبدل لكلماته: انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يظهر أن فيه ما ليس بتمام، فإن جاء أحد بما ينقضه كذبا وزورا فليس ذلك ينقض، وإنما هو مكابرة في صورة النقض، بالنسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاء ما يبطل معانيه وحقائق حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النهي عن أن يخالفه المسلمون. وبذلك يكون التبديل مستعملا في حقيقته ومجازه وكنايته.
ويجوز أن تكون جملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} عطفا على جملة: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام: 112] وما بينهما اعتراضا، فالكلمات مراد بها ما سنه الله وقدره: من جعل أعداء لكل نبي يزخرفون القول في التضليل، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويتبعوهم، ويقترفوا السيئات، وأن المراد بالتمام التحقق، ويكون قوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} نفي أن يقدر أحد أن يغير سنة الله وما قضاه وقدره، كقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] فتكون هذه الآية في معنى قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34]ففيها تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام، وتطمين له وللمؤمنين بحلول النصر الموعود به في إبانه.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تذييل لجملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: وهو المطلع على الأقوال، العليم بما في الضمائر، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته، فالسميع العالم بأصوات المخلوقات، التي منها ما توحي به شياطين الإنس والجن، بعضهم إلى بعض، فلا يفوته منها شيء؛ والعالم أيضا بمن يريد أن يبدل كلمات الله، على المعاني المتقدمة، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه: من تبييت الكيد والإبطال له.
(7/17)

والعليم أعم، أي: العليم بأحوال الخلق، والعليم بمواقع كلماته، ومحال تمامهان والمنظم بحكمته لتمامها، والموقت لآجال وقوعها.
فذكر هاتين الصفتين هنا: وعيد لمن شملته آيات الذم السابقة، ووعد لمن أمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم، وبالتحاكم معهم إلى الله، والذين يعلمون أن الله أنزل كتابه بالحق.
[116] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
أعقب ذكر عناد المشركين، وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وولايتهم للشياطين، ورضاهم بما توسوس لهم شياطين الجن والإنس، واقترافهم السيئات طاعة لأوليائهم، وما طمأن به قلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه لقي سنة الأنبياء قبله من آثار عداوة شياطين الإنس والجن، بذكر ما يهون على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزتهم، ومن قلة المسلمين وضعفهم، مع تحذيرهم من الثقة بقولهم، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم، وعدم الإصغاء إلى رأيهم، لأنهم يضلون عن سبيل الله، وأمرهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه. فجملة: {وَإِنْ تُطِعْ} متصلة بجملة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وبجملة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: 114] وما بعدها إلى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
وجيء مع فعل الشرط بحرف "إن" الذي الأصل فيه أن يكون في الشرط النادر الوقوع، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال، والظاهر أن المشركين لما أيسوا من ارتداد المسلمين، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] الآية، جعلوا يلقون على المسلمين الشبه والشكوك في أحكام دينهم، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121]وقد روى الطبري عن ابن عباس، وعكرمة: أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها يريدون أكل الشاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح قال الله قتلها فتزعم أن ما
(7/18)

قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء وفي سنن الترمذي، عن ابن عباس: قال: أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله فأنزل الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] الآية. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. فمن هذا ونحوه حذر الله المسلمين من هؤلاء، وثبتهم على أنهم على الحق، وإن كانوا قليلا. كما تقدم في قوله {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
والطاعة: اسم للطوع الذي هو مصدر طاع يطوع، بمعنى انقاد وفعل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة، فالطاعة ضد الكره. ويقال: طاع وأطاع، وتستعمل مجازا في قبول القول، ومنه ما جاء في الحديث:"فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم"، ومنه قوله تعالى: {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] أي يقبل قوله، وإلا فإن المشفوع إليه أرفع من الشفيع فليس المعنى أنه يمتثل إليه. والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول.
و {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} هم أكثر سكان الأرض. والأرض: يطلق على جميع الكرة الأرضية التي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنبات، وهي الدنيا كلها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضية معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} [الإسراء: 104] يعني الأرض المقدسة، وقوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] أي الأرض التي حاربوا الله فيها. والأظهر أن المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل: أريد بها مكة لأنها الأرض المعهودة للرسول عليه الصلاة والسلام. وأيا ما كان فأكثر من في الأرض ضالون مضلون: أما الكرة الأرضية فلأن جمهرة سكانها أهل عقائد ضالة، وقوانين غير عادلة.
فأهل العقائد الفاسدة: في أمر الإلهية: كالمجوس، والمشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة الكواكب، والقائلين بتعدد الإله؛ وفي أمر النبوة: كاليهود والنصارى؛ وأهل القوانين الجائرة من الجميع. وكلهم إذا أطيع إنما يدعو إلى دينه ونحلته، فهو مضل عن سبيل الله، وهم متفاوتون في هذا الضلال كثرة وقلة، واتباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصواب. والقليل من الناس من هم أهل هدى، وهم يومئذ
(7/19)

المسلمون، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحدين الصالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحق.
وسبب هذه الأكثرية: أن الحق والهدى يحتاج إلى عقول سليمة، ونفوس فاضلة، وتأمل في الصالح والضار، وتقديم الحق على الهوى، والرشد على الشهوة، ومحبة الخير للناس؛ وهذه صفات إذا اختل واحد منها تطرق الضلال إلى النفس بمقدار ما انثلم من هذه الصفات. واجتماعها في النفوس لا يكون إلا عن اعتدال تام في العقل والنفس، وذلك بتكوين الله وتعليمه، وهي حالة الرسل والأنبياء، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحق من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية وقد يسمونها الذوق. أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرسل والأنبياء وخيرة أممهم؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالين وكان المهتدون قلة، فمن اتبعهم أضلوه.
والآية لم تقتض أن أكثر أهل الأرض مضلون، لأن معظم أهل الأرض غير متصدين لإضلال الناس، بل هم في ضلالهم قانعون بأنفسهم، مقبلون على شأنهم؛ وإنما اقتضت أن أكثرهم، إن قبل المسلم قولهم، لم يقولوا له إلا ما هو تضليل، لأنهم لا يلقون عليه إلا ضلالهم. فالآية تقتضي أن أكثر أهل الأرض ضالون بطريق الالتزام لأن المهتدي لا يضل متبعه وكل إناء يرشح بما فيه. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية [100] سورة العقود: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ}.
واعلم أن هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين، لأن المجتهد في مسائل الخلاف يتطلب مصادفة الصواب باجتهاده، بتتبع الأدلة الشرعية ولا يزال يبحث عن معارض اجتهاده، وإذا استبان له الخطأ رجع عن رأيه، فليس في طاعته ضلال عن سبيل الله لأن من سبيل الله طرق النظر والجدل في التفقه في الدين.
وقوله: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تمثيل لحال الداعي إلى الكفر والفساد من يقبل قوله، بحال من يضل مستهديه إلى الطريق، فينعت له طريقا غير الطريق الموصلة، وهو تمثيل قابل لتوزيع التشبيه: بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، وإضافة السبيل إلى اسم الله قرينة على الاستعارة، وسبيل الله هو أدلة الحق، أو هو الحق نفسه.
ثم بين الله سبب ضلالهم وإضلالهم: بأنهم ما يعتقدون ويدينون إلا عقائد ضالة،
(7/20)

وأديانا سخيفة، ظنوها حقا لأنهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسم أدلة الحق فقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.
والاتباع: مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر: من الآراء والأدلة وتقلد ذلك. فهذا أتم معنى الاتباع، على أن الاتباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنه يتبعه.
والظن، في اصطلاح القرآن، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل، الذي يحسبه صاحبه حقا وصحيحا، قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وليس هو الظن الذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التشريعية، فإنهم أرادوا به العلم الراجح في النظر، مع احتمال الخطأ احتمالا مرجوحا، لتعسر اليقين في الأدلة التكليفية، لأن اليقين فيها: إن كان اليقين المراد للحكماء، فهو متوقف على الدليل المنتهي إلى الضرورة أو البرهان، وهما لا يجريان إلا في أصول مسائل التوحيد، وإن كان بمعنى الإيقان بأن الله أمر أو نهى، فذلك نادر في معظم مسائل التشريع، عدا ما علم من الدين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحس، وهو خاص بما تلقاه بعض الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو حصل بالتواتر، وهو عزيز الحصول بعد عصر الصحابة والتابعين، كما علم من أصول الفقه.
وجملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} استئناف بياني، نشأ عن قوله: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فبين سبب ضلالهم: أنهم اتبعوا الشبهة، من غير تأمل في مفاسدها، فالمراد بالظن ظن أسلافهم، كما أشعر به ظاهر قوله {يُتْبِعُونَ}.
وجملة {وإن هم إلا يخرصون} عطف على جملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة التي قبلها، أو تفسيرا لها، فتعين أن المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.
وقد ترددت آراء المفسرين في محمل قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ؛ فقيل: يخرصون يكذبون فيما ادعوا أن ما اتبعوه يقين، وقيل: الظن ظنهم أن آباءهم على الحق. والخرص: تقديرهم أنفسهم على الحق.
والوجه: أن محمل الجملة الأولى على ما تلقوه من أسلافهم، كما أشعر به قوله {يُتْبِعُونَ}، وأن محمل الجملة الثانية على ما يستنبطونه من الزيادات على ما ترك لهم
(7/21)

أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلة مفحمة، كقولهم: كيف نأكل ما قتلناه وقتله الكلب والصقر، ولا نأكل ما قتله الله كما تقدم آنفا، كما أشعر به فعل: {يَخْرُصُونَ} من معنى التقدير والتأمل.
والخرص: الظن الناشئ عن وجدان في النفس مستند إلى تقريب، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه، وهو يرادف: الحزر، والتخمين، ومنه خرص النخل والكرم، اي تقدير ما فيه من الثمرة بحسب ما يجده الناظر فيما تعوده. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنها ظنون لا دليل عليها غير ما حسن لظانيها. ومن المفسرين وأهل اللغة من فسر الخرص بالكذب، وهو تفسير قاصر، نظر أصحابه إلى حاصل ما يفيده السياق في نحو هذه الآية، ونحو قوله {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10]؛ وليس السياق لوصف أكثر من في الأرض بأنهم كاذبون، بل لوصمهم بأنهم يأخذون الاعتقاد من الدلائل الوهمية، فالخرص ما كان غير علم، قال تعالى {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف20]، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ يكذبون أصرح من لفظ {يَخْرُصُونَ}.
واعلم أن السياق اقتضى ذم الاستدلال بالخرص، لأنه حزر وتخمين لا ينضبط، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر. فأخذ به مالك، والشافعي، ومحمله على الرخصة تيسيرا على أرباب النخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة، فتؤخذ الزكاة منهم على ما يقدره الخرص. وكذلك في قسمة الثمار بين الشركاء، وكذلك في العرية يشتريها المعري ممن أعراه، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخا.
[117] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
تعليل لقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام: 116] لأن مضمونه التحذير من نزغاتهم وتوقع التضليل منهم وهو يقتضي أن المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالين، وليهتدوا بالله الذي يهديهم. وكذلك شأن "إن" إذا جاءت في خبر لا يحتاج لرد الشك أو الإنكار: أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالذي قبله، بحيث تغني غناء فاء التفريع، وتفيد التعليل. ولما اشتملت الآيات المتقدمة على بيان ضلال الضالين، وهدى المهتدين، كان قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} تذييلا
(7/22)