الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
القراءتين يحصل كلا الغرضين.
ومتى استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر.
وقوله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بألا، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رعبا، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها. وإكرام للرسول صلى الله عليه وسلم بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه، وهذا يشير إلى فتح مكة.
[215] {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي لابتداء جواب عن سؤال سأله بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم روى الواحدي عن ابن عباس أن السائل عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان ذا مال فقال: يا رسول الله بماذا يتصدق وعلى من ينفق؟، وقال ابن عطية: السائلون هم المؤمنون يعني أنه تكرر السؤال عن تفصيل الإنفاق الذي أمروا به غير مرة على الإجمال، فطلبوا بيان من ينفق عليهم وموقع هذه الآية في هذا الموضع إما لأن نزولها وقع عقب نزول التي قبلها وإما لأمر بوضعها في هذا الموضع جمعا لطائفة من الأحكام المفتتحة بجملة: {يَسْأَلونَكَ} وهي ستة أحكام،
ثم قد قيل إنها نزلت بعد فرض الزكاة فتكون بيانا لمصارف الزكاة ثم نسخت بآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية في سورة براءة، فهو بتخصيص لإخراج الوالدين والأقربين واليتامى، وإن كانوا من غير الأصناف الثمانية المذكورة في آية براءة.
و {مَاذَا} استفهام عن المنفق "بفتح الفاء" ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية. فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال. فسألوا في الإسلام عن المعتد به من ذلك دون غيره، فلذلك طابق الجواب السؤال إذ أجيب: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، فجاء
(2/300)

ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي.
والخير: المال كما تقدم في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180] في آية الوصية.
و {مَا أَنْفَقْتُمْ} شرط، ففعل {أَنْفَقْتُمْ} مراد به الاستقبال كما هو مقتضى الشرط، وعبر بالماضي لإظهار الرغبة في حصول الشرط فينزل كالحاصل المتقرر.
واللام في {لِلْوَالِدَيْنِ} للملك، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177] الآية.
والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم، وفي تحديد القربى الموجبة للإنفاق خلاف بين الفقهاء. فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة، إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة،
وابن السبيل هو الغريب عن الحي المار في سفره، ينفق عليه ما يحتاج إليه.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} تذييل والمقصود من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الكناية عن الجزاء عليه، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه
(2/301)

وبين جزائه عليه حائل. وشمل عموم {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} الأفعال الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها.
[216] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] فقد كلفت به الأمم قبلنا، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.
ولفظ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية، وأل في "القتال" للجنس، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموما عرفيا، أي كتب عليكم قتال عدو الدين.
والخطاب للمسلمين، وأعداؤهم يومئذ المشركون، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] كما تقدم آنفا.
هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جحش كما يأتي، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178 ]{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180].
فعلى المختار يكون قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} خبرا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده، أو إنشاء أنفا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إذن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له.
وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو، ولك أن تجعلها
(2/302)

جملة ثانية معطوفة على جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوما للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
والكره بضم الكاف: الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكره بالفتح على الأصح، وقيل: الكره بالضم المشقة ونفرة الطبع، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل ما بأذى أو مشقة، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الاحقاف:15] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العقيلي:
بكره سراتنا يا آل عمرو ... نغاديكم بمرهفة النصال
رووه بضم الكاف وبفتحها.
على أن قوله تعالى بعد ذلك: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الوارد مورد التذييل: دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيا من جزئيات أن تكرهوا شيئا.
وقد تمحل صاحب "الكشاف" لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز. وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
أي تقبل وتدبر،
وقيل: الكره اسم للشيء المكروه كالخبر. فالقتال كريه للنفوس، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح، ولكن فيه دفع المذلة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم، وفي الحديث: "لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتم فاصبروا"، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العقيلي:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
(2/303)

ومعلوم أن كراهية الطبع لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.
ثم إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضي، يحتمل أن تكون جملة: {وَهُوَ كُرْهٌ} حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح فيوقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر، ويكون في الآية احتباك، إذ الكلام على القتال، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حب لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217].
وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.
وجملة: {وَعَسَى}: معطوفة على جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وجملة: {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: حالية من {شيئا} على الصحيح من مجيء الحال من النكرة، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل، لأنه يأمر فيطاع. ولكن في بيان الحكمة تخفيفا من مشقة التكليف، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه، وذلك باعتبار العواقب والغايات، فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن
(2/304)

العاقبة والغاية أو جهلهما، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب.
فإن قلت: ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة، وهلا جعل الله تعالى النافع كله محبوبا والضار كله مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفي كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟ قلت: إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين وأراه طريقي الخبر والشر كما قدمناه عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كونه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو
(2/305)

المعبر عنه بالازدواج، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] وأما حصوله في المعاني، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معني صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.
والفضائل جعلت متولدة من النقائص؛ فالشجاعة من التهور والجبن، والكرم من السرف والشح، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه، لأنه يكون أقل من الثلث، إذ ليس كلما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاما لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال "الدنيا مزرعة الآخرة" وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضا وكلامنا هذا سندا وانقلابا إلى استدلال.
وجملة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تذييل للجميع، ومفعولا {يَعْلَمُ} و {تَعْلَمُونَ} محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا.
والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه.
[217] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(2/306)

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه، أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهر الحرم إذ كلن محجرا في العرب من عهد قديم، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر؛ لأنه من المصالح قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام.
روى الواحدي في "أسباب النزول" عن الزهري مرسلا وروي الطبري عن عروة بن الزبير مرسلا ومطولا، أن هذه الآية نزلت في شأن سرية عبد الله بن جحش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقى عيرا لقريش ببطن نخلة في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحضرمي، فقتل رجل من المسلمين عمروا وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فعظم ذلك على قريش وقالوا: استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية. فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين، وقيل: رد الأسيرين وأخذ الغنيمة.
فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وآية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالا لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:194].
والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}وهذا هو المناسب لقوله هنا {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلخ وقيل: سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] ظاهرة.
والتعريف في الشهر الحرام تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في
(2/307)

قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله "فيه" يجعلها في قوة المعرفة. فالمراد بيان حكم أي شهر كان من الأشهر الحرم وأي قتال، فإن كان السؤال إنكاريا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفسارا من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهو لا يختص بشهر دون شهر.
وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيها على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال? لا لأجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام، وهذه نكتة لإبدال عطف البيان تنفع في مواقع كثيرة، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل،
وتنكير "قتال" مراد به العموم، إذ ليس المسؤول عنه قتالا معينا ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و"فيه" ظرف صفة لقتال مخصصة له.
وقوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف {فيه}، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد، قال التفتازاني: فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن.
والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارا من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباجة القتال فيثوروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض.
والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه القوى في نوعه بعظيم
(2/308)

الجثة في الأفراد، لأنه مألوف في أنه قوي، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام، مثل تسمية الذنب كبيرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يعذبان في كبير وإنه لكبير" الحديث.
والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين، ولا لقتل في شهر دون غيره، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم، لأن المسؤول عنه حكم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحا هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذ.
والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما تلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدته.
وهذه الأشهر هو زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة، ولذلك أفردها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] الآية.
وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]. وأما نسخه فبقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة:13]. ثم إن الله تعالى أجلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو عام تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس، لأن تلك الآية زلت في شهر شوال وقد خرج
(2/309)

المشركون فقال لهم: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة، ثم قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي تلك الأشهر الأربعة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق، ولذلك قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في شهر ذي العقدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح.وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.
فإن قلت: إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر. قلت: إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلم محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الحج على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال فبالأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلا للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة والإجماع لانقراضهم.
(2/310)

{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرم ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتال في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتية بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرم لأجل حجها الأشهر الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحرياء بالتحميق والمذمة، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما: "عجبا لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض". ويحق التمثل هنا يقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إنما عند الله إثم القتال في الشهر الحرام.
والعندية في قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} عندية مجازية وهي عندية العلم والحكم.
والتفضيل في قوله: {أَكْبَرُ} تفضيل الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثما.
والمراد بالصد عن سبيل الله: منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى: {تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} [الأعراف:86].
والكفر بالله: الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:6] إلخ.
(2/311)

وقوله: {به} الباء فيه لتعدية {كُفْرٌ} وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة.
و {كُفْرٌ} معطوف على {صَدٌّ} أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيرا.
و {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على "سبيل الله" فهو متعلق ب{صَدٌّ}تبعا لتعلق متبوعه به.
وأعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصد عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قدم قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} فجعل معطوفا على {صَدٌّ} قبل أن يستوفى {صَدٌّ} ما تعلق به وهو "والمسجد الحرام" فإنه معطوف على "سبيل الله" المتعلق بـ {صَدٌّ} إذ المعطوف على المتعلق متعلق فهو أولى بالتقديم من المعطوف على السم المتعلق به، لأن المعطوف على المتعلق به أجنبي على المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلق فهو في صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام بجمع مظالم كثيرة، لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5] فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دل عليه الصد عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه.ولا يصح أن يكون {والْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطفا على الضمير في قوله "به" لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد وما هو دين وما يتضمن دينا، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.
وقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي إخراج المسلمين من مكة فإنهم كانوا حول المسجد الحرام، لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته العمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، على
(2/312)

أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكما يخصه.
والأهل: الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ، فمنه أهل الرجل عشيرته، وأهل البلد المستوطنون به، وأهل الكرم المتصفون به، وأراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34].
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} تذييل مسوق مساق التعليل، لقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى، لأن تلك أعظم جرما من جريمة إخراج المسلمين من مكة.
والفتنة: التشغيب والإيقاع في الحيرة واضظراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل، ومنعهم من إظهار عبادتهم، وقطيعتهم في المعاملة، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالئ على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت، ولا يخفي أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحدا من رجال المشركين وهو عمرو الحضرمي وأسرهم رجلين منهم.
و "أكبر" أي أشد كبرا أي قوة في المحارم، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولها المسلمون والمشركون.إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلا بعض أحوال القتال إلا ترى إلى قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] فسمي فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمي المسلمين مقاتلين بفتح التاء، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة، لأنهم
(2/313)

كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله: {لا يَزَالُونَ} وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك، وأنهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل، و "حتى" للغاية وهي هنا غاية تعليلية. والمعنى: أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم.
وقوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا} تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} ولهذا جاء الشرط بحرف "إن" المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.
والرد: الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعن، وقد حذف هنا أحد المتعلقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89].
وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعد الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين رد واحد من المسلمين عناء باطلا.
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]
اعتراض ثان، أو عطف على الاعتراض الذي قبله، والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة {يَرْتَدِدْ} وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أي دين ومن يومئذ صار اسم الردة لقبا شرعيا على الخروج من دين
(2/314)

الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.
وقوله "فيمت" معطوف على الشرط فهو كشرط ثان.
وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثرا بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.
وحبط الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعا، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلم في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.
والمراد بالأعمال: الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكرم تحريضا، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.
وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}
(2/315)

وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.
هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلا ما فعله في الكفر أخذ به.وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة1 شرطا ههنا، لأنه علق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية: ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اه يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعا فقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} جواب لقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} . وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جواب لقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، ولعل في إعادة {وَأُولَئِكَ} إيذانا بأنه جواب ثان، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفي فيها بالأدلة الظنية، فإذا كان
ـــــــ
1 الموافاة لقب عند قدماء المتكلمين أول من عبر به الشيخ الأشعري ومعناها الحالة التي يختم بها عمر الإنسان من إيمان أو كفر، فالكافر عند الأشعري من علم الله أنه يموت كافرا والمؤمن بالعكس وهي مأخوذة من إطلاق الموافاة على القدوم إلى الله تعالى أي رجوع روحه إلى عالم الأرواح
(2/316)

الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأنه دليل ظني، وغالب أدلة الفروع ظنية، فأما في أصول الاعتقاد فأخذ من كل آية صريح حكمها، وللنظر في هذا مجال، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلمت عليه من خير" ، فهل يكون المرتد عن الإسلام أقل حالا من أهل الجاهلية. فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خلو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مقل قرة ابن هبيرة العامري، وعلقمة بن علاثة، والأشعث بن قيس، وعيينة بن حصن، وعمرو بن معد يكرب، وفي "شرح القاضي زكريا علي ألفية العراقي": وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ثم ارتد ثم أسلم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حلولو في "شرح جمع الجوامع" ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصحبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فإن قلت: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، قلت: تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ} [المائدة:5] بالإيمان أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] وآية {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتداد المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار.
(2/317)

وكانت هذه الآية من دلائل النبوة، إذ وقع في عام الردة، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حيا، فلولا هذه الآية لأيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.
وقد أشار العطف في قوله: {فيمت} بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلا على وجوب قتل المرتد،
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قتل كافرا وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلا أو امرأة، وقال أبو حنيفة في الرجل مثل قولهم، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق، وقال أصحابه تحبس حتى تسلم، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمر وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي بقتل المرتد ولا يستتاب، وقيل يستتاب شهرا
وحجة الجميع حديث ابن عباس: "من بدل دينه فاقتلوه " وفعل الصحابة فقد قاتل أبو بكر المرتدين وأحرق على السبائية الذين ادعوا ألوهية علي، وأجمعوا على أن المراد بالحديث من بدل دينه الذي هو الإسلام، واتفق الجمهور على أن "من" شاملة للذكر والأنثى إلا من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فخصوا به عموم "من بدل دينه"، وهو احتجاج عجيب، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد، والمرأة من شأنها ألا تقاتل، فإنه نهي أيضا عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء: إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل.
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطان الكفر فقالا: يقتل ولا تقبل توبته إذا أخذ قبل أن يأتي تائبا.
ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولا تقبل توبته.
هذا، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور
(2/318)

المسلمين؛ والخروج من العقيدة وترك أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحة به بإقراره نصا أو صمنا فالنص ظاهر، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا عن كافر مثل السجود للصنم، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها.وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، أي ما كان العلم به ضروريا قال ابن راشد في "الفائق" "في التفكير بإنكار المعلوم ضرورة خلاف". وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام.
[218] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال الفخر: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان، أحدهما: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا? فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا "يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة". الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] أتبع ذلك بذكر من يقوم به اه، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.
(2/319)

و {الَّذِينَ هَاجَرُوا} هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، مشتق من الهجر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا، قال عبدة بن الطيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.
و"في" للتعليل.
و"سبيل الله" ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية والإسلامية، وكرر الموصول التعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء.وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.
والرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.
[219, 220] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
(2/320)

حَكِيمٌ}
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، والمشروع في بيانها من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى آخر السورة، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطا للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ، وقد تناسقت في هذه الآية.
والسائلون هم المسلمون؛ قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله افتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال؛ فنزلت هذه الآية، قال في "الكشاف": فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية.
وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديما لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه، وأما ما يذكره بعض علماء الإسلام: إن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير سريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم، على أن في مراعاتها درجات، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحا شرب الخمر حتى سكر، وأن لوطا شرب الخمر حتى سكر سكرا أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع، والأخير من الأكاذيب؛ لأن النبوة تستلزم العصمة، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء والذي يجب اعتقاده: أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء؛ لأنها لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء،
(2/321)

ولا يشربونها لقصد التقوى لقلة هذا القصد من شربها.
وفي سفر اللاويين من التوراة "وكلم الله هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا. فرضا دهريا في أجيالكم. وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر".
وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم، وقصارى لذاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم، قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وعن أنس بن مالك: "حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر". فلا جرم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبة إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنان بذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل:67] على تفسير من فسر السكر بالخمر، وقيل السكر: هو النبيذ غير المسكر، والأظهر التفسير الأول.
وآية سورة النحل نزلت بمكة، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب. والصحيح الأول، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكرا من الثمرات التي خلقها لهم، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم ذي ذلك بالتدريج، فقيل: إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم، وأن سبب نزولها ما تقدم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيها لهم، إذ كانوا لا يذكرون إلا محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم، قال البغوي: إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تقدم في تحريم الخمر" أي ابتدأ يهيء تحريمها يقال: تقدمت إليك في كذا أي عرضت عليك، وفي "تفسير ابن كثير": أنها ممهدة لتحريم الخمر على البنات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزها.
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية: نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود، وروى أيضا عن ابن عباس أنه رأى أن آية المائدة نسخت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ونسخت آية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، ونسب لابن عمر والشعبي
(2/322)

ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة، فيجئ على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقا بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها.وأن معنى {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم، وهذا هو الأظهر من الآية؛ إذ وصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلا مؤكدة للتحريم ونصا عليه؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوله المتأولون بالعذر من شربها، وقد روى في بعض الآثار أن ناسا شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلى رجلان فجعلا يهجران كلاما لا يدري ما هو، وشربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعا ورفع شيئا كان بيده ليضربه فقال الرجل: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآله: لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة.
والخمر اسم مشتق من مصدر خمر الشيء خمره من باب نصر إذا ستره، سمي به عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكرا؛ لأنه يستر العقل عن تصرفه الخلفي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر، أو هو اسم جاء على زنة المصدر: هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أو عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وترك حتى يختمر ويزيد، واستظهره صاحب "القاموس". والحق أن الخمر كل شراب مسكر، إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه، وأن غيره يطلق عليه خمر ونبيذ وفضيخ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر، وأن أشربه أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ، والنقيع، والسكركة، والبتع. وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر: نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربه ما فيها شراب العنب، معناه ليس معدودا في الخمسة شراب العنب لقلة وجوده وليس المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة.وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عمرو ابن كلثوم:
ولا تبقي خمور الأندرين
(2/323)

وأندرين بلد من بلاد الشام.
وقد أنبني على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعا وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذا بمسمى الخمر عندهم، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري: يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقا حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئا، ويزيد ذلك إيهاما قاعدة أن المأذون فيه شرعا لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس:
أباح العراقي النبيذ وشربه ... وقال حرامان المدامة والسكر
ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان، أحدهما محرم شربه وهو أربعة: "الخمر" وهو الني من عصير العنب إذا علي واشتد وقذف بالزبد، و"الطلاء" بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكرا، و"السكر" بفتح السين والكاف وهو الني من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكرا، و"النقيع" وهو الني من نبيذ الزبيب، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسه العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة، ونبيذ العسل والتين والرز والشعير والذرة طبخ أم لم يطبخ. والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوى على العبادة "كذا" أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما
(2/324)

الحد وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار، على أنه يلزم ألا يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه. وتمسك الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أو هي مما قبله، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور. وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاق غيره به إثبات اللغة بالقياس، وهذا باطل، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام،
فإن قالوا: إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السكر فتلك هي محل النظر، قلنا: هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات، على أنه قد ثبت في "الصحيح" ثبوتا لا يدع للشك في النفوس مجالا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة" رواه النعمان بن بشير وهو في "سنن أبي داود" وقال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة". رواه أبو هريرة وهو في "سنن أبي داود"، وقال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه ابن عمر في "سنن الترمذي"، وقال أنس: "لقد حرمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلا، وعامة شرابنا فضيخ التمر". كما في سنن الترمذي. وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ، فهو تشويه للفقه ولطخ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجودا.
وصف الله الخمر بأن فيها إثما كبيرا ومنافع. والإثم: معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضي الله، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف: الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في
(2/325)

الشرع، فهو ضد القربة فيكون معنى {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أنهما يتشبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحل الربح والخسارة من التشاجر.
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير: الشديد في نوعه كما تقدم آنفا.
وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما المعتاد.
واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {إِثْمٌ كَبِيرٌ} بموحدة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي "كثير" بالثاء المثلثة، وهو مجاز استعير وصف الكثير للشديد تشبيها لقوة الكيفية بوفرة العدد.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم على وزن مفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدرا ميميا قصد منه قوة النفع، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبني. ويحتمل أن يكون اسم مكان دالا على كثرة ما فيه كقولهم مسبعة ومقبرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مصلحة ومفسدة، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع.
والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية، وفيها ذهاب المال في شربها، وفي الإنفاق على الندامي حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى عندهم كالمغانم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الربان ليس بعائم
وقال عنترة:
وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيبا، قال لبيد:
أغلي السباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها
(2/326)

ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضرارا في الكبد والرئتين والقلب وضعفا في النسل، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها، ولأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قيس بن عاصم المنقري بسبب أنه شرب يوما حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم كلاما، فلما أخبر بذلك حين صحا إلى لا يذوق خمرا ما عاش وقال:
رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ... ولا أشفي بها أبدا سقيما
ولا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
وفي "أمالي القالي" نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية، ومنهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عن الأشعث بن قيس، وصفوان بن أمية الكناني، وأسلوم البالي، وسويد بن عدي الطائي، "وأدرك الإسلام" وأسد بن كرز القسري البجلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة، وعثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعباس بن مرداس، وعثمان بن مظعون، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن جدعان.
وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر، وفيها منافع من اللذة والطرب، قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فرارا من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت.
وذكر في هذه الآية الميسر عطفا على الخمر ومخبرا عنهما بأخبار متحدة فما قيل في نقتضي هذه الآية تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يلهون به، وكثيرا
(2/327)

ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشواء عند شرب الخمر، فهم يتوصلون لنحر الجزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة، إذ نحر شارفا لعلي بن أبي طالب حين كان حمزة مع شرب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
فقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواء في قصة شهيرة، وقال طرفة يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سكره:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد
وقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغية متعمد
فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشرب، وقال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
وذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال:
أغلى السباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها
ثم قال:
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
وذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم
فلأجل هذا قرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال.
والميسر: اسم جنس على وزن مفعل مشتق من الميسر. وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الإعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يسر ييسر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المحل وكلب الشتاء، وقال صاحب
(2/328)

"الكشاف": هو مصدر كالموعد، وفيه أنه لو كان مصدرا لكان مفتوح السين؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر.
والميسر: قمار كان للعرب في الجاهلية، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعاد من قبل، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عاد ويقال لقمان العادي، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن ارم بن سام، وهو غير لقمان الحكيم، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعبا بالميسر حتى قالوا في المثل أيسر من لقمان وزعموا أنه كان له ثانية أيسار لا يفارقونه1 هم من سادة عاد وأشرافهم، ولذلك يشبهون أهل الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأيسار لقمان قال طرفة بن العبد:
وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر
أراد التشبيه البليغ .
وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قداح جمع قدح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الحظاء جمع حضوة وهي السهم الصغير وكلها من قصب النبع، وهذه القداح هي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والسفيح، والمنيح، والوغد، وقيل النافس، وهو الرابع والحلس خامس، فالسبعة الأول لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أغفالا جمع غفل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل في العلامة، وهذه العلامات خطوط واحد إلى سبعة "كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة"، وقد خطوا العلامات على القداح ذات العلامات بالشلط في القصبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قرمة، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح.
فإذا أرادوا التقامر اشتروا جزورا بضمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أبداء أي أجزاء إلى ثمانية وعشرين جزءا أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عبيدة، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة، ثم يضعون تلك القداح في خريطة من جلد تسمى
ـــــــ
1 هم: بيض، وحممة، وطفيل، وذفافة، ومالك، وفرعة، وثميل، وعمار.
(2/329)

الربابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قدحان أو ثلاثة، ووكلوا بهذه الربابة رجلا يدعى عندهم الحرضه والضريب والمجيل، وكانوا يغشوون عينيه بمغمضة، ويجعلون على يديه خرقة بيضاء يسمونها المجول يعصبونها على يديه أو جلدة رقيقة يسمونها السلفة بضم السين وسكون اللام، ويلتحف هذا الحرضة بثوب يخرج رأسه منه ثم يجثوا على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه، ويقوم وراءه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحرضة وعلى الأيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحرضة بابتداء الميسر، يجلسون والأيسار حول الحرضة جثيا على ركبهم، قال دريد بن الصمة:
دفعت إلى المجيل وقد تجاثوا ... على الركبات مطلع كل شمس
ثم يقول الرقيب للحرضة جلجل القداح أي حركها فيخضخضها في الربابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مخرج القداح من الربابة دفعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعة إلى صاحبه وقال له قم فاعتزل فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غفلا ألا يحسب في غرم ولا في غنم بل يرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خرجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور.
فأما على الوصف الذي وصف الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئا من أبداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون، وعلى أهل القداح غرم ثمنه.وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيء إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها
البيت
وإذ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها، ولعل كلا من وصفي
(2/330)

الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أخذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غرمه وإنما يفعل هذا أهل الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة، إذ لم يفز قدحه، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم متمم الأيسار قال النابغة:
إني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثني الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
ويسمون هذا الإتمام بمثنى الأيادي كما قال النابغة، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجزار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا، وأما الحرضة فيعطى لحما دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم.
ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طعما في اللحم، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك.
وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطردا لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى:
المطعمو الضيف إذا ما شتوا ... والجاعلو القوت على الياسر
ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامى ومن يلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم، قال لبيد:
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها
فالضيف والجار الجنيب كأنما ... هبطا تبالة مخضبا أهضامها
فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد، وقال عنترة كما تقدم:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوح
أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء، وقال عمير ابن الجعد:
(2/331)

يسر إذا كان الشتاء ومطعم ... للحم غير كبنة علفوف
الكبنة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي.
فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنية وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنرد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم" يريد النرد، وعن على النرد والشطرنج من الميسر، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي، إذا خلا الشطرنج من الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراما وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه.
والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة "في" المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتفع بالخمر والميسر، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]
فإن قلت: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين دينا دائما وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحهم دون نكايتهم كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقوله:
(2/332)

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]. وهنالك أيضا فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187].
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220-219]
كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلا مع سؤالهم {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، فعطفت الآية التي فيها جواب سؤالهم {مَاذَا يُنْفِقُونَ} على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل {يَسْأَلونَكَ} بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها.
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق،
روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غنمة، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] إلخ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه.
ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف.
والعفو: مصدر عفا يعفو إذا زاد ونمى قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [لأعراف:95]، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فضل بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله، فالمعنى أن المرء ليس مطالبا بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني، وفي الحديث: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول" فإن
(2/333)

البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء، وفي الحديث إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس أي يمدون أكفهم للسؤال، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم، ولذلك جاء في الحديث: "وإنك لا تنفق فقه تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك". ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو، لأنها لعموم المنفقين، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته.
و أل في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيين ما يحتاجه المنفق والناس في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كله منفقا ترغيبا في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذر، إذ كان يرى كنز المال حراما وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون "أل" في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب،
وقرأ الجمهور "قل العفو" بنصب العفو على تقدير كونه مفعولا لفعل دل عليه {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد "ما" الاستفهامية ملغاة فتكون "ما" الاستفهامية مفعولا مقدما لينفقون فناسب أن يجيء مفسر "ما" في جواب السؤال منصوبا كمفسره.
وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو. وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي "يسألونك" عن الذي ينفقونه، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبرا عن ما الموصولة، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعا كمفسره ليطابق الجواب السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} ، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبين لنوع {يُبَيِّنُ} ، وقد تقدم القول في
(2/334)

وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219] إلى قوله: {العفو}، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيما لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة قلم يقل كذلكم على نحو قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ}.
واللام في {لَكُمُ} للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقي إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين.وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا {وَالْآخِرَةِ}، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله والآخرة إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بيانا للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده قال له الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت بينها الخ. ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
ويجوز أن يكون الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجا لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة، لأن التعلق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور.
(2/335)

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} غاية هذا البيان وحكمته، والقول في لعل تقدم. وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220] يتعلق تتفكرون لا ببين، لأن البيان واقع في الدنيا فقط. والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شئون الدنيا والآخرة، وما سوى هذا تكلف.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنويه عنه فإن الميسر كان بابا واسعا للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال:
ويكللون إذا الرياح تناوحت ... خلجا تمد شوارعا أيتامها
أي تمد أيديا كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
وقد روى أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة، فلعل ذكر آية النساء وهم من الرواي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ففي "تفسير الطبري" يسنده إلى ابن عباس: لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} أو أن مراد الرواي لم سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان
(2/336)

العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالا، وكان جمهور أموالهم حاصلا من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم، فكان جمهور العرب إما زارعا أو غارسا أو مغيرا أو صائدا، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغارا لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم. إلا أبناء أهل الثروة، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وأن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وأن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالا وإن كثر. وتغلب ذلك على ملاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نعمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيرا مدحورا، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوي فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عنه كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازما لمعنى الخصاصة والإهمال والذل، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6].فلما جاء الإسلام أمرهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية.
والإصلاح جعل الشيء صالحا أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر، وصلاح المال نماؤه المقصود منه، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة.
و {إِصْلاحٌ لَهُمْ} مبتدأ ووصفه، واللام للتعليل أو الاختصاص. ووصف الإصلاح بـ"لهم" دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف:59] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخا معهودا عنده، والمقصود هنا
(2/337)

جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها. ولقد أبدع هذا التعبير، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب.
و {خير} في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطابا للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال:
إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تحل على حال بواديها
فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثوابا وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطابا لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مرادا من الآية على هذا: التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي.
وجملة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} عطف على جملة {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعا يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له، فمنه خلط الماء بالماء والقمح بالشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة.
وقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك فـ {إِخْوَانُكُمْ} خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم،
(2/338)

وهو على معنى التشبيه البليغ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح. ونقل الفخر عن الفراء: "لو نصبته كان صوابا بتقدير فإخوانكم تخالطون" وهو تقدير سمج، ووجود الفاء في الجواب بنادي على أن الجواب جملة اسمية محضة، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي، لا على أن يقرأ به، ولعل الفراء كان جريئا على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية.
والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخوانا كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة، لأنهم لما كانوا إخوانا وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم. قال تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وعد ووعيد، لأن المقصود من الإخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضا ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذ لا يهتمون إلا بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم لما أفاته بدون نظر.
و"من" في قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِ} تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في "التسهيل" قائلا وللفصل وقال في "الشرح" وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، و {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
(2/339)

الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] اهـ وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في "الكشاف" عند قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} في سورة الشعراء وجعله وجها ثابتا فقال أو أتاتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة اه فجعل معنى "من" معنى من بين، وهو لا يتقوم إلا على إثبات معنى الفصل، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط، وبحث فيه ابن هشام في مغنى اللبيب أن الفصل حاصل من فعل "يميز" ومن فعل "يعلم" واستظهر أن للابتداء أو بمعنى عن.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} تذييل لما دل عليه قوله: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على ما تقدم والعنت: المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقا عليكم وعنتا، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من اخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذرا وتنزها فليس كل ما يبتدئ المرء فعله يستطيع الدوام عليه.
وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة:20].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل لما اقتضاه شرط "لو" من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه.وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبر عنه بالقضاء والقدر.
[221] {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة مازالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما
(2/340)

هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمان فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذ أقارب وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة، روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مرثد الغنوي ويقال مرثد بن أبي مرثد واسمه كناز بن حصين وكان حليفا لبني هاشم فبعثه إلى مكة سرا ليخرج رجلا من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتته فقالت: ويحك يامرثد ألا تخلو? فقال: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية فقالت: فتزوجني قال: حتى أستأذن رسول الله فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه.
والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلانا فهو حقيقة في العقد، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد.
واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف. قالوا ولم يرد في القرآن إلا بمعنى العقد فقيل إلا في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230]، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوب أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لابد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق.
والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل
(2/341)

الكتابي فالآية ساكنة عنه، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلا إذا جرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى: {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استنادا منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي "الموطأ" عنه: "لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى" ولكن هذا مسلك ضعيف جدا، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع "فنحاص" كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]، وقد علم الله قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولا لعموم آية البقرة، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية،
ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية: أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام? فقال عمر: لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة، ونقل ذلك عن ابن عمرو ابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب: أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها، فقالا له: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب? فقال: لو جاز طلاقكما
(2/342)

لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة وقماءة، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيدا والأثر الآخر عن عمر أسند منه، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة، وقد روى عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذرا من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات.
و {حَتَّى يُؤْمِنَّ} غاية للنهي فإذا آمن زال النهي، ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلا إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير.
وقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.
والمقصود من التفضيل في قوله "خير" التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناسا للمسلمين.
ووقع في "الكشاف" حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكرارا مع قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، وبقيت المقصود من التنبيه على شرف أقل أفراد أحد الصنفين على أشرف أفراد الصنف الآخر. وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلا مقيدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم: يا عبد الله ويا أمة الله، وكون الناس إماء الله
(2/343)

وعبيده إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرج القرآن عليه.
وضمير {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يعود إلى المشركة، و "لو" وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع "لو" الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]
وقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولا على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماع وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذ المشركين، وكقوله تعالى هنا: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} كما سنبينه.
وقوله: {حَتَّى يُؤْمِنُوا} غاية للنهي، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة.
وقوله: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} هو كقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك.
وقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} الإشارة إلى المشركات والمشركين، إذ لا وجه لتحصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، والواو في {يَدْعُونَ} واو جماعة الرجال ووزنه يفعون، وغلب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس، فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر. ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدا جدا لا يجمعهم شيء يتفقون عليه، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين.أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين
(2/344)

المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزويج المسلمة من الكتابي اعتدادا بقوة تأثير الرجل على امرأته، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبا إياها إلى الإسلام، لأنها أضعف منه جانبا وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة.
وقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ} الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله: {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفا مستقرا حالا من "الجنة" والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما.
ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأول قوله: {وَ اللَّهُ يَدْعُو} بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون.
وجملة: {وَيُبَيِّنُ} معطوفة على {يَدْعُو} يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} [البقرة:219] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته.ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب.
[222] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
عطف على جملة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كن حيضا وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر
(2/345)

وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها،
روى أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري، وروى أن السائل أسيد بن حضير، وروي أنه عباد بن بشير، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام.
والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين: "إذا كانت امرأة لها سيل دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجسا وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام". وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون عن ذلك ولا أحسب ذلك صحيحا فليس في الإنجيل ما يدل عليه، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليخ أهل بلد الحضر، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضر، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه.
والمحيض وهو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة فعل منقول من أسماء المصادر شاذا عن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج يقال حاضت حيضا ومحاضا ومحيضا والمصدر في-هذا الباب بابه المفعل "بفتح العين" لكن المفعل "بكسر العين" جيد ووجه جودته مشابهته مضارعة لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت، وعندي أنه لما صار المحيض اسما للدم السائل من المرأة عدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجئ به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسما فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعارا بالنقل فرقا بين المنقول منه والمنقول إليه، ويقال حيض وهو أصل المصدر: يقال حاضت المرأة إذا سال منها؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضا لأنه يسيل، أبدلوا ياءه واوا وليس منقولا من اسم المكان؛ إذ لا مناسبة للنقل منه، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعا بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضا عما في تصييره اسما من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق.
(2/346)

والمراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالته الاقتضاء، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شئ عليه.
والأذى: الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111]، ابتداء جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة معللا فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأ به الأمة للتشريع في أمثاله، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة، وقد أثبت أنه أذى منكر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد، فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضا فأن هذا الدم السائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بيضات دقيقة منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البيضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شئ من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضا معضلة فتحدث بثورا وقروحا لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فسادا مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن.
وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجا في وقت اشتغاله فدخل عليه بذلك مرض وضعف، وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البيضات في الخلق قبل إبان صلاحيتها للتخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة قال أبو كبير الهذلي:
ومبرإ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل
"غبر الحيضة جمع غبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء، يريد لم تحمل به أمة في آخر مدة الحيض". والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض يجئ مجذوما أو يصاب بالجذام من بعد.
وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} تفريع الحكم على العلة، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن، والمجرور بفي: وقت محذوف والتقدير: في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومقدم الحاج.
(2/347)

والنساء اسم جمع للمرأة لا واحدة له من لفظه، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ {اعتزلوا} المخاطب به الرجال، وإنما يعتزل من كان يخالط.
وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيرا نحو: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:30] ، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} جاء النهي عن قربانهن تأكيدا للأمر باعتزالهن وتبيينا للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماما بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصودا بالذات معطوفا على التشريعات،
ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرب بكسر الراء ولذلك جئ فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمع متعديا إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قربا ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بعد إذا تجافى مكانه وبعد كمعنى البعد المعنوي ولذلك يدعون بلا يبعد.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} غاية لاعتزلوا و {لا تَقْرَبُوهُنَّ}، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء، وحقيقة الطهر نقاء الذات، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدر حصوله للمسلم بسبب، ويقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] أو مجازا نحو: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، ويقال أطهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تطهر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالا فصيحا.
قرأ الجمهور: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بصيغة الفعل المجرد، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {يَطْهُرْنَ} بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين.
(2/348)

ولما ذكر أن المحيض أذى علم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الإقراء أطهارا، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فإن تفسيره الانتجاء في الخلاء بالماء فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف وكان قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بعد ذلك شرطا ثانيا دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء، لأن صيغة {تطهر} تدل على طهارة معملة، وإن كان الثاني كان قوله فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تصريحا بمفهوم الغاية ليبني عليه قوله: {فَأْتُوهُنَّ}، وعلى الاحتمال الثاني جاءت قراءة {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مرادا منه مع معناه لازمه أيضا وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وبذلك كان مآل القراءتين واحدا، وقد رجح المبرد قراءة {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعا الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولي لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئا جديدا.
ورجح الطبري قراءة التشديد قائلا: "لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر" وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}.
وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} على المعنى الشرعي، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب، علماء المالكية ونظروه بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة: "حَتَّى يَطَّهَّرْنَ" حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك،
وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية، لأن
(2/349)

الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث، والحائض اتصفت بالأمرين، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية،
وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطا، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجراء ما دونه، وذهب مجاهد وطاووس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفضيل فقالوا: إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة، وإن انقطع لأقل من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطا ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عدتها، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلا لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي {حَتَّى يَطْهُرْنَ} قرئ بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة اه، وهذا مدرك ضعيف، إذ لم يعهد عد القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخر، فما هذا إلا صنع باليد، فإن قلت لم بنوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود {يَطْهُرْنَ} و {يَطَّهَّرْنَ} في موضعين من هذه الآية، قلت كأن سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبارا التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له.
(2/350)

وقوله: {فَأْتُوهُنَّ} الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقربان المنهي عنه هو ذلك المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قفي بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.
وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} حيث اسم مكان مبهم مبني على الضم ملازم الإضافة إلى جملة تحدده لزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي: "من" بمعنى في ونظره بقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر:40] وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9]، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسدى وقتادة أن المعنى: من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر، فحيث مجاز في الحال أو السبب و"من" لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.
والذي أراه أن قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما: {حَيْثُ} فظرف مكان وقد تستعمل مجازا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية بـ"حتى" في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و "من" للابتداء المجازي، و "حَيْثُ" مستعملة في التعليل مجازا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهير. أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء: وهو عقد النكاح، فحرف "من" للتعليل والسببية، و حَيْثُ مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين، وأما ذكر التوابين فهو إدماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما
(2/351)

أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأنا من التطهر أي أن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني.
ويجوز أن يكون قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} على حقيقة "من" في الابتداء وحقيقة حَيْثُ للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض.
وقد قيل: إن جملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} معترضة بين جملة: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وجملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223].
[223] {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
هذه الجملة تذييل ثان لجملة: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] قصد به الاتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمى الحمى: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا إنها لبلادهم" وتعتبر جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} مقدمة لجملة: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنى شاءوا، والعلة قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.
والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.
وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام:138] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.
وقال: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] أي الجنات والحوائط والحقول.
(2/352)

وقال: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران:117] أي أهلكت زرعهم.
وقال: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر.
والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولا لفعل {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل .
والفاء في {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.
وكلمة "أَنَّى" اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها، وقد كثر استعماله مجازا في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو كيف يشاء وقال في لسان العرب: إن "أنى" تكون بمعنى "متى"، وقد أضيف "أنى" في هذه الآية إلى جملة "شِئْتُمْ" والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل "أنى" على المعنى المجازي وفسروه بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان. إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم، فمنهم من جعلوه ظرفا لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في "صحيح البخاري" تفسيرا من ابن عمر، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور بـ"من" ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف، ونسب القرطبي هذين التأويليم إلى سيبويه. فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل "أنى" على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بعد فوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1].
ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن
(2/353)

بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام، على ثقل في جريانها، على الألسنة والأقلام.
روى البخاري ومسلم في "صحيحهما" عن جابر بن عبد الله: "أن اليهود قالوا: إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية" وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: "كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن من هذا الحي من اليهود وهو أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكل من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا" أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن" ومقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شرى أمرهما "أي تفاقم اللجاج" فبلغ ذلك النبي فأنزل الله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد، وروى مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت قال، "وما أهلكك"? قال: حولت رحلي الليلة "يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة" فلم يرد عليه رسول الله شيئا فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية.
وروي البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال: تدري فيم أنزلت? قلت: لا قال: أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري "يأتيها في..." ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه: أنزلت إتيان النساء في أدبارهن، وروي الدارقطني في غرائب مالك والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر، وعن عطاء بن يسار أن
(2/354)

رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنكر الناس عليه وقالوا: أثفرها فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} تشبيها للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} على معنى: فاحرثوا في أي مكان شئتم.
أقول: قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال {أَمَرَكُمُ اللَّهُ} معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه، ثم أتبع بقوله: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] فربما أشعر بأن فعلا في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فأشعر بأن فعلا في هذا الشأن قد يلتبس بغير التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] واحتمالها لمعنى: ويبغض غير ذلك، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فجعلن حرثا على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد قال: إنه وكل للمعروف، وقد يقال: إنه جعل شائعا في المرأة، فلذلك نيد الحكم بذات النساء كلها، ثم قال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل: إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأجمل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن.
واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوع علم المتأمل، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار مستقصاة في كتب أحكام القرآن، وكتب السنة، وفي دواوين الفقه، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول، وتركنا ما عداه إلى إفهام العقول.
{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
عطف على جملة {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أو على جملة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبرا فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماما بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة.
وحذف مفعول {قَدَّمُوا} اختصارا لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها
(2/355)

بمنزلة الثقل الذي يقدمه المسافر.
وقوله: {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {قَدِّمُوا} واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189] تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} فلذلك كانت هذه تذييلا.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضي به عنكم كقوله: ووجد الله عنده، وهو عطف على قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}.
والملاقاة: مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة. وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقي بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلا لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماما بهذا المعلوم وتنافسا فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة: {اعْلَمُوا} اهتماما بالخبر واستنصاتا له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] في سورة الأنفال.
وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولا ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعارا بأنها هي الاستعداد ثم ذكروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل.
وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" ، وذكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان، وجملة: وبشر المؤمنين، معطوفة على جملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} ، على الأظهر من جعل جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} استئنافا غير معمولة ل"قل هو أذى"، وإذا جعلت جملة "نساؤكم" من معمول القول كانت جملة "وَبَشِّرِ" معطوفة على جملة {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222]؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني.
(2/356)

[224] {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
جملة معطوفة على جملة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعا من قربان الأزواج في حالة الحيض، وكون مضمون هذه الجملة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226]، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وجملة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ، وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]
وقال التفتازاني: الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة اه. وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة، وجوز التفتازاني: أن يكون معطوفا على الأوامر السابقة وهي {وَقَدِّمُوا} [البقرة:223] و {وَاتَّقُوا} [البقرة:223] و {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] اهـ أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئا من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدا، فجيء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز،
وقال عبد الحكيم: معطوف على جملة {قل} بتقدير قل أي: وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله: {وَقَدِّمُوا} [البقرة:223] إن جعل قوله: {وَقَدِّمُوا} من جملة مقول {قل}،
وذكر جمع المفسرين عن ابن جريج، إنها نزلت حين حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على قريبه مسطح بن أثاثة لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن عائشة رضي الله
(2/357)

عنها، وقال الواحدي عن الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة: حلف ألا يكلم ختنة على أخته بشير ابن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته، وأياما كان فواو العطف لابد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها.
وتعلق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم، فالتقدير: ولا تجعلوا اسم الله، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف.
والعرضة اسم على وزن الفعلة وهو وزن دال على المفعول كالقبضة والمسكة والهزأة، وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أي الجانب، ومعنى العرض هنا جعل الشيء حاجزا من قولهم عرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العرضة على الحاجز المتعرض، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي، وأطلقت على ما يكثر جمع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في "الكشاف".
ولا تجعلوني عرضة للوائم1
والآية تحتمل المعنيين.
واللام في قوله: {لِأَيْمَانِكُمْ} لام التعدية تتعلق بعرضة لما فيها من معنى الفعل: أي لا تجعلوا اسم الله معرضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقت منا يمين، ويجوز أن تكون اللام للتعليل: أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا.
والأيمان: جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، وهي اشتقت من اليمين: وهو البركة، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يمينا لأن العرب
ـــــــ
1 قال الطيبي والتفتازاني أوله
دعوني أنح وجدا لنوح الحمائم
ولم ينسباه
(2/358)

كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فكانوا يقولون أعطي يمينه، إذا أكد العهد. وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير:
حتى وضعت يميني لا أنازعه ... في كف ذي يسرات قيله القيل
ثم اختصروا، فقالوا صدرت منه يمين، أو حلف يمينا، فتسمية الحلف يمينا من تسمية الشيء باسم مقارنة الملازم له، أو من تسمية الشيء باسم مكانه؛ كما سموا الماء واديا وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي.
ولما كان غالب أيمانهم في العهود والحلف، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضها في بعض، شاع إطلاق اليمين على كل حلف، جريا على غالب الأحوال؛ فأطلقت اليمين على قسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف.
والقصد من الحلف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان الله تعالى على صدقه: في خبر أو وعد أو تعليق. ولذلك يقول: {بالله} أي أخبر متلبسا بإشهاد الله، أو أعد أو أعلق متلبسا بإشهاد الله على تحقيق ذلك، فمن أجل ذلك تضمن اليمين معنى قويا في الصدق، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأ عليه واستخف به، ومما يدل على أن أصل اليمين إشهاد الله، قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] كما تقدم، وقول العرب يعلم الله في مقام الحلف المغلظ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم، لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي.
ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز، نهي المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلا معنويا دون فعل ما حلفوا على تركه من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس فاللام للتعليل، وهي متعلقة بتجعلوا، و {أَنْ تَبَرُّوا} متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة، المطرد حذفها مع أن، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزا عن فعل البر، والإصلاح، والتقوى، فالآية، على هذا الوجه، نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل جير شرعي، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحذوف على تركه، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص.
(2/359)

وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب، فتقسم بالله، وبآلهتها، وبآبائها، على الامتناع من شيء، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة.
وفي "الكشاف" كان الرجل يحلف على ترك الخير: من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم.
وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر: ألا ينفق على ابن خالته. مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك. ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية.وقيل: نزلت في حلف عبد الله بن رواحة: ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما.وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به في الامتناع من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، فالأيمان على ظاهره، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة، و {أَنْ تَبَرُّوا} مفعول الأيمان، بتقدير لا محذوفة بعد أن والتقدير ألا تبروا، نظير قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحف بالله على ترك الطاعات؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سببا في قطع ما أمر الله بفعله، وهذا النهي يستلزم: إنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح، أنه لا حرج في ذلك، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير. أو معناه: لا تجعلوا اسم الله معرضا للحلف، كما قلنا، ويكون قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} مفعولا لأجله، وهو علة للنهي؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبرارا، أتقياء، مصلحين، وفي قريب من هذا، قال مالك "بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء" وعليه فتكون الآية نهيا عن الإسراع بالحلف، لأن كثرة الحلف. تعرض الحالف للحنث. وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونعر الحمق، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثير:
قليل الألايي حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت
وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعار لما يكثر الحلول حوله، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرض للقاصدين. وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات، والمقصود
(2/360)

لازمه: وهو الوعد على الامتثال، على جميع التقادير، والعذر في الحنث على التقدير الأول، والتحذير من الحلف، على التقدير الثاني.
وقد دلت الآية على معنى عظيم: وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به على الفعل المحذوف عليه، وهذا وإن كان مقصدا جليلا يشكر عليه الحالف، الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضي به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر. والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، إذ قد على الله تعالى: أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبر اليمين أدب مع اسم الله تعالى، والإتيان بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمر الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل: الامتثال مقدم على الأدب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير"، ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثا من مائة عصا فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غير مقصد أيوب؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته، نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه معناده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه، ولعل الكفارة لم تكن مشروعة. فهي من يسر الإسلام وسماحته. فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلة اليمين بالكفارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام، أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب.
[225] {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
استئناف بياني، لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزاميه، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن. ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلت قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] نهيا عن الحلف.
والمؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه
(2/361)

ليعاتبه، أو يعاقبه، قال كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل
فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين والمؤاخذة باليمين، هي الإلزام بالوفاء بها، وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلا ما أذن الله في كفارته، كما في آية سورة العقود.
واللغو مصدر لغا، إذا قال كلاما خطئا، يقال: لغا يلغوا لغوا كدعا، ولغا يلغي لغيا كسعى. ولغة القرآن بالواو. وفي "اللسان": "أنه لا نظير له إلا قولهم أسوته أسوا وأسى أصلحته" وفي الكواشي:"ولغا يلغوا لغوا قال باطلا" ، ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط، الذي لا يعتد به، وهو الخطأ، وهو إطلاق شائع. وقد اقتصر عليه الزمخشري في الأساس، ولم يجعله مجازا؛ واقتصر على التفسير به في "الكشاف" وتبعه متابعوه.
و"في" للظرفية المجازية، المراد بها الملابسة، وهي ظرف مستقر، صفة اللغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى، على جعل اللغو بمعنى المصدر، وهو الأظهر: لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو، أي غير المقصود من القول. فإذا جعلت اللغو اسما، بمعنى الكلام الساقط الخاطئ، لم تصح ظرفيته في الأيمان، لأنه من الأيمان، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو،
والأيمان جمع يمين، واليمين القسم والحلف، وهو ذكر اسم الله تعالى، أو بعض صفاته، أو بعض شئونه العليا أو شعائره. فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدي، وبمناسك الحج. والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة: الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت، وربما حلفوا بدماء البدن، وربما قالوا والدماء، وقد يدخلون لاما على عمر الله، يقال: لعمر الله، ويقولون: عمرك الله، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام. فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل، أو براءة من حق. وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم وأبيك ولعمرك ولعمري، ويجلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله. ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسم ليلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على
(2/362)

فعل لا محالة منه، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه، أكده بالقسم، قال بلعاء بن قيس:
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهة صدقا
أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة فصار نطقهم باليمين مؤذنا بالعزم، وكثر ذلك في ألسنتهم غي أغراض التأكيد ونحوه، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثير:
قليل الألايي حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت
فأشبه جريان الحلف على اللسان اللغو من الكلام.
وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان، لم يقصد المتكلم بها الحلف، ولكنها جرت مجرى التأكيد. أو التنبيه، كقول العرب: لا والله، وبلى والله، وقول القائل: والله لقد سمعت من فلان كلاما عجبا، وغير هذا ليس بلغو، وهذا قول عائشة، رواه عنها في "الموطأ" و"الصحاح"، وإليه ذهب الشعبي، وأبو قلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وأخذ به الشافعي. والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيما للتي كسبها القلب، في هذه الآية، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا} [المائدة:89] فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبين، فيحمل عليه مجمل {مَا عَقَّدْتُمُ}، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف، وهي التي تجري على اللسان دون قصد، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة؛ لأن نفي الفعل يعم، فاليمين التي لا قصد فيها، لا إثم ولا كفارة عليها، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] فيكون في الغموس، وفي يمين التعليق، وفي اليمين على الظن، ثم يتبين خلافه، الكفارة في جميع ذلك.
وقال مالك: "لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبين خلاف ظنه" قال في "الموطأ" :"وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك" وهو مروي، في غير "الموطأ"، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومكحول، وابن أبي نجيح. ووجهه من الآية: أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة
(2/363)

إلا على الحنث، لا أصل القسم؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية، وبينت في آية المائدة بالكفارة، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث، فهو اللغو، فلا مؤاخذة فيه، أي لا كفارة وأما قول الرجل: لا والله وبلى والله، وهو كاذب، فهو عند مالك قسم ليس بلغو، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق، والقائل "لا والله" كاذبا، لم يتبين حنثه له بعد اليمين، بل هو غافل عن كونه حالفا، فإذا انتبه للحلف، وجبت عليه المفازة، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث.
وإنما جعلنا تفسير {مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} قلوبكم كسب القلب للحنث، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، إما إذن في الحنث، أو نهي عن الحلف خشية الحنث، على الوجهين الماضيين، وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} بيان وتعليل لذلك، وحكم البيان حكم المبين، لأنه عينه.
وقال جماعة: اللغو ما لم يقصد به الكذب، فتشمل القسمين، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في "لا والله وبلى والله" أم كان بقصد، مع اعتقاد الصدق، فتبين خلافه. وممن قال بهذا: ابن عباس، والشعبي وقال به أبو حنيفة، فقال: اللغو لا كفارة فيها ولا إثم.
واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا، مقابلا لما كسبته القلوب، ونفي المؤاخذة عن اللغو، وأثبتها لما كسبه القلب، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف، فاللغو هي التي لا حنث فيها؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضا حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال: إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلا لما كسبه القلب، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب، أريد به الغموس؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلا للأيمان المعقودة،
والعقد في الأصل: الربط، وهو معناه لغة، وقد أضافه إلى الأيمان، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة:89] الخ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس، والمنعقدة، وهو نوعان لا محالة، وظهر حكم الغموس، وهي الحلف بقصد الكذب، فهو الإثم، وحكم المنعقدة، أنه الكفارة، فوافق مالكا في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو، وهذا تحقيق مذهبه.وفي اللغو، غير
(2/364)

هذه المذاهب، مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة، لا نطيل بها.
وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا، دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة.
[226, 227] {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي، للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه، في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلا بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
وعن سعيد بن المسيب: "كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألا يقربها مضارة للمرأة" أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم. قال:"ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى" فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً} [البقرة:224].
والإيلاء: الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقا: يقال آلى يولي إيلاء، وتألي يتألي تأليا، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوى فالألوة فعولة والألية فعيلة.
وقال الراغب:"الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] وصار في الشرع الحلف المخصوص فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي
(2/365)

يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيرا، ويذكرونه كثيرا، قال المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه
وقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:22] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فعداه بمن، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين. وأيا ما كان فالإيلاء، بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحلف على الوصف المخصوص.
ومجيء اللام في {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأجل مثل "هذا لك" ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة. وعدي فعل الإيلاء بمن، مع أن حقه أن يعدى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البعد، كأنه قال: للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمن للابتداء المجازي.
والنساء:الزوجات كما تقدم في قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وقد تقدم في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173].
والتربص: انتظار حصول شيء لغير المنتظر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى في كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ} [سبأ:33].
وتقديم {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} على المبتدأ المسند إليه، وهو تربض، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذكر المسند إليه. و {فَاءُوا} رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق {فَاءُوا} بالظهور المقصود. والفيئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء، مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم. وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم، الوارد فيه
(2/366)

القرآن، قصد الإضرار بالمرأة. وقد يكون الإيلاء مباحا إذا لم يقصد به الإضرار، ولم تطل مدته: كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعا، غير قصد الإضرار المذموم شرعا. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهم إلى الإفراط في الإدلال، وحمل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.
وأما جواز الإيلاء للمصلحة: كالخوف على الولد من الغيل، وكالحمية من بعض الأمراض في الرجل والمرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم، واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمر، إن لم يقيدوها بالحلف.
وعزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مول من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة، فقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دليل على شرط محذوف، دل عليه قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} فالتقدير: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين: بين أن يفيئوا، أو يطلقوا، فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} دليل الجواب، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلا محدودا، لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا مندوحة لهم غير هذين.
وقد جعل الله للمولى أجلا وغاية: أما الأجل فانفق عليه علماء الإسلام، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء، وبعض العلماء: كإسحاق بن راهويه وحماد يقول: هو إيلاء، ولا ثمرة لهذا الخلاف، فيما يظهر، إلا ما يترتب على الحلف بقصد الضر من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومن أمره إياه بالفيئة.
وأما الغاية، فاختلفوا أيضا في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك، يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفيء، أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وروى ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: إن مضت
(2/367)

المدة ولم يفئ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفئ بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر.
واحتج المالكية بأن الله تعالى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فدل على أن هنالك مسموعا؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين، بأن "السميع" مرادف "للعليم" وليس المسموع إلا لفظ المولى، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية. وقوله: {عَلِيمٌ} يرجع للنية والقصد. وقال الحنفية {سَمِيعٌ} لإيلائه، الذي صار طلاقا بمضي أجله، وكأنهم يريدون: أن صيغة الإيلاء، جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد {عَلِيمٌ} بنية العازم على ترك الفيئة. وقول المالكية أصح؛ لأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} جعل مفرعا عن عزم الطلاق؛ لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام.
وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر، وهو أجل حدده الله تعالى، ولم نطلع على حكمته، وتلك المدة ثلث العام، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمنا طويلا، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم، مثل ثلث المال في الوصية، وأشار به النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر. وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب، وعزا ابن كثير في "تفسيره" روايتها لمالك في "الموطأ" عن عبد الله ابن دينار. ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا: وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني، ولا رواية يحيى بن يحيى ابن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها. وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى بالمنتقي، ولم يعزها إلى شيء من روايات "الموطأ": أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد:
ألا طال هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فلولا حذار الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
فاستدعاها، من الغد، فأخبرته أن زوجها أرسل في بعث العراق، فاستدعي عمر نساء فسألهن عن المدة التي تستطيع المرأة فيها الصبر على زوجها قلن شهران ويقل صبرها في
(2/368)

ثلاثة أشهر، وينفد في أربعة أشهر وقيل: إنه سأل ابنته حفصة. فأمر عمر قواد الأجناد ألا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت استرد الغازين ووجه قوما آخرين.
[228] {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}
عطف على الجملة قبلها، لشدة المناسبة، وللاتحاد في الحكم وهو التربص، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة، ولذلك لم يقدم قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] على قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} لأن هذه الآي جاءت متناسقة، منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام، وإلقائها، بأسلوب سهل لا تسأم له النفس، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس.
وسيأتي كلامنا على الطلاق عند قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
وجملة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} خبرية مراد بها الأمر، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازا مرسلا مركبا، باستعمال الخبر في لازم معناه، وهو التقرر والحصول. وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] بأن يكون الخبر مستعملا في المعنى المركب الإنشائي، بعلاقة اللزوم بين الأمر، مثلا كما هنا، وبين الامتثال، حتى يقدر المأمور فاعلا فيخبر عنه. ويجوز جعله مجازا تمثيليا، كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال "فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا ونحوه قولهم في الدعاء: رحمه الله ثقة بالاستجابة" قال التفتازاني: فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس: رحمه الله، أو في المستقبل، أو الحال، كما في هذه الآية. قلت: وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وأنه أطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
والتعريف في "المطلقات" تعريف الجنس. وهو مفيد للاستغراق، إذ لا يصلح لغيره
(2/369)

هنا. وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن. فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وليس هذا بعام مخصوص في هذه، بمتصل ولا بمنفصل، ولا مراد به الخصوص، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة الكقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء. فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء. وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء، بما ثبت في السنة: أن عدة الأمة حيضتان، رواه أبو داود والترمذي. فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض، والآيسات من المحيض، والحوامل، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق. إلا أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل.
وقال المالكية والشافعية: إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة، بمخصصات منفصلة، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء. وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف. وإنما لجأوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخا، وشرط النسخ تقرر المنسوخ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالإقراء لكل المطلقات.
والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخا، أصل عير جدير بالتأصيل؛ لأن تخصيص العام هو وروده مخرجا منه بعض الأفراد بدليل، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص، لظهور بطلانه، ولا بنسخ الخاص للعام، لظهور سبقه، والناسخ لا يسبق؛ وبعد، فمهما لم يقع عمل بالعموم، فالتخصيص ليس بنسخ.
و {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء، وزيد {بِأَنْفُسِهِنَّ} تعريضا بهن، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات، الراميات بأنفسهن إلى التزوج، فلذلك أمرن أن يتربصن بأنفسهن، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى رجال. قال في "الكشاف":"ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن" وقد زعم بعض النحاة: أن {بِأَنْفُسِهِنَّ} تأكيد لضمير المطلقات،وأن الباء
(2/370)

زائدة، ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي. ذكره صاحب "المغنى"، ورده، من جهة اللفظ، بأن: حق توكيد الضمير المتصل، أن يكون بعد ذكر الضمير المنفصل أو بفاصل آخر، إلا أن يقال: اكتفى بحرف الجر؛ ومن جهة المعنى، بأن التوكيد لا داعي إليه؛ إذ لا يذهب عقل السامع إلى أن المأمور غير المطلقات الذي هو المبتدأ، الذي تضمن الضمير خبره.
وانتصب {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على النيابة عن المفعول فيه؛ لأن الكلام على تقدير مضاف؛ أي مدة ثلاثة قروء، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب.
والقروء جمع قرء- بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر. وقال أبو عبيدة: إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقا على أحد طرفيه. وتبعه الراغب. ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين. وأحسب أن أشهر معاني القرء، عند العرب، هو الطهر، ولذلك ورد في حديث عمر، أن ابنه عبد الله، لما طلق امرأته في الحيض، سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وما سؤاله إلا من أجل أنهم كانوا لا يطلقون إلا في حال الطهر ليكون الطهر الذي وقع فيه الطلاق مبدأ الاعتداد وكون الطهر الذي طلقت فيه هو مبدأ الاعتداد هو قول جميع الفقهاء ما عدا ابن شهاب فإنه قال: يلغى الطهر الذي وقع فيه الطلاق.
واختلف العلماء في المراد من القروء، في هذه الآية، والذي عليه فقهاء المدينة، وجمهور أهل الأثر، أن القرء: هو الطهر. وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وجماعة من الصحابة، من فقهاء المدسنة، وماله، والشافعي، في أوضح كلاميه، وابن حنبل. والمراد به الطهر الواقع بين دمين. وقال علي، وعمر، وابن مسعود، وأبو حنيفة، والثوري وابن أبي ليلى، وجماعة: إنه الحيض. وعن الشافعي، في أحد قوليه، أنه الطهر المنتقل منه إلى الحيض، وهو وفاق لما فسر به أبو عبيدة، وليس هو بمخالف لقول الجمهور: إن القرء: الطهر، فلا وجه لعده قولا ثالثا.
ومرجع النظر عندي، في هذا، إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة. وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة، من حمل المطلق، وانتظار الزوج لعله أن يرجع. فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظارا للرجعة. فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم، في استبراء الأمة في انتقال الملك،
(2/371)

وفي السبايا، وفي أحوال أخرى، مختلفا في بعضها بين الفقهاء، فتعين أن ما زاد على حيض واحد، ليس لتحقق عدم الحمل، بل لأن في تلك المدة رفقا بالمطلق، ومشقة على المطلقة، فتعارض المقصدان، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمدا بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها، وحصول الطهر بعدها. فالذين جعلوا القروء أطهارا راعوا التخفيف عن المرأة، مع حصول الإمهال للزوج، واعتضدوا بالأثر.والذين جعلوا القروء حيضات، زادوا للمطلق إمهالا؛ لأن الطلاق لا يكون إلا في طهر عند الجميع، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء.
وقروء صيغة جمع الكثرة، استعمل في الثلاثة، وهي قلة توسعا، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس، بوجوب صريح العدد. وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة، وتبين المطلقة الرجعية من مفارقها، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة، قال الجمهور: إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة، بعد تحقق أنه دم حيض.
ومن أغرب الاستدلال لكون القرء الطهر. الاستدلال بتأنيث اسم العدد في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قالوا: والطهر مذكر فلذلك ذكر معه لفظ "الثلاثة"، ولو كان القرء الحيضة والحيض مؤنث، قال ثلاث قروء، حكاه ابن العربي في "الأحكام"، عن علمائنا، يعني المالكية ولم يتعقبه وهو استدلال غير ناهض؛ فإن المنظور إليه، في التذكير والتأنيث، إما المسمى إذا كان التذكير والتأنيث حقيقيا، وإلا فهو حال الاسم من الاقتران بعلامة التأنيث اللفظي، أو إجراء الاسم على اعتبار تأنيث مقدر مثل اسم البئر، وأما هذا الاستدلال فقد لبس حكم اللفظ بحكم أحد مرادفيه.
وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم. فهو خبر عن التشريع، فهو إعلام لهن بذلك، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته، كقول النابغة "كتمتك ليلا بالحمومين ساهرا" أي كتمتك حال ليل.
و {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} موصول، فيجوز حمله على العهد: أي ما خلق من الحيض بقرينة السياق. ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل، وهو الظاهر، وهو من العام الوارد على سبب خاص، لأن اللفظ العام الوارد في
(2/372)

القرآن عقب ذكر بعض أفراده قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذكر قبله، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس، لأن الحكم نيط بكتمان {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. وهذا محمل اختلاف المفسرين، فقال عكرمة، والزهري، والنخعي: ما خلق الله في أرحامهن: الحيض، وقال ابن عباس وعمر: الحمل، وقال مجاهد: الحمل والحيض، وهو أظهر، وقال قتادة: كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل، ليلحق الولد بالزوج الجديد "أي لئلا يبقى بين المطلقة ومطلقها صلة ولا تنازع في الأولاد" وفي ذلك نزلت، وهذا يقتضي أن العدة لم تكن موجودة فيهم، وأما مع مشروعية العدة، فلا يتصور كتمان الحمل؛ لأن الحمل لا يكون إلا مع انقطاع الحيض، وإذ مضت مدة الأقراء تبين أن الحمل من الزوج الجديد.
وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} شرط أريد به التهديد دون التقييد، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد، على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، كما يستعمل الخبر في التحير، والتهديد، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي، وإنما المعنى أنهن إن كتمن، فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان.
وجيء في هذا الشرط بإن، لأنها أصل أدوات الشرط، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا، فإذا كان الشرط مفروضا، فرضا لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه، جيء بإن. وليس لإن هنا، شيء من معنى الشك في حصول الشرط، ولا تنزيل إيمانهن، المحقق، منزلة المشكوك، لأنه لا يستقيم، خلافا لما قرره عبد الحكيم.
والمراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان الكامل، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام، فليس إيمان أهل الكتاب، بالله واليوم الآخر، بمراد هنا؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب.
وليس في الآية دليل على تصديق النساء، في دعوى الحمل والحيض، كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء، فلابد من مراعاة أن يكون قولهن مشبها، ومتى ارتيب في صدقهن، وجب المصير إلى ما هو المحقق، وإلى قول الأطباء والعارفين. ولذلك قال مالك: لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها، في مدة شهر من يوم الطلاق، لم تصدق، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوما، مع يمينها وقال عبد الملك: خمسون يوما، وقال ابن
(2/373)

العربي: لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء، وجرى به عمل تونس، كما نقله ابن ناجي، وعمل فاس، كما نقله السجلماسي.
وفي الآية دلالة على أن المطلقة الكتابية لا تصدق في قولها: إنها انقضت عدتها.
وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ}. البعولة جمع بعل، والبعل اسم زوج المرأة. وأصل البعل في كلامهم، السيد. وهو كلمة سامية قديمة، فقد سمى الكنعانيون "الفينيقيون" معبودهم بعلا قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه، ولأن الزوج كان يعتبر مالكا للمرأة، وسيدا لها، فكان حقيقا بهذا الاسم، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام، فما بعده من الشرائع، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف، فأطلق العرب لفظ الزوج على كل من الرجل والمرأة، للذين بينهما عصمة نكاح، وهو إطلاق عادل؛ لأن الزوج هو الذي يثني الفرد، فصارا سواء في الاسم، وقد عبر القرآن بهذا السم، في أغلب المواضع، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:72]، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة، نحو قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء:128] وهاته الآية كذلك، لأنه لما جعل حق الرجعة للرجل جبرا على المرأة، ذكر المرأة بأنه بعلها قديما،
وقيل: البعل: الذكر، وتسمية المعبود بعلا لأنه رمز إلى قوة الذكورة، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بعلا، وجاء جمعه على وزن فعولة، وأصله فعول المطرد في جمع فعل، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه، ونظير قولهم: فحولة وذكورة وكعوبة وسهولة، جمع السهل، ضد الجيل، وزيادة الهاء في مثله سماعي؛ لأنها لا تؤذن بمعنى، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة.
وضمير {بُعُولَتُهُنَّ}، عائد إلى "المطلقات" قبله، وهن المطلقات الرجعيات، كما تقدم، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشأوا طلاقهن، وأطلق اسم البعولة على المطلقين، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات، إلا أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم؛ لقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]، أي أمر المراجعة، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء، فللمطلقين، بحسب هذه الحالة، حالة وسط بين حالة الأزواج وحالة الأجانب، وعلى اعتبار
(2/374)

هذه الحالة الوسط أوقع عليهم اسم البعولة هنا، وهو مجاز قرينته واضحة، وعلاقته اعتبار ما كان، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى :{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2].
وقد جملة الجمهور على المجاز؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقا رجعيا امرأة أجنبية عن المطلق، بحسب الطلاق، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة، ما دامت المرأة في العدة، ولو بدون رضاها، وجب إعمال مقتضى الحالتين، وهذا قول مالك لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية، ولا أن يدخل عليها بدون أذن، ولو وطئها بدون قصد مراجعة أثم، ولكن لا حد عليه للشبهة، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى، ما دامت تلك العدة .
وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته، ويشكل على قولهم أن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلقها وهي في العدة؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف، بموافقة علي، رواه في "الموطأ"، فيدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث، فما لم تنقض العدة، فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء، فصار ذلك شكا في مانع الإرث، والشك في المانع يبطل إعماله.
وحمل أبو حنيفة، والليث بن سعد، البعولة على الحقيقة، فقالا "الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلقته؛ لأن الله سماهم بعولة" وسوغا دخول المطلق عليها، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة. وقال به الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، ونسب إلى سعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وابن سيرين، وعطاء، وبعض أصحاب مالك. وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية.
و "أَحَقُّ" قيل: هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة، أتى به لإفادة قوة حقهم، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل، كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} [العنكبوت:45] لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من، وقيل: هو تفضيل على بابه، والمفضل عليه محذوف، إشارة إليه في "الكشاف"، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه: أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق: هما حق الزوج إن رغب فيها، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها، فصار المعنى: وبعولتهن أحق برد المطلقات، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز.
وقوله: {فِي ذَلِكَ} الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى التربص، بمعنى مدته، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة، أي بعد ذلك. كما هو مفهوم القيد. هذا تقرير معنى
(2/375)

الآية، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة، بل الآية جامعة لأمرين: حكم المراجعة، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات، وذلك أن المتفارقين. لا بد أن يكون لأحدهما، أو لكليهما، رغبة في الرجوع، فالله الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال، والمرأة أهل الغضب والإباء.
والرد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217] والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة، وهو المراجعة، وتسمية المراجعة ردا يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعا لعصمة النكاح، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأولوا التعبير بالرد: بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة، فسميت المراجعة ردا عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي.
وقوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}، شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح، وليس هو للتقيد.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
لا يجوز أن يكون ضمير {لَهُنَّ} عائد إلى أقرب مذكور، وهو "المطلقات"، على نسق الضمائر قبله؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة، حتى يكون لهن حقوق، وعليهن حقوق، فتعين أن يكون ضمير لَهُنَّ ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله: {بِرَدِّهِنَّ} بقرينة مقابلته بقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
فالمراد بالرجال في قوله وَلِلرِّجَالِ الأزواج، كأنه قيل: ولرجالهن عليهن درجة.
والرجل إذا أضيف إلى المرأة، فقيل: رجل فلانة، كان بمعنى الزوج، كما يقال للزوجة: امرأة فلان، قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71 ] {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81].
ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن، إذا لم يكن له سبب، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة، حين ذكر طلاقهن بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227]، إلى ذكر المطلقات
(2/376)

بتلك المناسبة، ولما اختم حكم الطلاق بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} صار أولئك النساء المطلقات زوجات، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر، فعادت إلى أحكام الزوجات، بأسلوب عجيب: والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولا عليهن، وتظاهرا بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة، فناسب أن يذكروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال.
وفي الآية احتباك، فالتقدير: ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر، وبالعكس. وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاونا بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها. وأعظم ما أسست به هو ما جمعته هذه الآية.
وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون، فقدم ليصغي السامعون إلى المسند إليه، بخلاف ما لو أخر فقيل ومِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لهن بِالْمَعْرُوفِ وفي هذا إعلان لحقوق النساء، وإصداع بها وإشادة بذكرها، ومثل ذلك من شأنه أن يتلقى بالاستغراب، فلذلك كان محل الاهتمام. ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية، كانت زوجة أم غيرها، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة، وتنافس عند الرغبة، ومظهر استخفاف، وقلة إنصاف، عند الغضب، فأما الأول فناشئ عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة، وصدق المحبة، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل، ومحل تنافسه، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مرة بن محكان السعدي:
يا ربة البيت قومي، غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقرابا
فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمرها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة
وأما الثاني فالرجل، مع ذلك، يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته، ربما اشتد معها في خشونة المعاملة، وإذا تخالف رأيهما أرغمها على متابعته،
(2/377)

بحق أو بدونه، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتا تفاوتهم في الحضارة والبداوة، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافة، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه،
روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذون من أدب الأنصار فصخبت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني قالت: ولم تنكر أن أراجعك فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت: وقد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت على ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل? قالت: نعم فقلت: قد خبت وخسرت" الحديث
وفي رواية عن ابن عباس عنه "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام، وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا من غير أن ندخلهن في شئ من أمورنا" ويتعين أن يكون هذا الكلام صدرا لما في الرواية الأخرى وهو قوله: "كنا معشر قريش نغلب النساء"، إلى آخره. فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء. وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة، فكانت فيهم رقة زائدة. وفي الحديث "جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية" وقد سمي عمر بن الخطاب ذلك أدبا فقال: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار.
وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له، وإن شاءوا زوجوها بمن شاءوا، وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم، فهم أحق بذلك فنزلت آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19]
وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له: "انظر أي زوجتي شئت أنزل له عنها" فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك" الحديث. فلما جاء الإسلام بالإصلاح،كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة، ضبط حقوق الزوجين بوجه
(2/378)

لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياء التي قد يخفي أمرها قد جعل لها التحكيم قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله.
وأول إعلان هذا العدل بين الزوجين في الحقوق، كان بهاته الآية العظيمة، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام.
والمثل أصله النظير والمشابه، كالشبه والمثل، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17]، وقد يكون الشيء مثلا لشيء في جميع صفاته، وقد بكون مثلا له في بعض صفاته. وهي وجه الشبه. فقد يكون وجه المماثلة ظاهرا فلا يحتاج إلى بيانه، وقد يكون خفيا فيحتاج إلى بيانه، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسا أو أنواعا أو أشخاصا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة. فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها، وأن تجهز طعامه، أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها، وعلى هذا القياس فإذا تأتت المماثلة الكاملة فتشرع، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها، بدليل ما رتب على حكم النشوز، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة {وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون:6] إلا إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر، يدخل تحت قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} والمماثلة في بعث الحكمين، والمماثلة في الرعاية، ففي الحديث: "الرجل
(2/379)

راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها، والمماثلة في التشاور في الرضاع، قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة:233] {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:6].
وتفاصيل هاته المماثلة، بالعين أو بالغاية، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة، ومرجعها إلى نفي الإضرار، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة، وقد أومأ إليها قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} أي لهن حق متلبسا بالمعروف، غير المنكر، من مقتضى الفطرة، والآداب، والمصالح، ونفي الإضرار، ومتابعة الشرع. وكلها مجال أنظار المجتهدين. ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويبا لأبواب تجمع حقوق الزوجين. وفي "سنن أبي داود"، و"سنن ابن ماجة"، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة، والآخر لحقوق الزوج على الرجل، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولي للمرأة فهي ولية، كما يقولون، وكانوا لا يدخرونها تربية، وإقامة وشفقة، وإحسانا، واختيار مصير، عند إرادة تزويجها، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء، بيد أنهم كانوا، مع ذلك، لا يرون لها حقا في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها، ولا بطلب ما لها منهم، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء:127] - وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فحدد الله لمعاملات النساء حدودا، وشرع لهن أحكاما، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة، ثم فصلتها الشريعة تفصيلا، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام، أو الفضائل، وعطف النساء على الرجال.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} الباء للملابسة، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة، المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصا، أو قياسا، أو اقتضته المقاصد الشرعية، أو المصلحة العامة، التي ليس في الشرع ما يعارضها. والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق، مثل الذي عليهم ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا، وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين. في مختلف العصور والأقطار. فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح، قد سلبها حق المماثلة للابن، فدخل ذلك تحت الدرجة، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلا برضاها قد أثبت لها
(2/380)

حق المماثلة للذكر، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلثها إلا بإذن زوجها، قد سلبها حق المماثلة للرجل. وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل. وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها، إذا كانت به عاهة، قد جعل لها حق المماثلة، وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق. وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف، أو من المنكر. وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة، أو من تفرقة، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} قطعا أو ظنا فكونوا من ذلك بمحل التيقظ، وخذوا بالمعنى دون التلفظ.
ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني، والمربية الأولى، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها، والتي تصادف عقولا لم تمسها وسائل الشر، وقلوبا لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان. فإذا كانت تلك التربية خيرا، وصدقا، وصوابا، وحقا، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة، فهيأت لأمثالها، من خواطر الخير، منزلا رحبا، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حبا. ودين الإسلام دين تشريع ونظام، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام، إلى الارتقاء وسيادة العالم.
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} إثبات لتفضيل الأزواج. في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مطردة، ولزيادة بيان المراد من قوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية.
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ} خبر عن درجة، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعا في الجاهلية.
والرجال جمع رجل، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة، وأما قولهم: امرأة
(2/381)

رجلة الرأي، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل.
والدرجة ما يرتقي عليه في سلم أو نحوه، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء، ومهل، يقال: درج الصبي، إذا ابتدأ في المشي، وهي هنا استعارة للرفعة المكنى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل: دركة، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه. والعبرة بالمقصد الأول. فإن كان القصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة، ولا عبرة بنزول الصاعد، وصعود النازل.
وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال: من زيادة القوة العقلية، والبدنية، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى، وأقوى جسما، وعزما، وعن إرادته يكون الصدر، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف، وتفوق بعض أفراد الآخر نادرا، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية، لأن واضع الأمرين واحد.
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم: من الإذن بتعدد الزوجة للرجل، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر، ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة، والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين، من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة، ولأنه مظنة الصواب غالبا، ولذلك إذا لم يمكن التراجع، واشتد بين الزوجين النزاع، لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35].
ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج، بلحن الخطاب، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما
(2/382)

أسست الآية حكم المساواة والتفضيل، بين الرجال والنساء. الأزواج إبطالا لعمل الجاهلية، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء، كالجهاد، وذلك مما اقتضته القوة الجسدية، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة، والتفضيل في باب العدالة، وولاية النكاح، والرعاية، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه، وإنما عدت هذه درجة، مع أن للنساء أحكاما لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل.
فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعيا لأحوال طبقات الناس، مع احتمال أن يكون المراد من قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] أن ذلك يجريه ولاة الأمور، ولنا فيه نظر عندما نصل إليه إن شاء الله تعالى.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيز: القوي، لأن العزة في كلام العرب القوة: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] وقال شاعرهم:
وإنما العزة للكاثر
والحكيم: المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم.
والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقي بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظا، غير حظوظ الرضا، والفضل، والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرها، إن أبوا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلما لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا ينفي أحدا، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا.
[229] {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ
(2/383)

عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
استئناف لذكر غاية الطلاق، الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة:228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقا، كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جاريا على عدم تحديد نهاية الطلاق، كما سيأتي قريبا، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعا لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه.
روى مالك في جامع الطلاق من "الموطأ": عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبدا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق".
وروى أبو داود، والنسائي عن ابن عباس قريبا منه. ورواه الحاكم في "مستدركه" إلى عروة بن الزبير عن عائشة، قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لا تركتك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه، وفي سنن أبي داود: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة.
والتعريف في قوله الطلاق تعريف الجنس، على ما هو المتبادر في تعريف المصادر، وفي مساق التشريع، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية، نحو قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
(2/384)

الْبَيْعَ} [البقرة:275] وقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب "الكشاف" إلى اختياره، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفا في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] فإنه الطلاق الأصلي، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته، إلا الطلقة الواقعة ثالثة، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعد وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة، بعد أن تلاعنا، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها، وحذف وصف الطلاق، لأن السياق دال عليه، فصار التقدير: الطلاق الرجعي مرتان. وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان، فعلم أن التقدير: حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعية. وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذكر المرتين {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وقوله بعده: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] الآية وقد روى مثل هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم: روى أبو بكر بن أبي شيبة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام: "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وسؤال الرجل عن الثالثة، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكما معروفا إما من السنة، وإما من بقية الآية، وإنما سأل عن وجه قوله: {مرتان}. ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق، باعتبار حصوله من فاعله، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آيلا إلى معنى التطليق، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم.
وقوله: {مَرَّتَانِ}، تثنية مرة، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها، أو مضافها، فهي لا تقع إلا جارية على حدث، بوصف ونحوه، أو بإضافة ونحوها، وتقع مفردة، ومثناة، ومجموعة، فتدل على عدم تكرر الفعل، أو تكرر فعله تكررا واحدا، أو تكرره تكررا متعددا، قال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:101] وتقول العرب: "نهيتك غير مرة فلم تنته" أي مرارا، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان، ألا ترى أنك تقول: أعطيتك درهما مرتين، إذا أعطيته درهما ثم درهما، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين، بخلاف قولك أعطيتك درهمين.
فقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يفيد أن الطلاق الرجعي، شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين. مرة عقب مرة أخرى لا غير، فلا يتوهم منه، في فهم أهل اللسان، أن المراد:
(2/385)

الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجارى الاستعمال العربي، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها، مدفوعين بأفهام مولدة، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في "الكشاف".
ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فيكون كالعهد في تعريف الذكر في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] فإنه معهود مما استفيد من قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران:35].
وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} جملة مفرعة على جملة {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر، لا في وجود الحكم. و "إمساك" خبر مبتدإ محذوف، تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح، على طريقة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان، أي دون ضرار في كلتا الحالتين. وعليه فإمساك وتسريح مصدران، مراد منهما الحقيقة والاسم، دون إرادة نيابة عن الفعل، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة، وفي حال تركها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرار بها، إذ لم يكن الطلاق عندهم منهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [ البقرة:229] الآية.
ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله، وأصلهما النصب، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ} [هود:
(2/386)

69] وقد مضى أول سورة الفاتحة، فيكون مفيدا معنى الأمر، بالنيابة عن فعله، ومفيدا الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين، والتقدير فأميكوا أو سرحوا. فتبين أن الطلاق حدد بمرتين، قابلة كل منهما للإمساك بعدها، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتأوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق، عن غضب أو عن ملالة، كما قال تعالى: {ولا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة:231] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام.
وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين، إدماجا للإرشاد في أثناء التشريع.
وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة.
والتسريح ضد الإمساك في معنييه: الحقيقي، والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام. وهو يناسب الإمساك، لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة، وغير ذلك، فهو أعم من الإحسان. وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن، والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:49] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن، ورياشهن، ويكثرون الطعن فيهن قال ابن عرفة، في تفسيره: "فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي إعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان
(2/387)

الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر.
وقد أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة، بناء على أن المقصود من قوله: {مرتان} التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة:230] الآية.
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
يجوز أن تكون الواو اعتراضية، فهو اعتراض بين المتعاطفين. وهما قوله: {فَإِمْسَاكٌ} وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ويجوز أن تكون معطوفة على {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} لأن من إحسان التسريح إلا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضا عن الطلاق، وهذه مناسبة مجيء هذا الإعتراض، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به، فالزوج يقف عن أخذ المال: وولي الأمر يحكم بعدم لزومه، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهي "وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين" وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} إلى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] وإليه أشار صاحب "الكشاف"،
وقال ابن عطية، والقرطبي، وصاحب "الكشاف": الخطاب في قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} للأزواج بقرينة قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا} وقوله: {آتَيْتُمُوهُنَّ} والخطاب في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ} للحكام، لأنه لو كان للأزواج لقيل: فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما، قال في الكشاف: ونحو ذلك غير عزيز في القرآن اه يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في "الكشاف" بقوله تعالى في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] على رأي صاحب "الكشاف"، إذ جعله معطوفا على {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفا على الخطابات العامة للأمة، وإن كان التبشير خاصا به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يتأتى إلا منه. وأظهر من تنظير صاحب "الكشف" أن تنظره بقوله تعالى، فيما يأتي: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] إذ خوطب فيه المطلق والعاضل، وهما متغايران.
والضمير المؤنث في {آتَيْتُمُوهُنَّ} راجع إلى "المطلقات"، المفهوم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لأن الجنس يقتضي عددا من المطلقين والمطلقات، وجوز في "الكشاف"
(2/388)

أن يكون الخطاب كله للحكام وتؤول قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا} وقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنة صاحب "الكشاف" وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحاكم فبطل هذا الوجه، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به، واستعمال الحل والحرمة، في هذا المعنى وضده، قديم في العربية، قال عنترة:
يا شاة ماقنص لمن حلت له ... حرمت على وليتها لم تحرم
وقال كعب:
إذا يساور قرنا لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مجدول
وجيء بقوله: {شَيْئاً} لأنه من النكرات، المتوغلة في الإبهام، تحذيرا من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالا أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في "دلائل الإعجاز". وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155].
وقوله "إلا أن يخافا" قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة، فالفعل مسند للفاعل، والضمير عائد إلى المتخلعين المفهومين من قوله: {أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وكذلك ضمير {يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا} وضمير {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما. وقرأ حمزة، وأبو جعفر، ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين؛ والتقدير: إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله.
والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن. ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره كقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وترادفه الخشية، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ}. وقال الشاعر يهجو رجلا من فقعس أكل كلبه واسمه حبتر:
يا حبتر لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرمه
وخرج ابن جني في "شرح الحماسة"، عليه قول الأحوص فيها، على أحد تأويلين:
(2/389)

فإذا تزول تزول على متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية.
وقد قال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.
وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه الله: بأنها حقوق الزوج وطاعته والبر به، فإذا أضاعت المرأة ذلك فقد خالفت حدود الله.
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} رفع الإثم عليهما، ويدل على أن باذل الحرام لآخذه مشارك له في الإثم، وفي حديث ربا الفضل "الآخذ والمعطي في ذلك سواء"، وضمير {افْتَدَتْ بِهِ} لجنس المخالعة، وقد تمحض المقام لأن يعاد الضمير إليها خاصة؛ لأن دفع المال منها فقط. وظاهر عموم قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أنه يجوز حينئذ الخلع بما زاد على المهر وسيأتي الخلاف فيه.
ولم يختلف علماء الأمة أن المراد بالآية أخذ العوض على الفراق، وإنما اختلفوا في هذا الفراق هل هو طلاق أو فسخ، فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ولا يكون إلا بائنا؛ إذ لو لم يكن بائنا لما ظهرت الفائدة في بذل العوض، وبه قال عثمان، وعلي، وابن مسعود، والحسن، وعطاء، وابن المسيب، والزهري، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، ومكحول.
وذهب فريق إلى أنه فسخ، وعليه ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وإسحاق، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل،
وكل من قال: إن الخلع لا يكون إلا بحكم الحاكم. واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال مرة هو طلاق؛ وقال مرة ليس بطلاق، وبعضهم يحكي عن الشافعي أن الخلع ليس بطلاق، إلا أن ينوي بالمخالعة الطلاق، والصواب أنه طلاق لتقرر عصمة صحيحة، فإن أرادوا بالفسخ ما فيه من إبطال العصمة الأولى فما الطلاق كله إلا راجعا إلى الفسوخ، وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما. بعد أن طلق الرجل طلقتين، فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج، وعند ابن عباس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، ومن وافقهم: لا تعد طلقة، ولهما أن يعقدا نكاحا مستأنفا.
وقد تمسك بهذه الآية سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وزياد بن أبي سفيان،
(2/390)

فقالوا: لا يكون الخلع إلا بحكم الحاكم لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
والجمهور على جواز إجراء الخلع بدون تخاصم، لأن الخطاب ليس صريحا للحكام وقد صح عن عمر، وعثمان، وابن عمر، أنهم رأوا جوازه بدون حكم حاكم. والجمهور أيضا على جواز أخذ العوض على الطلاق، إن طابت به نفس المرأة، ولم يكن عن إضرار بها. وأجمعوا على أنه إن كان عن إضرار بهن فهو حرام عليه، فقال مالك إذا ثبت الإضرار يمضي الطلاق، ويرد عليها مالها. وقال أبو حنيفة: هو ماض ولكنه يأثم بناء على أصله في النهي، إذا كان الخارج عن ماهية المنهي عنه. وقال الزهري، والنخعي، وداود: لا يجوز إلا عند النشوز والشقاق. والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع، وأكده بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} ثم بالوعيد بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس؛ إذ قالت له: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت. أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟" قالت: "نعم وأزيده" زاد في رواية قال: "أما الزائد فلا" وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع، ألا يرى قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] هكذا أجاب المالكية، كما في "أحكام ابن العربي"، و"تفسير القرطبي". وعندي أنه جواب باطل، ومتمسك بلا طائل، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا، فهو تعسف، وصرف للكلام عن وجهه، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} فهذا نكرة في سياق النفي، أي لا يحل أخذ أقل شيء، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} ففيه منطوق ومفهوم، وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} ففيه كذلك، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة، والحال، والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز،
(2/391)

كالاستثناء، والشرط. وأما الاحتجاج للجواز بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق، فإن ضمير "منه" عائد إلى الصدقات، لأن أول الآية: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} [النساء:4] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة، مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح.
واختلفوا في جواز أخذ الزائد على ما أصدقها المفارق، فقال طاووس، وعطاء والأوزاعي وإسحاق، وأحمد: لا يجوز أخذ الزائد، لأن الله تعالى خصه هنا بقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجميلة، لما قالت له: أرد عليه حديقته وأزيده "أما الزائد فلا" أخرجه الدارقطني عن ابن جريج. وقال الجمهور: يجوز أخذ الزائد لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} واحتجوا بما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري: أن أخته كانت تحت رجل من الأنصار، تزوجها على حديقة، فوقع بينهما كلام فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين عليه حديقته ويطلقك؟" قالت: "نعم وأزيده"، فقال لها: "ردي عليه حديقته وزيديه" وبأن جميلة لما قالت له: وأزيده لم ينكر عليها.
وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك أي يحرمه، ولم يصح عنده ما روى أما الزائد فلا والحق أن الآية ظاهره في تعظيم أمر أخذ العوض على الطلاق، وإنما رخصه الله تعالى إذا كانت الكراهية والنفرة من المرأة في مبدأ المعاشرة، دفعا للأضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق الذي لم ينتفع منه بمنفعة؛ لأن الغالب أن الكراهية تقع في مبدأ المعاشرة لا بعد التعاشر.
فقوله: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} ظاهر في أن ذلك هو محل الرخصة، لكن الجمهور تأولوه بأنه هو الغالب فيما يجحف بالأزواج، وأنه لا يبطل عموم قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقد أشار مالك بقوله: ليس من مكارم الأخلاق، إلى أنه لا يراه موجبا للفساد والنهي؛ لأنه ليس مما يختل به ضروري أو حاجي، بل هو آيل إلى التحسينات، وقد مضى عمل المسلمين على جوازه
واختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة: فالجمهور على أنها محكمة، وقال فريق: منسوخة بقوله تعالى، في سورة النساء [20] {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني، وهو قول شاذ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته، فيحرم عليه أن يفارقها، ثم
(2/392)

يزيد فيأخذ منها مالا، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
جملة {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} معترضة بين جملة {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبيينا؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله.
وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية، بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده.
والإقامة في الحقيقة، الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حدا لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعا لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.
وجملة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تذييل وأفادت جمله {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} حصرا وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.
واسم الإشارة من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماما بإيقاع وصف الظالمين عليهم.
وأطلق فعل {يَتَعَدَّ} على معنى يخالف حكم الله ترشيحا، لاستعارة الحدود لأحكام الله وهو، مع كونه ترشيحا، مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود.وفي الحديث: "ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه".
[230] {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ
(2/393)

عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]
تفريع مرتب على قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] وما بينهما بمنزلة الاعتراض، على أن تقديمه يكسبه تأثيرا في تفريع هذا على جميع ما تقدم؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييرا بين المراجعة وعدمها، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك {فَإِنْ طَلَّقَهَا} وهو يدل بطريق الاقتضاء، على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة. وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إذ علم أن ذلك بيان آخر عدد في الرجعى وأن ما بعده بتات، فذكر قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} زيادة في البيان، وتمهيد لقوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} إلخ فالفاء: إما عاطفة لجملة {إِنْ طَلَّقَهَا} على جملة: {فَإِمْسَاكٌ} [البقرة:229] باعتبار ما فيها، من قوله: {فَإِمْسَاكٌ}، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها، أي فإن أمسك المطلق أي راجع، ثم طلقها، فلا تحل له من بعد وهذا هو الظاهر، وإما فصيحة لبيان قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق، أي فإن المراد بعد المراجعة فسرح. فلا تحل له من بعد، وإعادة هذا على الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج، تصريحا بما فهم من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان، على الوجهين المتقدمين، ولا يعوزك توزيعه عليها، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضا، كما تقدم في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]
والآية بيان لحق المراجعة صراحة، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود، في "سننه"، في باب المراجعة بعد التطليقات الثلاث، عن ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}
ولا يحل بحال عطف قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} على جملة {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} [البقرة:229] ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا}، و {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
(2/394)

بَعْدُ} بما تعلق به حكم قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} [البقرة:229] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد، فمن العجيب ما وقع في "شرح الخطابي على سنن أبي داود": أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخا بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية قال فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعد جريه على معاني الاستعمال العربي.
وقوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ} أي تحرم عليه وذكر قوله: {مِنْ بَعْدُ} أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلا على المطلق، وإيماء إلى علة التحريم، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته، واستخفافه بحق المعاشرة، حتى جعلها لعبة تقبلها عواطف غضبه وحماقته، فلما ذكر لهم قوله: {مِنْ بَعْدُ} علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
والمراد من قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً} أن تعقد على زوج آخر، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين، ولم أر لهم إطلاقا آخر فيه لا حقيقة ولا مجازا، وأياما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلا، وهذه نكتة غفلوا عنها في هذا المقام.
وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لعبا في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: "فكانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا فلذلك قال له الخضر في الثالثة : {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78].
وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق المراجعة، بمجرد الطلاق، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج، واشترط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثا، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر، وينشده حال
(2/395)

المرأة قول ابن الزبير1:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وفي الطيبي قال الزجاج إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا وقد علم السامعون أن اشترط نكاح زوج آخر هو تربية المطلقين، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي، زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة2 هذا الثوب وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة"؟ قالت: نعم قال: "لا، حتى تذوقي عسيلته" الحديث، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة، ومسيسه لها، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيس أو هو من حديث رفاعة، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد، أو هو من الزيادة على النص حتى يجيء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان، وهو شذوذ ينافي المقصود؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد، إن هو إلا تعب للعاقدين، والوالي، والشهود إلا أن يجعل
ـــــــ
1 هو بفتح الزاي وكسر الباء من بني قريضة صحابي
2 الهدبة بضم الباء وسكون الدال نهاية الثوب التي تترك ولا تنسج فتترك سدى بلا لحمةوربما فتلوها وهي المسماة في لسان أهل بلدنا بالفتول.
(2/396)

الحكم منوطا بالعقد، باعتبار ما يحصل بعده غالبا، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر، من باب التعليل بالمظنة، ولم يتابعه عليه أحد معروف، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، وأحسب ذلك سهوا منه واستباها، وقد أمر الله بهذا الحكم، مرتبا على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظا، أو تأكيدا، أو كذبا لأن ذلك ليس طلاقا بعد طلاقين، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى، لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، كما ورد في كتب الصحيح: "الموطأ" وما بعده، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض: أنه طلقها ثلاثا في كلمة، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي، أنه طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "إنما ملكك الله واحدة" فأمره أن يراجعها.
ثم إن عمر بن الخطاب، في السنة الثالثة من خلافته، حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال: أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
وقد اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة: فقال الجمهور: يلزمه الثلاث أخذا بما قضي به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان، يلزم المكلف فيها ما التزمه، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضي بذلك ولم ينكر عليه أحد، ولكنه قضي بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته.
(2/397)

وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعبد الرحمن ابن عوف، والزبير بن العوام، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وطاووس، والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس: منهم محمد بن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره بقرطبة، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل، وقال ابن تيمية من الحنابلة: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر،
واحتجوا بحجج كثيرة أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول، فإذا قال الرجل لامرأته: هي طالق ثلاثا ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك، قال ابن عباس "وهل هو إلا كمن قال: قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذبا".
الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيرة إياه، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق المراجعة، قال ابن رشد الحفيد، في "البداية1" وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1].
الثالثة قال ابن مغيث: إن الله تعالى يقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وموقع الثلاث غير محسن، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى، وقد يخرج هذا بقياس على غير مسألة في المدونة: من ذلك قول الإنسان: "مالي صدقة في المساكين" قال مالك يجزئه الثلث .
الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في "الصحيحين" "كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة".
وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاووس وقد روي بقية أصحاب ابن عباس عنه أنه قال من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه، وبانت منه زوجه، وهذا يوهن رواية طاووس، فإن
ـــــــ
1 "بداية المجتهد"لابن رشد الحفيد"2/62"،ط دار المعرفة.
(2/398)

ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه، حتى قال ابن عبد البر رواية طاووس وهم وغلط، وعلى فرض صحتها، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر: "إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة" فلو كان ذلك واقعا في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر: "إنهم استعجلوا، ولا عابه عليهم"، وهذا جواب ضعيف، قال أبو الوليد الباجي: الرواية عن طاووس بذلك صحيحة. وأقول: أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر: "فلو أمضيناه عليهم" فإن كان إمضاؤه عليهم سابقا من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله "فلو أمضيناه عليهم" وإن لم يكن إمضاؤه سابقا بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال.
الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثا في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إنما هي واحدة", أو "إنما تلك واحدة" فارتجعها. وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب؛ لأنه روى أن ركانة طلق، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثا وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا وقال: أردت واحدة فاستحلفه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.وهو جواب واه؛ لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث، ولا قائل من الجمهور بالتوهية فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة.
السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثا ولا شك أن معناه ثلاثا في كلمة، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط، وهذا دليل ضعيف جدا لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك"الموطأ" و"صحيح البخاري" و"مسلم". والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثا.
وذهب مقاتل وداود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع
(2/399)

طلاقا بالمرة، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن. ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريبا، لولا أن الفساد لا يعتري الفسوخ، وهذا مذهب شاذ وباطل، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به، وكيف لا يقع طلاقا وفيه لفظ الطلاق.
وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثا في كلمة يقع طلقة واحدة، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق المبني بها وكأن وجه قولهم فيه: أن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة.
ووصف {زَوْجاً غَيْرَهُ} تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بغزل الشاعر:
اليوم عندك دلها وحديثها ... وغدا لغيرك زندها والمعصم
وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.
و {حُدُودَ اللَّهِ} هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها.وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعا لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم: نقض فلان غزله، وأما قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا} فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي؛ لأن إقامة الحد الفاصل فيه بيان للناظرين.
والمراد بـ"قوم يعلمون"، الذين يفهمون الأحكام فهما يهيئهم للعمل بها، وبإدراك مصالحها، ولا يتحيلون في فهمها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
الواو اعتراضية، والجملة معترضة بين الجملتين: المعطوفة إحداهما على الأخرى، وموقع هذه الجملة كموقع جملة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] المتقدمة آنفا.
و {وَتِلْكَ حُدُودَ اللَّهِ} تقدم الكلام عليها قريبا.
(2/400)

وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة، مفصلة، معللة، ويتعلق قوله :{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} بفعل {يبينها} ، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتباع الإسلام.
وإقحام كلمة "لقوم" للإيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]
[231] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
عطف على جملة {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة:230] الآية عطف حكم على حكم، وتشريع على تشريع، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه.
وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ1} مؤذن بأن المراد: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} طلاقا فيه أجل. والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه. أعني أجل الانتظار، وهو العدة، وهو التربص في الآية السابقة.
وبلوغ الأجل: الوصول إليه، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته، توسعا أي مجازا بالأول. وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من "مغني اللبيب"، أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور: أحدها، وهو الكثير المتعارف، عن
ـــــــ
1 في المطبوع "حقا" وهو خطأ.
حصول الفعل وهو الأصل. الثاني عن مشارفته نحو {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن}
(2/401)

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:240] أي يقاربون الوفاة، لأنه حين الوصية. الثالث: إرادته نحو: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]. الرابع: القدرة عليه نحو: {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الانبياء:104] أي قادرين.
"والأجل" في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين، ومنه قولهم: ضرب له أجلا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28].
والمراد بالأجل هنا آخر المدة، لأن قوله: {فبلغن} مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه، وأسند بلغن إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل، ليخرجن من حبس العدة، وإن كان الأجل للرجال والنساء معا: للأولين توسعة للمراجعة، وللأخيرات تحديدا للحل للتزوج. وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة.
والقول في الإمساك والتسريح مضى قريبا. وفي هذا الوجه تكرير الحكم لمفاد بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فأجيب عن هذا بما قاله الفخر: إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح، في مدة العدة، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة، تذكيرا بالإمساك وتحريضا على تحصيله، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره، وذكر التسريح هنا مع الإمساك ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الإمساك، وذلك بتقديمه في الذكر؛ إذ لم يذكر الأمران لما تأتي التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة: التي اقتضى الحال الاعتراض بها.
وقوله: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قيد التسريح هنا بالمعروف، وقيد في قوله السالف: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بإحسان، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح، فلما تقدم ذكره لم يحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك. أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبني عليه النهي عن المضارة، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان، فطلب منه الحق، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه، سواء في الإمساك أو في التسريح، ومضارة كل بما يناسبه.
وقال ابن عرفة: تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية
(2/402)

الأخرى بتسريحهن، مقارنا للإحسان، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أن الأمر للندب لا للوجوب.
وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} تصريح بمفهوم {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إذ الضرار ضد المعروف، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف، مع ما فيه من التأكيد، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر: نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة، وفيها نزاع في علم الأصول، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة. على أن هذا العطف إن قلنا: إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار، فيصير الضرار مساويا لنقيض المعروف، قلنا أن نجعل نكتة العطف، حينئذ، لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف: بطريقي إثبات، ونفي، كأنه قيل: "ولا تمسكوهن إلا بالمعروف"، كما في قول السموأل:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
والضرار مصدر ضار، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين، مثل خاصم، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل: عافاك الله، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر، تشنيعا على من يقصده بأنه مفحش فيه.
ونصب {ضرارا} على الحال أو المفعولية لأجله.
وقوله: {لِتَعْتَدُوا} جر باللام ولم يعطف بالفاء؛ لأن الجر باللام هو أصل التعليل، وحذف مفعول "تعتدوا" ليشمل الاعتداء عليهن، وعلى أحكام الله تعالى، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة. والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين، فنزل منزلة العلة مجازا في الحصول، تشنيعا على المخالفين، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازة.
وقوله: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} جعل ظلمهم نساءهم ظلما لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة، واضطراب حال البيت، وفات المصالح: بشغب الأذهان في المخاصمات. وظلم نفسه أيضا بتعريضها لعقاب الله في الآخرة.
(2/403)

{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
عطف هذا النهي على النهي في قوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة، لقصد المضارة، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة، مريدا رحمة الناس، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزءا،
وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] - إلى قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة:230].
والهزء بضمتين، مصدر هزأ به إذا سخر ولعب، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي لا تتخذوها مستهزأ به، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات، تعين أن الهزء مراد به مجازة وهو الاستخفاف، وعدم الرعاية، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب. وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه، ومن هذا التوصل المنهي عنه، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر، بمقتضى حكم الشرع، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية. فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصا على بقاء المودة والرحمة، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية، وتفاقم الشر والعداوة. وفي "الموطأ" أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس: "بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزءا" يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية، فجعله سبب نكاية وتغليظ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة،
ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فذكرهم بما أنعم عليهم، بعد الجاهلية، بالإسلام، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] فكما أنعم عليكم بالانسلاخ عن تلك الضلالة، فلا ترجعوا إليها
(2/404)

بالتعاهد بعد الإسلام
وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} معطوف على نعمة، وجملة {يَعِظُكُمْ بِهِ} حال ويجوز جعله مبتدأ؛ وجملة {يَعِظُكُمْ} خبرا، والكتاب: القرآن. والحكمة: العلم المستفاد من الشريعة، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين، وأسرار الشريعة، كما قال تعالى، بعد أن بين حكم الخمر والميسر {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:220] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن، كما ذكرنا، ومن الإيماء إلى العلل، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها.والموعظة الوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذمير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلا لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن الله عليم، فإن العليم لا يخفي عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير.
[232] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء، بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن، بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك.
وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية، وما قاربها، الأنفة من أصهارهم، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم، وربما رأوا الطلاق استخفافا بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة، ورغبة في المراجعة، وقد روى في "الصحيح" أن البداح بن عاصم الأنصاري طلق زوجه جميلا
(2/405)

بالتصغير وقيل جملا وقيل جميلة ابنة معقل بن يسار فلما انقضت عدتها، أراد مراجعتها، فقال له أبوها معقل ابن يسار: إنك طلقتها طلاقا له الرجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب، والله لا أنكحها أبدا فنزلت هذه الآية، قال معقل فكفرت عن يميني وأرجعتها إليه وقال الواحدي: نزلت في جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم طلقها زوجها وانقضت عدتها، ثم جاء يريد مراجعتها، وكانت راغبة فيه، فمنعه جابر من ذلك فنزلت.
والمراد من {أجلهن} هو العدة، وهو يعضد أن ذلك هو المراد من نظيره في الآية السابقة، وعن الشافعي دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين فجعل البلوغ، في الآية الأولى، بمعنى مشارفة بلوغ الأجل، وجعله، هنا، بمعنى انتهاء الأجل.فجملة {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عطف على {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] الآية.
والخطاب الواقع في قوله: {طَلَّقْتُمُ} و {تَعْضُلُوهُنَّ} ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه، فيكون موجها إلى جميع المسلمين، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق، إن كان زوجا، ويقع منه العضل، إن كان وليا، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفي في استعمالهم، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين، غير المسند إليه الفعل الآخر، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل، ولا العكس، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير، فالمراد بقوله: {طَلَّقْتُمُ} أوقعتم الطلاق، فهم الأزواج، وبقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} النهي عن صدور العضل، وهم أولياء النساء،
وجعل في "الكشاف" الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق، وبلغ المطلقات أجلهن، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله: "لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين".
والعضل: المنع والحبس وعدم الانتقال، فمنه عضلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، والمعاضلة في الكلام: احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ، وهو التعقيد، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح. وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح، فالأب لا يعد عاضلا برد كفء أو أثنين، وغير الأب يعد عاضلا يرد كفء واحد.
وإسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه، والمراد بأزواجهن طالبو
(2/406)

المراجعة بعد انقضاء العدة، وسماهن أزواجا مجازا باعتبار ما كان، لقرب تلك الحالة، وللإشارة إلى أن المنع ظلم؛ فإنهم كانوا أزواجا لهن من قبل، فهم أحق بأن يرجعن إليهم.
وقوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} شرط للنهي؛ لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته، نصحا لها، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي: وهي أن الولي لا يحق له منعها، مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها، على حد قولهم، في المثل المشهور "رضي الخصمان ولم يرض القاضي".
وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح، بناء على غالب الأحوال يومئذ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف، مطموع فيه، معصوم عن الامتهان، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها، فقد يستخف بحقوقها الرجال، حرصا على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة.
ووجه الإشارة: أن الله أشار إلى حقين: حق الولي، بالنهي عن العضل؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده، لما نهى عن منعه، ولا يقال: نهى عن استعمال ما ليس بحق له؛ لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافيا، ولجيء بصيغة "ما يكون لكم" ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء، ولم يقل: أن تنكحوهن أزواجهن، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وجمهور فقهاء الإسلام، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح، واحتج له الحصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد عن استعمال العرب في قولهم: نكحت المرأة، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج؛ لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية؛ لأنها واردة في شأن الأيامي ولا جبر على أيم باتفاق العلماء.
وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} إشارة إلى حكم النهي عن العضل، وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة، رعيا لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل، وأما جمعها في قوله: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} فتجديد لأصل وضعها.
(2/407)

ومعنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض، وأقرب للخير، فأزكى دال على النماء والوفر، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن جمية وحفاظا على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض؛ لأن فيه سعيا إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب؛ فإذا كان العضل إباية للضيم، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم.
وأما قوله: {وَأَطْهَرُ} فهو معنى أنزه، أي أنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة، وماذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية، والعداوات المتأصلة، والقلوب المحرقة.
ولك أن تجعل {أَزْكَى} بالمعنى الأول، ناظرا لأحوال الدنيا، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله: {أَزْكَى}.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تذييل، وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم، لمخالفته لعاداتهم القديمة، وما اعتقدوا نفعا وصلاحا وإبقاء على أعراضهم، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق، لأن الله يعلم النافع، وهم لا يعلمون إلا ظاهرا، فمفعول {يَعْلَمُ} محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم؛ وأنتم لا تعلمون ذلك.
[233] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهي عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شئون أحكام العائلة.
(2/408)

واعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين.فجملة {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} معطوفة على جملة {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232} والمناسبة غير خفية. والوالدات عام، لأنه جمع معرف باللام، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق، فقوله: {وَالْوَالِدَاتُ} معناه: والوالدات منهن، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم، إلا بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلا لسبب طلب التزوج بزوج جديد، بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج فيها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.
وجملة {يُرْضِعْنَ} خبر مراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات، ولأنه عقب بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا} فإن الضمير شامل للاباء والأمهات، على وجه التغليب، كما يأتي، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه، ولكن تدل على أن ذلك حق لها، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6] ولأنه عقب بقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وذلك أجر الرضاعة، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة، بل لأجل العصمة.
وقوله: {أَوْلادَهُنَّ} صرح بالمفعول، مع كونه معلوما، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه؛ لأن في قوله: {أَوْلادَهُنَّ} تذاكير لهن بداعي الحنان والشفقة، فعلى هذا التفسير، وهو الظاهر من الآية، والذي عليه جمهور السلف: الآية واردة إلا لبيان إرضاع المطلقات أولادهن، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها، فهي أولى به، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها، ولذلك كان المشهور عن مالك: أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر، وبأقل من أجر المثل، لم يجب إلى ذلك، كما سنبينه،
ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم، سواء كن في العصمة، أو بعد الطلاق
(2/409)

كما في القرطبي، والبيضاوي ويظهر من كلام ابن الفرس في "أحكام القرآن": أن هذا قول مالك. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل: إن قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} محمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب، ولم ينسبه إلى مالك، ولذلك قال ابن عطية: قوله: {يُرْضِعْنَ} خبر نعناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي: وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك، وهو مطلق الطلب، ولا داعي إليه. والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة، قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة.
والحول في كلام العرب: العام، وهو مشتق من تحول دورة القمر أو الشمس في فلكه من مبدأ مصطلح عليه، إلى أن يرجع إلى السمت الذي ابتدأ منه، فتلك المدة التي ما بين المبدأ والمرجع تسمى حولا.
وحول العرب قمري وكذلك أقره الإسلام.
ووصف الحولين بكاملين، تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني؛ لأن إطلاق التثنية والجمع، في الأزمان والأسنان، على بعض المدلول، إطلاق شائع عند العرب، فيقولون: هو ابن سنتين: ويريدون سنة وبعض الثانية، كما مر في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197].
وقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، قال في "الكشاف":"بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، فلك بيان للمهيت له أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم الإرضاع أي فهو خبر مبتدأ محذوف، كما أشار إليه، بتقدير هذا الحكم لمن أراد. قال التفتازاني: وقد يصرح بهذا المبتدأ في بعض التراكيب كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:25] وما صدق من هنا من يهمه ذلك: وهو الأب، والأم، ومن يقوم مقامهما، من ولي الرضيع، وحاضنه والمعنى: أن هذا الحكم يستحقه من أراد إتمام الرضاعة، وأباه الآخر، فإن أراد معا عدم إتمام الرضاعة فذلك معلوم من قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} الآية.
وقد جعل الله الرضاع حولين، رعيا لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه، فأما الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع
(2/410)

بعد، ولما كان خلاف الأبوين في مدة الرضاع لا ينشأ إلا عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة، احتياطا لحفظ الطفل. وقد كانت الأمم في عصور قلة التجربة، وانعدام الأطباء، لا يهتدون إلى ما يقوم للطفل مقام الرضاع؛ لأنهم كانوا إذا افطموه أعطوه الطعام، فكانت أمزجة بعض الأطفال بحاجة إلى تطويل الرضاع، لعدم القدرة على هضم الطعام وهذه عوارض تختلف. وفي عصرنا أصبح الأطباء يعتاضون لبعض الصبيان بالإرضاع الصناعي، وهم مع ذلك مجمعون على أنه لا أصلح للصبي من لبن أمه، ما لم تكن بها عاهة أو كان اللبن غير مستوف الأجزاء التي بها تغذية أجزاء بدن الطفل، ولأن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى فرط حذر في سلامة اللبن من العفونة: في قوامه، وإنائه. وبلاد العرب شديدة الحرارة في غالب السنة؛ ولم يكونوا يحسنون حفظ أطعمتهم من التعفن بالمكت، فربما كان فطام الأبناء في العام أو ما يقرب منه يجر مضار للرضعاء، وللأمزجة في ذلك تأثير أيضا.
وعن ابن عباس أن التقدير بالحولين للولد الذي يمكث في بطن أمه ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعة ثلاثة وعشرون شهرا، وهكذا بزيادة كل شهر في البطن ينقص شهر من مدة الرضاعة.حتى يكون لمدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف:15]، وفي هذا القول منزع إلى تحكيم أحوال الأمزجة؛ لأنه، بمقدار ما تنقص مدة مكثه في البطن، تنقص مدة نضج مزاجه.والجمهور على خلاف هذا وأن الحولين غاية لإرضاع كل مولود. وأخذوا من الآية أن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين، وأن ما بعدهما لا حاجة إليه، فلذلك لا يجاب إليه طالبه.
وعبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجزة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة، حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها.
والرزق: النفقة، والكسوة: اللباس، والمعروف: ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب.والمراد بالرزق والكسوة هنا، ما تأخذه المرضع، أجرا عن رضاعتها، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة، وكذلك غالب إجاراتهم؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة، بل كانوا يتعاملون بالأشياء، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم، وهي الطعام والكسوة، ولذلك أحال
(2/411)

الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم، وعقبه بقوله: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}.
وجمل: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} - إلى قوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} معترضات بين جملة {وَعَلَى الْمَوْلُودِ} وجملة {وَعَلَى الْوَارِثِ} فموقع جملة {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} تعليل لقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}، موقع جملة {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} إلى آخرها موقع التعليل أيضا، وهو اعتراض يفيد أصولا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع.
والتكليف تفعيل: بمعنى جعله ذا كلفة، والكلفة: المشقة، والتكلف: التعرض لما فيه مشقة، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة، وهو اصطلاح شرعي جديد.
والوسع، بتثليث الواو، الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة؛ لأن الزمخشري في "الأساس" ذكر هذا المعنى في المجاز، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلا عندما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة. فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح، وإن كان بضمنها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس. والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة.وبنى فعل تكلف للنائب: ليحذف الفاعل، فيفيد حذفه عموم الفاعلين، كما يفيد وقوع نفس، وهو نكرة في سياق النفي، عموم المفعول الأول لفعل تكلف: وهو الأنفس المكلفة، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله: {إِلَّا وُسْعَهَا} عموم المفعول الثاني لفعل تكلف، وهو الأحكام المكلف بها، أي لا يكلف أحد نفسا إلا وسعها، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحدا إلا بما يستطيعه، وذلك أيضا وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلا بما يستطاع: في العامة، والخاصة، فقد قال في آيات ختام هذه السورة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق، في شريعة الإسلام1، وسيأتي
ـــــــ
1 وما استدل به على وقوعه قوله تعلى: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود:36] نقله أولوسي في تفسيره "12/49" ط المنيرية
(2/412)

تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في آخر السورة.
وجملة {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} اعتراض ثان، ولم تعطف على التي قبلها تنبيها على أنها مقصودة لذاتها، فإنها تشريع مستقل، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}؛ لأن إدخال الضر على أحد، بسبب ما هو بضعة منه، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألما على النفس، فكان ضره أشد.ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا، دون الأم: كما تقدم في قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وكذلك القول في {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق، أو دوام عصمة، فهو كالتذييل، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترض ذلك لإحراجه، والإشقاق عليه.
وفي "المدونة": عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} الآية يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه، ولا يجد من يرضعه، وليس له أن ينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه وهو يؤيد ما ذكرناه. وقيل: الباء في قوله "بولدها وبولده" باء الإلصاق وهي لتعدية "تضار" فيكون مدخول الباء مفعولا في المعنى لفعل "تضار" وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر، فيصير المعنى: لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبوين بتعنته وتحريجه سببا في إلحاق الضر بولده أي سببا في إلجاء الآخر إلا الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط.
وقرأ الجمهور: "لا تضار" بفتح الراء مشددة على أن "لا" حرف نهي و"تضار" مجزوم بلا الناهية والفتحة للتخلص من التقاء الساكنين الذي نشأ عن تسكين الراء الأولى ليأتي الإدغام وتسكين الراء الثانية للجزم وحرك بالفتحة لأنها أخف الحركات. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الراء على أن "لا" حرف نفي والكلام خبر في معنى النهي، وكلتا القراءتين يجوز أن تكون على نية بناء الفعل للفاعل: لا "تضارر" بكسر الراء الأولى وبنائه للنائب بتقدير فتح الراء الأولى، وقرأه أبو جعفر بسكون الراء مخففة مع إشباع المد كذا نقل عنه في كتب "القراءات" والظاهر أنه جعله من ضار يضير لا من ضار
(2/413)

المضاعف. ووقع الكشاف أنه قرأ بالسكون مع التشديد على نية الوقف أي إجراء للوصل مجرى الوقف ولذلك اغتفر التقاء الساكنين.
وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} معطوف على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ} وليس معطوفا على جملة: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} لأن جملة {لا تضار} معترضة، فإنها جاءت على الأسلوب الذي جاءت عليه جملة {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} التي هي معترضة بين الأحكام لا محالة لوقوعها موقع الاستئناف من قوله: {بالمعروف} ، ولما جاءت جملة لا تضار بدون عطف علمنا أنها استئناف ثان مما قبله ثم وقع الرجوع إلى بيان الأحكام بطريق العطف، ولو كان المراد العطف على المستأنفات المعترضات لجئ بالجملة الثالثة بطريق الاستئناف.
وحقيقة الوارث هو من يصير إليه مال البيت بعد الموت بحق الإرث. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} كما سيأتي، وهو بعيد عن الاستعمال؛لأنه لما كان الفاعل محذوفا وحكم الفعل في سياق النهي كما هو سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أياما كان فاعله، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب، على أن ظاهر المثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم.
وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة أن الذي كان ذلك عليه مات، وهذا إيجاز. والمعنى: فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه.
فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضا عن المضاف كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكورا بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] وكما قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] أي نهى نفسه؛ فإن الجنة هي مأواه، وقول إحدى نساء حديث أم زرع زوجي: المس أرنب والريح ريح زرنب وما سماه الله تعال وارثا إلا لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثا على تقدير موت غيره؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال
(2/414)

ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ} إلا لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلا لقال: وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاما تأكيدا حينئذ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص؛ فإن فاعل {تضار} محذوف. والنهي دال على منع كل إضرار يحصل للوالدة فما فائدة إعادة تحريم ذلك على الوارث كما قدمناه آنفا.
واتفق علماء الإسلام على أن ظاهر الآية غير مراد؛ إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضع على وارث الأب سواء كان إيجابها على الوارث في المال بأن يكون مبدأة على المواريث للاجماع على أنه لا يبدأ إلا بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية، ولأن الرضيع له حظه في المال الموروث وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره أم كان إيجابها على الوارث لو لم يسعها المال الموروث فيكمل من يده، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما.
فقال الجمهور: المراد وارث الطفل أي من لو مات الطفل: لورثه هو. روى عن عمر بن الخطاب وقتادة والسدى والحسن ومجاهد وعطاء وإسحاق وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيتقرر بالآية، أن النفقة واجبة على قرابة الرضيع وهم بالضرورة قرابة أبيه أي إذا مات أبوه ولم يترك مالا: تجب نفقة الرضيع على الأقارب. على حسب قربهم في الإرث ويجري ذلك على الخلاف في توريث ذي الرحم المحرم فهؤلاء يرون حقا على القرابة إنفاق العاجز في مالهم كما أنهم يرثونه إذا ترك مالا فهو من المواساة الواجبة مثل الدية
وقال الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر ابن عبد العزيز: المراد وارث الأب وأريد به نفس الرضيع. فالمعنى: أنه إذا مات أبوه وترك مالا فنفقته من إرثه. ويتجه على هذا أن يقال: ما وجه العدول عن التعبير بالولد إلى التعبير بالوارث? فنجيب بأنه للإيماء إلى أن الأب إنما وجبت عليه نفقة الرضيع لعدم مال للرضيع، فلهذا لما اكتسب مالا وجب عليه في ماله؛ لأن غالب أحوال الصغار ألا تكون لهم أموال مكتسبة سوى الميراث، وهذا تأويل بعيد؛ لأن الآية تكون قد تركت حكم من لا مال له. وقيل: أريد بالوارث المعنى المجازي وهو الذي يبقى بعد انعدام غيره كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر:23] يعني به أم الرضيع قاله سفيان فتكون النفقة على الأم قال التفتازاني في "شرح الكشاف" وهذا قلق في هذا المقام إذ ليس لقولنا: فالنفقة
(2/415)

على الأب وعلى من بقى من الأب والأم معنى يعتد به يعني أن إرادة الباقي تشمل صورة ما إذا كان الباقي الأب ولا معنى لعطفه على نفسه بهذا الاعتبار.وفي "المدونة" عن زيد بن أسلم وربيعة أن الوارث هو ولي الرضيع عليه مثل ما على الأب من عدم المضارة،
هذا كله على أن الآية محكمة لا منسوخة وأن المشار إليه بقوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} هو الرزق والكسوة. وقال جماعة: الإشارة بقوله: {مِثْلُ ذَلِكَ} راجعة إلى النهي عن المضارة. قال ابن عطية: وهو لمالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك اهـ:
وفي المونة في ترجمة ما جاء فيمن تلزم النفقة من كتاب إرخاء الستور عن ابن القاسم قال مالك: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي الايضار. واختاره ابن العربي بأنه الأصل فقال القرطبي: يعني في الرجوع إلى أقرب مذكور، ورجحه ابن عطية بأن الأمة على أجمعت على ألا يضار الوارث. واختلفوا: هل عليه رزق وكسوة اه يعني مورد الآية بما هو مجمع على حكمه ويترك ما فيه الخلاف،
وهنالك تأويل بأنها منسوخة. ورواه أسد بن الفرات عن ابن القاسم عن مالك قال وقول الله عز وجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هو منسوخ فقال النحاس وما علمت أحدا من أصحاب مالك بين ما الناسخ، والذي يبينه أن يكون الناسخ لها عند مالك أنه لما أوجب الله للمتوفى عنها زوجها نفقة حول، والسكنى من مال المتوفي، ثم نسخ ذلك نسخ أيضا عن الوارث يريد الله لما نسخ وجوب ذلك في تركة الميت نسخ كل حق في التركة بعد الميراث، فيكون الناسخ هو الميراث، فإنه نسخ كل حق في المال على أولياء الميت.
وعندي أن التأويل الذي في "مدونة سحنون" بعيد، لما تقدم آنفا، وأن ما نحاه مالك في رواية أسد بن الفرات عن ابن القاسم هو التأويل الصحيح، وأن النسخ على ظاهر المراد منه، والناسخ لهذا الحكم هو إجماع الأمة على أنه لا حق في مال الميت، بعد جهازه وقضاء دينه، وتنفيذ وصيته، إلا الميراث فنسخ بذلك كل ما كان مأمورا به أن يدفع من مال الميت مثل الوصية في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] الآية، ومثل الوصية بسكنى الزوجة وإنفاقها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] ونسخ منه حكم هذه الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" هذا إذا حمل الوارث في الآية على وارث الميت أي إن ذلك
(2/416)

حق على جميع الورثة أيا كانوا بمعنى أنه مبدأ المواريث. وإذا حمل الوارث على من هو بحيث يرث الميت لو ترك الميت مالا، أعني قريبه، بمعنى أن عليه إنفاق ابن قريبه، فذلك منسوخ بوضع بيت المال وذلك أن هذه الآية شرعت هذا الحكم، في وقت ضعف المسلمين، لإقامة أود نظامهم بتربية أطفال فقرائهم، وكان أولى المسلمين بذلك أقربهم من الكفل فكما كان يرث قريبه، لو ترك مالا ولم يترك ولدا، فكذلك عليه أن يقوم ببينة، كما كان حكم القبيلة في الجاهلية، في ضم أيتامهم، ودفع دياتهم، فلما اعتز الإسلام وصار لجامعة المسلمين مال، كان حقا على جماعة المسلمين القيام بتربية أبناء فقرائهم. وفي الحديث الصحيح من ترك كلا، أو ضياعا، فعلي، ومن ترك مالا، فلوارثه ولا فرق بين إطعام الفقير وبين إرضاعه، وما هو إلا نفقة، ولمثله وضع بيت المال.
وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} عطف على قوله: {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} لأنه متفرع عنه، والضمير عائد على الوالدة والمولود له: الواقعين في الجمل قبل هذه.
والفصال: الفطام عن الإرضاع، لأنه فصل عن ثدي مرضعة. وعن في قوله: {عَنْ تَرَاضٍ} متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي،إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرعمل على الإرادة، بخوف، أو اضطرار.
وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} هو مصدر شاور إذا طلب المشورة. والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعا فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره بماذا تشير علي كأن أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع، مشتق من الإشارة باليد، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه، ثم عدي بعلي لما ضمن معنى التدبير، وقال الراغب: إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه، وأياما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور وقد تقدم الكلام عليها، عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] وسيجيء الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في سورة آل عمران، وعطف التشاور على التراضي تعليما للزوجين شئون تدبير العائلة، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي.
وأفاد بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أن ذلك مباح، وأن حق إرضاع الحولين مراعي فيه حق الأبوين وحق الرضيع، ولما كان ذلك يختلف باختلاف أمزجة الرضعاء جعل
(2/417)

اختلاف الأبوين دليلا على توقع حاجة الطفل إلى زيادة الرضاع، فأعمل قول طالب الزيادة منهما، كما تقدم، فإذا تشاور الأبوان وتراضيا، بعد ذلك، على الفصال كان تراضيهما دليلا على أنهما رأيا من حال الرضيع ما يغنيه عن الزيادة، إذ لا يظن بهما التمالؤ على ضر الولد، ولا يظن إخفاء المصلحة عليهما، بعد تشاورهما، إذ لا يخفي عليهما حال ولدهما.
وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غير والدته، إذا تعذر على الوالدة إرضاعه، لمرضها، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، كما تقدم في الآية السابقة، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك،
والمخاطب بأردتم: الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال، لقوله تعالى فيما سبق: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم، وبحالة فقد الأم. وقد علم من قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن حالة التراضي هي المقصودة أولا، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة، وأريد صرف الابن عنها إلى موضع أخرى، لسبب مصطلح عليه، وهما لا يريدان ذلك إلا حيث يتحقق عدم الضر للابن، فلو علم ضر الولد لم يجز، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها، لا سيما أهل الشرف. وفي الحديث: "واسترضعت في بني سعد".
والاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في "تسترضعوا" للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يعدى بالسين والتاء- الدالين على الطلب- إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وما بعده يعدى إليه بالحرف وقد يحذف الحرف لكثرة الاستعمال، كما حذف في استرضع واستنجح، فعدي الفعل إلى المجرور على الحذف والإيصال، وفي الحديث واسترضعت في بني سعد ووقع في "الكشاف" ما يقتضي أن السين والتاء دخلتا على الفعل المهموز المتعدي إلى واحد فزادتاه تعدية لثان، وأصله أرضعت المرأة الولد، فإذا قلت: استرضعتها صار متعديا إلى مفعولين، وكأن وجهه أننا ننظر إلى الحدث المراد طلبه، فإن كان حدثا قاصرا، فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعول واحد، نحو استنهضته فنهض، وإن كان متعديا فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعولين، نحو استرضعتها فأرضعت، والتعويل على القرينة، إذ لا يطلب أصل الرضاع لا
(2/418)

من الولد ولا من الأم، وكذا: استنجحت الله سعيي، إذ لا يطلب من الله إلا إنجاح السعي، ولا معنى لطلب نجاح الله، فبقطع النظر عن كون الفعل تعدى إلى مفعولين، أو إلى الثاني بحذف الحرف، نرى أنه لا معنى لتسلط الطلب على الفعل هنا أصلا، على أنه لولا هذا الاعتبار، لتعذر طلب وقوع الفعل المتعدي بالسين والتاء، وهو قد يطلب حصوله فما أوردوه على "الكشاف": من أن حروف الزيادة إنما تدخل على المجرد لا المزيد مدفوع بأن حروف الزيادة إذا تكررت، وكانت لمعان مختلفة جاز اعتبار بعضها داخلا بعد بعض، وإن كان مدخولها كلها هو الفعل المجرد.
وقد دل قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} على أنه ليس المراد بقوله: {يُرْضِعْنَ} تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد مدة الإرضاع، وواجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات فموكول إلى ما تعارفه الناس، فالمرأة التي في العصمة، إذا كان مثلها يرضع، يعتبر إرضاعها أولادها من حقوق الزوج عليها في العصمة، إذ العرف كالشرط. والمرأة المطلقة لا حق لزوجها عليها، فلا ترضع له إلا باختيارها. ما لم يعرض في الحالين مانع أو موجب، مثل عجز المرأة في العصمة عن الإرضاع لمرض، ومثل امتناع الصبي من رضاع غيرها، إذا كانت مطلقة بحيث يخشى عليه، والمرأة التي لا يرضع مثلها وهي ذات القدر، قد علم الزوج حينما تزوجها أن مثلها لا يرضع، فلم يكن له عليها حق الإرضاع. هذا قول مالك، إذ العرف كالشرط، وقد كان ذلك عرفا من قبل الإسلام وتقرر في الإسلام، وقد جرى في كلام المالكية، في كتب الأصول: أن مالكا خصص عموم الوالدات بغير ذوات القدر، وأن المخصص هو العرف، وكنا نتابعهم على ذلك، ولكني الآن لا أرى ذلك متجها ولا أرى مالكا عمد إلى التخصيص أصلا، لأن الآية غير مسوقة لإيجاب الإرضاع، كما تقدم.
وقوله: {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن. فالمراد بما آتيتم: الأجر، ومعنى آتى في الأصل دفع؛ لأنه معدي أتى بمعنى وصل، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفا للمستقبل، مضمنا معنى الشرط، لم يلتئم أن يكون مع فعل: {آتَيْتُمْ} الماضي.
وتأول في "الكشاف" {آتَيْتُمْ} بمعنى: أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] تبعا لقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ}، والمعنى: إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف، دون إجحاف ولا مطل.
(2/419)

وقرأ ابن كثير {آتَيْتُمْ} بترك همزة التعدية. فالمعنى عليه: إذا سلمتم ما جئتم، أي ما قصدتم، فالإتيان حينئذ مجاز عن القصد، كقوله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] وقال زهير:
وما كان من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تذييل للتخويف، والحث على مراقبة ما شرع الله، من غير محاولة ولا مكايدة، وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} تذكير لهم بذلك، وإلا فقد علموه. وقد تقدم نظيره آنفا.
[234] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
انتقال إلى بيان عدة الوفاة، بعد الكلام عن عدة الطلاق، وما اتصل بذلك من أحكام الإرضاع، عقب الطلاق، تقصيا لما به إصلاح أحوال العائلات، فهو عطف قصة على قصة،
ويتوفون مبني للمجهول، وهو من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول: مثل عني واضطر، وذلك في كل فعل قد عرف فاعله ما هو، أو لم يعرفوا له فاعلا معينا. وهو من توفاه الله، أو توفاه الموت، فاستعمال التوفي منه مجاز، تنزيلا لعمر الحي منزلة حق الموت، أو الخالق الموت، فقالوا: توفى فلان كما يقال: توفى الحق ونظيره قبض فلان، وقبض الحق فصار المراد من توفى: مات، كما صار المراد من قبض وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية وجاء الإسلام فقال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر:42] وقال: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء:15] وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] فظهر الفاعل، المجهول عندهم، في مقام التعليم أو الموعظة، وأبقي استعمال الفعل مبينا للمجهول فيما عدا ذلك: إيجاز وتبعا للاستعمال.
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} خبر الذين وقد حصل الربط بين المبتدأ والخبر بضمير {يَتَرَبَّصْنَ} العائد إلى الأزواج، الذي هو مفعول الفعل المعطوف على الصلة، فهن أزواج المتوفين؛ لأن الضمير قائم مقام الظاهر، وهذا الظاهر قائم مقام المضاف إلى ضمير المبتدأ، بناء على مذهب الأخفش والكسائي: من الاكتفاء في الربط بعود الضمير
(2/420)

على اسم، مضاف إلى مثل العائد، وخالف الجمهور في ذلك، كما في التسهيل وشرحه، ولذلك قدروا هنا: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} بعدهم كما قالوا: "السمن منوان بدرهم" أي منه، وقيل: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم إلخ يتربصن، بناء على أنه حذف لمضاف، وبذلك قدر في "الكشاف" ولا داعي إليه كما قال التفتازاني، وقيل التقدير: ومما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، ونقل ذلك عن سيبويه، فيكون {يَتَرَبَّصْنَ}: استئنافا، وكلها تقديرات لا فائدة فيها، بعد استقامة المعنى.
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} تقدم بيانه عند قوله تعالى :{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:228].
وتأنيث اسم العدد في قوله: {وعشرا} لمراعاة الليالي، والمراد: الليالي بأيامها؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم، ولا يوم بلا ليلة، والعرب تعتبر الليالي في التاريخ والتأجيل، يقولون: كتب لسبع خلون في شهر كذا، وربما اعتبروا الأيام كما قال تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] وقال: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] لأن عمل الصيام إنما يظهر في اليوم لا في الليلة،
قال في "الكشاف": والعرب تجري أحكام التأنيث والتذكير، في أسماء الأيام، إذا لم تجر على لفظ مذكور، بالوجهين. قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] فأراد بالعشر: الأيام ومع ذلك جردها من علامة تذكير العدد، لأن اليوم يعتبر مع ليلته، وقد جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركا بينا، محافظة على أنساب الأموات؛ فإنه جعل عدة الطلاق ما يدل على براءة الرحم دلالة ظنية: وهو الأقراء، على ما تقدم؛ لأن المطلق يعلم حال مطلقته من طهر وعدمه، ومن قربانه إياها قبل الطلاق وعدمه، وكذلك العلوق لا يخفى، فلو أنها ادعت عليه نسبا، وهو يوقن بانتفائه، كان له في اللعان مندوحة، أما الميت فلا يدافع عن نفسه، فجعلت عدته أمدا مقطوعا بانتفاء الحمل في مثله: وهو الأربعة الأشهر والعشرة، فإن الحمل يكون نطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم ينفخ فيه الروح. فما بين استقرار النطفة في الرحم، إلى نفخ الروح في الجنين، أربعة أشهر، وإذ قد كان الجنين، عقب نفخ الروح فيه، يقوى تدريجا، جعلت العشر الليالي: الزائدة على الأربعة الأشهر، لتحقق تحرك الجنين تحركا بينا، فإذا مضت هذه المدة حصل اليقين بانتفاء الحمل؛ إذ لو كان
(2/421)

ثمة حمل لتحرك لا محالة، وهو يتحرك لأربعة أشهر، وزيدت عليها العشر احتياطا لاختلاف حركات الأجنة قوة وضعفا، باختلاف قوى الأمزجة.
وعموم {الَّذِينَ} في صلته، وما يتعلق بها من الأزواج، يقتضي عموم هذا الحكم في المتوفي عنهن، سواء كن حرائر أم إماء، وسواء كن حوامل أم غير حوامل، وسواء كن مدخولا بهن أم غير مدخول بهن، فأما الإماء فقال جمهور العلماء: إن عدتهن على نصف عدة الحرائر. قياسا على تنصيف الحد، والطلاق، وعلى تنصيف عدة الطلاق، ولم يقل بمساواتهن للحرائر، في عدة الوفاة إلا الأصم، وفي رواية عن ابن سيرين، إلا أمهات الأولاد فقالت طائفة: عدتهن مثل الحرائر، وهو قول سعيد الزهري والحسن والأوزاعي وإسحاق وروي عن عمرو بن العاص، وقالت طوائف غير ذلك. وإن إجماع فقهاء الإسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية، فبنا أن ننظر إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق، فيما نصف له فيه حكم شرعي، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولا كاملا، أبقي لهن ثلث الحول، كما أبقي للميت حق الوصية بثلث ماله، وليس لها حكمة غير هذين؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق، وليس هذا الوجه الثاني بصالح التعليل، لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية، فتبقى منه تراثا سيئا، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت، والجزع له، الذي كان عند الجاهلية، عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين: الإنسانية والرق، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء، وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفا صالحا للتأثير في هذا الحكم، وإنما نصفت للعبد أحكام ترجع إلى المناسب التحسيني: كتنصيف الحد لضعف مروءته، ولتفشي السرقة في العبيد، فطرد حكم التنصيف لهم في غيره. وتنصيف عدة الأمة في الطلاق الوارد في الحديث، لعلة الرغبة في مراجعة أمثالها، فإذا جاء راغب فيها بعد قرأين تزوجت، ويطرد باب التنصيف أيضا. فالوجه أن تكون عدة
(2/422)

الوفاة للأمة كمثل الحرة، وليس في تنصيفها أثر، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق.
وأما الحوامل فالخلاف فيهن قوي؛ فذهب الجمهور إلى أن عدتهم من الوفاة وضع حملهن، وهو قول عمر وابنه وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي هريرة، وهو قول مالك، قال عمر: "لو وضعت حملها وزوجها على سريره لم يدفن لحلت للأزواج" وحجتهم: حديث سبيعة الأسلمية زوج سعد بن خولة، توفى عنها بمكة عام حجة الوداع1 وهي حامل فوضعت حملها بعد نصف شهر كما في الموطأ، أو بعد أربعين ليلة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد حللت فانكحي إن بدا لك" واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية سورة الطلاق {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وعموم أولات الأحمال، مع تأخر نزول تلك السورة عن سورة البقرة، يقضي بالمصير إلى اعتبار تخصيص عموم ما في سورة البقرة، وإلى هذا أشار قول ابن مسعود من شاء باهلته، لنزلت سورة النساء القصرى يعني سورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] بعد الطولي أي السورة الطولي أي البقرة وليس المراد سورة النساء الطولي. وعندي أن الحجة للجمهور، ترجع إلى ما قدمناه من أن حكمة عدة الوفاة هي تيقن حفظ النسب، فلما كان وضع الحمل أدل شيء على براءة الرحم، كان مغنيا عن غيره، وكان ابن مسعود يقول: "أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة" يريد أنها لو طال أمد حملها لما حلت.
وعن على وابن مسعود أن عدة الحامل في الوفاة أقصى الأجلين، واختاره سحنون من المالكية فقال بعض المفسرين: إن في هذا القول جمعا بين مقتضى الآيتين، وقال بعضهم: في هذا القول احتياط، وهذه العبارة أحسن؛ إذ ليس في الأخذ بأقصى الأجلين جمع بين الآيتين بالمعنى الأصولي؛ لأن الجمع بين المتعارضين معناه أن يعمل بكل منهما: في حالة أو زمن أو أفراد، غير ما اعمل فيه بالآخر، بحيث يتحقق في صورة الجمع عمل بمقتضى المتعارضين معا، ولذلك يسمون الجمع بإعمال النصين، والمقصود من الاعتداد تحديد أمد التربص والانتظار، فإذا نحن أخذنا بأقصى الأجلين، أبطلنا
ـــــــ
1 وهو الذي روي في شأنه عن الزهري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:ط اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة" قال الزهري يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
(2/423)

مقتضى إحدى الآيتين لا محالة؛ لأننا نلزم المتوفى عنها بتجاوز ما حددته لها إحدى الآيتين، ولا نجد حالة تحقق فيها مقتضاها، كما هو بين، فأحسن العبارتين أن تعبر بالاحتياط: وهو أن الآيتين تعارضتا بعموم وخصوص وجهي، فعمدنا إلى صورة التعارض وأعملنا فيها مرة مقتضى هذه الآية، ومرة مقتضى الأخرى، ترجيحا لأحد المقتضيين في كل موضع بمرجح الاحتياط، فهو ترجيح لا جمع لكن حديث سبيعة في الصحيح أبطل هذا المسلك للترجيح كما أن ابتداء سورة الطلاق بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] ينادي على تخصيص عموم قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] هنالك بالحوامل المطلقات، وقد قيل: إن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور وهو ظاهر حديث "الموطأ" في اختلافه وأبي سلمة في ذلك، وإرسالهما من سأل أم سلمة رضى الله عنها، فأخبرتهما بحديث سبيعة،
فإن قلت: كيف لا تلتفت السريعة، على هذا، إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن? وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة? وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر? قلت: كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضا على كل متوفى عنها، والأزواج في هذا الحزن متفاوتان، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات، أو كارهات، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكما في هذا الشأن، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن، وجدتهن، كما يوكل جميع الجبليات والطبعيات إلى الوجدان؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار، والحديث، ونحو هذا. وإنما اهتم بالمقصد الشرعي: وهو حفظ الأنساب، فإذا قصي حقه، فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهم ما يشأن، من المعروف، كما قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل.
أما الأزواج غير المدخول بهن، فعليهن عدة الوفاة، دون عدة الطلاق، لعموم هذه الآية ولأن لهن الميراث، فالعصمة تقررت بوجه معتبر، حتى كانت سبب إرث، وعدم الدخول بالزوجة، لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية، إذ هي حلال له، فأوجب عليها الاعتداد احتياطا لحفظ النسب، ولذلك قال مالك، وإن كان للنظر فيه مجال، فقد تقاس المتوفى عنها زوجها، الذي لم يدخل بها، على التي طلقها زوجها قبل أن
(2/424)

يمسها، التي قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].
وقد ذكروا حديث بروع بنت واشق الأشجعية، رواه الترمذي عن معقل بن سنان الأشجعي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في بروع بنت واشق وقد مات زوجها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها أن لها مثل صداق نسائها، وعليها العدة ولها الميراث" ولم يخالف أحد في وجوب الاعتداد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب مهر المثل لها.
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي إذا انتهت المدة المعنية بالتربص، أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة، وجعل امتداد التربص بلوغا، على وجه الإطلاق الشائع في قولهم بلغ الأمد، وأصله اسم البلوغ وهو الوصول، استعير لإكمال المدة تشبيها للزمان بالطريق الموصلة إلى المقصود. والأجل مدة من الزمن جعلت ظرفا لإيقاع فعل في نهايتها أو في أثنائها تارة.
وضمير {أَجَلَهُنَّ} للأزواج اللائى توفي عنهن أزواجهن، وعرف الأجل بالإضافة إلى ضميرهن دون غير الإضافة من طرق التعريف لما يؤذن به إضافة أجل من كونهن قضين ما عليهن، فلا تضايقوهن بالزيادة عليه.
وأسند البلوغ إليهن، وأضيف الأجل إليهن، تنبيها على أن مشقة هذا الأجل عليهن ومعنى الجناح هنا: الحرج، لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرع النساء إلى التزوج بعد عدة الوفاة، وقيل الحول، فإن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذلك، فنفي الله هذا الحرج، وقال: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} تغليظا لمن يتحرج من فعل غيره، كأنه يقول لو كانت المرأة ذات تعلق شديد بعهد زوجها المتوفى، لكان داعي زيادة تربصها من نفسها، فإذا لم يكن لها ذلك الداعي، فلماذا التحرج مما تفعله في نفسها، ثم بين الله ذلك وقيده بأن يكون "من المعروف" نهيا للمرأة أن تفعل ما ليس من المعروف شرعا وعادة، كالإفراط في الحزن المنكر شرعا، أو التظاهر بترك التزوج بعد زوجها، وتغليظا للذين ينكرون على النساء تسرعهن بعد العدة، أو بعد وضع الحمل، كما فعلت سبيعة أي فإن ذلك من المعروف.
وقد دل مفهوم الشرط في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} على أنهن، في مدة الأجل، منهيات عن أفعال في أنفسهن كالتزوج وما يتقدمه من الخطبة والتزين، فأما التزوج في العدة فقد اتفق المسلمون على منعه، وسيأتي تفصيل القول فيه عند قوله تعالى: {وَلا
(2/425)

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235].وأما ما عداه، فالخلاف مفروض في أمرين: في الإحداد، وفي ملازمة البيت.
فأما الإحداد فهو مصدر أحدت المرأة إذا حزنت، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة، ويقال حداد، والمراد به في الإسلام ترك المعتدة من الوفاة الزينة، والطيب، ومصبوغ الثياب، إلا الأبيض، وترك الحلي، وهو واجب بالسنة ففي الصحيح: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" ولم يخالف في هذا إلا الحسن البصري، فجعل الإحداد ثلاثة أيام لا غير وهو ضعيف.
والحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال: من رؤية محاسن المرأة المعتدة، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق، ولذلك اختلف العلماء في الإحداد على المطلقة، فقال مالك، والشافعي، وربيعة، وعطاء: لا إحداد على مطلقة، أخذا بصريح الحديث، وبأن المطلقة يرقبها مطلقها، ويحول بينها وبين ما عسى أن تتساهل فيه، بخلاف المتوفى عنها كما قدمناه،
وقال أبو حنيفة، والثوري، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين: تحد المطلقة طلاق الثلاث، كالمتوفى عنها، لأنهما جميعا في عدة يحفظ فيها النسب، والزوجة الكتابية كالمسلمة في ذلك، عند مالك، تجبر عليه وبه قال الشافعي، والليث، وأبو ثور، لاتحاد العلة، وقال أبو حنيفة، وأشهب، وابن نافع، وابن كنانة، من المالكية: لا إحداد عليها، وقوفا عند قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر" فوصفها بالإيمان، وهو متمسك ضئيل، لأن مورد الوصف ليس مورد التقييد، بل مورد التحريض على امتثال أمر الشريعة.
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الإحداد، ففي "الموطأ": "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها، أفتكحلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا لا" مرتين أو ثلاثا "إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول1" . وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في مدة
ـــــــ
1 فسر هذا في "الموطأ" بأن المرأة كانت في الجاهلية إذا توفي زوجها دخلت حفضا- بكسر الحاء وسكون الفاء وهو بيت رديء ولبست شر ثيابها ولم تمسس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتي بدابة شاة أو طائر أو حمار فتفتض به أي تمسح جلدها به وتخرج وهي في شر منظر فتعطى
(2/426)

إحدادها على أبي سلمة: أن تجعل الصبر في عينيها بالليل، وتمسحه بالنهار، وبمثل ذلك أفتت أم سلمة امرأة حاجا اشتكت عينيها أن تكتحل بكحل الجلاء بالليل، وتمسحه بالنهار، روى ذلك كله في الموطأ، قال مالك: "وإذا كانت الضرورة فإن دين الله يسر": ولذلك حملوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي استفتته أمها أن تكحل على أنه علم من المعتدة أنها أرادت الترخص، فقيضت أمها لتسأل لها.
وأما ملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها فليست مأخوذة من هذه الآية؛ لأن التربص تربص بالزمان، لا بدل على ملازمة المكان، والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلا حفظ المعتدة، فلما نسخ عند الجمهور، بهذه الآية، كان النسخ واردا على المدة وهي الحول، لا على بقية الحكم، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق التي جاء فيها: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1} وجاء فيها: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] وقال المفسرون والفقهاء: ثبت وجوب ملازمة البيت، بالسنة، ففي "الموطأ" و"الصحاح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة ابنة مالك بن سنان الخدري، أخت أبي سعيد الخدري لما توفى عنها زوجها: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" وهو حديث مشهور، وقضي به عثمان بن عفان وفي "الموطأ" أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج، وبذلك قال ابن عمر، وبه أخذ جمهور فقهاء المدينة، والحجاز، والعراق، والشام، ومصر، ولم يخالف في ذلك إلا علي، وابن عباس، وعائشة، وعطاء، والحسن، وجابر بن زيد، وأبو حنيفة، وداود الظاهري، وقد أخرجت عائشة رضي الله عنها أختها أم كلثوم، حين توفي زوجها، طلحة بن عبيد الله، إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي بالخروج، فأنكر كثير من الصحابة ذلك عليها، قال الزهري: فأخذ المترخصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر،
واتفق الكل على أن المرأة المعتدة تخرج للضرورة، وتخرج نهارا، لحوائجها، من
ـــــــ
بعرة فترمي بها من وراء ظهرها ثم تسرع إلى بيت أهلها وتراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب وغيره وتحل للخطاب قالوا: وفي البعرة رمز إلى أن ما فعلته في مدة الحول التي مضت أمر هين بالنسبة إلى عظط مصابها بزوجها كأنه بعرة.
(2/427)

وقت انتشار الناس إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في المنزل، وشروط ذلك وأحكامه، ووجود المحل للزوج، أو في كرائه، وانتظار الورثة بيع المنزل إلى ما بعد العدة، وحكم ما لو ارتابت في الحمل فطالت العدة، مبسوطة في كتب الفقه، والخلاف، فلا حاجة بنا إليها هنا.
ومن القراءات الشاذة في هذه الآية: ما ذكره في "الكشاف" أن عليا قرأ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} بفتح التحتية على أنه مضارع توفي، مبنيا للفاعل بمعنى مات بتأويل إنه توفي أجله أي استوفاه.
وأنا، وإن كنت التزمت ألا أتعرض للقراءات الشاذة، فإنما ذكرت هذه القراءة لقصة طريفة فيها نكتة عربية، أشار إليها في "الكشاف"، وفصلها السكاكي في "المفتاح"، وهي أن عليا كان يشيع جنازة، فقال له قائل من المتوفى بلفظ اسم الفاعل أي بكسر الفاء سائلا عن المتوفى -بفتح الفاء- فلم يقل: فلان بل قال "الله" مخطئا إياه، منبها له بذلك على أنه يحق أن يقول: من المتوفى بلفظ اسم المفعول، وما فعل ذلك إلا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفى على الوجه الذي يكسوه جزالة وفخامة، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه -أي إلى على- {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} بلفظ بناء الفاعل على إرادة معنى: والذين يستوفون مدة أعمارهم.
وفي "الكشاف" أن القصة وقعت مع أبي الأسود الدؤلي، وأن عليا لما بلغته أمر أبا الأسود أن يضع كتابا في النحو، وقال: إن الحكاية تناقضها القراءة المنسوبة إلى علي، فجعل القراءة مسلمة وتردد في صحة الحكاية، وعن ابن جني: أن الحكاية رواها أبو عبد الرحمن السلمي عن علي، قال ابن جني: "وهذا عندي مستقيم لأنه على حذف المفعول أي والذين يتوفون أعمارهم أو آجالهم، وحذف المفعول كثير: في القرآن وفصيح الكلام"
وقال التفتازاني: "ليس المراد أن للمتوفى معنيين: أحدهما الإمانة، وثانيهما الاستيفاء، وأخذ الحق، بل معناه الاستيفاء وأخذ الحق لا غير، لكن عند الاستعمال قد يقدر مفعوله النفس فيكون الفاعل هو الله تعالى أو الملك، وهذا الاستعمال الشائع، وقد يقدر مدة العمر فيكون الفاعل هو الميت لأنه الذي استوفى مدة عمره، وهذا من المعاني الدقيقة التي لا يتنبه لها إلا البلغاء، فحين عرف علي من السائل عدم تنبهه لذلك لم يحمل كلامه عليه".
(2/428)

[235] {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}
عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق، وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصا على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.
والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
وقوله: {مَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} ما موصولة، وما صدقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفاد من الكلام، بينه بقوله: {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} فدل على أن المراد كلام.
ومادة فعل فيه دلالة على الجعل: مثل صور مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب، والجانب هو الطرف، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جنبه، أي جعله في جانب.فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئا، غير المدلول عليه بالتركيب وضعا، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى للتعريض، فعلم ألا بد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة، أو مماثلة، وذلك كما يقول العافي، لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل
(2/429)

هذا أميمة بن أبي الصلت في قوله:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء
وجعل الطيبي منه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116].
فالمعنى التعريض في مثل هذا حاصل من الملازمة، وكقول القائل: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه" في حضرة من عرف بأذى الناس، فالمعنى التعريض حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله، صح أن نقول إن المعنى التعريض، بالنسبة إلى المركبات، شبيه بالمعنى الكنائي، بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة وإن شئت قلت المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد. وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب، وهذا هو الملاقي لما درج عليه صاحب "الكشاف" في هذا المقام، فالتعريض عنده مغاير للكناية، من هذه الجهة، وإن كان شبيها بها، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما. فالنسبة بينهما عنده التباين. وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام "الكشاف" على هذا، ولا إخاله يتحمله.
وإذ قد تبين لك معنى التعريض، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية.
إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه، وقد يريده لغيره بوساطته، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ابنة قيس، وهي في عدتها من طلاق زوجها، عمرو بن حفص، آخر الثلاث: "كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك" أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية: "فإذا حللت فآذنيني" وبعد انقضاء عدتها، خطبها لأسامة بن زيد، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة.
ووقع في "الموطأ": أن القاسم بن محمد كان يقول، في قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أن يقول الرجل للمرأة، وهي في عدتها من وفاة
(2/430)

زوجها، إنك علي لكريمة وإني فيك لراغب.
فأما إنك علي لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها، وما هو بصريح، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله: "قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحا فينبغي ترك مثله" ويذكر عن محمد الباقر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لأم سلمة في عدتها، من وفاة أبي سلمة، ولا أحسب ما ورى عنه صحيحا.
وفي "تفسير ابن عرفة": "قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة، كان يقول: "إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة".
ولفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق، وحكي القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة: من وفاة أو طلاق، وهو يخالف كلام القرطبي، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعدة وفاة، ومنعه في عدة الطلاق، وهو ظاهر ما حكاه في "الموطأ" عن القاسم بن محمد.
وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} الإكنان الإخفاء.
وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلا عن عزم في النفس، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض، أن المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه، فلما كان كذلك، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر، لضعف الصبر على الكتمان، بين اله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس، مع الإبقاء على احترام حالة العدة، مع بيان علة هذا الترخيص: وأنه يرجع إلى نفي الحرج، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل.
وأخر الإكنان، في الذكر، للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جاريا على مقتضى ظاهر نظم الكلام: في أن يكون اللاحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن
(2/431)

هذه المخالفة ترمي إلى غرض، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر، وقد زاد ذلك إيضاحا بقوله، عقبه: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم، فحصل بتأخير ذكر {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} وجاء النظم بديعا معجزا، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر1 ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ2.
فقوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} استدراك دل عليه الكلام، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضا؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن، كما تقول: علمت أنك تفعل كذا تريد: إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه، وقد علمت فعله، لآخذته كما قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة:187] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل: هذا استدراك على كلام محذوف: أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن، أي لا تصرحوا وتواعدوهن، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج.
والسر أصله ما قابل الجهر، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى:
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة الحي أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقة، فيكون "سرا" منصوبا على الوصف لمفعول مطلق أي وعدا صريحا سرا، أي لا تكتموا المواعدة، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة.
ـــــــ
1 قال الفخر: لما أبح التعريض وحرم التصريح في الحال قال: {أو أكننتم في أنفسكم} أي أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى تحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة للعزم على التصريح في المستقبل.
2 قال: فائدة عطف {أو أكننتم} الإشعار بالتسوية بين التعريض وبين ما في النفس في الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما.
(2/432)

وقوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعدا معروفا، وهو التعريض الذي سبق في قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} فإن القول المعروف من أنواع الوعد، إلا أنه غير صريح، وإذا كان النهي عن المواعدة سرا، علم النهي عن المواعدة جهرا بالأولى، والاستثناء على هذا في قوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} متصل، والقول المعروف هو المأذون فيه، وهو التعريض، فهو تأكيد لقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} الآية.
وقيل: المراد بالسر هنا كناية، أي تواعدوهن قربانا، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح، فيكون "سرا" مفعولا به لتواعدوهن، ويكون الاستثناء منقطعا، لأن القول ليس من أنواع النكاح، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول، والقول خطبة: صراحة أو تعريضا وهذا بعيد: لأن فيه كناية على كناية، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه، فإن قلتم حظر: صريح الخطبة والمواعدة، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض، فإن مآل التصريح والتعريض واحد، فإذا كان قد حصل، بين الخاطب والمعتمدة، العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب، إن كان المفاد واحد قلت: قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتمدة، بالبنت بها؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهى عنه، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة، بله المواعدة، فيبقى حجاب الحياء مسدولا بينهما وبرقع المروءة غير منضي وذلك من توفير شأن العدة، فلذلك رخص التعريض تيسيرا على الناس، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة.
وقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} العزم هنا عقد النكاح، لا التصميم على العقد، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به، والمعنى: لا تعقدوا عقدة النكاح، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت، قال النحاس وغيره، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح، ونهى عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه.وقيل:
(2/433)

نهى عن العزم مبالغة، والمراد النهي عن المعزوم عليه، مثل النهي من الاقتراب في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض، كقولهم ضربة الظهر والبطن، وقيل ضمن "عزم"معنى "أبرم" قاله صاحب المغنى في الباب الثامن.
والكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله: وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد.
والأجل المدة المعينة لعمل ما، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام، كما أشار إليه قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] آنفا.
والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة، وفي إباحة التعريض.
فأما النكاح أي عقده في العدة، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقا، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أولا: فالجمهور على أنه لا يتأبد، وهو قول عمر بن الخطاب، ورواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة"، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية: أنه بتأبد، ولا يعرف مثله عن غير مالك.
وأما الدخول في العدة، ففيه الفسخ اتفاقا، واختلف في تأييد تحريمها عليه: فقال عمر ابن الخطاب، ومالك، والليث، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، بتأبد تحريمها عليه، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، وهو أصل ضعيف وقال علي، وابن مسعود، وأبو حنيفة، والثوري، والشافعي: بفسخ النكاح، ولا يتأبد التحريم، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب، وقد قيل: إن عمر رجع إليه وهو الأصح، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية، في عدتها، ففرق عمر بينهما، وجعل مهرها على بيت المال، فبلغ ذلك عليا فقال: "يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة" قيل له: فما تقول أنت? قال: "لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما" واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية: للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأييد تحريمها، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه، فينبغي له أن يترك التعريج عليه، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأييد التحريم.
(2/434)

وأما الخطبة في العدة، والمواعدة، فحرام مواجهة المرأة بها، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها، فقال مالك: يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها، وروى عنه ابن وهب: فراقها أحب إلى وقال الشافعي: الخطبة حرام، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
عطف على الكلام السابق من قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} وابتدئ الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول، في هذا الشأن، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة، وقدم تقدم نظيره في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223].
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} تذييل، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة، يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض، لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة، كما قدمنا، وأن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس: للوجوه التي قدمناها، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز، لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب، والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم.
[236, 237] {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر كله، أو بعضه، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، ومناسبة موقعها لا تخفى، فإنه لما جرى الكلام، في الآيات السابقة، على الطلاق: الذي تجب فيه العدة، وهو طلاق المدخول بهن، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول، وهو الذي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] الآية، في سورة الأحزاب، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر
(2/435)

والعفو عنه
وحقيقة الجناح الإثم، كما تقدم في قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق، ووقع في الكشاف تفسير الجناح بالتبعة فقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}: لا تبعة عليكم من إيجاب المهر ثم قال والدليل على أن الجناح تبعه المهر، قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} إثبات للجناح المنفي ثمة". وقال ابن عطية وقال قوم: لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر.فعلمنا أن صاحب "الكشاف" مسبوق بهذا التأويل، وهو لم يذكر في الأساس هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازا، فإنما تأوله من تأوله تفسيرا لمعنى الكلام كله لا لكلمة "جناح" وفيه بعد، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع مهر. والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح، وهو معناه المتعارف، وفي "تفسير ابن عطية" عن مكي بن أبي طالب "لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد إن كان قاصدا للذوق، وذلك مأمور قبل المسيس" وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في "تفسيره".
فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر، أو بعضه، أو سقوطه، وكأن قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء،
قال ابن عطية وغيره: إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرما، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر.
والنساء: الأزواج، والتعريف فيه تعريف الجنس، فهو في سياق النفي للعموم، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج، و"ما" ظرفية مصدرية، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة.
وأو في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} عاطفة على {تَمَسُّوهُنَّ} المنفي، و"أو" إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوف عليه
(2/436)

معا، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في أماليه، وصرح به التفتازاني في "شرح الكشاف"، وقال الطيبي: إنه يؤخذ من كلام الراغب، وهو التحقيق؛ لأن مفاد "أو" في الإثبات نظير مفاد النكرة: وهو الفرد المبهم، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعا، ولهذا كان المراد في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] النهي عن طاعة كليهما، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي: هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي.
وجعل صاحب "الكشاف" أو في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} بمعنى إلا أو حتى، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي، على انتفاء كلا المتعاطفين؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى، بعد ذلك، {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين: هو الطلاق قبل المسيس، مع فرض الصداق، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس، أو بعده، وقبل فرض الصداق، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية، لا للعطف، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم ايتقامته، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب: يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهورا لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطورا بالأذهان، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية.
وقد أفادت الآية حكما بمنطوقها: وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي، وحكي القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي. وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقدا لازما بالقول، واعتبرت المهر الذي هو من متماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه، وهي تعيين مقداره بالقول، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس، قالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت
(2/437)

متبوعها، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات، وفيه نظر، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل.
والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه: بالتصدي لبيان أحكامها، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية، فنحن نبسط القول في ذلك:
إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق: والأخلاق، والأهواء، والأميال، وقد وجدنا المعاشرة نوعين: أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة، وهي معاشرة النسب، المختلفة في القوة والضعف، بحسب شدة فرب النسب وبعده: كمعاشر الآباء مع الأبناء، والإخوة بعضهم مع بعض، وأبناء العم والعشيرة، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان، فنجد في قصر زمن المعاشرة، عند ضعف الآصرة، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيرا في مقدار الملاءمة؛ لأنه بمقدار قرب النسيب، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول، فنشأ من السببين الجبلي، والاصطحابي، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة، وحكم التعود والإلف، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.
والنوع الثاني: معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة، والخلة، والحاجة، والمعاونة، وما هي إلا معاشرة مؤقتة: تطول أو تقصر، وتستمر أو تغب، بحسب قوة الداعي وضعفه، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة، والتقصير في ذلك، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع. ومعاشرة الزوجين، في التنويع، هي من النوع الثاني، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين، يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي، في أول عقد التزوج، حتى تطول المعاشرة، ويكتسب كل من الآخر خلقه، إلا أن الله تعالى جعل رغبة الرجل في المرأة. إلى حد أن خطبها، وفي ميله إلى التي يراها، مذ انتسبت به واقترنت، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يعزز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة، وثقة بالخير، تقوم مقام السبب الجبلي، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني
(2/438)

الجليل، بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
وقد يعرض من تنافر الأخلاق، وتجافيها، كا لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما، فأحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم نرجيح أحد الجانبين: وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف وهو الذي سعى إليها، ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أسد، ولا أشد احتمالا لأذى، وصبرا على سوء خلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج، وهذا التخلص هو المسمى: بالطلاق، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي، وقد تسأله المرأة من الرجل، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها، قال سعيد بن ويد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه:
تلك عرساي تنطقان علي عمـ ... ـد إلى اليوم قول زور وهتر
سالتاني الطلاق أن رأتاما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر
وقال عبيد بن الأبرص:
تلك عرسي غضبي تريد زيالي ... ألبين تريد أم لدلال
إن يكن طبك الفراق فلا أحـ ... ـفل أن تعطفي صدور الجمال
وجعل الشرع للحاكم، إذا أبى الزوج الفراق، والحق الزوجة الضر من عشرته، بعد ثبوت موجباته، أن يطلقها عليه.
فالطلاق فسخ لعقدة النكاح: بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفى برضا واحد: وهو الزوج، تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعا؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف، أسهل منه بعد التعارف.
وقرأ الجمهور {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بفتح المثناة الفوقية مضارع مس المجرد، وقرأ
(2/439)

حمزة والكسائي وخلف، "تماسوهن" بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر.
وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الآية عطف على قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، عطف التشريع على التشريع، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين، والضمير عائد إلى النساء: المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا}، كما هو الظاهر، أي متعوا المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، ولا أحسب أحدا يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية.
والأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} ظاهره الوجوب وهو قول علي، وابن عمر، والحسن، والزهري، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، وإسحاق بن راهويه، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأن أصل الصيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وقوله، بعد ذلك، في الآية الآتية: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} لأن كلمة {حَقّاً} تؤكد الوجوب، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة، وهو الأرجح: لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر.
وجعل جماعة الأمر هنا للندب، لقوله بعد: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضيه، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان، وهو قول مالك وشريح، فجعلها {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] ، ولو كانت واجبة، لجعلها حقا على جميع الناس، ومفهوم جعلها حقا على المحسنين أنها ليست حقا على جميع الناس، وكذلك قوله: {الْمُتَّقِينَ} في الآية الآتية، لأن المتقي هو كثير الامتثال، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم،
وفي "تفسير الأتي" عن ابن عرفة: قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك: المتعة واجبة يقضي بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام، عن ابن حبيب، أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض، وأنه الأصح عند الأصوليين، قلت: فيه نظر، فإن القائل بالمفهوم، لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا، على أن لمذهب مالك أن المتعة عطية
(2/440)

ومؤاساة، والمؤاساة في مرتبة التحسيني، فلا تبلغ مبلغ الوجوب، ولأنها مال بذل في غير عوض، فيرجع إلى التبرعات، والتبرعات مندوبة لا واجبة، وقرينة ذلك قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق، على أنه قد نفي الله الجناح عن المطلق، ثم أثبت المتعة، فلو كانت المتعة واجبة لا نتقض نفي الجناح، إلا أن يقال: إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين، قد يجحف بالمطلق، بخلاف المتعة، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفي مالك ندب المتعة: للتي طلقت قبل البناء وقد سمي لها مهرا، قال: فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصرها على ذلك، رفقا بالمطلق، أي فلا تندب لها ندبا خاصا، بأمر القرآن. وقد قال مالك: بأن المطلقة المخول بها، يستحب تمتيعه، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف.
وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الموسع من أوسع، إذا صار ذا سعة، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قتر: وهو ضيق العيش، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء، أو حاله، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام، ويطلق على ما يساويه في القيمة، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء، في مراتب الناس في الثروة، وهو الطبقة من القوم، والطاقة من المال، وقرأه الجمهور بسكون الدال، وقرأه ابن دكوان عن ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بفتح الدال.
وقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} مبتدأ محذوف الخبر: إيجازا، لظهور المعنى، أي فنصف ما فرضتم لهن، بدليل قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} لا يحسن فيها إلا هذا الوجه. والاقتصار على قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يدل على أنها حينئذ لا متعة لها.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء: بأن يسقطن هذا النصف، وتسمية هذا الإسقاط عفوا ظاهرة، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها، أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضر، فإسقاطه عفو لا محالة، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح،
وأل في النكاح للجنس، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة، لا في قبول الزوج، وإن كان كلاهما سمي عقدا، فهو غير النساء لا محالة لقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ذكر، وهو غير المطلق أيضا، لأنه لو كان المطلق، لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر،
(2/441)

وقيل: جيء بالموصول تحريضا على عفو المطلق، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق، فكان جديرا بأن يعفو عن إمساك النصف، ويترك لها جميع صداقها، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال، أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة؛ لأن بيده عقدة نكاحها؛ إذ لا ينعقد نكاحها إلا به، فإن كان المراد به الولي المجبر: وهو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان، إذ لا يحتمل غير ذلك، وإن كان المراد مطلق الولي، فكونه بيده عقدة النكاح، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة، والاتصاف بالصلة مجاز، وهذا قول مالك؛ إذ جعل في "الموطأ": الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وهو قول الشافعي في القديم، فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة، والمولي عليها، ونسب ما يقرب من هذا القول إلى جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعلقمة، والحسن، وقتادة، وقيل: الذي بيده عقدة النكاح، هو المطلق لأن بيده عقد نفسه وهو القبول، ونسب هذا إلى علي، وشريح، وطاووس، ومجاهد، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي: في الجديد، ومعنى {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أن بيده التصرف فيها: بالإبقاء، والفسخ بالطلاق، ومعنى عفوه: تكميلة الصداق، أي إعطاؤه كاملا.
وهذا قول بعيد من وجهين: أحدهما، أن فعل المطلق حينئذ لا يسمه عفوا بل تكميلا، وسماحة؛ لأن معناه أن يدفع الصداق كاملا، قال في "الكشاف": "وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيه نظر" إلا أن يقال: كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق، فإذا ترك ذلك فقد عفا، أو سماه عفوا على طريق المشاكلة.
الثاني أن دفع المطلق المهر كاملا للمطلقة، إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص، بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول، والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب، وليس خطابا للمطلقين، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق، لأنه عبر عنه بعد، بقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا} وهو
(2/442)

ظاهر في المذكر، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة، أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه لكثرة أسبابها فيه.
وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} تذييل ثان، معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل. فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.
والنسيان هنا مستعار للإعمال، وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:14] وهو كثير في القرآن، وفي كلمة {بَيْنَكُمْ} إشارة إلى هذا العفو، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازى عليه، ونظيره قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48].
[238] {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
الانتقال من غرض إلى غرض، في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ولكنه كتاب تذكير، وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدي الأمة، وتشريعها وموعظتها، وتعليمها، فقد يجمع فيه الشيء للشيء، من غير لزوم ارتباط، وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني، عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين من
(2/443)

إحدى سور القرآن. كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق، لسبب اقتضى ذلك: من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد،
وإذا أبيت ألا تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة:215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة: وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره: كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين، أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقا وإنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنبا فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازعون عن الحق.
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى، ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها،
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع، عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي: "أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها".
وقال بعضهم: "لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله" وهو في الجملة. مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:239] أي من قوانين المعاملات النظامية.
وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] بين جملة {يَا
(2/444)

بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40]. وبين جملة {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. وكموقع جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] بين جملة {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] الآية وبين جملة {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة:154] الآية.
و {حَافِظُوا} صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها. والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يخشى التفريط فيه. والمراد: الصلوات المفروضة "وأل" في الصلوات للعهد، وهي الصلوات الخمس المتكررة؛ لأنها التي تطلب المحافظة عليها.
{وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة: لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف، وموصوفة بأنها وسطى، فسمعها المسلمون وقرأوها، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها: لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد: أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولا، بالتفريق والجمع، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى، أو من الوصاية بالمحافظة عليها.
فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى: فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، مثل قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الاسراء:78] وحديث عائشة: "أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب".
ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط: وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين، لأن ابتداء الأوقات اعتباري، ذهبوا يعينون المبدأ: فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضي بأن الوسطى: العصر، ومنهم من جعل المبدأ الظهر، لأنها أول صلاة
(2/445)

فرضت؛ كما في حديث جبريل في الموطأ، فجعل الوسطى: المغرب.
وأما الذين تعقلوا بدليل الوصاية على المحافظة، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس: تكثر المتطلبات عنها، فقال قوم: هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة، كانوا أهل شغل، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم، وربما كانوا في إكمال أعمالهم، وقال قوم: هي العشاء؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين، وقال بعضهم: هي العصر لأنها وقت شغل وعمل؛ وقال قوم: هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف، ووقت تطلب الدفء في الشتاء.
وأصح ما في هذا الخلاف: ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان:
أحدهما أنها الصبح. هذا قول جمهور فقهاء المدينة، وهو قول عمر، وابنه عبد الله وعلى، وابن عباس، وعائشة، وحفصة، وجابر بن عبد الله، وبه قال مالك، وهو عن الشافعي أيضا، لأن الشائع عندهم أنها الصبح، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قول، أو فعل، أو قرينة حال.
القول الثاني: أنها العصر، وهذا قول جمهور من أهل الحديث، وهو قول عبد الله بن مسعود، وروى عن علي أيضا، وهو الأصح عن ابن عباس أيضا، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ونسب إلى عائشة، وحفصة، والحسن، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي في رواية، ومال إليه ابن حبيب من المالكية، وحجتهم ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق حين نسى أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق، حتى غربت الشمس فقال: "شغلونا أي المشركين عن الصلاة الوسطى، أضرم الله قبورهم نارا" .
والأصح من هذين القولين أولهما: لما في "الموطأ" و"الصحيحين"، أن عائشة وحفصة أمرتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر.
وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن، قال تعالى، مخصصا لها بالذكر {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الاسراء:78] وفي الصحيح أن ملائكة الليل، وملائكة النهار، يجتمعون عند صلاة الصبح، وتوسطها بالمعنى الحقيقي
(2/446)

ظاهر، لأن وقتها بين الليل والنهار، فالظهر والعصر نهاريتان، والمغرب والعشاء ليلتان، والصبح وقت متردد بين الوقتين، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار: فشرع فيها الإسرار، وفريضته معاملة فرائض الليل: فشرع فيها الجهر.
ومن جهة الوصايا بالمحافظة عليها، هي أجدر الصلوات بذلك: لأنها الصلاة التي تكثر المطبات عنها، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول.
ومن الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفائها ليحافظ الناس على جميع الصلوات، وهذا قول باطل؛ لأن الله تعالى عرفها باللام ووصفها. فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم، وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة. هذا خلاصة ما يعرض هنا من تفسير الآية.
وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أمر بالقيام في الصلاة بخضوع، فالقيام: الوقوف، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر، وأما القنوت: فهو الخضوع والخشوع قال تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل:120] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أوفي صلاة المغرب، على خلاف بينهم، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع، وفي الصحيح عن ابن مسعود: كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، وقال: إن الصلاة لشغلا وعن زيد بن أرقم: كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه، في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت. فليس {قَانِتِينَ} هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتا استرواحا من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهرا وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت .
[239] {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
تفريع على قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذرا في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد
(2/447)

هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه.
والخوف هنا خوف العدو، وبذلك سميت صلاة الخوف، والعرب تسمى الحرب بأسماء الخوف: فيقولون الروع ويقولون الفزع، قال عمرو بن كلثوم:
وتحملنا غذاة الروع جرد
وقال سبرة بن عمر الفقعسي:
ونسوتكم في الروع باد وجودهها ... يخلن إماء والإماء حرائر
وفي الحديث: "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع" ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155].والمعنى: فإن حاربتم أو كنتم في حرب، ومنه سمي الفقهاء "صلاة الخوف" الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو، في ساحة الحرب: وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو، وخوف السباع، وقطاع الطريق، وغيرها.
و {رِجَالاً} جمع راجل كالصحاب {أَوْ رُكْبَاناً} جمع راكب وهما حالان من محذوف أي فصلوا رجالا أو ركبانا وهذا في معنى الاستثناء من قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] لأن هاته الحالة تخالف القنوت في حالة الترجل، وتخالفهما معا في حالة الركوب. والآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها الخشوع، لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال ولا يشترط فيها القيام.
وهذا الخوف يسقط ما ذكر من شروط الصلاة، وهو هنا صلاة الناس فرادي، وذلك عند مالك، إذا اشتد الخوف، وأظلهم العدو، ولم يكن حصن بحيث تتعذر الصلاة جماعة مع الإمام، وليست هذه الآية لبيان صلاة الجيش في الحرب جماعة: المذكورة في سورة النساء، والظاهر أن الله شرع للناس في أول الأمر صلاة الخوف فرادي على الحال التي يتمكنون معها من مواجهة العدو، ثم شرع لهم صلاة الخوف جماعة في سورة النساء، وأيضا شملت هذه الآية كل خوف من سباع، أو قطاع طريق، أو من سيل الماء، قال مالك: وتستحب إعادة الصلاة، قال أبو حنيفة: يصلون كما وصف الله ويعيدون، لأن القتال في الصلاة مفسد عنده.
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أراد الصلاة أي ارجعوا إلى الذكر المعروف. وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بإن بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن.
(2/448)

وقوله: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} الكاف للتشبيه: أي اذكروه ذكرا يشابه ما من عليكم من علم الشريعة في تفاصيل هذه الآيات المتقدمة، والمقصود من المشابهة المشابهة في التقدير الاعتباري، أي أن يكون الذكر بنية الشكر على تلك النعمة والجزاء، فإن الشيء المجازي به شيء آخر، يعتبر كالمشابه له، ولذلك يطلق عليه اسم المقدار، وقد يسمون هذه الكاف كاف التعليل، والتعليل مستفاد من التشبيه، لأن العلة على قدر المعلول.
[240] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
موقع هذه الآية هنا، بعد قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:234] إلى آخرها في غاية الإشكال: فإن حكمها يخالف، في الظاهر، حكم نظيرتها التي تقدمت، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} يزداد موقعها غرابة: إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع.
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولا في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة بالميراث، روى هذا عن ابن عباس، وقتادة، والربيع، وجابر بن زيد. وفي البخاري، في كتاب التفسير، عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها، قال: لا أغير شيئا منه عن مكانه يابن أخي فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان: "لا أغير شيئا منه عن مكانه ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث".
وفي البخاري: قال مجاهد: "شرع الله العدة أربعة أشهر وعشرا تعتد عند أهل زوجها واجبا، ثم نزلت {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} فجعل لله لها تمام السنة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجا، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين، فكان ذلك حقها في تركة زوجها، ثم نسخ ذلك بالميراث فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولا: إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولا مراعاة
(2/449)

لما كانوا عليه، ويكون الحول تكميلا لمدة السكنى لا العدة، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب، وهو المقبول.
واعلموا أن العرب، في الجاهلية، كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفى عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولا، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:234] عن "الموطأ"، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة والإحداد، فلما ثقل ذلك على الناس، في مبدأ أمر تغيير العادة، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقا عليها لا تستطيع تركه، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث، فالله لما أراد نسخ عدة الجاهلية، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم، أقر الاعتداد بالحول، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة، لكنه أوقفه على وصية الزوج، عند وفاته، لزوجه بالحسنى، وعلى قبول الزوجة ذلك، فإن لم يوص لها أو لم تقبل، فليس عليها السكنى، ولها الخروج، وتعتد حيث شاءت، ونسخ {وَصِيَّةً} السكنى حولا بالمواريث، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعا بحديث الفريعة.
وقوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قرأه نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف: برفع {وَصِيَّةً} على الابتداء، محولا عن المفعول المطلق، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم: حمد وشكر، "وصبر جميل" كما تقدم في تفسير {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [ الفاتحة:2] ، وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]. ولما كان المصدر في المفعول المطلق، في مثل هذا، دالا على النوعية، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكرا، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء، بل المقصود النوع، وعليه فقوله: لأزواجهم خبر، وقراه أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: وصية بالنصب فيكون قوله: {لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] متعلقا به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة الأمر.
وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة: مثل الوصية التي في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفى
(2/450)

لزوجه بالسكنى فلا سكنى، لها، وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية، وبين أن تخرج وقال ابن عطية: قالت فرقة: منهم ابن عباس، والضحاك، وعطاء، والربيع: أن قوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} هي {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} فذلك لا يتوقف عن إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه، وعليه يتعين أن يكون {لِأَزْوَاجِهِمْ} متعلقا بوصية، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول.
وقوله: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240]: تقدم معنى المتاع في قوله: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] والمتاع هنا هو السكنى، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعا، وانتصب متاعا على نزع الخافض، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع. وإلى مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول، وتقديره متاعا بسكنى إلى الحول، كما دل عليه قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.
والتعريف في الحول تعريف العهد، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها، فهو كتعريفة في قول لبيد1:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} حال من {متاعا} مؤكدة، أو بدل من {متاعا} بدلا مطابقا، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية:
خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس
وقوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} هو على قول فرقة معناه: فإن أبين قبول الوصية فخرجن، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن: من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج، والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف.
عدا الخطبة والتزوج، والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف وعلى قول الفرقة
ـــــــ
1 كانو في الجاهلية تحد البنت على أبيها حولا كاملا إذا لم تكن ذات زوج، وقبل هذا البيت:
تمنى ابنتاي أن تعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فإن حان يوما أن يموت أبوكما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا حليفه ... أضاع ولا خان الصديق ولا عذر
قالهل لبيد لما بلغ مائة وعشرين سنة يوصي ابنتيه بوصايا الإسلام.
(2/451)

الأخرى التي جعلت الوصية من الله، يجب أن يكون قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ} عطفا على مقدر للإيجاز، مثل: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء:63] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن: أي من تزوج وغيره، من المعروف عدا، المنكر كالزنا وغيره، والحاصل أن المعروف يفسر: بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها،
قال ابن عرفة في "تفسيره" "وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى، فصار هنالك معهودا".وأحسب هذا غير مستقيم، وأن التعريف تعريف الجنس، وهو والنكرة سواء، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى على -بفتح ياء {يُتَوَفَّوْنَ} وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:234] الآية.
[241] {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
عطف على جملة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة:240] جعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن. فاللام في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} لام الاستحقاق.
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق. فكانت هذه الآية قد زادت أحكاما على الآية التي سبقتها. وعن جابر بن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} إلى قوله: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فنزل قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فجعلها بيانا للآية السابقة، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين.
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين. وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء: إن كان استحبابا، أو كان إيجابا.فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة: وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق.
(2/452)

والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات، ومن هؤلاء عطاء، وجابر بن زيد، وسعيد ابن جبير، وابن شهاب، والقاسم بن محمد، وأبو ثور، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب، وهو قول الشافعي، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236].
[242] {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
أي كهذا البيان الواضح، يبين الله آياته، فالآيات هنا دلائل الشريعة. وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
[243, 244] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد، والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة، وقد تقدم: أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة، فالقتال من أهم أغراضها، والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فالكلام رجوع إلى قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بـ {يَسْأَلونَكَ} [البقرة: 217، 219، 220،222]
وموقع {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قبل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه، في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذا افتتح الخطبة فقال ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بسرا هو ابن أبي أرطاة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم فقوله: "ما هي إلا الكوفة" موقعة موقع الدليل على قوله لأظن هؤلاء القوم إلخ وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير، حين قطعت رجله ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك:
(2/453)

أبقي لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك فقدم قوله: ما كنا نعدك للصراع، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة، قبل ذكر الدعوى، أو حملا على التعجيل بالامتثال.
واعلم أن تركيب "ألم تر إلى كذا" إذا جاء فعل الرؤية فيه متعديا إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه، كان كلاما مقصودا منه التحريض على علم ما عدى إليه فعل الرؤية، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي، من معاني الاستفهام غير الحقيقي، وكان الخطاب به غالبا موجها إلى غير معين، وربما كان المخاطب مفروضا متخيلا.
ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجب، أو التعجيب، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية، ويكون فعل الرؤية علميا من أخوات ظن، على مذهب الفراء وهو صواب؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيرا، ومنه قوله تعالى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33] أي لك وقالوا "أحمد الله إليك" كما يقال "أحمد لك الله" والمجرور بإلى في محل المفعول الأول، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقا، وجملة وهم ألوف في موضع الحال، سادة مسد المفعول الثاني: لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال1، على تقدير: ما كان من حقهم الخروج، وتفرع على قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} قوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل "إلى" تجريدا لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم، أو قرينة عليها، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالمضر، لكونه بين الصدق لمن علمه، فيكون قولهم "ألم تر إلى كذا" في قوله: جملتين: ألم تعلم كذا وتنظر إليه.
الوجه الثاني: أن يكون الاستفهام تقريريا فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية، مثل {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
ـــــــ
1 عندي أن أصل استعمال فعل الرؤية في معنى العلم وعده من أخوات ظن أنه استعارة الفعل الموضوع لإدراك المبصرات إلى معنى المدرك بالعقل المجرد لمشابهته للمدرك بالبصر في الوضوح واليقين ولذلك قد يصلونه بالحرف الذي أصله لتعدية فعل النظر.
(2/454)

شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106].والقول1 في فعل الرؤية وفي تعدية حرف "إلى" نظير القول فيه في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن تجعل الاستفهام إنكاريا، إنكارا لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية، والقول في حرف "إلى" نظير القول فيه على الوجه الأول، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكاريا: حقيقة أو تنزيلا، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل، وقريب منه قول الأعشى:
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه
واستفادة التحريض، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه، أو المقرر به، أو المنكور علمه، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه، وذلك مما يحرض على علمه.
واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل، في ملازمته لهذا الأسلوب، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها: من تذكير وضده، وإفراد وضده، نحو ألم ترى في خطاب المرأة وألم تريا وألم تروا وألم ترين، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصر للمخاطب أو مطلقا.
وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنا، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} فإنه جملة حال وهي محل التعجيب، وإنما تكون كثرة العدد محلا للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفا وهلعا والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف "لا يغلب من قلة". فقيل هم من بني إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم فرارا من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلا لحال أهل الجبن في القتال، بحال الذين خرجوا من ديارهم، بجامع الجبن وكانت الحالة المشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع، مثل تمثيل
ـــــــ
1 إنما كثر الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية لقصد تحقيق صدق المقر بعد إقراره لأن مقرره أورد له الفعل الذي يطلب منه الإقرار به مورد المنفي كأنه يقول أفسح لك المجال للإنكار إن شئت أن تقول لم أفعل فإذا أقر بالفعل بعد ذلك لم يبق له عذر بإدعاء أنه مكره فيما أقر به.
(2/455)

حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله. وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل.
وقيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط1 وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها. وقيل هم من أهل أذرعات، بجهات الشام. واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزي2 فتكون القصة استعارة: شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون، بجامع خوف الموت، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم.
وفي "تفسير ابن كثير"، عن ابن جريج عن عطاء: أن هذا مثل لا قصة واقعة، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول، وقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ}. وانتصب {حَذَرَ الْمَوْتِ} على المفعول لأجله، وعامله {خَرَجُوا}.
والأظهر انهم قوم فروا من عدوهم، مع كثرتهم، وأخلوا له الديار، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك، ثم بحوا، أو أوبئة وأمراض، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت، مثل داء السكت ثم برئوا منها: فهم غب حالهم تلك مثل قول الراجز:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع
ويؤيد أنها إشارة إلى حادثة وليست مثلا قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ
ـــــــ
1 داوردان بفتح الدال بعدها ألف ثم واو مفتوحة ثم راء ساكنة كذا ضبطهاياقوت وهي شرقي واسط من جزيرة العراق قرب دجلة.
2 حزقيال بن بوزي هو ثالث أنبياء بني إسرائيل كان معاصرا لأرمياء ودانيال من القرنين السابع والسادس قبل المسيح وكان من جملة الذين أسرهم الأشوريون مع الملك يوياقيم ملك إسرائيل وهو يومئذ صغير فتنبأ في جهات الخابور في أرض الكلدانيين حيث القرى التي كانت على نهر الخابور شرقي دجلة ورأى مرائي أفردت بسفر من أسفار كتب اليهود وفيها إنذارات بما يحل ببني إسرئيل من المصائب وتوفي في الأسر.
(2/456)

بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [البقرة:246] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78] وقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154].
فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال، والذين قالوا إنما هذا مثل لا قصة واقعة، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال "أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاما ومر بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يابن آدم أتحيا هذه العظام، فقلت يا سيدي أنت تعلم، فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب، فتقاربت العظام، وإذا بالعصب والحكم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا" وهذا مثل ضربه النبي لاستماتة قومه، واستسلامهم لأعدائهم، لأنه قال بعده "هذه العظام هي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأ وقل لهم قال السيد الرب ها أنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيون" فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مراءى هذا النبي، وهو الخابور، وهو قرب واسط، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل داوردان: إذ لعل داوردان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى.
وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} القول فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس، استعيرت حالة تلقي المكون لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر، فأطلق على الحالة المشبهة المركب الدال على الحالة المشبه بها على طريقة التمثيل، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتا مستمرا، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشبهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازا عن الإنذار بالموت، والموت حقيقة، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت، ثم فرج الله عنهم فأحياهم. وإما أن يكون كلاما حقيقيا بوحي الله، لبعض الأنبياء، والموت موت مجازي، وهو أمر للتحقير شتما لهم، ورماهم بالذل والصغار، ثم أحياهم، وثبت فيهم روح الشجاعة.
(2/457)

والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت، فهؤلاء الذين ذرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا، وأراهم الله الموت ثم أحياهم، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس. ومحل العبرة من القصة: هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16].
وجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية هي المقصود الأول، فإن ما قبلها تمهيد لها، كما علمت، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} عطفا على الاستئناف، فيكون لها حكم جملة مستأنفة، استئنافا ابتدائيا، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، لقلنا: إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف.
وجملة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حث على القتال، وتحذير من تركه، بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات: ظاهرها وباطنها. وقدم وصف سميع، وهو أخص من عليم، اهتمام به هنا؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة، مثل جلبة الجيش، وقعقعة السلاح، وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف، وتسويل النفس القعود عن القتال، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد. وافتتاح الجملة بقوله: {وَاعْلَمُوا} للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض، وقد تقدم قريبا عند قوله: تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223].
[245] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
اعتراض بين جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] إلى آخرها، وجملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:246] الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدة والمؤونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله: بإعطاء العدة لمن لا عدة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون
(2/458)

جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] فكانت ذات ثلاثة أغراض.
و"القرض" إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله، ويطلق مجازا على البذل لأجل الجزاء، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاء الثواب، ففعل {يقرض} مستعمل في حقيقته ومجازه.
والاستفهام في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأن المستفهم لا يدري من هو أهل هذا الخير والجدير به، قال طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
و{ذا} بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملا في معناه كما تقول، وقد رأيت شخصا لا تعرفه: {من ذا} فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال {ذا} بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يتصور المتكلم في ذهنه شخصا موهوما مجهولا صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعل بعد اسم الإشارة، قال النحاة كلهم بصريهم وكوفيهم: بأن {ذا} مع الاستفهام تتحول إلى اسم موصول مبهم غير معهود، فعدوه اسم موصول، وبوب سيبويه في كتابه فقال باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع "ما" و"من" في الاستفهام فيكون {ذا} بمنزلة الذي ويكون ما أي أو من حرف الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما أي أو من بمنزلة اسم واحد مثله بقوله تعالى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} [النحل:30] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم {ذا} عند الكوفيين، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على {ذا} وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول؛ فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول، كما في هذه الآية، ولا معنى لوقوع اسمي موصول صلتهما واحدة، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مفاد اسم الموصول، فيكون ما بعده من فعل أو وصف في معنى صلة الموصول، وإنما دونوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز، فكان تدوينها قليل الجدوى.
والوجه أن {ذا} في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال. فوزان قوله تعالى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل:24] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته:
(2/459)

نجوت وهذا تحملين طليق
والإقراض: فعل القرض. والقرض: السلف، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه، واستعمل هنا مجازا في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيدا في تحقيق حصول التعويض والجزاء. ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضي الله به إلا إذا كان معبرا عن شوائب الرياء والأذى، كما قال النابغة:
ليست بذات عقارب
وقيل: القرض هنا على حقيقته وهو السلف، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يقرض الناس طمعا في الثواب كأنه أقرض الله تعالى؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي: "أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه" الحديث. وقد رووا: أن ثواب الصدقة عشر أمثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله.
وقرأ الجمهور {فَيُضَاعِفَهُ} بألف بعد الضاد، وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين. ورفع {فَيُضَاعِفَهُ} في قراءة الجمهور، على العطف على {يُقْرِضُ} ليدخل في حيز التحضيض معاقبا للإقراض في الحصول، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: بنصب الفاء هلى جواب التحضيض، والمعني على كلتا القراءتين واحد.
وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أصل القبض: الشد والتماسك، وأصل البسط: ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان: منها القبض بمعنى الأخذ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] بمعنى الشح {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] ومنها البسط بمعنى البذل {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الرعد:26] وبمعنى السخاء {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة:64] ومن أسمائه تعالى: القابض، الباسط، بمعنى المانع، المعطي،
وقرأ الجمهور: "ويبسط" بالسين، وقرأه نافع، والبزي عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وروح عن يعقوب، بالصاد وهو لغة.
يحتمل أن المراد هنا: يقبض العطايا والصدقات، ويبسط الجزاء والثواب، ويحتمل أن المراد بقبض نفوسا عن الخير، ويبسط نفوسا للخير، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على
(2/460)

المنفق في سبيل الله، والتقتير على البخيل. وفي الحديث، اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا، وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع: "أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد" أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط، والأصل هو السين، ولكنها قلبت صادا في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها، ومخرجها بعيد من مخرج السين؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير.
روى "أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو أن الله يريد منا القرض? قال: "نعم يا أبا الدحداح"، قال: "أرني يدك" فناوله يده فقال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق رداح ودار فساح في الجنة لأبي الدحداح".
[246] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} استئناف ثان بعد جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] سيق مساق الاستدلال لجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ في سبيل الله، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال، حبا للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين: أحدهما ما تقدم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} والثاني قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} وقد قدم أحدهما وأخر الآخر: ليقع التحريض على القتال بينهما،
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا
(2/461)

من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم، بعد الشروع في القتال، أو بعد كتبه عليهم، فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب: تقديما وتأخيرا. وتقدم القول على {أَلَمْ تَرَ} [البقرة:243] في الآية قبل هذه.
والملأ: الجماعة الذين أمرهم واحد، وهو اسم جمع كالقوم والرهط، وكأنه مشتق من الملء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم: تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء، عند الورد، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئا مهما؛ لأن الماء قوام الحياة، فضربوا ذلك مثلا للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة، والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول على اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي تمثيلا لإضاعتهم حقه.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبي بعد موسى، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم، فكانوا يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم والمقصود: التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم.
وتنكير نبي لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل: إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عنه السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.
وفي قوله: {لِنَبِيٍّ لَهُمُ} تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر، ومعنى {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} عين لنا ملكا؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ما كل فكأنه كان غائبا عنهم فبعث أي أرسل إليهم، أو هو مستعار من
(2/462)

بعث البعير أي إنهاضه للمشي.
وقوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية، استفهام تقريري وتحذير، فقوله: {أَلَّا تُقَاتِلُوا} مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع، ودليل على جواب الشرط {إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وهذا من أبدع الإيجاز: فقد حكي جملا كثيرة وقعت في كلام بينهم، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختبارا وسبرا لمقدار عزمهم عليه، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى "هل لا تقاتلون" ولم يقل: هل تقاتلون؛ لأن المستفهم إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة. وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم، فجملة: {أَلَّا تُقَاتِلُوا} يتنازع معناها كل من هل وعسى وإن، وأعطيت لعسى، فلذلك قرنت بأن، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه. والمقصود من هذا الكلام التحريض: لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إل التقصير، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل، كما يقول من يوصي غيره: افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل.
وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لعتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإمانة سكون الياء.
وقوله: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءت واو العطف في حكاية قولهم؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفا على قولهم: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ما يؤدي مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم، في تعيين ملك يدبر أمور القتال، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال، فجعلوا كلام نبيهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ابراهيم:12].
و"ما" اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه. واسم الاستفهام في موضع الابتداء، ولنا خبره، ومعناه ما حصل لنا
(2/463)

أو ما استقر لنا، فاللام في قوله: {لنا} لام الاختصاص و "أن" حرف مصدر واستقبال، و {نقاتل} منصوب بأن، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجرورا بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق لا نقاتل بالخبر، والتقدير: ما لنا في أل نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لألا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال، أو سبب لأجل تركهم القتال، أي لا يكون لهم ذلك. وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلا من ضمير {لنا}: بدل اشتمال، والتقدير: ما لنا لتركنا القتال.
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة: مثل: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:11] {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يّس:22] الذي فطرني {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [الصافات:154] فما لك والتلد دحول نجد {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد.
و "ما" مبتدأ و "لنا" خبره، والمعنى: أي شيء كان لنا. وجملة {أَلَّا نُقَاتِلَ} [البقرة:246] حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري: أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال. وهذا كنظائره في قولك: مالي لا أفعل أو مالي أفعل، فأن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر، متعلق بما تعلق به {لنا}.
وجملة: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} حال معللة لوجه الإنكار: أي أنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء.
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملا محذوفا تقديره وأبعدنا عن أبنائنا.
وقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} إلخ. جملة معترضة، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249] إلخ.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تذييل: لأن فعلهم هذا من الظلم؛ لأنهم لما طلبوا
(2/464)

القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه. ومن أحسن التأديب قول الراجز:
من قال لا في حاجة ... مسؤولة فما ظلم
وإنما الظالم من ... يقول لا بعد نعم
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل، لما فيها من العلم والعبرة، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليما للأمة بفوائد ما في التاريخ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن: هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة، إلى الصبغة الملكية، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفى موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نون، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاما يسوسونهم. ويقضون بينهم، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة، وكان من أولئك الحكام أنبياء، وكان هنالك أنبياء غير حكام، وكان كل سبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم، وكان من قضائهم وأنبيائهم صمويل بن القانة، من سبط أفرايم، قاضيا لجميع بني إسرائيل، وكان محبوبا عندهم، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالا بينهم، ثم كان الانتصار للفلسطينيين، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل: حتى إن تابوت العهد، الذي سيأتي الكلام عليه، أسره الفلسطينيون، وذهبوا به إلى "أشدود" بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين، لم يكن إلا بسبب النظام الملكي، وكانوا يومئذ يتوقعون هجوم ناحاش: ملك العمونيين عليهم أيضا، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكا يقاتل بهم في سبيل الله، فاستاء صمويل من ذلك، وحذرهم عواقب حكم الملوك قائلا إن الملك يأخذ بنيكم لخدمته وخدمة خيله، ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه، ويسخر منكم حراثين لحرثه، وعملة لعدد حربه، وأدوات مراكبه، ويجعل بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويصطفى من حقولكم، وكرومكم، وزياتينكم، أجودها فيعطيها لعبيده، ويتخذكم عبيدا، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم، فقالوا: لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم، وقال لهم: هل عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ}
(2/465)

الخ. وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح.
وقوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل، وقد صرح بذلك إجمالا في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول، وأنهم أسروا أبناءهم، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين، من المسلمين، على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة، وفرقوا بينهم وبين نسائهم، وبينهم وبين أبنائهم، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75]
[247] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
أعاد الفعل، في قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول، بل هو حديث آخر متأخر عنه: وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية، وحذرهم التولي عن القتال، تكلم معهم كلاما آخر في وقت آخر.
وتأكيد الخبر بإن: إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يتلقى بالاستغراب والشك، كما أنبأ عنه قولهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا}.
ووقع في سفر صمويل، في الإصحاح التاسع، أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم ملكا، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه: أن أجبهم إلى كل ما طلبوه، فأجابهم وقال لهم: اذهبوا إلى مدنكم، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم، وأنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شاول بن قيس، فوجد فيه الصفة: وهي أنه أصول القوم، ومسحه صمويل ملكا على إسرائيل، إذ صب على رأسه زيتا، وقبله وجمع بني إسرائيل، بعد أيام، في بلد المصفاة، وأحضره، وعينه لهم ملكا، وذلك سنة 1095 قبل المسيح.
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية "طَالُوتَ" وهو "شاول" وطالوت لقبه، وهو وزن اسم مصدر: من الطول، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت ورهبوت ورغبوت ورحموت، ومنه طاغوت أصله طغيوت فوقع فيه قلب مكاني، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته، ولعله جعل لقبا له في القرآن للإشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل،
(2/466)

في الوحي الذي أوحى الله إليه، كما تقدم، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب، أو كان ذلك لقباله في قومه قبل أن يؤتى الملك، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب، من كان من العموم. ووزن فعلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف، فإن منعه من الصرف لا علة له إلا العلمية والعجمة، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لما جعل علما على هذا العجمي في العربية، فعجمته عارضة وليس هو عجميا بالأصالة، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعول، ووزن فاعول في الأعلام عجمي، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود، ولذلك منعوا قابوس من الصرف، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس، وكأن عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت.
وأنى في قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} بمعنى كيف، وهو استفهام مستعمل في التعجيب، تعجبوا من جعل مثله ملكا، وكان رجلا فلاحا من بيت حقير، إلا أنه كان شجاعا، وكان أطول القوم، ولما اختاره صمويل لذلك، فتح الله عليه بالحكمة، وتنبأ نبوءات كثيرة، ورضيت به بعض إسرائيل، وأباه بعضهم، ففي سفر صمويل: أن الذين لم يرضوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا: أنى يكون له الملك علينا، وهو الحق؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن ملكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم. والسر في اختيار نبيهم لهم هذا الملك: أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير، لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم، وما يزالون يتوقعون الخلع، ولهذا كانت الخلافة سنة الإسلام. وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام: إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلا ذلك؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ. وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم. وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم، وإنما نظروا إلى قلة جدته، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح،
(2/467)

وقد قال الراجز:
قدني من نصر الخبيبين قدي ... ليس الإمام بالشحيح الملحد
فقولهم: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ} جملة حالية، والضمير من المتكلمين، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالا للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف، إذ هم قادة وعرفاء، وشاوول رجل من السوقة، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه، وقوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية. وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم، وهو أنه فقير، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد، والعطاء، وإغاثة الملهوف فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكا، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة، فظنوا ذلك من شروط الملك.ولذا أجايهم نبيهم بقوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} رادا على قولهم: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه، وبقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} رادا عليهم قولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}، أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم، فأعلمهم نبيهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي، وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لا سيما في وقت المضائق، وعند تعذر الاستشارة، أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش،
وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم، قال أبو الطيب:
الرأي قبا شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فالعلم المراد هنا، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة، وقيل: هو علم النبوءة، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم.
ولم يجيبهم نبيهم عن قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}؛ فإنه يبسطه العلم وبالنصر يتوافر له المال؛ لأن المال تجلبه الرعية كما قال أرسططاليس، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار. وغني الأمة في
(2/468)

بيت مالها ومنه تقوم مصالحها، وأرزاق ولاة أمورها.
والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69] في الأعراف.
وقوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} يحتمل أن يكون من كلام النبي، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله، بعد أن بين لهم شيئا من حكمة الله في ذلك. ويحتمل أن يكون تذييلا للقصة من كلام الله تعالى، وكذلك قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
[248] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
أراد نبيهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكا، فجعل لهم آية تدل على ذلك: وهي أن يأتيهم التابوت، أي تابوت العهد، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى لإرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال: وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل: حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعا في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه، وانكسار يديه ورأسه، وإصابتهم بالبواسير في أشدود، وتخومها، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوبا بهدية: صزرة خمس بواسير من ذهب، وصورة خمس فيران من ذهب، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة: أشدود، وغزة، واشقلون، وجت، وعفرون. ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس: هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاول، وصريح القرآن يخالف ذلك، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر، وهو كثير في كتابهم. والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلا لقصد أخذ الثأر
(2/469)

من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها، ظنا منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة، آنفا، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول، وابتداء ظهور الأنتصار به.
والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب: مثل ناقوس وناموس، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان: مثل سلس وقلق، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت. والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل: وهو صندوق أمر موسى عليه السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعا ونصفا وارتفاعه ذراعا ونصفا، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج، وصنع له إكليلا من ذهب، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت، وجعل غطاءه من ذهب، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:154].
والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء، وفي حديث السعي إلى الصلاة: "عليكم بالسكينة" وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب، وفيه أيضا كتب موسى عليه السلام، وهي مما تسكن ارؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها، فالظرفية على الأول مجازية، وعلى الثاني حقيقية، وورد في حديث أسيد حضير إطلاق السكينة على شئ شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة.
والبقية في الأصل: ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون، وهي بقايا من آثار الألواح، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل، والحافظ لأمور الدين، وشعائر العبادة
(2/470)

قيل: ومن ذلك عصا موسى. ويجوز أن تكون البقية مجازا عن النفيس من الأشياء؛ لأن الناس إنما يحافظون، على النفائس فتبقى كما قال النابغة:
بقية قدر من قدور توورثت ... لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث.
والمراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما: من أبناء هارون؛ فإنهم عصبة موسى؛ لأن موسى لم يترك أولادا، أو ما تركه آلهما هو آثارهما، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
وهارون هو أخو موسى عليهما السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هاروف فيكون كالوزير له، وأوحى إلى هاروف أيضا، وكان موسى هو الرسول الأعظم، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة، وجعل الكهانة في نسله، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة منها تحريم الخمر على الكاهن، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر.
وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} حال من "التابوت"، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92] لأن الراحلة تحمل راكبها؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر: "وكانت الحمر حمولتهم" وقال النابغة:
يخال به راعي الحمولة طائرا
فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة، هذا هو الملاقي لما في كتب بني إسرائيل.
(2/471)

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم، بدون قتال، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه السلام، وفي مجيئه من غير سائق. ولا إلف سابق.
[249, 251] {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}
عطف الفاء جملة:"لما قصل"، على جملة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ} [البقرة:247] لأن بعث الملك، لأجل القتال، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبي، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر: وهو الرضا بالملك، ومجيء التابوت، وتجنيد الجنود؛ لأن ذلك مما يدل عليه جملة: فصل طالوت بالجنود.
ومعنى فصل بالجنود: قطع وابتعد بهم، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد: لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال، ولذلك تجد مصدره
(2/472)

الفصل بوزن مصدر المتعدى، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولا نظرا لحالة قصوره، كما قالوا صده صدا، ثم قالوا صد هو صدا، ثم قالوا صد صدودا. ونظيره في حديث صفة الوحي "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال أي فيفصل نفسه عني، والمعنى فينفصل عني".
وضمير {قال} راجع إلى "طالوت"، ولا يصح رجوعه إلى نبيهم، لأنه لم يخرج معهم، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم، مع أنه لم يكن نبيا يوحى إليه: إما استناد الإخبار تلقاه من صموئيل، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك، فأخبر عن اجتهاده، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم: لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم، وأن فيه مرضاة الله تعالى على المتمثل، وغضبه على العاصي، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل،
والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد، قوى العدد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين، ومخاطرتهم بأنفسهم، وتحملهم المتاعب، وعزيمة معاكستهم نفوسهم، فقال لهم إنكم ستمرون على نهر، وهو نهر الأردن، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإن السير في الحرب يعطش الجيش، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم: لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب، انحلت عراه ومال إلى الراحة، وأثقله الماء. والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم:
فلما شارفت أعلام طي ... وطي في المغار وفي الشعاب
سقيناهن من سهل الأداوي ... فمصطبح على عجل وآبى
يريدأن الذي مارس الحرب مرارا لم يشرب؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد، فإذا كان حاجزا كان أخف له وأسرع، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه، ولأجل هذا
(2/473)

رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة.
والنهر بتحريك الهاء، وبسكونها للتخفيف ونظيره في ذلك شعر وبحر وحجر فالسكون ثابت لجميعها.
وقوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} أي فليس متصلا بي ولا علقة بيني وبينه، وأصل من في مثل هذا التركيب للتبعيض، وهو تبعيض مجازي في الاتصال، وقال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] وقال النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
وسمى بعض النحاة من هذه بالاتصالية. ومعنى قول طالوت ليس مني يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش، فلا يكمل الجهاد معه، والظاهر الأول: لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} غنية عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} لأنه إذا كان الشارب مبعدا من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} من قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} لأنه من الشاربين، وإنما أخره عن هذه الجملة، وأتى به بعد جملة: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأول ومفهوم الثانية، فإن مفهوم {مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أن من طعمه ليس منه، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئا، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب، وليس هو قسما واسطة. والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول، وإنما ذكرت قريبا منه قال في سفر صمويل: لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين، "وظنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم؛ لأن شاول حلف القوم قائلا ملعون من يأكل خبزا إلى المساء حتى انتقم من أعدائي" وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر، في حرب جدعون قاضي إسرائيل للمديانيين، والظاهر أن الواقعة، تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول.
(2/474)

وقوله: {لَمْ يَطْعَمْهُ} بمعنى لم يذقه، فهو من الطعم بفتح الطاء، وهو الذوق أي اختبار المطعوم، وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها، أو حلاوته أو ضدها، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب، ويعرف ذلك بالقرينة، قال الحارث بن خالد المخزومي. وقيل العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا1
فالمعنى لم أذق. فأما أن يطلق الطعم على الشرب أي ابتلاع الماء فلا، لأن الطعم الأكل ولذلك جاء في الآية والبيت منفيا، لأن المراد أنه لم يحصل أقل ما يطلق عليه اسم الذوق، ومن أجل هذا عيروا خالد بن عبد الله القسري لما أخبر وهو على المنبر بخروج المغيرة بن سعيد عليه فقال "أطعموني ماء" إذ لم يعرف في كلام العرب من الإطعام إلا بمعنى الأكل، وأما من يطلب الشراب فإنما يقول اسقوني لأنه لا يقال طعم بمعنى شرب، وإنما هو بمعنى أكل2.
والغرفة بفتح الغين في قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر وأبي جعفر المرة من الغرف وهو أخذ الماء باليد، وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف، بضم الغين،وهو المقدار المغروف من الماء
ووجه تقييده بقوله: {بِيَدِهِ} مع أن الغرف لا يكون إلا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب، فيتناوله بعضهم كرها، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد.
وقد دل قوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ} على قلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعد مجاوزة النهر فقالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.
ـــــــ
1 هو شاعر جاهلي قتل يوم بدر والنقاخ بضم النون وبخاء معجمة هو الماء الصافي والبرد قيل هو النوم والظاهر أنه أراد الماء البارد والخطاب لليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود.
2 لدلالته على الهلع واضطراب الفؤاد فيعتريه العطش وقد هجاه بعضهم لذلك فقال:
بل المنابر من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لما جد في الهرب
فأشار إلى هجائه بأنه طلب الماء وبأنه استطعمه أي سماه طعاما.
(2/475)

وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت، والتصريح باسمه، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جليات كان طوله ستة أذرع وشبرا، وكان مسلحا مدرعا، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجبنهم.
وقوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} الآية، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون الشهادة في سبيل الله فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه فالظن على بابه. وكم في قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفاقهم، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والمتوكل فقالوا: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
والفئة الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع، لأن بعضهم يرجع إلى بعض، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة، لأن الجيش يفيء إليها.
وقوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} وهذا دعاؤهم حين اللقاء بطلب الصبر من الله، وعبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر والكثرة يتعاوران الألفاظ الدالة عليهما، كقول أبي كبير الهذلي:
كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وقد تقدم نظيره، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق.
وقد أشارت الآية في قوله: {فَهَزَمُوهُمْ} إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار، ولم يعبروا الأردن، ووجم طالوت واستخار صموئيل، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلا نحو ستمائة رجل، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسراءيل، وتشجع الذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم
(2/476)

منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة،وظهر داود بن يسي اليهودي إذا أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسي في بيت لحم ويمسح اصغر ابناء يسي ليكون ملكا على إسرائيل بعد حين، وساق الله داود إلى شاول "طالوت" بتقدير عجيب فخطى عند شاول، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه، وكان ذا شجاعة ونشاطوحسن سمت، وله نبوغ في رمي المقلاع، فكان ذات يوم التقى الفلسطينين مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جليات كما تقدم، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصا بالحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيين، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود، وصار داود بعد حين ملكا عوض شاول، ثم آتاه الله النبوة فصار ملكا نبيا، وعلمه مما يشاء. ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} في سورة الأنعام[83].
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
ذيلت هذه الآية العظيمة، كل الوقائع العجيبة، أشارت بها الآيات السالفة: لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان، وحكمة من حكم التاريخ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية، وقبل إدراك ما في مطاويها، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} [البقرة:247] وما بعده من رؤوس الآي. وعدل عن التعارف في أمثالها من ترك العطف، وسلوك سبيل الاستئناف. وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب "ولولا دفاع الله الناس" بصيغة المفاعلة، وقرأه الجمهور {دفع} بصيغة المجرد.
والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة، كقول موسى جابر الجنفي:
لا أشتهي يا قوم إلا كارها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
وإضافته إلى الله مجاز عقلي: كما هو في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما
(2/477)

أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه. ولذلك قال: {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام. قال:
فدفعتها فتدافعت
وهو ذب عن مصلحة الدافع ومعنى الآية: أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإبداعه قوة الدفع وبواعثه غي الدافع، لفسدت الأرض: أي من على الأرض، واختل نظام ما عليها: ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس، وأنواع، وأصناف، خلقها قابلة للاضمحلال، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده، ولذلك نجد قانون الخلفية منبثا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان، والبذر في النبت، والنضح في المعادن، والتولد في العناصر الكيماوية. ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة، لاختلال أو انعدام صلاحيتها، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها، وقد تقدم لنا تفسير قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]
ثم إن الله تعالى كما أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها، بدون تأمل أو بتأمل، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها، كانسياق الوليد لالتهام الثدي، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي، ثم تتوسع هذه الإدراكات، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد. ويسمى ذلك بالقوة الشاهية. وأودع أيضا في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها، ودفع العوادي عنها، عن غير نصيرة، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يتوقع منه الضر، ومن طلب الكن، وأتخاذ السلاح، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة
(2/478)

المدافعة اشتدادا عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان. وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمربد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها، وقد عوض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به، وهو المعبر عنه بالاستعداد.
ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على بقاء الآخر. فهذا ناموس عام. وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع. وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص، وبما في أفراد نوعه من الفوائد. فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع، لاشتد طمع القوى في إهلاك الضعيف، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره، فابتزها منه، ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها، مما هو له، ولتناسى صاحب الحاجة، حين الاحتياج، ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا. وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره، وكل قوي على ضعيفه، فيهلك القوي الضعيف، ويهلك الأقوى القوي، وتذهب الأفراد تباعا، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع، وذلك شيء قليل، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه، وكان يجدها في غيره: من أفراد نوعه، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض، أو من أنواع أخر، كحاجة الإنسان إلى البقرة، فيذهب هدرا.
ولما كان نوع الإنساع هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي، خصته الآية بالكلام فقالت: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع؛ لأن الإنسان يذب عنها في بقائها من منافع له. وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي، وهو ظاهر، وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع، سئم ذلك، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة. وإنما كان الحاصل هو الفساد، ولولا الدفاع، دون الصلاح، لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة لقصيرة الزمن، لأن في كثير من النفوس أو أكثرها
(2/479)

الميل إلى مفاسد كثيرة، ولأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها، بخلاف النفوس الصالحة، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها، وانتشارها، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين، لأسرع ذلك في فساد حالهم، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت.
وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب؛ فبالحرب الحائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق، والإنحاء على الظالمين، وهزم الكافرين.
ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضا يصد المفسد عن محاولة الفساد، ونفس شعور المفسد يتأهب غيره لدفاعه بصده عن اقتحام مفاسد جمة.
ومعنى فساد الأرض: إما فساد الجامعة البشرية. كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس، أي لفسد أهل الأرض، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد، فيكون في الآية احتباك، والتقدير: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض: أي من على الأرض ولفسد الناس.
والآية مسوقة مساق الامتنان، فلذلك قال تعالى: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} لأنا لا نحب فساد الأرض: إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلال نظامنا، وذهاب أسباب سعادتنا، ولذلك عقبه بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فهو استدراك مما تضمنته "لولا" من تقدير انتفاء الدفاع؛ لأن أصل "لولا" "لو" مع "لا" النافية: أي لو كان انتفاء الدفاع موجودا لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب "لولا" من "لو" و"لا": إذ لا يتم الاستدراك على قوله: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع، إن قلنا "لولا" حرف امتناع لوجود.
وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص.
[252] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر، ولكن الحكم العالية في قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251]، وقد نزلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه.
(2/480)

وقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم: تنويها بشأنه، وتثبيتا لقلبه، وتعريضا بالمنكرين رسالته. وتأكيد الجملة بإن للاهتمام بهذا الخبر، وجيء بقوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} دون أن يقول: "وإنك لرسول الله"، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدعا من الرسل، وأنه أرسله كما أرسل من قبله، وليس في حالة ما ينقص عن أحوالهم.
[253] {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها,فأما الأول فإن الله تعالى لما أنبأ بإختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] جمع ذلك كله في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ} لفتا إلى العبر التي في خلال ذلك كله ولما أنهى ذلك كله عقبه بقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] تذكيرا بأن إعلامه بأخبار الأمم والرسل آبة على صدق رسالته. إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لولا وحي الله إليه وفي هذا كله حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة:
بنى عمه الدنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأن جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مر من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال.
وأما الثاني فلأنه لما أفيض القول في القتال وفي الحث على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البينات ولكنهم أساءوا الفهم فجحدوا البينات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال. فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع
(2/481)

ضمير الشأن أي هي قصة الرسل وأممهم فضلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذب اليهود عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويها بمراتبهم كقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] .
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلا لأن الإخبار عن الجماعة بأنها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم، وجملة {فضلنا} حال.
والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام، وتعليم المسلمين أن هاته الفئة الطيبة مع عظيم شأنها قد فضل الله بعضها على بعض، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلا الله تعالى، غير أنها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المصلحة للبشر ومن نصر الحق، وما لاقوه من الأذى في سبيل ذلك وما أيدوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر، وفي عموم ذلك الهدى ودوامه، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس" فما بالك بمن هدى الله بهم أمما في أزمان متعاقبة، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسل عليهم السلام فيما لقي من قومه.
وقد خص الله من جملة الرسل بعضا بصفات يتعين بها المقصود منهم، أو بذكر اسمه، فذكر ثلاثة إذ قال: منهم من كلم الله، وهذا موسى عليه السلام، لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن، وذكر عيسى عليه السلام، ووسط بينهما الإيماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه، بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} يتعين أن يكون المراد من البعض هنا واحدا من الرسل معينا لا طائفة، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة سابتة لذلك الواحد : لأنه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملا، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارا مع قوله فضلنا بعضهم على بعض، ولأنه لو أريد بعض فضل على بعض لقال، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165]
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبر بالبعض عن
(2/482)

النفس كما في كول لبيد:
تراك أمكنة لا أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وعن المخاطب، كقولي أبي الطيب:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
والذي يعين المراد في هذا كله هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على أحد كقول طرفة:
إذا القوم قالوا ما الفتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء: 54-55]عقب قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} إلى أن قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الاسراء:55]
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول:ذلك أن كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعضبما للبعض من صفات الكمال الزائدة على الصفة المشتركة بينهم،وفي تمييز صفات التفاضل غموض،وتطرق لتوقع الخطأ وعروض وليس ذلك بسهل على العقول المعرضة للغفلة والخطأ. فإذا كان التفضيل قد أنبأ به رب الجميع، ومن إليه التفضيل، فليس من قدر الناس أن يتصدوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.
وهذا مورد الحديث الصحيح: "لا تفضلوا بين الأنبياء" يعني به النهي عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا.وقد ثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لما تظاهر من آيات تفضيلهوتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه. وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا. إلا أن كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقائدة كثرة الظواهر تفيد القطع.وأعظمها آية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]الآية.
(2/483)

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى" يعني بقوله: "أنا" نفسه على أرجح الاحتمالين، وقوله: "لا تفضلوني على موسى" فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنه أفضل الخلق عنده.
وهذه الدرجات كثيرة عرفنا منها: عموم الرسالة لكافة الناس،ودوامها طول الدهر،وختمها للرسالات، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة، وبدوام تلك المعجزة، وإمكان كل من يؤهل نفسه لإدراك الإعجاز وبإبتناء شريعتهعلى رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال، وبتيسير إدانة معانديه له وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير،وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلا مكابر، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم.
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى -عليهما السلام- لشدة الشبه بين شريعتيهما،لأن شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع، مما قبلها، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام.
وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل، بأن أسمعه كلاما أيقن بأنه صادر بتكوين الله، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة، وسيجيء بيان ذلك عند قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} البينات هي المعجزات الظاهرة البينة، وروح القدس هو جبريل، فإن الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]
والقدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة، فإضافة روح إلى القدس، من إضافة الموصوف إلى ىالصفة، ولذلك يقال الروح القدس، وقيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية، أي روح من ملائكة الله.
وروحج القدس هو جبريل قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] وفي الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها" وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجمهم ومعك روح القدس"
وإنما وصف عيسى بن مريم بهذين مع أن سائر الرسل أيدوا بالبينات وبروح القدس، للرد
(2/484)

على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته،وللرد على النصارى الذين غلوا فزعكوا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه-مهما ذكرللتنبيه على أن ابن الإنسان لا يكون إلاها، وعلى أن مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأن العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنما تكنى، فيقولون ربة البيت،والأهل، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}
اعتراض بين الفذلكة- المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها و بين جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] فالواو اعتراضية: فإن ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بينت خصال الشجاعة والجبن وآثارهما، والمقصود منه تشريعا وتمثيلا قتال أهل الإيمان لأهل الكفر لإعلاء كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهدى وإزهاق الضلال. بين الله بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا: بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل، ولو اتبعوا الحق لسلموا وسالموا.
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} مرادا به جملة الرسل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود، ومقاتلة الفلسطينيين لبني إسرائيل انتصارا لأصنامهم، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليمن، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناووه وقاتلوا المسلمين أهله وهم المشركون الذين يزعمون أنهم على ملة إبراهيم واليهود والنصارى، ويكون المراد بالبينات دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية بانحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرع على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا} [البقرة:244] إلخ.
ويجوز أن يكون ضمير {مِنْ بَعْدِهِمْ} ضمير الرسل على إرادة التوزيع، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل، فيكون مفيدا أن أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافا واقتتالا نشأ من تكفير بعضهم بعضا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدين إلى حد عبادة الأوثان، وكما وقع للنصارى في
(2/485)

عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفر بعضهم بعضا، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وتقاتلت النصارى كذلك من جراء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفارا لإدعائهم ألوهية المسيح، فعظمت بذلك حروب بين فرنسا وأسبانيا وجرمانيا وانكلترا وغيرها من دول أوربا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله: في خطبة حجة الوداع: "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" يحذرهم ما يقع من حروب الردة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائل النبوة العظيمة.
وورد في الصحيح" قوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول، قال: "أما إنه كان حريصا على قتل أخيه"، وذلك يفسر بعضه بعضا أنه القتال على اختلاف العقيدة.
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا، والمعنى أن الله شاع اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلو كقول طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بنخالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وقوله: {ولمن اختلفوا} استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله:وهو ما اقتتل،لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب لو وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا. وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر' فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطأ أهل الدين فيه
(2/486)

إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفربه،وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتبعه ومنهم من كفر به فعاداه،فاقتتل الفريقان.
وأيا ما كان المراد من الوجهين فإن قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدي.
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا، لكن الخلاف مركوز في الجبلة. بيد أن الله تعالى قد جعل - أيضا- في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعين الحق من مختلف الآراء، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبية، أو حب المدحة من الأشياع وأهل الأغراض، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم، ولكن اختلفوا هذا الخلاف فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فلاعذر في القتال إلا لفرقين: مؤمن وكافر بما آمن به الآخر، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم، أما الخلاف الناشء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب القتال.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها" لأنه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل، فرجع هو بإثم الكفر لأنه المتسبب فيما يتسبب على الكفر، ولأنه إذا كان يرى بعض أحوال أهل الإيمان كفرا، فقد صار هو كافرا لأنه جعل الإيمان كفرا. وقال عليه الصلاة والسلام: "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، فجعل القتال شعار التكفير. وقد
(2/487)

صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفيروالقتال، وأوله خلاف الردة في زمن أبي بكر، ثم خلاف الحرورية في زمن علي وقد كفروا عليا في قبوله تحكيم الحكمي، ثم خلاف أتباع المقنع بخرسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجها من ذهب، وظهر سنة 159 وهلك سنة163، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادعوا الحلول - أي حلول الرب في المخلوقات - واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين، وذلك من سنة 293. واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرة في المذاهب جر بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة، وأكثرها حروب الخوارج غير مكفرين لبقية الأمة في المشرقومقاتلات أبي يزيد النكاري الخارجي بالقيروان غيرها سنة 333 ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم، وقتال الباطنية المعروفين بالإسماعلية لأهل السنة في ساوة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523. ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية. ثم انقلبوا أنصارا للإسلام في الحروب الصليبية، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل. لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام. وتطرقت كل جهة منه حتى البلد الحرام.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله القول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أن الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدوا بها إلى الأهتداء إلىالحق وإلى التبصر في العواقب قبل ذلك الإبان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فأعاد {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أن في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادا الاهتداء، وأن في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة. فالله يخلق ما يشاء ولكنه يكمل حا الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرطون في ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
(2/488)

خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]
موقع هذه الآية مثل موقع: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] الآية لأنه لما دعاهم لبذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] شفعه بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] على طريقة قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [لأنفال:72] وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} لأن صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها، وستجيء آيات في تفصيل ذلك.
وقوله: {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} حث على الإنفاق واستحقاق فيه.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتا تنتهي الأعمال إليه ويتعذر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذر التدارك للفائت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والإرتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل.
والخلة - بضم الخاء- المودة والصحبة، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي:
ألا أبلغا خلتي راشدا ... وصنوي قديما إذا ما اتصل
وقال كعب: أكرم بها خلة، البيت.
فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة، ونفي المودة في ذلك لحصول أثرها وهوالدفع عن الخليل كقوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ} قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
وقرأ الجمهور: {لا بَيْعٌ فِيهِ} - وما بعده - بالرفع لأن المراد بالبيع والخلة والشفاعة
(2/489)

الأجناس لا محالة، إذ هي من أسماء المعاني التي لا أحاد لها في الخارج فهي أسماء الأجناس لا نكرات، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح بخلاف نحو لا رجل في الدار ولا إله إلا الله،ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع "زوجي كليل تهامه لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سامه" بالرفع لا غير، لأنها أسماء أجناس كما في هذه الآية. وقرأابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصا فالقرائتان متساويتان معنى، ومن التكلف هنا قول البيضاوي إن وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل البيع فيه أو خلة أو شفاعة.
والشفاعة الوساطة في طلب النفع، والسعي إلى من يارد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر، يقال شفع كمنع إذل صير الشيء شفعا، وشفع أيضا كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأن المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وترا فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعا،فالشفاعة تقتضي مشفوعا إليه ومشفوعا فيه، وهي - في عرفهه - لا يتصدى لها إلا من يتحقق قبول شفاعته، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفعه فيه أي فقبل شفاعته، وفي الحديث: "قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع".
وبهذ يظهر أن الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال:
فذاك فتى إن تأته في صنيعة ... إلى ماله لا تأته بشفيع
ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي "وليناك كورة خرسان ولقبناك يمين الدولة، بشفاعة أبي حامد الاسفرائيني"، أي بواسطته ورغبته.
فالشفاعة - في العرف - تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي الاستحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعا عند الله بإدلال، وأثبتها في آيات أخرى كقوله - قريبا - {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء:28] وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء:79] وفسرت الآية بذلك في الحديث الصحيح، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة
(2/490)

للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنكرها المعتزلة وهم مخطئونفي إنكارها وملبوسن في استدلالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.
والشفاعة المنفية هنا المراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوع إليه ردها، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأن تلك كرامة أكرمه الله بها وأذن له فيها إذ يقول: "اشفع تشفع" فهي ترجع إلى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء:28] وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23].
وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} صيغة قصر نشأت عن قوله: {لا بيع فيه} فدل على أن ذلك النفي تعريض وتعديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأن ذلك التهديد والمهدد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله، وهذا أشد وقعا على المعاقب لأن المظلوم يجد لنفسه سلوا بأنه متعدى عليه، فالقصر قصر قلب، بتنزيلها منزلة من يعتقد أنهم مظلومون.ولك أن تجعله قصرا حقيقيا ادعائيا لأن ظلمهم لما كان أشد الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.
والمراد بالكافرين ظاهرا المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإن هذه الجملةصالحة أيضا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأن ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذب عن حوزته. وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظن بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان،فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها، وهذا كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]
وذلك أن القرآن يصور المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظا وتنزيها، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أن المعاصي تبطل الإيمان كما قدمناه.
[255] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
(2/491)

لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعالى وذكر صفاته إبطالا لكفر الكافرين وقطعا لرجائهم، لأن فيها {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وجعلت هذه الآية ابتداءا لآيات تقرير الوحدانية والبعث، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاحقة.
وجيء باسم الذات هنا لأنه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم، فإن العلم أعرف المعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسماه إلى قرينة أو معونة لولا احتمال تعدد التسمية، فلما انتفى هذا الاحتمال في اسم الجلالة كان أعرف المعارف لا محالة لاستغنائه عن القرائن والمعونات، فالقرائن كالتكلم والخطاب، والمعونات كالمعاد والإشارة بليد والصلة وسبق العهد والإضافة.
وجملة: "لا إله إلا هو" خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا له إلا هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]
وقوله: {الحي} خبر لمبتدأ محذوف،و {القيوم} خبر ثن لذلك المبتدأ المحذوف، والمقصود إثبات الحياة وابطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42] وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنها لو عطفت لكانت كالتبع،وظاهر كلا الكشاف أن هذه الجملة مبينة لما تضمنته جملة: {الله لا إله إلا هو} من ىأنه القائم بتدبير الخلق، أي لأن اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبر غيره، فلذلك فصلت خلافا لما قرر به التفتازاني كلامه فإنه غير ملائم لعبارته.
والحي في كلام العرب من قامت به الحياة، وهي صفة بها الإدراك والتصرف، أعني كمال الوجود المتعارف، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين، وبالنسبة إلى الخالق ما يقارب أثر صفة الحياة فينا، أعني انتفاء الجمادية مع التنزيه عن عوارض المخلوقات.وفسرها المتكلمون بأنها "صفة تصحح لمن قامت به الإدراك والفعل"
وفسر صاحب "الكشاف" الحي بالباقي، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم، فيكون مستعملا كناية في لازم معناه لأن إثبات الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلا مجازا أو كناية. وقال الفخر: "الذي عندي أن الحي - في أصل اللغة - ليس عبارة
(2/492)

عن صحة العلم والقدرة. بل عبارة عن كمال الشيء في جنسه، قال تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية:5] وحياة الأشجار إيراقها. فالصفة المسماة - في عرف المتكلمين - بالحياة سميت بذلك لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بها، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته".
والمقصود بوصف الله هنا الحي إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات وكيف يكون مدبر أمور الخلق جمادا.
والحي صفة مشبهة من حيي، أصله حيي كحذر أدغمت الياءان، وهو يائي باتفاق أئمة اللغة، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنهم يقولون حيوة أي حياة، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة.
والقيوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة، وأصله قيؤوم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، والمراد به المبالغة في القيام المستعمل - مجازا مشهورا - في تدبير شؤون الناس، قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] والمقصود إثبات عموم العلم له وكمال الحياة وإبطال إلهية أصنام المشركين، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبر الكون هو الله تعالى وإنما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل. والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعا من المخلوقات يتصرف فيها وأمما من البشر تنتمي إليه ويحنأ عليها.
وجملة: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} مقررة لمضمون جملة: "الله الحي القيوم" ولرفع احتمال المبالغة فيها، فالجملة منزلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها.
والسنة فعلة من الوسن، وهو أول النوم، والظاهر أن أصلها اسم هيأة كسائر ما جاء على وزن فعله من الواوي لفاء، وقد قالو وسنة بفتح الواو على صيغة المرة. والسنة أول النوم قال عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينع سنة وليس بنائم
والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من
(2/493)

تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصبي،فيشتد عند مغيب الشمس ومجيء الظلمة فيطلب الدماغ والجهاز العصبي الذي يدبره الدماغ استراحة طبيعية فيغيب الحس شيئا فشيئا وتثقل حركة الأعضاء، ثم يغيب الحس إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة.
ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير، وإثبات لكمال العلم، فإن السنة والنوم يشبهان الموت، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.
ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأن من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقا، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر،قال أبو كبير:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
والمقصود أن الله لا يحجب علمه شيء حجبا ضعيفا ولا طويلا ولا غلبة ولا اكتسابا، فلا حاجة إلى ما تطلبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود، وأن ذكر النوم من قبيل الأحتراس. وقد أخذ هذا المعنى بشار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال:
وليل دجوجي تنام بناته ... وأبناؤه من طوله1 وربائبه
فإنه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهرا لليل لأن الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت.
وجملة: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لا تصافه بالقيومية لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيومها وألا يهملها ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.
واللام للملك. والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنه لا يشذ
ـــــــ
1 كتب في نسخة ديوان بشار "هوله" بهاء في أوله وطبع كذلك وبدا لي بعد ذلك أنه تحريف وأن الصواب "طوله" بطاء عوض الهاء لأنه المناسب لقوله: "تنام"
(2/494)

عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر، ولكنه زاده تأكيدا بتقديم المسند - أي لا لغيره - لإفادة الرد على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضالة. فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذا بلاغة معجزة.
وجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} مقررة لمضمون جملة {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لما أفاده لام الملك من شمول ملكه تعالى لجميع ما في السماوات وما في الأرض، وما تضمنه تقديم المجرور من فصر ذلك الملك عليه تعالىقصر قلب، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى، بالمطابقة وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده - التي لا ترد - بالإلتزام،لأن الإدلال من شأن المساوي والمقارب،والسفاعة إدلال. وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنهم لم يثبتوا لآلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة، بل قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فأكد هذا المدلول بالصريح، ولذلك فصلت هذه الجملة عما قبلها.
و {ذا} مزيدة للتأكيد إذ ليس ثم مشار إليه معين، والعرب تزيد "ذا" لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معين يتعلق به حكم الاستفهام، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدل على أن ليس ثمة متطلع ينصب نفسه لإدعاء هذا الحكم، وتقدم القول في "من ذا" عند قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] والاستفهام في قوله:
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء منه بقوله {إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]
والمعنى أنه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأن المخلوقات كلها ملكه، ولكن يشفع عنده من أراد هو أن يظهر كرامته عنده فيأذنه بأن يشفع فيمن أراد هو العفو عنه،كما يسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الإمتحان، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس ليكلم ربه فيخفف عنهم هول موقف
(2/495)

الحساب، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلمه الله تعالى إياها، فيقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فسجوده استئذان في الكلام، ولا يشفع حتى يقال اشفع، وتعليمه الكلمات مقدمة للإذن.
و جملة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} تقدير وتكميل لما تضمنه مجموع جملتي {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ولما تضمنته جملة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فإن جملتي {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} دلتا على عموم علمه بما حدث ووجد من الأكوان ولم تدلا على علمه بما سيكون فأكد وكمل بقوله يعلم الآية، وهي أيضا تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إذ قد يتجه السؤال لماذا حرموا الشفاعة إلا بعد الإذن فقيل لأنهم لا يعلمون من يستحق الشفاعة وربما غرتهم الظواهر، والله يعلم من يستحقها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.
والمراد بما بين ايديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم. وأما علمه بما في زمانهم فأحرى. وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هو الخلف، وقيل عكس ذلك، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف، لأن ما بين أيدي المرء هو أمامه، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ن وما خلفه هو ما وراء ظهره، فهو قد تخلف عنه وانقطع ولا يشاهده، وقد تجاوزه ولا يتصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهو فرع من الماضي والمستقبل، وقيل المحسوسات والمعقولات. وأياما كان فاللفظ مجاز، والمقصود عموم العلم بسائر الكائنات.
وضمير {أَيْدِيهِمْ} و {خَلْفَهُمْ} عائد إلى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بتغليب العقلاء من المخلوقات لأن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم يشمل أحوال غير العقلاء، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السماوات وما في الأرض فيكون المراد ما يختص بأحوال البشر - وهو البعض، لضمير ولا يحيطون - لأن العلم من أحوال العقلاء.
وعطفت جملة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} على {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} لأنها تكملة لمعناها كقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]
ومعنى يحيطون يعلمون علما تاما، وهو مجاز حقيقته أن الإحاطة بالشيء تقتضي
(2/496)

الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذ منه شيء من أوله ولا آخره فالمعنى لا يعلمون - علم اليقين - شيئا من معلوماته، وأما ما يدعونه فهو رجم بالغيب. فالعلم في قوله: {مِنْ عِلْمِهِ} بمعنى المعلوم، كالخلق بمعنى المخلوق، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدونية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية. ولذلك فقوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} تنبيه على أنه سبحانه قد يطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواص علمه كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} تقرير لما تضمنته الجمل كلها من عظمة الله تعلى وكبريائه وعلمه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه، أو لبيان سعة ملكه -كذلك- كما سنبينه، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرعة.
والكرسي شيء يجلس عليه متركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصا واحدا في جلوسه، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعا فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضاءه التحيز، فتعين أن يكون مرادا به غير حقيقته.
والجمهور قالوا: إن الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته، فقيل هو العرش، وهو قول الحسن. وهذا هو الظاهر لأن الكرسي لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية وتكرر ذكر العرش، ولم يرد ذكرهما مقترنين فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون:86] وقيل الكرسي غير العرش، فقال ابن زيد: هو دون العرش و روى في ذلك عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري الفلاة من الأرض" وهو حديث لم يصح. وقال أبو موسى الأشعري والسدي والضحاك: الكرسي موضع القدمين من العرش، أي لأن الجالس على عرش يكون مرتفعا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربع، وروي هذا عن ابن عباس. وقيل الكرسي مثل لعلم الله، وروي عن ابن عباس لأن العالم يجلس على كرسي ليعلم الناس. وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق، قال البيضاؤي: "ولعله الفلك المسمى عندهم بفلك البروج" قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبين مسماها في قوله: "سورة نوح" {أَلَمْ
(2/497)

تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح:16] فيجوز أن تكون السماوات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملاها من العناصر، وهي مسبح الكواكب، ولقد قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بنظام الشمس وهي: فلكان، وعطارد، والزهرة، وهذه تحت الشمس إلى الأرض، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد، إلا أنها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري، ثم زحل، ثم نبتون ثم أورانوس، ثم المريخ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري، والكرسي دونه فهو زحل، والسبع الباقية هي المذكورة، ويضم إليها القمر، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عد القمر، وهذا هو الظاهر، والشمس من جملة الكواكب، وقوله تعالى: {وجعل الشمس سراجا} تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنها نور للأرض، إلا أن الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير. وإذا كانت السماوات أفلاكا سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز- وسبحان من لا تحيط بعظمة قدرته الأفهام - فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل علىذلك مع موافقته لما في نفس الأمر، ولكنه لم يفصل لنا ذلك لأن تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتم إلى الآن، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وجملة {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} عطفت على جملة {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} لأنها من تكملتها وفيها ضمير معاده في التي قبلها، أي إن الذي أوجد هاته العوالم لا يعجز عن حفظها.
وآده جعله ذا أود. والأود - بالتحريك - العوج، ومعنى آده أثقله لأن المثقل ينحني فيصير ذا أود.
وعطف عليه {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} لأنه من تمامه، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة.
ولهذه الآية فضل كبير لم اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة. في "الصحيحين" عن أبي هريرة: "أن آتيا أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح" فقال
(2/498)

له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقك وذلك شيطان" وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم -قلت - الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب في صدري وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر" وروى النسائي: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت". وفيها فضائل كثيرة مجربة للتأمين على النفس والبيت.
[256] {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
استئناف بياني ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبين في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنها محكمة أو منسوخة.
وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن الشوائب ما كفرت به الأمم، من شأنه ن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدةن المستقيم الشريعة، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافا بيانيا.
والإكراه الحمل على فعل مكروه، فالهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا كراهية، ولا يكون ذلك إلا بتخويف وقوع ما هو أشد كراهية من الفعل المدعو إليه.
والدين تقدم بيانه عند قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهو هنا مراد به الشرع.
والتعريف في الدين للعهد، أي دين الإسلام.
ونفي الإكراه خير في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصا. وهو دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار. وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين
(2/499)

على الإسلام، وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله، فالظاهر أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لاسيما وقد قيل بأن آخر آية نزلت هي في سورة النساء: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] الآية فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبر عنه بالذمة،ووضحه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحما هذا الدينوحماية بيضته، وتبين هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتباعه من المكابرة، وحقق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس في أن يعبد في بلدكم هذا" لما تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه، ولذلك قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدم من آيات القتال مثل قوله قبلها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة:
أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.
النوع الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفار ولم تغيى بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيدا بغاية آية {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
النوع الثالث: ما غيي بغاية كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] فيتعين أن يكون منسوخا بهته الآية وآية {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}
(2/500)

[التوبة:29] كما نسخ حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان: الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى: هي منسوخة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص.والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العرب على الإسلام، يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من جميع الكفار، فوجه الجمع من التنصيص. القول الثاني أنها محكمة ولكنها خاصة، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية وإنما يجبر على الإسلام أهل الأوثان، وإلى هذا مال الشافعي فقال: "إن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. قال ابن العربي في "الأحكام": "وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس يحمل الآية عليه" يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مقلاتا - أي لا يعيش لها ولد1 - تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا: لا ندع أبنائنا بل نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
وقال السدي: نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حصين من بني سلمة بن عوف وله ابنان جاء تجار من نصارى شام إلى المدينة فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا وخرجا معهم، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردهما مكرهين فنزلت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال. وقيل إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرها فرارا من السيف، على معنى قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر.
وقيل: إن المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإن نفي الإكراه نهي،
ـــــــ
1 المقلات - بكسر الميم - مشتقة من القلت بالتحريك وهو الهلاك، وعليه فالتاء فيه أصلية وليست هاء التأنيث، ووقع في كلام ابن عباس تكون المرأة مقلى، رواه الطبري فيكون مقلاه مفعلة من قلى إذا أبغض.
(2/501)

والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنهن أهل دين وأكرهوا المجوس منهم والمشركات.
وقوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} واقع موقع العلة لقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولذلك فصلت الجملة.
والرشد - بضم فسكون، وبفتح ففتح - الهدى وسداد الرأي، ويقابله الغي والسفه، والغي الضلال، وأصله مصدر غوي المتعدي فأصله غوي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا. وضمن تبين معنى تميز فلذلك عدي بمن، وإنما تبين ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة.
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} تفريع على قوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} إذ لم يبق بعد التبيين إلا الكفر بالطاغوت، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين، إذ قد تفرع عن تميز الرشد من الغي ظهور أن متبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارا.
والطاغوت الأوثان والأصنام، والمسلمون يسمون الصنم الطاغية، وفي الحديث: "كانوا يهلون لمناة الطاغية" ويجمعون الطاغوط على طواغيط، ولا أحسبه إلا من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم و مكروه. ووزن طاغوت على التحقيق طغيوت -فعلوت- من أوزان المصادر مثل ملكوت ورهبوت ورحموت فوقع فيه قلب مكاني- بين عينه ولامه- فصير إلى فلعوت طيغوت ليتأتى قلب اللام ألفا فصار طاغوت، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسما لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل ملكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر - لا مثل رحموت ورهبوت في أنهما مصدران - فتاؤه زائدة، وجعل علما على الكفر وعلى الأصنام، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصدر.
وعطف {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} على الشرط لأن نبذ عبارة الأصنام لا مزية فيه إن لم يكن عوضها بعبادة الله تعالى.
ومعنى استمسك تمسك، فالسين والتاء للتأكيد كقوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران:195] وقول النابغة:
(2/502)

"فاستنكحوا أم جابر" غذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان، بل ال]مان التمسك نفسه. والعروة - بضم العين - ما يجعل كالحلقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه فللدلو عروة وللكوز عروة وقد تكون العروة في حبل بأن يشد طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه فلذلك قال في "الكشاف": العروة الوثقى من الحبل الوثيق.
و {الْوُثْقَى} المحكمة الشد. و {لا انْفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع من إبانة وتجزئة.
والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيئة من أمسك بعروة وثقى من حبل وهو راكب على صعب أو في سفينة في هول البحر، وهي هيئة معقولة شبهت بهيئة محسوسة، ولذلك قال في "الكشاف" "وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، بالمشاهدة" وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال:" مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه فالمعنى أن المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم.
وقد أشارت الآية إلى أن هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك مما تطلبه النفوس، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الذي هو تعريض بالوعد والثواب.
[257] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وقع قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية موقع التعليل لقوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] لأن الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله قد تولو الله فصار وليهم، فهو يقدر لهم ما فيه نفعهم وهو ذب الشبهات عنهم، فبذلك يستمر تمسكهم بالعروة الوثقى ويأمنون انفصامها، أي فإذا اختار أحد أن يكون مسلما فإن الله يزيده هدى.
والولي الحليف فهو ينصر مولاه. فالمراد بالنور نور البرهان والحق، وبالظلمات ظلمات الشبهة والشك، فالله يزيد الذين اهتدوا هدى لأن اتباعهم الإسلام تيسير لطرق
(2/503)

اليقين فهم يزدادون توغلا فيها يوما فيوما، وبعكسهم الذين اختاروا الكفر على الإسلام فإن اختيارهم ذلك دل على ختم ضرب على عقولهم فلم يهتدوا، فهم يزدادون في الضلال يوما فيوما. ولأجل هذا الازدياد المتجدد في الأمرين وقع التعبير بالمضارع في - يخرجهم - ويخرجونهم - وبهذا يتضح وجه تعقيب هذه الآية بآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:258] بآية {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259] ثم بآية {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فإن جميعها جاء لبيان وجوه انجلاء الشق والشبهات عن أولياء الله تعالى الذين صدق إيمانهم، ولا دعية إلى ما في "الكشاف" وغيره من تأويل الذين آمنوا والذين كفروا بالذين أرادوا ذلك، وجعل النور والظلمات تشبيها للإيمان والكفر لما علمت من ظهور المعن لما يدفع الحاجة إلى التأويل بذلك، ولا يحسن وقعه بعد قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} ولقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فإنه متعين للحمل على زيادة تضليل الكافر في كفره بمزيد الشك كما في قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - إلى - قوله: وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101]، ولأن الطاغوت كانوا أولياء للذين آمنوا قبل الإيمان فإن الجميع كانوا مشركين، وكذلك ما أطال به فخر الدين من وجود الاستدلال على المعتزلة واستدلالهم علينا. وجملة يخرجهم خبر ثان عن اسم الجلالة. وجملة يخرجونهم حال من الطاغوط. وأعيد الضمير إلى الطاغوت بصيغة جميع العقلاء لأنه أسند إليهم ما كان من فعل العقلاء وإن كانوا في الحقيقة سبب الخروج لا مخرجين. وتقدم الكلام على الطاغوت عند قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
[258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثال لها، فإنه لما ذكر بأن الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأن الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن، فكان هذا في قوة المثال.
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال
(2/504)

الذي حاج إبراهيم في ربه، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [بقرة:259]
وقد مضى الكلام على تركيب ألم تر. والاستفهام في {الم تر} مجازي متضمن معنى التعجيب، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:243] وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس. ومعنى {حاج} خاصم وهو فعل جاء على زنة المفاعلة، ولا يعرف لحاج في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها. ومن العجيب أن الحجة في كلام العرب البرهان المصدق للدعوى مع أن حاج لايستعمل غالبا إلا في معنى المخاصمة، قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] مع قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [صّ:64] وأن الأغلب أنه يفيد الخصام بباطل، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80] وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران:20] والآية في ذلك كثيرة. فمعنى {الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} أنه خاصمه خصاما باطلا في شأن صفات الله رب إبراهيم.
والذي حاج إبراهيم كافر لا محالة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} وقد قيل إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن قوش بن حام بن نوح، فيكون أخا "رعو" جد إبراهيم. والذي يعتمد أنه ملك جبار، كان ملكا في بابل وأنه الذي بنى مدينة بابل، وبنى الصرح الذي في بابل واسمه نمرود- بالدال المهملة في آخره - ويقال بالذال المعجمة، ولم تتعرض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات.
والضمير المضاف إليه رب عائد إلى إبراهيم، والإضافة لتشريف المضاف إليه، ويجوز عوده إلى الذي، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه ... في سنة يوعد أخواله
أي ما كان من شأن المروءة ا، يظهر شرا لأهل رحمه
وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} تعليل حذفت منه لام التعليل، وهو تعليل لما يتضمنه حاج من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهله عندهازدهاءه وإعجابه بنفسه فهو تعليل محض وليس علة غائية مقصودة للمحاج من حجاجه. وجوز صاحب "الكشاف" أن
(2/505)

يكون تعليلا غائيا أي حاج لأجل أن الله أتاه الملك فاللام استعارة تبعية لمعنى يؤدي بحرف غير اللام، والداعي لهاته الاستعارة التهكم، أي أنه وضع الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي جزاء رزقكم. وإيتاء الملك مجازا في التفضل عليه بتقدير أن جعله ملكا وخوله ذلك، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:83] قيل كان نمرود أول ملك في الأرض، وأول من وضع التاج على رأسه و {إذ قال} ظرف لحاج وقد دل هذا على أن إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واتج بحجة واضحة يدركها كل عاقل وهي أن الرب الحق هو الذي يحيي ويميت، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه لا يستطيع إحياء ميت فلذلك ابتدأ إبراهيم الججة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات، وأراد بأن الله يحيي أنه يخلق الأجسام الحية من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة. وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البحث لأن الذي حاج إبراهيم كان من عبدة الأصنام، وهم ينكرون البعث. وذلك موضع العبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك، ثم أعقبه بدلالة الأمانة، فإنه لا يستطيع تنهية حياة الحي، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنهما من فعل فاعل غير البشر، فالله هو الذي يحيي ويميت. فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلا كالأصنام إذ لا يعطون الحياة غيرهم وهم فاقدوها،ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاج إبراهيم.
وجملة {قَالَ أَنَا أُحْيِي} بيان لحاج والتقدير حاج إبراهيم قال أنا أحيي وأميت حين قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقد جاء بمغالطة عن جهل وغرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنه يعمد إلى من حكم عليه بالموت فيعفو عنه، وإلى بريء فيقتله، كذا نقلوه. ويجوز أن يكون مراده أن الإحياء والإماتة من فعله هو لأن أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس.
وقرأ الجمهور ألف ضمير "أنا" بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف "أنا" في العربية. وقرأه نافع وأبو جعفر مثلهم إلا إذا وقع بعد الألف همزة قطع مضمومة أو مفتوحة كما هنا، وكما في قوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فيقرأه بألف ممدودة. وفي همزة القطع المكسورة روايتان لقالون عن نافع نحو قوله تعالى: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} [الأعراف:188] وهذه لغة فصيحة.
(2/506)

وقوله: {قال إبراهيم} مجاوبة فقطعت العطف جريا على طريقة حكاية المحاورات، وقد عدل إبراهيم عن الاعتراض بأن هذا ليس من الإحياء المحتج به ولا من الإماتة المحتج بها، فأعرض عنه لما علم من مكابرة خصمه وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله، ولذلك بهت أي عجز لم يجد معارضة.
وبهت فعل مبني للمجهول يقال بهته فبهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه قال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الانبياء:40] وقال عروة العذري:
فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل هم حوصلة الحجة على قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وإنما انتفى هدي الله لقوم الظالمين لأن الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع، إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره.
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ.
[259] {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
تخيير في التشبيه على طريقة التشبيه، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:258] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم، وهو مراد صاحب "الكشاف" بقوله: "ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل: "أرايت كالذي حاج أو كالذي مر" وإذ قد قرر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلاهية، وذلك أصل الإسلام، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الشرك.
(2/507)

واعلم أن العرب تستعمل الصيغتين في التعجب: يقولون ألم تر إلى كذا، ويقولون أرأيت مثل كذا أو ككذا، وقد يقال ألم تر ككذا لأنهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر، وفي الحديث: "فلم أره كاليوم منظرا قط" وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول: ألم تر كاليوم - في الخير والشر -، وحيث حذف الفعل المستفهم عنه فلك أن تقدره على الوجهين، وما صاحب "الكشاف" إلى تقديره: أرأيت كالذي لأنه الغالب في التعجب مع كاف التشبيه.
والذي مر على قرية قيل هو أرميا بن حلقيا، وقيل هو عزير بن شرخيا "عزرا بن سريا" والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال، والذي يظهر لي أنه حزقيال ابن بوزي نبي إسرائيل كان معاصرا لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل، جمع كتب شريعة موسى وتابوت العهد وعصا موسى ورماها في بئر أرشليم خشية أن يحرقها بختنصر، ولعله اتخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرا بينه وبين أنبياء زمانه وورثتهم من الأنبياء. فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتابا في مراء رآها وحيا تدل على مصائب اليهود وما يرجى لهم من الخلاص، وكان آخر ما كتبه في السنة الخمسة والعشرين بعد سبي اليهود، ولم يعرف له خبر بعد كما ورد في تاريخهم، ويظن أنه مات أوقتل. ومن جملة ما كتبه: "أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما كثيرة وأمرني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي أتحيى هذه العظام، فقلت: يا سيدي الرب أنت تعلم. فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبا وأكسوكم لحما وجلدا. فتنبأت، كما أمرني فتقاربت العظام كل عظم إلى عطمه، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيوا وقامو على أقدامهم جيش عظيم جدا" ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شك أن الله لما أعاد عمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة 450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال - عليه السلام - ليرى مصداق نبوته، وأراه إحياء العظام، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره - وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة - وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه، أو لأهل القرية التي كان فيها وفقد من بينهم فجاءهم من بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته، فيكون قوله تعالى: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} إشارة إلى
(2/508)

قوله: "أخرجني روح الرب وأمرني عليها". فقوله: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} إشارة إلى قوله أتحيى هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأن كلامه هذا ينبأ باستبعاد إحيائها، ويكون قوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنهم كتبوها بعد مرور أزمنة، ويظن من هنا أنه مات في حدود 560 قبل المسيح، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريبا، ويكون قوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل.
وقوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} الخاوية: الفارغة من السكان والبناء والعرش جمع عرش وهو السقف. والظرف مستقر في موضع الحال، والمعنى أنه خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشد الخراب لأن أول ما يسقط من البناء السقف ثم تسقط الجدران على تلك السقف. والقرية ÷ي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر، والظاهر الأول لأنه كان ممن سبي مع"يهوياقيم" ملك إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن "صدقيا" أخيه بعد إحدى عشرة سنة.
وقوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} استفهام إنكار واستبعاد، وقوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ}. وقد قيل إنه نام فأماته الله في نومه.
وقوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أحياه وهي حياة خاصة ردت بها روحه إلى جسده، لأن جسده لم يبل كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر.
وقوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنه تذكر أنه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر النهار.
وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} تفريع على قوله: {لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}. والأمر بالنظر أمر للاعتبار أي فانظره غي حال أنه لم يتسنه، والظاهر أن الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرمين كما يفعل المصريون القدماء، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك.
ومعنى {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير، وأصله مشتق من السنة لأن مر السنين يوجب التغير
(2/509)

وهو مثا تحجر الطين، والهاء أصلية لا هاء سكت، وربما عاملوا هاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة، قال مطرود الخزاعي، أو ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} قيل: كان حماره قد بلي فلم تبق إلا عظامه فأحياه الله أمامه. ولم يؤت مع قوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأن مجرد النظر إليه كاف، فهو رآه عظاما ثم رآه حيا، ولعله هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيه حزقيال بعيدا عن العمران، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذ أحيى جسده بنفخ الروح - عن غير إعادة - وأحيى طعامه بحفظه من التغير وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعل الله اطلع على ذلك الإحياء بعض الأحياء من أصفيائه.
فقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} معطوف على مقدر دل عليه قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} وانظر إلى حمارك، فإن الأمر فيه للاعتبار لأنه ناظر إلى ذلك لا محالة، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يحيي الله القرية بعد موتها، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنهم لم يروا طعامه وشرابه وحماره، ولكن رأوا ذاته وتحققوه بصفاته. ثم قال له: وانظر إلى العظام كيف ننشزها، والظاهر أن المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا، أو أراد عظام الحمار فتكون "أل" عوضا عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلا أنه برز فيه العامل المنوي تكريره.
وقرأ جمهور العشرة {نُنْشِرهَا} بالراء مضارع أنشر الرباعي بمعنى الإحياء. وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف: {نُنْشِزُهَا} - بالزاي - مضارع أنشزه إذا رفغه، والنشز الارتفاع، والمراد إرتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكلمة واحدة، وفي كتاب "حزقيال" "فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه، ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها".
وقوله: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنه مضارع علم فيكون جواب الذي مر على قرية عن قول الله له: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} الآية وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه علمه في قبل وتجدد علمه إياه. وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام
(2/510)

الله تعالى، وكان الظاهر أن يكون معطوفا على: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} لكنه ترك عطفه لأنه جعل كالنتيجة للاستدلال بقوله :{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} الآية.
[260] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
معطوف على قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259]، فهو مثال ثالث لقضية قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] الآية ومثال ثاني لقضية {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} فالتقدير: أو هو كإبراههيم إذ قال رب أرني إلخ. فإن إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الإنتقال من العلم النظري البرهاني، إلى العلم الضروري، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس.
وانتصب {كَيْفَ} هنا على الحال مجردة عن الاستفهام، كانتصابها في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]
وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} الواو فيه واو الحال، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله: {أَرِنِي} والتقدير: أأريك في حال أنك لم تؤمن، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك، فقوله: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} كلام صدر عن إختباره يقينه وإلفائه سالما من الشك.
وقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} معناه لينبت ويتحقق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشبه عن العقل، وذلك أن حقيقة يطمئن يسكن، ومصدره الاطمئنان، واسم المصدر الطمأنينة، فهو حقيقة في سكون الأجسام، وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفعء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساويا للحقيقة، يقال اطمئن باله واطمئن قلبه.
والأظهر أن اطمأن وزنه افعلل وأنه لا قلب فيه، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة، وهذا قول أبي عمرو وهو البين إذ لا داعي إلى القلب، فإن وقوع الهمزة لاما أكثر وأخف من وقوعها عينا، وذهب سيبويه إلى أن اطأمن مقلوب وأصله اطمأن وقد سمع طمأنته وطأمنته وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة، والذي أوجب
(2/511)

الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طمن.
والقلب مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنما ذلك للفكر، وأراد بالإطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دله الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين.
وقوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} اعلم أن الطير يطلق على الواحد مرادفا لطائر، فإنه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة، ولا شك في هذا الإطلاق، وهو قول أبو عبيدة والأزهري وقطرب ولا وجه للتردد فيه، ويطلق على جمعه أيضا وهو اسم جمع طائر كصحب وصاحب، وذلك أن أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع.
وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أن الأربعة مختلفة الأنواع، والظاهر أن حكمة التعدد والاختلاف زيادة في التحقق أن الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض، فلذلك عددت الأنواع، ولعل جعلها أربعة ليكون وضعها على الجهات الأربعة: المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلا يظن لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء، ويجوز أن يكون المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر، أى خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهن، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران، فجعل ذلك آية على أنهن أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة، لئلا يظن أنهن لم يمتن تماما.
وذكر كل جبل يدل على أنه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأن وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء، فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسرة التناول.
والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيء، وبعضها تعتصم به الناس من العدو كما قال السمؤال:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
ومعنى {صُرْهُنَّ} أدنهن أو أيلهن يقال صاره يصوره ويصيره بمعنى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب، فعن عكرمة أنه نبطي، وعن قتادة هو حبشي، وعن وهب هو
(2/512)

رومي، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنها لم ينتقل جزء منها عن موضعه.
وقوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} عطف على محذوف دل عليه قوله: {جُزْءاً} لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح. فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ.
وقرأ الجمهور {فَصُرْهُنَّ} - بضم الصاد وسكون الراء - من صاره يصوره، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب {فصِرهن} - بكسر الصاد - من صار يصير لغة في هذا الفعل.
وقرأ الجمهور {جُزْءاً}- بسكون الزاي- وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي، وهما لغتان.
[262,261] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
عود إلى التحريض على الإنفاق في سبيل الله، فهذا المثل راجع إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] وهو استئناف بياني لأن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة:254] الآية يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر وقد تهيأت نفوس السامعين إلى التمحض لهاذا المقصود فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشبيه حال جزائهم وبركتهم، والصلة مؤذنة بأن المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير مثل نفقة الدين. وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل إلخ، أي زرعت في أرض نقية وتراب طيب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازا لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس والمشبه به هيأة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبة لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع، وفي المثل "رب ساع لقاعد وزارع غير حاصد" ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل
(2/513)

وحدة، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيب الله به على الحسنات الصغيرة، أي ما يقع ثوابا على أقل الحسنات كمن هم بحسنة فلم يعملها، فإنه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف.
قال الواحدي في أسباب النزول وغيره:إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة التبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله. وكان الجيش يومئذ بحاجة إلى الجهاز - وهو جيش العسرة - فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال عثمان بن عفان: "علي جهاز من لا جهاز له", فجهز الجيش بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وقيل جاء بألف دينار ذهبا فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أن المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، لأنها تترتب على أحوال المتصدق وأحوال المتصدق عليه وأوقات ذلك وأماكنه. وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يخف بالصدقة والإنفاق، تأثير في تضعبف الأجر، والله واسع عليم.
وأعاد قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ} إظهار للإهتمام بهذه الصلة. وقوله: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} جاء في عطفه بشم مع أن الظاهر أن يعطف بالواو، قال في "الكشاف": "لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس رتبة الصدقة، لأن العطاع قد يصدر عن كرم النفس وحب المحمدة فاللنفوس حظ فيه مع حظ المعطى، بخلاف ترك المن والأذى فلا حظ فيه لنفس المعطي، فإن الأكثر يميلون إلى التبجح والتطاول على المعطى، فالمهلة في "ثم" هنا مجازية، إذ شبه حصول الشيء المهم - في عزة حصوله - بحصول الشيء المتأخر زمنه، وكأن الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأن المراد حصول الإنفاق وترك المن معا.
والمن أصله الإنعام والفضل، يقال من عليه منا، ثم أطلق على عد الإنعام على المنعم عليه، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] وهو إذ ذكر بعد الصدقة والعطاء تعين للمعنى الثاني.
وإنما يكون المن في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق، وبالتطاول على المجاهدين الذين يجهزهم أو يحملهم، وليس من المن التمدح بمواقف
(2/514)

المجاهد في الجهاد أو بموافق قومه، فقد قال الحريش بن هلال القريعي يذكر خيله في غزوة فتح مكة ويوم حنين:
شهدن مع النبي مسومات ... حنينا وهي دامية الحوامي
ووقعة خالد شهدت وحكت ... سنابكها على بلد الحرام
وقال عباس بن مرداس يتمدح بمواقع قومه في غزوة حنين:
حتى إذا قال النبي محمد ... أبني سليم قد وفيتم فأرجعوا
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
والأذى هو أن يؤذي المنفق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مرادا به نصر الدين ولا حظ للنفس فيه، فذالك هو أعلى درجات الإنفاق، وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها.
[264,263] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
تخلص من غرض التنويع بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على محاويج من الناس، وهو الصدقات. ولم يتقدم ذكر للصدقة إلا أنها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا} [البقرة:262]الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين، فإن المن والأذى في الصدقة أكثر حصولا لكون الصدقة متعلقة بأشخاص معينين، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفق.
فالمن على المتصدق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفا.
(2/515)

ومن فقرات الزمخشري في" الكلم النوابغ": "طعم الآلاء أحلى من المن. وهو أمرّ من الآلاء عند المن" الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شجر مر الورق، والمن الأول شيء شبه العسل يقع كالندى على بعض شجر بادية سينا وهو الذي في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57] والمن الثاني تذكير المنعم عليه بالنعمة.
والأذى الإساءة والضر القليل للمنعم عليه قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111] والمراد به الأذى الصريح من المنعم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنه أعطاه، أو أن يتكبر عليه لأجل العطاء، بله تعييره بالفقر، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن.
وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من "الإحياء" إلى أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم تتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. ومنبع الأذى أمران: كراهية المعطي إعطاء ماله وشدة ذلك على نفسه ورؤيته أنه خير من الفقير، وكلاهما منشؤه الجهل، فإن كراهية تسليم المال حمق لأن من بذل المال أشرف مما بذله، وظنه أنه خير من الفقير جهل بخطر الغنى، أي أن مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني.
ولما حذر الله المتصدق من أن يؤذي المتصدق عليه علم أن التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصل بفحوى الخطاب لأنه أولى بالنهي.
أوسع الله تعالى هذا المقام بيانا وترغيبا وزجرا بأساليب مختلفة وتفننات بديعة فنبهنا بذلك إلى شدة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البر والمعونة.
وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإن من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاء بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كد لجمع المال وكسبه، ومراعاة الإحسان للذي بطأبه جهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية. ولقد كان مقدار الإصابة والخطأ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعوا إلا وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حظا من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعا عظيما من تشريعهم أو دعوتهم، إلا أنهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصر أو آمل ومدبر، غير أنك لا تجد شريعة سددت السهم لهذا الغرض. وعرفت كيف تفرق بين المستحب فيه والمفترض. ومثل هذه الشريعة المباركة، فإنها قد تصرفت في
(2/516)

نظام الثروة العامة تصرفا عجيبا أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مؤونة حاجته، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفائه به قبل كل أحد.
فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب - بالأمن على ماله - من أن ينتزعه منه منتزعإذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن دماعكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها.
وقد أتبعت إعلان هذه الثقة بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلقة بالمعاملات والتوثيقات، كمشروعية الرهن في السلف والتوثق بالإشهاد كما تصرح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصا واستنباطا.
ثم أشارت إلى أن من مقاصدها ألا تبقى الأموال منتقلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالا أي كي لا يكون المال دولة. والدولة ما يتداوله الناس من المال، أي شرعنا صرفه لمن سميناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه، لينال الفقراء منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مدالا بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المرباع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة.
ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعا منظما فجعلت منه انتزاعا جبريا بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته. فأما الذي في حياته، فهو الصدقات الواجبة، ومنها الزكاة، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجه تشريعها بقوله لمعذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: "إن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" وجعل توصيل ما توزيع من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء، غير مهينين ولا مهددين بالمنع والقساوة. والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا
(2/517)

العطاء بأفضل ما وعد به المحسنون، من تسميته قرضا لله تعالى، ومن توفير ثوابه، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها.
ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنها حق المحاربين، فانتزع منهم ذلك وقال لهم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال:41] فحرضهم على الرضا بذلك، ولا شك أنه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم. وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألف العائلة ولا نفقة الأولاد كذلك لأن الداعي إليها جبلي أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين، وفطر رمضان، والظهار، والإيلاء، وجزاء الصيد. فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته.
وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان. وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر.
وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال، فلم تعط أموالهم إلا لأقرب الناس إليهم، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض، وبحسب الأحوجية إلى المال، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها. والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حق التصرف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألا يكون وارثا، حتى لا يتوصلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره.
وجعلت الشريعو من الانتزاع انتزاعا مندوبا إليه غير واجب، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مرابات وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة.
وجملة {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا، وتنكير {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} للتقليل، أي أقل قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى. والمعروف هو الذي يعرفه الناس، أي لا ينكرونه. فالمراد به القول الحسن وهو ضد الأذى.
(2/518)

والمغفرة هنا يراد بها التجاوز عن الإساءة، أي تجاوز المتصدق عن الملح أو الجافي في سؤاله إلحاحه أو جفاءه مثل الذي يسأل فيقول : أعطني حق الله الذي عندك أو نحو ذلك ويراد بها أيضا تجاوز الله تعالى عن الذنوب بسبب تلك الصدقة إذا كان معها قول معروف، وفي هذا تعريض بان الاذى يوشك أن يبطل ثواب الصدقة.
وقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلق بهما المؤمنون وهما: الغني الراجع إلى الترفع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شخ نفس المعطي، والحلم الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العفاة.
والإبطال جعل الشيء باطلا، أي زائلا غير نافع لما أريد منه. فمعنى بطلان العمل عدم ترتب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجبا أم كن متطوعا به، فإن كان العمل واجبا فبطلانه عدم إجزائه بحيث لا تبرأذمة المكلف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختل ركن أو شرط من العمل. وإن كان العمل متطوعا به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعا بين أدلة الشريعة.
وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا، أي لا تكونوا في اتباع صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية.
فالموصول من قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} مراد به جنس وليس مراد به جنس وليس مراد به معينا ولا واحدا، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي، جمعا بين الأدلة الشرعية.
والرئاء -بهمزتين - فعلا من رأى، وهو أن يكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة، وأولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة، ويقال رياء -بياء بعد راء - على إبدال همزة ياء بعد الكسرة.
والمعنى تشبيه بعض المتصدقين المسلمين الذين يتصدقون طلبا للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمن والأذى، بالمنفقين الكافرين الذين يتفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلا الرئاء والمدحة - إذ هم لا يتطلبون أجر الآخرة -
ووجه الشبه عدم الانتفاع مما أعطوا بأزيد من شفاء ما في صدورهم من حب التطاول على الضعفاء وشفاء خلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة.
(2/519)

ومثل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبه به- تمثيلا يسري إلى الذين يتبعون صدقاتهم بالمن والأذى بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} إلخ - وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس، لأنه لما كان تمثيلا لحال المشبه به كان لا محالة تمثيلا لحال المشبه، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات.
مثل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه، يعني يخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر، فتقدير الكلام عليه تراب صالح للزرع فحذفت صفة التراب إيجازا اعتمادا على أن التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه وابل هو التراب الذي يبذرون فيه، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئا وبقي مكانه صلدا أملس فخاب أمل زارعه.
وهذا ذاحسن و أدق من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان اصابه وابل فجرفه، وأن وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ابراهيم:18] فإن مورد تلك الآية مقام آخر.
ولك1 أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف المضاف بين الكاف وبين اسم الموصول، والتقدير إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس.
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق ماله في سبيل الله بحبة أغلت سبعمائة حبة.
فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس. ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع ثم لا تلبث الا تأتي لآملها بما أمله فخاب أمله. ذلك أن المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدق فيتبع صدقته بالمن والأذى اندفاعا مع خواطر خبيثة..
وقوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أوقع موقعا بديعا من نظم الكلام تنهال به معان كثيرة فهو بموقعه كان صالحا لأن يكون حالا من الذي ينفق ماله رئاء الناس
ـــــــ
1 هذا مقابل قولنا في الصفحة السابقة " هو حال من ضمير تبطلوا"
(2/520)

فيكون مندلرجا في حالة المشبهة، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة، وصالحا لأن يكون حالا من مثل صفوان باعتبار أنه مثل على نحو من جوز في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعيا للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفردا، وصالح لأن يجعل استينافا بيانيا لأن الكلام الذي قبلهيثير سال سائل عن مغبة أمر المشبه، وصالحا لأن يجعل تذييلا وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] إلى آخر الكلام.
وصالحا لأن يجعل حالا من صفوانن أي لا يقدرون على شيء مما كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنه ضمير مجرور بما جر به اسم الموصول. ومعنى {لا يَقْدِرُونَ} لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء.
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء مما كسبوا موضعه، فهم يبذلون مالهم لغير فائدة تعود عليهم في آجالهم، بدليل قوله: {اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
والمعنى فتركه صلدا لا يحصدون منه زرعا كما في قوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف:42].
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإن من أحوالهم المن على من ينفقون وأذاه.
[265] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس، لزيادة بيان ما بين مرتبتين من البون وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفننا في التمثيل. فإنه قد مثله فيما سلف بحبة أنبتت سبع سنابل، ومثله فيما سبق بتمثيل غير كثير التركيب لتحصل السرعة بتخيل مضاعفة الثواب، فلما مثل حال المنفق رئاء بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيل، فإن الأمثال تبهج السامع كلما كانت أكثر تركيبا وضمنت الهيأة المشبه بها أحوالا حسنة
(2/521)

تكسبها حسنا ليسري ذلك التحسين إلى المشبه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه.
وانتصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً} على الحال بتأويل المصدر بالوصف، أي مبتغين مرضاة الله ومثبتين من أنفسهم. ولا يحسن نصبهما على المفعول له، أما قوله "ابتغاء" فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجلهبإضمارها، لأن يؤول إلى معنى لأجل طلبهممرضاة الله وأما قوله "وتثبيتا" فلأن حكمة حكم ما عطف هو عليه.
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكك والتردد، أي أنهم يمنعون أنفسهم من التردد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتركون مجالا لخواطر الشخ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردد ولم ينقص، فإن إراضة النفس على فعل ما يشق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدنا.
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأن المال ليس أمرا هينا على النفس، وتكون "من" على هذا الوجه للتبعيض، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال، أي تثبيتا لبعض أحوال النفس.
وموقع "من" هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلق الفعل، بحيث لا يطلب تسلط الفعل على جميع ذات المفعول بل يكتفى ببعض المفعول، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله،وظاهر كلا "الكشاف" يقتضي أنه جعل التبعيض فيها حقيقيا.
ويجوز أن يكون تثبيتا تمثيلا للتصديق أي تصديقا لوعد الله وإخلاصا في الدين ليخالف حال المنافقين، فإن امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلا عن تصديق للآمر بها، أي يدلون على تثبيت من أنفسهم.
و"من" على هذا الوجه ابتدائية، أي تصديقا صادرا من أنفسهم.
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر، وهو ما تقررفي الحكمة الخلقية أن تكرر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها، وبلا كلفة ولا ضجر. فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر والذي يأتي تلك المأمورات يثبت نفسه بأخلاق
(2/522)

الإيمان، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحريضا على تكرير الإنفاق
ومثل هذا الإنفاق بجنة بربوة إلخ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة، فهيأة المشبهة هي النفقة التي حف بها طلب رضى الله والتصديق بوعده فضوعفت أضعافا كثيرة أو دونها في الكثرة، والهيأة المشبهة بها هي هيأة الجنة الطيبة المكان التي جاءها التحتان فزكا ثمرها وتزايدت فأكملت الثمرة، أو أصابها طل فكان دون ذلك.
والجنة مكان من الأرض ذو شجر كثيربحيث يجن أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتق من جن إذا ستر، وأكثر ما تطلق الجنة في كلامهم عل ذات الشجر المثمر المختلف الأصناف، فأما ما كان مغروسا نخيلا بحتا فإنما يسمى حائطا. والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلدهم بعد التمر فقد كان الغالب على بلاد اليمن والطائف. ومن ثمارهم الرمان،فإن كان النخل معها قيل لها جنة أيضا كما في الآية التي بعد هذه. ومما يدل على أن الجنة لا يراد بها حائط النخل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} [الأنعام:141] فعطف النخل على جنات، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة.
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبة ثم بجنة جناس مصحف.
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجبيل. وقرأجمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وتخصيص الجنة بأنها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول: {ضِعْفَيْنِ} والثانية تحسين المشبه به الراجع إلى تحسين المشبه في تخيل السامع.
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضا، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعنق وفلك وحمق، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ:16] وقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [ابراهيم:25] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب "أكلها" بسكون الكاف، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف.
(2/523)

وقوله: {ضِعْفَيْنِ} التثنية فيه لمجرد التكرير - مثل لبيك - أي أتت أكلها مضاعفا على تفاوتها.
قوله: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فأتت أ:لها دون الضعفين. والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم، وهو مع ذلك - متفاوت على مقدار تفاوت الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها.
[266] {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
استئناف بياني أثاره ضرب المثال العجيب للمنفق في سبيل الله بمثل حبة أنبتت سبع سنابل ومثل جنة بربوة إلى آخر ما وصف من المثلين. ولما أبع بما يفيد أن ذلك إنما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، ثم أتبع بالنهي عن أن يتبعوا صدقاتهم بالمن والأذى، استشرفت نفس السامع لتلقي مثل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضرب المثل لمن كانوا بضد حالهم في حالة محمودة.
ضرب الله هذا مثلا لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرثاء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:265] الآية وقد وصف الجنة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنات وما يرجى منه توفر ريعها، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنته، بأنه ذوعيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء - أي صغار - إذ الضعيف في "لسان العرب" هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضا، قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة:282] وقال أبو خالد العتابي:
لقد زاد الحياة إلي حبا ... بناتي إنهن من الضعاف
وقد أصابه الكبر ولا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة، فهذه أشد الأحوال الحرص كقول الأعشى:
كجابية الشيخ العراق تفهق
(2/524)

فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقته في ترقب لثوابها.
فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات، فيها نار أي شدة حرارة، وهي المسماة بريح السموم، فإطلاق لفظ مار على شدة الحر تشبيه بليغ فأحرقت الجنة أي - أشجارها - أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة.
والاستفهام في قوله: {أيود} استفهام إنكار وتحذير كما في قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] والهيأة المشبهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمن والأذى.
روى البخاري أن عمر بن الخطاب سأل يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية فقال بعضهم: "الله أعلم"، فغضب عمر وقال: "قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: "في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين"، فقال عمر: "يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك"، قال ابن عباس: "ضربت مثلا لعمل" ، قال عمر: "أي عمل؟" ، قال ابن عباس: "لعمل" ، قال: "صدقت لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله".
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} تذييل، أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم رجاء تفكركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة. والتشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} نحو ما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]
[267] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
إفضاء إلى المقصود وهو الأمر بالصدقات بعد أن قدم بين يديه مواعظ وترغيب وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاءوا بما يكسبه قبولا عند السامعين، وربما قدموا ما يكسب القبول قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل' ونكتة ذلك أنه قد شاع بين الناس
(2/525)

الترغيب في الصدقة وتكرر ذلك في نزول القرآن فصار غرضا دينيا مشهورا، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان. ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سفيان الغامدي - أحد قواد أهل الشام - بلد الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي - وقتلوا عاملها حسان بن حسان البكري: "أما بعد فإن من ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء وديث بالصغار' وضرب على قلبه، وسيم الخسف، ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنباع"إلخ وانظر كلمة "الجهاد" في هذه الخطبة فلعل أصلها القتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتا هؤلاء فحرفها قاصد أو غافل ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه.
والأمر يجوز أ، يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة، أو للندب وهي في صدقة التطوع، أو هو للقدر المشترك في الطلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوع، والأدلة الأخرى تبين حكم الكل.والقيد بالطيبات يناسب تعميم النفقات.
والمراد بالطيبات خيار الأموال، فيطلق الطيب على الأحسن في صنفه. والكسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد. ويطلق الطيب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غش، وهو الطيب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - تلقاها الرحمان بيمينه" الحديث, وفي الحديث الآخر: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا". ولم يذكر الطيبات مع قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه، ويظهر أن ذلك لم يقيد بالطيبات لأن قوله: {أَخْرَجْنَا لَكُمْ} أشعر بأنه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك لأن الأموال الخبيثة تحصل غالبا من ظلم الناس أو التحيل عليهم وغشهم وذلك لا يتأتى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالبا.
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار، فمنه ما يخرج بنفسه، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية. وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في {مَا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ النصاب، وفيه ربع العشر. وهو من الأموال المفروضة، وليس بزكاة عند أبي حنيفة' ولذلك قال فيه الخمس. وبعضهم عد الركاز داخلا فيما
(2/526)

أخرج من الأرض ولكنه يخمس، وألحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية. ولعل المراد بما كسبتم الأموال المزكاة من العين والماشية، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكاة.
وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أصل تيمموا تتيمموا، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتيمم بمعنى قصد وعمد.
والخبيث الشديد سوء في صنفه ولذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر. قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] وهو الضد الأقصى للطيب فلا يطلق على الرديء إلا على وجه المبالغة، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ.
وجملة {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} حال، والجار والمجرور معمولان للحال قدما عليه للدلالة على الاختصاص، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلا تنفقوا إلا منه، لأن محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله. أما إخراجه من الجيد ومن الرديء فليس بمنهي لاسيما في الزكاة الواجبة لأنه يخرج عن كل ما عنده من نوعه. وفي حديث "الموطأ" في البيوع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملا على صدقات خيبرفأتاه بتمر جنيب فقال له: "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا، ولكني أبيع الصاعين من الجمع بصاع من جنيب1 فقال له: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" فدل على أن الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه، ولكن المنهي عنه أن يخص الصدقة بالأصناف الرديئة. وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذر التنويع غالبا إلا إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا.
وقرأ الجمهور {تَيَمَّمُوا} بتاء واحدة خفيفة وصلا وابتداء، أصله تتيمموا، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام.
وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلا لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعا بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه. وكأن كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقررة في نفوسهم، ولذلك وقع القياس عليها.
ـــــــ
1 الجمع صنف من التمر رديء والجنيب صنف طيب.
(2/527)

ويجوز أن يكون الكلام مستعملا في النهي عن أخذ المال الخبيث، فيكون الكلام منصرفا إلى غرض ثان وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه، وعلى كلا الوجهين هو مقتض تحريم اللأخذ المال المعلومة على من هو بيده ولا يحله انتقاله إلى غيره.
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازا على لازم ذلك، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأن من لوازم الاغماض راحة النائم قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا
أراد فاهنئي. ويطلق تارة علا لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الترماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللض ... يم رجال يرضون بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا: أغمض عينه على قذى، وذلك لأن إغماض الجفن مع وجود القذى في العين. لقصد الراحة من تحرك القذى، قال عبد العزيز بن زرارة الكلائي1:
وأغمضت جفون على قذاها ... ولم أسمع إلى قا وقيل
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} على الوجه الأول من جعل الكلام إخبارا، هو تقييد للنفي. وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أما لا تأخذوه إلا إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} تذييل، أي شاكر لمن تصدق صدقة طيبة. وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] أو نزل المخاطبون الذين نهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله
ـــــــ
1 الكلائي نسبة إلى الكلاء بوزن جبار محلة بالبصرة قرب الشاطي. وهذه الأبيات قالها بعد أن مكث عاما بباب معاوية لم يؤذن له ثم أذن له وأدناه وأولاه مصر، وقبله:
دخلت على معاوية ابن حرب ... ولكن بعد يأس من دخول
وما نلت الدخول عليه حتى ... حللت محلة الرجل الذليل
(2/528)

غني فأعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنه يحمد من يعطي لوجهه من طيب الكسب.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه، ولله الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلا خير ما يعطيه أحد للغنى عن المال.
والحميد من أمثلة المبالغة، أي شديد الحمد، لأنه يثني على فاعل الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنه محمود، فيكون حميد بمعنى مفعول، أي فتخلقوا بذلك لأن صفات الله تعالى كمالات، فكونوا أغنياء القلوب عن الشخ محمودين على صدقاتكم، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشح ولا تشكرون عليها.
[268] {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}
استئناف عن قوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] لأن الشيطان يصد الناس عن إعطاء خيار أموالهم، ويغريهم بالشح أو بإعطاء الرديء والخبيث، ويخوفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم.
وقدم اسم الشيطان مسندا إليه لأن تقديمه مؤذن بذم الحكم، كما يقال في مثال علم المعاني "السفاح في دار صديقك"، ولأن في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوي الحكم وتحقيقه.
ومعنى {يَعِدُكُمُ} يسول لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلقوا بالأخلاق الشيطانية. وسمي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدا مجازا لأن الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبر، ولذلك يقال:أنجز فلان وعده أي أخلف وعده، ولا يقال أنجز خبره، ويقولون صدق خبره وصدق وعده، فالوعد أخص من الخبر، وبذلك يؤذن كلام أئمة اللغة. فشبه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق، وحسن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً} فإنه وعد حقيقي.
(2/529)

ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام "القاموس" - تبعا لفصيح ثعلب - ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد، وإن كان خاصا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس، ففي قوله: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} مجازان.
والفقر شدة الحاجة إلى لوازم الحياة لعلة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأن الظهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر، ويقال فقر وفقر وفقر - بفتح فسكون، وبفتحتين، وبضم فسكون، وبضمتين -، ويقال رجل فقير، ويقال رجل فقر وصفا بالمصدر.
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفا أو شرعا. مشتق من الفحش - بضم الفاء وسكون الحاء - تجاوز الحد. وخصه الاستعمال بالتجاوز في القبيح، أي يأمركم بفعل قبيح. وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة، وليس المراد بالفحشاء البخل لأن لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمى فاحشا. وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأن الأمر في الحقيقة من أقسشام الكلام. والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس.
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
عطف على جملة {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعوا إليه أوامر الله تعالى، والوعد فيه حقيقة لا محالة. والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ} على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}
ومعنى "واسع" أنه واسع الفضل ، والوصف بالواسع مشتق من وسع المتعدي - إذا عم بالعطاء ونحوه - قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] وتقول العرب: "لا يسعني أن أفعل كذا"، أي لا أجد فيه سعة، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وسع الناس بشره وخلقه فالمعنى هنا أنه وسع الناس والعالمين بعطائه.
[269] {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
(2/530)

هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآداب وتلقين الأخلاق الكريمة، مما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل.
فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به، وتنبيههم إلى أنهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء. فالمعنى: هذا من الحممة التي آتاكم الله، فهو يؤتي الحكمة من يشاء، وهذا كقوله: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]
قال الفخر: "نبه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والحس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة، ولا شك أن حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ، وحكم الحس والشهوة يوقع في البلاء والمحنة. فتعقيب قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً} [البقرة:268] بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} إشارة إلى أن ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة، وأن الحكمة كلها من عطاء الله تعالى، وأن الله تعالى يعطيها من يشاء.
والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، فلذلك قيل:نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين. وهي مشتقة من الحكم-وهو المنع - لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حكمة.
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدا إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلا لفهم الحقاءق منقادا إلى الحق إذا لاح له، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسر له ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العتاة فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير. وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.
والحكمة قسمت أقساما مختلفة الموضوع اختلافا باختلاف العصور والأقاليم. ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين، وعند أهل الصين البوذيين، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت، وعند القبط في حكمة الكهنة. ثم انتقلت حكمة
(2/531)

هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهذبت وصححت وفرعت وقسمت عندهم إلى قسمين: حكمة عملية، وحكمة نظرية.
فأما الحكمة العملية فهي المتعلقة بما يصدر من أعمال الناس، وهي تنحصر في تهذيب النفس، وتهذيب العائلة، وتهذيب الأمة.
والأول علم الأخلاق، وهو التخلق بصفات العلو الإلاهي بحسب الطاقة البشرية فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.
والثاني علم تدبير المنزل.
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية.
وأما الحكمة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلم وليست من الأعمال، وإنما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال، وهي ثلاثة علوم:
علم يلقب بالأسفل وهو الطبيعي، وعلم يلقب بالأوسط وهو الرياضي، وعلم يلقب بالأعلى وهو الإلهي
فالطبيعي يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواص والكون والفساد، ويندرج تحته حوادث الجو وطبقات الأرض والنبات والحيوان والإنسان، ويندرج فيه الطب والكيمياء والنجوم.
والرياضي الحساب والهندسة والهيأة والموسيقي، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة "الماكينية" وجر الأثقال.
وأما الإلهي فهو خمسة أقسام: معني الموجودات، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة، وإثبات واجب الوجود وصفاته، وإثبات الأرواح والمجردات وإثبات الوحي والرسالة، وقد بين ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.
فأما المتأخرون - من حكماء الغرب - فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمى عند اليونان بالإلهيات.
والمهم من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول:
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمى عند اليونان العلم الإلهي أو ما وراء الطبيعة.
(2/532)

الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان، وهو علم الأخلاق,
الثالث تهذيب العائلة، وهو المسمى عند اليونان علم تدبير المنزل.
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية. ودعوة الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من هذه الحكمة.
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مرادا بها ما فيه صلاح النفوس، من النبوءة والهدى والإرشاد. وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لجماع الآداب. وذكر الله تعالى - في كتابه - حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] الأيات. وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداء الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال، كما فعل زهير في الأبيات التي أولها "رأيت المنايا خبط عشواء" والتي افتتحها بمن ومن في معلقته. وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمثاله، فكان العرب ينقلون منها أقوالا. وفي "صحيح البخاري" في باب الحياء من كتاب الأدب أن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، فقال بشير بن كعب العدوي: مكتوب في الحكمة إن من الحياء وقارا وإن من الحياء سكينة، فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحيفتك"
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته، وفي الغرض الذي تتعلق به حكمته.
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلاهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرعة على أصول الهدى الأول. وقد مهد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيلات والضلالات. بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان فهذبوا وأبدعوا، وميزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاما عظيمة وأبقوا كثيرا. وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية. والأولى يونانية والثانية لإيطالليا اليونانية. وعنهما أخذ
(2/533)

أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذب طريقته ووسع العلوم، وسميت أتباعه بالمشائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معولة على أصوله إلى يومنا هذا
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة والخير الكثير منجر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغل في فهمها واستحضار مهمها، لأننا إذا تتبعنا ما يحل بالناس من المصائب نجد معظمها من جراء الجهالة والضلالة وأفن الرأي. وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجرا من المعارف والعلم بالحقائق، ولو أننا علمنا الحقائق كلها لاجتنبنا كل ما نراه موقعا في البؤس والشقاء.
وقرأ الجمهور {ومن يؤت} بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب، على أن ضمير يؤت نائب فاعل عائد على من الموصولة وهو رابط الصلة بالموصول. وقرأ يعقوب ومن يؤتِ الحكمة - بكسر المثناة الفوقية - بصيغة البناء للفاعل. فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائدا إلى الله تعالى، وحينئذ فالعائد ضمير نصب محذوف والتقدير: ومن يؤته الله.
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تذييل للتنبيه على أن من يشاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللب. وأن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته اللب في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه.
[270] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}
تذييل للكلام السابق المسوق للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولة والتحذير من المثبطات عنه ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها، وأدمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديرا بأن يكون تذييلا.
(2/534)

والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله علي صدقة، وعلى تجهيز غاز أو نحو ذلك،ويكون مطلقا ومعلقا على شيء. وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية، فقد نذر عبد المطلب أنه إن رزق عشرة أولاد ليذبحن عاشرهم قربانا للكعبة، وكان ابنه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين، وأكرم بها مزية، ونذرت نتيلة زوج عبد المطلب - لما افتقدت ابنها العباس وهو صغير - أنها إن وجدته لتكسون الكعبة الديباج ففعلت. وهي أول من كسى الكعبة الديباج. وفي حديث البخاري أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتك ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك".
وفي الأمم السالفة كان النذر، وقد حكى الله عن امرأة عمران {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] والآية دلت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقا أو معلقا، لأن الآية أطلقت، ولأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} مراد به الوعد بالثواب. وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر ولا يرد شيئا ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قدر له، ولكنه يستخرج به من البخيل". ومساقة الترغيب في النذر غير المعلق لا إبطال فائدة النذر. وقد مدح الله عباده فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الانسان:7] وفي "الموطأ" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
ومن في قوله: {مِنْ نَفَقَةٍ} و {مِنْ نَذْرٍ} بيان لما أنفقتم ونذرتم، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائدا على معنى المبين، وكان معنى المبين هنا عين معنى المبين، تعين أن يكون المقصود منه العين المنفق والمنذور بما في تنكير مجرور من من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكد بذلك العموم ما أفادته ما الشرطية من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت، قال التفتازاني: "مثل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص"
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} كناية عن الجزاء عليه لأن علم الله بالكائنات لا يشك فيه السامعون، فأريد لازم معناه، وإنما كان لازما له لأن القادر لا يصده عن الجزاء إلا عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
(2/535)

هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كني عنه بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون، لأنهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع، وإن منعوا صدقة التطوع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة.
والأنصار جمع نصير، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر، وفي الدنيا لأنهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإن الله يعدمهم النصير في المضايق، ويقسي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهية من الناس.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]
استئناف بياني ناشء عن قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] إذ أشعر تعميم "من نفقة" بحال الصدقات الخفية فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يعد ريائا وقد سمع قبل ذلك قوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] ولأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} قد كان قولا فصلا في اعتبار نيات المتصدقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم. فهذا الاستئناف يدفع توهما من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بدا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء.
والتعريف في قوله: {الصَّدَقَاتِ} تعريف الجنس، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقات.
وجاء الشرط بإن في الصدقتين لأنها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السر قد وفى به صريح قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
وقوله: {فَنِعِمَّا} أصله فنعم ما، فأدعم المثلان وكسرت عين نعم لأجل التقاء الساكنين، وما في مثله نكرة تامة أي متوغلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصصها، فتمامها من حيث عدم اتباعها بوصف لا من حيث أنها واضحة المعنى، ولذلك تفسر بشيء. ولما كانت كذلك تعين أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إن المتكلم - إذا ميز - لا يميز إلا
(2/536)

بمثل المميز
وقوله: {هي} مخصوص بالمدح، أي الصدقات، وقد علم السامع أنها الصدقات المبدأة، بقرينة فعل الشرط، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤها.
وقرأ ورش عن نافع وان كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا - بكسر العين وتشديد الميم من نعم مع ميم ما - وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون. وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم، ورويت هذه أيضا عن قالون وأبيعمرو وأبي بكر.
وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تفضيل لصدقة السر لأن فيها إبقاء على ماء وجه الفقير، حيث لم يطلع عليه غير المعطي. وفي الحديث الصحيح، عد من السبعة الذين يظلهم الله بظله "..... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" "يعني من شدة القرب بين اليمين والشمال، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين".
وقد فضل الله في هذه الآية صدقة السر على صدقة العلانية على الإطلاق، فإن حملت الصدقات على العموم - كما هو الظاهر - إجراءا للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاحقة - كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل، وهو قول جمهور العلماء، وعن إلكيا الطبري أن هذا أحد قول الشافعي. وعن المهدوي: كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماء إظهار صدقة الفرض، قال ابن عطية: وهذا مخالف للآثار أن إخفاء الصدقة أفضل. فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصا بصدقة التطوع، ومخصص العموم الإجماع، وحكى ابن العربي الإجماع عليه. وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخص من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها، وكان تفضيل الإخفاء مختصا بالصدقات المندوبة. وقال ابن عباس والحسن: إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي.
وقوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} توقف المفسرون في حكمة ذكره، مع العلم بأن الصدقة لا تكون إلا للفقراء، وأن الصدقة المبدأة أيضا تعطي للفقراء.
(2/537)

فقال العصام: "كأن نكتة ذكره هنا أن الإبداء لا ينفك عن إيتاء الفقراء، لأن الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله، بخلاف الإخفاء فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة" "أي لأن الحريصين - من غير الفقراء - يستحيون أن يتعرضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدهم شيء عن التعرض للصدقات الخفية".
وقال الخفاجي:"لم يذكر الفقراء مع المبدأة لأنه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراء وغيرهم، وأما الصدقة المخفاة فهي صدقة التطوع ومصارفها الفقراء فقط". وهو ضعيف لوجهين:أحدهما أنه لا وجه لقصر الصدقة المبدأة على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أن تفضيل الإخفاء هل يعم الفريضة أولا، الثاني أن الصدقة المتطوع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش.
وقال الشيخ ابن عاشور جدي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من "صحيح مسلم": "عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية - مع العلم بأن الصدقة للفقراء - يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه"، أي فهو إيماء إلى العلة وأنها الإبقاء على ماء وجه الفقير، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء.
وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة، وبجزم الراء عطفا على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم، فيكون التكفير معلقا على الإخفاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضا وبرفع الراء على أنه وعد على إعطاء الصدقات ظهرة أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية - على أنه ضميره عائد إلى الله - وبالرفع.
[272] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
استئناف معترض به بين قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة:271] وبين قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} ومناسبته هنا أن الآيلت المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس: منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم
(2/538)

الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، ومنهم الذين يتيممون الخبيث منه ينفقون، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء. وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، فعقب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ. فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهدي بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النبي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى أنه وأشدهم المشركون والمنافقون، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين، روي أنه كان لأسماء ابنة أبي بكر أم كافرة وجد كافر فأرادت أسماء - عام عمرة القضية - أن تواسيهما بمال، وأنه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفار، إلجاء لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآيات، أي هدى الكفار إلى الإسلام، أي فرخص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة.
فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب. فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول أيات الأمر بالإنفاق والصدقة، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية.
والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء، إذ لا هادي لمن يضلل الله، وليس مثل هذا بميسر للهدى.
والخطاب في {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ظاهره أنه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول، أي ليس عليك أيها المتردد في إعطاء قريبك.
وعلى في قوله: {عليك} للاستيلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب.
والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنه أدى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وتقديم الظرف وهو {عليك} على المسند إليه وهو {هداهم} إذا أجرى على ما تقرر في علم المعاني من أن تقديم المسند الذي حقه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بينا لا غبار عليه نحو {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]
(2/539)

وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] فهو إذا وقع في سياق النفي غير بين لأنه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار، لأن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيدة نسبتها بقيد الأنحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها. فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيدة، أي نفي ذلك الانحصار، لأن شأن النفي إذا توجه إلى كلام مقيد أن ينصب على ذلك القيد. لكن أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سووا فيها بين الإثبات - كما ذكرنا - وبين النفي نحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات:47] فقد مثل به في "الكشاف" عند قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فقال: "قصد تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا" وقال السيد في شرحه هنالك "عد قصرا للموصوف على الصفة أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعداه إلى عدم الحصول فيما يقابله، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور". وقد أحلت عند قوله تعالى: {لاريب فيه} على هذه الآية هنا، فبنا أن نبين طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أن القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد قصر الغول على الكون في خمور الجنة. وإلى هذا أشار السيد في شرح "الكشاف" عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إذ قال: "وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه" وعلى هذا بنى صاحب "الكشاف" فجعل وجه أن لم يقدم الظرف في قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ}كما قدم الظرف في قوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} لأنه لو أول لقصد أن كتابا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد.
فإذا تقرر هذا فقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إذا أجري على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني. فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري:
ما فيه من عيب سوى أنه ... يوم الندى قسمته ضيزى
بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك
(2/540)

مفوضا إلى الله تعالى فمن قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أن إيجاد الإيمان في الكفار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنه على الله، فيلزم من ذلك أنه على الله، أي مفوض إليه.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصب الاستدراك هو الصلة أعني {مَنْ يَشَاءُ}، فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه. والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء الله أن يهديهم هداهم.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
عطف على جملة: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة:271] وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلها، وأنها لما كانت منفعتها لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} جملة حالية، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر، أي إنما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها. ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي، أيلا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. وهذ الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد، ولذلك خولف فيه أسلوب ما خف به من جملة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} - وجملة - {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} عطف على التي قبلها لبيان أن جزاء النفقات بمقدارها وأن من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه. وكررر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله.
وتقديم {وَأَنْتُمْ} على الخبر الفعلي لمجرد التقوى وزيادة التنبيه على أنهم
(2/541)

لا يظلمون، وإنما يظلمون أنفسهم.
وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني فتجري مجرى الأمثال، وتتناقلها الأجيال.
وقد أخذ من الآيات الأخيرة - على أحد التفسيرين - جواز الصدقة على الكفار، والمراد بالكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذنين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمة والجيران. واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين، وحكمة ذلك أن الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان،ففي الحديث الصحيح: قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا. فقال: "في كل ذي كبد رطبة أجر"
واتفق الفقهاء على أن الصدقة المفروضة - أعني الزكاة - لا تعطى للكفار، وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة، ففيه غنى للمسلمين، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة. واختلفوا في صدقة الفطر، فالجمهور ألحقوه بالصدقات المفروضة، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوع فأجاز إعطاؤها إلى الكفار، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر، كان أشبه، فإن العيد عيد المسلمين، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام، فكان المنظور فيها حال المتصدق لا حال المتصدق عليه وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.
[273] {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
{لِلْفُقَرَاءِ} متعلق بتنفقون الأخير، وتعلقه به يؤذن بتعلق معناه بنظائره المقدمة، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا.
و {الَّذِينَ أُحْصِرُوا} أي حبسوا وأرصدوا. ويحتمل أن المراد بسبيل الله هنا
(2/542)

الجهاد، فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمني ففي للسببية والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى أنهم أحقاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد، وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية، وإن كان المراد بهم أهل الصفة1، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون الزراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل وقد قيل: لإن أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فسبيل الله هو الجهاد. ومعنى "أحصروا" على هذا الوجه أرصدوا. و"في" باقية على التعليل.
والظاهر من قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} أنهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابته.
وجملة {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} يجوز أن تكون حالا، وأن تكون بيانا لجملة أحصروا.
وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنهم أغنياء، ومن للإبتداء لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان.
والتعفف تكلف العفاف وهو النزاهة عما يليق. وفي "البخاري: باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد: أن الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن
ـــــــ
1 الصفة - بضم الصاد وتشديد الفاء- بهو واسع طويل السمك، وهو موضع بناه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي في المدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين الذين خرجوا من أموالهم بمكة وكانوا أربعمائة في عددهم وكانوا يقلون ويكثرون، منهم أبو ذر جندب الغفاري ومنهم أبو هريرة ومنهم جعيل بن سراقة الضمري ولم أقف على غيرهم. وذكر المرتضى في شرح "القاموس" أنه جمع من أسمائهم اثنين وتسعين، وعن أبي ذر: "كنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي مع رسول الله عشرة أو أقل يوتى رسول الله بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال لنا: "ناموا في المسجد"، كان هذا في صدر أيام الهجرة ثم فتح الله على المسلمين فاستغنوا وخرجوا ودامت الصفة حياة النبي صلى الله عليه وسلم" فقد عد أبو هريرة من أصحابها وهو أسلم عام خيبر.
(2/543)

يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله".
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين، وهما لغتان.
ومعنى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس للرسول لأنه أعلم بحالهم. والمخاطب لتعرفهم هو الذي تصدى لتطلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ}، كأنه قيل: فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيا، وكيف يطلع عليهم فأحيل ذلك على مظنة المتأمل كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]
والسيما العلامة، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم، فأصله وسمى فوزنها عفلى، وهي في الصورة فعلى، يدل لذلك قولهم سمة، فإن أصلها وسمة. ويقولون سيمي بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة الياء بعد الميم وبالمد، ويقولون سوم إذا جعل سمة. وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأن قلب عين الكلمة متأت بخلاف قلب فائها. ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه.
وقوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنهم لا يسألون الناس. وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلا أنه أخر للإهتمام بما سبقه من الحق على توسم احتياجهم بأنهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنه المقصود من سياق الكلام.
فأنت تري كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحث على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلا وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء.
والإلحاف الإلحاح في المسألة. ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين. وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون - وذلك لا يفيد صدور نفي المسألة منهم - مع أن قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} يدل على أنهم لا يسألون أصلا، وقد تأوله الزجاج والزمخشري بأن المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ
(2/544)

القيس:
ألا لآحب لا يهتدى بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء، وقرينة هذا المقصود أنهم وصفوا بأنهم يحسبون أغنياء من التعفف، ونظيره قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] أي لا شفيع أصلا، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة، فأنتج لا شفيع يطاع، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية، وقال التفتازاني: "إنما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي، لأن شأن اللآحب أن يكون له منار، وشأن الشفيع أن يطاع، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك، بل لا يبعد أن يكون ضذ الإلحاف - وهو الرفق والتلطف - أشبه باللازم" "أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه" وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون المعنى أنهم إن سألوا سألوا بتلطف خفيف دون إلحاف،أي إن شأنهم أن يتعففوا، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف، وهو بعيد لأن فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنها كالبيان لها، والأظهر الوجه الأول - الذي جعل في "الكشاف" ثانيا - وأجاب الفخر بأنه تعالى وصفهم بالتعفف فأغنى عن ذكر أنهم لا يسألون، وتعين أن قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} تعريض بالملحفين في السؤال، أي زيادة فائدة في عدم السؤال.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنى به عن أثره كثيرا، فلما كان الإنفاق مرغبا فيه من الله، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين، تعين أن يكون الإخبار بأنه عليم به أنه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به، لأنه قدير عليه. وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنه نفع للمنفق، وصلة بينه وبين ربه، ونوال الجزاء من الله، وأنه ثابت له في علم الله.
[274] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصص الكلام بالإنفاق
(2/545)

للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فاسم الموصول مبتدأ وجملة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر مبتدأ.
وأدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبب استحقاق الأجر على الإنفاق لأن المبتدأ لما كان مشتملا على صلة مقصود منها التعميم، والتعليل،والإيماء إلى علة بناء الخبر على المبتدأ - وهي ينفقون - صح إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط، لأن أصل الفاء الدلالة على التسبب وما ادخلت في جواب الشرط إلا لذلك. والسر الخفاء. والعلانية: الجهر والظهور. وذكر عند ربهم لتعظيم شأن الأجر.
وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة:270] إذ هو تهديد لمعاني الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأن الله أكسبهم محبة الناس إياهم، ولا تحل بهم المصائب المحزنة إلا ما لا يسلم منه أحد مما هو معتاد في إبانه.
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
ورفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي المفرد لأن الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدم في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} [البقرة:254] ومنه ما في حديث أم زرع: "لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة".
[275] {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في سلك هاته الآيات، فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أوتطوعا وهو الصدقة، فأطنب في الحث عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتعظ، عطف الكلام
(2/546)

إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حل الأجل ولم يدفع زاد في الدين، يقولون:إما أن تقضي وإما أن تربي. وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلما طلب النظرة أعطى ربا آخر، وربما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجة الوداع: "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي عباس بن عبد المطلب"
وجملة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علة بناء الخبر وهو قوله: {لا يَقُومُونَ} إلى آخره.
والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص، وأصله تمثيل، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا: أكل مال الناس {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء:10] -{أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} [الصافات:92] ولا يختص بأخذ الباطل ففي القرآن {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4]
والربا: اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلهم خففوه من الرباء - بالمد - فصيروه اسم مصدر، لفعل ربا الشيء يربوا ربوا - بسكون الباء على القياس كما في "الصحاح" وبضم الراء والباء كعلو - ورباء بكسر الراء وبالمد مثل الرماء إذا زاد قال تعالى: {فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] - ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان.وكتب بالألف،وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء1 ثم ثنوه بالياء لأجل الكثرة أيضا - قال الزجاج: "ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيكم الخطأ في الخط حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ} [الروم:39] بفتحة على الواو - {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ اهل الكوفة".
وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفا، فقال
ـــــــ
1 من العرب من جعل الراء المكسورة في الكلمة ذات ألف المنقلبة عن واو تجوز إمالتها سواء تقدمت الراء نحو ربا أم تأخرت نحو دار.
(2/547)

صاحب "الكشاف": كتبت كذلك على لغة من يفخم أي ينحو بالألف منحى الواو والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد، إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأن سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء:32] وقال الفراء: إن العرب تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: ربو - بواو ساكنة - فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع.
والذي عندي أن الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أن أصلها هو الركوع من تحريك الصلوين لا من الاصطلاء. وقال صاحب "الكشاف": وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع. وعندي أن هذا لا معنى للتعليل به، بل إنما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلا يقرأها الناس الربو.
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية، لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلا التوجه إليهم لأن ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كقرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] وهم لا يقولون إنما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأحل ما تفرع عن كفرهم من وضع الربا.
وتقدم ذلك كله إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] وهو خطاب للمشركين لأن السورة مكية ولأن بعد الآية قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظا عليهم، وتعريضا بتخويف المسلمين، ليكره إياهم لأحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال
(2/548)

الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: من الآية275] وقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:278] الآيات، ولعل بعض المسلمين لم ينكف عن تعاطي الربا أو لعل بعضهم فتن بقول الكفار: إنما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق بال المعذرة في أكل الربا وبيان لكيفية تدارك ما سلف منه.
والربا يقع على وجهين: أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المستلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل.
وقوله: {لا يَقُومُونَ} حقيقة القيام النهوض والاستقلال، ويطلق مجازا على تحسن الحال، وعلى القوة، من ذلك قامت السوق، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى: لا يقومون - يوم يقوم الناس لرب العالمين- إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، أي إلا قياما كقيام الذي يتخبطه الشيطان، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أن حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم، قاله ابن عطية، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم، ووفرة مالهم، وقوة تجارتهم، بما يظهر من حال الذي يتخبطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة، مع أنه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وهي على المعنى المجازي تشنيع، أو توعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.
والتخبط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له، أي تحرك تحركا شديدا، ولما كان من لازم هذا التحرك عدم الاتساق، أطلق التخبط على اضطراب الإنسان من غير اتساق. ثم إنهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعديا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعوضا عن أن يقولوا خبطه فتخبط يقولون تخبطه كما قالوا: اضطره إلى كذا فتخبط الشيطان المرء جعله إياه متخبطا، أي متحركا على غير اتساق.
والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات،
(2/549)

ويسقط على الأرض إذا أراد القيام، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلا لما فهمت الهيأة المشبه بها، وقد عرف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير، بعد أن سارت ليلا كاملا:
وتصبح عن غب السري وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أولق1
والمس في الأصل هو اللمس باليد كقولها2: " المس مس الأرنب" وهو إذا أطلق معرفا بدون عهد مس معروف دل عندهم على مس الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون، وإنما أحتيج إلى زيادة قوله من المس ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة. و"من" ابتدائية متعلقة بيتخبطه لا محالة.
وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله:"طلعها كأنه رؤوس الشياطين" وقول امرؤ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
إلا أن هذا أثره مشاهد وعلته متخيلة والآخران وتخيلان لأنهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة.وعندنا أيض مبني على تخييلهم والصرع إنما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرة عند الأطباء المتقدمين وتشنج المجموع العصبي عند المتأخرين، إلا أنه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلها تنشأ في الأصل من توجهات شيطانية، فإن عوالم المجردات - كالأرواح - لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعل لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} الإشارة إلى {كَمَا يَقُومُ } لأن ما مصدرية، والباء سببية.
والمحكي عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة، ظنوا بسوء فهمهم أن تحريم الربا
ـــــــ
1يريد أنها بعد أن تسري الليل تصبح نشيطة لشدة قوتها بحيث لا يقل نشاطها. والغب بكسر الغين بمعنى عقب. وطائف الجن ما يحيط بالإنسان من الصرع والاضطراب قال تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا}. والأولق اسم مس الجن والفعل منه أولق بالبناء للمجهول.
2 في حديث أم زرع من "صحيح البخاري".
(2/550)

اضطراب في حين تحليل البيع، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم، إذ يتعذر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا، فهو استعارة. ويجوز أن يكون {قالوا} مجازا لأن اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل، فأطلق القول وأريد لازمه، وهو الاعتقاد به
وقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} قصر إضافي للرد على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولما صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال إن الظاهر أن يقولوا إنما الربا مثل البيع لأنه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبني عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة، لأنا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسماة في الأصول بقياس العكس1، لأن قياس العكس إنما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة، لا في وقت استنباط المجتهد في خاصة نفسه.
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته براس ماله.
وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممن تشملهم أحكام الأحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأن ما قاله الكفار هو شبهة محضة وأن الله العليم قد حرم هذا وأباح ذاك، وما ذلك إلا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبرها أهل التدبر لأدركوا الفرق بين البيع والربا، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو مما وكله الله تعلى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين مع أن ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة.
ـــــــ
1 هو الاستدلال بحكم الفرع على حكم الأصل لقصد إبطال مذهب المستدل عليه ويقابله قياس الطرد وهو الاستدلال بحكم الأصل على حكم الفرع لإثبات حكم الفرع في نفس الأمر. مثال الأول أن تقول: النبيذ مثل الخمر في الإسكار، فلو كان النبيذ حلالا لكانت الخمر حلالا وهو باطل. ومثال الثاني أن تقول: النبيذ مسكر فهو حرام كالخمر.
(2/551)

وأعلم أن مبنى شبهة القائلين {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أن التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجل، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنه يرجعها له أحد عشر درهما، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد مله لمن يستسلفه، لأن المقرض تصدى لإقراضه وأعد ماله لأجله، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله.
وكشف هاته الشبهة قد تصدى له القفال: "من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إن الزائد عوض الإمهال لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة" ومرجع هذه التفرقة إلى أنها مجرد
اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا، حاصلها أن الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرواج والربح، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنه لم يحصل منفعة أكثر من من مقدار المال الذي أخذه، ولا يقال: إنه يستطيع أن يتجر به فيربح لأن هذه منفعة موهومة غير محققة الحصول، مع أن أخذ الزائد أمر محقق على كل تقدير.
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة قفال، لكنها يرد عليها أن انتفاع المقترض بالمال فيه سد حاجته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة، وأما تصديه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أن مرجعها إلى التعليل بالمظنة مراعاة للفرق بين حلي المقترض والمشتري، فقد كان الإقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنهم كانوا يعدون التداين هما وكربا، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحال التاجر حال التفضل. وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا، لأن المتسلف مظنة الحاجة، ألا تراه ليس بيده مال، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشم مشقة لجلب ما يحتاجه المتفضلون وإعداده
(2/552)

لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيده من المال، فالتجارة معاملة بين غنيين: ألا ترى أن كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه، فالمتسلف مظنة الفقر، والمشتري مظنة الغنى، فلذلك حرم الربا لأنه استغلال لحاجة الفقير وأحل البيع لأنه إعانة لطلب الحاجات. فتبين أن الإقراض من نوع المواساة والمعروف، وأنها مؤكدة التعين على المواسي وجوبا أو ندبا، وأيا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالا ليتجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنة الحاجة فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة:
أولها: أن فيه أخذ مال الغير بغير عوض، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع، وهو فرق غير وجيه.
الثاني: أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب، لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عنه اكتساب المعيشة، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة.
الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيا، وفي المستقرض أن يكون فقيرا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف.
وقد أشرنا فيما مر في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]
هذا وقد تعرضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا، لأنها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه.
و"أل" في كل من البيع والربا لتعريف الجنس، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها: أحدهما يسمى بيعا والآخر يسمى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة، وثانيهما محرم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أن الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده، وأنه حرم الربا بجنسه
(2/553)

كذلك. ولما كان معنى {َأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] أذن فيه كان في قوة قضية موجبة، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو الحمد لله، فبقي محتملا شمول الحل لسائر أفراد البيع ، ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبعت الشريعة أسباب تحريمه، فتعطل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية.
أما معنى قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فهو في حكم المنفي لأن حرم في معنى منع، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة، إذ لا يطرأعليه ما يصيره حلالا.
ثم اختلف علماء الإسلام في أن لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع.
فذهب ابن عباس وابنعمر ومعاوية إلى أنه باق معناه المعروف وهو ربال الجاهلية، أعني الزيادة لأجل التأخير، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة، قال الفخر: "ولعله لا يرى تخصيص القرآن بخبر الأحاد" يعني أنه حمل {أحل الله البيع} على عمومه.
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أن الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أن لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يشبه المجمل، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنه قال: "كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها، وإنكم تزعمون أنا نعلم أبواب الربا، ولأن أكون أعلمه أحب إلي من أن يكون لي مثل مصر وكورها" قال ابن رشد: ولم يرد عمر بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا، وإنما أراد والله أعلم أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها. وقال ابن العربي: بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثا.
والوجه عندي أن ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل لأنه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص، لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} من
(2/554)

المجملات التي لا يجوز التمسك بها، أي بعمومها: عموم البيع وعموم الربا، لأنه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام. والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام، وأصولها ستة أحاديث:
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخدري: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد وازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي في ذلك سواء".
الثاني حديث عبادة بن الصامت: "الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد والتمر بالتمر مدا بمد والملح بالملح مدا بمد، فمن زاد واستزاد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا". رواه أبو داود، فسماه في هذين الحديثين ربا.
الثالث حديث أبي سعيد: أن بلال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له: "من أين هذا"؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لطعم النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا" فسمى التفاضل ربا.
الرابع حديث "الموطأ" و "البخاري" عن ابن سعيد وأبي هريرة: أن سواد بن عزية جاء في خيبر بتمر جنيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا" فقال: "يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا".
الخامس حديث عائشة في "صحيح البخاري": قالت: "لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حرم التجارة في الخمر" فظاهره أن تحريم التجارة في الخمر كان عملا بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معاني الربا المعروف عندهم وإنما هو بيع فاسد.
السادس حديث الدار قطني - ورواه ابن وهب عن مالك - أن العالية بنت أينع وفدت
(2/555)

إلى المدينة من الكوفة، فلقيت عائشة فأخبرتها أنها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهما إلى العطاء، ثم إن زيدا باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: "بئس ما شريت وما اشتريت"، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب"، قالت فقلت لها:"أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي" قالت: " {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية.
فلأجل الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع:
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير.
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت.
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا. وزاد المالكية نوعا رابعا: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر، وإليه مال ابن العربي.
وعندي أن أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأن أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة: "إنما الربا في النسيئة" ليجمع بين الحديثين، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة بن الصامت دليل على ما قلناه، وأن ما راعاه مالك من إبطال ما يفدي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن، وما عداه إغرق في الاحتيات، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في الموطأ" وغيره أن انتفاء التهمة لا يبطل العقد.
ولا متمسك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأن المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية، فكان حالهم مقتضيا لسد الذرائع.
وفي "تفسير القرطبي": كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا إنما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من ذهب، فأمر معاوية رجالا ببيعها في أعطيات الناس، فتنازع الناس في ذلك، فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقام فقال: "سمعت
(2/556)

رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين، من زاد وازداد فقد أربى" فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: "ألا ما بال أقوام يتحدثون عن رسول الله أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه" فقال عبادة بن الصامت: "لنحدثن بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية".
والظاهر أن الآية لم يقصد منها إلا ربا الجاهلية، وأن ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مندرجة في أدلة أخرى.
وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية تفريع على الوعيد في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا}
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، أي من علم هذا الوعيد، وهذا عذر لمن استرسل على معملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران.
والاتهاء مطاوع نهاه إذا صده عما لا يليق، وكأنه مشتق من من النهي - بضم النون - وهو العقل. ومعنى "فله ما سلف"، أي ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض، بقرينة قوله - الآتي - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]
وقوله: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى "من جاءه" وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف، والأظهر أنه راجع إلى من جاءه لأنه المقصود، وأن معنى {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أن أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم، فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وجعل العائد خالدا في النار إما لأن المراد العود إلى قوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق، فإن كثيرا منهم قد شق عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته. وإما لأن المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلتهم، بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} والخلود طول المكث كقول لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها
ومنه: خلد الله ملك فلان.
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما
(2/557)

كما تمسكوا بنظائرها. وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن، إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلة الكتاب والسنة.
[276] {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة، فهو استئناف بياني لتوقع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله. وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أن المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما، فهذا وعد ووعيد دنيويان.
والمحق هو كالمحو: بمعنى إزالة الشيء، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السرار. ومعنى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أنه يتلف ما حصل منه في الدنيا، {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يضاعف ثوابها لأن الصدقة لا تقبل الزيادة إلا بمعنى زيادة ثوابها، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه".. ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك.
وجملة: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} معترضة بين أحكام الربا. ولما كان شأن الاعتراض ألا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام، كان الإخبار بأن الله لا يحب جميع الكافرين مؤذنا بأن الربا من شعار أهل الكفر، وأنهم الذين استباحوه فقالوا إنما البيع مثل الربا، فكان هذا تعريضا بأن المرابي متسم بخلال أهل الشرك.
ومفاد التركيب أن الله لا يحب أحدا من الكافرين الآثمين لأن "كل" من صيغ العموم، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صبرة مجموعة، ولذلك يقولون ÷ي موضوعة للكل الجميعي، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه كل إلا مجازا. فإذا أضيفت "كل" إلى اسم استغرقت جميع أفراده، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي، فإذا دخل النفي على "كل" كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد، لأن النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو، إلا أنه يتكيف بالسلب عوضا عن تكيفه بالإيجاب، فإذا قلت كل الديار ما دخلته، أو لم أدخل كل دار، أو كل دار لم أدخل، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار، كما أن مفاده في حالة
(2/558)

الإثبات ثبوت دخولك كل دار، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
كما قال سيبويه: إنه لو نصب لكان أولى، لأن النصب لا يفسد معنى ولا يخل بميزان. ولا تخرج "كل" عن إفادة العموم إلا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه "كل" صريحا أو تقديرا، كأن يقول أحد: كل الفقهاء يحرم أكل لحوم السباع، فتقول له: ما كل العلماء يحرم لحوم السباع، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض، وكذلك في رد الاعتقادات المخطئة كقول المثل: "ما كل بيضاء شحمة"، فإنه لرد اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة
وقد نظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال "كل" إذا وقعت في حيز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وزعم أن رجز أبي النجم يتغير معناه باختلاف رفع "كل" ونصبه في قوله: "كله لم أصنع". وقد تعقبه العلامة التفتازاني تعقبا مجملا بأن ما قاله الأغلبي، وأنه قد تخلف في مواضع. وقفيت أنا على أثر التفتازاني فبينت في تعليقي " الايجاز على دلائل الإعجاز" أن الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.
[277] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا. والمقصود التعريض بأن الصفات المقابلة لهاته الصفات صفة غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهورا لقوله: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}
[278, 279] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} إفضاء إلى التشريع بعد
(2/559)

أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه. فإن كان قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] من كلام الذين الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:275] فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كله وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني.
ومعنى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله: {فله ما سلف} ، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه.
قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف - أهل الطائف - إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتاب بن أسيد - الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح - بسبب أنهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أن كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شرطهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم - وكانوا حديثي عهد بإسلام - فقالوا: لا يدي لنا1 بحرب الله ورسوله.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} معناه إن كنتم مؤمنين حقا، فلا ينافي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أن الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وتنكير حرب لقصد تعظيم أمرها، ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله، لأنها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنه المبلغ والمبشر، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في
ـــــــ
1 أي لا قدرة لنا. فاليدان مجاز في القدرة، لأنهما آلتها، وأصله: لا يدين لنا، فعاملوا المجرور باللام معاملة المضاف إليه كما في قولهم: لا أبا له، بإثبات ألف أبا، قاله ابن الحاجب. وقال غيره: اللام مقحمة بين المضاف والمضاف إليه.
(2/560)

سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في زممهم قبل التحريم مصلحة،إذ الشأن أن ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يقره الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه.
ودلت الآية على أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض، ولذلك جاء قبلها "فله ما سلف" وجاء هنا: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} - إلى قوله - {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقال الضمان بالقبض، والفوات بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأن القيمة بدل من رأس المال.
ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام".
ومعنى {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم.
وقرأ الجمهور {فَأْذَنُوا}- بهمزة وصل وفتح الذال - أمرا من أذن، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف { فَآذِنُوا} بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة - أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم.
[280] {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
عطف على قوله: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لأن ظاهر الجواب أنهم يسترجعونها معجلة ، إذ العقود قد فسخت. فعطف عليه حالة أخرى، والمعطوف عليه حالة مقدرة مفهومة لأن الجزاء يدل على التسبب، والأصل حصول المشروط عند الشرط. والمعنى وإن حصل ذو عسرة، أي غريم معسر.
(2/561)

وفي الآية حجة على أن "ذو" تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً.
والنظِرة ـ بكسر الظاء ـ الانتظار.
والميسُرة ـ بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين ـ اسم لليسر وهو ضد العسر ـ بضم العين ـ وهي مفعلة كمشرفة ومشربة ومالكة ومقدرة، قال أبو علي ومفعلة بالفتح أكثر في كلامهم.
وجملة فنظرة جواب الشرط، والخبر محذوف، أي فنظرة له.
والصيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كله فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدين إذا لم يكن له وفاء. وقد قيل: إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:79]. وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا، وروي أنه كان في صدر الإسلام، ولم يثبت. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء، ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاصُ.
ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكن الجمهور عمموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عين له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كله. وخالف شريح فخصَّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها.
وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي أن إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل، وجعله الله صدقة لأن فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف.
وقرأ الجمهور من العشرة {تَصَدَّقُوا} ـ بشديد الصاد ـ على أن أصله تتصدقوا فقلت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
(2/562)

[281] { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
جئ بقوله: {واتقوا يوماً} تذييلاً لهاته الأحكام لأنه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها، والكل يرجع إلى اتقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح.
وفي "البخاري" عن ابن عباس أن هذه آخر آية نزلت. وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل: "يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة". وهذا الذي عليه الجمهور، قاله ابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً، وقيل واحداً وثمانين، وقيل سبعة أيام، وقيل تسعة، وقيل ثلاث ساعات. وقد قيل: إن آخر آية هي آية الكلالة، وقيل غير ذلك، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان.
وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.
[282] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامتهم من
(2/563)

مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلَّث ببيان التوثقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإن تحديد التوثق في المعاملات من أعظم وسائل بث الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التمول.
والجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرماء أهل الربا.
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأن المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطر إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ولأن المترفه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين، فإذا لم يتداين اختل نظام ماله، فشرع الله تعالى للناس بقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنوا أن تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كله. وأفاد ذلك التشريع بوضعه في تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له بالكتابة والإشهاد.
والخطاب موجه للمؤمنين أي لمجموعهم، والمقصود منه خصوص المتداينين، والأخص بالخطاب هو المدين لأن من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله. فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن، ويؤخذ مما حكاه الله في سورة القصص عن موسى وشعيب، إذ استأجر شعيب موسى. فلما تراوضا على الإجارة وتعين أجلها قال موسى: "والله على ما نقول وكيل" فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسأله شعيب ذلك.
والتداين تفاعل، وأطلق هنا ـ مع أن الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف ـ لأنك تقول أدّان منه فدانه، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة؛ لأن في المجموع دائناً ومديناً، فصار المجموع مشتملاً على جانبين. ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تداينت من زيد.
وزيادة قيد {بدين} إما لمجرد الإطناب، كما يقولون رأيته بعيني ولمسته بيدي، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، قاله في "الكشاف".
(2/564)

وقال الطيبي عن صاحب الفرائد: يمكن أن يظن استعمال التداين مجازاً في الوعد كقوله رؤبة:
داينتُ أروى والديون تُقضى ... فمطلت بعضاً وأدت بعضاً
فذكر قوله "بدين" دفعاً لتوهم المجاز. والدين في كلام العرب العوض المؤخر قال شاعرهم:
وعدتنا بدرهمينا طلاء ... وشواء معجلا غير دين
وقوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} طلب تعيين الآجال للديون لئلا يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل.
والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها.
والأجل اسم وليس بمصدر، والمصدر التأجيل، وهو إعطاء الأجل. ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234]، وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235].
والمسمى حقيقته المميز باسم يميزه عما يشابهه في جنسه أو نوعه، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس، والمسمى هنا مستعار للمعين المحدود، وإنما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلا بذلك، فأطلق عليه لفظ التسمية، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى. فالمعنى أجل معين بنهايته. والدين لا يكون إلا إلى أجل، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف، هو وصف أجل بمسمى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل.
وقوله: {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يعم كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في السلم ـ يعني بيع الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجل ـ وكان السلم من معاملات أهل المدينة. ومعنى كلامه أن بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أن السبب الخاص لا يخصص العموم.
والأمر في "فاكتبوه" قيل للاستحباب، وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعليه فيكون قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] تكميلاً لمعنى الاستحباب. وقيل الأمر للوجوب، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي، وروي عن
(2/565)

أبي سعيد الخدري، وهو قول داوود، واختاره الطبري. ولعل القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قائلون بوجوب الكتابة، وعليه فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأن الأمر للتكرار، لا سيما مع التعليق بالشرط، وسماه الأقدمون في عباراتهم نسخاً.
والقصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإن كان الاطلاع على العقود الفاسدة. والأرجح أن الأمر للوجوب فإنه الأصل في الأمر، وقد تأكد بهذه المؤكدات، وأن قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي ـ فإن حالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام ـ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة، لئلا يتساهلوا ابتداءً ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أن في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظن به، فإن في القوانين معذرة للمتعاملين.
وقال ابن عطية: "الصحيح عدم الوجوب لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنما هو ندب للاحتياط". وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التبرع.
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً، كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام.
وقوله: {فَاكْتُبُوهُ} يشمل حالتين:
الأولى حالة كتابة المتداينين بخطيهما أو خط أحدهما ويسلمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معاً، لأن جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر.
والثانية حالة كتابة ثالث يتوسط بينهما. فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية. فكانت الأمية بينهم فاشية، وإنما كانت الكتابة في الأنباط والحيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلمان قليلاً من مكة والمدينة.
وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أمر للمتداينين بأن يتوسطوا كاتباً يكتب بينهم
(2/566)

لأن غالب حالهم جهل الكتابة.
فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب. والعرب تعمد إلى المقصود فتنزله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدك مهذباً، وفي النهي لا تنسَ ما أوصيتك، ولا أعرفنك تفعل كذا.
فمتعلق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب، وأما أمر الكاتب فهو قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}.
وقوله: {بِالْعَدْلِ} أي بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأن وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.
ولذلك قصر المفسرون قوله: {فَاكْتُبُوهُ} على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنه الغالب، ولتعقيبه بقوله: وليكتب بينكم كاتب بالعدل، فإنه كالبيان لكيفية فاكتبوه، على أن كتاب المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه.
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإن استكتاب الكاتب إنما ينفع بقراءة خطه.
وقوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} نهي لمن تطلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دعي إليها، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجهاً للمتداينين. وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم، فالذي يدعى لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع.
وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل: إنما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلا كاتب واحد، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن، ومعناه أنه موكول إلى ديانتهم لأنهم إذا تمالأوا على الامتناع أثموا جميعاً، ولو قيل: إنه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين، وإنه يتعين بتعيين طالب التوثق أحدهم لكان وجيهاً، والأحق بطلب التوثق هو المستقرض كما تقدم آنفاً.
وقيل: إنما يجب على الكاتب في حال فراغه، قاله السدي. وقيل: هو منسوخ بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} وهو قول الضحاك، وروي عن عطاء، وفي هذا نظر
(2/567)

لأن الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلا في أحوال نادرة كبعد مكان المتداينين من مكان الكاتب. وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنه منسوخ بقوله تعالى ـ بعد هذا ـ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:283]. وسيأتي لنا إبطال ذلك.
وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين، لأنها إن كانت واجبة فلا أجر عليها، وإلا فالأجر جائز.
ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}.
وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي كتابة تشابه الذي علمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنها صفة لمصدر محذوف. و"ما" موصولة.
ومعنى ما عمله الله أنه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأن الله ما علم إلا الحق وهو المستقر في فطرة الإنسان، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدلون ويغيرون وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "واستفتِ نفسك وإن أفتاك الناس".
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوض بمعوضه، أي أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب عملها، وإنما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أن يكتب بالمكتوب، و"ما" على هذا الوجه مصدرية، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ}، وجوز صاحب "الكشاف" تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية.
وقوله: {فَلْيَكْتُبْ} تفريع على قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ}، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله: {فَاكْتُبُوهُ}، فهو يفيد تأكيد الأمر وتأكيد النهي أيضاً، وإنما
(2/568)

أعيد ليُرتَّب عليه قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لبعد الأمر الأول بما وليه، ومثله قوله تعالى: {اتَّخَذُوهُ} [الأعراف:148] بعد قوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} [الأعراف:148] الآية.
وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أمل وأملي لغتان: فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة تميم، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وقال: { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5]، قالوا والأصل هو أملل ثم أبدلت اللام ياء لأنها أخف؛ أي عكس ما فعلوا في قولهم تقضي البازي إذ أصله تقضض.
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه، هكذا فسره في "اللسان" و"القاموس". وهو مقصور في التفسير أحسب أنه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة، وإلا فإن قوله تعالى في سورة الفرقان [5]: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} تشهد بأن الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ، وهي طريقة تحفيظ العميان. فتحرير العبارة أن يفسر هذا اللفظان بإلقاء كلام ليكتب عنه أو ليروى أو ليحفظ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن.
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإن منهم من يكتبون في شروط الحبس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلا إذا كان قد فوض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقة أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة.
والضمير في قوله: {وَلْيَتَّقِ}، وقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنه أقرب مذكور من الضميرين، أي لا ينقص رب الدين شيئاً حين الإملاء، قاله سعيد بن جبير، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقر بجميع الدين ولا يغبن الدائن. وعندي أن هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه رب الدين لأن الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ}. ويحتمل أن يعود الضميران إلى {كاتب} بقرينة أن هذا النهي أشد تعلقاً بالكاتب؛ فإنه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه.
والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الحق وهو حق لكلا المتداينين، فإذا بخس منه شيئاً أضر بأحدهما لا محالة، وهذا إيجاز بديع.
(2/569)

والبخس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنه أخص من النقص، فهو نقص بإخفاء. وأقرب الألفاظ إلى معناه الغبن، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف: "البخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب والتزهييد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيد في الكيل أو النقصان منه". أي عن غفلة من صاحب الحق، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأن المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه، ولذلك نهي الشاهد أو المدين أو الدائن، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}. [الأعراف: 85].
وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} السفيه هو مختل العقل، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}. [البقرة:142].
والضعيف الصغير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة:266].
والذي لا يستطيع أن يملِّ هو العاجز كمن به بكم وعمىً وصمم جميعاً.
ووجه تأكيد الضمير المستتر في فعل يملِّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله: {فَلْيُمْلِلْ} لئلا يتوهم الناس أن عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة. والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل كالأب والوصي وعرفاء القبيلة، وفي حديث وفد هوازن: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليرفع إلي عرفاؤكم أمركم"، وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القبلية.
ومعنى {بالعدل} أي بالحق. وهذا دليل على أن إقرار الوصي والمقدم في حق المولي عليه ماضٍ إذا ظهر سببه، وإنما لم يعمل به المتأخرون من الفقهاء سداً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء.
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
عطف على {فَاكْتُبُوهُ}، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو. فالمأمور به المتداينون شيئان: الكتابة، والإشهاد عليها. والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان. ومن أجل ذلك سماها الفقهاء ذُكْر الحق، وتسمى عقداً قال الحارس بن حلزة:
(2/570)

حذر الجور والتطاخي وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]. فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأن قوله: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} [البقرة: 283]. صار في معنى ولم تجدوا شهادة، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين. وإنما جعل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة.
{وَاسْتَشْهِدُوا} بمعنى أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، ولك أن تجعلهما للطلب أي أطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق. ويكون قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} تكليفاً لمن يطلب منه صاحب الحق أي أن يشهد عليهما أن لا يمتنع.
والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضور لمشاهدة تعاقد بين متعاقدين أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحبس. وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، وهذا هو الوارد في قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4].
وجعل المأمور به طلب الإشهاد لأنه الذي في قدرة المكلف وقد فهم السامع أن الغرض من طلب الإشهاد حصوله. ولهذا أمر المستشهد ـ بفتح الهاء ـ بعد ذلك بالامتثال فقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
والأمر في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قيل للوجوب، وهو قول جمهور السلف، وقيل للندب، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
وقوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} أي من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنهم رجال، وأنهم ممن يشملهم الضمير.
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام: {يا أيها الذين آمنوا}.
وأما الصبي فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل
(2/571)

التهم.
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام. فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا، وأما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة، ولأنه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين لحقوق مخالفه، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي. فإن الأديان السالفة التي لم تتعرض لاحترام حقوق المخالفين، فتوهم أتباعهم دحضها. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهي عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصها ببني إسرائيل، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب، ولم نر في دين من الأديان التصريح بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام، فكيف نعتد بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم، ويرمون بذلك نبيهم فمن دونه، فماذا يرجى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصرانية تابعة لأحكام التوراة. على أن تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبلي فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم.
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وفي "البخاري" في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز. وما روي عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: أن نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرقوا بها، فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه، فقال لهم: "تأتون بالبينة على من قلته"، قالوا: "ما لنا بينة"، قال: "فتحلف لكم يهود خمسين يميناً"، قالوا: "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون"، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ووداه من مال الصدقة. فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قول الأنصار في اليهود: إنهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون.
فإن قلت: كيف اعتدت الشريعة بيمين المدعى عليه من الكفار، قلت: اعتدت بها لأنها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى، فرأتها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها.
(2/572)

ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر، وقضى به أبو موسى الأشعري مدة قضائه في الكوفة، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء، وقال الجمهور: لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أن ما فيه آية الوصية منسوخ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين، وخالفه الجمهور، والوجه أنه يتعذر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً.
وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، والذي يظهر لي أن تخصيص العبد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأن غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألا يرد مطلقاً إلى مراداً به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي:
يا ربة البيت قويم غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي والغربا
وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأن حالة الرق تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً؛ ولأنهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلوم للمظنة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل.
واشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين اتهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً، والعدالة لأنها تزع من حيث الدين والمروءة، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور. فثبت بهذه الآية أن التعدد شرط في الشهادة من حيث هي، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحق معين، ولهذا لو روى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعري أن يأتي بشاهد معه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع" إذ كان ذلك في ادعاء أبي موسى أنه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع، فشهد له أبو سعيد
(2/573)

الخدري في ملإِ من الأنصار.
والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أي لم يكن الشاهدان رجلين، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر واحد، فرجل وامرأتان يشهدان. فقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} جواب الشرط، وهو جزء جملة حذف خبرها لأن المقدر أنسب بالخبرية ـ ودليل المحذوف قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} ـ وقد فهم المحذوف فكيفما قدرته ساغ لك.
وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكن من أن يقال فإن لم يكن رجلان لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين كما توهمه قوم، وهو خلاف قول الجمهور لأن مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين. وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأن المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن على أنه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أن، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلل لقصد إقناع المكلفين، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئن إليه النفوس إلا جعل عوض الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصرح بتعليله. واللام المقدرة قبل أن متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان، وقرأوه بنصب {فَتُذَكِّرَ} عطفاً على {أَنْ تَضِلَّ}، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار أن شرطية وتضل فعل الشرط، وبرفع تذكر على أنه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأن الفاء تؤذن بأن ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكرها الأخرى على نحول قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95].
ولما كان "أن تضل" في معنى لضلال إحداهما صارت العلة في الظاهر هي الضلال، وليس كذلك بل العلة هي ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به، فتفرع عليه قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} لأن فتذكر معطوف على تضل بفاء التعقيب فهون من تكملته، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266]، ونظيره في "الكشاف" أن تقول: أعددت الخشبة أن
(2/574)

يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. وفي هذه الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال: أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها. ووجهه صاحب "الكشاف" بأن فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله. وادعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة: أن من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة ـ وكان للعلة علة ـ قدموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة. ومثله بالمثال الذي مثل به "الكشاف"، وظاهر كلامه أن ذلك ملتزم ولم أره لغيره.
والذي أراه أن سبب العدول في مثله أن العلة تارة تكون بسيطة كقولك: فعلت كذا إكراماً لك، وتارة تكون مركبة من دفع ضر وجلب نفع بدفعه. فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين. لأن المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة، فلذا أخذ بقولها حق المشهود عليه وقصد تذكير المرأة الثانية إياها، وهذا أحسن مما ذكره صاحب "الكشاف".
وفي قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول فتذكرها الأخرى، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعين شخص المقصود بهما، فكيفما وضعتهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله إحداهما ـ المظهر ـ فاعلاً أو مفعولاً به، فلا يظن أن كون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنه لا أضمر لكان الضمير مفعولاً، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنه التفتازاني لأن المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتحاد المعنى. وهو موجود في الآية كما لا يخفى.
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرض لها المتقدمون، قال التفتازاني في "شرح الكشاف": "ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما، ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي المناسبة إلا أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس، ويصح أن يقال: فتذكرها الأخرى، فلا بد للعدول من نكتة". وقال العصام في "حاشية البيضاوي" نكتة التكرير أنه كان فصل التركيب أن تذكر إحداهما الأخرى إن
(2/575)

ضلت، فلما قدم إن ضلت وأبرز في معرض العلة لم يصح الإضمار "أي لعدم تقدم إمعاد" ولم يصح أن تضل الأخرى لأنه لا يحسن قبل ذكر إحداهما "أي لأن الأخرى لا يكون وصفاً إلى في مقابلة وصف مقابل مذكور فأبدل بإحداهما "أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ولم يغير ما هو أصل العلة عن هيأته لأنه كأن لم يقدم عليه، {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يعني فهذا وجه الإظهار.
وقال الخفاجي في "حاشية التفسير": "قالوا: إن النكتة الإبهام لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، فدخل الكلام في معنى العموم" يعني أنه أظهر لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة الأخرى، فلا تكون شاهدة بالأصالة. وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي، وهذا السؤال:
يا رأس أهل العلوم السادة البررة ... ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار إحدى دون تذكرها ... في آية لذوي الأشهاد في البقرة
وظاهر الحال إيجاز الضمير على ... تكرار إحداهما لو أنه ذكره
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في ... أولاهما ليس مرضياً لدى المهره
فغص بفكرك لاستخراج جوهرة ... من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
فأجاب الغزنوي:
يا من فوائده بالعلم منتشرة ... ومن فضائله في الكون مشتهره
تضل إحداهما فالقول محتمل ... كليهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضياً ... تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما ... أشرتم ليس مرضياً لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به ... والله أعلم في الفحوى بما ذكره
وقد أشار السؤال والجواب إلى رد على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره1؛ إذ جعل إحداهما الأول مراداً به إحدى الشهادتين، وجعل تضل بمعنى تتلف بالنسيان، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين. ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في
ـــــــ
1 هو أبو القاسم حسين بن علي الشهري بالمغربي استوزره البوهي ببغداد وفي سنة 418.
(2/576)

مقام الإضمار، وهو تكلف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه، فينزه تخريج كلام الله عليه، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله: "ومن رددتم عليه الحل الخ..".
والذي أراه أن هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه معاد الضمير لو أضمر، وذلك يرشح الجملة لأن تجري مجرى المثل. وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنة لاختلاف مواد النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى. فقوله أن تضل تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة، وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها.
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
عُطف {وَلا يَأْبَ} على {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} لأنه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نهي من يطلب إشهاده عن أن يأبى، ليتم المطلوب وهو الإشهاد.
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط. فإن المتعاقدين يظن بهما إهمال الإشهاد فأمرا به، والشهود يظن بهما الامتناع فنهوا عنه، وكل يستلزم ضده.
وتسمية المدعوين شهداء باعتبار الأول القريب، وهو المشارفة، وكأن في ذلك نكتة عظيمة: وهي الإيماء إلى أنهم بمجرد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعينت عليهم الإجابة، فصاروا شهداء.
وحذف معمول دعوا إما لظهوره من قوله ـ قبله ـ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمل، وهذا قول قتادة، والربيع بن سليمان، ونقل عن ابن عباس، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأولى، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم، أي إذا ما دعوا للتحمل والأداء معاً؛ قاله الحسن، وابن عباس، وقال مجاهد: إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة، ولعل الذي حمله على ذلك هو قوله: {الشُّهَدَاءِ} لأنهم لا يكونون شهداء حقيقة إلا بعد التحمل، ويبعده أن الله تعالى قال ـ بعد هذا ـ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء.
والذي يظهر أن حذف المتعلق بفعل {دُعُوا} لإفادة شمول ما يدعون لأجله في
(2/577)

التعاقد: من تحمل، عند قصد الإشهاد، ومن أداء، عند الاحتياج إلى البينة. قال ابن الحاجب: "والتحمل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء نحو البريدين ـ إن كانا اثنين ـ فرض عين، ولا تحل إحالته على اليمين".
والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ} ويظهر أن التحمل يتعين بالتعيين من الإمام، أو بما يعينه، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلا لضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه، أو ماله، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلا إذا تعين عليه، بأن لا يوجد بدله، وإنما يجب بشرط عدالة القاضي، وقرب المكان: بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه، وعلمه بأنه تقبل شهادته، وطلب المدعي. وفي هذه التعليقات رد بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه.
قال القرطبي: "يؤخذ من هذه الآية أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال، فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظاً لها". قلت: وقد أحسن. قضاة تونس المتقدمون، وأمراؤها، في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس، يؤخذون ممن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة، وكذلك كان الأمر في الأندلس، وذلك من النظر للأمة، ولم يكن ذلك متبعاً في بلاد المشرق؛ بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكتب الوثائق فيعتمدهم القضاة، ويكلون إليهم ما يجري في النوازل من كتابة الدعوى والأحكام، وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال: كان مقبولاً عند القاضي فلان.
{وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}.
تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها، فالصغير والكبير هنا مجازان في الحقير والجليل. والعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة، فلذلك نهوا عن السآمة هنا. والسآمة: الملل من تكرير فعل ما.
والخطاب للمتداينين أصالة، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب: لأن المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب.
والنهي عنها نهي عن أثرها، وهو ترك الكتابة، لأن السآمة تحصل للنفس من غير اختيار، فلا ينهى عنها في ذاتها، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون. وانتصب
(2/578)

صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أو على حذف كان مع اسمها. وتقديم الصغير على الكبير هنا، مع أن مقتضى الظاهر العكس، كتقديم السنة على النوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لأنه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهمات في قلة الاعتناء بالصغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير، لو اقتصر في اللفظ على الصغير.
وجملة {إلى أجله} حال من الضمير المنصوب بتكتبوه، أي مغيِّى الدين إلى أجله الذي تعاقداً عليه، والمراد التغيية في الكتابة.
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}.
تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة: بأن الكتابة فيها زيادة التوثق، وهو أقسط أي أشد قسطاً، أي عدلاً، لأنه أحفظ للحق، وأقوم للشهادة، أي أعون على إقامتها، وأقرب إلى نفي الريبة والشك، فهذه ثلاث علل، ويستخرج منها أن المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بينة، واضحة، بعيدة عن الاحتمالات، والتوهمات. واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنه مذكور، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد.
وفي الآية حجة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعددة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه.
واشتقاق {أَقْسَطُ} من أقسط بمعنى عدل، وهو رباعي، وليس من قسط لأنه بمعنى جار، وكذا اشتقاق {َأَقْوَمُ} من أقام الشهادة إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجب من الرباعي المهموز، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفرط. وجوز صاحب "الكشاف" أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغة نسب وهو مشكل، إذ ليس لهذه الزنة فعل. واستشكل أيضاً بأن صوغه من الجامد أشد من صوغه من الرباعي. والجواب عندي أن النسب هنا لما كان إلى المصدر شابه المشتق: إذ المصدر أصل الاشتقاق، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محول إلى وزن فعل ـ بضم العين ـ الدال على السجية، الذي يجيء منه قويم صفة مشبهة.
{ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.
استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله: {صغيراً أو كبيراً} وهو استثناء؛
(2/579)

قيل منقطع، لأن التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء، والتقدير: إلا كون تجارة حاضرة.
والحاضرة الناجزة، التي لا تأخير فيها، إذ الحاضر، والعاجل، والناجز: مترادفة. والدين، الأجل، والنسيئة: مترادفة.
وقوله: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} بيان لجملة {أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ} بل البيان في مثل هذا، أقرب منه في قول الشاعر مما أنشده ابن الأعرابي في نوادره، وقال العيني: ينسب إلى الفرزدق:
إلا الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان
إذ جعل صاحب "الكشاف" كيف يلتقيان بياناً لحاجة وأخرى، أو تجعل {تُدِيرُونَهَا} صفة ثانية لتجارة في معنى البيان، ولعل فائدة ذكره الإيماء إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة، لأن إدارتها أغنت عن الكتابة. وقيل: الاستثناء متصل، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجلة إلى أجل قريب، فهي من جملة الديون، رخص فيها ترك الكتابة بها، وهذا بعيد.
وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} تصريح بمفهوم الاستثناء، مع ما في زيادة قوله: {جُنَاحٌ} من الإشارة إلى أن هذا الحكم رخصة، لأن رفع الجناح مؤذن بأن الكتابة أولى وأحسن.
وقرأ الجمهور تجارة بالرفع: على أن تكون تامة، وقرأه عاصم بالنصب: على أن تكون ناقصة، وأن في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان، أي إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، كما في قول عمرو بن شاس ـ أنشده سيبويه ـ:
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
تقديره إذا كان اليوم يوماً ذا كواكب، وقوله: {ألا} أصله أن لا فرسم مدغماً.
{ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غير تجارة حاضرة، وهذا إكمال لصور المعاملة: فإنها إما تداين، أو آيل إليه كالبيع بدين، وإما تناجز في تجارة، وإما تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر. وقيل: المراد بتبايعتم التجارة، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة، وهذا بعيد جداً، لأن الكتابة
(2/580)

ما شرعت لأجل الإشهاد والتوثق.
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُو} أمر: قيل هو للوجوب، وهذا قول أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والضحاك، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، وجابر بن زيد، وداوود الظاهري، والطبري. وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيعد عبد باعه للعداء بن خالد بن هوذة، وكتب في ذلك "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم" وقيل: هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن، والشعبي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وتمسكوا بالسنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يشهد، قاله ابن العربي، وجوابه: أن ذلك في مواضع الائتمان، وسيجيء قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب وردنا له عند قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ}.
{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}.
نهي عن المضارة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار: لأن يضار يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين، ليكون الكلام موجهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز.
والمضارة: إدخال الضر بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرم والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدين أحد المتعاقدين في إشاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرع عن الإضرار: منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم، لأنه الإضرار المستفاد من لا يضار مثل "اعدلوا هو أقرب" والفسوق: الإثم العظيم، قال تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ}. [الحجرات:11].
(2/581)

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أمر بالتقوى لأنها ملاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق. وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعد بدوام ذلك لأنج جيء به بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أن التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إن الواو فيه للتعليل أي ليعلمكم. وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح.
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث: لقصد التنويه بكل جملة منها حتى تكون مستقلة الدلالة، غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على معاد ضميرها، حتى إذا سمع السامع كل واحدة منها حصل له علم مستقل، وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في فهم أخراها، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي1:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
واللؤم داءٌ لوبر يقتلون به ... لا يقتلون بداء غير أبدا
فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومن ولدها، وما ولدته، أظهر اللؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها. هذا، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل. وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها، قال الشيخ في "دلائل الإعجاز"2، في الخاتمة التي ذكر فيها أن الذوق قد يدرك أشياء لا يهتدى لأسبابها، وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل: "ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنه قال: كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره، قال الصاحب فدفع إليَّ القصيدة التي أولها:
أتحت ضلوعي جمرة تتوقد ... على ما مضى أم حسرة تتجدد
وقال لي: تأملها، فتأملتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى ... وحلم كحلم السيف والسيف مغمدُ
ـــــــ
1 وهو الحكم ابن مقداد ويدعى ابن زهرة وزهرة أمه ويعرف بالحكم الأصم الفزاري، وتنسب الأبيات إلى عويف القوافي أيضاً واسمه عوف بن حصن الفزاري.
2 ص: 400 مطبعة الموسوعات بمصر.
(2/582)

فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال: لعل القلم تجاوزه، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شراً من تركه؛ فقال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات، قال الصاحب: لو لم يعده لفسد البيت، قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب ـ ثم قال ـ قال أبو يعقوب: إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] عمل لولاه لم يكن.
وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله:
فما للنوى جُذّ النوى قطع النوى
حتى قيل: لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى، ثم قال: إن التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم، أو التحقير، في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبد القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد، قال المرزوقي في شرح الحماسة1 عند قول يحيى بن زياد:
لما رأيت الشيب لاح بياضه ... بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا
"كان الواجب أن يقول: قلت له مرحباً، لكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم".
واعلم أنه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كل مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرر، كما تقدم في بيتي الحماسة: اللؤم أكرم من وبر".. الخ..
وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران [78]: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78].
[283] {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
ـــــــ
1 في باب الأدب من ديوان الحماسة.
(2/583)

فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
{وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.
هذا معطوف على قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية، فجميع ما تقدم حكم في الحضر والمكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة.
والرهان جمع رهن ـ ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء ـ وقد قرأه جمهور العشرة: بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بضم الراء وضم الهاء، وجمعه باعتبار تعدد المخاطبين بهذا الحكم.
والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسمية للمفعول بالمصدر كالخلق. ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفى دينه قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
والرهن شائع عند العرب: فقد كانوا يرهنون في الحمالات والديات إلى أن يقع دفعها، فربما رهنوا أبناءهم، وربما رهنوا واحداً من صناديدهم، قال الأعشى يذكر أن كسرى رام أخذ رهائن من أبنائهم:
أليت لا أعطيه من أبنائنا ... رهناً فنفسدهم كمن قد أفسدا
وقد عبد الله بن همام السلولي1:
فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا
ومن حديث كعب بن الأشرف أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: ارهنوني أبناءكم.
ومعنى فرهانٌ: أي فرهان تعوض بها الكتابة. ووصفها بمقبوضة إما لمجرد الكشف،
ـــــــ
1 في باب ديوان الحماسة.
(2/584)

لأن الرهان لا تكون إلا مقبوضة، وإما للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخذ من الإذن في الرهن أنه مباح فلذلك إذا سأله رب الدين أجيب إليه فدلت الآية على أن الرهن توثقة في الدين.
والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بتصريحها. وأما مشروعية الرهن في الحضر فلأن تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مود بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلا إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدوا بها إذا خرجت مخرج الغالب. ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أ، الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه.
وقد أخذ مجاهد، والضحاك، وداود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أن السنة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضر.
والآية دليل على أن القبض من متممات الرهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي: القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردد المتأخرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة: هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة: هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك، واتفق الجميع على أن للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أن القبض شرط في اللزوم، لأن الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبض من لوازمه، فلذلك يجبر الراهن على تحويز المرتهن إلا أنه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوة الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأن الله سبحانه وتعالى جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أن ماهية الرهن قد تحققت بدون القبض. وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملك، ويعدون ذلك في رهن الدين حوزاً. وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأن الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثق فلا وجه للانتفاع، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثقاً إلى ماهية البيع.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.
(2/585)

متفرع على جميع ما تقدم من أحكام الدين: أي إن أمن كل من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن، فالبعض ـ المرفوع ـ هو الدائن، والبعض ـ المنصوب ـ هو المدين وهو الذي اؤتمن.
والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها مما تخافه، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمن عليه، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله. وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عند قوله تعالى: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} في سورة الأعراف [68].
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدين في الذمة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأن اسم الأمانات له مهابة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنه لما سمى أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة؛ لأنها ضدها، وفي الحديث: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك".
والأداء: الدفع والتوفية، ورد الشيء أو رد مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدين أي عدم جحده قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
والمعنى: إذا ظننتم أنكم في غنية عن التوثق في ديونكم بأنكم أمناء عند بعضكم، فأعطوا الأمانة حقها.
وقد علمت مما تقدم عند قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} أن آية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور. ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنها بينت أن الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فعما، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما.
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤديا الأمانة ويتقيا الله.
وتقدم أيضاً أن الذين قالوا بأن الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادعوا أن ناسخه هو قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد
(2/586)

الخدري.
ومحمل قولهم وقول أبي سعيد ـ إن صح ذلك عنه ـ أنهم عنوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة. وتسمية مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة.
أما الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكماً محكماً، ومنهم الطبري، فقصروا آية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية على كونها تكملة لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنه جمجم الكلام وطواه.
ولو أنهم قالوا: إن هذه الآية تعني حالة تعذر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلا أن يأمن بعضكم فالتقدير: فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه، ويفهم منه أنه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتسام بالأمانة. وهؤلاء الفرق الثلاثة كلهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثق في الديون.
وأظهر مما قالوه عندي: أن هذه الآية تشريع مستقل يعم جميع الأحوال المتعلقة بالديون: من إشهاد، ورهن، ووفاء بالدين، والمتعلقة بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة {بعض} ليشمل الائتمان من كلا الجانبين: الذي من قبل رب الدين، والذي من قبل المدين.
فرب الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر.
والمدين يأتمن الدائن إذا سلم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهن فيه، والغالب أن الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كل جانب مؤتمن أن يؤدي أمانته، فأداء المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطى رهناً متجاوز القيمة على الدين أن يرد الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدين؛ لأن الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن.
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين: معنى الصفة التي يتصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمن.
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلق الرهن: وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لرب الدين، إذا لم يدفع الدين عند الأجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" وقد كان غلق
(2/587)

الرهن من أعمال أهل الجاهلية، قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... عند الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
ومعنى {أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أن يقول كلا المتعاملين للآخر: لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنة اتهام أحد المتداينين الآخر.
وزيد في التحذير بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} ، وذكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله: "وليتق ربه" لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة.
وقوله: {الَّذِي اؤْتُمِنَ} وقع فيه ياء هي المدة في آخر "الذي" ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال، والثانية قطعية أصلية، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأن همزة الوصل سقطت في الدرج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدا قد زال، وهو الهمزة الأولى، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال.
وقرأه ورش عن نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر: الذيتمن بياء بعد ذال الذي، ثم فوقية مضمومة: اعتباراً بأن الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأن الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول، فلما حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال "الذي" فقلت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان.
وقرأه أبو بكر عن عاصم: الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة.
وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف.
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل، ثم نهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين، وأعقب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلها. فكان هذا النهي ـ بعمومه ـ بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدين.
واعلم أن قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} نهي، وأن مقتضى النهي إفادة التكرار
(2/588)

عند جمهور علماء الأصول: أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهي في أوقات عروض فعله، ولولا إفادته التكرار لما تحققت معصية، وأن التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهي عنه، فلذلك كان حقاً على من تحمل شهادة بحق ألا يكتمه عند عروض إعلانه: بأن يبلغه إلى من ينتفع به، أو يقضي به، كلما ظهر الداعي إلى الاستظهار به، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه: بغيبة أو طرو نسيان، أو عروض موت، بحسب ما يتوقع الشاهد أنه حافظ للحق الذي في علمه، على مقدار طاقته واجتهاده.
وإذ قد علمت ـ آنفاً ـ أن الله أنبأنا بأن مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة:282]، وأنه حرض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:283]. فعلم من ذلك كله الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق. ويؤيد هذا المعنى ويزيده بياناً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" رواه مالك في "الموطأ" ورواه عنه مسلم والأربعة.
فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر. ولكن روي في "الصحيح" عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم" ـ قالها ثانية وشك أبو هريرة في الثالثة ـ " ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا" الحديث.
وهو مسوق مساق ذم من وصفهم بأنهم يشهدون قبل أن يستشهدوا، وأن ذمهم من أجل تلك الصفة. وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض: حمله قوم على ظاهره من ذم من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأن ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذباً، وغلا فقد جاء في "الصحيح": "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". وأقول: روى مسلم عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ـ قالها مرتين أو ثلاثاً ـ ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون" الحديث.
والظاهر أن ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين واحد، سمعه كلاهما، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيناً لفظ أبي هريرة أن معنى قوله: قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا، أي دون أن يستشهدهم مشهد، أي أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون، وهو الذي عناه المازري بقوله: وحملوا في الحديث ـ أي حديث أبي هريرة ـ على ما إذا شهد كاذباً. فهذا طريق للجمع بين
(2/589)

الروايتين، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبين.
وقال النووي: تأوله بعض العلماء بأن ذم الشهادة قبل أن يسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق الله، قال النووي: "وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا" وهذه طريقة ترجع إلى أعمال كل من الحديثين في باب، بتأويل كل من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغي أحدهما.
قلت: وبنى عليه الشافعية فرعاً برد الشهادة التي يؤديها الشاهد قبل أن يسألها، ذكره الغزالي في "الوجيز"، والذي نقل ابن مرزوق في "شرح مختصر خليل عن الوجيز" "الحرص على الشهادة بالمبادرة قبل الدعوى لا تقبل، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان".
فأما المالكية فقد اختلف في كلامهم.
فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أن أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث "الموطأ" "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" ونقل الباجي عن مالك: "أن معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها، فيخبره بها، ويؤديها له عند الحاكم". فإن مالكاً ذكره في "الموطأ" ولم يذيله بما يقتضي أنه لا عمل عليه وتبع الباجي ابن مرزوق في "شرحه لمختصر خليل" وادعى أنه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب وخليل، وشارحو مختصريهما: أن أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤها مانع من قبولها: قال ابن الحاجب وفي الأداء يبدأ به دون طلب فيما تمحض من حق الآدمي قادحةً". وقال خليل ـ عاطفاً على موانع قبول الشهادة ـ: "أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي". وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه "الفائق في الأحكام والوثائق" ونسبه النووي في "شرحه على صحيح مسلم لمالك"، وحمله على أن المستند متحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعله أخذ نسبه ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدم.
وادعى ابن مرزوق أن ابن الحاجب تبع شاس إذ قال: "فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل" وأن ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال: والذي تقتضيه نصوص المذهب أنه إن رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقل من أن لا ترد" واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها".
(2/590)

وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين: مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين، وهو مسلك الشافعية، ومسلك إعمال قاعدة رد الشهادة بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنه ريبة.
وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} زيادة في التحذير والإثم: الذنب والفجور.
والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا. وأسد الاثم إلى القلب وإنما الآثم الكاتم لأن القلب ـ أي حركات العقل ـ يسبب ارتكاب الاثم: فإن كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية، ومثله قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] وإنما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيلات وقول الأعشى:
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
لأن الفرق ينشأ عن رؤية الأهوال.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأن القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلا الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء.
[284] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{لله}.
تعليل واستدلال على مضمون جملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعلى ما تقدم آنفاً من نحو: {اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [آل عمران: 176] {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة:30] {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:234] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} إلى آخرها هي محط التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ـ إلى ـ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] وجملة {لله ما في السماوات وما في الأرض} هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} معطوفة على جملة {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عطف
(2/591)

جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيده، وهو محاسبكم، ونظيرها في المعنى قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 13-14] ولا يخالف بينهما إلا أسلوب نظم الكلام.
ومعنى الاستدلال هنا: إن الناس قد علموا أن الله رب السماوات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السماوات والأرض لله، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنه مكون ضمائرهم وخواطرهم وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكية الله تعالى أتم أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوب الوجود من صفات الكمال. فقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تمهيد لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} الآية.
وعطف قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالواو دون الفاء للدلالة على أن الحكم الذي تضمنه مقصود بالذات، وأن ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا} عطفاً على قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283] ويكون قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} اعتراضاً بينهما.
وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف {أَو تُخْفُوهُ} للترقي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوغ له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعم الخير والشر.
والمحاسبة مشتقة من الحسبان وهو العدل، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعده عليكم، إلا أنه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى في سورة الشعراء [113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضحه هنا قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصروا في اتباع الخيرات النفسية والعملية، إلا أنه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كل مما نبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة". وقوله: "إن الله
(2/592)

تجاوز لأمتي عما حدثتها به أنفسها" وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما "لصحيح مسلم": وهو ـ مع زيادة بيان ـ أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة" وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إن قوله تعالى: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} محمول على معنى يجازيكم وأنه مجمل تبينه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإن من سمى ذلك نسخاً من السلف فإنما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية فأطلق النسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدمين وهذه الأحاديث، وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس "أن هذه الآية نسخت بالآية التي بعدها" أي بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك.
وقد تبين بهذا أن المشيئة مترتبة على أحوال المبدى والمخفى، كما هو بين.
وقرأ الجمهور فيغفر ويعذب بالجزم، عطفاً على يحاسبكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر، وهما وجهان فصيحان ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. تذييل لما دل على عموم العلم، بما يدل على عموم القدرة.
[285] {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
(2/593)

الْمَصِيرُ}.
قال الزجاج: "لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحكاماً كثيرة وقصصاً، ختمها بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكةً لجميع ذلك المذكور من قبل". يعني: أن هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلل ذلك: مما هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرع عليه العمل؛ لأن الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثال لما جاء به من عمل. فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر: هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنه استوفى تلك الأغراض. وورد في أسباب النزول أن قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} يرتبط بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] كما تقدم آنفاً.
وأل في الرسول للعدل. وهو علم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة:13] و {الْمُؤْمِنُونَ} معطوف على {الرسول}، والوقف عليه.
والمؤمنون ـ هنا ـ لقب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله: {آمن} فائدة، مع أنه لا فائدة في قولك: قام القائمون.
وقوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن {كل} إذا جاءت بعد ذكر متعدد في حكم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللهبي، بعد أبيات:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وإذ كانت "كل" من الأسماء الملازمة للإضافة فإذا حذف المضاف إليه نونت تنوين عوض عن مفرد كما نبه عليه ابن مالك في "التسهيل". ولا يعكر عليه أن "كل" اسم معرب لأن التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه فمن جوز أن يكون عطف {الْمُؤْمِنُونَ} عطف جملة وجعل {الْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ وجعل {كل} مبتدأ ثانياً {وآمن} خبره، فقد شذ عن الذوق العربي.
وقرأ الجمهور {وَكُتُبِهِ} بصيغة جميع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي: وكتابه، بصيغة المفرد على أن المراد القرآن أو جنس الكتاب. فيكون مساوياً لقوله: {وَكُتُبِهِ} إذ المراد
(2/594)

الجنس، والحق أن المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون: إن الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال: إذا دخلت أل الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنه قال، لما سئل عن هذه القراءة: "كتابه أكثر من كتبه ـ أو ـ الكتاب أكثر من الكتب" فقيل أراد أن تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب "المفتاح" "استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع". والحق أن هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات. وأن كلام ابن عباس ـ إن صح نقله عنه ـ فتأويله أنه أكثر لمساواته له معنى، مع كونه أخصر لفظاً، فلعله أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى.
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارك، وهو يحتمل الالتفاف: بأن يكون من مقول قول محذوف دل عليه السياق وعطف {وَقَالُوا} عليه. أو النون فيه للجلالة أي آمنوا في حال أننا أمرناهم بذلك، لأننا لا نفرق فالجملة معترضة. وقيل: هو مقول لقول محذوف دل عليه آمن؛ لأن الإيمان اعتقاد وقول. وقرأه يعقوب بالياء: على أن الضمير عائد على {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ}.
والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق: بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} عطف على {آمَنَ الرَّسُولُ} والسمع هنا كناية عن الرضا، والقبول، والامتثال، وعكسه لا يسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة:
تناذرها الراقون من سوء سمعها
أي عدم امتثالها للرقيا. والمعنى: إنهم آمنوا، واطمأنوا وامتثلوا، وإنما جيء بلفظ الماضي، دون المضارع، ليدلوا على رسوخ ذلك؛ لأنهم أرادوا إنشاء القبول والرضا، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعت.
وغفرانك نصب على المفعول المطلق: أي اغفر غفرانك، فهو بدل من فعله.
(2/595)

والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث، وجعل منتهياً إلى الله لأنه منتهٍ إلى يوم، أو عالم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة. ويحتمل أنه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان. كأنهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]. وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه: كقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]. وتقديم المجرور لإفادة الحصر: أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنهم عالمون بأنهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممن يعبدهم أهل الضلال.
[286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ}.
الأظهر أنه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضاً ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها: وهي {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} ـ إلى قوله ـ {مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قبل أن يحكي دعواتهم تلك.
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] بأنه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، مما أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً، أو يعقد عليه القلب، ويطمئن به، إلا أن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} إلخ يبعد هذا؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك.
فعلى أنه من كلام الله فهو نسخ لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} وهذا مروي في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة وابن عباس1 أنه قال: لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا
ـــــــ
1 في كتاب الإيمان.
(2/596)

فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِه} [البقرة:284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا: لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدمين، والمراد البيان والتخصيص لأن الذي تطمئن له النفس: أن هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجمة، فحدث بين فترة نزولها ما ظنه بعض المسلمين حرجاً.
والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع.
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم "نفساً" في سياق النفي، لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلها.
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة "المشقة تجلب التيسير".وكانت المشقة مظنة الرخصة، وضبط المشاق المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمى "مقاصد الشريعة" وما ورد من التكاليف الشاقة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلة المسلمين.
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحال، والتكليف بما لا يطاق، وهي مسألة أرنت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة: يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله، وأن ما يصدر منه تعالى كله عدل لأنه مالك العباد، وقاعدتهم في أنه تعالى يخلق ما يشاء، وعلى قاعدتهم في أن ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة، وانتفائه علامة على الشقاوة، وترتب الاثم لأن لله تعالى إثابة
(2/597)

العاصي، وتعذيب المطيع، فبالأولى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل، أو متعذر، واستدلوا على ذلك بحديث تكليف المصور بنفخ الروح في الصورة وما هو بنافخ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل. ولا دليل فيه لأن هذا في أمور الآخرة، ولأنهما خبرا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين. وقالت المعتزلة: يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنه يجب الله فعل الصلاح ونفى الظلم عنه، وقاعدتهم في أنه تعلى لا يخلق المنكرات من الأفعال، وقاعدتهم في أن ثمرة التكليف هو الامتثال وإلا لصار عبثاً وهو مستحيل على الله، وأن الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي.
واستدلوا بهذه الآية، وبالآيات الدالة على أصولها: مثل {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. الخ..
والتحقيق أن الذي جر إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد؛ فإن الأشعري لما نفى قدرة العبد، وقال بالكسب، وفسره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدور دون أن تكون قدرته مؤثرة فيه، ألزمهم المعتزلة القول بأن الله كلف العباد بما ليس في مقدورهم، وذلك تكليف بما لا يطاق، فالتزم الأشعري ذلك، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعري في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك.
ثم اختلف المجوزون: هل هو واقع، وقد حكى القرطبي الاجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية، وقال إمام الحرمين ـ في "البرهان" ـ: "والتكاليف كلها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق، لأن المأمورات كلها متعلقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلف، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها، وإنما يقدره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات" وما ألزمه إمام الحرمين الأشعري إلزام باطل؛ لأن المراد بما لا يطاق ما لا تتعلق به قدرة العبد الظاهرة، المعبر عنها بالكسب، للفرق البين بين الأحوال الظاهرة، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر، وكذلك لا معنى لإدخال ما علم الله عدم وقوعه، كأمر أبي جهل بالإيمان مع علم الله بأنه لا يؤمن، في مسألة التكليف بما لا يطاق، أو بالمحال؛ لأن علم الله ذلك لم يطلع عليه أحد. وأورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنه لا يسلم لقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى قوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1- 3]. فقد يقال: إنه بعد
(2/598)

نزول هذه الآية لم يخاطب بطلب الإيمان وإنما خوطب قبل ذلك، وبذلك نسلم من أن نقول: إنه خارج من الدعوة، ومن أن نقول: إنه مخاطب بعد نزول الآية.
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقدرتهم، دون ما هو بحسب سر القدر، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية.
وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} حال من "نفساً" لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس: وهو أنه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشر كان ضره عليها. وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة "اللام" مرة وبواسطة "على" أخرى. وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأن المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنما عبر هنا مرة بكسبت وأخرى باكتسبت تفنناً وكراهية إعادة الكلمة بعينها، كما فعل ذو الرمة في قوله:
ومطعم الصيد هبال1 لبغيته ... ألفى أباه بذاك الكسب مكتسبا
وقول النابغة:
فحملت برة واحتملت فجار
وابتدئ أولاً بالمشهور الكثير، ثم أعيد بمطاوعة، وقد تكون، في اختيار الفعل الذي أصله دال على المطاوعة، إشارة إلى أن الشرور يأمر بها الشيطان، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبغيض من الله للناس في الذنوب. واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات، إشارة إلى أن الله يسوق إليها الناس بالفطرة، ووقع في "الكشاف" أن فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال، وكان الشر مشتهى للنفس، فهي تجد تحصيله فعبر عن فعلها ذلك بالاكتساب.
والمراد بما اكتسبت الشرور، فمن أجل ذلك ظن بعض المفسرين أن الكسب هو اجتناء الخير، والاكتساب هو اجتناء الشر، وهو خلاف التحقيق؛ في القرآن {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]. ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس:52] ـ وقد قيل: إن اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ
ـــــــ
1 الهبال: المحتال. والمقصود أنه حذق بالصيد وارثه عن أبيه.
(2/599)

بالعمل الذي تكلف فيه تكلف. لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير.
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسباً واكتساباً؛ فإن الله وصف نفسه بالقدرة. ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قدر وإنما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد، وقد قيل: إن أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار، رأس الفرقة النجارية من الجبرية، كان معاصراً للنظام في القرن الثالث، ولكن شاهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي: "أدق من كسب الأشعري".
وتعريف الكسب، عند الأشعري: هو حالة للعبد يقارنها خلق الله فعلاً متعلقاً بها. وعرفه الإمام الرازي بأنه صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله. وللكسب تعاريف أخر.
وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته: هو أنه لما تقرر أن الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرر عموم قدرته على كل شيء لئلا تكون قدرة الله غير متسلطة على بعض الكائنات، إعمالاً للأدلة الدالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصصه، فوجب إعمال هذا العموم. ثم إنه لما لم يجز أن يدعى كون العبد مجبوراً على أفعاله، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية، كحركة المرتعش، والأفعال الاختيارية، كحركة الماشي والقاتل، ورعياً لحقية التكاليف الشرعية للعباد لئلا يكون التكليف عبثاً، ولحقية الوعد والوعيد لئلا يكون باطلاً، تعين أن تكون للعبد حالة تمكنه من فعل ما يريد فعله، وترك ما يريد تركه، وهي ميله إلى الفعل أو الترك، فهذه الحالة سماها الأشعري الاستطاعة، وسماها كسباً. وقال: إنها تتعلق بالفعل فإذا تعلقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها.
وتقديم المجرورين في الآية: لقصد الاختصاص، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها، وكأن هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية: من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله.
وتمسك بهذه الآية من رأي أن الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب، إلا إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره؛ ففي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى من
(2/600)

ثلاث: صدقة جارية وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له" وفي الحديث: "ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سنة القتل" وفي الحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
يجوز أن يكون هذا الدعاء محكياً من قول المؤمنين: الذين قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، بأن اتبعوا القبول والرضا، فتوجهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى. واختيار حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها. ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم: بأن يقولوا هذا الدعاء، مثل ما لقنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير ـ قولوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} إلى آخر السورة؛ إن الله بعد أن قرر لهم أنه لا يكلف نفساً إلى وسعها، لقنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع. والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا ينسخ من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160].
والمؤاخذة مشتقة من الأخذ بمعنى العقوبة، بقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تؤاخذنا بالنسيان والخطأ.
والمراد ما يترتب على النسيان والخطأ من فعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أن الله رفع عنهم ذلك بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي رواية: "وضع" رواه ابن ماجة وتكلم العلماء في صحته وقد حسنه النووي، وأنكره أحمد، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع. فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالائلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة "لا تؤاخذنا" أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعل: نسيان أو خطأ، فلا يرد إشكال الدعاء بما علم حصوله، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأن المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في "الكشاف".
(2/601)

وقوله: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} الخ.. فصل بين الجملتين المتعاطفتين، بإعادة النداء، مع أنهم مستغنى عنه: لأن مخاطبة المناى مغنية عن إعادة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلل. والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس، وهو مناسب باستعارة الإصر.
وأصل معنى الإصر ما يؤصر به أي يربط، وتعقد به الأشياء، ويقال له: الإصار ـ بكسر الهمزة ـ ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكد فيما يصعب الوفاء به، ومنه قوله في آل عمران: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران:81] وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله، والامتثال فيه، وبذلك فسره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله، في سورة الأعراف {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [لأعراف:157] وهو المقصود هنا، ومن ثم حسنت استعارة الحمل للتكليف، لأن الحمل يناسب الثقل فيكون قوله: {ولا تحمل} ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبه به وعن ابن عباس: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} عهداً لا نفي به، ونعذب بتركه ونقضه".
وقوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} صفة لـ {إصراً} أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذ بحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}
وقوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات. والتضعيف فيه للتعدية. وقيل: هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم. والطاقة في الأصل الإطاقة خففت بحذف الهمزة كما قالوا: جابة وإجابة وطاعة وإطاعة.
والقول في هذين الدعائين كالقول في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا}.
وقوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} لم يأت مع هذه الدعوات بقوله ربنا، إما لأنه تكرر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلا في مقام التهويل، وإما لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله: {ربنا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه الأولى؛ فإن العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرة أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلما كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنه
(2/602)

دعاء واحد.
وقوله: {أَنْتَ مَوْلانَا} فصله لأنه كالعلة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنك مولانا، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية.
وقوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأن شأن المولى أن ينصر مولاه، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي:
رأيت موالي الأولي يخذلونني ... على حدثان الدهن إذ يتقلب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر، لأنهم جعلوه مرتباً على وصف محقق، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]. وفي حديث يوم أحد لما قال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزى لكم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه الله مولانا ولا مولى لكم". ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا نصروا على العدو، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجاً.
وفي "الصحيح"، عن أبي مسعود الأنصاري البدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" وهما من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الى آخر السورة. قيل: معناه كفتاة عن قيام الليل، فيكون معنى من قرأ من صلى بهما، وقيل: معناه كفتاه بركةً وتعوذاً من الشياطين، والمضار، ولعل كلا الاحتمالين مراد.
(2/603)

المجلد الثالث
سورة آل عمران
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
سميت هذه السورة، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة: سورة آل عمران، ففي "صحيح مسلم" ، عن أبي أمامة: قال سمعت رسول الله يقول "إقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" وفيه عن النواس بن سمعان: قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران" وروى الدارمي في "مسنده" : أن عثمان بن عفان قال: "من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة" وسماها ابن عباس، في حديثه في "الصحيح" ، قال: "بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران" . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها.
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الآلوسي أنها تسمى: الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي، في المسألة الثالثة والرابعة، من تفسير أول السورة.
وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق، بعد سورة البقرة، فقيل، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، وقيل: نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا، ثم البقرة، ثم نزلت سورة آل عمران، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر، وهذا يقتضي: أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر، وأن فيها ذكر يوم
(3/5)

أحد، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا. وذكر الواحدي في أسباب النزول، عن المفسرين: أن أول هذه السورة إلى قوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84] نزل بسبب وفد نجران، وهو وفد السيد والعاقب، أي سنة اثنين من الهجرة، ومن العلماء من قالوا: نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال، وكان نزولها في وقعة أحد، أي شوال سنة ثلاث، وهذا أقرب، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] أنه قتال يوم أحد. وكذلك قوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران:121] قاله القرطبي في أول السورة، وفي تفسير قوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] الآية. وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة: إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة، فليس معنى قولهم: نزلت سورة كذا بعد سورة كذا، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها.
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن.
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون.
واشتملت هذه السورة، من الأغراض: على الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله: من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله، وذكر الذين آمنوا به حقا، وإبطال إلهية عيسى، ومن ثم أفضى
(3/6)

إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن. ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح، وفيهم رهبان مشاهير، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله:
فكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح، وهو أمير الوفد، ومعه السيد واسمه الأيهم، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد، ومشيره وذو الرأي فيه، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم، وفيهم أخو أبي حارثة، ولم يكن من أهل نجران، ولكنه كان ذا رتبة: شرفه ملوك الروم ومولوه. فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجادلهم في دينهم، وفي شأن إلوهية المسيح، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، فأجابوا ثم استعظموا ذلك، وتخلصوا منه، ورجعوا إلى أوطانهم، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق. وذكر ذلك الواحدي والفخر، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهم وهما انجر
(3/7)

إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود. والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود.
[1] {ألم}
لما كان أول أغراض هذه السورة، الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانية، لا جرم افتتحت بحروف التهجي، المرموز لها إلى تحدي المكذبين بهذا الكتاب، وكان الحظ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العرب؛ لأن اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثل السموأل، وهذا وما بعده إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} [آل عمران:33] تمهيد لما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك.
وتقدم القول في معاني {آلم} أول البقرة.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ [3] مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [4]
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [2] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ}
ابتدئ الكلام بمسند إليه خبره فعلي: لإفادة تقوية الخبر اهتماما به.
وجيء بالاسم العلم: لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، جملة معترضة أو حالية، ردا على المشركين، وعلى النصارى خاصة. وأتبع بالوصفين {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية، وأن غيره لا يستأهلها؛ لأنه غير حي أو غير قيوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوم، ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذي في الله، وكذب، واختفى من أعدائه. وقد مضى القول في معنى {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} في تفسير آية الكرسي.
(3/8)

وقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} خبر عن اسم الجلالة. والخبر هنا مستعمل في الامتنان، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب: الذين أنكروا ذلك. وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر، أو للدلالة مع ذلك على الاختصاص: أي الله لا غيره نزل عليك الكتاب إبطالا لقول المشركين: إن القرآن من كلام الشيطان، أو من طرائق الكهانة، أو يعلمه بشر.
والتضعيف في {نَزَّلَ} للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل، وإنما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كميته، في الفعل المتعدي بغير التضعيف، من أجل أنهم قد أتوا ببعض الأفعال المتعدية، للدلالة على ذلك، كقولهم: فسر وفسر، وفرق وفرق، وكسر وكسر، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل، كما قالوا: مات وموت وصاح وصيح. فإما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنه يدل على تقوية الفعل، إلا أن يقال: إن العدول عن التعدية بالهمز، إلى التعدية بالتضعيف، بقصد ما عهد في التضعيف من تقوية معنى الفعل، فيكون قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أهم من قوله {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} على عظم شأن نزول القرآن، وقد بينت ذلك مستوفى في المقدمة الأولى من هذا التفسير، ووقع في "الكشاف" ، هنا وفي مواضع متعددة، أن قال: إن نزل يد على التنجيم وإن أنزل يدل على أن الكتابين أنزلا جملة واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المدعى للفعل المضاعف، إلا أن يعني أن نزل مستعمل في لازم التكثير، وهو التوزيع ورده أبو حيان بقول تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32] نزل عليك القرءان جملة واحدة فجمع بين التضعيف وقوله {جُمْلَةً وَاحِدَةً} . وأزيد أن التوراة والإنجيل نزلا مفرقين كشأن كل ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة، وهو الحق؛ إذ لا يعرف أن كتابا نزل على رسوله دفعة واحدة. والكتاب: القرآن. والباء في قوله {بِالْحَقِّ} للملابسة، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105].
ومعنى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أنه مصدق للكتب السابقة له، وجعل السابق بين يديه: لأنه يجيء قبله. فكأنه يمشي أمامه.
والتوراة اسم للكتاب المنزل على موسى عليه السلام. وهو اسم عبراني أصلة طورا بمعنى الهدي، والظاهر أنه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل الطور؛ لأنها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى، فأطلق ذلك
(3/9)

الاسم على جميع كتب موسى، واليهود يقولون "سفر طورا" فلما دخل هذا الاسم إلى العربية أدخلوا عليه لام التعريف التي تدخل على الأوصاف والنكرات لتصير أعلاما بالغلبة: مثل العقبة، ومن أهل اللغة والتفسير من حاولوا توجيها لاشتقاقه اشتقاقا عربيا، فقالوا: إنه مشتق من الوري وهو الوقد، بوزن تفعلة أو فوعلة، وربما أقدمهم على ذلك أمران: أحدهما دخول حرف التعريف عليه، وهو لا يدخل على الأسماء العجمية، وأجيب بأن لا مانع من دخولها على المعرب كما قالوا: الإسكندرية، وهذا جواب غير صحيح؛ لأن الإسكندرية وزن عربي؛ إذ هو نسب إلى إسكندر، فالوجه في الجواب أنه إنما ألزم التعريف لأنه معرب عن اسم بمعنى الوصف اسم علم فلما عربوه ألزموه اللام لذلك.
الثاني أنها كتبت في المصحف بالياء، وهذا لم يذكروه في توجيه كونه عربيا، وسبب كتابته كذلك الإشارة إلى لغة إمالته.
وأما الإنجيل فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه.
وهو اسم معرب قيل من الرومية وأصله "إثانجيليوم" أي الخبر الطيب، فمدلوله مدلول اسم الجنس، ولذلك أدخلوا عليه كلمة التعريف في اللغة الرومية، فلما عربه العرب أدخلوا عليه حرف التعريف، وذكر القرطبي عن الثعلبي أن الإنجيل في السريانية وهي الآرامية أنكليون ولعل الثعلبي اشتبه عليه الرومية بالسريانية، لأن هذه الكلمة ليست سريانية وإنما لما نطق بها نصارى العراق وظنها سريانية، أو لعل في العبارة تحريفا وصوابها اليونانية وهو في اليونانية "أووانيليون" أي اللفظ الفصيح. وقد حاول بعض أهل اللغة والتفسير جعله مشتقا من النجل وهو الماء الذي يخرج من الأرض، وذلك تعسف أيضا. وهمزة الإنجيل مكسورة في الأشهر ليجري على وزن الأسماء العربية؛ لأن إفعيلا موجود بقلة مثل إبزيم. وربما نطق به يفتح الهمزة، وذلك لا نظير له في العربية.
و {مِنْ قَبْلُ} يتعلق {بأنزل} ، والأحسن أن يكون حالا أولى من التوراة والإنجيل، وهدى حال ثانية. والمضاف إليه قبل محذوف منوي معنى، كما اقتضاه بناء قبل على الضم، والتقدير من قبل هذا الزمان، وهو زمان نزول القرآن.
وتقديم {مِنْ قَبْلُ} على {هُدىً لِلنَّاسِ} للاهتمام به. وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] فالهدى الذي سبقه غير تام.
(3/10)

و {لِلنَّاسِ} تعريفه إما للعهد: وهم الناس الذين خوطبوا بالكتابين، وإما للاستغراق العرفي: فإنهما وإن خوطب بهما ناس معروفون، فإن ما اشتملا عليه يهتدي به كل من أراد أن يهتدي، وقد تهود وتنصر كثير ممن لم تشملهم دعوة موسى عليه وعيسى عليهما السلام، ولا يدخل في العموم الناس الذين دعاهم محمد صلى الله عليه وسلم: لأن القرآن أبطل أحكام الكتابين، وأما كون شرع من قبلنا شرعا لنا عند معظم أهل الأصول، فذلك فيما حكاه عنهم القرآن لا ما يوجد في الكتابين، فلا يستقيم اعتبار الاستغراق بهذا الاعتبار بل بما ذكرناه.
والفرقان في الأصل مصدر فرق كالشكران والكفران والبهتان، ثم أطلق عليه ما يفرق به بين الحق والباطل قال تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الفرقان:41] وهو يوم بدر. وسمي به القرآن قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] والمراد بالفرقان هنا القرآن؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة. وإعادة قوله {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} بعد قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} للاهتمام، وليوصل الكلام به في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران:4] الآية أي بآياته في القرآن.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
استئناف بياني ممهد إليه بقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لأن نفس السامع تتطلع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل.
وشمل قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} المشركين واليهود والنصارى في مرتبة واحدة، لأن جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو المراد بآيات الله هنا لأنه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنه آية من آيات الله؛ لأنه معجزة. وعبر عنهم بالوصول إيجازا؛ لأن الصلة تجمعهم، والإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .
وعطف قوله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} على قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} لأنه من تكملة هذا الاستئناف: لمجيئه مجيء التبيين لشدة عذابهم؛ إذ هو عذاب عزيز منتقم كقوله {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42].
(3/11)

والعزيز تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
والانتقام: العقاب على الاعتداء بغضب، ولذلك قيل للكاره: ناقم. وجيء في هذا الوصف بكلمة ذو الدالة على الملك للإشارة إلى أنه انتقام عن اختيار لإقامة مصالح العباد وليس هو تعالى مندفعا للانتقام بدافع الطبع أو الحنق.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [5]
استئناف يتنزل منزلة البيان لوصف الحي لأن عموم العلم يبين كمال الحياة. وجيء بشيء هنا لأنه من الأسماء العامة.
وقوله {فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} قصد منه عموم أمكنة الأشياء، فالمراد هنا من الأرض الكرة الأرضية: بما فيها من بحار، والمراد بالسماء جنس السماوات: وهي العوالم المتباعدة عن الأرض. وابتدئ في الذكر بالأرض ليتسنى التدرج في العطف إلى الأبعد في الحكم؛ لأن أشياء الأرض يعلم كثيرا منها كثير من الناس، أما أشياء السماء فلا يعلم أحد بعضها فضلا عن علم جميعها.
[6] {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء}
استئناف ثان يبين شيئا من معنى القيومية، فهو كبدل البعض من الكل، وخص من بين شؤون القيومية تصوير البشر لأنه من أعجب مظاهر القدرة؛ ولأن فيه تعريضا بالرد على النصارى في اعتقادهم إلهية عيسى من أجل أن الله صوره بكيفية غير معتادة فبين لهم أن الكيفيات العارضة للموجودات كلها من صنع الله وتصويره: سواء المعتاد، وغير المعتاد.
و {كَيْفَ} هنا ليس فيها معنى الاستفهام، بل هي دالة على مجرد معنى الكيفية؛ أي الحالة، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة؛ إذ لا ريب في أن كيف مشتملة على حروف مادة الكيفية، والتكيف، وهو الحالة والهيئة، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام، وليست كيف فعلا؛ لأنها لا دلالة فيها على الزمان، ولا حرفا لاشتمالها على مادة اشتقاق. وقد تجيء كيف اسم شرط إذا اتصلت بها ما
(3/12)

الزائدة وفي كل ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلا ما شذ من قولهم: كيف أنت. فإذا كانت استفهاما فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها، ملتزما تقديمها عليه؛ لأن للاستفهام الصدارة، وإذا جردت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء.
وأما الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافا إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة. وجرى في كلام بعض أهل العربية أن فتحة كيف فتحة بناء.
والأظهر عندي أن فتحة كيف فتحة نصب لزمتها لأنها دائما متصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوها، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء.
فكيف في قوله هنا {كَيْفَ يَشَاءُ} يعرب مفعولا مطلقا "ليصوركم"، إذ التقدير: حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفجر:6].
وجوز صاحب "المغني" أن تكون شرطية، والجواب محذوف لدلالة قوله {يُصَوِّرُكُمْ} عليه وهو بعيد؛ لأنها لا تأتي في الشرط إلا مقترنة بما. وأما قول الناس كيف شاء فعل فلحن. وكذلك جزم الفعل بعدها قد عد لحنا عند جمهور أئمة العربية.
ودل تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنه كذلك في الواقع؛ إذ هو مكون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبهة النصارى إذ توهموا أن تخلق عيسى بدوم ماء أب دليل على أنه غير بشر وأنه إله وجهلوا أن التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقا لما كان معدوما فكيف يكون ذلك المخلوق المصور في الرحم إلها.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
تذييل لتقرير الأحكام المتقدمة. وتقدم معنى العزيز الحكيم في قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفي افتتاح السورة بهذه الآيات براعة استهلال لنزولها في مجادلة نصارى نجران، ولذلك تكرر في هذا الطالع قصر الإلهية على الله تعالى في قوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} وقوله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
(3/13)

[7] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.
استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى، متعلق بالغرض المسوق له الكلام: وهو تحقيق إنزاله القرآن والكتابين من قبله، فهذا الاستئناف مؤكد لمضمون قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:3] وتميهد لقوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} لأن الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران، وصدرت بإبطال عقيدتهم في إلهية المسيح: بالإشارة إلى أوصاف الإله الحقة، توجه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعتراف نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وصف فيها بأنه روح الله؛ وأنه يحي الموتى وأنه كلمة الله، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلقوا به تعلق اشتباه وسوء بأويل.
وفي قوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى: لتكون الجملة، مع كونها تأكيدا وتمهيدا، إبطالا أيضا لقول المشركين: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] وقولهم {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5]. وكقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210- 212] وذلك أنهم قالوا: هو قول كاهن، وقول شاعر، واعتقدوا أن أقوال الكهان وأقوال الشعراء من إملاء الارئياء "جمع رئي" .
ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل، الذي هو مختص بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلا من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب.
وضمير {مِنْهُ} عائد إلى القرآن. و "منه" خبر مقدم و {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} مبتدأ.
والإحكام في الأصل المنع؛ قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق؛ لأن ذلك يمنع تطرق ما يضاد المقصود، ولذا سميت الحكمة حكمة، وهو حقيقة أو مجاز مشهور.
(3/14)

أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأن في وضوح الدلالة، منعا لتطرق الاحتمالات الموجبة للتردد في المراد.
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى، على طريقة الاستعارة لأن تطرق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعين أحد الاحتمالات، وذلك مثل تشابه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض.
وقوله {أُمُّ الْكِتَابِ} أم الشيء أصله وما ينضم إليه كثيرة وتتفرع عنه فروعه، ومنه سميت خريطة الرأس، الجامعة له: أم الرأس وهي الدماغ، وسميت الراية الأم؛ لأن الجيش ينضوي إليها، وسميت المدينة العظيمة أم القرى، وأصل ذلك أن الأم حقيقة في الوالدة، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة، فباعتبار هذين المعنيين، أطلق اسم الأم على ما ذكرنا، على وجه التشبيه البليغ. ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة، وتقدم ذلك في تسمية الفاتحة أم القرآن.
والكتاب: القرآن لا محالة؛ لأنه المتحدث عنه بقوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فليس قوله {أُمُّ الْكِتَابِ} هنا بمثل قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
وقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} المتشابهات المتماثلات، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهرا، كما في قوله تعالى {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه.
وقد أشارت الآية: إلى أن آيات القرآن صنفان: محكمات وأضدادها، التي سميت متشابهات، ثم بين أن المحكمات هي أم الكتاب، فعلمنا أن المتشابهات هي أضداد المحكمات، ثم أعقب ذلك بقوله {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أن المتشابهات هي التي لم يتضح المقصود من معانيها، فعلمنا أن صفة المحكمات، والمتشابهات، راجعة إلى ألفاظ الآيات.
ووصف المحكمات بأنها أم الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأم الأصل، المرجع، وهما متقاربان: أي هن أصل القرآن أو مرجعه، وليس يناسب هذين المعنيين إلا دلالة القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع، والآداب والمواعظ، وكانت أصولا لذلك: باتضاح دلالتها، بحيث تدل على
(3/15)

معان لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالا ضعيفا غير معتد به، وذلك كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [التورات:11] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41]. وباتضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوع إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.
والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلت على معان تشابهت في أن يكون كل منها هو المراد. ومعنى تشابهها: أنها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض، أو يكون معناها صادقا بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مرادا، فلا يتبين الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى.
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء. فعن ابن عباس: أن المحكم مالا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] والآيات من سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وأن المتشابه المجملات التي لم تبين كحروف أوائل السور.
وعن ابن مسعود، وابن عباس أيضا: أن المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مرادا هنا لعدم مناسبته للوصفين ولا لبقية الآية.
وعن الأصم: المحكم ما اتضح دليله، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبر، وذلك كقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11] فأولها محكم وآخرها متشابه.
وللجمهور مذهبان: أولهما أن المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك، في رواية أشهب، من جامع العتبية، ونسبه الخفاجي إلى الحنفيه وإليه مال الشاطبي في الموافقات.
وثانيهما أن المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيها، وإليه مال الفخر: فالنص والظاهر هما المحكم، لاتضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرقه احتمال
(3/16)

ضعيف، والمجمل والمؤول هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما: أي المؤول دالا على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالا على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية.
قال الشاطبي: فالتشابه: حقيقي، وإضافي، فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدا في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير.
وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] وقال {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.
وسبب وقوع المتشابهات في القرآن: هو كونه دعوة، وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع، فجاء على أسلوب مناسب لجمع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقاولة، فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلفة للعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأودعت العلوم المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات، كالبيع، متصلا بعضها ببعض، بل تلفيه موزعا على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة، ليخف تلقيه على السامعين، ويعتادوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرقة يضم بعضها إلى بعض بالتدبر. ثم إن إلقاء تلك الأحكام كان في زمن طويل، يزيد على عشرين سنة، ألقي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم، وتحملته مقدرتهم، على أن بعض تشريعه أصول لا تتغير، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم، فلذلك تجد بعضها عاما، أو مطلقا، أو مجملا، وبعضها خاصا، أو مقيدا، أو مبينا، فإذا كان بعض
(3/17)

المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصيات مثلا، فلعل بعضا منهم لا يتمسك إلا بعمومه، حينئذ، كالذي يرى الخاص والوارد بعد العام ناسخا، فيحتاج إلى تعيين التاريخ، ثم إن العلوم التي تعرض لها القرآن هي من العلوم العليا: وهي علوم فيما بعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، ما أوجب تشابها في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجاز القرآن: منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز بينته في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير. فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرض إليه، جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربما إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم.
على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:
أحدهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين، وثانيهما تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كل زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.
فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها. وأنها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب:
أولاها: عان قصد إيداعها في القرآن، وقصد إجمالها: إما لعدم قابلية البشر لفهمها، ولو في الجملة، إن قلنا بوجود المجمل، الذي أستأثر الله بعلمه، على ما سيأتي، ونحن لا نختاره، وإما لعدم قابليتهم لكنه فهمها، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم
(3/18)

قابلية بعضهم في عصر، أوجهة، لفهمها بالكنه ومن هذا أحوال القيامة، وبعض شؤون الربوبية كالإتيان في ظلل من الغمام، والرؤية، والكلام، ونحو ذلك.
وثانيتها: معان قصد إشعار المسلمين بها، وتعين إجمالها، مع إمكان حملها على معان معلومة، لكن بتأويلات: كحروف أوائل السور، ونحو {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]1.
ثالثتها: معان عالية ضاقت عن إيفاء كنهها اللغة الموضوعة لأقصى ما هو متعارف أهلها، فعبر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرب معانيها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان، الرؤوف، المتكبر،نور السماوات والأرض.
رابعتها: معان قصرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قرآنية عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي، نحو قوله {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر:5] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20] {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11] وذكر سد يأجوج ومأجوج2.
خامستها: مجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب، إلا أن ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى: لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية، وتوقف فريق في محملها تنزيها، نحو {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]3.
وسادستها: ألفاظ من لغات العرب لم تعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم: قريش
ـــــــ
1 لعل لفعل استوى خصوصية في اللغة أدركها أهل اللسان يومئذ كان بها أجدر بالدلالة على معنى تمكن الخالق من مخلوقه ولذلك اختير في الآيتين دون فعل غلب أو تمكن.
2 هذه الآيات دلت على معان عظيمة كشفتها العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والجغرافية وتفصيلها يحتاج إلى تطويل.
3إذ تطلق العين على الحفظ والعناية قال النابغة- عهدتك ترعاني بعين بصيرة- وتطلق اليد على القدرة والقوة قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} ويطلق الوجه على الذات تقول: فعلته لوجه زيد.
(3/19)

والأنصار مثل {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] ومثل {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:47]1 {إِنَّ إبراهيم لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36]2.
سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه، صار حقيقة عرفية: كالتيمم، والزكاة، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال: كالربا قال عمر نزلت آيات الربا في آخر ما أنزل فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينها وقد تقدم في سورة البقرة.
ثامنتها: أساليب عربية خفيت على أقوام فظنوا الكلام بها متشابها، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومثل المشاكلة في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فيعلم أن إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة.
وتاسعتها: آيات جاءت على عادات العرب، ففهمها المخاطبون، وجاء من بعدهم فلم يفهموها، فظنوها من المتشابه، مثل قوله {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، في الموطإ قال ابن الزبير قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثا لم أتفقه لأرى بأسا على أحد إلا يطوف بالصفا والمروة فقالت له: ليس كما قلت إنما كان الأنصار يهلون لمناة الطاغية الخ. ومنه {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:187] {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:93] الآية فإن المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها.
عاشرتها: أفهام ضعيفة عدت كثيرا من المتشابه وما هو منه، وذلك أفهام الباطنية، وأفهام المشبه، كقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42].
وليس من المتشابه ما صرح فيه بأنا لا نصل إلى علمه كقوله {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
ـــــــ
1 روي أن عمر قرأ على المنبر {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} فقال:ما تقولون في التخوف فقام شيخ من هذيل فقال:هذه لغتنا التخوف التنقص فقالعمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال: نعم قول أبي بكر يصف ناقته:
تخوف الرجل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن.
2 عن ابن عباس:لا أدري ما الأواه وما الغسلين.
(3/20)

رَبِّي} [الإسراء:85] ولا ما صرح فيه بجهل وقته كقوله {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} الأعراف:187].
وليس من المتشابه ما دل على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر، منفصل عنه؛ لأن ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله تعالى خطابا لإبليس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] الآية في سورة الإسراء مع ما في الآيات المقتضية {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
وقد علمتم من هذا أن ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة: إما لضيقها عن المعاني، وإما لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإما لتناسي بعض اللغة، فيتبين لك أن الإحكام والتشابه: صفتان للألفاظ، باعتبار فهم المعاني.
وإنما أخبر عن ضمير آيات محكمات، وهو ضمير جمع، باسم مفرد ليس دالا على أجزاء وهو {أَمْ} ، لأن المراد أن صنف الآيات المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمه أي أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده. والمعنى: هن كأم للكتاب. ويعلم منه أن كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمنه من المعنى. وهذا كقول النابغة يذكر بني أسد:
فهم درعي التي استلأمت فيها
أي مجموعهم كالدرع لي، ويعلم منه أنه كل أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع. ومن هذا المعنى قوله تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
والكلام على أخر تقدم عند قوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنه لما قسم الكتاب إلى محكم ومتشابه، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني، تشوقت النفس إلى معرفة تلقي الناس للمتشابه. أما المحكم فتلقي الناس له على طريقة واحدة، فلا حاجة إلى تفصيل فيه، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه: وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقيهم للمتشابهات؛ لأن بيان هذا هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام، وهو كشف شبهة الذين غرتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حق تأويلها، ويعرف حال قسيمهم وهم
(3/21)

الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيصرح بإجمال حال المهتدين في تلقي متشابهات القرآن.
والقلوب محال الإدراك، وهي العقول، وتقدم ذلك عند قوله تعالى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] في سورة البقرة.
والزيغ: الميل والانحراف عن المقصود: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم:17] ويقال: زاغت الشمس. فالزيغ أخص من الميل؛ لأنه ميل عن الصواب والمقصود.
والاتباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه. شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه.
وقد ذكر علة الاتباع، وهو طلب الفتنة، وطلب أن يؤولوه، وليس طلب تأويله في ذاته بمذمة، بدليل قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كما سنبينه وإنما محل الذم أنهم يطلبون تأويلا ليسوا أهلا له فيؤولونه بما يوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحدة وأهل الأهواء: الذين يتعمدون حمل الناس على متابعتهم تكثيرا لسوادهم.
ولما وصف أصحاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم، علمنا أنه ذمهم بذلك لهذا المقصد، ولاشك أن كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضيا إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم. فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون، والزنادقة، والمشركون مثال تأويل المشركين: قصة العاصي بن وائل من المشركين إذ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجرا، فقال العاصي متهكما به وإني لمبعوث بعد الموت أي حسب اعتقادكم فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد فالعاصي توهم، أو أراد الإيهام، أن البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدعى إلى تكذيب الخبر بالبعث، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات، ولذلك كانوا يقولون {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36].
ومثال تأويل الزنادقة: ما حكاه محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي قال: كنت بمكة حين كان الجنابي زعيم القرامطة بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون: أليس قال لكم محمد المكي "ومن دخله كان آمنا فأي أمن هنا؟" قال: فقلت له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمر أي ومن دخله فأمنوه، كقوله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228]. والذين شابهوهم في ذلك كل قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم،
(3/22)

ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصبات. وكل من يتأول المتشابه على هواه، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل أو استعمال عربي.
وقد فهم أن المراد: التأويل بحسب الهوى، أو التأويل الملقي في الفتنة، بقرينة قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية، كما فهم من قوله {فَيَتَّبِعُونَ} أنهم يهتمون بذلك، ويستهترون به، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسر المتشابه ويؤوله إذا دعاه داع إلى ذلك، وفي "البخاري" عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس "إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي" قال: "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" قال: "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" وقال: "ولا يكتمون الله حديثا" قال: "قالوا والله ربنا ما كنا مشركين". قال ابن عباس فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. فأما قوله {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون: تعالوا نقل: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواهم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا. وأخرج البخاري، عن عائشة: قالت "تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله {أولو الألباب} قالت قال رسول الله: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سماهم الله فاحذروهم" .
ويقصد من قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} التعريض بنصارى نجران؛ إذ ألزموا المسلمين بأن القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أن ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولاشك أن هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أن في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
جملة حال أي وهم لا قبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم، كما قيل في المثل "ليس بعشك فادرجي".
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو
(3/23)

بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي1 فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضربا موجعا، وكرر ذلك أياما، فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا.
قال ابن العربي في "العواصم من القواصم" - "من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية" . قلت: أما الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها، وتأولوه بحسب أهوائهم، وأما الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سبب التشابه واقعا، فالأولون دخلوا في قوله {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، والأخيرون خردوا من قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أو وما يعلم تأويله إلا الله، فخالفوا الخلف والسلف. قال ابن العربي "في العواصم" وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله يعني أنهم اخذوا بظاهر قوله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم.
والمراد الراسخون في العلم: الذين تمكنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه.
ولذا فقوله {وَالرَّاسِخُونَ} معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم: كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] وإلى هذا التفسير مال ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد،
ـــــــ
1 صبيغ بصاد مهملة وباء موحدة وتحتية وغين معجمة بوزن أمير- وعسل- بعين مهملة مكسورة وسين مهملة ساكنة.
(3/24)

والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة، ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه؛ لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أي شيء رسوخهم. وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس: أنه قال في هاته الآية "أنا ممن يعلم تأويله".
وقيل: الوقف على قوله {إِلَّا اللَّهَ} وإن جملة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفراء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين.
ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فأنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات، وهو تأويل المتشابه، على أن أل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة يقولون آمنا به خبرا، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو إن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله.
وفي قوله {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} إشعار بأن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.
واحتج أصحاب الرأي الثاني، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة: بأن الظاهر أن يكون جملة والراسخون مستأنفة لتكون معادلا لجملة {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، والتقدير: وأما الراسخون في العلم. وأجاب التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورا، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه. واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} قال الفخر: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ
(3/25)

الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة، وذكر الفخر حججا غير مستقيمة.
ولا يخفى أن أهل القول الأول لا يثبتون متشابها غير ما خفي المراد منه، وأن خفاء المراد متفاوت، وأن أهل القول الثاني يثبتون متشابها استأثر الله بعلمه، وهو أيضا متفاوت؛ لأن منه ما يقبل تأويلات قريبة، وهو مما ينبغي ألا يعد من المتشابه في اصطلاحهم، لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سهل تأويلها مثل {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] دل على أنهم يسدون باب التأويل في المتشابه، قال الشيخ ابن عطية إن تأويل ما يمكن تأويله لا يعلم تأويله على الاستيفاء إلا الله تعالى فمن قال، من العلماء الحذاق: بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال.
وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابها: من آيات القرآن، ومن صحاح الأخبار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان رأي فريق منهم الإيمان بها، على إبهامها وإجمالها، وتفويض العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلف علمائنا، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، ويعبر عنها بطريقة السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، أي أشد سلامة لهم من أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم، وانصرافهم عن التعمق في طلب التأويل.
وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعان من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز، واستعارة، وتمثيل، مع وجود الداعي إلى التأويل، وهو تعطش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلة القرآن والسنة، ويعبر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون: طريقة الخلف أعلم، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم لجدال الملحدين، والمقنع لمن يتطلبون الحقائق من المتعلمين، قد يصفونها بأنها أحكم أي أشد إحكاما؛ لأنها تقنع أصحاب الأغراض كلهم. وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسرين وعلماء الأصول، ولم اقف على تعيين أول من صدر
(3/26)

عنه، وقد تعرض الشيخ ابن تيمية في "العقيدة الحموية" إلى رد هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل. والموصوف بأسلم وبأعلم الطريقة لا أهلها؛ فإن أهل الطريقتين من أئمة العلم، وممن سلموا في دينهم من الفتن.
وليس في وصف هذه الطريقة، بأنها أعلم أو أحكم، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأن العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي، وهديهم النبوي، وفيهم من لا يعير البحث عنها جانبا من همته، مثل سائر العامة. فلا جرم كان طي البحث عن تفصيلها أسلم للعموم، وكان تفصيلها بعد ذلك أعلم لمن جاء بعدهم، بحيث لو لم يؤولوها به لأوسعوا، للمتطلعين إلى بيانها، مجالا للشك أو الإلحاد. أو ضيق الصدر في الاعتقاد.
واعلم أن التأويل منه ما هو واضح بين، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يعادل حمل اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه. فهذا القسم من التأويل حقيق بألا يسمى تأويلا، وليس أحد محمليه بأقوى من الآخر إلا أن أحدهما أسبق في الوضع من الآخر، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتض ترجيح ذلك المعنى، فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الإفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه.
وتسمية هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية. وعده من المتشابه جمود.
ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكن القرائن أو الأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعد من المتشابه.
ثم إن تأويل اللفظ في مثله يتيسر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنه المراد إذا جرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] وقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] فمن أخذوا من مثله أن لله أعينا لا يعرف كنهها، أو له يدا ليست كأيدينا، فقد زادوا في قوة الاشتباه.
ومنه ما يعبر تأويله احتمالا وتجويزا بأن يكون الصرف عن الظاهر متعينا وأما حمله على ما أولوه به فعلى وجه الاحتمال والمثال، وهذا مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:
(3/27)

210] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يدعي أحد أن ما أوله به المراد منه ولكنه وجه تابع لإمكان التأويل، وهذا النوع أشد مواقع التشابه والتأويل.
وقد استبان لك من هذه التأويلات: أن نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور.
وقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حال من الراسخون أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه: يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد؛ لأن شأن المعتقد أن يقول معتقده، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا: لماذا لم يجيء الكلام كله واضحا، ويتطرقهم من ذلك إلى الريبة في كونه من عند الله، فلذلك يقولون {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . ويحتمل أن المراد يقولون لغيرهم: أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين، الذين لا قبل لهم بإدراك تأويله، ليعلموهم الوقوف عند حدود الإيمان، وعدم التطلع إلى ما ليس بالإمكان، وهذا يقرب مما قاله أهل الأصول: إن المجتهد لا يلزمه بيان مدركه للعامي، إذا سأله عن مأخذ الحكم، إذا كان المدرك خفيا. وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقف على اسم الجلالة.
وعلى قول المتقدمين يكون قوله: {يَقُولُونَ} خبرا، ومعنى قوله: {آمَنَّا بِهِ} آمنا بكونه من عند الله، وإن لم نفهم معناه.
وقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي كل من المحكم والمتشابه. وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم {آمَنَّا بِهِ} فلذلك قطعت الجملة. أي كل من المحكم والمتشابه، منزل من الله.
وزيدت كلمة عند للدلالة على أن من هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه، وليس كقوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 197].
وجملة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تذييل، ليس من كلام الراسخين، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم.
والألباب: العقول، وتقدم عند قوله تعالى {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في سورة البقرة [197].
(3/28)

{ربَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [8] رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [9]
دعاء علمه النبي صلى الله عليه وسلم، تعليما للأمة: لأن الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلا من عقلاء البشر، لا تفاوت بينهم وبين الراسخين في الإنسانية، ولا في سلامة العقول والمشاعر، فما كان ضلالهم إلا من حرمانهم التوفيق، واللطف، ووسائل الاهتداء.
وقد علم من تعقيب قوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:7] الآيات بقوله {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أن من جملة ما قصد بوصف الكتاب بأن منه محكما ومنه متشابها، إيقاظ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبر كتابها: تحذيرا لها من الوقوع في الضلال، الذي أوقع الأمم في كثير منه وجود المتشابهات في كتبها، وتحذيرا للمسلمين من اتباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردة والعصيان، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتوهم أن التدين بالدين إنما كان لأجل وجود الرسول بينهم، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب، ففي الموطإ، عن الصنابحي: أنه قال قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.
فزيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواع من الخلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بالهدى، ولا يدري المؤمن، ولا العاقل، ولا الحكيم، ولا المهذب: أية ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأفن: أية ساعة تحف فيها به أسباب الإقلاع عما هو متلبس به من تغير خلق، أو خلق، أو تبدل خليط، قال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام:110] ولذا كان دأب القرآن قرن الثناء بالتحذير، والبشارة بالإنذار.
وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} تحقيق للدعوة على سبيل التلطف؛ إذ أسندوا الهدى إلى الله تعالى، فكان ذلك كرما منه، ولا يرجع الكريم في عطيته، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من
(3/29)

السلب بعد العطاء.
وإذ اسم للزمن الماضي متصرف، وهي هنا متصرفة تصرفا قليلا؛ لأنها لما أضيفت إليها الظرف كانت في معنى الظرفية، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبة تصرف، كما هي في يومئذ وحينئذ، أي بعد زمن هدايتك إيانا.
وقوله {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة، في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر. وجعلت الرحمة من عند الله لأن تيسير أسبابها، وتكوين مهيئاتها، بتقدير الله؛ إذ لو شاء الله لكان الإنسان معرضا لنزول المصائب والشرور في كل لمحة؛ فإنه محفوف بموجودات كثيرة، حية وغير حية، هو تلقائها في غاية الضعف، لولا لطف الله به إيقاظ عقله لاتقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلا إلى قصده، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور ولهذا قال تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19] ومن أجلى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة اللطف عند الاضطرار.
والقصر في قوله {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} للمبالغة، لأجل كمال الصفة فيه تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به. وفي هذه الجملة تأكيد بأن، وبالجملة الاسمية، وبطريق القصر.
وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليها، وهو يوم تكون الرحمة سببا للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز، كأنهم قالوا: هب لنا من لدنك رحمة، وخاصة يوم تجمع الناس كقول إبراهيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. على ما في تذكر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين، والعلماء والراسخين.
ومعنى {لا رَيْبَ فِيهِ} لا ريب فيه جديرا بالوقوع، فالمراد نفي الريب في وقوعه. ونفوه على طريقة نفي الجنس لعدم الاعتداد بارتياب المرتابين، هذا إذا جعلت فيه خبرا، ولك أن تجعله صفة لريب وتجعل الخبر محذوفا على طريقة لا النافية للجنس، فيكون التقدير: عندنا، أو لنا.
(3/30)

وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تعليل لنفي الريب أي لأن الله وعد بجمع الناس له، فلا يخلف ذلك، والمعنى: إن الله لا يخلف خبره، والميعاد هنا اسم مكان.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [10] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [11]
استئناف كلام ناشئ عن حكاية ما دعا به المؤمنون: من دوام الهداية، وسؤال الرحمة، وانتظار الفوز يوم القيامة، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة. وتعقيب دعاء المؤمنين، بذكر حال المشركين، إيماء إلى أن دعوتهم استجيبت. والمراد بالذين كفروا: المشركون، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل: الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قريظة والنضير وأهل نجران؛ ويرجح هذا بأنهم ذكروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود، فأن اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون. كما أن العرب أعلق بأخبار عاد وثمود، وأن الرد على النصارى من أهم أغراض هذه السورة. ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين: من المشركين، وأهل الكتابين، ويكون التذكير بفرعون لأن وعيد اليهود في هذه الآية أهم.
ومعنى تغني تجزي وتكفي وتدفع، وهو فعل قاصر يتعدى إلى المفعول بعن نحو ما أغنى عني ماليه.
ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع، كان مؤذنا بأن هنالك شيئا يدفع ضره، وتكفى كلفته، فلذلك قد يذكرون مع هذا الفعل متعلقا ثانيا ويعدون الفعل إليه بحرف من كما في هذه الآية، فتكون من للبدل والعوض على ما ذهب إليه في الكشاف، وجعل ابن عطية من للابتداء.
وقوله {مِنَ اللَّهِ} أي من أمر يضاف إلى الله؛ لأن تعليق هذا الفعل، تعليقا ثانيا، باسم ذات لا يقصد منه إلا أخص حال اشتهرت به، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة. والتقدير هنا من رحمة الله، أو من طاعته، إذا كانت من للبدل وكذا قدره في الكشاف، ونظره بقوله تعالى {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28]. وعلى جعل من للابتداء كما قال ابن عطية تقدر من غضب الله، أو من عذابه، أي غناء مبتدئا من ذلك: على حد قولهم: نجاه من كذا أي فصله منه، ولا
(3/31)

يلزم أن تكون (من) مع هذا الفعل، إذا عدي بعن، مماثلة لمن الواقعة بعد هذا الفعل الذي لم يعد بعن، لإمكان اختلاف معنى التعلق باختلاف مساق الكلام. والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ شيء مع ذكر المتعلقين كما في الآية، وبدون ذكر متعلقين، كما في قول أبي سفيان، يوم أسلم: لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا.
وانتصب قوله {شَيْئاً} على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئا من الغناء. وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفا، بله الغناء لهم، ولا يجوز أن يكون مفعول به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي.
وقد ظهر بهذا كيفية تصرف هذا الفعل التصرف العجيب في كلامهم، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشاف، وما دونها، في معنى هذا التركيب.
وقد مر الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخوْفِ} [البقرة:155]. وإنما خص الأموال والأولاد من بين أعلاق الذي كفروا؛ لأن الغناء يكون بالفداء لمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأولى من يدافع عن الرجل، من عشريته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤها، قال قيس بن الخطيم:
ثأرت عديا والخطيم ولم أضع ... ولاية أشياخ جعلت إزاءها
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخر ويتعاوض بها، وهي جمع مال، وغلب اسم المال في كلام جل العرب على الإبل قال زهير:
صحيحات مال طالعات بمخرم
وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنات والحوائط وفي الحديث كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بئرحاء، ويطلق المال غالبا على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "أين المال الذي عند أم الفضل" .
والظاهر أن هذا وعيد بعذاب الدنيا؛ لأنه شبه بأنه {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} إلى قوله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} وشأن المشبه به أن يكون معلوما؛ ولأنه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} .
وجيء بالإشارة في قوله {وَأُولَئِكَ} لاستحضارهم كأنهم بحيث يشار إلهم، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله {هُمْ وَقُودُ النَّارِ} . وعطفت هذه الجملة، ولم تفصل؛ لأن المراد من التي قبلها وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة
(3/32)

بقرينة قوله، في الآية التي بعد هذه: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]. والوقود بفتح الواو ما يوقد به كالضوء، وقد تقدم نظيره في قوله {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} في سورة البقرة.
وقوله {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} موقع كاف التشبيه موقع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المشبه به، والتقدير: دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، أي عادتهم وشأنهم كشأن آل فرعون.
والدأب: أصله الكدح في العمل وتكريره، وكأن أصل فعله متعد، ولذلك جاء مصدره على فعل، ثم أطلق على العادة لأنها تأتي من كثرة العمل، فصار حقيقة شائعة قال النابغة:
كدأبك في قوم أراك اصطنعتهم
أي عادتك، ثم استعمل الشأن كقول امرئ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وهو المراد هنا، في قوله {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} ، والمعنى: شأنهم في ذلك كشأن آل فرعون؛ إذ ليس في ذلك عادة متكررة، وقد ضرب الله لهم هذا المثل عبرة وموعظة؛ لأنهم إذا استقروا الأمم التي أصابها العذاب، وجدوا جميعهم قد تماثلوا في الكفر: بالله، وبرسله، وبآياته، وكفى بهذا الاستقراء موعظة لأمثال مشركي العرب، وقد تعين أن يكون المشبه به هو وعيد الاستئصال والعذاب في الدنيا؛ إذ الأصل أن حال المشبه، أظهر من حال المشبه به عند السامع.
وعليه فالأخذ في قوله {فأخذهم الله بذنوبهم} هو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:44-45].
وأريد بآل فرعون فرعون وآله؛ لأن الآل يطلق على أشد الناس اختصاصا بالمضاف إليه، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعة والتوطؤ على الكفر، كقوله {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم؛ إذ قوم الرجل قد يخالفونه، فلا يدل الحكم المتعلق بهم على أنه مساو لهم في الحكم، قال تعالى {أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:60] في كثير من الآيات نظائرها، وقال {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} [الشعراء:10-11].
(3/33)

وقوله كذبوا بيان لدأبهم، استئناف بياني. وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأن هلكهم معلوم عند أهل الكتاب، بخلاف هلك عاد وثمود فهو عند العرب أشهر؛ ولأن تحدي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئا تجاه ضلالهم؛ ولأنهم كانوا أقرب الأمم عهدا بزمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كقول شعيب {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] وكقول الله تعالى للمشركين {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76] وقوله {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79] وقوله {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137- 138].
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [12] قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [13]}
استئناف ابتدائي، للانتقال من النذارة إلى التهديد، ومن ضرب المثل لهم بأحوال سلفهم في الكفر، إلى ضرب المثل لهم بسابق أحوالهم المؤذنة بأن أمرهم صائر إلى زوال، وأن أمر الإسلام ستندك له صم الجبال. وجيء في هذا التهديد بأطنب عبارة وأبلغها؛ لأن المقام مقام إطناب لمزيد الموعظة، والتذكير بوصف يوم كان عليهم، يعلمونه. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:39] يحتمل أن المراد بهم المذكورون في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [آل عمران:116] فيجيء فيه ما تقدم والعدول عن ضير هم إلى الاسم الظاهر لاستقلال هذه النذارة.
والظاهر أن المراد بهم المشركون خاصة، ولذلك أعيد الاسم الظاهر، ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} إلى قوله {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وذلك مما شاهده المشركون يوم بدر.
وقد قيل: أريد بالذين كفروا خصوص اليهود، وذكروا لذلك سببا رواه الواحدي، في أسباب النزول: أن يهود يثرب كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدة فلما أصاب المسلمين يوم أحد ما أصابهم من النكبة. نقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أبي سفيان بمكة وقالوا لهم: لتكونن كلمتنا واحدة، فلما رجعوا إلى المدينة أنزلت هذه الآية.
(3/34)

وروى محمد بن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غلب قريشا ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود وقال لهم يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش وأسلموا فقد عرفتم، أني نبي مرسل فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا معرفة لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية. وعلى هاتين الروايتين فالغلب الذي أنذروا به هو فتح قريظة والنضير وخيبر، وأيضا فالتهديد والوعيد شامل للفريقين في جميع الأحوال.
وعطف {َبِئْسَ الْمِهَادُ} على {سَتُغْلَبُونَ} عطف الإنشاء على الخبر.
وقرأ الجمهور {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} كلتيهما بتاء الخطاب وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف، بياء الغيبة، وهما وجهان فيما يحكى بالقول لمخاطب، والخطاب أكثر: كقوله تعالى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] ولم يقل ربك ربهم.
والخطاب في قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} خطاب للذين كفروا، كما هو الظاهر؛ لأن المقام للمحاجة، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجة. فيكون من جملة المقول، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين، فيكون استئنافا ناشئا عن قوله ستغلبون؛ إذ لعل كثرة المخاطبين من المشركين، أو اليهود، أو كليهما، يثير تعجب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر.
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر.
والالتقاء: اللقاء، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة، واللقاء مصادفة الشخص شخصا في مكان واحد، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال:15] وسيأتي. والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان:
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
وهذه الآية تحتمل المعنيين.
وقوله {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} تفصيل للفئتين، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسم، الوارد بعد الإجمال والجمع.
والفئة: الجماعة من الناس؛ وقد تقدم الكلام عليها في قوله تعالى {كَمْ مِنْ فِئَةٍ
(3/35)

قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} في سورة البقرة[249].
والخطاب في {يَرَوْنَهُمْ} كالخطاب في قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ}.
والرؤية هنا بصرية لقوله {رَأْيَ الْعَيْنِ} . والظاهر أن الكفار رأوا المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا. فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال:44] فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم، حتى يتسخف المشركون بالمسلمين، فلا يأخذوا أهبتهم للقائم، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر للمسلمين بعجيب صنع الله تعالى. وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا؛ لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافوا الهزيمة، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال:44] ويكون ضمير الغيبة في قوله {مِثْلَيْهِمْ} راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول.
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب: ترونهم بتاء الخطاب وقرأه الباقون بياء الغيبة: على أنه حال من {أُخْرَى كَافِرَةٌ} ، أو من {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي مثلي عدد المرئين، إن كان الراءون هم المشركين، أو مثلي عدد الرائين، إن كان الراءون هم المسلمين؛ لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر، وكل فئة علمت رؤيتها وتحديت بهاته الآية. وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التعبير بفئتكم وفئتهم إلى قوله {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وأخرى كافرة، لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع، بطريقة التوجيه.
ورأي العين مصدر مبين لنوع الرؤية: إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب، وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية، كيف والرأي اسم للعقل، وتشاركها فيها رأى البصرية، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية.
وجملة {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} تذييل؛ لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين، قال تعالى {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
(3/36)

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 44].
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [14]
{زُيِّنَ}
استئناف نشأ عن قوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [آل عمران:10] إذ كانت إضافة أموال وأولاد إلى ضمير هم على أنها معلومة للمسلمين، قصد منه عظة المسلمين ألا يغتروا أولادهم بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا، وتلهيهم عن التهمم بها به الفوز في الآخرة، فإن التحذير يستدعي التحذير من البدايات، وقد صدر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس، حتى يكونوا على أشد الحذر منها؛ لأن ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس.
والتزيين تصيير الشيء زينا أي حسنا، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالة ما يعتريه من القبح أو التشويه، ولذلك سمي الحلاق مزينا.
وقال امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن: التي ترغب الناظرين في اقتنائه، قال تعالى {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وكلمة زين قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنها وخفتها قال عمر بن أبي ربيعة:
أزمعت خلتي مع الفجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا
وفي حديث سنن أبي داود : أن أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلما دخل أبو برزة قال عبيد الله لجلسائه: إن محمديكم هذا الدحداح. قال أبو برزة: ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيرونني بصحبة محمد. فقال عبيد الله إن صحبة محمد لك زين غير شين.
والشهوات جمع شهوة، وأصل الشهوة مصدر شهي كرضي، والشهوة بزنة المرة، وأكثر استعمال مصدر شهي أن يكون بزنة المرة. وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء
(3/37)

المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف، وتعليق التزيين بالحب جرى على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن المزين للناس هو الشهوات، أي المشتهيات نفسها، لا حبها، فإذا زينت لهم أحبوها؛ فإن الحب ينشأ عن الاستحسان، وليس الحب بمزين، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبوها، وقد سكت المفسرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق.
والوجه عندي إما أن يجعل {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} مصدرا نائبا عن مفعول مطلق، مبينا لنوع التزيين: أي زين لهم تزيين حب، وهو أشد التزيين، وجعل المفعول المطلق نائبا عن الفاعل، وأصل الكلام: زين للناس الشهوات حبا، فحول وأضيف إلى النائب عن الفاعل، وجعل نائبا عن الفاعل، كما جعل مفعولا في قوله تعالى {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32]. وإما أن يجعل حب مصدرا بمعنى المفعول، أي محبوب الشهوات أي الشهوات المحبوبة. وإما أن يجعل زين كناية مرادا به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزين من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار، فعبر عن ذلك بالتزيين، أي تحسين ما ليس بخالص الحسن فإن مشتهيات الناس تشمل على أمور ملائمة مقبولة، وقد تكون في كثير منها مضار، أشهدها أنها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزين تغطي نقائصه بالمزينات، وبذلك لم يبق في تعليق زين بحب إشكال.
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين، لأن ما يدل على الغرائز والسجايا، لما جهل فاعله في متعارف العموم، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول: كقولهم عني بكذا، واضطر إلى كذا، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين، وهو الإغضاء عما في المزين من المساوي؛ لأن الفاعل لم يبق مقصودا بحال، والمزين في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحب الشهوات، وذلك أمر جبلي جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} [يس:72].
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلة، كان فاعله على الحقيقة هو خالق هذه الجبلات، فالمزين هو الله بخلقه لا بدعوته، وروي مثل هذا عن عمر بن الخطاب، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة. كان المزين هو ميل النفس إلى المشتهى، أو ترغيب الداعين إلى تناول الشهوات: من الخلان والقرناء، وعن الحسن: المزين هو الشيطان، وكأنه ذهب إلى أن التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد،
(3/38)

وقصره على هذا وهو بعيد لأن تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلا إذا جعلها وسائل للحرام، وفي الحديث قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر. فقال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالح الأعمال على المشتهيات المخلوطة أنواعها بحلال منها وحرام، والمعرضة للزوال، فإن الكمال بتزكية النفس لتبلغ الدرجات القدسية، وتناول النعيم الأبدي العظيم، كما أشار إليه قوله {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} .
وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما، بيان بأصول الشهوات البشرية: التي تجمع مشتهيات كثيرة، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار، فالميل إلى النساء مركوز في الطبع، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل؛ إذ المرأة هي موضع التناسل، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلف ربما تعقبه سآمة، وفي الحديث: "ما تركت بعدي فتنتة أشد على الرجال من فتنة النساء" ولم يذكر الرجال لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنما تحصل المحبة منهن للرجال بالإلف والإحسان.
ومحبة الأبناء أيضا في الطبع: إذ جعل الله في الوالدين. من الرجال والنساء، شعورا وجدانيا يشعر بأن الولد قطعة منهما، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل، وببقائه بقاء النوع، فهذا بقاء النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه، وفي الولد أيضا حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع؛ لأن الإنسان يعرض له الضعف، بعد القوة، فيكون ولده دافعا عنه عداء من يعتدي عليه، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه.
والذهب والفضة شهوتان بحسن منظرهما وما يتخذ منهما من حلي للرجال والنساء، والنقدان منهما: الدنانير والدراهم، شهوة لما أودع الله في النفوس منذر العصور المتوغلة في القدم من حب النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها.
{وَالْقَنَاطِيرِ} جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل، وأصله معرب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية كما نقله النقاش عن الكلبي، وهو الصحيح؛ فإن أصله في اللاتينية كينتال وهو مائة رطل. وقال ابن سده: هو معرب عن السريانية. فما في الكشاف في
(3/39)

سورة النساء أن القنطار مأخوذ من قنطرت الشيء إذا رفعته، تكلف. وقد كان القنطار عند العرب، وزنا ومقدارا، من الثروة، يبلغه بعض المثرين: وهو لأن يبلغ ماله مائة رطل فضة، ويقولون: قنطر الرجل إذا بلغ ماله قنطارا وهو اثنا عشر ألف دينار أي ما يساوي قنطارا من الفضة، وقد يقال: هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب.
و {المقنطرة} أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة، لأن اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوف، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفة، يؤذن ذلك الاشتقاق بمبالغة في الحاصل به كقولهم: ليل أليل، وظل ظليل، وداهية دهياء، وشعر شاعر، وإبل مؤبلة، وآلاف مؤلفة.
{وَالخيْلِ} محبوبة مرغوبة، في العصور الماضية وفيما بعدها، لم ينسها ما تفنن فيه البشر من صنوف المراكب برا وبحرا وجوا، فالأمم المتحضرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية، ومن سفائن البحر العظيمة التي تسيرها آلات البخار، ومن السيارات الصغيرة المسيرة باللوالب تحركها حرارة النفط المصفى، ومن الطيارات في الهواء مما لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى، كل ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل، وجر العربات بمطهمات الأفراس، والعناية بالمسابقة بين الأفراس.
وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البذخ علم محبة ركوبها، قال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جوادا للذة
و {الْمُسَوَّمَةِ} الأظهر فيه ما قيل: إنه الراعية، فهو مشتق من السوم وهو الرعي، يقال: أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى، فتكون مادة فعل للتكثير أي التي تترك في المراعي مددا طويلة وإنما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل فأطال لها في مرج أو روضة.
وقيل: المسومة من السومة بضم السين وهي السمة أي العلامة من صوف أو نحوه، وإنما يجعلون لها ذلك تنويها بكرمها وحسن بلائها في الحرب، قال العتابي:
ولولاهن قد سومت مهري ... وفي الرحمان للضعفاء كاف
يريد جعلت له سومة أفراس الجهاد أي علامتها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في سورة البقرة [273].
(3/40)

{وَالْأَنْعَامِ} زينة لأهل الوبر قال تعالى {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6]، وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} الآيات في سورة النحل [5]، وقد لا تتعلق شهوات أهل المدن بشدة الإقبال على الأنعام لكنهم يحبون مشاهدها، ويعنون بالارتياح إليها إجمالا.
{وَالْحَرْثِ} أصله مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة ليزرع فيها أو يغرس، وأطلق هذا المصدر على المحروث فصار يطلق على الجنات والحوائط وحقول الزرع، وتقدم عند قوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} في سورة البقرة [223] وعند قوله {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] فيها.
والإشارة بقوله {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى جميع ما تقدم ذكره. وأفرد كاف الخطاب لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغير معين، على أن علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البعد، والبعد هنا بعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة.
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة.
ومعنى {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أن ثواب الله خير من ذلك. والمآب: المرجع، وهو هنا مصدر، مفعل من آب يؤوب، وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة، وقلبت الواو ألفا، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [15] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [16] الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [16]
استئناف بياني، فإنه نشأ عن قوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران:14] المقتضي أن الكلام مسوق مساق الغض من هذه الشهوات. وافتتح الاستئناف بكلمة {قُلْ} للاهتمام بالمقول، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم. والاستفهام للعرض تشويقا من نفوس المخاطبين إلى تلقي ما سيقص عليهم كقوله تعالى {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآية.
(3/41)

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: {أوُنَبِّئُكُمْ} بتسهيل الهمزة الثانية واوا. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وروح عن يعقوب، وخلف: بتحقيق الهمزتين.
وجملة {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} مستأنفة وهي المنبأ به، ويجوز أن يكون {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} متعلقا بقوله خير، وجنات مبتدأ محذوف الخبر: أي لهم، أو خبرا لمبتدأ محذوف. وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة؛ لأن لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة، للاستغناء عنها، وكذلك لذة الخيل والأنعام؛ إذ لا دواب في الجنة، فبقي ما يقابل النساء والحرث، وهو الجنات والأزواج، لأن بهما تمام النعيم والتأنس، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرمه من جعل حظه لذات الدنيا وأعرض عن الآخرة. ومعنى المطهرة المنزهة مما يعتري نساء البشر مما تشمئز منه النفوس، فالطهارة هنا حسية ى معنوية.
وعطف {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} على ما أعد للذين اتقوا عند الله: لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي؛ لأن رضوان الله تقريب روحاني قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
وقرأ الجمهور: {رِضْوَانٌ} بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم: بضم الراء وهما لغتان.
وأظهر اسم الجلالة في قوله {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربهم: لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان.
وجملة {والله بصير بالعباد} اعتراض لبيان الوعد أي أنه عليم بالذين اتقوا ومراتب تقواهم، فهو يجازيهم، ولتضمن بصير معنى عليم عدي بالباء. وإظهار اسم الجلالة في قوله {والله بصير بالعباد} لقصد استقلال الجملة لتكون كالمثل.
وقوله {الَّذِينَ يَقُولُونَ} عطف بيان {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وصفهم بالتقوى وبالتوجه إلى الله تعالى بطلب المغفرة. ومعنى القول هنا الكلام المطابق للواقع في الخبر، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء، في قولهم {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الخ، وإنما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يجازى هذا الجزاء من قال ذلك بفمه ولم يعمل له.
(3/42)

وقوله { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية صفات للذين اتقوا، أو صفات للذين يقولون، والظاهر الأول. وذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين: وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أود الأمة بكفاية حاج المحتاجين، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل، والسحر سدس الليل الأخير؛ لأن العبادة فيد أشد إخلاصا، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنه وقت صفاء السرائر، والتجرد عن الشواغل.
وعطف الصفات في قوله: {الصَّابِرِينَ} ، وما بعده: سواء كان قوله {الصَّابِرِينَ} صفة ثانية، بعد قوله {الَّذِينَ يَقُولُونَ} ، أم كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم، فيكون، بالعطف وبدونه، مثل تعدد الأخبار والأحوال؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات. وفي الكشاف ؛ أن في عطف الصفات نكتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كل صفة منها، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] مع أنه لم يبين هنالك شيئا من هذا، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك، وكلامه يقتضي أن الأصل عنده في تعدد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذنا بمعنى خصوصي، يقصد البيلغ، ولعل وجهه أن شأن حرف العطف أن يستغنى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات، وليس كذلك الصفات، فإذا عطفت فقد نزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة، وما ذلك إلا لقوة الموصوف في تلك الصفة، حتى كأن الواحد صار عددا، كقولهم واحد كألف، ولا أحسب لهذا الكلام تسليما. وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة البقرة.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [18]
استئناف وتمهيد لقوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ذلك أن أساس الإسلام هو توحيد الله. وإعلان هذا التوحيد، وتخليصه من شوائب الإشراك، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك، وفيه ضرب من رد العجز
(3/43)

على الصدر: لأنه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:2-3].
والشهادة حقيقتها خبر يصدق به خبر مخبر وقد يكذب به خبر آخر كما تقدم عند قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} في سورة البقرة[282]. وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق، كان مظنة اهتمام المخبر به والتثبت فيه، فلذلك أطلق مجازا على الخبر الذي لا ينبغي أن يشك فيه قال تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم، فشهادة الله تحقيقه وحدانيته بالدلائل التي نصبها على ذلك، وشهادة الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة.
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبر بالمخبر، ولك أن تجعل شهد بمعنى بين وأقام الأدلة، شبه إقامة الأدلة على وحدانيته: من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقيلة، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التبعية، وبين ذلك الملائكة بما نزلوا به من الوحي على الرسل، وما نطقوا به من محامد، وبين ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين: إقرار الملائكة، واحتجاج أولي العلم، ثم تبنيه على استعمال شهد في معان مجازية، مثل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم، وهو الإظهار، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام، بناء على عموم المجاز.
وانتصب {قَائِماً بِالْقِسْطِ} على الحال من الضمير في قوله {إِلَّا هُوَ} أي شهد بوحدانيته وقيامه بالعدل، ويجوز أن يكون حالا من اسم الجلالة من قوله {شَهِدَ اللَّهُ} فيكون حالا مؤكدة لمضمون شهد؛ لأن الشهادة هذه قيام بالقسط، فالشاهد بها قائم بالقسط، قال تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]. وزعم ابن هشام في الباب الرابع: أن كونه حالا مؤكدة وهم، وعلله بما هو وهم، وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعراب مثل هذه الحال في سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب.
(3/44)

والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} لأالرعد:33] وقوله {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] وتقول: الأمير قائم بمصالح الأمة، كما تقول: ساهر عليها، ومنه إقام الصلاة وقول أيمن بن خريم الأنصاري:
أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا
وهو في الجميع تمثيل.
والقسط: العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنه قال: القسطاس: العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان، لأنه آلة للعدل قال تعالى {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء:35] وقال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]. وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نظمها، وفي تقدير بقاء الأنواع، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل: لدفع ظلم بعضهم بعضا، وظلمهم أنفسهم، فهو القائم بالعدل سبحانه، وعدل الناس مقتبس من محاكاة عدله.
وقوله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تمجيد وتصديق، نشأ عن شهادة الموجودات كلها له بذلك فهو تلقين الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] أي اقتداء بالله وملائكته، على أنه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة، ويمهد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم.
[19] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.
قرأ جمهور القراء {إِنَّ الدِّينَ} بكسر همزة إن فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بأجمع عبارة وأوجزها.
وهذا شروع في أول غرض أنزلت فيه هذه السورة: غرض محاجة نصارى نجران، فهذا الاستئناف من مناسبات افتتاح السورة بذكر تنزيل القرآن والتوراة والإنجيل، ثم بتخصيص القرآن بالذكر وتفضيله بأن هديه يفوق هدي ما قبله من الكتب،إذ هو الفرقان،
(3/45)

فإن ذلك أس الدين القويم، ولما كان الكلام المتقدم مشتملا على تعريض باليهود والنصارى الذي كذبوا بالقرآن، وإبطال لقول وفد نجران لما طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام "أسلمنا قبلك" فقال لهم كذبتم روى الواحدي، ومحمد بن إسحاق: أن وفد نجران لما دخلوا المسجد النبوي تكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله أسلما قالا: "قد أسلمنا قبلك" قال: "كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب"، ناسب أن ينوه بعد ذلك بالإسلام الذي جاء به القرآن، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} .
واعلم أن جمل الكلام البليغ لا يخلو انتظامها عن المناسبة، وإن كان بعضها استئنافا، وإنما لا تطلب المناسبة في المحادثات والاقتضابات.
وتوكيد الكلام بـ {أَنَّ} تحقيق لما تضمنه من حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام: أي الدين الكامل.
وقرأ الكسائي {أَنَّ الدِّينِ} بفتح همزة أن على أنه بدل من {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18]، أي شهد الله بأن الدين عند الله الإسلام،
والدين: حقيقته في الأصل الجزاء، ثم صار حقيقة عرفية يطلق على: مجموع عقائد وأعمال يلقنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب. ثم أطلق على ما يشبه ذلك مما يضعه بعض زعماء الناس من تلقاء عقله فتلتزمه طائفة من الناس. وسمي الدين دينا لأنه يترقب منه متبعه الجزاء عاجلا أو آجلا، فما من أهل دين إلا وهم يترقبون جزاء من رب ذلك الدين، فالمشركون يطمعون في إعانة الآلهة ووساطتهم ورضاههم عنهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل. وقال يوم فتح مكة لما قال له العباس: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله: لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا. وأهل الأديان الإلهية يترقبون الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، فأول دين إلهي كان حقا وبه كان اهتداء الإنسان، ثم طرأت الأديان المكذوبة، وتشبهت بالأديان الصحيحة، قال الله تعالى تعليما لرسوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وقال {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76].
وقد عرف العلماء الدين الصحيح بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنا وظاهرا.
(3/46)

والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كما أطلق على ذلك الإيمان أيضا، ولذلك لقب أتباع هذا الدين بالمسلمين وبالمؤمنين، وهو الإطلاق المراد به هنا، وهو تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند إذعانان عن اعتراف بحق لا عن عجز، وهذا اللقب أولى بالإطلاق على هذا الدين من لقب الإيمان؛ لأن الإسلام هو المظهر البين لمتابعة الرسول فيما جاء به من الحق، واطراح كل حائل يحول دون ذلك، بخلاف الإيمان فإنه اعتقاد قلبي، ولذلك قال الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78] وقال {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] ولأن الإسلام لا يكون إلا عن اعتقاد لأن الفعل أثر الإدراك، بخلاف العكس فقد يكون الاعتقاد مع المكابرة.
وربما أطلق الإسلام على خصوص الأعمال؛ والإيمان على الاعتقاد، وهو إطلاق مناسب لحالتي التفكيك بين الأمرين في الواقع، كما في قوله تعالى، خطابا لقوم أسلموا مترددين {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أو التفكيك في تصوير الماهية عند التعليم لحقائق المعاني الشرعية أو اللغوية كما وقع في حديث جبريل: من ذكر معنى الإيمان، والإسلام، والإحسان.
والتعريف في الدين تعريف الجنس، إذ لا يستقيم معنى العهد الخارجي هنا وتعريف الإسلام تعريف العلم بالغلبة: لأن الإسلام صار علما بالغلبة على الدين المحمدي.
فقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكد هذا الانحصار بحرف التوكيد.
وقوله: {عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وصف للدين، والعندية عندية الاعتبار والاعتناء وليست عندية علم: فأفاد، أن الدين الصحيح هو الإسلام، فيكون قصرا للمسند إليه باعتبار قيد فيه، لا في جميع اعتباراته: نظير قول الخنساء:
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
فحصرت الحسن في بكائه قاعدة أن المقصور هو الحسن لأنه هو المعرف باللام، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقت قبح البكاء على القتلى وهو قصر حسن بكائها على ذلك الوقت، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلا صاحب المطول.
(3/47)

وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول: إما باعتبار أن الدين الصحيح عند الله، حين الإخبار، وهو الإسلام، لأن الخبر ينظر إلى وقت الإخبار؛ إذ الأخبار كلها حقائق في الحال، ولا شك أن وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما اختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدمه من الأديان لم يكن بالغا غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، وهذا المعنى أولى محملي الآية، لأن مفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تجاه بقية الأديان الإلهية أتم.
ذلك أن مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوق لدقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى مما شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، فجعل الله الشرائع مناسبة لقابيليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكنوا من العمل بها بدوام وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدين أن يكون ذلك التعليم الديني دأبا وعادة لمنتحليه، وحيث النفوس لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتفق مع مدركاتها، لا جرم تعين مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان، ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة.
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالات عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رويدا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسببت في ائتلاف تلك العوائد، إلا دواع غير منتشرة؛ لأنها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتصال به، وتحسين حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النظم المتقابسة هي نظم متساوية الأشكال؛ إذ كلها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاع عن النفس، ودفع الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة؛ لأن بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدات: وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لأحد الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلا عن التفكير في اقتباس إحداهما مما
(3/48)

يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عد الناس أنفسهم في منتهى السعادة.
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلا عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين: عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلا ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أن ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان.
فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصور عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسن من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلق حكمة الله تعالى، في قديم العصور، بتشريع شريعة جامعة صالحة لجميع البشر، بل كانت الشرائع تأتي إلى أقوام معينين؛ وفي حديث مسلم، في صفة عرض الأمم للحساب أن رسول الله قال: "فيجيء النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد" وفي رواية البخاري "فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط" الحديث. وبقي الحق في خلال ذلك مشاعا بين الأمم، ففي كل أمة تجد سدادا وأفنا، وبعض الحق لم يزل مخبوءا لم يسفر عنه البيان.
ثم أخذ البشر يتعارفون بسبب الفتوح والهجرة، وتقاتلت الأمم المتقاربة المنازل، فحصل للأمم حظ من الحضارة، وتقاربت العوائد، وتوسعت معلوماتهم، وحضارتهم، فكانت من الشرائع الإلهية: شريعة إبراهيم عليه السلام، ومن غيرها شريعة حمورابي في العراق، وشريعة البراهمة، وشريعة المصريين، التي ذكرها الله تعالى في قوله {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76].
ثم أعقبتها شريعة إلهية كبرى وهي شريعة موسى عليه السلام التي اختلط أهلها بأمم كثيرة في مسيرهم في التيه وما بعده، وجاورتها أو أعقبتها شرائع مثل شريعة زرادشت في الفرس، وشريعة كنفشيوس في الصين، وشريعة سولون في اليونان.
وفي هذه العصور كلها لم تكن إحدى الشرائع عامة الدعوة، وهذه أكبر الشرائع وهي الموسوية لم تدع غير بني إسرائيل ولم تدع الأمم الأخرى التي مرت عليها، وامتزجت
(3/49)

بها، وصاهرتها، وكذلك جاءت المسيحية مقصورة على دعوة بني إسرائيل حتى دعا الناس إليها القديس بولس بعد المسيح بنحو ثلاثين سنة.
إلى أن كان في القرن الرابع بعد المسيح حصول تقابس وتمازج بين أصناف البشر في الأخلاق والعائد، بسببين: اضطراري، واختياري. أما الاضطراري فذلك أنه قد ترامت الأمم بعضها على بعض، واتجه أهل الشرق إلى الغرب، وأهل الغرب إلى الشرق، بالفتوح العظيمة الواقعة بين الفرس والروم، وهما يومئذ قطبا العالم، بما يتبع كل واحدة من أمم تنتمي إلى سلطانها، فكانت الحرب سجالا بين الفريقين، وتوالت أزمانا طويلة.
وأما الاختياري فهو ما أبقاه ذلك التمازج من مشاهدة أخلاق وعوائد، حسنت في أعين رائيها، فاقتبسوها، وأشياء قبحت في أعينهم، فحذروها، وفي كلتا الحالتين نشأت يقظة جديدة، وتأسست مدنيات متفننة، وتهيأت الأفكار إلى قبول التغييرات القوية، فتهيأت جميع الأمم إلى قبول التعاليم الغريبة عن عوائدها وأحوالها، وتساوت الأمم وتقاربت في هذا المقدار، وإن تفاوتت في الحضارة والعلوم تفاوتا ربما كان منه ما زاد بعضها تهيئوا لقبول التعاليم الصحيحة، وقهقر بعضا عن ذلك بما داخلها من الإعجاب بمبلغ علمها، أو العكوف والإلف على حضارتها.
فبلغ الأجل المراد والمعين لمجيء الشريعة الحق الخاتمة العامة.
فأظهر الله دين الإسلام في وقت مناسب لظهوره، واختار أن يكون ظهوره بين ظهراني أمة لم تسبق لها سابقة سلطان، ولا كانت ذات سيادة يومئذ على شيء من جهات الأرض، ولكنها أمة سلمها الله من معظم رعونات الجماعات البشرية، لتكون أقرب إلى قبول الحق، وأظهر هذا الدين بواسطة رجل منها، لم يكن من أهل العلم، ولا من أهل الدولة، ولا من ذرية ملوك، ولا اكتسب خبرة سابقة بهجرة أو مخالطة، ليكون ظهور هذا الحق الصريح، والعلم الصحيح، من مثله آية على أن ذلك وحي من الله نفح به عباده.
ثم جعل أسس هذا الدين متباعدة عن ذميم العوائد في الأمم، حتى الأمة التي ظهر بينها، وموافقة للحق ولو كان قد سبق إليه أعداؤها، وكانت أصوله مبنية على الفطرة بمعنى ألا تكون ناظرة إلا إلى ما فيه الصلاح في حكم العقل السليم، غير مأسور للعوائد ولا للمذاهب، قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] قال الشيخ أبو علي ابن سينا: "الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعه وهو عاقل، لم يسمع
(3/50)

رأيا، ولم يعتقد مذهبا، ولم يعاشر أمة، لكنه شاهد المحسوسات، ثم يعرض على ذهنه الأشياء شيئا فشيئا فإن أمكنه الشك في شيء فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كل ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق منه ما تشهد به فطرة القوة التي تسمى عقلا، قبل أن يعترضه الوهم".
ويدخل في الفطرة الآداب العتيقة التي اصطلح عليها كافة عقلاء البشر، وارتاضت نفوسهم بها، إذا كانت تفيدهم كمالا، ولا تفضي إلى فساد، وذلك أصول قواعد حفظ النسب والعرض خاص. فبهذا الأصل: أصل الفطرة كان الإسلام دينا صالحا لجميع الأمم في جميع الأعصر.
ثم ظهر هذا الأصل في تسعة مظاهر خادمة له ومهيئة جميع الناس لقبوله.
المظهر الأول: إصلاح العقيدة بحمل الذهن على اعتقاد لا يشوبه تردد ولا تمويه ولا أوهام ولا خرافات، ثم بكون عقيدته مبنية على الخضوع لواحد عظيم، وعلى الاعتراف باتصاف هذا الواحد بصفات الكمال التامة التي تجعل الخضوع إليه اختيارا، ثم لتصير تلك الكمالات مطمح أنظار المعتقد في التخلق بها ثم بحمل جميع الناس على تطهير عقائدهم حتى يتحد مبدأ التخلق فيهم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64].
وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة، خوفا من لا شيء، وطمعا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزة النفس، وأصالة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وقد أكثر الإسلام شرح العقائد إكثارا لا يشبهه فيد دين آخر، بل إنك تنظر إلى كثير من الأديان الصحيحة، فلا ترى فيها من شرح صفات الخالق إلا قليلا.
المظهر الثاني: جمعه بين إصلاح النفوس، بالتزكية، وبين إصلاح نظام الحياة، بالتشريع، في حين كان معظم الأديان لا يتطرق إلى نظام الحياة بشيء، وبعضها وإن تطرق
(3/51)

إليه إلا أنه لم يوفه حقه، بل كان معظم اهتمامها منصرفا إلى المواعظ والعبادات، وقد قرن القرآن المصلحتين في غير ما آية قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
والمظهر الثالث: اختصاصه بإقامة الحجة، ومجادلة المخاطبين بصنوف المجادلات، وتعليل أحكامه، بالترغيب وبالترهيب، وذلك رعي لمراتب نفوس المخاطبين، فمنهم العالم الحكيم الذي لا يقتنع إلا بالحجة والدليل، ومنهم المكابر الذي لا يرعوي إلا بالجدل والخطابة، ومنهم المترهب الذي اعتاد الرغبة فيما عند الله، ومنهم المكابر المعاند، الذي لا يقلعه عن شغبه إلا القوارع والزواجر.
المظهر الرابع: أنه جاء بعموم الدعوة لسائر البشر، وهذا شيء لم يسبق في دين قبله قط، وقي القرآن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] وفي الحديث الصحيح: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي فذكر وكان الرسول يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقد ذكر الله تعالى الرسل كلهم فذكر أنه أرسلهم إلى أقوامهم.
والاختلاف في كون نوح رسولا إلى جميع أهل الأرض، إنما هو مبني: على أنه بعد الطوفان انحصر أهل الأرض في أتباع نوح، عند القائلين بعموم الطوفان سائر الأرض، ألا ترى قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف:59] وأياما كان احتمال كون سكان الأرض في عصر نوح هم من ضمهم وطن نوح؛ فإن عموم دعوته حاصل غير مقصود.
المظهر الرابع: الدوام ولم يدع رسول من الرسل أن شريعته دائمة، بل ما من رسول، ولا كتاب، إلا تجد فيه بشارة برسول يأتي من بعده.
المظهر الخامس: الإقلال من التفريع في الأحكام بل تأتي بأصولها ويترك التفريع لاستنباط المجتهدين وقد بين ذلك أبو إسحاق الشاطبي في تفسير قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] لتكون الأحكام صالحة لكل زمان.
المظهر السادس: أن المقصود من وصايا الأديان إمكان العمل بها، وفي أصول الأخلاق أن التربية الصحيحة هي التي تأتي إلى النفوس بالحيلولة بينها خواطر الشرور؛ لأن الشرور، إذا تسربت إلى النفوس، تعذر أو عسر اقتلاعها منها، وكانت
(3/52)

الشرائع تحمل الناس على متابعة وصاياها بالمباشرة، فجاء الإسلام يحمل الناس على الخير بطريقتين: طريقة مباشرة، وطريقة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، وغالب أحكام الإسلام من هذا القبيل وأحسبها أنها من جملة ما أريد بالمشتبهات في حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس".
المظهر السابع: الرأفه بالناس حتى في حملهم على مصالحهم بالاقتصار في التشريع على موع المصلحة، مع تطلب إبراز ذلك التشريع في صورة لينة، وفي القرآن {يُُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وفي الحديث الصحيح: "بعثت بالحنفية السمحة ولن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه" وكانت الشرائع السابقة تحمل على المتابعة بالشدة، فلذلك لم تكن صالحة للبقاء؛ لأنها روعي فيها حال قساوة أمم في عصور خاصة، ولم تكن بالتي يناسبها ما قدر مصير البشر إليه من رقة الطباع وارتقاء الأفهام.
المظهر الثامن: امتزاج الشريعة بالسلطان في الإسلام، وذلك من خصائصه؛ إذ لا معنى للتشريع إلا تأسيس قانون للأمة، وما قيمة قانون لا تحميه القوة والحكومة. وبامتزاج الحكومة مع الشريعة أمكن تعميم الشريعة، واتحاد الأمة في العمل والنظام.
المظهر التاسع: صراحة أصول الدين، بحيث يتكرر في القرآن ما تستقرى منه قواطع الشريعة، حتى تكون الشريعة معصومة من التأويلات الباطلة، والتحريفات التي طرأت على أهل الكتب السابقة، ويزداد هذا بيانا عند تفسير قوله تعالى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20].
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
عطف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقيهم لدين الإسلام، ومن سوء فهمهم في دينهم.
وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال؛ إذ قد جيء بصيغة الحصر: لبيان سبب اختلافهم، وكأن اختلافهم أمر معلوم للسامع. وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارا يتضمن بيان سببه، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك، مع إظهار المقابلة بين حال الدين الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف، وبين سلامة الإسلام من ذلك.
(3/53)

وذلك أن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} قد آذن بأن غيره من الأديان لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم، والدوام، قبل التغيير، بله ما طرأ عليها من التغيير، وسوء التأويل، إلى يوم مجيء الإسلام، ليعلم السامعون أن ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنه وقع فيه التغيير والاختلاف، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم، مع التنبيه على أن سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم، ومن جملة ما بدلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه تنبيه على أن الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف، كما تقدم في المظهر التاسع، ومن ثم ذم علماؤنا التأويلات البعيدة، والتي لم يدع إليها داع صريح.
وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معان: منها التحذير من الاختلاف في الدين، أي في أصوله، ووجوب تطلب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف.
ومنها للتنبيه على أن اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق، فهو تعريض بأنهم أساءوا فهم الدين.
ومنها الإشارة إلى أن الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان: أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113]، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقا متباينة المنازع. كما جاء في الحديث اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة يحذر المسلمين مما صنعوا.
ومنها أن اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض.
ومنها أنهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراض عنه بغيا منهم وحسدا، مع ظهور أحقيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [ البقرة:146-147] وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] أي أعرضوا عن الإسلام، وصمموا على البقاء على دينهم، وودوا لو يردونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم، حسدا على ما جاءكم من الهدى بعد أن تبين لهم أنه الحق.
(3/54)

ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني، حذف متعلق الاختلاف في قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ليشمل كل اختلاف منهم: من مخالفة بعضهم بعضا في الدين الواحد، ومخالفة أهل كل دين لأهل الدين الآخر، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحة الدين.
وحذف متعلق العلم في قوله {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} لذلك.
وجعل بغيا عقب قوله من بعد ما جاءهم العلم ليتنازعه كل من فعل اختلف ومن لفظ العلم.
وأخر بينهم عن جميع ما يصلح للتعليق به: ليتنازعه كل من فعل اختلف وفعل جاءهم ولفظ العلم ولفظ بغيا.
وبذلك تعلم أن معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} في سورة البقرة[213] وقوله {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} في سورة البينة [4] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين.
فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم: أي اختلاف أهل كل ملة في أمور دينهم، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا، وكيف صار لكل مملكة من المملكتين تدين يخالف تدين الأخرى، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح، وفي رسوم الدين، ويكون قوله بينهم حالا لبغيا: أي بغيا متفشيا بينهم، بأن بغى كل فريق على الآخر.
ويشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام؛ إذ قال قائل منهم: هو حق، وقال فريق: هو مرسل إلى الأميين، وكفر فريق، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ، ويكون قوله {بَيْنَهُمْ} على هذا وصفا لبغيا: أي بغيا واقعا بينهم.
ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم؛ لأن كلمة جاء مؤذنة بعلم متلقى من الله تعالى، يعني أن العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدهم عن الاختلاف في المراد، إلا أنهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى.
(3/55)

وانتصب {بَغْياً} على أنه مفعول لأجله، وعامل المفعول لأجله: هو الفعل الذي تفرغ للعمل فيما بعد حرف الاستثناء فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة والتقدير: ما اختفلوا إلا في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلا بغيا بينهم. ولك أن تجعل بغيا منصوبا على الحال من الذين أوتوا الكتاب، وهو إن كان العامل فيه فعلا منفيا في اللفظ إلا إن الاستثناء المفرغ جعله في قوة المثبت، فجاء الحال منه عقب ذلك، أي حال كون المختلفين باغين، فالمصدر مؤول بالمشتق. ويجوز أن تجعله مفعولا لأجله من اختلف باعتبار كونه صار مثبتا كما قررنا.
وقد لمحت الآية إلى أن هذا الاختلاف والبغي كفر؛ لأنه أفضي بهم إلى نقض قواعد أديانهم، وإلى نكران دين الإسلام، ولذلك ذيله بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الخ.
وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تعريض بالتهديد؛ لأن سريع الحساب إنما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته، والحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113].
وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلا اختلافا علميا فرعيا، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم بل غاية الكل الوصول إلى الحق من الدين، وخدمة مقاصد الشريعة. فبنوا إسرائيل عبدوا العجل والرسول بين ظهرانيهم، وعبدوا آلهة الأمم غير مرة، والنصارى عبدوا مريم والمسيح، ونقضوا أصول التوحيد، وادعوا حلول الخالق في المخلوق. فأما المسلمون لما قال أحد أهل التصوف منهم كلاما يوهم الحلول حكم علماؤهم بقتله.
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [20]
تفريع على قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران:19] الآية فإن الإسلام دين قد أنكروه، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين، وأنهم ليسوا على أقل مما جاء به دين الإسلام.
(3/56)

والمحاجة مفاعلة ولم يجيء فعلها إلا بصيغة المفاعلة. ومعنى المحاجة المخاصمة، وأكثر استعمال فعل حاج في معنى المخاصمة بالباطل: كما في قوله تعالى {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام:80] وتقدم عند قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ} في سورة البقرة [258].
فالمعنى: فإن خاصموك خصام مكابرة فقل أسلمت وجهي لله.
وضمير الجمع في قوله {فَإِنْ حَاجُّوكَ} عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل معلوم من المقام، وهو مقام نزول السورة، أعني قضية وفد نجران؛ فإنهم الذين اهتموا بالمحاجة حينئذ. فأما المشركون فقد تباعد ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، فانقطعت محاجتهم، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة.
وقد لقن الله رسوله أن يجب مجادلتهم بقوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي ذاته.
وللمفسرين في المراد من هذا القول طرائق ثلاث: إحداهما أنه متاركة وإعراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بيانا، أي أني أتيت بمنتهى المقدور من الحجة فلم تقتنعوا، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجتكم إياي إلا مكابرة وإنكارا للبديهيات والضروريات، ومباهتة، فالأجدر أن أكف عن الازدياد. قال الفخر: فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج يقول: أما أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي.
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} وقوله {أَأَسْلَمْتُمْ} دون أن يقال: فأعرض عنهم وقل سلام، ضربا من الإدماج؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادة الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين.
والقصد من ذلك الحرص على اهتدائهم، والإعذار إليهم، وعلى هذا الوجه فإن قوله {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} خارج عن الحاجة، وإنما هو تكرر للدعوة، أي اترك محاجتهم ولا تترك دعوتهم.
وليس المراد بالحجاج الذي حاجهم به خصوص ما تقدم في الآيات السابقة، وإنما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علموه فمنه ما أشير إليه في الآيات السابقة، ومنه ما طوي ذكره.
(3/57)

الطريقة الثانية أن قوله {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أن هذا استدلال على كون الإسلام حقا، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني: إن اليهود والنصارى والمشركين كانوا متفقين على أحقية دين إبراهيم عليه السلام إلا زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتبع ملة إبراهيم في قوله {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [النحل:123] أمره هنا أن يجادل الناس بمثل قول إبراهيم: فإبراهيم قال {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:79] ومحمد عليه لصلاة والسلام قال: "أسلمت وجهي لله" أي فقد قلت ما قاله الله، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك، فكيف تنكرون أني على الحق، قال: وهذا من باب التمسك بالإلزامات وداخل تحت قوله {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيان أن يكون هذا مرتبطا بقوله {إِِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] أي فإن حاجوك في أن الدين عند الله الإسلام، فقل: إني بالإسلام أسلمت وجهي لله فلا ألتفت إلى عبادة غيره مثلكم، فديني الذي أرسلت به هو الدين عند الله أي هو الدين الحق وما أنتم عليه ليس دينا عند الله.
وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسرين جعلوا قوله {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} خارجا عن الحجة؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملة إبراهيم، ويكون مرادا منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحضيض كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] أي قل لأولئك: أتسلمون.
وعندي أن التعليق بالشرط لما اقتضى أنه للمستقبل فالمراد بفعل حاجوك الاستمرار على المحاجة: أي فإن استمر وفد نجران على محاجتهم فقل لهم قولا فصلا جامعا للفرق بين دينك الذي أرسلت به وبين ما هم متدينون به. فمعنى {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} أخلصت عبوديتي له لا أوجه وجهي إلى غيره، فالمراد أن هذا كنه دين الإسلام، وتبين أنه الدين الخالص، وأنهم لا يلفون تدينهم على هذا الوصف.
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} معطوف على جملة الشرط المفرعة على ما قبلها، فيدخل المعطوف في التفريع، فيكون تقدير النظم: ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فقل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم، أي فكرر دعوتهم إلى الإسلام.
والاستفهام مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ
(3/58)

مُنْتَهُونَ} . وجيء بصيغة الماضي في قوله {أَأَسْلَمْتُمْ} دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر، للتنبيه على أنه يرجو تحقق إسلامهم، حتى يكون كالحاصل في الماضي.
واعلم أن قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبروا مطاويها فيهتدي الضالون، ويزداد المسلمون يقينا بدينهم؛ إذ قد علمنا أن مجيء قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} عقب قوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} وقوله {فَإِنْ حَاجُّوكَ} وتعقيبه بقوله {أَأَسْلَمْتُمْ} أن المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة، وتختصر المقاولة، ويسهل عرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. بينت هذه الكلمة أن هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه؛ فإن اسمه الإسلام، وهو مفيد معنى معروفا في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم، وقد حذف مفعوله ونزل الفعل منزلة اللازم فعلم أن المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليه، فكأنه يقول: أسلمتني أي أسلمت نفسي، فبين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلا يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد، فعبر عنه بقوله وجهي أي نفسي: لظهور ألا يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود، بل المعنى البين هو أن يراد بالوجه كامل الذات، كقوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكا له، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله، وتحت هذا معان جمة هي جماع الإسلام: نحصرها في عشرة:
المعنى الأول: تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألا يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك لأن المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه بل أسلم بعضها.
المعنى الثاني: إخلاص العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يقدم مرضاة غير الله تعالى على مرضاة الله.
الثالث: إخلاص القول لله تعالى فلا يقول مالا يرضى به الله، ولا يصدر عنه قول إلا فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على حسب المقدرة والعلم، والتصدي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله:
(3/59)

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [يس:86].
الرابع: أن يكون ساعيا لتعرف مراد الله تعالى من الناس، ليجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنهم مرسلون من الله، وتلقيها بالتأمل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة، بدون تحفز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقي الدعوة، ولا إعراض عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.
الخامس: امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرسل الصادقين، والمحافظة على اتباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره.
السادس: ألا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به، فلا يتصدى للتحكم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذ البعض. كما حكي الله تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] وقد وصف الله المسلمين بقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فقد أعرض الكفار عن الإيمان بالبعث؛ لأنهم لم يشاهدوا ميتا بعث.
السابع: أن يكون متطلبا لمراد الله مما أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله: يتطلبه من إلحاقه بنظائره التامة التنظير بما علم أنه مراد الله، كما قال الله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
الثامن: الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القول فيه بغير سلطان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
التاسع: أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضا، وجماعاتها، ومعاملتها الأمم كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.
العاشر: التصديق بما غيب عنا، مما أنبأنا الله به: من صفاته، ومن القضاء والقدر: وأن الله هو المتصرف المطلق.
وقوله {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} إبطال لكونهم حاصلين على
(3/60)

هذا المعنى، فأما المشركون فبعدهم عنه أشد البعد ظاهر، وأما النصارى فقد ألهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسسوا الدين على حسب ما يلذ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم.
وأما اليهود فإنهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى، فسفهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله، وغيروا الأحكام اتباعا للهوى، وكذبوا الرسل، وقتلوا الأحبار، فأنى يكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مبطل لذلك هو تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه.
ثم إن قوله {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} معناه: فإن التزموا النزول إلى التحقق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا، ولم يبق إلا أن يتبعوك لتلقي ما تبلغهم عن الله؛ لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله، وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ، فقوله {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك؛ إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم.
وقوله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي مطلع عليهم أتم الاطلاع، فهو الذي يتولى جزاءهم وهو يعلم أنك بلغت ما أمرت به.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر اتبعن بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف.وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف.
[21، 22] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلام الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جعلوا جميعا في قرن قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران:20].
(3/61)

وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظيعة، وليس المراد إفادة التجدد؛ لأن ذلك وإن تأتى في قوله {يَكْفُرُونَ} لا يتأتى في قوله {وَيَقْتُلُونَ} لأنهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمن مضى. والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العصر النبوي: لأنهم الذين توعدهم بعذاب أليم، وإنما حمل هؤلاء تبعة أسلافهم لأنهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكريا لأنه حاول تخليص ابنه يحيى من القتل، وقتلوا يحيى لإيمانه بعيسى، وقتلوا النبي إرمياء بمصر، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهود معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه، وقتل منشا ابن حزقيال، ملك إسرائيل، النبي أشعياء: نشره بالمنشار لأنه نهاه عن المنكر، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، ولم يحموه، فكان هذا القتل معدودا عليهم، وكم قتلوا ممن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنهم رضوا بها، وألحوا في وقوعها.
وقوله {بِغَيْرِ حَقٍّ} ظرف مستقر في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة {يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} إذ لا يكون قتل النبيين إلا بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحتراز؛ فإنه لا يقتل نبي بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حيز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلط النفي عليه مثل قوله تعالى {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] وقوله {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} وقد تقدم في سورة البقرة[41].
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم.
ولما كان قوله {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} مومئا إلى وجه بناء الخبر: وهو أنهم إنما قتلوهم لأنهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع.
وقرأ الجمهور من العشرة {يَقْتُلُونَ} الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده ويقاتلون بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل.
والفاء في {فَبَشِّرْهُمْ} فاء الجواب المستعملة في شرط، دخلت على خبر إن لأن اسم إن وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنه ليس المقصود قوما معينين، بل كل من يتصف بالصلة فجزاؤه أن يعلم أن له عذابا أليما. واستعمل بشرهم في معنى أنذرهم تهكما.
(3/62)

وحقيقة التبشير: الإخبار بما يظهر سرور المخبر بفتح الباء وهو هنا مستعمل في ضد حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبرين، فهذا الاستعمال في الضد معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمونها تهكمية لأن تشبيه الضد بضده لا يروج في عقل أحد إلا على معنى التهكم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم. اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله:
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
قال السكاكي: وذلك بواسطة انتزاع شبه التضاد وإلحافه بشبه التناسب.
وجيء باسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنهم تميزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صلات الموصول أكمل تمييز، وللتنبيه على انهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة.
واسم الإشارة مبتدأ، وخبره {الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، وقيل هو خبر إن وجملة {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقا.
وحبط الأعمال إزالة آثارها النافعة من ثواب ونعيم الآخرة، وحياة طيبة في الدنيا. وإطلاق الحبط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحبط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به.
وتقدم عند قوله تعالى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة [217].
والمعنى هنا أن اليهود لما كانوا متدينين يرجون من أعمالهم الصالحة النفع بها في الآخرة بالنجاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلما كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، وصوبوا الذين قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدوا عن دينهم فاستحقوا العذاب الأليم، ولذلك ابتدئ به بقوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . فلا جرم تحبط أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيبة في الدنيا، ومعنى {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مالهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به.
(3/63)

وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلا يترك لهم مدخل إلى التأويل.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [23] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ[24] فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [25]} .
استئناف ابتدائي: للتعجيب من حالة اليهود في شدة ضلالهم. فالاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير والتعجيب، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلا على نفي الفعل والمراد حصول الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرضا للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنه لا يرضى أن يكون ممن بجهله، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] في سورة البقرة.
والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى: الذي يتعدى به فعل النظر، وجوز صاحب الكشاف في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} في سورة النساء [44]: أن تكون الرؤية قلبية، وتكون إلى داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتصال العلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه، فتكون مثل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم} [البقرة:258].
وعرف المتحدث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم، أعني اليهود، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم؛ لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم. على ما في هذه الصلة أيضا من توهين علمهم المزعوم.
والكتاب: التوراة فالتعريف للعهد، وهو الظاهر، وقيل: هو للجنس.
والمراد بالذين أوتوه هم اليهود، وقيل: أريد النصارى، أي أهل نجران.
والنصيب: القسط والحظ وتقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} في سورة البقرة [202].
وتنكير {نَصِيباً} للنوعية، وليس للتعظيم؛ لأن المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل.
و {مِنَ} للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابهم، والمراد: أوتوا بعض كتابهم، تعريضا بأنهم لا يعلمون من كتابهم
(3/64)

إلا حظا يسيرا، ويجوز كون من للبيان. والمعنى: أوتوا حظا من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه.
وجملة {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} في موضع الحال لأنها محل التعجيب، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها، وهو، قوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} لأن ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله، وإذا جعلت تر قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمت بعده.
و {كِتَابِ اللَّهِ} : القرآن كما في قوله {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة:101] فهو غير الكتاب المراد في قوله {مِنَ الْكِتَابِ} كما ينبئ به تغيير الأسلوب. والمعنى: يدعون إلى اتباع القرآن والنظر في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنما غير اللفظ تفننا وتنويها بالمدعو إليه، أي يدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحه إلى صفاته.
روي، في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت قال: "على ملة إبراهيم" قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما: "إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها"، فأبيا.
وقوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} ثم عاطفة جملة {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} على جملة {يَدْعُونَ} فالمعطوف هنا في حكم المفرد فدلت ثم على أن توليهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة، أي أنهم لا يرعوون فهم يتولون ثم يتولون؛ لأن المرء قد يعرض غضبا، أو لعظم المفاجأة بالأمر غير المترقب، ثم يثوب إليه رشده، ويراجع نفسه، فيرجع، وقد علم أن توليهم إثر الدعوة دون تراخ حاصل بفحوى الخطاب.
فدخول {ثُمَّ} للدلالة على التراخي الرتبي؛ لأنهم قد يتولون إثر الدعوة، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولون بعد أن أوتوا الكتاب ونقلوه، فإذا دعوا إلى كتابهم تولوا. والإتيان بالمضارع في قوله {يَتَوَلَّوْنَ} للدلالة على التجدد كقول جعفر ابن علبة الحارثي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
(3/65)

والتولي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان.
وجملة {وهم معرضون} حال مؤكدة لجملة {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ} إذ التولي هو الإعراض، ولما كانت حالا لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدد الإعراض منهم المفاد أيضا من المضارع في قوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .
وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} الإشارة إلى توليهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنهم في أمان من العذاب إلا أياما قليلة، فانعدم اكتراثهم باتباع الحق؛ لأن اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضا بسفالة همتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس. وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أن هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنه مفترى مدلس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود، كما تقدم في البقرة.
وقوله {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ما تقولوه على الدين وأدخلوه فيه، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية، ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، وكانوا أيضا يزعمون أن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه.
وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأن المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجو، أما المغرور فلا يترقب منه إقلاع. وقد ابتلى المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال.
وقوله {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} تفريع عن قوله {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} أي إذا كان ذلك غرورا فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازا.
وكيف هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق، و {إِذاً} ظرف منتصب بالذي عمل في مظروفه: وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك: كيف أنت إذا لقيت العدو، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} في سورة النساء [41].
(3/66)

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [26] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [27].
استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأن أعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنه لا عجب أنت تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والملك.
و {اللَّهُمَّ} في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء، ومعناه يا الله. ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة: إن الميم عوض من حرف النداء يريدون أن لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلا عند إرادة الدعاء صار غنيا عن جلب حرف النداء اختصاران وليس المراد أن الميم تفيد النداء. والظاهر أن الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة اللهم من عبرانية أو قحطانية وأن أصلها وأن أصلها لا هم مرادف إله.
ويدل على أن العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى:
كدعوة من أبي رباح ... يسمعها اللهم الكبير
وأنهم نطقوا به كذلك مع النداء كقول أبي خراش الهذلي:
إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما
وأنهم يقولون يا الله كثيرا. وقال جمهور النحاة: إن الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنه تعويض غير قياسي وإن ما وقع على خلاف ذلك شذوذ. وزعم الفراء أن اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها يا الله أم أي أقبل علينا بخير، وكل ذلك تكلف لا دليل عليه.
والمالك هو المختص بالتصرف في شيء بجميع ما يتصرف في أمثاله مما يقصد من ذواتها، ومنافعها، وثمراتها، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد، وهو الأكثر، وقد يكون بمشاركة: واسعة، أو ضيقة.
والملك بضم الميم وسكون اللام نوع من الملك بكسر الميم فالمالك بالكسر-
(3/67)

جنس والملك بالضم نوع منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرف التدبير للشؤون، وإقامة الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة. وانظر قوله تعالى: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} في سورة البقرة [247] وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فمعنى مالك الملك أنه المتصرف في نوع الملك بالضم بما يشاء، بأن يراد بالملك هذا النوع. والتعريف في الملك الأول لاستغراق الجنس: أي كل ملك هو في الدنيا. ولما كان الملك ماهية من المواهي، كان معنى كون الله مالك الملك أنه المالك لتصريف الملك، أي لإعطائه، وتوزيعه، وتوسيعه، وتضييقه، فهو على تقدير مضاف في المعنى.
والتعريف في الملك الثاني والثالث للجنس، دون استغراق أي طائفة وحصة من جنس الملك، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن. ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] فإن إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك: إيجابا، وسلبا، وكثرة وقلة.
والنزع: حقيقة إزالة الجرم من مكانه: كنزع الثوب، ونزع الماء من البئر، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] بتشبيه المعنى المتمكن بالذات المتصلة بالمكان، وتشبيه إزالته بالنزع، ومنه قوله هنا: {تَنْزِعُ الْمُلْكَ} أي تزيل وصف الملك ممن تشاء.
وقوله: {بِيَدِكَ الخيْرُ} تمثيل للتصرف في الأمر؛ لأن المتصرف يكون أقوى تصرفه بوضع شيء بيده، ولو كان لا يوضع في اليد، قال عنترة بن الأخرس المعني الطائي:
فما بيديك خير أرتجيه ... وغير صدودك الخطب الكبير
وهذا يعد من المتشابه لأن فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة، ولا تشابه فيه: لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي. والاقتصار على الخير في تصرف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي والبرد.
وكان الخبر مقتضى بالذات أصاله والشر مقتضى بالعرض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور:
وخص الخير هنا لأن المقام مقام ترجي المسلمين الخير من الله، وقد علم أن
(3/68)

خيرهم شر لضدهم كما قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد
أي الخير مقتضى الذات والشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشر قليل، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشر القليل، لصار تركها شرا كثيرا، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشر.
وحقيقة تولج تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل، فكأن أحدهما يدخل في الآخر، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكن الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلا العلماء، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية؛ فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام.
وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات، ولذلك ابتدئ بقوله {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، ليكون الانتهاء بقوله {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، فهو نظير التعريض الذي بينته في قوله {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية. والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الخ.
وإخراج الحي من الميت كخروج الحيوان من المضغة، ومن مح البيضة، وإخراج الميت من الحي وعكس ذلك كله، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} في سورة يونس [31]. وهذا رمز إلى ظهور الهدى والملك في أمة أمية، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين، وزوال الملك من خلفهم بعد أن كان شعار أسلافهم، بقرينة افتتاح الكلام بقوله {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الخ.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف: الميت بتشديد التحتية. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت.
وقوله {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} هو كالتذييل لذلك كله.
(3/69)

والرزق ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمار كقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] وقوله: {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:19]، ويطلق على أعم من ذلك مما ينتفع به كما في قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:51-54] وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقا: لأن بها يعوض ما هو رزق، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها.
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [28]
استئناف عقب به الآي المتقدمة، المتضمنة عداء المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم، وتوليهم عنه: من قوله: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم} آل عمران:116] إلى هنا.
فالمناسبة أن هذه كالنتيجة لما تقدمها:
نهى الله المؤمنين بعد ما بين لهم بغي المخالفين وإعراضهم أن يتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين؛ لأن اتخاذهم أولياء بعد أن سفه الآخرون دينهم وسفهوا أحلامهم في اتباعه يعد ضعفا في الدين وتصويبا للمعتدين.
وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعل تعليق النهي عن الاتخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأن المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنة الموالاة مع بعضهم. وقد علم كل سامع أن من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولي المؤمنين إياه كتوليهم المشركين. وقد يكون بالمراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين: مثل المراد من قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]، فلذلك كله قيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعه وكان من أفاضل المهاجرين وخلص المؤمنين، إلا أنه تأول فكتب كتابا إلى قريش يعلمهم بتجهز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة. وقيل: نزلت في أسماء ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر والدتها وصلتها، أي قبل أن تجيء أمها إلى المدينة راغبة؛ فإنه ثبتت في الصحيح
(3/70)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: صلي أمك. وقيل: نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولين لكعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وهما يهوديان بيثرب. وقيل: نزلت في المنافقين وهم ممن يتولى اليهود؛ إذ هم كفار جهتهم، وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود، فلما كان يوم الأحزاب قال عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذبوه عذابا شديدا، فقال ما أرادوا منه، فكفوا عنه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له كيف تجد قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال: فإن عادوا فعد.
وقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} من لتأكيد الظرفية.
والمعنى: مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده: "ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء" لأنه نفي لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال، والعرب تقول أنت مني وأنا منك في معنى شدة الاتصال حتى كأن أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة: لست مني ولست منك؛ قال النابغة:
فإني لست منك ولست مني
فقوله: {في شيء} تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتصال بأغلب الأحوال فالمعنى أن فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله، وهذا ينادى على أن المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال التي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل: إن هذه الآية نزلت في المنافقين، ومما يدل على ذلك أنها نظير الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:144، 145].
وقيل: لا مفهوم لقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لأن آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقا: كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
(3/71)

دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57] وإلى هذا الوجه مال الفخر.
واسم الإشارة في قوله: {لِكَ} بمعنى ذلك المذكور، وهو مضمون قوله {وْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقا، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال.
الحالة الأولى: أن يتخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفته، أولياء له في باطن أمره، ميلا إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالك: أن قائلا قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أين مالك بن الدخشن فقال آخر ذلك منافق لا يحب الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ا تقل ذلك أما سمعته يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" فقال القائل الله ورسوله أعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلا الله.
الحالة الثانية: الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفار، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلا أن ارتكابها إثم عظيم، لأن صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام، على أنه من الواجب إظهار الحمية للإسلام، والغيرة عليه، كما قال العتابي:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي عنك لعازب
وفي مثلها نزل قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57] قال ابن عطية: كانت قريش من المستهزئين وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى {إِِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] الآية نزلت في قوم
(3/72)

كان، بينهم وبين اليهود، جوار وحلف في الجاهلية، فداموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] وكذلك كان حال الحبشة فإنهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلا أنه منهي عنه، إذ قد يجر إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين.
الحالة الرابعة: موالاة طائفة من الكفار لأجل الإضرار بطائفة معينة من المسلمين مثل الانتصار بالكفار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك، في الجاسوس يتجسس للكفار على المسلمين: إنه يوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب لأن التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غرورا، ويفعله طمعا، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأبا وعادة، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفار، إذا اطلع عليه، وقال ابن وهب ردة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر.
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمتونيين، فيقال: إن فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين عليا بن يوسف بن تاشفين، بكفر ابن عباد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنه استتابه.
الحالة الخامسة: أن يتخذ المؤمنون طائفة من الكفار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدونة قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر "ارجع فلن أستعين بمشرك" وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب: أن مالكا قال: لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البر: وحديث لن أستعين بمشرك مختلف في سنده، وقال جماعة: هو منسوخ، قال عياض: حمله بعض علمائنا على أنه كان في وقت خاص واحتج هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم، في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذ غير مسلم، واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني
(3/73)

النضير من اليهود: "إنا وأنتم أهل كتاب وإن لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإما قاتلتم معنا وإلا أعرتمونا السلاح" وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال: لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم: لأن الإذن كالطلب، ولكن إذا خرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة: أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد: وهذا لا وجه له، وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل.
الحالة السادسة: أن يتخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليا له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] واستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في بر والدتها وصلتها، وهي كافرة، فقال لها صلي أمك وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] قيل نزلت في والدة أسماء، وقيل في طوائف من مشركي مكة: وهم كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودون انتصار المسلمين على أهل مكة. وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبيء، والتردد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.
الحالة السابعة: حالة المعاملات الدنيوية: كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه.
الحالة الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} منقطع ناشئ عن جملة {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} لأن الاتقاء ليس مما تضمنه اسم الإشارة، لكنه أشبه الولاية في المعاملة.
والاتقاء: تجنب المكروه، وتعديته بحرف من إما لأن الاتقاء تستر فعدي بمن كما
(3/74)

يعدى فعل تستر، وإما لتضمينه معنى تخافوا.
و {تُقَاةً} قرأه الجمهور: بضم المثناة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف، وهو اسم مصدر الاتقاء، وأصله وقية فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعا لفعل اتقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتى إدغامها في تاء الافتعال، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتجاة والتكلة والتوءدة والتخمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلا هذا. وشذ تراث. يدل لهذا المقصد قول الجوهري: وقولهم تجاهك بني على قولهم اتجه لهم رأي. وفي اللسان في تخمه، لأنهم توهموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال. ويدل لذلك أيضا قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية، ونحو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشددة بوزن فعيلة.
وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا: الإشارة إلى تحقق كون الحالة حالة تقية، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يجدوا سبيلا للهجرة، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ومثل الحالة التي لقيها مسلموا الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدو، وكذلك يجب أن تكون التقاة غير دائمة لأنها إذا طالت دخل الكفر في الذراري.
وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها.
وانتصاب {نَفْسَهُ} على نزع الخافض وأصله ويحذركم الله من نفسه، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسد، وأصله أحذرك من الأسد. وقد جعل التحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعم في الأحوال، لأنه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهم أن لله رضا لا يضر معه تعمد مخالفة أوامره، والعرب إذا أردت تعميم أحوال الذات علقت الحكم بالذات: كقولهم لولا فلان لهلك فلان، وقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا.
وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافا إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
(3/75)

وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب ما نهاهم الله عنه.
و {الْمَصِيرُ} : هو الرجوع، وأريد به البعث بعد الموت وقد علم مثبتو البعث أنه لا يكون إلا إلى الله، فالتقديم في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ} لمجرد الاهتمام، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [29].
انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله، وهو إشعار لمحذر باطلاع الله على ما يخفونه من الأمر.
وذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر: جريا على معروف اللغة من إضافة الخواطر النفسية إلى الصدر والقلب، لأن الانفعالات النفسانية وترددات التفكر ونوايا النفوس كلها يشعر لها بحركات في الصدور.
وزاد أو تبدوه فأفاد تعميم العلم تعليما لهم بسعة علم الله تعالى لأن مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح.
وجملة: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} معطوفة على جملة الشرط فهي معمولة لفعل قل، وليست معطوفة على جواب الشرط: لأن علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقا غير معلق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجملة من التعميم يجعلها في قوة التذييل.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إعلام بأنه مع العلم ذو قدرة على كل شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أن الله لا يفلتهم من عقابه.
وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير: لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل، والجملة لها معنى التذييل. والخطاب للمؤمنين تبعا لقوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 28] الآية.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
(3/76)

بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [30].
جملة مستأنفة، أصل نظم الكلام فيها: تود كل نفس لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا يوم تجد ما عملت من خير محضرا. فقدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان، إذ كانت هي المقصود من الكلام، قضاء لحق الإيجاز بنسخ بديع. ذلك أنه إذا كان اسم الزمان هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام، وكان مع ذلك ظرفا لشيء من علائقه، جيء به منصوبا على الظرفية، وجعل معنى بعض ما يحصل منه مصوغا في صيغة فعل عامل في ذلك الظرف. أو أصل الكلام: يحضر لكل نفس يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء، فتود في ذلك اليوم لو أن بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا، أي زمانا متأخرا، وأنه لم يحضر ذلك اليوم. فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملت من سوء، فحول التركيب، وجعل تود هو الناصب ليوم، ليستغني بكون ظرفا عن كونه فاعلا. أو يكون أصل الكلام: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شر محضرا، تود لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدا بعيدا؛ ليكون ضمير بينه عائدا إلى يوم أي تود أنه تأخر ولم يحضر كقوله: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس:
يوما على ظهر الكثيب تعذرت ... علي وآلت حلفة لم تحلل
فإن مقصده ما حصل في اليوم، ولكنه جعل الاهتمام بنفس اليوم، لأنه ظرفه. ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأن الظرف والمجرور يشبهان الروابط، فالجملة المفصولة إذا صدرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها: كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35] ونحوهما، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في الكشاف .
وقيل منصوب بأذكر. وقيل متعلق بقوله: {الَمَصِيِرٌ} وفيه بعد لطول الفصل، وقيل بقوله يحذركم وهو بعيد، لأن التحذير حاصل من وقت نزول الآية، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام.
فعل الوجه الأول قوله تود هو مبدأ الاستئناف، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عملت من سوء.
(3/77)

وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} يجوز أن كون تكريرا للتحذير الأول لزيادة التأكيد لقول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرنج ... كدخان نار ساطع أسنامها
ويجوز أن يكون الأول تحذيرا من موالاة الكافرين، والثاني تحذيرا من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرا.
والخطاب للمؤمنين ولذلك سمى الموعظة تحذيرا: لأن المحذر لا يكون متلبسا بالوقوع في الخطر، فإن التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالا بعد الوقوع وذيله هنا بقوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} للتذكير بأن هذا التحذير لمصلحة المحذرين.
والتعريف في العباد للاستغراق: لأن رأفة الله شاملة لكل الناس مسلمهم وكافرهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلا لصدق كلماته، وانتظام حكمته سبحانه. ولك أن تجعل أل عوضا عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [31].ا
نتقال إلى الترغيب بعد الترهيب على عادة القرآن. والمناسبة أن الترهيب المتقدم ختم بقوله {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] والرأفة تستلزم محبة المرؤوف به الرؤف، فجعل محبة الله فعلا للشرط في مقام تعليق الأمر باتباع الرسول عليه مبني على كون الرأفة تستلزم المحبة، أو هو مبني على أن محبة الله أمر مقطوع به من جانب المخاطبين، فالتعليق عليه تعليق شرط محقق، ثم رتب على الجزاء مشروط آخر وهو قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} لكونه أيضا مقطوع الرغبة من المخاطبين، لأن الخطاب للمؤمنين، والمؤمن غاية قصده تحصيل رضا الله عنه ومحبته إياه.
والمحبة: انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء: من صفات ذاتية. أو إحسان، أو اعتقاد أنه يحب المستحسن ويجر إليه الخير. فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعل محبا، ويكون المشعور
(3/78)

بمحاسنه محبوبا، وتعد الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالا عند المحب، فإذا قوي هذا الانفعال صار تهيجا نفسانيا، فسمي عشقا للذوات، وافتنانا بغيرها.
والشعور بالحسن الموجب للمحبة يستمد من الحواس في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال، ويستمد أيضا من التفكر في الكمالات المستدل عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة، ولذلك يحب المؤمنون الله تعالى، ويحبون النبي صلى الله عليه وسلم، تعظيما للكمالات، واعتقادا بأنهما يدعوانهم إلى الخير، ويحب الناس أهل الفضل الأولين كالأنبياء والحكماء والفاضلين، ويحبون سعاة الخير من الحاضرين وهم لم يلقوهم ولا رأوهم.
ويرجع الجمال والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها: من الأشكال، والأنغام، والمحسوسات، والخلال. وهذه الملاءمة تكون حسية لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف، والحر في الشتاء، وملاءمة اللين لسليم الجلد، والخشن لمن به داعي حكة، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة. وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدوام للمريض، والتعب لجاني الثمرة، والسهر للمتفكر في العلم، وتكون لأجل الإلف، وتكون لأجل الاعتقاد المحض، كتلقي الناس أن العلم فضيلة، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدهم من غير تأمل في صلاحها، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءمة الألوان اللطيفة.
وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحا بأضدادها كالأشكال الفاسدة، والأصوات المنكرة، والألوان الكريهة، دائما، أو في بعض الأحوال، كاللون الأحمر يراه المحموم.
ولم يستطع الفلاسفة توضيح علة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس: ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حسنا لجئ النفس، والشكل المختل قبيحا، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب:
ضروب الناس عشاق ضروبا
وأن بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهد أن معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالم والأذواق.
(3/79)

فأما المتقدمون فقال سقراط: سبب الجمال حب النفع، وقال أفلاطون: الجمل أمر إلهي أزلي موجود في عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلما نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته في العوالم العقلية وهي عالم المثال مالت إليه لأنه مألوفها من قبل هبوطها. وذهب الطبائعيون: إلى أن الجمال شيء ينشأ عندنا الإحساس بالحواس. ورأيت في كتاب "جامع أسرار الطب" للحكيم عبد الملك ابن زهر القرطبي العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذه، وذلك أن الروح النفساني الذي مسكنه الدماغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخر الدماغ وهو الذكر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النوري البصري وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقلبه قبولا حسنا ثم يودعه الذكر فيوجب ذلك المحبة. ويشترك أيضا بالروح الحيواني الذي مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر.
والحق أن منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضا كتأثر المحموم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
وعن ترقب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقب الخير من صاحب الكمال والفضيلة.
ووراء ذلك كله شيء من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة.
وقد اختلف المتقدمون في أن المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات: فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبة المادية، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبة العبد لله تعالى، وهذا هو الحق، وقال به من المتقدمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر
(3/80)

الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون، فقيل محبة أفلاطونية: لأنه بحث عنها وعللها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعلم والكرم والعدل، فنجد من أنفسنا ميلا إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير محبة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم، ألا ترى أن مزاولة كتب الحديث والسيرة مما يقوي محبة المزاول في الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك صفات الخالق تعالى، لما كانت كلها كمالات وإحسانا إلينا وإصلاحا لفاسدنا، أكسبنا اعتقادها إجلالا لموصوفها، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوى إلى أن يصير محبة وفي الحديث ثلاث من كن فيه وجد حلاوة لإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبة ولذلك جعل عندها وجدان حلاة الإيمان أي وجدانه جميلا عند معتقده.
فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازا بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح.
ومن آثار المحبة تطلب القرب من المحبوب والاتصال به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتباع الرسول على محبة الله تعالى لأن الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبة.
وأما إطلاق المحبة في قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبة وهو الرضى وسوق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه. وهما المعبر عنهما بقوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فإن ذلك دليل المحبة وفي القرآن {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18].
وتعليق محبة الله إياهم على {فٌَاتَبُعُونِيُِ} المعلق على قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} ينتظم منه قياس شرطي اقتراني. ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتباع الرسول فهو حب كاذب، لأن المحب لمن يحب مطيع، ولأن ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاضة له وتلبس بعدوه وقد قال أبو الطيب:
أأحبه وأحب فيه ملامة ... إن الملامة فيه من أعدائه
فعلم أن حب العدو لا يجامع الحب وقد قال العتابي:
(3/81)

تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
وجملة: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في قوة التذييل مثل جملة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] المتقدمة. ولم يذكر متعلق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [32]
عود إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت: فذلكة للكلام، وحرصا على الإجابة، فابتدأ الموعظة أولا بمقدمة وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران: 10] ثم شرع في الموعظة بقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] الآية وهو ترهيب ثم بذكر مقابلة في الترغيب بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15] الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} آل عمران: 18] الآية وفي ذلك تفصيل كثير. ثم جاء بطريق المجادلة بقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} [آل عمران: 20] الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21] ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الآيات. ثم أمر بالقطيعة في قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} [آل عمران: 28]. وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردا للعجز على الصدر المتقدم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} [آل عمران: 10] الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين، نفيا عن هؤلاء الكافرين المعينين.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [33]{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [34].
انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة التمهيد والمقصد، كطريقة التخلص، فهذا تخلص لمحاجة وفد نجران وقد ذكرناه في أول السورة، فابتدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبو البشر أو أحدهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب. فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلا شذوذا من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظيرة تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظيرة فائلة.
(3/82)

وآدم اسم أبس البشر عند جميع أهل الأديان، وهو علم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة. ولا شك أن من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أن الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقا من الأدمة، وهي اللون المخصوص لأن تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعل العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذا من وصف لون آدم أبي البشر.
وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضي: أن آدم وجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبله المؤرخون المتبعون لضبط السنين. والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حضارة البشرية أن هذا الضبط لا يعتمد، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدده سفر التكوين.
وأما نوح فتقول التوراة: إنه ابن لامك وسمي عند العرب لمك بن متوشالخ بن أخنوخ وهو إدريس عند العرب ابن يارد بتحتية في أوله بن مهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم. وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود آدم.
وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولاده وأزواجهم في الفلك فيكون أبا ثانيا للبشر. ومن الناس من يدعي أن الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرخو الصين وزعموا أن الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أبا ثانيا للبشر. وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام، وحام، ويافث، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح. وعمر نوح تسعمائة وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وفي التوراة: أن الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأن نوحا صار بعد الطوفان فلاحا وغرس الكرم واتخذ الخمر. وذكر الآلوسي صفته بدون سند فقال: كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضحم
(3/83)

السرة طويل القامة جسيما طويل اللحية. قيل: إن مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة، وقيل في ذيل جبل لبنان، وقيل بمدينة الكرك. وسيأتي ذكر الطوفان: في سورة الأعراف، وفي سورة العنكبوت، وذكر شريعته في سورة الشورى، وفي سورة نوح.
ولآل: الرهط، وآل إبراهيم: أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم. وشمل آل إبراهيم الأنبياء من عقبه كموسى، ومن قبله، ومن بعده، وكمحمد عليه الصلاة والسلام، وإسماعيل، وحنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان.
وأما آل عمران: فهم مريم، وعيسى، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم، قال المفسرون: هو من نسل سليمان بن داود، وهو خطأ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى كما سيأتي قريبا. وفي كتب النصارى: أن اسمه يوهاقيم، فلعله كان له اسمان ومثله كثير. وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنها عيسى بدليل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} .
وتقدم الكلام على احتمال معنى الآل عند قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} في سورة البقرة [49] ولكن الآل هنا متعين للحمل على رهط الرجل وقرابته.
ومعنى اصطفاء هؤلاء على العالمين اصطفاء المجموع على غيرهم، أو اصطفاء كل فاضل منهم على أهل زمانه.
وقوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} حال من آل إبراهيم وآل عمران. والذرية تقدم تفسيرها عتد قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124] وقد أجمل البعض هنا: لأن المقصود بيان شدة الاتصال بين هذه الذرية، فمن للاتصال لا للتبعيض أي بين هذه الذرية اتصال القرابة، فكل بعض فيها هو متصل بالبعض الآخر، كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28].
والغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة موجب عداوة وتفريق. ومن هنا ظهر موقع قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع بأقوال بعضكم في بعض هذه الذرية: كقول اليهود في عيسى وأمه، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي
(3/84)

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [35] {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [36]
تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة: إذ هنا زائدة، ويجوز أن تتعلق بأذكر محذوفا، ولا يجوز تعلقها باصطفى: لأن هذا خاص بفضل آل عمران، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم.
وامرأة عمران حنة بنت فاقوذا. قيل: مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محررا أي مخلصا لخدمة بيت المقدس، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا. وإطلاق المحرر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعال. قيل: إنها كانت تظنه ذكرا فصدر منها النذر مطلقا عن وصف الذكورة وإنما كانوا يقولون: إذا جاء ذكرا فهو محرر. وأنث الضمير في قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} وهو عائد إلى: {مَا فِي بَطْنِي} باعتبار كونه انكشف ما صدقه على أنثى.
وقولها: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء.
وتأكيد الخبر بإن مراعاة لأصل الخبرية، تحقيقا لكون المولود أنثى؛ إذ هو بوقوعه على خلاف المترقب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد، فلذا أكدته. ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمته على طريقة المجاز المركب المرسل، ومعلوم أن المركب يكون مجازا بمجموعه لا بأجزائه ومفرداته، وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني: وهي الروعة والكراهية لولادتها أنثى، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطمينها بها، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معان كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها.
وأنث الضمير في {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها
(3/85)

{أُنْثَى} إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا فلذلك أنث الضمير باعتبار تلك الحال.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} جملة معترضة، وقرأ الجمهور: وضعت بسكون التاء فيكون الضمير راجعا إلى امرأة عمران، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي، والمقصود منه: أن الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأن من فوض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقب تدبيره.
وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: بضم التاء، على أنها ضمير المتكلمة امرأة عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة فيكون قرينة لفظية على أن الخبر مستعمل في التحسر.
وجملة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته من أن يكون المولود ذكرا، فتحرره لخدمة بيت المقدس.
وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى. وقيل: التعريف في {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} تعريف العهد للمعهود في نفسها. وجملة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} تكملة للاعتراض المبدوء بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} والمعنى: وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيتها لو كانت تعلم علو شأن هاته الأنثى وجعلوا نفي المشابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل وإلى هذا مال صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح والأول أظهر.
ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب: ليس سواء كذا وكذا، وليس كذا مثل كذا، ولا هو مثل كذا، كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وقول السموأل:
فليس سواء عالم وجهول
وقولهم "مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصدى".
ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به؛ إذ لم يبق للتشبيه أثر، ولذلك قيل هنا: وليس الذكر كالأنثى، ولو قيل: وليست الأنثى كالذكر لفهم
(3/86)

المقصود. ولكن قدم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم. وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة غدوت قبل استقلال الركاب، ولا اغتداء اغتداء الغراب وقال في الحادية عشرة وضحكتم وقت الدفن، ولا ضحككم ساعة الزفن وفي الرابعة عشرة وقمت لله ولا كعمرو بن عبيد فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية.
وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيه في بني إسرائيل وهي مريم أخت موسى وهارون، وخولها ذلك أن أباها سمي أبي مريم أخت موسى.
وتكرر التأكيد في {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} للتأكيد: لأن حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدر الله تعالى، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء: لأن الخبر مستعمل في الإنشاء برمته التي كان عليها وقت الخبرية، كما قدمناه في قوله تعالى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} وكقول أبي بكر إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب.
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [37].
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} .
تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، وضمائر النصب لمريم. ومعنى تقلبها: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى، ولم يكن ذلك مشروعا من قبل.
وقوله: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} الباء فيه للتأكيد، وأصل نظم الكلام: فتقبلها قبولا حسنا، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلة للتقبل فكأنه شيء ثان، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القول، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكريا بذلك، وأمره بأن يكفلها زكريا أعظم أحبارهم، وأن يوحي إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، وكل هذا إرهاص بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة؛ لأن خدمة النساء للمسجد المقدس لم تكن مشروعة.
(3/87)

ومعنى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} أنشأها إنشاء صالحا. وذلك في الخلق ونزاهة الباطن، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغض على طريق الاستعارة، ونبات مفعول مطلق لأنبت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
عد هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأن أبا التربة يكسب خلقه وصلاحه مرباه.
وزكريا كاهن إسرائيلي اسمه زكريا من بني أبيا بن باكر بن بنيامين من كهنة اليهود، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكريا من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجا امرأة من ذرية هارون اسمها اليصابات وكانت امرأته نسيبة مريم كما في إنجيل لوقا قيل: كانت أختها والصحيح أنها كانت خالتها، أو من قرابة أمها، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك كما يأتي، فطارت القرعة لزكريا، والظاهر أن جعل كفالتها للأحبار لأنها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربى تربية صالحة لذلك.
وقرأ الجمهور: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} بتخفيف الفاء من كفلها أي تولى كفالتها، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: وكفلها بتشديد الفاء أي أن الله جعل زكريا كافلا لها، وقرأ الجمهور زكريا بهمزة في آخره، ممدودا وبرفع الهمزة، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف: بالقصر، وقرأه أبو بكر عن عاصم: بالهمزة في آخره ونصب الهمزة.
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [37].
دل قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} على كلام محذوف، أي فكانت مريم ملازمة لخدمة بيت المقدس، وكانت تتعبد بمكان تتخذه لها محرابا، وكان زكريا يتعهد تعبدها فيرى كرامة لها أن عندها ثمارا في غير وقت وجود صنفها.
و {كُلَّمَا} مركبة من كل الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه، ومن ما الظرفية وصلتها المقدرة بالمصدر، والتقدير: كل وقت دخول زكريا عليها وجد عندها رزقا.
(3/88)

وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} في سورة البقرة [25].
فجملة {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} حال من زكريا في قوله {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
ولك أن تجعل جملة {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} بدل اشتمال من جملة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} .
والمحراب بناء يتخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته، وأكثر ما يتخذ في علو يرتقي إليه بسلم أو درج، وهو غير المسجد، وأطلق على غير ذلك إطلاقات، على وجه التشبيه أو التوسع كقول عمر بن أبي ربيعة:
دمية عند راهب قسيس ... صوروها في مذبح المحراب
أرادا في مذبح البيعة، لأن المحراب لا يجعل فيه مذبح. وقد قيل: إن المحراب مشتق من الحرب لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه، فكأنهم جعلوا ذلك المكان آلة لمحرب الشيطان.
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة. وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة. والتعريف في {الْمِحْرَابَ} تعريف الجنس ويعلم أن المراد محراب جعلته مريم للتعبد.
وأنى استفهام عن المكان، أي من أين لك هذا، فلذلك كان جواب استفهامه قوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
واستفهام زكريا مريم عن الرزق لأنه في غير إبانه ووقت أمثاله، قيل: كان عنبا في فصل الشتاء. والرزق آنفا عند قوله {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} من كلام مريم المحكي.
والحساب في قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بمعنى الحصر لأن الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص، فالمعنى إن الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله.
(3/89)

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [38].
أي في ذلك المكان، قبل أن يخرج، وقد نبهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] والحكمة ضالة المؤمن، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عند في سورة مريم. وأيضا فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضا إلهيا. ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلا كالذوات الصالحة في أنها محال تجليات رضا الله.
وسأل الذرية الطيبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة. ومشاهدة خوارق العادات خولت لزكريا الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز. وسميع هنا بمعنى مجيب.
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [39] {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [40] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [41].
الفاء في قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت.
وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية والقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأن دعاءه كان في صلاته.
ومقتضى قوله تعالى: {هُنَالِكَ} والتفريع عليه بقوله فنادته أن المحراب محراب مريم.
وقرأ الجمهور: فنادته بتاء تأنيث لكون الملائكة جمعا، وإسناد الفعل للجمع
(3/90)

يجوز فيه التأنيث على تأويله بالجماعة أي نادته جماعة من الملائكة. ويجوز أن يكون الذي ناداه ملكا واحدا وهو جبريل وقد ثبت التصريح بهذا في إنجيل لوقا، فيكون إسناد النداء إلى الملائكة من قبيل إسناد فعل الواحد إلى قبيلته كقولهم: قتلت بكر كليبا.
وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: فناداه الملائكة على اعتبار المنادي واحدا من الملائكة وهو جبريل.
وقرأ الجمهور: أن الله بفتح همزة أن على انه في محل جر بباء محذوفة أي نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى.
وقرأ ابن عامر وحمزة: إن بكسر الهمزة على الحكاية. وعلى كلتا القراءتين فتأكيد الكلام بإن المفتوحة الهمزة والمكسورتها لتحقيق الخبر؛ لأنه لغرابته ينزل المخبر به منزلة المتردد الطالب.
ومعنى يبشرك بيحيى يبشرك بمولود يسمى يحيى فعلم أن يحيى اسم لا فعل بقرينة دخول الباء عليه وذكر في سورة مريم [7] {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} .
ويحيى معرب يوحنا بالعبرانية فهو عجمي لا محالة نطق به العرب على زنة المضارع من حيي وهو غير منصرف للعجمة أو لوزن الفعل. وقتل يحيى في كهولته عليه السلام بأمر هيرودس قبل رفع المسيح بمدة قليلة.
وقد ضمت إلى بشارته بالابن بشارة بطيبه كما رجا زكريا، فقيل له مصدقا بكلمة من الله، فمصدقا حال من يحيى أي كامل التوفيق لا يتردد في كلمة تأتي من عند الله. وقد أجمل هذا الخبر لزكريا ليعلم أن حادثا عظيما سيقع يكون ابنه فيه مصدقا برسول يجيء وهو عيسى عليهما السلام.
ووصف عيسى كلمة من الله لأنه خلق بمجرد أمر التكوين الإلهي المعبر عنه بكلمة كن أي كان تكوينه غير معتاد وسيجيء عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45]. والكلمة على هذا إشارة إلى مجيء عيسى عليه السلام. ولا شك أن تصديق الرسول، ومعرفة كونه صادقا بدون تردد، هدى عظيم من الله لدلالته على صدق التأمل السريع لمعرفة الحق، وقد فاز بهذا الوصف يحيى في الأولين، وخديجة وأبو بكر في الآخرين، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، وقيل: الكلمة هنا التوراة، وأطلق عليها الكلمة لأن الكلمة تطلق على الكلام، وأن الكلمة
(3/91)

هي التوراة.
والسيد فيعل من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل. فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفاية مهمات القبيلة والبذل لها وإتعاب النفس لراحة الناس قال الهذلي:
وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل
أترجون أن تسود ولن تعنى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل
وكان السؤدد عندهم يعتمد خلالا مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه، وملاكه بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال العظائم، وأصله الرأي، وفصاحة اللسان.
والسيد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وفيه "إن ابني هذا سيد" يعني الحسن بن علي فقد كان الحسن جامعا خصال السؤدد الشرعي،وحسبك من ذلك أنه تنازل عن حق الخلافة لجمع كلمة الأمة، ولإصلاح ذات البين، وفي تفسير ابن عطية عن عبد الله ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية ابن أبي سفيان فقيل له وأبو بكر وعمر قال: هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما قال ابن عطية: أشار إلى أن أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلة هما فيها خير من معاوية، ولكن مع تتبع الجادة، وقلة المبالاة برضا الناس ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد ومعاوية قد برز في خصال السؤدد التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه ولم يواقع محذورا.
ووصف اله يحيى بالسيد لتحصيله الرئاسة الدينية فيه من صباه، فنشأ محترما من جميع قومه تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} [مريم: 12، 13]، وقد قيل السيد هنا الحليم التقي معا: قاله قتادة، والضحاك، وابن عباس، وعكرمة. وقيل الحليم فقط: قال ابن جبير. وقيل السيد هنا الشريف: قاله جابر بن زيد، وقيل السيد هنا العالم: قاله ابن المسيب، وقتادة أيضا.
وعطف سيدا على مصدقا، وعطف حصورا وما بعده عليه، يؤذن بأن المراد به غير العليم، ولا التلقي، وغير ذلك محتمل. والحصور فعول بمعنى مفعول مثل رسول أي حصور عن قربان النساء.
(3/92)

وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إما أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرمة، بأصل الخلقة، ولعل ذلك لمراعاة براءته مما يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشد البهتان والاختلاق، وإما ألا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأن من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النساء فتعين أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكريا بأن الله وهبه ولدا إجابة لدعوته، إذ قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] وأنه قد أتم مراده تعالى من انقطاع عقب زكريا لحكمة علمها، وذلك إظهار لكرامة زكريا عند الله تعالى.
ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكريا وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى.
وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} : استفهام مراد منه التعجب، قصد منه تعرف إمكان الولد، لأنه لما سأل الولد فقد تهيأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أتى يكون لي غلام إلا تطلبا لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقق له البشارة، وليس من الشك في صدق الوعد، وهو كقول إبراهيم {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فأجيب بأن الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإن عز وقوعها في العادة.
وأنى فيه بمعنى كيف، أو بمعنى المكان، لتعذر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسب وهما الكبر والعقرة. وهذا التعجب يستلزم الشكر على هذه المنة فهو كناية عن الشكر. وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكريا.
وقوله: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} جاء على طريق القلب، وأصله وقد بلغت الكبر، وفائدته إظهار تمكن الكبر منه كأنه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78].
والعاقر المرأة التي لا تلد عقرت رحمها أي قطعته. ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنث كقولهم حائض ونافس ومرضع، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عقرى دعاء على المرأة، وفي الحديث "عقرى حلقى" وكذلك نفساء.
وقوله: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من
(3/93)

شيخ هرم لم يسبق له ولد وامرأة عاقر كذلك، ولعل هذا التكوين حصل بكون زكريا كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقر بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي هو تكوين قدرة الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى.
وقوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أراد آية على وقت حصول ما بشر به، وهل هو قريب أو بعيد، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه. وعن السدي والربيع: آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه وإرادا من قبل الله تعالى، وهو ما في إنجيل لوقا. وعندي في هذا نظر، لأن الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري.
وقوله: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} جعل الله حبسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته، لأن الله صرف ماله من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدماغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البلاذر لقوة الفكر. أو أمره بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل. قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردده في صحة ما أخبره به الملك، وبذلك صرح في إنجيل لوقا، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آية فأعطي غيرها.
وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} أمر بالشكر. والذكر المراد به: الذكر بالقلب والصلاة إن كان قد سلب قوة النطق، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط. والاستثناء في قوله إلا رمزا استثناء منقطع.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [42]{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43]
عطف على جملة: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} . انتقال من ذكر أم مريم إلى ذكر مريم.
ومريم علم عبراني، وهو في العبرانية بكسر الميم، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام. وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أم عيسى ولا لمولدها
(3/94)

ولكنها تبتدئ فجأة بأن عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار، قد حملت من غير زوج.
والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة: قلت لزير لم تصله مريمه.
والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء. وقال في الكشاف : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة.
وتكرر فعل {اصطفاك} لأن الاصطفاء الأول ذاتي، وهو جعلها منزهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير، فلذلك لم يعد الأول إلى متعلق، وعدي الثاني. ونساء العالمين نساء زمانها، أو نساء سائر الأزمنة. وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة.
وإعادة النداء في قول الملائكة {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي} لقصد الإعجاب بحالها، لأن النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة، فكان النداء الثاني مستعملا في مجرد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها، ونظيره قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنامعا ... عقرت بعيري بامرئ القيس فانزل
فهو مستعمل في التنبيه منه إلى التوبيخ.
والقنوت ملازمة العبادة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة البقرة [238].
وقدم السجود، لأنه أدخل في الشكر والمقام هنا مقام شكر.
وقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} إذن لها بالصلاة مع الجماعة، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهار لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير.
وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يجلب لها حزنا وسوء قاله بين الناس، مهد له بما يجلب إليها مسرة، ويوقنها بأنها بمحل عناية الله، فلا جرم أن
(3/95)

تعلم بأن الله جاعل لها مخرجا وأنه لا يخزيها.
وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} إيماء إلى خلو كتبهم عن بعض ذلك، وإلا لقال: وما كنت تتلو كتبهم مثل وما كنت تتلو من قبله من كتاب أي إنك تخبرهم عن أحوالهم كأنك كنت لديهم.
وقوله: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات: بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجح الحق، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المدارس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخير. وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلا مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه. وأشارت الآية إلى أنهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنة، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأن كفالة زكريا مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتهم.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [45] {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [46].
بدل اشتمال من جملة {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] قصد منه التكرير لتكميل المقول بعد الجمل المعترضة. ولكونه بدلا لم يعطف على إذ قالت الأول. وتقدم الكلام على يبشرك.
والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله "ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله" الخ.
ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة.
وقوله: {منه} من للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دل على ذلك قوله: {إِذَا قَضَى أَمْراً} [البقرة: 117].
(3/96)

وقوله: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} عبر عن العلم واللقب والوصف بالاسم، لأن لثلاثتها أثرا في تمييز المسمى. فأما اللقب والعلم فظاهر. وأما الوصف المفيد للنسب فلأن السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف، وتذكر الأم في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم: زياد بن سمية قبل أن يلحق بأبي سفيان في زمن معاوية بن أبي سفيان، وإما لأن لأمه مفخرا عظيما كقولهم: عمرو ابن هند، وهو عمرو بن المنذر ملك العرب.
والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف، ونقلت إلى العربية بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعض أبنائهم عبد السميح وأصلها مسيح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشددة ثم ياء مثناة مكسورة مشددة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سكين.
ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطر الذي أمر الله موسى أن يتخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملكونهم عليهم من عهد شاول الملك، فصار المسيح عندهم بمعنى الملك: ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت كيف لم تخف أن تمد يدك لتهلك مسيح الرب.
فيحتمل أن عيسى سمي بهذا الوصف كما يسمون بملك ويحتمل أنه لقب لقبه به اليهود تهكما عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكا على إسرائيل ثم غلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك، فلذلك سمي به في القرآن.
والوجيه ذو الوجاهة وهي: التقدم على الأمثال، والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال، فأطلق على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال: وجه النهار لأول النهار قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] وقال الربيع بن زياد العبسي:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقال الأعشى:
(3/97)

ولاح لهم وجه العشيات سملق
ويقولون: هو وجه القوم أي سيدهم والمقدم بينهم. واشتق من هذا الاسم فعل وجه بضم الجيم ككرم فجاء منه وجيه صفة مشبهة، فوجيه الناس المكرم بينهم، ومقبول الكلمة فيهم، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} .
والمهد شبه الصندوق من خشب لا غطاء له يمهد فيه مضجع للصبي مدة رضاعه يوضع فيه لحفظه من السقوط.
وخص تكليمه بحالين: حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا، مع أنه يتكلم فيما بين ذلك لأن لذينك الحالين مزيد اختصاص بتشريف الله إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصا لنبوءته. وأما تكليمهم كهلا فمراد به دعوته الناس إلى الشريعة. فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين.
وعطف عليه {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فالمجرور ظرف مستقر في موضع الحال.
والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
والكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب، والمرأة شهلة بالشين، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلا أن العرب قديما سموا شهلا مثل شهل بن شيبان الملقب الفند الزماني فدلنا ذلك على أن الوصف أميت. وقد كان عيسى عليه السلام حين بعث ابن نيف وثلاثين.
وقوله: {وجيها} حال من {كلمة} باعتبار ما صدقها {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عطف على الحال، {ويكلم} جملة معطوفة على الحال المفردة: لأن الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد.
وقوله: {في المهد} حال من ضمير يكلم. وكهلا عطف على محل الجار والمجرور، لأنهما في موضع الحال، فعطف عليها بالنصب، {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} معطوف على {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
(3/98)

إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [47]
وقوله: {قَالَتْ رَبِّ} جملة معترضة، من كلامها، بين كلام الملائكة.
والنداء للتحسر وليس للخطاب: لأن الذي كلمها هو الملك، وهي قد توجهت إلى الله.
والاستفهام في قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} للإنكار والتعجب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها، والثاني إذا قضى أمرا الخ لرفع تعجبها.
وجملة قال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ} الخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} وما بعدها في سورة البقرة [30] والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي.
واسم الإشارة في قوله: {كذلك} راجع إلى معنى المذكور في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} إلى قوله: {وكهلا} [آل عمران: 45، 46] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء. وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله: {اللَّهُ يَخْلُقُ} لإفادة تقوي الحكم وتحقيق الخبر.
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يخلق: لأنه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله، فهو خلق أنف غير ناشئ عن أسباب إيجاد الناس، فكان لفعل يخلق هنا موقع متعين، فإن الصانع إذا صنع شيئا من مواد معتادة وصنعة معتادة، لا يقول خلقت وإنما يقول صنعت.
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [48] {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [49].
جملة {ويعلمه} معطوفة على جملة {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] بعد انتهاء الاعتراض.
وقرأ نافع، وعاصم: ويعلمه بالتحتية أي يعلمه الله. وقرأه الباقون بنون
(3/99)

العظمة، على الالتفات.
والكتاب مراد به الكتاب المعهود. وعطف التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة.
{ورسولا} عطف على جملة يعلمه لأن جملة الحال، لكونها ذات محل من الإعراب، هي في قوة المفرد فنصب رسولا على الحال، وصاحب الحال هو قوله بكلمة، فهو من بقية كلام الملائكة.
وفتح همزة أن في قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} لتقدير باء الجر بعد رسولا، أي رسولا بهذا المقال لما تضمنه وصف رسولا من كونه مبعوثا بكلام، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة.
ومعنى {جئتكم} أرسلت إليكم من جانب الله ونظيره قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف: 63].
وقوله: {بآية} حال من ضمير {جئتكم} لأن المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية. شبه أمر الله إياه بأن يبلغ رسالة بمجيء المرسل من قوم إلى آخرين وذلك سمي النبي رسولا.
والباء في قوله: {بآية} للملابسة أي مقارنا للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبر عنها بفعل المجيء. والمجرور متعلق {جئتكم} على أنه ظرف لغو، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من جئتكم لأن معنى {جئتكم} : أرسلت إليكم، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به. وقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ} بكسر الهمزة استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع، وأبي جعفر. وقرأه الباقون بفتح همزة {أني} على أنه بدل من {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ}.
والخلق: حقيقته تقدير شيء بقدر، ومنه حلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قطعه قبل قطع القطعة منه قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري، ويستعمل مجازا مشهورا أو مشتركا في الإنشاء، والإبداع على غير مثال ولا احتذاء، وفي الإنشاء على مثال يبدع ويقدر، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود
(3/100)

والخلق هنا مستعمل في حقيقة أي: أقدر لكم من الطين كهيئة الطير، وليس المراد به خلق الحيوان، بدليل قوله فأنفخ فيه.
وتقدم الكلام على لفظ الطير في قوله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} في سورة البقرة [260]. والكاف في قوله {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} بمعنى مثل، وهي صفة لموصوف محذوف دل عليه أخلق، أي شيئا مقدرا مثل هيئة الطير. وقرأ الجمهور الطير وهو اسم يقع على الجمع غالبا وقع يقع على الواحد. وقرأه أبو جعفر الطائر.
والضمير المجرور بفي من قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف.
وقرأ نافع وحده فيكون طائرا بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طيرا بصيغة اسم الجمع فقراءه نافع على مراعاة انفراد الضمير، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى. جعل لنفسه التقدير، وأسند لله تكوين الحياة فيه.
والهيئة: الصورة والكيفية أي أصور من الطين صورة كصور الطير. وقرأ الجميع كهيئة بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة.
وزاد قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} لإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات. والأكمة: الأعمى، أو الذي ولد أعمى.
والأبرص: المصاب بداء البرص وهو جاء جلدي له مظاهر متنوعة منها الخفيف ومنها القوي وأعرضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق ثم تنتشر على الجلد فربما عمت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد.
وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة، وهو غير معد، وشوهد أن الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة. والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم. فإما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلا من وراء حجاب، كما وقع في قصة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند. وأما العبرانيون فهم أشد في ذلك. وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكررته مرارا، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلمه
(3/101)

الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أن المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصلة في سفر اللاويين. ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهم المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا.
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.
وإحياء الموتى معجزة للمسيح أيضا، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين، فكان إذا أحيا ميتا كلمه ثم رجع ميتا، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متى في الإصحاح 17 أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.
ومعنى قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} أنه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطلع عليها أحد، فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم، وما عندهم مدخر فيها، لتكون هاته العاطفات كلها من قبيل المعجزات بقرينة قوله {أنبئكم} لأن الإنباء يكون في الأمور الخفية.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} جعل هذه الأشياء كلها آيات تدعو إلى الإيمان به، أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة. والخطاب موجه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم.
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذي جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين. وقد روى أهل السير أن نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [50] {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [51].
(3/102)

{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
عطف على بآية بناء على أن قوله "بآية" ظرف مستقر في موضع الحال كما تقدم أو عطف على جملة جئتكم فيقدر فعل {جئتكم} بعد واو العطف، {ومصدقا} حال من ضمير المقدر معه، وليس عطفا على قوله: {ورسولا} لأن رسولا من كلام الملائكة، {ومصدقا} من كلام عيسى بدليل قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} .
والمصدق: المخبر بصدق غيره، وأدخلت اللام على المفعول للتقوية، للدلالة على تصديق مثبت محقق، أي مصدقا تصديقا لا يشوبه شك ولا نسبة إلى خطأ. وجعل التصديق متعديا إلى التوراة توطئه لقوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} .
ومعنى ما بين يدي ما تقدم قبلي، لأن المتقدم السابق يمشي بين يدي الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئة، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل. ويستعمل بين يدي كذا في معنى المشاهد الحاضر، كما تقدم في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة.
وعطف قوله: {ولأحل} على {رسولا} وما بعده من الأحوال: لأن الحال تشبه العلة؛ إذ هي قيد لعاملها، فإذا كان التقييد على معنى التعليل شابه المفعول لأجله، وشابه المجرور بلام التعليل، فصح أن يعطف عليها مجرور بلام التعليل. ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فيتعلق بفعل جئتكم. وعقب به قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} تنبيها على أن النسخ لا ينافي التصديق؛ لأن النسخ إعلام بتغير الحكم. وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وفي تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولا. قيل أحل لهم الشحوم، ولحوم الإبل، وبعض السمك، وبعض الطير: الذي كان محرما من قبل، وأحل لهم السبت، ولم أقف على شيء من ذلك في الإنجيل. وظاهر هذا أنه لم يحرم عليهم ما حلل لهم، فما قيل: إنه حرم عليهم الطلاق فهو تقول عليه وإنما حذرهم منه وبين لهم سوء عواقبه، وحرم تزوج المرأة المطلقة وينضم إلى ذلك ما لا تخلو عنه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [50]{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [51]
(3/103)

قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} تأكيد لقوله الأول {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 49]. وإنما عطف بالواو لأنه أريد أن يكون من جملة الأخبار المتقدمة ويحصل التأكيد بمجرد تقدم مضمونه، فتكون لهذه الجملة اعتبارات يجعلانها بمنزلة جملتين، وليبنى عليه التفريع بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وقرأ الجمهور قوله: {وأطيعون} بحذف ياء المتكلم في الوصل والوقف، وقرأه يعقوب: بإثبات لياء فيهما.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} إن مكسورة الهمزة لا محالة، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لمجرد الاهتمام كقول بشار.
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
ولذلك قال: {رَبِّي وَرَبُّكُمْ} فهو لكونه ربهم حقيق بالتقوى، ولكونه رب عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعة رسوله.
وقوله: {فاعبدوه} تفريع على الربوبية، فقد جعل قوله: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي} تعليلا ثم أصلا للتفريع.
وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الإشارة إلى ما قاله كله أي أنه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضل سالكه ولا يتحير.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[52] رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [53]}
آذن شرط لما بجمل محذوفة، تقديرها: فولد عيسى، وكلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم، وكلم الناس بالرسالة. وأراهم الآيات الموعود بها، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته، فكفروا به، فلما أحس منهم الكفر قال إلى آخره. أي أحس الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله: {وأطيعون} أي سمع تكذيبهم إياه وأخبر بتمالئهم عليه. ومنهم متعلق بأحس. وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر.
وطلب النصر لإظهار الدعوة لله، موقف من مواقف الرسل، فقد أخبر الله عن نوح
(3/104)

فدعا ربه أني مغلوب فانتصر وقال موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يبلغ دعوة ربه.
وقوله: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبلاغا للدعوة، وقطعا للمعذرة. والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه. ووصل وصف أنصاري بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي من ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي، الذي وعدني به؛ إذ لا بد لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنة الله: قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] على نحو قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي ضامينها فهو ظرف لغو، وإما على جملة حالا من ياء المتكلم والمعنى في حال ذهابي إلى الله، أي إلى تبليغ شريعته، فيكون المجرور ظرفا مستقرا. وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله.
والحواريون: لقب لأصحاب عيسى، عليه السلام: الذين آمنوا به ولازموه، وهو اسم معرب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحال ولكنه ادعى أن معناه الغسال أي غسال الثياب.
وفسره علماء العربية بأنه من يكون من خاصة من يضاف هو إليه ومن قرابته.
وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواري الزبير بن العوام" .
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكل ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصح منه شيء.
والحواريون اثنا عشر رجلا وهم: سمعان بطرس، وأخوه أندراوس، ويوحنا بن زبدي، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلهم صيادو سمك ومتى العشار، وتوما وفيليبس، وبرثولماوس، ويعقوب بن حلفي، ولباوس، وسمعان القانوي، ويهوذا الأسخريوطي.
وكان جواب الحواريين دالا على أنهم علموا أن نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله، وليس في قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ما يفيد حصر لأن الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفا، فلم يحصل تعريف الجزأين، ولكن الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب.
وقد آمن مع الحواريين أفراد متفرقون من اليهود، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم،
(3/105)

وآمن به من النساء أمه عليها السلام، ومريم المجدلية، وأم يوحنا، وحماة سمعان، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس، وسوسة، ونساء أخر ولكن النساء لا تطلب منهن نصرة.
وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا} من كلام الحواريين بقية قولهم، وفرعوا على ذلك الدعاء دعاء بان يجعلهم الله مع الشاهدين أي مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ، وبالصدق، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى فيما علمهم إياه فضائل من يشهد للرسل بالصدق.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [54].
عطف على جملة {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} فإنه أحس منهم الكفر وأحس منهم بالغدر والمكر.
وضمير مكروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير منهم وهم اليهود وقد بين ذلك قوله تعالى، في سورة الصف [14] {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} . والمكر فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، والمراد هنا: تدبير اليهود لأخذ المسيح، وسعيهم لدى ولاة الأمور ليمكنوهم من قتله. ومكر الله بهم هو تمثيل لإخفاق الله تعالى مساعيهم في حال ظنهم أن قد نجحت مساعيهم، وهو هنا مشاكلة. وجاز إطلاق المكر على فعل الله تعالى دون مشاكلة كما في قوله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [99] في سورة الأعراف وبعض أساتذتنا يسمي مثل ذلك مشاكلة تقديرية.
ومعنى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم.
ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أن الإملاء والاستدراج، الذي يقدره للفجار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمكر في أنه حسن الظاهر سيئ العاقبة، هو خير محض لا يترتب عليه إلا الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصا أو أشخاصا، فهو من هذه الجهة مجرد عما في المكر من القبح، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رأي، أو سوء طوية، أو جبن، أو ضعف، أو طمع، أو نحو ذلك. أي فإن كان في المكر قبح فمكر الله خير محض، ولك على هذا الوجه أن تجعل خير بمعنى التفضيل وبدونه.
(3/106)

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [55] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [56] وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [57].
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [55] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [56]
استئناف؛ وإذ ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي اذكر إذ قال الله: كما تقدم في قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وهذا حكاية لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسا له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيرا له بأن الله مظهر دينه، لأن غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال لهك {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبض نبي حتى يخير".
وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ظاهر معناه: إني مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأن أصل فعل توفى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه. فيقال: توفاه الله أي قدر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]. أي وأما التي تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثم قال حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرع بالبيان بقوله: "فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض
(3/107)

الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام؛ ولأن النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل يحتمل أن قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز.
وقال الربيع: هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة: معناه إني قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل: متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة: أن عيسى ينزل في آخر مدة الدنيا، فأفهم أن له حياة خاصة أخص من حياة أرواح بقية الأنبياء، التي هي حياة أخص من حياة بقية الأرواح؛ فإن حياة الأرواح متفاوتة كما دل عليه حديث "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر". ورووا أن تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأول معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه: توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء، وقال بعضهم: توفي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وفقا وسددا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ "يبعث الله عيسى فيقتل الدجال" رواه مسلم عن عبد الله ابن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.
وقد قيل في تأويله: إن عطف {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إني رافعك إلي ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أن في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود "ويمكث" أي "عيسى أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون" والوجه أن يحمل قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤول الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حي على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره
(3/108)

دون تأويل، أن ذلك يقوم مقام البعث، وأن قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جمع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عد مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان.
والتطهير في قوله: {ومطهرك} مجازي بمعنى العصمة والتنزيه؛ لأن طهارة عيسى هي هي، ولكن لو سلط عليه أعداؤه لكان ذلك إهانة له.
وحذف متعلق كفروا لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود، لأن اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى، لأن عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيره لا يظن أنه تطهير من المشركين بقرينة السياق.
والفوقية في قوله: {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بمعنى الظهور والانتصار، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
والمراد بالذين اتبعوه: الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك، إلى أن نسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم.
وجملة {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} عطف على جملة {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاء الله متبعي عيسى والكافرين به، وثم للتراخي الرتبي؛ لأن الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه، أعظم درجة وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا.
والظاهر أن هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى، وأن ضمير مرجعكم، وما معه من ضمائر المخاطبين، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به.
ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني.
والمرجع مصدر ميمي معناه الرجوع. وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعين أنه رجوع مجازي، فيجوز أن يكون المراد به البعث للحساب بعد الموت، وإطلاقة على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير، ويجوز أن يكون مرادا به انتهاء إمهال الله إياهم في أجل أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا.
(3/109)

ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون. وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} إلى قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} تفصيل لما أجمل في قوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . وإنما يكون ذلك في الآخرة، فذكر عذاب الدنيا هنا إدماج. فإن كان هذا مما خاطب الله عيسى فهو مستعمل في صريح معناه، وإن كان كلاما من الله في القرآن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، صح أن يكون مرادا منه أيضا التعريض بالمشركين في ظلمهم محمدا صلى الله عليه وسلم عن مكابرة منهم وحسد. وتقدم تفسير إسناد المحبة إلى الله عند قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} في هذه السورة.
وجملة {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} تذييل لجملة {أُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي ولا يجدون ناصرين ينصرونهم في تعذيبهم الذي قدره الله تعالى.
واعلم أن قوله فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة قضية جزئية لا تقتضي استمرار العذابين:
فأما عذاب الدنيا فهو يجري على نظام أحوال الدنيا: من شدة وضعف وعدم استمرار، فمعنى انتفاء الناصرين لهم منه انتفاء الناصرين في المدة التي قدرها الله لتعذيبهم في الدنيا، وهذا متفاوت، وقد وجد اليهود ناصرين في بعض الأزمان مثل قصة أستير في الماضي وقضية فلسطين في هذا العصر.
وأما عذاب الآخرة: فهو مطلق هنا، ومقيد في آيات كثيرة بالتأييد، كما قال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167].
وجملة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تذييل للتفصيل كله فهي تذييل ثاني لجملة {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بصريح معناها، أي أعذبهم لأنهم ظالمون والله لا يحب الظالمين وتذييل لجملة {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى آخرها، بكناية معناها؛ لأن انتفاء محبة الله الظالمين يستلزم أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلذلك يعطيهم ثوابهم وافيا.
(3/110)

ومعنى كونهم ظالمين أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وظلم الله النصارى بأن نقصوه بإثبات ولد له وظلموا عيسى بأن نسبوه ابنا لله تعالى، وظلمه اليهود بتكذيبهم إياه وأذاهم.
وعذاب الدنيا هو زوال الملك وضرب الذلة والمسكنة والجزية، والتشريد في الأقطار، وكونهم يعيشون تبعا للناس، وعذاب الآخرة هو جهنم. ومعنى: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أنهم لا يجدون ناصرا يدفع عنهم ذلك وإن حاوله لم يظفر به وأسند {فيوفيهم} إلى نون العظمة تنبيها على عظمة مفعول هذا الفاعل؛ إذ العظيم يعطي عظيما. والتقدير فيوفيهم أجورهم في الدنيا والآخرة بدليل مقابله في ضدهم من قوله: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وتوفية الأجور في الدنيا تظهر في أمور كثيرة: منها رضا الله عنهم، وبركاته معهم، والحياة الطيبة، وحسن الذكر. وجملة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تذييل، وفيها اكتفاء: أي ويحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقرأ الجمهور: {فنوفيهم} بالنون وقرأه حفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب، {فيوفيهم} بياء الغائب على الالتفات.
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم} [58].
تذييل: فإن الآيات والذكر أعم من الذي تلي هنا، واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] وتذكير اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالكلام أو المذكور. وجملة نتلوه حال من اسم الإشارة على حد {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] وهو استعمال عربي فصيح وإن خالف في صحة مجيء الحال من اسم الإشارة بعض النحاة.
وقوله: {من الآيات} خبر {ذلك} أي إن تلاوة ذلك عليك من آيات صدقك في دعوى الرسالة؛ فإنك لم تكن تعلم ذلك، وهو ذكر وموعظة للناس، وهذا أحسن من جعل نتلوه خبرا عن المبتدأ، ومن وجوه أخرى. والحكيم بمعنى المحكم، أو هو مجاز عقلي أي الحكيم عالمه أو تاليه.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[59] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [60].
استئناف بياني: بين به ما نشأ من الأوهام، عند النصارى، عن وصف عيسى بأنه
(3/111)

كلمة من الله، فضلوا بتوهمهم أنه ليس خالص الناسوت. وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تأليه عيسى، ورد مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بإلهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمة من الله وليس له أب، فقالوا: هو ابن الله، فأراهم الله أن آدم أولى بأن يدعى له بذلك، فإذا لم يكن آدم إلها مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدم.
ومحل التمثيل كون كليهما من دون أب، ويزيد آدم بكونه من دون أم أيضا، ولذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب. وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم في كونه خلقا غير معتاد لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبا للمسيح نسبة خاصة عند الله وهي البنوة. وقال ابن عطية: أراد الله بقوله: {عند الله} نفس الأمر الواقع.
والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى؛ إذ قد علم الكل أن عيسى لم يخلق من تراب، فمحل التشبيه قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وجملة {خلقه} وما عطف عليها مبينة لجملة كمثل آدم.
وثم للتراخي الرتبي فإن تكوينه بأمر {كن} أرفع رتبة من خلقه من تراب، وهو أسبق في الوجود والتكوين المشار إليه بكن: هو تكوينه على الصفة المقصودة، ولذلك لم يقل: كونه من تراب ولم يقل: قال له كن من تراب ثم أحياه، بل قال خلقه ثم قال له كن. وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أن التكوين ليس بصنيع يد، ولا نحت بآلة، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكون وكل ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز، فبتلك الكلمة كان آدم أيضا كلمة من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنه لم يقع احتياج إلى ذلك لفوات زمانه.
وإنما قال: {فيكون} ولم يقل فكان لاستحضاره صورة تكونه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلا على هذا المعنى، مثل قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له.
وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الحق. ومن ربك حال من
(3/112)

الحق. والخطاب في {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود التعريض بغيره، والمعرض بهم هنا هم النصارى الممترون الذين امتروا في الإلهية بسبب تحقق أن لا أب لعيسى.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [61].
تفريع على قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فلا تكن من الممترين} لما فيه من إيماء إلى أن وفد نجران ممترون في هذا الذي بين الله لهم في هذه الآيات: أي فإن استمروا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة. ذلك أن تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة، وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.
و {تعالوا} اسم فعل لطلب القدوم، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلو، فكأنهم أرادوا في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره وأما قول أبي فراس الحمداني:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسك الهموم تعالي
فقد لحنوه فيه.
ومعنى: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره، والمقصود هو قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} إلى آخره.
وثم هنا للتراخي الرتبي.
والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.
ومعنى {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ } فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين. وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا. روى المفسرون وأهل السيرة أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال لهم العاقب: نلاعنه فوالله لئن كان نبيا
(3/113)

فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي.
وهذه المباهلة لعلها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم.
وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لما ظهرت مكابرتهم في الحق وحب الدنيا، علم أن من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحب إليه من الحق كما قال شعيب أرهطي أعز عليكم من الله وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة.
والظاهر أن المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللائي كن معهم.
والنساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وقال: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} وقال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا عَلَى الْكَاذِبِينَوإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أن المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة.
والابتهال افتعال من البهل، وهو اللعن، يقال: بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة بالضم والفتح ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء قال الأعشى:
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا ... تعوذ من شرها يوما وتبتهل
وهو المراد هنا بدليل أنه فرع عليه قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} على الكاذبين.
وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلا واثق بأنه على الحق. وهذه المباهلة لم تقع لأن نصارى نجران لم يستجيبوا إليها. وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن النبي هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة. ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
(3/114)

الْحَكِيمُ [62] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [63].
جملة {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وما عطف عليها بالواو اعتراض لبيان ما اقتضاه قوله: {الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] لأنهم نفوا أن يكون عيسى عبد الله، وزعموا أنه غلب فإثبات أنه عبد هو الحق.
واسم الإشارة راجع إلى ما ذكر من نفي الإلهية عن عيسى.
والضمير في قوله {لَهُوَ الْقَصَصُ} ضمير فصل، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادها ضمير الفصل؛ لأن اللام وحدها مفيدة تقوية الخبر وضمير الفصل يفيد القصر أي هذا القصص لا ما تقصه كتب النصارى وعقائدهم.
والقصص بفتح القاف والصاد اسم لما يقص، يقال: قص الخبر قصا إذا أخبر به، والقص أخص من الإخبار؛ فإن القص إخبار بخبر فيه طول وتفصيل وتسمى الحادثة التي من شأنها أن يخبر بها قصة بكسر القاف أي مقصوصة أي مما يقصها القصاص، ويقال للذي ينتصب لتحديث الناس بأخبار الماضين قصاص بفتح القاف. فالقصص اسم لما يقص: قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وقيل: هو اسم مصدر وليس هو مصدرا، ومن جرى على لسانه من أهل اللغة أنه مصدر فذلك تسامح من تسامح الأقدمين، فالقص بالإدغام مصدر، والقصص بالفك اسم للمصدر واسم للخبر المقصوص.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} تأكيد لحقية هذا القصص. ودخلت من الزائدة بعد حرف النفي تنصيصا على قصد نفي الجنس لتدل الجملة على التوحيد، ونفي الشريك بالصراحة، ودلالة المطابقة، وأن ليس المراد نفي الوحدة عن غير الله، فيوهم أنه قد يكون إلاهان أو أكثر في شق آخر، وإن كان هذا يؤول إلى نفي الشريك لكن بدلالة الالتزام.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيه ما في قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} فأفاد تقوية الخبر عن الله تعالى بالعزة والحكم، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذلة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضا لإبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتاجا لإنقاذه من أيدي الظالمين.
وجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} عطف على قوله: {فَقُلْ تَعَالَوْا} [آل عمران:
(3/115)

61] وهذا تسجيل عليهم إذ نكصوا عن المباهلة، وقد علم بذلك أنهم قصدوا المكابرة ولم يتطلبوا الحق، روي أنهم لما أبوا المباهلة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "فإن أبيتم فأسلموا" فأبوا فقال "فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد" فأبوا فقال لهم "فإني أنبذ إليكم على سواء" أي أترك لكم العهد الذي بيننا فقالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا 1 على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة حمراء ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا أمينا يحكم بينهم فقال: "لأبعثن معكم أمينا حق أمين" فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ولم أقف على ما دعاهم إلى طلب أمين ولا على مقدار المدة التي مكث فيها أبو عبيدة بينهم.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64].
رجوع إلى المجادلة، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة، بعث عليه الحرص على إيمانهم، وإشارة إلى شيء من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلام الوجه لله كما تقدم بيانه. وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلا وهي دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية. فجملة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بمنزلة التأكيد لجملة {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} [آل عمران: 61] لأن مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقية اعتقادهم، ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام، ولذلك لم تعطف هذه الجملة. والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى: لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربا وعبدوه مع الله.
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل: جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده. وتقدم الكلام على تعالوا قريبا.
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100].
ـــــــ
أي بالإكراه.
(3/116)

وسواء هنا اسم مصدر الاستواء، قيل بمعنى العدل، وقيل بمعنى قصد لا شطط فيها، وهذان يكونان من قولهم: مكان سواء وسوى وسوى بمعنى متوسط قال تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]. وقال ابن عطية: بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس، فإن اتخاذ بعضهم بعضا أربابا، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن. وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث، وصف به {كلمة} ، وهو لفظ مؤنث، لأن الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه.
و {ألا نعبد} بدل من {كلمة} ، وقال جماعة: هو بدل من سواء، ورده ابن هشام، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب، واعترضه الدمامينى وغيره.
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى؛ لأن سواء وصف لكلمة وألا نعبد لو جعل بدلا من سواء آل إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به.
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام: وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولذلك جاء بعده {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .
ويستفاد من قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلا آخره، التعريض بالذين عبدوا المسيح كلهم.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} جيء في هذا الشرط بحرف إن لأن التولي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضا، وذلك من مواقع إن الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يؤيس من إسلامهم فأعرضوا عنهم، وأمسكوا أنتم بإسلامكم، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم. ومعنى هذا الإشهاد التسجيل عليهم لئلا يظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[65] هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [66]
(3/117)

استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كل فريق منهم أنهم على دينه توصلا إلى أن الذي خلف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى. وهذه المحاجة عن طريق قياس المساواة في النفي، أو محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا.
فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} أي قل لهم: يا أهل الكتاب لم تحاجون. ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول: {تعالوا} فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأن الأولى من شؤون الدعوة، وهذه من طرق المحاجة، وإبطال قولهم، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة. والكل في النسبة إلى الله سواء.
ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة وبعدها أن الإسلام الذي جاء به محمد عليه السلام يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل [123] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} وسيجيء أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة، وبين اليهود في المدينة، وبين النصارى في وفد نجران، وقد علم أن المشركين بمكة كانوا يدعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته، وكان أهل الكتاب قد ادعوا أنهم على دين إبراهيم، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فاستيقظوا لتقليده في ذلك، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأن دينه الحق، وأن الدين عند الله الإسلام فألجئوه إلى أحد أمرين: إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتباعه، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم.
وأحسب أن ادعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبث كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب، ولاسيما النصرانية؛ فإن دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب
(3/118)

فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا: إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتبعت في بعض قبائل العرب، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات: فروي أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى اتباع دينه: على أي دين أنت قال: "على ملة إبراهيم" قالوا: فقد زدت فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله. وروي: أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة، عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأدعى كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم، من يهود ونصارى.
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.
وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم: فقد زدت فيه ما ليس منه، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم. وتفصيل هذا المنع: إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم، فمن أين لكم أن الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم، فأنكم لا مستند لكم في عملكم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل. ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كل فريق منهما أنه على دين إبراهيم؛ بأن دين اليهود هو التوراة، ودين النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعة له. قال الفخر: يعني ولم يصرح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف: لأن أهل الكتاب شمل الفريقين، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذي مساق الكلام معهم.
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أن الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويثبت عليهم أن الإسلام على دين إبراهيم: وذلك أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} يدل على أن علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.
(3/119)

وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يبطل قولهم: إن الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأن التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون وكيف يدعى أن الإسلام دين إبراهيم مع أن القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} يدل على أن الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تتخلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا: إن مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم؛ فإن القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام.
والاستفهام في قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ} مقصود منه التنبيه على الغلط.
وقد أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم، وبين وصف الإسلام بأنه ملة إبراهيم: لأنهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأن مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20] وعند قوله: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} فاكتفي في المحاجة بإبطال مستندهم في قولهم فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع، ثم يقوله {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] على طريقة الدعوى بناء على أن انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل.
وقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ} تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {ثُُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة [85].
وقرأ الجمهور: ها أنتم بإثبات ألف ها وبتخفيف همزة أنتم، وقرأه قالون، وأبو عمرو، ويعقوب: بإثبات الألف وتسهيل همزة أنتم، وقرأه ورش بحذف ألف ها وبتسهيل همزة أنتم وبإبدالها ألفا أيضا مع المد، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف.
(3/120)

ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسؤول عنه هو سبب المحاجة مجهول؛ لأنه ليس من شأنه ان يعلم لأنه لا وجود له، فلا يعلم، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري، وليس عينه.
وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] وقول ابن معد يكرب:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء. إذا جر بواحد من تلك الحروف ما هذه يكتبون الألف على صورة الألف: لأن ما صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات.
وقوله: {في إبراهيم} معناه في شيء من أحواله، وظاهر أن المراد بذلك هنا دينه، فهذا من تعليق الحكم بالذات، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} في سورة البقرة [173].
وها من قوله: {ها أنتم} تنبيه، وأصل الكلام أنتم حاججتم، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والتنكير والتنبيه ونحو ذلك، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده فيقال ها أنا ذا، وها أنتم أولاء أو هؤلاء.
{وحاججتم} خبر {أنتم} ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ} : لأن الاستفهام فيه إنكاري، فمعناه: فلا تحاجون.
وسيأتي بيان مثله في قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119].
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تكميل للحجة أي أن القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون، وهذا كقوله في سورة البقرة [140] {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} .
{مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ
(3/121)

الْمُشْرِكِينَ} [67].
نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجة الماضية أن اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، وأن موسى وعيسى، عليهما السلام، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أن إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى، عليهما السلام، فهذا سنده خلو كتبهم عن ادعاء ذلك. وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوها من فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] عن عكرمة قال لما نزلت الآية قال أهل الملل قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية فحج المسلمون وقعد الكفار. ثم تمم الله ذلك بقوله: وما كان من المشركين، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
والحنيف تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} في سورة البقرة [135].
وقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أفاد الاستدراك بعد نفي الضد حصرا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام، ولذلك بين حنيفا بقوله: {مسلما} لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أن الإسلام هو الحنيفية، وقال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فنفي عن إبراهيم موافقة اليهودية، وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين، وإنه كان مسلما، فثبتت موافقة الإسلام، وقد تقدم في سورة البقرة [135] في مواضع أن إبراهيم سأل أن يكون مسلما، وأن الله أمره أن يكون مسلما، وأنه كان حنيفا، وأن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء به إبراهيم {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكل ذلك لا يبقى شكا في أن الإسلام هو إسلام إبراهيم.
وقد بينت آنفا عند قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آلعمران: 20] الأصول الداخلة تحت معنى {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} فلنفرضها في معنى قول إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلانا لم يترك للشرك مسلكا إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلا وهو الكعبة، أول بيت وضع الناس، وفرض حجه على الناس: ارتباطا بمغزاة، وأعلن تمام العبودية لله
(3/122)

تعالى بقوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80] وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} [الأنعام: 81] وتطلب الهدى بقولهك {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة: 128] وكسر الأصنام بيده {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} [الأنبياء: 58]، وأظهر الانقطاع لله بقوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 78- 81]، وتصدى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِه} [الأنعام: 83] ِ {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80].
وعطف قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لييأس مشركو العرب من أن يكونوا على ملة إبراهيم، وحتى لا يتوهم متوهم أن القصر المستفاد من قوله ولكن حنيفا مسلما قصر إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملة إبراهيم لكنهم مشركون.
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [68].
استئناف ناشئ عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون: نحن أولى بدينكم.
وأولى اسم تفضيل أي أشد وليا أي قربا مشتق من ولي إذا صار وليا، وعدي بالباء لتضمنه معنى الاتصال أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه. ومن المفسرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطر إلى تقدير مضاف قبل قوله {بإبراهيم} أي بدين إبراهيم.
والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته: مثل لوط وإسماعيل وإسحاق، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية ابن أبي الصلت، وأبيه أبي الصلت، وأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفا، وفي صحيح البخاري : أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل
(3/123)

عن الدين فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه فقال له: إنا أريد أن أكون على دينك، فقال اليهودي: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ? قال: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال: وما الحنيف ? قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا لا يعبد إلا الله، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي، غير أن النصراني قال: أن تأخذ بنصيبك من لعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء وقال: اللهم أشهد أنا على دين إبراهيم وهذه أمنية منه لا تصادف الواقع. وفي صحيح البخاري ، عن أسماء بنت أبي بكر: قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى النبي سفرة فأبى زيد بن عمرو أن يأكل منها وقال: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش. وأن زيدا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله.
واسم الإشارة في قوله: {وهذا النبي} مستعمل مجازا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث "فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار" فالإشارة استعملت في استحضار الدواب المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قصدت الإشارة إلى ذاته. ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر: نجوت وهذا تحملين طليق أي والمتكلم الذي تحملينه. والاسم الواقع بعد اسم الإشارة، بدلا منه، هو الذي يعين جهة الإشارة ما هي. وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام بع وفيه إيماء إلى أن متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من النيفية أنه موافق لها في أصولها. والمراد بالذين آمنوا المسلمون. فالمقصود معناه اللقبي، فإن وصف الذين آمنوا صار لقبا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيا أيها الذين آمنوا.
ووجه كون هذا النبي والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه،
(3/124)

إنهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره، فهؤلاء أحق به ممن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأل عن صوم اليهود يوم عاشوراء فقالوا: "هو يوم نجى الله فيه موسى" فقال "نحن أحق بموسى منهم" وصامه وأمر المسلمين بصومه.
وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، والله ولي إبراهيم، والذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا؛ لأن التذييل يشمل المذيل قطعا، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص. وفي قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله: {كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً} [آل عمران: 67] تعريض بأن الذين لم يكن إبراهيم ليس منهم ليسوا بمؤمنين.
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [69].
استئناف مناسبته قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم} [آل عمران: 64- 68] الخ. والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، ولذلك عبر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلا يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت معهم في الآيات السابقة.
والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريضة، والنضير، وقينقاع، دعوا عمار بن ياسر، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، إلى الرجوع إلى الشرك.
وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودت على طريقة الإجمال والتفصيل. فلو شرطية مستعملة في التمني مجازا لأن التمني من لوازم الشرط الامتناعي. وجواب لا شرط محذوف يدل عليه فعل ودت تقديره: لو يضلونكم لحصل مودودهم، والتحقيق أن التمني عارض من عوارض لو الامتناعية في بعض المقامات. وليس هو معنى أصليا من معاني لو. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة البقرة [96].
وقوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أي ودوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب: أي يذبذبوهم، ويحتما أن المراد الإضلال في نفس
(3/125)

الأمر، وإن كان ود أهل الكتاب أن يهودوهم. وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أن يكون معناه: إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضا ضالين؛ لأن الإضلال ضلال، وأن يكون معناه: إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} يناسب الاحتمالين لأن العلم بالحالتين دقيق.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ[70] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [72].
التفات إلى خطاب اليهود. والاستفهام إنكاري. والآيات: المعجزات، ولذلك قال وأنتم تشهدون. وإعادة ندائهم بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم. ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت لا ثقة بجميعه. وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يعلمونها ولا يعملون بها.
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72] وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [73] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74].
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72] وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}.
عطف على {وَدَّتْ طَائِفَةٌ} [آل عمران: 69]. فالطائفة الأولى حاولت الإضلال بالمجاهرة، وهذه الطائفة حاولته بالمخادعة: قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وغيرهما من يهود خيبر، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس، فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى، فقالوا لطائفة من أتباعهم: آمنوا بمحمد أول لانهار مظهرين أنكم صدقتموه ثم اكفروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون ما صرف هؤلاء عنا إلا ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا لادين، وأنه ليس هو الدين لا مبشر به في لا كتب السالفة ففعلوا ذلك.
(3/126)

وقوله: {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويها بصدق إيمانهم. ويحتمل أنه من المحكي بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علما بالغلبة عليهم. ووجه النهار أوله وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45].
وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أنه إيمان حق، فالمعنى ولا تؤمنوا إيمانا حقا إلا لمن تبع دينكم، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم تبع دينكم فهذا تعليل للنهي.
وهذا اعتذار عن إلزامهم بأن كتبهم بشرت بمجيء رسول مقف فتوهموا أنه لا يجيء إلا بشريعة التوراة، وضلوا عن عدم الفائدة في مجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل، فيتنزه فعل الله عنه، فالرسول لا ذي يجيء بعد موسى لا يكون إلا ناسخا لبعض شريعة التوراة فجمعهم بين مقالة: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وبين مقالة: {وَلا تُؤْمِنُوا} مثل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17].
وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام معترض، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم. كناية ع استبعاد حصول اهتدائهم، وأن الله لم يهدهم، لأن هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدره الله. فالقصر حقيقي: لأن ما لم يقدره الله فهو صورة الهدى وليس بهدى وهو مقابل قولهم: آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، إذ أرادوا صورة الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا لا جواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم.
{أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}
أشكل موقع هذه الآية بعد سابقتها وصف نظمها، ومصرف معناها: إلى أي فريق. وقال القرطبي: إنها أشكل آية في هذه السورة. وذكر ابن عطية وجوها ثمانية. ترجع إلى احتمالين أصليين.
الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفة من أهل الكتاب بعضهم بعضا، وأن جملة {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} معترضة في أثناء ذلك الحوار، وعلى هذا الاحتمال تأني
(3/127)

وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين:
أحدهما: أنهم أرادوا تعليل قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يقدر لام تعليل محذوف قبل أن المصدرية وهو حذف شائع مثله. ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد أن يدل عليه السياق ويقتضيه لفظ أحد المراد منه شمول كل أحد: لأن ذلك اللفظ لا يستعمل مرادا منه الشمول إلا في سياق النفي، وما في معنى النفي مثل استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل أحد في الكلام الموجب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية.
فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وحذف حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرة ومقدرة، كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا.
والمعنى: أن قصدهم من هذا الكلام تثبيت أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوزون نسخ أحكام الله ويتوهمون أن النسخ يقتضي البداء.
الوجه الثاني: أنهم أرادوا إنكار أن يؤتى أحد بالنبوة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل، فيكون لا كلام استفهاما إنكاريا حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة لا سياق؛ ويؤيده قراءة ابن كثير قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} بهمزتين.
وأما قوله: أو يحاجوكم عند ربكم فحرف أو فيه للتقسيم مثل {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]، وما بعد أو معطوف على النفي، أو على الاستفهام الإنكاري: على اختلاف التقديرين، والمعنى: ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجوكم عند ربكم، أي لا حجة لهم عليكم عند الله.
واو الجمع في {يحاجوكم} ضمير عائد إلى أحد لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار.
وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأن الله حرمهم التوفيق.
الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقية لقوله إن الهدى هدى الله.
(3/128)

والكلام على هذا رد على قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} وقولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على طريقة اللف والنشر المعكوس، فقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} إبطال لقولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي قلتم ذلك حسدا من {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} وقوله: {أو يحاجوكم} رد لقولهم {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} على طريقة التهكم، أي مرادكم التنصل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله: {أو يحاجوكم} عائد إلى الذين آمنوا. وهذا الاحتمال أنسب نظما بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ليكون لكل كلام حكي عنهم تلقين جواب عنه: فجواب قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . وجواب قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا} الخ قوله: قل إن الفضل بيد الله الخ. فهذا ملك الوجوه، ولا نطيل باستيعابها إذ ليس من غرضنا في هذا لا تفسير.
وكلمة {أحد} اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلا في حيز النفي فيفيد العموم مثل عريب وديار ونحوهما وندر وقوعه في حيز الإيجاب، وهمزته مبدلة من الواو وأصله وحد بمعنى واحد ويرد وصفا بمعنى واحد.
وقرأ الجمهور {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} بهمزة واحدة هي جزء من حرف أن. وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف أن وسهل الهمزة الثانية.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[73] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74].
زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمدا، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54].
وتأكيد الكلام بـ "إن" لتنزيلهم منزلة من ينكر أن الفضل بيد الله ومن يحسب أن
(3/129)

الفضل تبع لشهواتهم وجملة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} عطف على جملة أن الفضل بيد الله وهو لا يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله.
و {واسع} اسم فاعل الموصوف بالسعة.
وحقيقة السعة امتداد فضاء الحيز من مكان أو ظرف امتدادا يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحوي، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع، ويطلق الاتساع وما يشتق منه على وفاء الشيء بالعمل الذي يعمله نوعه دون مشقة يقال: فلان واسع البال، وواسع الصدر، وواسع العطاء. وواسع الخلق، فتدل على شدة أو كثرة ما يسند إليه أو يوصف به أو يتعلق به من أشياء ومعان، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانيا.
و {واسع} من صفات الله وأسمائه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى، ومعنى هذا الاسم عدم تناهي التعلقات لصفاته ذات التعلق فهو واسع العلم، واسع الرحمة، واسع العطاء، فسعة صفاته تعالى أنها لا حد لتعلقاتها، فهو أحق الموجودات بوصف واسع، لأنه الواسع المطلق.
وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضا لأن الواسع صفاته ولذلك يؤتى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو: وسع كل شيء علما، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما. فوصفه في هذه الآية بأنه واسه هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلا لقوله: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأحسب أن وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن.
وقوله: {عليم} صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلقات صفة علمه تعالى.
ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضله ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه، قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وجملة {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} بدل بعض من كل لجملة {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} فإن رحمته بعض مما هو فضله.
وجملة {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ
(3/130)

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} في سورة البقرة [105].
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [75] بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [76].
عطف على قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 72] أو على قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادعائهم أنهم أولى الناس به، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم.
وقد ذكر الله هنا في أهل الكتاب فريقين: فريقا يؤدي الأمانة تعففا عن الخيانة وفريقا لا يؤدي الأمانة متعللين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل: ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فنحاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب. والمقصود من الآية ذم الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخون قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فلذلك كان المقصود هو قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الخ ولذلك طول الكلام فيه.
وإنما قدم عليه قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} إنصافا لحق هذا الفريق، لأن الإنصاف مما أشتهر به الإسلام، وغذ كان في زعمهم أن دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعي عليهم، والتعبير بهذا القول لازما لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأن الأمين حينئذ لا مزية له إلا في أنه ترك حقا يبيح له دينه أخذه، فترفع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما: ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، والثاني للتعجيب من أن يكون الخون خلقا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيب عند قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} فيكسب المسند إليهما زيادة عجب حال.
(3/131)

وعدي {تأمنه} مع إن مثله يتعدى بعلى كقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} [يوسف: 64]، لتضمينه معنى تعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانة بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذر أو عباس بن مرداس:
أرب يبول الثعلبان برأسه
وهو محمل بعيد، لأن الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24].
وقرأ الجمهور {يؤده} إليك بكسر الهاء من يؤده على الأصل في الضمائر.
وقرأه أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر: بإسكان هاء لا ضمير في يؤده فقال الزجاج: هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل هكذا نقله ابن عطية ومعناه أن جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء. وقيل هو إجراء للوصل مجرى الوقف وهو قليل، قال الزجاج: وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه لا مشهور من الاستعمال المقيس، واللغة أوسع من ذلك، والقرآن حجة. وقرأه هشام عن ابن عامر، ويعقوب باختلاس الكسر.
وحكى القرطبي عن الفراء: أن مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله لا رفع وهذا كما قال الراجز:
لما رأى ألا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
والقنطار تقدم آنفا في قوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].
والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرب دنار من الرومية.
وقد جعل القنطار والدينار مثلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.
وقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة: كقوله
(3/132)

{قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أي لا يفعل إلا العدل.
وعدي قائما بحرف على لأن القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.
وما من قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} قائما حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزم حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية. وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف، ولكنها مستفادة من موقع ما في سياق كلام يؤذن بالزمان، ويكثر ذلك في دخول ما على الفعل المتصرف من مادة دام ومرادفها.
وما في هذه الآية كذلك فالمعنى: لا يؤده إليك إلا في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه. والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعد الموت.
والاستثناء من قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} يجوز أن يكون استثناءا مفرغا من أوقات يدل عليها موقع ما والتقدير لا يؤده إليك في جميع الأزمان إلا زمانا تدوم عليه فيه قائما فيكون ما بعد إلا نصبا على الظرف، ويجوز أن يكون مفرغا من مصادر يدل عليها معنى ما المصدرية، فيكون ما بعده منصوبا على الحال لأن المصدر يقع حالا.
وقدم المجرور على متعلقه في قوله: {عَلَيْهِ قَائِماً} للإهتمام بمعنى المجرور، ففي تقديمه معنى الإلحاح أي إذا لم يكن قيامك عليه لا يرجع لك أمانتك.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} قالوا إلى الحكم المذكور وهو {إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.
والباء للسبب أي ذلك مسبب عن أقوال اختلقوها، وعبر عن ذلك بالقول، لأن القول يصدر عن الاعتقاد، فلذا ناب منابه فأطلق على الظن في مواضع من كلام العرب.
وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة.
وحرف في هنا للتعليل. وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات، تعين تقدير مضاف
(3/133)

مجرور بحرف في والتقدير في معاملة الأميين.
ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سيق له الكلام.
فالسبيل هنا طريق المؤاخذة، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازا مشهورا على المؤاخذة قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] وربما عبر عنه العرب بالطريق قال حميد بن ثور:
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود علي طريق
وقصدهم من ذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أتوه من معرفة القراءة والكتابة من قبلهم. أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين: كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دين موسى عليه السلام.
وأياما كان فقد أنبأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحة ظلمهم مع اعتقادهم أن الجاهل أو الأمي جدير بأن يدحض حقه. والظاهر أن الذي جرأهم على هذا سوء فهمهم في التوراة، فإن التوراة ذكرت أحكاما فرقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أن ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. الأجنبي تطالب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه وجاء في الإصحاح 23 منه لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تقرض بربا ولكن شتان بين الحقوق والمؤاساة فإن تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملة الواحدة. وعن ابن الكلبي قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم. وهذان الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحل بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأولوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب.
وقد كذبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} قال المفسرون: إنهم ادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال:
(3/134)

النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" .
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال أي يتعمدون الكذب: إما لأنهم علموا أن ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه صحيح، وإما لأن التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد.
وبلى حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].
وبلى غير مختصة بجواب استفهام المنفي بل يجاب بها عن قصد الإبطال، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره: توفيرا للمعنى، وقصدا في اللفظ، فقال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي لم يخن، لأن الأمانة عهد، {واتقى} ربه فلم يدحض حق غيره فإن الله يحب المتقين أي الموصوفين بالتقوى، والمقصود نفي محبة الله عن ضد المذكور بقرينة المقام.
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [77].
مناسبة هذه الآية لما قبلها أن في خيانة الأمانة إبطالا للعهد، وللحلف الذي بينهم، وبين المسلمين، وقريش. والكلام استئناف قصد منه ذكر الخلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، دعا إليه قوله ودت طائفة من أهل الكتاب وما بعده.
وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرقة في سورة البقرة [40]: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} . {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41]. {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]. {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 174]. فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا. وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق، في مواضع، لأن موسى عاهدهم على العمل به، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار.
ومعنى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} غضبه عليهم إذ قد شاع نفي
(3/135)

الكلام في الكناية عن الغضب، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية، ونفي النظر في الغضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص. وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.
وقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم، لأن من بلغ من رقة الديانة إلى حد أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات.
وفي مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي يشترون بعهد الله الآية، إيذان بأن من شابههم في هذه الصفات فهو لاحق بهم، حتى ظن بعض السلف أن هذه الآية نزلت فيمن حلف يمينا باطلة، وكل يظن أنها نزلت فيما يعرفه من قصة يمين فاجرة، ففي البخاري ، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا: كذا وكذا. قال في أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينتك أو يمينك" قلت: إذن يحلف فقال رسول الله: "من حلف على يمين صبر" الحديث.
وفي البخاري ، عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية.
وفي عن ابن عباس أنه قرأ هاته الآية في قصة وجبت فيها يمين لرد دعوى.
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [78].
أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة، وليست كذلك، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة، كقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن، أو لإدخال
(3/136)

الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن، فاللي مجمل، ولكنه مبين بقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
واللي في الأصل: الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوب الذي هو ممتد إليه: فمن ذلك لي الحبل، ولي العنان للفرس لإدارته إلى جهة غير صوب سيره، ومنه لي لاعنق، ولي الرأس بمعنى الالتفات الشزر أو الإعراض قال تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5].
والذي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم راعنا وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي السام عليك أي الموت أو السلام بكسر السين عليك وهذا اللي يشابه الإشمام والاختلاس ومنه إمالة الألف إلى الياء، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف، والظاهر أن الكتاب التوراة فلعلهم كانوا إذا قرؤوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بين بين ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد، وقد كانت لهم مقدرة ومراس في هذا.
وقريب من هذا ما ذكره المبرد في الكامل أن بعض الأزارقة أعاد بيت عمر ابن أبي ربيعة في مجلس بن عباس.
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيحضر
فجعل يضحى يحزى وجعل يحضر يخسر بالسين ليشوه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره. وفي الأحاجي والألغاز من هذا كقولهم: إن للآهي إلها فوقه فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللآهي يخالها السامع لله فيظنه كفر. أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة.
ويحتمل أن يكون اللي هنا مجازا عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم: لوى الحجة أي ألقى بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه: بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله، وأياما كان فهذا اللي يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض، كما فعل ابن صوريا في إخفاء
(3/137)

حكم رجم الزاني في التوراة وقوله: نحمم وجهه.
والمخاطب يتحسبوه المسلمين دون النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو والمسلمون في ظن اليهود.
وجيء بالمضارع في هاته الفعال: يلوون، يقولون، للدلالة على تجدد ذلك وأنه دأبهم.
وتكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضا مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به، قال المرزوقي في شرح لا حماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد:
لما رأيت الشيب لاح بياضه ... بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا
كان الواجب أن يقول: قلي له مرحبا لكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم قلت ومنه قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... قهر الموت ذا الغنى والفقيرا
وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
والقراءة المعرفة يلوون: بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى، وذكر ابن عطية أن أبا جعفر قرأه: يلوون بضم ففتح فواو مشددة مضارع لوى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ[79] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [80].
اعتراض واستطراد: فإنه لما ذكر لي اليهود ألسنتهم بالتوراة، وهو ضرب من التحريف، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إ تقول النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك، ردا على النصارى، فيكون رجوعا إلى الغرض الذي في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} إلى قوله: {بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
(3/138)

وفي الكشاف قيل نزلت لأن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك. قال: "لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله". قلت أخرجه عبد بن حميد عن الحسن، فعلى تقدير كونه حديثا مقبولا فمناسبة ذكر هذه الآية هنا أنها قصد منها الرد على جميع هذه المعتقدات. ووقع في أسباب النزول للواحدي من رواية الكلبي، عن ابن عباس: أن أبا رافع اليهودي والسيد من نصارى نجران قالا يا محمد أتريد أن نعبدك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "معاذ الله أن يعبد غير الله" ونزلت هذه الآية.
وقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق. وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فلان فاعلا كذا، فلما أريد المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لحمل اسم ذات على اسم ذات إلا بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب: ما كان له أن يفعل، ويقال أيضا: ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118].
فمعنى الآية: ليس قول: {كُونُوا عِبَاداً لِي} حقا لبشر أي بشر كان. وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي نحو {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33]، فتراكيب لام الجحود كلها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولا لأجل فعل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحودا.
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أن مصب النفي هو المعطوف من قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي} أي ما كان له أن يقول كونوا عبادا لي إذا آتاه الله الكتاب الخ.
والعباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى: {يا عبادي} وسمت العرب طوائف من العرب سكنوا الحيرة ودخلوا تحت حكم كسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصروا فسموهم بالعباد، بخلاف جمعه على عبيد كقولهم: هم عبيد العصا، وقال حمزة بن المطلب هل أنتم إلا عبيد لأبي ومنه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ لأنه تشفيق وإعلام بقلة مقدرتهم وانه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك، ولما
(3/139)

كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السليمة اهـ.
وقوله: {من دون الله} قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباد للقائل بأن ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأن حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإن النصارى لما جعلوا عيسى ربا لهم، وجعلوه ابنا لله، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم: نحن عبيد الله وعبيد عيسى، فلذلك جعلت مقالتهم مقتضية أن عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادا له من دون الله، والمعنى أن لآمر بأن يكون الناس عبادا له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي ولكن يقول كونوا منسوبين للرب، وهو الله تعالى، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.
ومعنى أن يكونوا مخلصين لله دو ن غيره.
والرباني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللحياني لعظيم اللحية، والشعراني لكثير الشعر.
وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم العمل.
وقرأ الجمهور: بما كنتم تعلمون بفتح الثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع علم، وقرأه عامر، و حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: بضم ففتح فلام مشددة مكسورة مضارع علم المضاعف.
{وتدرسون} معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، فمنه قوله: درست الريح رسم الدار إذا عفته وأبلته، فهو دارس، يقال منزل دارس، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين. وثوب دارس خلق، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة" الخ رواه الترمذي فعطف التدارس على القراءة فعلم أن الدراسة أخص من القراءة. وسموا بيت قراءة اليهود مدراسا كما في الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
(3/140)

في طائفة من أصحابه حتى أتى مدارس اليهود فقرا عليهم القرآن ودعاهم الخ. ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} على {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} .
وفعله من باب نصر،ومصدره في غالب معانيه الدرس، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل درسا ومنه سمي تعليم العلم درسا.
ويجيء على وزن الفعالة دراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل، مثل الكتابة والقراءة، إلحاقا لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة.
وفي قوله: {ولا يأمركم} التفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور يأمركم بالرفع على ابتداء الكلام، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي، فإنه لما وقع بعد فعل منفي، ثم انتقض نفيه بلكن، احتيج إلى إعادة حرف النفي، والمعنى على هذه القراءة واضح: أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا الخ ولا هو يأمرهم أن يتخذوا الملائكة أربابا. وقرأه ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، وخلف: بالنصب عطفا على أن يقول ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله: {ما كان لبشر} وليست معمولة لأن: لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى: لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألا يأمركم أن تتخذوا، والمقصود عكس هذا المعنى، إذ المقصود هنا أنه لا ينبغي له أن يأمر، فلذلك أضطر في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد. وقرأه الدوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون.
ولعل المقصود من قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة، فصوروا صور النبيين، مثل يحيى ومريم، وعبدوهما، وصوروا صور الملائكة، واقترن التصوير مع الغلو في تعظيم الصورة والتعبد عندها، ضرب من الوثنية.
قال ابن عرفة: إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل وينهاكم. والجواب أن ذلك باعتبار دعواهم وتقولهم على الرسل. وأقول: لعل التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} لأنهم زعموا أن المسيح قال: إنه ابن الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرهم باتخاذ الملائكة أربابا، أو لأنهم لما كانوا يدعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه، أو لأن المسيح لم ينههم عن
(3/141)

ذلك في نفس الأمر، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر، في الرد على الأمة، على أن أنبياءهم لم يأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة، وهي قوله {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
فهنالك سببان لإنكار أن يكون ما هم عليه مرضيا أنبياءهم؛ فإنه كفر، وهم لا يرضون بالكفر. فما كان من حق من يتبعونهم التلبس بالكفر بعد أن خرجوا منه.
والخطاب في قوله {ولا يأمركم} التفات من طريقة الغيبة في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} فالمواجه بالخطاب هم الذين زعموا أن عيسى قال لهم: كونوا عبادا لي من دون الله.
فمعنى: {أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} يقتضي أنهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام. فقيل: أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله: {بالكفر}.
وقيل: الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله: {إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لأن اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن، فهذا الذي جرأ من قالوا: إن الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نسجد لك، ولا أراه لو كان صحيحا أن تكون الآية قاصدة إياه؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل: ثم يأمر الناس بالسجود إليه، ولما عرج على الأمر بأن يكونوا عبادا له من دون الله ولا بان يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [81] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [82].
عطف {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ} على {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ} [آل عمران: 80] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقولتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعنموه حين أخذ الله ميثاقهم ليبلغوه إليكم، فالمعطوف هو ظرف إذ وما تعلق به.
ويجوز أن يتعلق إذ بقوله: {أأقررتم} مقدما عليه، ويصح أن تجعل إذ بمعنى
(3/142)

زمان غير ظرف والتقدير: واذكر إذ أخذ الله ميثاق النبيين، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} معطوفا بحذف العاطف. كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} .
ويصح أن تكون جملة {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وما بعدها بيانا لجملة أخذ الله ميثاق النبيين باعتبار ما يقتضيه فعل {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} : من أن النبيين أعطوا ميثاقا لله فقال: أأقررتم قالوا: أقررنا الخ. ويكون قوله: {لما آتيناكم} إلى قوله {ولتنصرنه} هو صيغة الميثاق.
وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذونهم فيه بأن رسولا يجيء مصدقا لما معهم، ويأمرهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال، بدليل قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} الخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولي والفسق ولكن المقصود أممهم كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . وبدليل قوله قال: {فاشهدوا} أي على أممكم. وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام قال لي الرب أقيم لهم نبيا منهم من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به. وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولو كان المراد نبيا إسرائيليا لقال أقيم لهم نبيا منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعل النص الأصلي أصلح من هذا المترجم.
والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الإنجيل كثيرة ففي متى قول المسيح وتقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرون ولكن الذي يصبر أي يبقى أخيرا إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز1 ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميه الأمم ثم يأتي المنتهى وفي إنجيل يوحنا قول المسيح وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا أخر ليمكث معكم إلى الأبد وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الرب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ومتى جاء المعزي روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي إلى غير ذلك.
وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى هو ظاهر
ـــــــ
1 وقعت كلمة يكرز في ترجمة إنجيل متى، ولعل معناها ويحسن تبليغ الدين
(3/143)

الآية، وبه فسر محقق والمفسرين من السلف منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وطاووس، والسدي.
ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظرا إلى قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} توهموه متعينا لأن يكون المراد بمن تولى من النبيين المخاطبين، وستعلم أنه ليس كذلك فتأولوا الآية بأن المراد من أخذ العهد على أممهم، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبياءهم منهم، ومنهم من قدر حذف المضاف أي أمم النبيين أو أولاد النبيين وإليه مال قول مجاهد والربيع، واحتجوا بقراءة أبي، وابن مسعود، وهذه الآية: وغذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب، ولم يقرأ ميثاق النبيئين، وزاد مجاهد فقال: إن قراءة أبي هي القرآن، وإن لفظ النبيين غلط من الكتاب، ورده ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان.
وقوله: {لما آتيناكم} قرأ الجمهور لما بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم، ولأن أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصولة مبتدأ {وآتيناكم} صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله و من كتاب بيان للموصول وصلته، وعطف {ثم جاءكم} على {آتيناكم} أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول. ولتؤمنن اللام فيه لام جواب القسم والجواب سد مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره.
وقرأه حمزة: بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلقة بقوله: {لتؤمنن به} أي شكرا على ما آتيتكم وعلى أن بعثت إليكم رسولا مصدقا لما كنتم عليه من الدين ولا يضر عمل ما بعد لام القسم فيما قبلها فأخذ الميثاق عليهم مطلقا ثم علل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق، ولا يصح من جهة المعنى تعليق {لما آتيناكم} بفعل القسم المحذوف، لأن الشكر علة للجواب، لا لأخذ العهد.
ولام {لتؤمنن} لام جواب القسم، على الوجه الأول، وموطئة للقسم على الوجه الثاني.
(3/144)

وقرأ نافع، وأبو جعفر: آتيناكم بنون العظمة وقرأه الباقون {آتيتكم} بتاء المتكلم.
وجملة قال: {أأقررتم} بدل اشتمال من جملة {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} .
والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق.
والإصر: بكسر الهمزة، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسد به، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} في سورة البقرة [286].
وقوله: {فاشهدوا} إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آلا عمران: 18] وإن كانت شهادة على أممهم بذلك، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيون على الأمم.
وقوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} أي من تولى ممن شهدتم عليهم، وهم الأمم، ولذلك لم يقل فمن تولى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة المائدة {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
ووجه الحصر في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أنه للمبالغة لأن فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدم.
[83 ]{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء.
والاستفهام للتوبيخ والتحذير.
وقرأه الجمهور {تبغون} بتاء خطاب لأهل الكتاب جار على طريقة الخطاب في قوله آنفا: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ} [آل عمران: 80] وقرأه أبو عمرو، وحفص، ويعقوب: بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضا عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب. وكله تفريع ذكر أحوال خلف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به. والاستفهام حينئذ للتعجيب.
(3/145)

ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأن غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.
ومعنى {تبغون} تطلبون يقال بغى الأمر يبغيه بغاء بضم الباء وبالمد، ويقصر والبغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر، وقيل اسم، ويقال ابتغى بمعنى بغى، وهو موضوع للطلب ويتعدى إلى مفعول واحد. وقياس مصدره البغي، لكنه لم يسمع البغي إلا في معنى الاعتداء والجور، وذلك فعله قاصر، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء، فأماتوا المصدر القياسي لبغى بمعنى طلب وخصوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم: قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] ويقال تبغى بمعنى ابتغى.
وجملة {وله أسلم} حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20].
ومعنى: {طَوْعاً وَكَرْهاً} أن من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له، ومنهم من أسلم بالجبلة والفطرة كالملائكة، أو الإسلام كرها هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لا إكراه في الدين.
والكره بفتح الكاف هو الإكراه، والكره بضم الكاف المكروه.
ومعنى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أنه يرجعكم إليه ففعل رجع: المتعدي أسند إلى المجهول لظهور فاعله، أي يرجعكم الله بعد الموت، وعند القيامة، ومناسبة ذكر هذا، عقب التوبيخ والتحذير، أن الرب الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن دين أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختارا قبل أن يسلمها اضطرارا.
وقد دل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} على المراد من قوله: {وكرها}.
وقرأ الجمهور: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بتاء المخاطبة، وقرأه حفص بياء الغيبة.
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
(3/146)

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [84]
المخاطب بفعل قل هو النبي صلى الله عليه وسلم، ليقول ذلك بمسمع من الناس: مسلمهم، وكافرهم، ولذلك جاء في هذه الآية قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي أنزل علي لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل، وعدى فعل أنزل هنا بحرف على باعتبار أن الإنزال يقتضي علوا فوصول الشيء المنزل وصول استعلاء وعدي في آية سورة البقرة بحرف إلى باعتبار أن الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدى بحرف إلى. والجملة اعتراض، واستئناف: لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاما جامعا لمعنى الإسلام ليدوموا عليه، ويعلن به للأمم، نشأ عن قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83].
ومعنى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حب نبينا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة. وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119].
وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ} [85].
عطف على جملة {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، ورد لقولهم: نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كل حال. والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام. وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة {من يبتغ} وكلمة {غير} وروى السوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير.
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [86].
استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام.
وكيف استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما
(3/147)

الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به، وإسنادها إلى الله ظاهر؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها، وإسنادها إلى الله لأنه موجد الأسباب ومسبباتها. ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في الاستبعاد، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله، ثم كفروا بعد ذلك بأنبيائهم، إذ عبد اليهود الأصنام غير مرة، وعبد النصارى المسيح، وقد شهدوا أن محمدا صادق لقيام دلائل الصدق، ثم كابروا، وشككوا الناس. وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم. وقيل نزلت في اليهود خاصة. وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت، ومنهم الحارث بن سويد، وأبو عامر الراهب، وطعيمة بن أبيرق.
وقوله: {وشهدوا} عطف على {إيمانهم} أي وشهادتهم، لأن الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطف الفعل عليه.
[87، 89]{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم عليهم. وتقدم معنى: {لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} إلى قوله: {أجمعين} في سورة البقرة [161]. وتقدم أيضا معنى: {إِلَّا الَّذِينَ وَأَصْلَحُوا} في سورة البقرة [160]، ومعنى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الكناية عن المغفرة لهم. قيل نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري من بني عمرو بن عوف الذي ارتد ولحق بقريش وقيل بنصارى الشام، ثم كتب إلى قومه ليسألهم هل من توبة، فسألوا رسول الله فنزلت هذه الآية فأسلم ورجع إلى المدينة وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} علة لكلام محذوف تقديره الله يغفر لهم لأنه غفور رحيم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [90]
قال قتادة، وعطاء، والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(3/148)

وقيل أريد به اليهود والنصارى: فاليهود كما علمت، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وتأويل {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إما انه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبل توبتهم كقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرئ القيس.
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي لا منار له، إذ قد علم من الأدلة أن التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} . وإما أن الله نهى نبيه عن الاغترار بما يظهرونه من الإسلام نفاقا، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم، وإما الإخبار بأن الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم، وأسرارهم موكولة إلى الله تعالى. وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية: مثل عبد الله بن سلام، فلا إشكال فيه، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية.
وقيل المراد الذين ارتدوا من المسلمين وماتوا على الكفر، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع. والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم. وعليه يكون قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} توكيدا لفظيا بالمرادف، وليبنى عليه التفريع بقوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} وأياما كان فتأويل الآية متعين: لأن ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أن إسلام الكافر مقبول. ولو تكرر منه الكفر، وأن توبة العصاة مقبولة، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء [137] وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [91].
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدنا. وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفرا الذين ماتوا على الكفر، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى
(3/149)

أعيدت ليبنى عليها قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} . وأيا ما كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرف بلام الاستغراق.
والفاء في قوله: {فلن يقبل} مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أن الصلة هي علة عدم قبول التوبة، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] لأنهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرح به، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر إن وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ} إلى آخرها معترضة بين اسم إن وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] وتكون جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خبر إن.
ومعنى {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا. ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتوا وهم كفار. والملء بكسر الميم ما يملأ وعاء، وملء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذرة، لأن الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدرة، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء، وعدد الحصى، وميز هذا المقدار بذهبا لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري:
وقارنت نجح المساعي خطرته
وقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} جملة في موقع الحال، والواو واو الحال، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به، وحرف لو للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب، ولكثرته قال كثير من النحاة: إن لو وإن الشرطيتين في مثله مجردتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلا المبالغة، ولقبوهما بالوصليتين: أي أنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد. وترددوا أيضا في إعراب الجملة الواقعة هذا الموقع، وفي الواو المقترنة بها، والمحققون على أنها واو الحال وإليه مال الزمخشري، وابن جني، والمرزوقي. ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضد الشرط المذكور: كقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف، ذكره الرضي رادا
(3/150)

عليه، وليس حقيقا بالرد: فإن للاستئناف البياني موقعا مع هذه الواو.
هذا وإن مواقع هذه الواو تؤذن بأن الشرط الذي بعدها شرط مفروض هو غاية ما يتوقع معه انتفاء الحكم الذي قبلها، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
ولذاك جرت عادة النحاة أن يقدروا قبلها شرطا هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله: وإن رديت بردا إن لم ترد بردا بل وإن رديت بردا وكذا قول النابغة:
سأكعم كلبي أن يريبك نبحه ... ولو كنت أرعى مسحلان فحامرا
ولأجل ذلك، ورد إشكال على هذه الآية: لأن ما بعد {ولو} فيها هو عين ما قبلها، إذ الافتداء هو عين بذل ملء الأرض ذهبا، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولو افتدى به، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية: فقال الزجاج المعنى لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة، أي لا يفديهم من العذاب، وهذا الوجه بعيد، إذ لا يقدر أن في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه، وقال قوم: الواو زائدة، وقال في الكشاف : هو محمول على المعنى كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، يريد أن كلمة ملء الأرض في قوة كلمة فدية واختصر بعد ذلك بالضمير، قال ويجوز أن يقدر كلمة مثل، قبل الضمير المجرور: أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفه كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} [الزمر: 47].
وعندي أن موقع هذا الشرط في الآية جار على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافا بيانيا جوابا لسؤال، محقق أو مقدر، يتوهمه المتكلم من المخاطب فيريد تقديره، فلا يقتضي أن شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله، بل قد يكون كذلك، وقد يكون السؤال مجرد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمنه الحكم تثبيتا على المتكلم على حد قولهم: ادر ما تقول فيجيب المتكلم بإعادة السؤال تقريرا له وإيذانا بأنه تكلم عن بينة، نعم إن الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة، وهو من شواهد هذا:
(3/151)

قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأوقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك.
فقوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} جواب سؤال متعجب من الحكم وهو قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ} فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حد بيت كعب. فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرد التأكيد.
ويجوز أن يكون الشرط عطفا على محذوف دل عليه افتدى: أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يجعله رهينة. ولو بذله فدية، لأن من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رهنا إلى أن يقع الصلح أو العفو، وكذلك في الديون، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رهائن منهم كما قال الحارث:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم ... فيه العهود والكفلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أن محمد بن مسلمة قال لأبي رافع نرهنك السلاح واللامة.
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فذلكة للمراد من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] الآيتين.
وقوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} تكميل لنفي أحوال الغناء عنهم وذلك أن المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال، وقد يكفله من يوثق بكفالتهم، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة، وكل من الكفيل والشفيع ناصر.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [92].
استئناف وقع معترضا بين جملة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [آل عمران: 91] الآية، وبين جملة {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران: 93].
(3/152)

وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البر إيذان بأن شرائع الإسلام تدور على محور البر، وأن البر معنى نفساني عظيم لا يخرم حقيقته إلا ما يفضي إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النفسانية، فالمقصود من هذه الآية أمران: أولهما التحريض على الإنفاق والتنويه بأنه من البر، وثانيهما التنويه بالبر الذي الإنفاق خصلة من خصاله.
ومناسبة موقع هذه الآية تلو سابقتها أن الآية السابقة لما بينت أن الذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه، بينت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال، وأنه يبلغ بصاحبه مرتبة البر، فبين الطرفين مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة. والخطاب للمؤمنين لأنهم المقصود من كل خطاب لم يتقدم قبله ما يعين المقصود منه.
والبر كمال الخير وشموله في نوعه: إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكمية، وبهما معا، فبذل النفس في نصر الدين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدو الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصور في ذلك تعدد، وإطعام الجائع يعظم بالتعدد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعا، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برا أيضا.
وروى النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم.
ومقابلة البر بالإثم تدل على أن البر ضد الإثم. وتقدم عند قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]
وقد جعل الإنفاق من نفس المال المحب غاية لانتفاء نوال البر، ومقتضى الغاية أن نوال البر لا يحصل بدونها، وهو مشعر بأن قبل الإنفاق مسافات معنوية في الطريق الموصلة إلى البر، وتلك هي خصال البر كلها، بقيت غير مسلوكة، وإن البر لا يحصل إلا بنهايتها وهو الإنفاق من المحبوب، فظهر لحتى هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها: لأنه لو قيل إلا أن تنفقوا مما تحبون، لتوهم السامع أن الإنفاق من المحب وحده يوجب نوال البر، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات التي أشعرت بها حتى الغائية.
وتنالوا مشتق من النوال وهو التحصيل على الشيء المعطى.
والتعريف في البر تعريف الجنس: لأن هذا الجنس مركب من أفعال كثيرة منها
(3/153)

الإنفاق المخصوص، فبدونه لا تتحقق هذه الحقيقة.
والإنفاق: إعطاء المال والقوت والكسوة.
وما صدق ما في قوله: {مما تحبون} المال: أي المال النفيس العزيز على النفس، وسوغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال فمن للتبعيض لا غير، ومن جوز أن تكون من للتبيين فقد سها لأن التبيينية لا بد أن تسبق بلفظ مبهم.
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاق منه أي التصدق دليل على سخاء لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنفس من بقية ما فيها من الشح، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وفي ذلك صلاح عظيم للأمة إذ تجود أغنياؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتد بذلك أواصر الأخوة، ويهنأ عيش الجميع.
روى مالك في الموطأ ، عن أنس بن مالك، قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله: تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله قال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي بئر حاء وإنها صدقة لله وأرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "فبخ1 ذلك مال رابح، ذلك مال رابح"، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله. فجعلها لحسان بن ثابت، وأبي بن كعب.
وقد بين الله خصال البر في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} في سورة البقرة [177].
ـــــــ
1 في رواية يحيى بن يحيى عن مالك فبخ بفاء الباء الموحدة ووقع في رواية عبد الله بن يوسف عن مالك في صحيح البخاري بخ بدون الفاء.
(3/154)

فالبر هو الوفاء بما جاء به الإسلام مما يعرض للمرء في أفعاله، وقد جمع الله بينه وبين التقوى في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فقابل البر بالإثم كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان المتقدم آنفا.
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} تذييل قصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أن الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيسا بحسب حال صاحبه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79].
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} مراد به صريحه أي يطلع على مقدار وقعه مما رغب فيه، ومراد به الكناية عن الجزاء عليه.
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [93] فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [94] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [95].
هذا يرتبط بالآي السابقة في قوله تعالى: {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.
وهذه حجة جزئية بعد الحجج الأصلية على أن دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإن الحنيفية لم يكن ما حرم من الطعام بنص التوراة محرما فيها، ولذلك كان بنوا إسرائيل قبل التوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرما عليهم ما حرم من الطعام إلا طعاما حرمه يعقوب على نفسه. والحجة ظاهرة ويدل لهذا الارتباط قوله في آخرها: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [آل عمران: 95].
ويحتمل أن اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذ أباح للمسلمين أكل المحرمات على اليهود، جهلا منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلا من أحبارهم لعامتهم، تنفيرا عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنما يتعلقون بالمألوفات، فيعدونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانا للقبول والنقد، فبين لهم أن هذا مما لا يلتفت إليه عند النظر في بقية الأديان، وحسبكم أن دينا عظيما وهو دين إبراهيم، وزمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرمون ذلك.
(3/155)

وتعريف الطعام تعريف الجنس. وكل للتنصيص على العموم.
وقد استدل القرآن عليهم بهذا الحكم لأنه أصرح ما في التوراة دلالة على وقوع النسخ فإن التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدل على أن يعقوب حرم على نفسه أكل عرق النسا الذي على الفخذ، وقد قيل: إنه حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فقيل: إن ذلك على وجه النذر، وقيل: إن الأطباء نهوه عن أكل ما فيه عرق النسا لأنه كان مبتلى بوجع نساه، وفي الحديث أن يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللحم الذي فيه النسا. وما حرمه يعقوب على نفسه من الطعام: ظاهر الآية أنه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه، بل من تلقاء نفسه، فبعضه أراد به تقربا إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيبات المشتهاة، وهذا من جهاد النفس، وهو من مقامات الزاهدين، وكان تحرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم. وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشريع لأن هذا من تصرفه في نفسه فيما أبيح له، ولم يدع إليه غيره، ولعل أبناء يعقوب تأسوا بأبيهم فيما حرمه على نفسه فاستمر ذلك فيهم.
وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} تصريح بمحل الحجة من الرد إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلق قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} بقوله: {حلا} لئلا يلزم خلوه عن الفائدة، وهو غير مجد لأنه لما تأخر عن الاستثناء من قوله: {حلا} وتبين من الاستثناء أن الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغوا لو لا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.
وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أن الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدم: من قولكم إن إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنهم لا يأتون بها إذا استدلوا على الصدق.
والفاء في قوله: {فأتوا} فاء التفريع.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الذي قبله عليه. والتقدير: إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة.
وقوله: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمر على الكذب على الله، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا
(3/156)

التوراة فيصلا بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدعوه شبهة لهم في الاختلاق، وجعل الافتراء على الله لتعلقه بدين الله. والفاء للتفريع على الأمر.
والافتراء: الكذب، وهو مرادف الاختلاق. والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذي النعل ويصنع النطع أو القربة. وافترى افتعال من فرى لعله لإفادة المبالغة في الفري، يقال: افترى الجلد كأنه اشتد في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى. فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأن أصله كناية عن الكذب وتلميح، شاع ذلك حتى صار مرادفا للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردافه بقوله هنا الكذب تأكيد للافتراء، وتكررت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.
فانتصب الكذب على المفعول المطلق المؤكد لفعله. واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8].
والكذب: الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخبر موافقا لاعتقاد المخبر أو هو على خلاف ما يعتقده، ولكنه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبر كان ذلك مذموما ومسبة؛ وإن كان معتقدا وقوعه لشبهة أو سوء تأمل فهو مذموم ولكنه لا يحقر المخبر به، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.
ثم أعلن أن المتعين في جانبه الصدق هو خبر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة، وهذا كقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجة القاطعة قال: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} وهو تعريض بكذبهم لان صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
والتفريع في قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} تفريع على {صَدَقَ اللَّهُ} لان اتباع الصادق فيما أمر به منجاة من الخطر.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ[96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97].
(3/157)

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ[96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} .
هذا الكلام واقع موقع التعليل للأمر في قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} [آل عمران: 95] لأن هذا البيت المنوه بشأنه كان مقاما لإبراهيم ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في متعارف الناس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة وحرمتها فيما مضى من الزمان.
وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع إن في أوله فإن التأكيد بإن هنا لمجرد الاهتمام وليس لرد إنكار منكر، أو شك شاك.
ومن خصائص إن إذا وردت في الكلام لمجرد الاهتمام، أن تغني غناء فاء التفريع وتفيد التعليل والربط، كما في دلائل الإعجاز.
ولما في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون إن مؤذنة بالربط. وبيان وجه التعليل أن هذا البيت لما كان أول بيت وضع للهدى وإعلان توحيد الله ليكون علما مشهودا بالحس على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعا لدلائل الحنيفية، فاذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممر العصور، دون غيره من الهياكل الدينية التي نشأت بعده، وهو ماثل، كان ذلك دلالة إلهية على أنه بمحل العناية من الله تعالى، فدل على أن الدين الذي قارن إقامته هو الدين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19].
وهذا التعليل خطابي جار على طريقة اللزوم العرفي.
وقال الواحدي، عن مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله هذه الآية.
و {أول} اسم للسابق في فعل ما فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدث عنه.
والبيت بناء يأوي واحدا أو جماعة، فيكون بيت سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنيا من حجر أو من أثواب نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمى قبة قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 81].
(3/158)

ومعنى {وضع} أسس وأثبت، ومنه سمي المكان موضعا، وأصل الوضع أنه الحط ضد الرفع، ولما كان الشيء المرفوع لمعنى الإدناء للمتناول، والتهيئة للانتفاع.
والناس تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة [8].
و {بكة} اسم مكة. وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدت من المترادف: مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون لرماد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك: أن بكة بالباء اسم موضع البيت، وأن مكة بالميم اسم بقية الموضوع، فتكون باء الجر هنا لظرفية مكان البيت خاصة. لا لسائر البلد الذي فيه البيت، والظاهر عندي أن بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علما على المكان الذي عينه لسكنى ولده بنية أن يكون بلدا، فيكون أصله من اللغة الكلدانية، لغة إبراهيم، ألا ترى أنهم سموا مدينة بعلبك أي بلد بعل وهو معبود الكلدانيين، ومن أعجاز القرآن هذا اللفظ عند ذكر كونه أول بيت، فلاحظ أيضا الاسم الأول، ويؤيد قوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91] وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم: 35]. وقد قيل: إن بكة مشتق من البك وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم.
وعدل عن تعريف البيت باسمه العلم بالغلبة، وهو الكعبة، إلي تعريفه بالموصولية بأنه الذي ببكة: لان هذه الصلة صارت أشهر في تعينه عند السامعين، إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقبوه الكعبة اليمانية.
والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها. وظاهر الآية ان الكعبة أول البيوت المبنية في الأرض، فتمسك بهذا الظاهر مجاهد، وقتادة، والسدي، وجماعة، فقالوا: هي أول بناء، وقالوا: أنها كانت مبنية من عهد آدم عليه السلام ثم درست، فجددها إبراهيم، قال ابن عطية: ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وقد زعموا أنها كانت تسمى الضراح بوزن غراب ولكن المحققين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر، وتأولوا الآية. قال علي رضي الله عنه كان قبل البيت بيوت كثيرة ولا شك أن الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدد في القرآن ذكر ذلك، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها، وإذا كان
(3/159)

كذلك فلا يجوز أن يكون أول بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم، لان قبل إبراهيم أمما وعصورا كان فيها البناء، وأشهر ذلك برج بابل، بنى اثر الطوفان، وما بناه المصريون قبل عهد إبراهيم، وما بناه الكلدان في بلد إبراهيم قبل رحلته إلى مصر، ومن ذلك بيت أصنامهم، وذلك قبل أن تصير إليه هاجر التي أهداها له ملك مصر، وقد حكى القرآن عنهم {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] فتعين تأويل الآية بوجه ظاهر، وقد سلك العلماء مسالك فيه: وهي راجعة إلى تأويل الأول، أو تأويل البيت، أو تأويل فعل وضع، أو تأويل الناس، أو تأويل نظم الآية. والذي أراه في التأويل أن القرآن كتاب دين وهدى، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التاريخ، ولكن أوائل أسباب الهدى، فالأولية في الآية على بابها، والبيت كذلك، والمعنى أنه أول بيت عبادة حقة وضع لإعلان التوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} المقتضي أنه من وضع واضع لمصلحة الناس، لأنه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه الناس، وبقرينة مجيء الحالين بعد؛ وهما قوله: {مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} . وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أول بيت عبادة حق، كان أول معهد للهدى، فكان كل هدى مقتبسا منه فلا محيص لكل قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتباع الملة المبنية على أسس ملة بانية، وهذا المفاد من تفريغ قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [البقرة: 95] وتأول الآية علي بن أبي طالب، فروى عنه أن رجلا سأله: أهو أول بيت? قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى فجعل مباركا وهدى حالين من الضمير في {وضع} لا من اسم الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلا على معنى انه أول بيت من بيوت الهدى كما قلنا، وليس مراده أن قوله: {وضع} هو الخبر لتعين او الخبر هو قوله: {للذي ببكة} بدليل دخول اللام عليه.
وعن مجاهد قالت اليهود: بيت المقدس أفضل من لكعبة لأنها مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون: الكعبة، فأنزل اله هذه الآية، وهذا تأويل {أول} بأنه الأول من شيئين لا من جنس البيوت كلها.
وقبل: أراد بالأول الأشرف مجازا.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد من الناس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنصارى والمسلمين، وكلهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام فأول معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنه أفضل مما سواه من بيوت عبادتهم.
(3/160)

وإنما كانت الأولية موجبة التفضيل لان مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنها تتفاضل بما يحف بذلك من طول أزمان التعبد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مجسد قباء {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحق، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون. فان إبراهيم بني الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمان بني بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول. وأما بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره. وروى في صحيح مسلم ، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع أول ? قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي? قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما? قال: "أربعون سنة"، فاستشكله العلماء بأن بين إبراهيم وسليمان قرونا فكيف تكون أربعين سنة، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجدا في موضع بيت المقدس ثم درس فجدده سليمان.
وأقول: لاشك أن بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود، وأشار إليه القرآن في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13] الآية، فالظاهر أن إبراهيم لما مر ببلاد الشام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عين الله له الموضع الذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذريته، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى، وجعله على الصخرة المجعولة مذبحا للقربان. وهي الصخرة التي بنى سليمان عليها المسجد، فلما كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه، وهذا من العلم لذي أهملته كتب اليهود، وقد ثبت في سفر التكوين إن إبراهيم بنى مذابح في جهات مر عليها من أرض الكنعانيين لأن الله أخبره أنه يعطي تلك الأرض لنسله، فالظاهر أنه بنى أيضا بموضع مسجد أرشليم مذبحا.
و {مباركا} اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير. أي جعلت البركة فيه بجعل الله تعالى، إذ قدر أن يكون داخله مثابا ومحصلا على خير يبلغه على مبلغ نيته، وقدر لمجاوريه وسكان بلده أن يكونوا ببركة زيادة الثواب ورفاهية الحال، وأمر بجعل داخله آمنا، وقدر ذلك بين الناس فكان ذلك كله بركة. وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} في سورة
(3/161)

الأنعام [92].
ووصفه بالمصدر في قوله: {وهدى} مبالغة لأنه سبب هدى.
وجعل هدى للعالمين كلهم: لان شهرته، وتسامع الناس به، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه، وأنه لتوحيد الله، وتطهير النفوس من خبث الشرك، فيتهدي بذلك المهتدي، ويرعوي المتشكك.
ومن بركة ذاته أن حجارته وضعتها عند بنائه يد إبراهيم، ويد إسماعيل، ثم يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولاسيما الحجر الأسود. وانتصب {مُبَارَكاً وَهُدىً} على الحال من الخبر، وهو اسم الموصول.
وجملة {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} استئناف ثناء على هذا البيت بما حف به من المناقب والمزايا فغير الأسلوب للاهتمام، ولذلك لم تجعل الجملة حالا، فتعطف على الحالين قبلها، لان مباركا وهدى وصفان ذاتيان له، وحالان مقارنان، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنها جميلة وما قبلها مفردان ولئلا يتوهم أن الواو فيها واو الحال، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو، على ما حققه الشيخ عبدالقاهر، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال، فكرهت في السمع، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنها جملة، فاستغنت بالضمير عن رابط العطف.
ووصف الآيات ببينات لظهورها في علم المخاطبين. وجماع هذه الآيات هي ما يسره الله لسكان الحرم وزائريه من طرق الخير، وما دفع عنهم من الأضرار، على حالة اتفق عليها سائر العرب، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم. وأعظمها الأمن، الذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تدينهم، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء، وتواضع مثل هذا بين مختلف القبائل، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والاديان، آية على أن الله تعالى وقر ذلك في نفوسهم. وكذلك تأمين وحشه مع افتتان العرب بحب الصيد. ومنها ما شاع بين العرب من قصم كل من رامه بسوء، وما انصراف الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة الا آية من آيات الله فيه. ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك. وافتداء الله تعالى إياه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليه السلام قربانه. ومنها ما شاع بين العرب
(3/162)

وتوارثوا خره أبا عن جد من نزول الحجر الأسود من السماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم، ولعله حجر كوكبي. ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قحولة أرضه، وملوحة مائه.
وقوله: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} أصل المقام أنه مفعل من القيام، والقيام يطلق على المعنى الشائع وهو ضد القعود، ويطلق على خصوص القيام للصلاة والدعاء، فعلى الوجه الثاني فرفع مقام على انه خبر لضمير محذوف يعود على {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، أي هو مقام إبراهيم: أي البيت الذي ببكة. وحذف المسند إليه هنا جاء على الحذف الذي سماه علماء المعاني، التابعين لاصطلاح السكاكي، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه، وذلك في الرفع على المدحن أو الذم، أو الترحم، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبين المراد منه كقول أبي الطمحان القيني:
فإن بني لأم بن عمرو أرومة ... سمت فوق صعب لا تنال مراقبه
نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} .
وقد عبر عن المسجد الحرام بأنه مقام إبراهيم أي محل قيامه للصلاة والطواف قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ويدل لذلك قوله زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الذي فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام في الصخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة، وبذلك فسر الزجاج، وتبعه على ذلك الزمخشري، وأجاب الزمخشري عما يعترض به من لزوم تبين الجمع بالمفرد بأن هذا المفرد في قوة جماعة من الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانه بعض الصخر دون بعض آية، وأنا أقول: إنه آيات لدلالته على نبوة إبراهيم بمعجزة له وعلى علم الله وقدرته، وان بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضا.
وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} عطف على مزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم، وامتنان بما تقرر في ماضي العصور، فهو خبر لفظا مستعمل في الامتنان، فان الأمن فيه قد تقرر واطرد، وهذا الامتنان كما امتن الله على الناس بأنه خلق لهم أسماعا
(3/163)

وأبصارا فان ذلك لا ينقض بمن ولد أكمله أو عرض له ما أزال بعض ذلك.
قال ابن العربي: هذا خبر عما كان وليس فيه إثبات حكم وإنما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات؛ أن الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته، وصرف الأيدي عن إذابته. وروي هذا عن الحسن. وإذا كان ذلك خبرا فهو خبر عما مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحجاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أول هذه السورة [7].
ومن العلماء من حمل قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} أنه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يصاب بأذى، وروى عن ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي.
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل بهذا الأمر؛ فقال جماعة: هذا حكم نسخ، يعنون نسخته الأدلة التي دلت على أن الحرام لا يعيذ عاصيا. روى البخاري، عن أبي شريح الكعبي، أنه قال لعمر بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة أي لحرب ابن الزبير: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: انه حمد الله وأثنى عليه ثم قال "أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس؛ لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة". فان أحد ترخص لقتال رسول الله فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب قال: فقال لي عمرو: أنا أعلم بذلك منك، يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة الخربة بفتح الخاء وسكون الراء الجنابة والبلية التي تكون على الناس وبما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة يوم الفتح.
وقد قال مالك، والشافعي: أن من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثم عاذ بالحرم يقام عليه الحد في الحرم ويقاد منه.
وقال أبو حنيفة: وأصحابه الأربعة: لا يقتص في الحرم من اللاجئ إليه من خارجه مادام فيه؛ لكنه لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس إلى أن يخرج من الحرم. ويروون ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، ومن ذكرناه معهما آنفا.
(3/164)

وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله ابن عمر قال: من كان خائفا من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته.
وقال فريق: هو حكم محكم غير منسوخ، فقال فريق منهم: قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ} يفهم منه أنه أتى ما يوجب العقوبة خارج الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه، وهذا قول الجمهور منهم، ولعل مستندهم قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أو استندوا إلى أدلة من القياس، وقال شذوذ: لا يقام الحد في الحرم، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم.
وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191].
وقد جعل الزجاج جملة {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} آية ثانية من الآيات البينات فهي بيان لآيات، وتبعه الزمخشري، وقال: يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنى كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. وإنما جاز بيان المفرد بجملة لأن هذه الجملة في معنى المفرد إذ التقدير: مقام إبراهيم وأمن من دخله. ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتى يقرب هذا الوجه. وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء
آية شارق الشقيقة إذ جاءت ... معد لكل حي لواء
ثم قال:
ثم حجرا أعني ابن أم قطام ... وله فارسية خضراء
ثم قال:
وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء
فجعل وفككنا هي الآية الرابعة باتفاق الشراح اذ التقدير: وفكنا غل امرئ القيس.
وجوز الزمخشري أن يكون آيات باقيا على معنى الجمع وقد بين بآيتين وتركت الثالثة
كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
(3/165)

أي ولم يذكر الثلث الثالث.
وهو تنظير ضعيف لأن بيت جرير ظهر منه الثلث الثالث، فهم الصميم، بخلاف الآية فان بقية الآيات لم يعرف. ويجوز أن نجعل قوله تعالى: {وََلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الخ متضمنا الثالثة من الآيات البينات.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
حكم أعقب به الامتنان: لما في هذا الحكم من التنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه. والتقدير: مباركا، وهدى، وواجبا حجه. فهو عطف على الأحوال.
والحج تقدم عند قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} في سورة البقرة [197]، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلا في هذه الآية: قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بكسر الحاء.
ويتجه أن تكون هذه الآية هي التي فرض بها الحج على المسلمين، وقد استدل بها علماؤنا على فرضية الحج، فما كان يقع من حج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قبل نزولها، فإنما كان تقربا إلى الله، واستصحابا للحنفية. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مرتين بمكة قبل الهجرة ووقف مع الناس، فأما أيجاب الحج في الشريعة الإسلامية فلا دليل على وقوعه إلا هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحج، فلا يعد ما وقع من الحج قبل نزولها، وبعد البعثة إلا تحنثا وتقربا، وقد صح أنها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحد، فيكون الحج فرض يومئذ. وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحج على ثلاثة أقوال: فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنه ذكر عن ابن هشام، عن أبي عبيد الواقدي أنه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس. قال ابن إسحاق: وولي تلك الحجة المشركون. وفي مقدمات ابن رشد ما يقتضي أن الشافعي يقول: ان الحج وجب سنة تسع، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أن دليل وجوب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وقد استدل الشافعي بها على ان وجوبه على التراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرر سنة ثلاث، وأصبح المسالمون منذ يومئذ محصرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكة ووقعت حجة سنة تسع.
(3/166)

وفي هذه الآية من صيغ الوجوب صيغتان: لام الاستحقاق، وحرف على الدال على تقرر حق في ذمة المجرور بها. وقد تعسر أو تعذر قيام المسلمين بأداء الحج عقب نزولها، لأن المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعل حكمة إيجاب الحج يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحج مهما تمكنوا من ذلك، ولتقوم الجحة على المشركين بأنهم يمنعون هذه العبادة، ويصدون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بدل من الناس لتقييد حال الوجوب، وجوز الكسائي أن يكون فاعل حج، ود بأنه يصير الكلام: لله على سائر الناس أن يحج المستطيع منهم، ولا معنى لتكليف جميع الناس بفعل بعضهم، وألحقأن هذا الرد لا يتجه لأن العرب تتفنن في الكلام لعلم السامع بأن فرض ذلك على الناس فرض مجمل يبينه فاعل حج، وليس هو كقولك: استطاع الصوم، أو استطاع حمل الثقل، ومعنى: {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وجد سبيلا وتمكن منه، والكلام بأواخره. والسبيل هنا مجاز فيما يتمكن به المكلف من الحج.
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتا في كتب التفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل القدرة والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم. واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحتراف في طريقه: فقال مالك: إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة. وعن مالك كراهية السفر في البحر للحج إلا لمن لا يجد طريقا غيره كأهل الأندلس، واحتج بأن الله تعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولم اجد للبحر ذكرا. قال الشيخ ابن عطية: هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالتي تقتضي سقوط سفر البحر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر" وهل الجهاد إلا عبادة كالحج، وكره مالك للمرأة السفر في البحر لأنه كشفة لها، وكل هذا إذا كانت السلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البر إلا في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحار.
وظاهر قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أن الخطاب بالحج والاستطاعة للمرء
(3/167)

في عمله لا في عمل غيره، ولذلك قال مالك: لا تصح في الحج في الحياة لعذر، فالعاجز يسقط عنه الحج عنده لم ير فيه إلا أن الرجل أن يوصي بأن يحج عنه بعد موته حج التطوع، وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق ابن راهويه: إذا كان له عذر مانع من الحج وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحج عنه، أو كان له مال يستأجر به من يحج عنه، صار قادرا في الجملة، فيلزمه الحج، واحتج بحديث ابن عباس: أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجيزئ أن أحج عنه? قال: "نعم، حجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته?" قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقضى". وأجاب عنه المالكية بأن الحديث لم يدل على الوجوب بل أجابها بما فيه حث على طاعة أبيها، وطاعة ربها.
قال علي بن أبي طالب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك. لا تجزئ إلا إنابة دون إنابة الطاعة.
وظاهر الآية أنه إذا تحققت الاستطاعة وجب الحج على المستطيع على الفور، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاء الأمر الفور أو عدم اقتضائه إياه، وقد اختلف علماء الإسلام في أن الحج واجب على الفور أو على التراخي. فذهب إلى أنه على الفور البغداديون من المالكية: ابن القصار، وإسماعيل بن حماد، وغيرهما، وتأولوه من قول مالك، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وهو قول أحمد بن حنبل، وداوود الظاهري. وذهب جمهور العلماء إلى أنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشافعي وأبي يوسف. واحتج الشافعي بأن الحج فرض قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، فلو كان على الفور لما أخره، ولو أخره لعذر لبينه أي لأنه قدوة للناس. وقال جماعة: إذا بلغ المرء الستين وجب عليه الفور بالحج إن كان مستطيعا خشية الموت، وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم.
ومعنى الفور أن يوقعه المكلف في الحجة التي يحين وقتها أولا عند استكمال شرط الاستطاعة.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ظاهره أنه مقابل قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيكون المراد بمن كفر من لم يحج مع الاستطاعة، ولذلك قال جمع من المحققين: إن الإخبار عنه بالكفر هنا تغليط لأمر ترك الحج. والمراد كفر النعمة. ويجوز
(3/168)

أيضا أن يراد تشويه صنعه بأنه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حرمه. وقال قوم: أراد ومن كفر بفرض الحج، وقال قوم بظاهره: إن ترك الحج مع القدرة عليه كفر. ونسب للحسن. ولم يلتزم جماعة من المفسرين أن يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلة. كالتذييل، بين بها عدم اكتراث الله بمن كفر به.
وعندي أنه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكة بأنه لا اعتداد بحجهم عند الله وإنما يريد الله أن يحج المؤمنون به والموحدون له.
وفي قوله: {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم: لأنه لما فرض الحج وهم يصدون عنه، وأعلمنا أنه غني عن الناس، فهو لا يعجزه من يصد الناس عن مراده تعالى.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ[98] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [99].
ابتداء كلام رجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} الآية.
أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب، بعد أن مهد بين يدي ذلك دلائل صحة هذا الدين ولذلك افتتح بفعل {قل} اهتماما بالمقول، وافتتح المقول بنداء يا أهل الكتاب تسجيلا عليهم. والمراد بآيات الله: إما القرآن، وأما دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. والكفر على هذين الوجهين بمعناه الشضرعي واضح، وإما آيات فضيلة المسجد الحرام على غيره، والكفر على هذا الوجه بمعناه اللغوي. والاستفهام إنكار.
وجملة {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} في موضع الحال لأن أهل الكتاب يوقنون بعموم علم الله تعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء فجحدهم لآياته مع ذلك اليقين أشد إنكارا، ولذلك لم يصح جعل {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} مجرد خبر إلا إذا نزلوا منزلة الجاهل.
وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم
(3/169)

المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم، وفصل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد، ولو عطف لصح العطف.
والصد يستعمل قاصرا ومتعديا: يقال صده عن كذا فصد عنه. وقاصره بمعنى الاعراض. فمتعديه بمعنى جعل المصدود معرضا أي صرفه، ويقال: أصده عن كذا، وهو ظاهر.
وسبيل الله مجاز في الأطوال والأدلة الموصلة إلى الدين والحق. والمراد بالصد عن سبيل الله إما محاولة إرجاع المؤمنين إلى الكفر بإلقاء التشكيك عليهم. وهذا المعنى يلاقي معنى الكفر في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} على وجهيه الراجعين للمعنى الشرعي. وإما صد الناس عن الحج أي صد أتباعهم عن حج الكعبة، وترغيبهم عن حج بيت المقدس، بتفضيله على الكعبة، وهذا يلاقي الكفر بمعناه اللغوي المتقدم، ويجوز أن يكون إشارة إلى إنكارهم القبلة في قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] لأن المقصود به صد المؤمنين عن استقبال الكعبة.
وقوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تبغون السبيل فأنث ضميره لأن السبيل يذكر ويؤنث: قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108]. والبغي الطلب أي تطلبون. والعوج بكسر العين وفتح الواو ضد الاستقامة وهو اسم مصدر عوج كفرح، ومصدره العوج كالفرح. وقد خص الاستعمال غالبا المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة، كالحائط والقناة. وخص إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الذي لا يشاهد كاعوجاج الأرض والسطح، وبالمعنويات كالدين.
ومعنى {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} يجوز أن يكون {عوجا} باقيا على معنى المصدرية، فيكون {عوجا} مفعول {تبغونها} ، ويكون ضمير النصب في تبغونها على نزع الخافض كما قالوا: شكرتك وبعتك كذا: أي شكرت لك وبعت لك، والتقدير: وتبغون لها عوجا، أي تتطلبون نسبة العوج إليها، وتصورونها باطلة زائلة. ويجوز أن يكون عوجا وصفا للسبيل على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة، أي تبغونها عوجاء شديدة العوج فيكون ضمير النصب في {تبغونها} مفعول {تبغون} ، ويكون عوجا حالا من ضمير النصب أي ترومونها معوجة أي تبغون سبيلا معوجة وهي سبيل الشرك.
والمعنى: تصدون عن السبيل المستقيم وتريدون السبيل المعوج ففي ضمي {تبغونها} استخدام لأن سبيل الله المصدود عنها هي الإسلام، والسبيل التي يريدونها هي
(3/170)

ما هم عليه من الدين بعد نسخه وتحريفه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال أيضا توازن الحال في قوله قبلها: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ومعناه وأنتم عالمون أنها سبيل الله. وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مما لا يعلمه إلا الله لأن ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنهم يعلمون أن الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} إلا أن هذا أغلظ في التوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأن حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[100] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101].
إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين، وقد تفضل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 98] ولم يقل: قل يا أيها الذين آمنوا.
والفريق: الجماعة من الناس، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شاس ابن قيس وأصحابه، أو أراد شاسا وحده، وجعله فريقا كما جعل أبا سفيان ناسا في قوله {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وسياق الآية مؤذن بأنها جرت على حادثة حدثت وأن لنزولها سببا. وسبب نزول هذه الآية: أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتى تفانوا، وكانت بينهم حروب وآخرها يوم بعاث التي أنتهت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلما اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عدة لإسلام، فساء ذلك يهود يثرب فقام شاس بن قيس اليهودي، وهو شيخ قديم منهم، فجلس إلى الأوس والخزرج، أو أرسل إليهم من جلس إليهم يذكرهم حروب بعاث، فكادوا أن يقتتلوا، ونادى كل فريق: يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال: "أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم?" وفي رواية: "أبدعوى الجاهلية?" أي أتدعون بدعوى الجاهلية وقرأ هذه الآية، فما فرغ منها حتى ألقوا السلاح، وعانق بعضهم بعضا، قال جابر بن عبد الله: ما كان طالع أكره إلينا من طلوع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصلح الله بيننا
(3/171)

ما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وأصل الرد الصرف والإرجاع قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5] وهو هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر فيما أنشده أهل اللغة:
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
و {كافرين} مفعوله الثاني، وقوله: {بعد إيمانكم} تأكيد لما أفاده قوله: {يردوكم} والقصد من التصريح توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام مستعمل في الاستبعاد استبعادا لكفرهم ونفي له، كقول جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وجملة {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} حالية، وهي محط الاستبعاد والنفي لأن كلا من تلاوة آيات الله وإقامة الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم وازع لهم عن الكفر، وأي وازع، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه.
والظرفية في قوله: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} حقيقية ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزية التي فاز بها أصحابه المخاطبون، وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" النصيف نصف مد.
وفي الآية دلالة على عظم قدر الصحابة وأن لهم وازعين عن مواقعة الظلال: سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرسول عليه السلام، فإن وجوده عصمة من ضلالهم. قال قتادة: أما الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
وقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي من يتمسك بالدين فلا يخشى عليه الضلال. فالاعتصام هنا استعارة للتمسك.
وفي هذا إشارة إلى التمسك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الذين لم يشهدوا حياة
(3/172)

رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [103].
انتقل من تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التقوى، لأن في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخا لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسري إلى جميع من يكون بعدهم.
وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. والتقوى تقدم تفسيرها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . وحاصل امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظاهرة، والنوايا الباطلة. وحق التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] لأن الاستطاعة هي القدرة، والتقوى مقدور للناس. وبذلك إن لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأن هاته دلت على تقوى كاملة كما فسرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصي، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ورووا أن هذه الآية لما نزلت قالوا: يا رسول الله من يقوى لهذا فنزل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسخ هذه بناء على أن الأمر في الآيتين في الوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين. والحق أن هذا بيان لا نسخ، كما حققه المحققون، ولكن شاع عند المتقدمون إطلاق النسخ على ما يشمل البيان.
والتقاة اسم مصدر. اتقى وأصله وقية ثم وقاة تم أبدلت الواو تاء تبعا لإبدالها في الافتعال إبدالا قصدوا منه الإدغام. كما تقدم في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} نهي عن أن أن يموتوا على حالة في الدين إلا على حالة الإسلام فمحط النهي هو القيد: أعني المستثنى منه المحذوف والمستثنى هو جملة الحال، لأنها استثناء من أحوال، وهذا المركب مستعمل في غير معناه لأنه مستعمل في النهي عن مفارقة الدين بالإسلام مدة الحياة، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم، لما
(3/173)

شاع بين الناس من أن ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصديق:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي لكان ترخيصا في مفارقة الإسلام إلا عند حضور الموت، وهو معنى فاسد وقد تقدم ذلك في قوله تعالى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ثنى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماء. والاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع.
والحبل: ما يشد به للارتقاء، أو التدلي، أو للنجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفاتهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمثيل. وقوله: {جميعا} حال وهو الذي رجح إرادة التمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كل مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمة كلها، ويحصل في ضمن ذلك أمر كل واحد بالتمسك بهذا الدين، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني. ويجوز أن يستعار الاعتصام للتوثيق بالدين وعهوده، وعدم الانفصال عنه، ويستعار الحبل للدين والعهود كقوله {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ويكون كل من الاستعارتين ترشيحا للأخرى، لأن مبني الترشيح على اعتبار تقوية التشبيه في نفس السامع، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار، بقطع النظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلا قوة، ليست الاستعارة بوضع اللفظ في معنى جديد حتى يتوهم متوهم أن تلك الدلالة الجديدة، الحاصلة في الاستعارة الثانية، صارت غير ملائمة لمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى، وإنما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسنا. وقريب من هذا التورية، فإن فيها حسنا بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره، ولا شك أنه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخر مقصودا، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحا في الأمر بالاجتماع على الدين
(3/174)

بل ظاهرة انه امر للمؤمنين بالتمسك بالدين فيؤول إلى أمر كل واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصيغة ويصير قوله: {جميعا} محتملا لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة.
وقوله: {ولا تفرقوا} تأكيد لمضمون اعتصموا جميعا كقوله: ذممت ولم تحمد. على الوجه الأول في تفسير {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} . وأما على الوجه الثاني فيكون قوله: {ولا تفرقوا} أمرا ثانيا للدلالة على طلب الاتحاد في الدين، وقد ذكرنا أن الشيء قد يؤكد بنفي ضده عند قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام [140] وفي الآية دليل على أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تصويرا لحالهم التي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جمعيا بجامعة الإسلام الذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الذي اختار لهم هذا الدين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتفاق. والتذكير بنعمة الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرسل. قال تعالى حكاية عن هود {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] وقال عن شعيب {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وقال الله لموسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم"5]. وهذا التذكير خاص بمن أسلم بعد أن كان في الجاهلية، لأن الآية خطاب للصحابة ولكن المنة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كل جبل يقدر أن لو لم يسبق إسلام الجيل الذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النار.
والظرفية في قوله: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} معتبر فيها التعقيب من قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة.
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرين والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنهما كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات1 بل وسائر الأمم التي دعاها الإسلام كانوا في تفرق وتخاذل فصار
ـــــــ
1 كانت قبائل العرب أعداء بعضهم لبعض فما وجدت قبيلة غرّة من الأخرى إلا شنت عليها الغارة.
وما وجدت الأخرى فرصة إلا نادت بالثارة. وكذلك تجد بطون القبيلة الواحدة وكذلك تجد بني
(3/175)

الذين دخلوا في الإسلام إخوانا وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدعاية من خطابة وجاه وشعر1 فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتى ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التأليف بمنزلة الأخوان.
والخوان جمع الأخ، مثل الأخوة، وقيل: يختص الأخوان بالأخ المجازي والأخوة بالأخ الحقيقي، ولي بصحيح قال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وليس يصح أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللفظ مجازا وصار مشتركا، لكن للاستعمال أن يغلب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي.
وقد امتن الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهبي حالة الأخوة ولا يدرك الفرق بين الحالين إلا من كانوا في السوأى فأصبحوا في الحسنى، والناس إذا كانوا في حالة بؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطنوا لوخيم عواقبه، حتى إذا هيئ لهم الصلاح، وأخذ يتطرق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ ق2لُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
ـــــــ
العم من بطن واحد أعداء متغابين على المواريث والسؤدد قال أرطأة بن سهية الذبياني من شعراء الأموية:
ونحن بنو عم على ذات بيننا
زرابي فيها بعضه وتنافس
1 مثل خطاب شيوخ بني سعد لامرىء القيس حين عزم على قتالهم أخذا بثأره.
ومثل توسط هرم بن سنان والحارث بن عوف.
وقال زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
الأبيات.
وقال النابغة:
ألا يا ليتني والمرء ميت
الأبيات.
(3/176)

إِخْوَاناً} .
وقوله: {بنعمته} الباء فيه للملابسة بمعنى مع أي أصبحتم إخوانا مصاحبين نعمة الله وهي نعمة الأخوة، كقول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي:
كلله نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} عطف على {كنتم أعداء} فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات.
والشفا مثل الشفة هو حرف القليب وطرفه، وألف مبدله واو. وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعزة إلا أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شفتين بل قالوا شفاه كأنهم اعتدوا بالهاء كالأصل.
فأرى أن شفا حفرة النار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتفاني الذي عبر عنه زهير بقوله:
تفانوا ودقوا بينهم منشم
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النار كالأخدود فليس بينهم وبين الهلاك السريع التام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبه بها هنا لأن النار أشد المهلكات إهلاكا، وأسرعها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر، كما قال أبو الطيب:
نجاة من البأساء بعد وقوع
والإنقاذ من حالتين شنيعتين. وقال جمهور المفسرين: أراد نار جهنم وعلى قولهم هذا يكون قوة {شَفَا حُفْرَةٍ} مستعارا للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول. والنار حقيقة، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى {حفرة} إذ ليست جهنم حفرة بل عالم عظيم للعذاب. ورد في الحديث "فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان" ولكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النظر. ويكون الامتنان على هذا امتنانا عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النار علموا أنهم كانوا على شفاها. وقيل: أراد نار الحرب وهو بعيد جدا لأن نار الحرب لا توقد في حفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيدا كما قال الحارث:
(3/177)

وبعينيك أوقدت هند النار ... عشاء تلوى بها العلياء
فتنورت نارها من بعيد ... بخزازي أيان منك الصلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها.
والضمير في {منها} للنار على التقادير الثلاثة. ويجوز على التقدير الأول أن يكون لشفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} نعمة أخرى وهي نعمة التعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتى تكمل عقولهم، ويتبينوا ما فيه صلاحهم. والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح. والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم، كقول الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية. وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [104] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [105].
هذا مفرع عن الكلام السابق: لأنه لما أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكمال، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمرين ثم الأحلوين، فحلبوا الدهر أشطريه، كانوا أحرياء بأن يسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سوء ما هو فيه إلى حسنى ما هم عليه حتى يكون الناس أمة واحدة خيرة. وفي غريزة البشر حب المشاركة في الخير لذلك تجد الصبي إذا رأى شيئا أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه.
ولذلك كان هذا الكلام حريا بأن يعطف بالفاء، ولو عطف بها لكان أسلوبا عربيا إلا أنه عدل عن العطف بالفاء تنبيها على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريا بأن يؤمر به فلا يكون مذكورا لأجل التفرع عن غيره والتبع.
(3/178)

وفيه من حسن المقابلة في التقسيم ضرب من ضروب الخطابة: وذلك أنه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدهم الناس عن الإيمان، فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 98، 99] الآية.
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ} الآية.
وصيغة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها. فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقررا من قبل بآيات أخرى مثل {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، أو بأوامر نبوية. فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدوام والثبات عليه، مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136].
والأمة الجماعة والطائفة كقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
وأصل الأمة من كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصدا واحدا: من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعين ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم: أمة العرب وأمة غسان وأمة النصارى.
والمخاطب بضمير منكم إن كان هم أصحاب رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنفا جاز أن تكون من بيانيه وقدم البيان على المبين ويكون ما صدق الأمة نفس الصحابة، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير فهذه الأمة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكونوا من مجموعهم الأمة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير، والمقصود تكوين هذا الوصف لأن الواجب عليهم هو التخلق بهذا الخلق فإذا تخلقوا به تكونت الأمة المطلوبة. وهي أفضل الأمم. وهي أهل المدينة الفاضلة المنشودة للحكماء من قبل، فجاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز.
(3/179)

وفي هذا محسن التجريد: جردت من المخاطبين أمة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال: لفلان من بنيه أنصار. والمقصود: ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتى تكونوا أمة هذه صفتها، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير، ولا جرم فهو الذين تلقوا الشريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فهم أولى الناس بتبليغها. وأعلم بمشاهدها وأحوالها، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة "ليبلغ الشاهد الغائب ألا هل بلغت" وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسرين، كما قاله ابن عطية.
ويجوز أيضا، على اعتبار الضمير خطابا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن تكون من للتبعيض، والمراد من الأمة الجماعة والفريق، أي: وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصحابة فقد قال ابن عطية: قال الضحاك، والطبري: أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة. فهم خاصة أصحاب الرسول وهم خاصة الرواة.
وأقول: على هذا يثبت حكم الوجوب على كل جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطل الهدى. ومن الناس من لا يستطيع الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] الآية.
وإن كان الخطاب بالضمير لجميع المؤمنين تبعا لكون المخاطب بيا أيها الذين آمنوا إياهم أيضا، كانت من للتبعيض لا محالة، وكان المراد بالأمة الطائفة، إذ لا يكون المؤمنون كلهم مأمورين بالدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية، والطبري، ومن تبعهم، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معينة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الذي فرض على الأمة وقوعه.
على أن الاعتبار لا يمنع من أن تكون من بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمة، ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلوا عن ذلك على حسب الحاجة، ومقدار الكفاءة للقيام بذلك، ويكون هذا جاريا على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصفات الشائعة فيها الغالبية على أفرادها كقولهم: باهلة لئام، وعذرة عشاق.
(3/180)

وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} كما سيأتي.
إن الدعوة إلى الخير تتفاوت: فمنها ما هو بين يقوم به كل مسلم، ومنها ما يحتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمى بفرض الكفاية، يعني إذ قام به بعض الناس كفى عن قيام الباقين، وتتعين الطائفة التي تقوم بها بتوفر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك تعين العدد الذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصف عدد جيش العدو، ولما كان الأمر يستلزم متعلقا فلمأمور في فرض الكفاية الفريق الذين فيهم الشروط، ومجموع أهل البلد، أو القبيلة، لتنفيذ ذلك، فإذا قام به العدد الكافي ممن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة، لسكوت جميعهم، ولتقاعس الصالحين للقيام بذلك، مع سكوتهم أيضا ثم إذا قام به البعض فإنما يثاب ذلك البعض خاصة.
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام، وبث دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخير اسم يجمع خصال الإسلام: ففي حديث حذيفة بن اليمان "قلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر" الحديث، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره، وهو أصل العطف. وقيل: أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون العطف من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
وحذفت مفاعيل يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي يدعون كل أحد كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25].
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به، لأن الشيء إذا كان معروفا كان مألوفا مقبولا مرضيا به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح، لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.
والمنكر مجاز في المكروه، والكره لازم للإنكار لأن المنكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد، لأنهما من المكروه في الجبلة عند انتفاء العوارض.
(3/181)

والتعريف في الخير، والمعروف، والمنكر تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيشبه الاستغراق العرفي.
ومن المفسرين من عين جعل من في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} للبيان، وتأول الكلام بتقدير تقديم البيان على المبين فيصير المعنى: ولتكن أمة هي انتم أي ولتكونوا أمة يدعون، محاولة للتسوية بين مضمون هذه الآية، ومضمون قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] ومساواة معنيي الآيتين غير متعينة لجواز ان يكون المراد من خير أمة هاته الأمة، التي قامت بالأمر بالمعروف، على ماسنبينه هنالك.
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاشك أن الأمر والنهي من أقسام القول والكلام، فالمكلف به هو بيان المعروف، والأمر به، وبيان المنكر، والنهي عنه، وأما امتثال المأمورين والمنهيين لذلك، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الذين يحملونهم على فعل ما أمروا به، وأما ما وقع في الحديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فأن لم يستطيع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه" فذلك مرتبة التغيير، والتغيير يكون باليد، ويكون بالقلب أي تمني التغيير، وأما الأمر والنهي فلا يكونان بهما.
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكل مسلم أن يأمر وينهي فيهما، وان كانا نظريين، فأنما يقوم بالأمر والنهي فيهما أهل العلم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط مبينة في الفقه والآداب الشرعية، ألا أني أنبه إلى شرط ساء فهم بعض الناس فيه وهو قول بعض الفقهاء: يشترط ألا يجر النهي إلى منكر أعظم. وهذا شرط قد خرم مزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأتخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب. ولقد ساء فهمهم فيه إذ مراد مشترطه أن يتحقق الأمر أن أمره يجر إلى منكر أعظم لا أن يخاف أن يتوهم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلا ظن أقوى.
ولما كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتوقفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التغيير، وإفهام الناس ذلك، رأى أئمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسموا تلك الولاية بالحسبة، وقد أولى عمر بن الخطاب في هاته الولاية أم الشفاء،
(3/182)

وأشهر من وليها في الدولة العباسية أبن عائشة، وكان رجلا صلبا في الحق، وتسمى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد ولياها في قرطبة الأمام محمد بن خالد بن مرتنيل القرطبي المعروف بالأشج من أصحاب أبن القاسم توفي سنة 220. وكانت في الدولة الحفصية ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربما ضمت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصية.
وجملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} معطوفة على صفات أمة وهي التي تضمنتها جمل {يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والتقدير: وهم مفلحون: لأن الفلاح لما كان مسببا على تلك الصفات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حالا من أمة، والواو للحال.
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك. وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عما قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] لكن هذه عطفت أو جاءت حالا لأن مضمونها جزاء عن الجمل التي قبلها، فهي أجدر بأن تلحق بها.
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو أما قصر إضافي بالنسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه، وأما قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدلالة على معنى الكمال.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} معطوف على قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وهو يرجع إلى قوله قبل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] لما فيه من تمثيل حال التفرق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أخوال اليهود. وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشق الأمة بذلك انشقاقا شديدا.
والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} مع انه لاشك في أن حكم هذه الآية يعم سائر المسلمين: أما بطريق اللفظ، وإما بطريق لحن الخطاب، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال اللذين تفرقوا واختلفوا.
وأريد بالذين تفرقوا واختلفوا في أصول الدين، من اليهود والنصارى، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق. وقدم الافتراق على
(3/183)

الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علة التفرق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارنتها، وفي عكسه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبينة على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار، وهو المعبر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة.
والبينات: الدلائل التي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.
وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مقابل قوله في الفريق الآخر: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالقول فيه كالقول في نظيره، وهذا جزاء على التفرق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنب أسبابه.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[106] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [107].
يجوز أن يكون {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} منصوبا على الظرف، متعلقا بما في قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} من معنى كائن أو مستقر: أي يكون عذاب لهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجمل. ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل أذكر محذوفا، وتكون جملة {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} صفة ليوم على تقدير: تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه.
وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه، تهويل لأمره، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة، والوجوه المسودة: ترعيبا لفريق وترغيبا لفريق آخر. والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل: في الآيات النازلة قبل هذه الآية، مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38، 41].
(3/184)

والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} تفصيل للأجمال السابق، سلك فيه طريق النشر المعكوس، وفيه أيجاز لأن أصل الكلام، فأما الذين اسودت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخره: وأما الذين ابيضت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون.
وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض، الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد غيرهم بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم. ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلا بمساءتهم.
وقوله: {أكفرتم} مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره: لأن الاستفهام لا يصدر إلا من مستفهم، وذلك القول هو جواب أما، ولذلك لم تدخل الفاء على {أكفرتم} ليظهر أن ليس هو الجواب وان الجواب حذف برمته.
وقائل هذا القول مجهول، إذ لم يتقدم ما يدل عليه، فيحتمل أن ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الذين عرفوهم في الدنيا مؤمنين، ثم رأوهم وعليهم سمة الكفر، كما ورد في حديث الحوض "فليردن على أقوام أعرفهم ثم يختلجون دوني، فأقول: أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" والمستفهم سلفهم من قومهم أو رسولهم، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجب.
ويحتمل انه بقوله تعالى لهم، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط، ثم ان كان المراد بالذين اسودت وجوههم أهل الكتاب فمعنى كفرتم بعد إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها، أو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أيمانهم بموسى وعيسى، كما تقدم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] وهذا هو المحمل البين، وسياق الكلام ولفضه يقتضيه، فإنه مسوق لوعيد أولئك. ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذرهم منه القرآن، فتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات: الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك، فمعنى الكفر بعد الأيمان حينئذ ظاهر، وعلى هذا المعنى تأول الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب
(3/185)

المرتدين والمحاربين من العتبية قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قال مالك: إنما هذه لأهل القبلة. يعني أنها ليست للذين تفرقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . ورواه أبو غسان مالك الهروي عن مالك عن أبن عمر، وروي مثل هذا عن ابن عباس، وعلة هذا الوجه فالمراد الذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردة أو بشنيع الأقوال التي تفضي إلى الكفر ونقض الشريعة، مثل الغرابية من الشيعة الذين قالوا بأن النبوة لعلي، ومثل غلاة الإسماعيلية أتباع حمزة بن علي، وأتباع الحاكم العبيدي، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحا ولا لزوما بينا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأولين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيئة.
وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ[108] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [109].
تذييلات، والإشارة في قوله {تلك} إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .
والتلاوة أسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظة وهي كالقراءة إلا أن القراءة تختص بحكاية كلام مكتوب فيتجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوئة بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل، وهو قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] فيكون كل تذييل مستقلا بطائفة الجمل التي وقع هو عقبها.
وخصت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام، والمبطلة لدعاوى الفرق الثلاث من اليهود والنصارى والمشركين، مثل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 74] الآية. وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] الآية. وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] الآية. وقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران: 79] والحكم والنبوة الآية. وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية. وقوله: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93] فأتلوها. وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
(3/186)

لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96] وما تخلل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد.
والباء في قوله: {بالحق} للملابسة، وهي ملابسة الأخبار للمخبر عنه، أي لما في نفس الأمر والواقع، فهذه الآيات بينت عقائد أهل الكتاب وفصلت أحوالهم في الدنيا والآخرة.
ومن الحق استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلا من الله، ولذلك قال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} أي لا يريد أن يظلم الناس ولو شاء ذلك لفعله، لكنه وعد بأن لا يظلم أحد فحق وعده، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه، وإنما الخلاف في جواز ذلك واستحالته.
وجئ بالمسند فعلا لإفادة تقوى الحكم، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى، وتنكير ظلما في سياق النفي يدل على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلق به إرادة الله، فكل ما يعد ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.
وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] عطف على التذييل: لأنه إذا كان له ما في السماوات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم. فلا يريد ظلمهم، واليه ترجع الأشياء كلها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء.
وتكرير أسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى ان تكون كل جملة مستقلة الدلالة بنفسها، غير متوقفة على غيرها، حتى تصلح لأن يتمثل بها، وتستحضرها النفوس وتحفضها الأسماع.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [110].
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
يتنزل هذا منزلة التعليل لأمرهم بالدعوة إلى الخير وما بعده فإن قوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} حال من ضمير كنتم، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمة فيترتب عليه إن ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضا من قبل، وأن يؤكد عليهم
(3/187)

فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل.
والخطاب في قوله: {كنتم} إما لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبن عباس. قال عمر: هذه لأولنا ولا تكون لآخرنا. وإضافة خير إلى أمة من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي كنتم أمة خير أمة أخرجت للناس، فالمراد بالأمة الجماعة، وأهل العصر النبوي، مثل القرن، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل. ولا شك أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم، لأن رسولهم أفضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني" . والفضل ثابت للجموع على المجموع، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته.
وإما أن يكون الخطاب بضمير {كنتم} للمسلمين كلهم في كل جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمة أنه لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمة أوجب فضيلة لجميع الأمة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأن ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.
وفعل كان يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار، ولا على انقطاع، قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] أي وما زال فمعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، ولأنهم اتصفوا بالإيمان، والدعوة للأسلام، وإقامته على وجهه، والذب عن النقصان والإضاعة لتحقق أنهم لما جعل ذلك من واجبهم، وقد قام كل بما استطاع، فقد تحقق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كلما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقق أنهم خير أمة على الأجمال فأخبر عنهم بذلك. هذا إذا بينا على كون الأمر في قوله آنفا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
(3/188)

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وما بعده من النهي في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 105] الآية، لم يكن حاصلا عندهم من قبل.
ويجوز أن يكون المعنى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} موصوفين بتلك الصفات فيما مضى تفعلونها أما من تلقاء أنفسكم حرصا على إقامة الدين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده، وأما بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3] وحينئذ فلما أمرهم بذلك على سبيل الجزم، أثنى عليهم بأنهم لم يكونوا تاركيه من قبل، وهذا إذا بينا على ان الأمر في قوله: {وََلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] تأكيد لما كانوا يفعلونه، وإعلام بأنه واجب، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدمتها عند قوله: {وََلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} .
ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان خير أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار.
والمراد بأمة عموم الأمم كلها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق.
وقوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الإخراج مجاز في الإيجاد والأظهر كقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا.
والمعنى: كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا. وفاعل {أخرجت} معلوم وهو الله موجد الأمم، والسائق إليها ما به تفاضلها. والمراد بالناس جميع البشر من أول الخليقة.
وجملة {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} حال في معنى التعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتى تحكي الخيرية في حال مقارنتها لها، بل هي من الأعمال النفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمة. ويجوز كونها خبرا ثانيا لكان، وهذا ضعيف لأنه يفيت قصد التعليل. والمعروف والمنكر تقدم بيانها قريبا.
وإنما قدم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} على قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
(3/189)

عَنِ الْمُنْكَرِ} والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأن إيمانهم ثابت محقق من قبل.
وإنما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفصيل على الأمم، لأن لكل من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التفضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد رد الله ذلك صريحا في قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79].
فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا. لأنهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لتعذر أن يترك الأمم الأمر بالمعروف لأن الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه. قلت: لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما لأنه لم يكن واجبا عليهم، أو لأنهم كانوا يتوسعون في حال التقية، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغير عليهم، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله قال قَالَ: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 92، 94] وأما قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 113، 114] الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمة.
وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق، فإذا أجمعت الأمة على حكم، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكرا، وتعين أن يكون معروفا، لأن الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضمنهم، ولا يجوز سكوتها عن منكر يقع، ولا عن معروف يترك، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من
(3/190)

الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري، وان كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأن المنكر لا يعتبر منكرا إلا بعد إثبات حكمه شرعا، وطريق إثبات حكمه الإجماع، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتى ينهي عنه طائفة منهم لأن اجتهادهم هو غاية وسعهم.
{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [110].
عطف على قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل، مع ما فيه من التعريض بهم بأنهم مترددون في أتباع الإسلام، فقد كان مخيريق مترددا زمانا ثم أسلم، وكذلك وفد نجران ترددوا في أمر الإسلام.
وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود، لأنهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، وقصد بيت مدراسهم، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم" .
ولم يذكر متعلق آمن هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسلم، وصبأ، وأشرك، ولحد، دون ذكر متعلقات لهاته الأفعال لأن المراد أنه أتصف بهذه الصفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة، فالفعل نزل منزلة اللازم، وأظهر منه: تهود، تنصر، وتزندق، وتحنف، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع، مع أن أيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد. ووقع في الكشاف أن المراد: لو آمنوا الإيمان الكامل، وهو تكلف ظاهر، وليس المقام مقامه. وأجمل وجه كون الإيمان خير لهم لتذهب نفوسهم كل مذهب في الرجاء والإشفاق. ولما أخبر عن أهل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط لو الامتناعية، تعين لان المراد من بقي بوصف أهل الكتاب، وهو وصف لا يبقي وصفهم به بعد أن يتدينوا بالإسلام، وكان قد يتوهم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام، وجيء بالاحتراس بقوله: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن، مثل عبد الله بن
(3/191)

سلام، وكان أسمه حصينا وهو من بني قينقاع، وأخيه، وعمته، خالدة، وسعيه أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي، وهو أبن أخي السموأل ابن عاديا، وثعلبة بن سعيا، وأسد بن سعيه القرضي، وأسد بن عبيد القرضي، ومخيريق من بني النضير أو من بني قينقاع، ومثل أصحمة النجاشي، فإنه آمن بقلبه وعوض عن إظهاره أعمال الإسلام نصره للمسلمين، وحمايته لهم ببلده، حتى ظهر دين الله، فقبل الله منه ذلك، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه كان مؤمنا وصلى عليه حين أوحى إليه بموته. ويحتمل إن يكون المعني من أهل الكتاب فريق متق في دينه، فهو قريب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مثل من بقي مترددا في الإيمان من دون أن يتعرض لأذى المسلمين، مثل النصارى من نجران ونصارى الحبشة، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم، على الخلاف في إسلامه، فإنه أوصى بماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بإيمانهم صدق الأيمان بالله وبديهم، وفريق منهم فاسق عن دينه، محرف له، مناوأ لأهل الخير، كما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} مثل الذين سموا الشاة لرسول الله يوم خيبر، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة.
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [111].
استئناف نشأ عن قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، لأن الإخبار عن أكثرهم بأنهم غير مؤمنين يؤذون بمعاداتهم للمؤمنين، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم، وهذا يختص باليهود، فإنهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر، والنضير، وقينقاع، وقريظة، وكانوا أهل مكر، وقوة، ومال، وعدة، وعدد، والمسلمون يومئذ في قلة فطمأن الله المسلمين بأنهم لا يخشون بأس أهل الكتاب، ولا يخشون ضرهم، لكن أذاهم.
أما النصارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتى يخشوهم. والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضر الذي هو الألم، وقد قيل هو الضر بالقول فيكون كقول إسحاق بن خلف:
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ ... وكنت أبقي عليها من أذى الكلم
ومعنى {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} يفرون منهزمين.
(3/192)

وقوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، أو متأملين في الأمر. وفي العدول عن جعله معطوفا على جملة الجواب إلى جعله معطوفا على جملتي الشرط وجزائه معا، إشارة إلى أن هذا ديدنهم وهجيراهم، لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم.
وثم لترتيب الأخبار دالة على تراخي الرتبة. ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام. وهو غير التراخي المجازي، لأن التراخي المجازي أن يشبه ما ليس بمتأخر عن المعطوف بالمتأخر عنه.
وهذا كله وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [113].
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}
يعود ضمير عليهم إلى {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وهو خاص باليهود لا محالة، وهو كالبيان لقوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} .
والجملة بيانية لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
ومعنى ضرب الذلة اتصالها بهم وأحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبهت الذلة، وهي أمر معقول، بقبة أو خيمة شملتهم وشبه اتصالها وثباتها بضرب القبة وشدة أطنابها، وقد تقدم نظيره في البقرة.
و {ثقفوا} في الأصل أخذوا في الحرب {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] وهذه المادة تدل على تمكن من أخذ الشيء، وتصرف فيه بشدة، ومنها سمي الأسر ثقافا. والثقاف آلة كالكلوب تكسر به أنابيب قنا الرماح. قال النابغة:
عض الثقاف على صم الأنابيب
والمعنى هنا: أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين،
(3/193)

شبه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدة ذلهم.
وقوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} الحبل مستعار للعهد، وتقدم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} في سورة البقرة [256] وعهد الله ذمته، وعهد الناس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلت عليها الباء التي للمصاحبة. والتقدير: ضربت عليهم الذلة متلبسين بكل حال إلا متلبسين بعهد من الله وعهد من الناس، فالتقدير: فذهبوا بذلة إلا بحبل من الله.
والمعنى لا يسلمون من الذلة إلا إذا تلبسوا بعهد من الله، أي ذمة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولي بأس شديد، وأما هم في أنفسهم فلا نصر لهم. وهذا من دلائل النبوة فإن اليهود كانوا أعزة بيثرب وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلة وعمتهم المذلة في سائر أقطار الدنيا.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنا.
والمسكنة الفقر الشديد مشتقة من أسم المسكين وهو الفقير، ولعل اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلة الحيلة في العيش. والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهو إخبار بمغيب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنضير وقينقاع وقريظة، ثم في إجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
الإشارة إلى ضرب الذلة المأخوذ من {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} . ومعنى {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ} تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 21] أوائل هذه السورة.
وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلة والمسكنة فيكون سببا ثانيا. وما مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللف فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء.
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ
(3/194)

اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[113] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [114].
استئناف قصد به أنصاف طائفة من أهل الكتاب، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم، تأكيدا لما أفاده قوله: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] فالضمير في قوله: {ليسوا} لأهل الكتاب المتحدث عنهم آنفا، وهم اليهود، وهذه الجملة تتنزل من التي بعدها منزلة التمهيد.
وسواء أسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية.
وجملة {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الخ... مبينة لإبهام {لَيْسُوا سَوَاءً} والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة. فالأمة هنا بمعنى الفريق.
وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] لأنهم صاروا من المسلمين.
وعدل عن أن يقال: منهم أمة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب: ليكون هذا الثناء شاملا لصالحي اليهود، وصالحي النصارى، فلا يختص بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الذين آمنوا بعيسى وأتبعوه، وكذلك صالحوا النصارى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى، وكثير منهم أهل تهجد في الأديرة والصوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية.
والأمة: الطائفة والجماعة.
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحق، كما يقال: سوق قائمة وشريعة قائمة.
والآناء أصله أأناء بهمزتين بوزن أفعال، وهو جمع إني بكسر الهمزة وفتح النون مقصورا ويقال أني بفتح الهمزة قال تعالى {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أي غير منتظرين وقته.
وجملة {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} حال، أي يتهجدون في الليل بتلاوة كتابهم، فقيدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم. وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال: يتهجدون لأنه يدل على صورة فعلهم.
(3/195)

ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ} يسارعون إليها أي يرغبون في الاستكثار منها. والمسارعة مستعارة للاستكثار من الفعل، والمبادرة إليه، تشبيها للاستكثار والاعتناء بالسير السريع لبلوغ المطلوب. وفي للظرفيه المجازية، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون، ولهؤلاء مزية السرعة في قطعه. ولك أن تجعل مجموع المركب من قوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيْرَاتِ} تمثيلا لحال مبادرتهم وحرصهم على فعل الخيرات بحال السائر الراغب في البلوغ إلى قصده يسرع في سيره. وسيأتي نظيره عند قوله تعالى: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} في سورة العقود [176].
والإشارة بأولئك إلى الأمة القائمة الموصوفة بتلك الأوصاف. وموقع أسم الإشارة التنبيه على أنهم استحقوا الوصف المذكور بعد أسم الإشارة بسبب ما سبق أسم الإشارة من الأوصاف.
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [115].
تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] إلى قوله تعالى: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114]. وقرأ الجمهور: تفعلوا بالفوقيه فهو وعد للحاضرين، ويعلم منه ان الصالحين السابقين مثلهم، بقرينة مقام الامتنان، ووقوعه عقب ذكرهم، فكأنه قيل: وما تفعلوا من خير ويفعلوا. ويجوز أن يكون التفاتا لخطاب أهل الكتاب. وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بياء الغيبه عائدا إلى أمة قائمة.
والكفر: ضد الشكر أي هو إنكار وصول النعمة الواصلة. قال عنترة:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبشة لنفس المنعم
وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وأصل الشكر والكفر أن يتعديا إلى واحد، ويكون مفعولهما النعمة كما في البيت. وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسع في حذف حرف الجر، لأن الأصل شكرت له وكفرت له. قال النابغة:
شكرت لك النعمى
وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقد عدي {تكفروه} إلى مفعولين: أحدهما نائب الفاعل، لأن الفاعل ضمن معنى الحرمان. والضمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام. وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير، تشبيها لفعل الخير بالنعمة. كأن
(3/196)

فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [التغابن: 17] فحذف المشبه ورمز إليه بما هو من لوازمه العرفية. وهو الكفر. على أن في القرينة استعارة مصرحة مثل {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27] وقد امتن الله علينا إذ جعل طاعتنا إياه كنعمة عليه تعالى، وجعل ثوابها شكرا، وترك ثوابها كفرا فنفاه. وسمى نفسه الشكور.
وقد عدي الكفران هنا إلى النعمة على أصل تعديته.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [116].
استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب.
وإنما عطف الأولاد هنا لأن الغناء في متعارف الناس يكون بالمال والولد، فالمال يدفع به المرء عن نفسه في فداء أو نحوه، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر، وقد تقدم القول في مثله في طالعه هذه السورة.
وكرر حرف النفي مع المعطوف في قوله: {وَلا أَوْلادُهُمْ} لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذب عن آبائهم.
ويتعلق {من الله} بفعل {لن تغني} على معنى من الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم.
وانتصب شيئا على المفعول المطلق لفعل {لن تغني} أي شيئا من غناء. وتنكير شيئا للتقليل.
وجملة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} عطف على جملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} . وجيء بالجملة معطوفة، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف، لقصد أن تكون الجملة منصبا عليها التأكيد بحرف إن فيكمل لها من أدلة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي: التأكيد بـ {أن} ، وموقع أسم الإشارة، والأخبار عنهم بأنهم أصحاب النار، وضمير الفصل، ووصف خالدون.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ
(3/197)

قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [117].
استئناف بياني لأن قوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ...} الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى.
ضربت لأعمالهم المتعلقة بالأموال مثلا، فشبه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهريا، المخيب آخرها، حين يحبطها الكفر، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، تشبه المعقول بالمحسوس. ولما كان التشبيه تمثيليا لم يتوخ فيه موالاة ما شبه به إنفاقهم لأداة التمثيل، فقيل: كمثل ريح، ولم يقل كمثل حرث ثوم.
والكلام على الريح تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في سورة البقرة [164].
والصر: البرد الشديد المميت لكل زرع أو ورق يهب عليه فيتركه كالمحترق، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصر على الريح الشديد البرد وإنما الصر أسم البرد. وأما الصرصر فهو الريح الشديدة وقد تكون باردة. ومعنى الآية غني عن التأويل، وجوز في الكشاف أن يكون الصر هنا اسما للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر. وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الإطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب.
وفي قوله: {فيها صر} إفادة شدة برد هذه الريح، حتى كأن الصر مظروف فيها، وهي تحمله إلى الحرث.
والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول: أي محروث قوم أي أرضا محروثة والمراد أصابت زرع حرث. ونقدم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] في أول السورة.
وقوله: {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعا وتشويها وليس جزءا من الهيئة المشبه بها. وقد يذكر البلغاء مع المشبه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبه به صفات لا أثر لها في التشبيه.
(3/198)

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة، وجيء بقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} غير معطوف على ما قبله لأنه كالبيان لقوله {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} .
وقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا. والمعنى أن الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسببوا في ذلك، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطا في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلما لهم، وفيه إيذان بأن الله لا يخلف وعده من نفي الظلم عن نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [118].
الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب، أتم كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [آل عمرات: 119] الخ... وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج. وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقتناعات. وحقه الاستئناف الابتدائي كما هنا.
والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وظاهر الثوب يسمى الظهارة بكسر الظاء والبطانة أيضا الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمى الشعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وخصيصه الذي يطلع على شؤونه، تشبيها ببطانة الثياب في شدة القرب من صاحبها.
ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يخالفونهم ويودونهم من قبل الإسلام فلما أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثم كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بقى على دينه.
وقوله: {من دونكم} يجوز أن تكون من فيه زائدة و دون اسم مكان بمعنى حولكم، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا
(3/199)

رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] ويجوز أن تكون من للتبغيض و دون بمعنى غير كقوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الفتح: 27] من غير أهل ملتكم، وقد علم السامعون أن المنهي عن اتخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموهون إلى المؤمنين بأنهم منهم، ودخائلهم تقتضي التحذير من استبطانهم.
وجملة {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} صفة لبطانة على الوجه الأول، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عما شاركها، لكنه يظهر بظهور آثاره للمتوسمين. فنهى الله المسلمين عن اتخاذ بطانة هذا شأنها وسمتها، ووكلهم إلى توسم الأحوال والأعمال، ويكون قوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} جملتين في محل الوصف أيضا على طريقة ترك عطف الصفات، ويومئ إلى ذلك قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: قد بينا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسمون تلك الصفات، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وعلى الاحتمال الثاني يجعل {من دونكم} وصفا، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنهي عن اتخاذ بطانة من غير أهل ملتنا، وهذه الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النهي. ذلك لأن العداوة الناشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصلة لاسيما عداوة قوم يرون هذا الدين قد أبطل دينهم. وأزال حظوظهم كما سنبينه.
ومعنى {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} لا يقصرون في خبالكم، والألو التقصير والترك، وفعله ألا يألو، وقد يتوسعون في هذا الفعل فيعدي إلى مفعولين، لأنهم ضمنوه معنى المنع فيما يرغب فيه المفعول، فقالوا لا آلوك جهدا، كما قالوا لا أدخرك نصحا، فالظاهر انه شاع ذلك الاستعمال حتى صار التضمين منسيا، فلذلك تعدى إلى ما يدل على الشر كما يعدى إلى ما يدل على الخير، فقال هنا {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون في خبالكم، وليس المراد لا يمنعونكم، لأن الخبال لا يرغب فيه ولا يسأل.
ويحتمل أنه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكم بالبطانة، لأن شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم، فلما كان هؤلاء بضد ذلك عبر عن سعيهم بالضر، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير.
والخبال اختلاف الأمر وفساده، ومنه سمي فساد العقل خبالا، وفساد الأعضاء.
وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} الود: المحبة، والعنت: التعب الشديد، أي رغبوا فيما يعنتكم وما هنا مصدرية، غير زمانية، ففعل {عنتم} لما صار بمعنى المصدر زالت
(3/200)

دلالته على المضي.
ومعنى {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فعبر بالبغضاء عن دلائلها.
وجملة {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} حالية.
والآيات في قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] ولم يزل القرآن يربي هذه الأمة على أعمال الفكر، والاستدلال، وتعرف المسببات من أسبابها، في سائر أحوالها: في التشريع، والمعاملة لينشئها أمة علم وفطنة.
ولكون هذه الآيات آيات فراسة وتوسم، قال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ولم يقل: إن كنتم تعلمون أو تفقهون، لأن العقل أعم من العلم والفقه.
وجملة {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} مستأنفة
{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [119].
{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ}.
استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين، فالمؤمنون يحبون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكل إناء بما فيه يرشح، والشأن أن المحبة تجلب المحبة إلا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق.
وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة البقرة [85] {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . ولما كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قبل {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} فالعجب من محبة المؤمنين إياهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد أسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلا والقصد التعجب من مضمون تلك الجملة.
وجملة {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} جملة حال من الضمير المرفوع في قوله: {تحبونهم} لأن محل التعجب هو مجموع الحالين.
(3/201)

وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنه مجرد أيقاظ، ولذلك عقبه بقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} فإنه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد أيمان المؤمنين، لأن المؤمنين لما آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتباع ما ليس بحق. وهذان النظران، منا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوتهم، وتصلب أهل الكتابين مع ضعفهم.
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}.
جملة {وتؤمنون} معطوفة على {تحبونهم} كما أن جملة {وَإِذَا لَقُوكُمْ} ، معطوفة على {ولا يحبونكم} وكلها أحوال موزعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة.
والتعريف في {الكتاب} للجنس وأكد بصيغة المفرد مراعاة للفظه، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيت القينقاعي.
والعض: شد الشيء بالأسنان. وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ والتحسر، وأن لم يكن عض أنامل محسوسا، ولكن كني به عن لازمه في المتعارف، فإن الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذك الانفعال، فقد تكون معينة على دفع انفعاله كقتل عدوه، وفي ضده تقبيل من يحبه، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبط الصبي في الأرض إذا غضب، وضرب الرجل نفسه من الغضب، وعضه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنه من الندم، وضرب الكف بالكف من التحسر، ومن ذلك التأوه والصياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه الناس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمل، وقال الحارث بن ظالم المري:
فأقبل أقوام لئام أذلة ... يعضون من غيظ رؤوس الأباهم
وقوله: {عليكم} على فيه للتعليل، والضمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معينة، أي على التآمكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] ونظير هذا التعليق قول الشاعر:
(3/202)

لتقرعن على السن من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
و {من الغيظ} من للتعليل. والغيظ: غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام.
وقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} كلام لم يقصد به مخاطبون معينون لأنه دعاء على الذين يعضون الأنامل من الغيظ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا، فلا يتصور مشافهتهم بالدعاء على التعيين ولكنه كلام قصد أسماعه لكل من يعلم من نفسه الاتصاف بالغيظ على المسلمين، وهو قريب من الخطاب الذي يقصد به عموم كل مخاطب، نحو {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12].
والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحة طلب موتهم بسبب غيظهم، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم، وبتعجيل موتهم به، وكل من المعنيين المكني بهما مراد هنا، والتكني بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور، والعرب تقول: فلان محسد، أي هو في حالة نعمة وكمال.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
تذييل لقوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وما بينها كالاعتراض أي أن الله مطلع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم.
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [120].
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}.
زاد الله كشفا لما في صدورهم بقوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي تصبكم حسنة والمس الإصابة، ولا يختص أحدهما بالخير والآخر بالشر، فالتعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيئة، تفنن، وتقدم عند قوله تعالى: {كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} في سورة البقرة [275].
والحسنة والسيئة هنا الحادثة أو الحالة التي تحسن عند صاحبها أو تسؤ وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشرعي.
(3/203)

{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [120].
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقي أذى العدو: بأن يتلقوه بالصبر والحذر، وعبر عن الحذر بالاتقاء أي اتقاء كيدهم وخداعهم، وقوله: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي بذلك ينتفي الضر كله لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذى، فالأذى ضر خفيف، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضر هينا، وذلك بالصبر على الأذى إلى ما يوصل ضرا عظيما. وفي الحديث لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يدعون له ندا وهو يرزقهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {لا يضركم} بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره بمعنى أضره. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشددة من ضره يضره، والضمة ضمة أتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلص من التقاء الساكنين: سكون الجزم وسكون الإدغام، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثة وجوه في العربية: الضم لإتباع حركة العين، والفتح لخفته، والكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ولم يقرأ إلا بالضم في المتواتر.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[121] إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [122].
وجود حرف العطف في قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ} مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدمة مثل {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] {ومثل يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] وعليه فهو آت كما أتت نظائره في أوائل الآي والقصص القرآنية، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير: واذكر إذ غدوت. ولا يأتي في هذا تعلق الظرف بفعل مما بعده لأن قوله: {تُبَوِّئُ} لا يستقيم أن يكون مبدأ الغرض، وقوله: {هَمَّتْ} لا يصلح لتعليق {إذ غدوت} لأنه مدخول إذ أخرى.
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدم أنها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدين، والمنافقين، ولما كان شأن المنافقين وأهل يثرب واحدا، ودخيلتهما
(3/204)

سواء، وكانوا يعملون على ما تدبره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحد، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحد كما تقدم. فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحد الكائنة في شوال سنة ثلاث من الهجرة، حين نزل مشركو مكة ومن معهم من أحلافهم سفح جبل أحد، حول المدينة، لأخذ الثأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة، فأستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، فأشار جمهورهم بالتحصن بالمدينة حتى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم، وإذا رجعوا رجعوا خائبين، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج، ولبس لامته ثم عرض للمسلمين تردد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" . وخرج بالمسلمين إلى جبل أحد وكان الجبل ورائهم، وصفهم للحرب، وانكشفت الحرب عن هزيمة خفيفة لحقت المسلمين بسبب مكيدة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، إذ انخزل هو وثلث الجيش، وكان عدد جيش المسلمين سبعمائة، وعدد جيش أهل مكة ثلاثة الآف، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخزال، ثم عصمهم الله، فذلك قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي ناصرهما على ذلك الهم الشيطاني، الذي لو صار عزما لكان سبب شقائهما، فلعناية الله بهما برأهما الله من فعل ما همتا به، وفي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: "نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وفينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وما يسرني أنها لم تنزل والله يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} وانكشفت الواقعة عن مرجوحية المسلمين إذ قتل منهم سبعون، وقتل من المشركين نيف وعشرون وقال أبو سفيان يومئذ أعل هبل يوم بيوم بدر والحرب سجال" وقتل حمزة رضي الله عنه ومثلت به هند بنت عتبة ابن ربيعة، زوج أبي سفيان، إذ بقرت عن بطنه وقطعت قطعة من كبده لتأكلها لإحنة كانت في قلبها عليه إذ قتل أباها عتبة يوم بدر، ثم أسلمت بعد وحسن إسلامها. وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وكسرت رباعيته. والغدو: الخروج في وقت الغداة.
ومن في قوله: {مِنْ أَهْلِكَ} ابتدائية.
والأهل: الزوج. والكلام بتقدير مضاف يدل عليه فعل {غَدَوْتَ} أي من بيت أهلك وهو بيت عائشة رضي الله عنها.
و {تبوئ} تجعل مباء أي مكان بوء.
(3/205)

والبوء: الرجوع، وهو هنا المقر لأنه يبوء إليه صاحبه. وانتصب {المؤمنين} على انه مفعول أول لتبوئ ومقاعد مفعول ثاني إجراء لفعل تبوئ مجرى تعطي. والمقاعد جمع مقعد. وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض، والقعود ضد الوقوف والقيام، وإضافة مقاعد لأسم {القتال} قرينة على انه أطلق على المواضع اللائقة بالقتال التي يثبت فيها الجيش ولا ينتقل عنها لأنها لائقة بحركاته، فأطلق المقاعد هنا على مواضع القرار كناية، أو مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، وشاع ذلك في الكلام حتى ساوى المقر والمكان، ومنه قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55].
واعلم أن كلمة مقاعد جرى فيها على الشريف الرضي نقد إذ قال في رثاء أبي إسحاق الصابئ:
أعزز علي بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العواد
ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن ابن سنان قال: إيراده هذه اللفظة في هذا الموضع صحيح إلا انه موافق لما يكره ذكره لاسيما وقد أضافه إلى من تحتمل إضافته إليه وهم العواد، ولو أنفرد لكان الأمر سهلا. وقال أبن الأثير: قد جاءت هذه اللفظة في القرآن فجاءت مرضية وهي قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ألا ترى أنها في هذه الآية غير مضافة إلى من تقبح أضافتها إليه.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[123] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ[124] بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [125].
إذ قد كانت وقعة أحد لم تنكشف عن نصر المسلمين، عقب الله ذكرها بأن ذكرهم الله تعالى نصره إياهم النصر الذي قدره لهم يوم بدر، وهو نصر عظيم إذ كان نصر فئة قليلة على جيش كثير، ذي عدد وافرة، وكان قتلى المشركين يومئذ سادة قريش، وأئمة الشرك، وحسبك بأبي جهل ابن هشام، ولذلك قال تعالى: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء. والذل ضد العز فهو الوهن والضعف. وهذا تعريض بأن انهزام يوم أحد لا يفل حدة المسلمين لأنهم صاروا أعزة. والحرب سجال.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اعتراض بين جملة {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}
(3/206)

ومتعلق فعلها أعني {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} . والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصح، خلافا لمن منع ذلك من النحويين.. فأنه لما ذكرهم بتلك المنة العظيمة ذكرهم بأنها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التقوى تأدبا بنسبة قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 70].
ومن الشكر على ذلك النصر أن يثبتوا في قتال العدو، وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا تفل حدتهم هزيمة يوم أحد.
وظرف {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} زماني وهو متعلق بنصركم لأن الوعد بنصره الملائكة والمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد. هذا قول جمهور المفسرين.
وخص هذا الوقت بالذكر لأنه كان وقت ظهور هذه المعجزة وهذه النعمة، فكان جديرا بالتذكير والامتنان.
والمعنى: إذ تعد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم تلك المقالة إلا بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.
والاستفهام في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} تقريري، والتقريري يكثر أن يورد على النفي، كما قدمنا بيانه عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة [243].
وإنما جيء في النفي بحرف لن الذي يفيد تأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا يوم بدر لقلتهم، وضعفهم، مع كثرة عدوهم، وشوكته، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة، فأوقع الاستفهام التقريري على ذلك ليكون تلقينا لمن يخالج نفسه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأن يصرح بما في نفسه، والمقصود من ذلك لازمة، وهذا إثبات أن ذلك العدد كاف.
ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قبل السائل بقوله: {بلى} لأنه مما لاتسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} في سورة الأنعام [19]، فكان بلى إبطالا للنفي، وإثباتا لكون ذلك العدد كافيا، وهو من تمام مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين.
وقد جاء في سورة الأنفال عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
(3/207)

الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وذكر هنا أن الله وعدهم بثلاثة آلاف ثم صيرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أن الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزيادة بقوله: {مردفين} [الأنفال: 9] أي مردفين بعدد آخر، ودل كلامه هنا على أنهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدو، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين" أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثم زادهم ألفين إن صبروا واتقوا. وبهذا الوجه فسر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق. وقد ثبت أن الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالا من المشركين.
ووصف الملائكة بمنزلين للدلالة على أنهم ينزلون إلى الأرض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8].
وقرأ الجمهور: منزلين بسكون النون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر - بفتح النون وتشديد الزاي - وأنزل ونزل بمعنى واحد.
فالضميران: المرفوع والمجرور، في قوله: {وََيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ} عائدان إلى الملائكة الذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسرين.
وعليه فموقع قوله: {ويأتوكم} موقع وعد، فهو في المعنى معطوف على {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} وكان حقه أن يرد بعده، ولكنه قدم على المعطوف عليه، تعجيلا للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه، وإذا جاز ذلك التقديم في عطف المفردات كما في قول صنان بن عباد اليشكري:
ثم اشتكيت لأشكاني وساكنه ... قبر بسنجار أو قبر على قهد
قال ابن جني في شرح أبيات الحماسة: قدم المعطوف على المعطوف عليه، وحسنة شدة الاتصال بين الفعل ومرفوعه أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظه من التقديم ولا التفات لكون المعطوف عليه مؤخرا عن المعطوف ولو قلت: ضربت وزيدا عمرا كان أضعف، لأن اتصال المفعول بالفعل ليس في قوة اتصال الفاعل به، ولكن لو قلت: مررت وزيد بعمرو، لم يجز من جهة أنك لم تقدم العامل، وهو الباء، على حرف العطف. ومن تقديم المفعول به قول زيد:
(3/208)

جمعت وعيبا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوي
ومنه قول آخر:
لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود طويلة الفعل
ولا يجوز وعيبا جمعت غيبة ونميمة. وأما قوله:
عليك ورحمة الله السلام
فمما قرب مأخذه عن سيبويه، ولكن الجماعة لم تتلق هذا البيت إلا على اعتقاد التقديم فيه، ووافقه المرزوقي على ذلك، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر، فلذلك خرجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنه عطف صوري.
ووقع في "مغنى اللبيب" في حرف الواو أن تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة، وسبقه إلى ذلك ابن السيد في شرح أبيات الجمل، والتفتزاني في شرح المفتاح، كما نقله عنه الدماميني في "تحفة الغريب" .
وجعل جمع من المفسرين ضميري الغيبة في قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ} عائدين إلى طائفة من المشركين، بلغ المسلمين أنهم سيمدون جيش العدو يوم بدر، وهم كرز بن جابر المحاربي، ومن معه، فشق ذلك على المسلمين وخافوا، فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} الآية، وعليه درج الكشاف ومتابعوه. فيكون معاد الضميرين غير مذكور في الكلام، ولكنه معلوم للناس الذين حضروا يوم بدر، وحينئذ يكون و {يأتوكم} معطوفا على الشرط: أي إن صبرتم واتقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف، قالوا فبلغت كرزا وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدهم الله بالملائكة، أي بالملائكة الزائدين على الألف. وقيل: لم يمدهم بملائكة أصلا، والآثار تشهد بخلاف ذلك.
وذهب بعض المفسرين الأولين: مثل مجاهد، وعكرمة، والضحاك والزهري: إلى أن القول المحكي في قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قول صادر يوم أحد، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا، فلما لم يصبروا واستبقوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملك واحد، وعلى هذا التفسير يكون {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ}
(3/209)