الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
الذي أحتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن. وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام من عاطف يعطف {بما عصوا} على {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير. ولقد نبهناك آنفا إلى دفع هذا بأن التكرير يغنى غناء العطف.
[62] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافا للصالحين منهم، واعترافا بفضلهم، وتبشيرا لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب، فقد وفت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده.
فمجيء "إن" هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود فإن كثيرا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلت كانوا مثلهم في الضلال. ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبينت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه السلام.
وابتدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهل الخير إلا ويذكرون معهم، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء
(1/514)
[162] {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي الذين هادوا: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما يذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا، ومعنى هادوا كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود. وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم ، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته السامرة وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط.
ولعل هذا وجه اختيار لفظ {وَالَّذِينَ هَادُوا} في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا. ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} الآية ويقال تهود إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]
وأما في سورة الأعراف من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فذلك بمعنى المتاب.
(1/515)
وأما النصارى فهو اسم جمع نصري بفتح فسكون أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النصري فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى.
وأما قوله: {والصابين} فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة في آخره، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ وصابئ لعله اسم فاعل صبأ مهموزا أي ظهر وطلع، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبأ يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى. وزعم بعض علماء الإفرنج1 أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ. وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن. وقيل إنما خفف نافع همزة الصابين فجعلها ياء مثل قراءته {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك.
والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي دائرة المعارف الإسلامية2 أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص~ب~ع~) أي غطس عرفت به طائفة المنديا وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى،
ويقال الصابئون بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة. وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حران من بلاد الجزيرة.
ـــــــ
1 انظر جديد لاروس باللغة الفرنسية.
2 في فصل حرره المستشرق "كارارفو".
(1/516)
وكان أهل هذا الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم. وكذلك منع الروم أهل الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من النصارى ينتمون إلى النبى يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه "أغاثا ديمون" ، والنصارى يسمونهم يوحناسية نسبة إلى يوحنا وهو يحيى.
وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة والأخذ بالفضائل الجزئية المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة وتجنب الرذائل الجزئية وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة.
ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق. ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح. وهم يقولون إن المعلمين الأولين لدين الصابئة هما أغاثا ديمون وهرمس وهما شيث بن آدم. وإدريس، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وإفلاطون وإرسطاطاليس ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إلاه الآلهة.
(1/517)
وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم.
ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراآتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ. ولهم صيام ثلاثين يوما في السنة، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام. ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض. وتحرم العزوبة، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة. ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض. ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر بكاف وميم وراء.
وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحرنانية بنونين نسبة إلى حران على غير قياس كما في القاموس. قال ابن حزم في كتاب الفصل: كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه السلام بالحنيفية اه.
ودين الصابئة كان معروفا للعرب في الجاهلية، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة. ألا ترى أنه لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفه المشركون بالصابئ وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبي ورث ذلك منه وكذبوا. وفي حديث عمران ابن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونفد ماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها انطلقي إلى رسول الله فقالت الذي يقال له الصابئ قالوا هو الذي تعنين. وساق حديث تكثير الماء.
وكانوا يسمون المسلمين الصباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ، أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة وقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال
(1/518)
سعد فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة.
وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا الحديث.
وقد قيل إن قوما من تميم عبدوا نجم الدبران. وأن قوما من لخم وخزاعة عبدوا الشعري العبور، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان. وأن قوما من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في الكشاف في تفسير سورة فصلت[37] في قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} قال لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنهوا عن ذلك.
وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس، وقال البيضاوي: هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم وتكتمهم في دينهم، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم. فالقسم الذي تغلب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية، والذين غلب عليهم الروم اختلط دينهم بالنصرانية.
قال ابن شاس في كتاب الجواهر الثمينة: قال الشيخ أبو الطاهر يعني ابن بشير التنوخي القيرواني منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية ولا شك أنه يعني صابئة العراق، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية.
وفي التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في باب الذبائح قال الطرطوشي: لا تؤكل ذبيحة الصابيء وليست بحرام كذبيحة المجوسي وفيه في باب الصيد قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته.
وفي شرح عبد الباقي علي خليل إن أخذ الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي، وعن مالك لا يتزوج المسلم المرأة الصائبة.
قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة، روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل الكتاب، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حران يعبدون الكواكب، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعا. قال
(1/519)
الجصاص: الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط. وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم نصارى تقية، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنا سية وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى. ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس ا ه. كلامه.
ووجه الاقتصار في الآية، على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجي لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك، فلذلك اقتصر عليهم تقريبا لهم من الدخول في الإسلام. ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: من الآية17] لأن ذلك مقام تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقوله تعالى: {من آمن} يجوز أن تكون "من" شرطا في موضع المبتدأ ويكون {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} جواب الشرط، والشرط مع الجواب خبر {إن}، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم "إن" لأن "من" الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم إن ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} [البقرة: 61] وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة. وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن المؤمنين
(1/520)
الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب بن يفنه لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين.
ويجوز أن تكون "من" موصولة، بدلا من اسم "إن" والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد كتاب سيبوية
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
ونحو {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: من الآية10] عند غير سيبوية. وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فإدخلت الفاء قرينة على ذلك. ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم، بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله.
وقد استشكل ذكر {الَّذِينَ آمَنُوا} في عداد هؤلاء، وإجراء قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل الحاصل، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد. وقيل يرجع قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} لخصوص الدين الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح. والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلا أو بعضا.
ومعنى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ، الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله: {وعمل صالحا} إذ شرط قبول الأعمال، الإيمان الشرعي لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق.
(1/521)
وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتي أجره مرتين: "ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم أمن بي فله أجران" .
وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.
وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة، وليس أجرا دنيويا بقرينة المقام وقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده1.
وإنما جمع الضمير في قوله: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مراعاة لما صدق من، وأفرد شرطها أو صلتها مراعاة للفظها، ومما حسن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع
ـــــــ
1 ذكرني هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق, فمرض فمات قبل أن يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى أهله فأخذوه فقال النابغة في ذلك:
أبقيت للعبسي فضلا ونعمة ... ومحمدة من باقيات المحامد
حباء شقيق فوق أحجار قبره ... وما كان يحبي قبله قبر وافد
أتى أهله منه حباء ونعمة ... ورب امرئ يسعى لآخر قاعد
(1/522)
ليكون عودا على بدء فيرتبط باسم "إن" الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أولا، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من آمن بالله وعمل إلخ فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به. فهو من العام الوارد على سبب خاص.
وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قراءة الجمهور بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة. والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو لا خوف عليهم لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو يحزنون لإفاد تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.
واعلم أن قوله {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} مقابل لقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية61] ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى. وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} مقابل وضربت عليهم الذلة لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو، وأما العزيز فهو شجاع لأنه لا يحشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: من الآية8] وقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} مقابل قوله: {والمسكنة} لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمنى حسن العيش قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية97] فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة.
[64,63] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع
(1/523)
عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل مما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة، ولذلك وصف في آية الأعراف بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} "نتقه زعزعه ونقضه" حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطارة إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير.
وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها. والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهدا كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم. وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
والطور علم على جبل ببرية سينا، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج:
دانى جناحيه من الطور فمر ... تقضى البازي إذا البازي كسر
فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور.
وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} مقول قول محذوف تقديره قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم. والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].
ويجوز أن يكون الذكر مجازا عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف في المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول.
(1/524)
والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} علة للأمر بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} ولذلك فصلت بدون عطف.
والرجاء الذي يقتضيه حرف"لعل" مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة، وتعهد التذكر لما فيه، فذلك التقريب والتبيين شبيه برجاء الراجي. ويجوز أن يكون لعل قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة "لعل" في الكلام المسند إلى الله تعالى. وتقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الآية.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب عليهم بفضله ولولا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي الآخرة.
ولا حاجة بنا إلى الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف الملجأ المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أو يقع عليكم الطور، على أنه لو صحت تلك الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف فلا تغفلوا.
[66,65] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيرا لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذكر {إذ} المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست
(1/525)
من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة إذ لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ}.
والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية. وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا، فكانت طائفة من سكان أيلة1 على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا.
فقوله {فِي السَّبْتِ} يجوز أن تكون "في" للظرفية. والسبت مصدر سبت اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه. والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت. ويجوز أن تكون "في" للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل. ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب.
ويجوز أن تكون "في" ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن
ـــــــ
1 أيلة: بفتح الهمزة وبتاء تأنيث في آخره بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام وتعرف اليوم بالعقبة وهي غير إيلياء بكسرالهمزة وبياءين ممدودتين الذي هو اسم بيت المقدس.
(1/526)
الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت.
وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] كونوا أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر ليس قول مجاهد ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ.
ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.
ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: "لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا" وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله:
قالت وكنت رجلا فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا
حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر أي لعموم آية المأكولات، وصحح صاحب التوضيح عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته" اه. وقد تأوله
(1/527)
ابن عطية وابن رشد في البيان وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود، قلت يؤيد هذا أنه قاله عن اجتهاد قوله ولا أراها. ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها.
وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة على الله تعالى، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ: من الآية44] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبي لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكل به تنكيلا ونكالا بمعنى عاقبه بما يمنعه من العود. والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة. والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر.
[67] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الإمتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد
(1/528)
الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [ْالبقرة: 72] الآيات وإن قول موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ناشيء عن قتل النفس المذكورة، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم هكذا ذكر صاحب الكشاف والموجهون لكلامه، ولا يخفي أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله وإذ مع بقاء الترتيب، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} -وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني تثنية في الإصحاح 21 أنه إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوي فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم ا هـ. هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلا أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار إليها هنا، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس. وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سبق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: من الآية73] وأتبعت بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74].
(1/529)
والتأكيد في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكدا بإن.
وقولهم: {َتَتَّخِذُنَا هُزُواً} استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و {تتخذنا} بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74]
والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر اهزأ به هزءا وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق.
وقرأ الجمهور "هزؤا" بضمتين وهمز بعد الزاي وصلا ووقفا وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلا، ووقف عليه بتخفيف الهمز واوا وقد رسمت في المصحف واوا، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واوا في الوصل والوقف.
وقول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} تبرؤ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤ مزحا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأن نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه، وبالغ في التنزه بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى. وصيغة: {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام عند قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
...
ومن الثاني قول الحماسي:
فليس سواء عالم وجهول
وقول النابغة
وليس جاهل شيء مثل من علما
(1/530)
[68] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}
جيء في مراجعتهم لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم.
ومعنى {ادْعُ لَنَا} يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد، بنوه على ما ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف باختلاف المقصود من الذبيحة ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء على وهمهم أن الله بعيد المكان، فسائله يجهر بصوته.وقد نهى المسلمون عن الجهر بالدعاء في صدر الإسلام،
واللام في قوله {لَنَا} لام الأجل أي ادع عنا، وجزم {يبين} في جواب {ادْعُ} لتنزيل المسبب منزلة السبب أي إن تدعه يسمع فيبين وقد تقدم.
وقوله {مَا هِيَ} حكى سؤالهم بما يدل عليه بالسؤال بما في كلام العرب وهو السؤال عن الصفة لأن "ما" يسأل بها عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يذكرون حاتما أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم? أو ما الأحنف? فيقال كريم أو حليم.
وليس "ما" موضوعة للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام الكشاف فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب "أي" أو "كيف" وهو وهم نبه عليه التفتزاني في شرح الكشاف واعتضد له بكلام المفتاح إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما.
والحق أن المقام هنا للسؤال بما لأن أيا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبست به وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو أي الفريقين خير وأي البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها.
(1/531)
وقوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن، وما اشتمل عليه مدلول كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلا لهم منزلة المنكرين لما بدا من تعنتهم وتنصلهم، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون الله قال لموسى ذلك جريا على اتهامهم السابق في قولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} جوابا عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}
ووقع قوله: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} موقع الصفة لبقرة وأفحم فيه حرف"لا" لكون الصفة بنفي وصف ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف لا أجرى الإعراب على ما بعده لأن لا غير عاملة شيئا فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما بعدها سواء كان وصفا كما هنا وقوله تعالى: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: من الآية35] وقول جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو حالا كقول الشاعر وهو من شواهد النحو:
قهرت العدا لا مستعينا بعصبة ... ولكن بأنواع الخدائع والمكر
أو مضافا كقول النابغة:
وشيمة لا وان ولا واهن القوى ... وجد إذا خاب المفيدون صاعد
أو خبر مبتدأ كما وقع في حديث أم زرع قول الأولى "لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل" على رواية الرفع أي هو أي الزوج لا سهل ولا سمين. وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم يجز إدخال "لا" في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه المبرد. وليست "لا" في مثل هذا بعامله عمل ليس ولا عمل إن، وذكر النحاة لهذا الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة. واعلم أن نفي وصفين بحرف "لا" قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين مثل ما في هذه الآية بدليل قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} ومثل قوله
(1/532)
تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44-42]
والفارض المسنة لأنها فرضت سنها أي قطعتها. والفرض القطع ويقال للقديم فارض. والبكر الفتية مشتقة من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي المتوسطة السن.
وإنما اختيرت لهم العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلا للشدة في قول النابغة:
ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر
أي مصيبة عوان أي عظيمة. ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا حرب عوان.
وقوله {بين ذلك} أي هذين السنين، فالإشارة للمذكور المتعدد.
ولهذا صحت إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في نحو بينها. وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريبا عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة:61]
وجاء في جوابهم بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عنوان تعريضا بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالا لإعادة السؤال.
فإن قلت هم سألوا عن صفة غير معينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن ومن أين علم من سؤالهم الآتي بـ {ما هي} أيضا أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة؟.
قلت يحتمل أن يكون {مَا هِيَ} اختصارا لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف سؤالهم فيكون جواب موسى عليه السلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة أحوال الدواب هو السن فهو أهم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها.
(1/533)
وقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي فقد حصل ما تعللتم به من طول السفر. والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة، وما موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير، فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير.
وفي حث موسى إياهم على المبادرة بذبح البقرة بعد ما كلفوا به من اختيارها عوانا دليل على أنهم مأمورون بذبح بقرة ما غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب ان تكون صفراء وأن تكون سالمة من آثار الخدمة مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق إذ كيف تكون تلك الأوصاف مزادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح لأنه سواء كان أمرا بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان، وإن كان سؤالا ناشئا عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر قولهم بعد: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: من الآية70] فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع كما يؤدب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم. وقد قال عمر لأبي عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق، وقد أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه عباسا رضي الله عنه على الخرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم يستطع أن يقله فقال له مر أحدا رفعه لي فقال لا آمر أحدا فقال له أرفعه أنت لي فقال لا، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل ما بقي فذهب والنبي صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره تعجبا من حرصه كما في صحيح البخاري.
ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوء تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملا وشكرا وفهما بدليل قوله تعالى آخر الآيات: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] مع ما روى عن ابن
(1/534)
عباس أنه قال لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.
[69] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
سألوا بـ "ما" عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان. والقول في جزم {يُبَيِّنْ} وفي تأكيد {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في الذي تقدم.
وقوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالبا فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة، كما اختص الأحمر بقان والأسود بحالك، والأبيض بيقق، والأخضر بمدهام، والأورق بخطباني نسبة إلى الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد برداني براء في أوله والردان الزعفران كذا في الطيبي ووقع في الكشاف والطيبي بألف بعد الدال ووقع في القاموس أنه بوزن صاحب وضبط الراء في نسخة من الكشاف ونسخة من حاشية القطب عليه ونسخة من حاشية الهمداني عليه بشكل ضمة على الراء وهو مخالف لما في القاموس.
والنصوع يعم جميع الألوان وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر.
ولونها إما فاعل بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه بفاقع وصفا حقيقيا ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وصف اللون بالفقوع، ثم لما كان اللون مضافا لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جاريا على سببيه على نحو ما قاله صاحب المفتاح في كون المسند فعلا من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية وقد ظن الطيبي في شرح الكشاف أن كلام صاحب الكشاف مشير إلى أن إسناد فاقع للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ ليس من المجاز العقلي في شيء. وأما تمثيل صاحب الكشاف بقوله جد
(1/535)
جده فهو تنظير في مجرد إفادة التأكيد.
وقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم. والمسرة لذة نفسية تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به. وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل {تسر} إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون الأصفر مما يسر الناظرين مطلقا. والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق.
[71,70] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}
القول في {ما هي} كالقول في نظيره فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم بـ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} لما علم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة، وإن كان المحكي في القرآن اختصارا لكلامهم فالأمر ظاهر.
على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به.
وجملة {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلا عن سبب هذا التكرير في السؤال وقولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} اعتذار عن إعادة السؤال، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة.
وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد إن مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في دلائل الإعجاز ومثله بقول بشار:
(1/536)
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] في هذه السورة وذكر فيه قصة.
وقولهم {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفعى عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفاديا من غضب موسى عليهم. والتعليق بـ {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير.
والقول في وجه التأكيد في {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} كالقول في نظيره الأول.
والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلا بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل. وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى أنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة.
{ولا ذلول} صفة لبقرة. وجملة {تُثِيرُ الْأَرْضَ} حال من {ذلول} .
وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهرا وظاهره باطنا أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيها لانقلاب أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} في محل نصب على الحال.
وإقحام لا بعد حرف العطف في قوله: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقي الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة لا وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل.
واختير الفعل المضارع في "تثير" و"تسقي" لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال.
(1/537)
و"مسلمة" أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيرا ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على بال المتكلم تعيين فاعل ذلك ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول.
وقوله: {لا شِيَةَ فِيهَا} صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها. والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشي الثوب إذا نسجه ألوانا وأصل شية وشية ويقول العرب ثوب موشي وثوب وشي، ويقولون ثور موشي الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشيه ونظائره قولهم فرس أبلق. وكبش أدرع. وتيس أزرق وغراب أبقع. بمعنى مختلط لونين.
وقوله: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم.
فإن قلت لماذا ذكر هنا بلفظ الحق وهلا قيل قالوا الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟.
قلت لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم {راعنا} ، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع. فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
عطفت الفاء جملة {فذبحوها} على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو
(1/538)
نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا كما تقدم وقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية، ولذلك قال ابن عباس لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروي ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وفي سنده عبادة بن منصور وهو ضعيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن كثرة السؤال وقال: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل: فضالة الغنم- قال- "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال: "مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها " .
وجملة {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تحتمل الحال والاستئناف والأول أظهر لأنه أشد ربطا للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتا متحدا اتحادا عرفيا بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل
ثم إن {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله {فذبحوها} فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافا وقد علمتم بعده.
(1/539)
فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفيا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفيا للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين وإلى هذا ذهب ابن مالك في الكافية إذ قال:
وبثبوت كاد ينفي الخبر ... وحين ينفى كاد ذاك أجدر
وغير ذا على كلامين يرد ... كولدت هند ولم تكد تلد
وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع.
وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... أتت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.
وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة1 ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... على النأي والنائي يود وينصح
حتى بلغ قوله فيها:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
ـــــــ
1 الكناسة: بضم الكاف أصله اسم لما يكنس, وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة.
(1/540)
وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال لم أجد عوض لم يكد قال عنبسة فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة إنما هذا كقول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وإنما هو لم يرها ولم يكد.
وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في التسهيل إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله فذبحوها قرينة على هذا القصد. قال في التسهيل وتنفي كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا أو بعدمه وعدم مقاربته واعتذر في شرحه للتسهيل عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال.
وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع.
وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدما ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان
(1/541)
لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل ضعيف. وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شرا فأبت إلى فهم وما كدت آيبا وقال تعالى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
وإنما قال {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفننا في البيان.
[73,72] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
تصديره بإذ على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وفي ذلك إظهار معجزة لموسى. وقد قيل إن ما حكي في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم هو آخرها وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها.
وليس فيما رأيت من كتب اليهود ما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليه السلام ولم تكن تشريعا بعده.
وأشار قوله {قتلتم} إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم قتلت بنو فلان فلانا قال النابغة يذكر بني حن1.
وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر
وذلك أن نفرا من اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانا وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي مأخوذة من التنفس وفي الحديث ما من نفس منفوسة ولإشعارها بمعنى
ـــــــ
1 بحاء مهملة مضمومة ونون مشددة حي من عذرة.
(1/542)
التنفس اختلف في جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ولقوله في الحديث القدسي "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" وقيل لا يجوز إلا للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس فالنفس الذات قال تعالى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ.
و"ادارأتم" افتعال، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام.
وقوله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} جملة حالية من {ادارأتم} أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو {ادارأتم} .
والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناء على ما تقرر من أن خلق السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]
وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرآى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.
وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيى فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحيي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية
(1/543)
المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضا أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها.
وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول دمي عند فلان موجبا للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعا على الاحتجاج بشرع من قبلنا وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلا سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبرا في أمر الدماء. والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالا شديدا في قصة ذبح البقرة التي قدمناها، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سببا من أسباب القصاص ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئا تقوى به الدعوى وهو القسامة.
وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاما وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيى صار كلامه ككلام سائر الأحياء وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع.
والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتا ونفيا وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية.
[74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
"ثم" هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له "ثم" إذا عطفت الجمل أي ومع ذلك كله لم
(1/544)
تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ {قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وكان من البعيد قسوتها. وقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول الفطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت ألخ. ووجه استعمال بعد في هذا المعنى أنها مجاز في معنى مع لأن شأن المسبب أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى مع مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف، أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} كما سيأتي.
وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجز فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج:
عليهن شعث عامدون لربهم ... فهن كأطراف الحني خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها. وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموما وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة:
في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد ... هذا المدام وهاتيك العناقيد
(1/545)
فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله تجعيد لا يناسب العناقيد فإن قلت لم عددته مذموما وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟.
قلت لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننا لطيفا بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه.
وقوله {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} وأو بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة. وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له أو لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن أن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة1:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح
فليست أو للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع ما إذا كرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: من الآية19] ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو {كَالْحِجَارَةِ} أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا ولا يذمهم تحاملا بل هو متثبت متحر في شأنهم فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تقصى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسوههم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق:
فقالت لنا أهلا وسهلا وزودت ... جني النحل بل ما زودت منه أطيب
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة
ـــــــ
1 نسبه إليه ابن جني وقال البغدادي لم أجده في "ديوان ذي الرمة".
(1/546)
الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة.
وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب، وموقع هذه الواو الأولى في قوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} عسير فقيل هي للحال من الحجارة المقدرة بعد أشد أي أشد من الحجارة قسوة، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال، وقيل هي الواو للعطف على قوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قاله التفتزاني، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها، وقيل الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعد كما صرح به ابن عرفة، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} وما عطف عليها معترضات بين قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} وبين جملة الحال منها وهي قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
والتوكيد بإن للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك كما تقدم عند قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]
ومن بديع التخلص تأخر قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} والتعبير عن التسخر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكويني مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية فإذا اضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته
(1/547)
أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها. وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل.
والخشية في الحقيقة الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال. وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني إما مرسلا بالإطلاق والتقييد، وإما تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها. وقد قيل إن إسناد يهبط للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها1.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف "يعملون" بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غير أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا.
[75] {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
ـــــــ
1 قال النابغة يصف نخلا:
بزاخية الموت بليف كأنه ... عفاء قلاص طار عنها تواجر
(1/548)
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] فجميع الجمل من قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} إلى قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا} داخلة في هذا الاستطراد.
والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي عل جملة {ثُمَّ قَسَتْ} أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]. والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل "أن".
فإن قلت كيف ينهي عن الطمع في إيمانهم أو يعجببه والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائما وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق علم الله بعدم وقوعه.
قلت: إنما نهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضا ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيرة فتنفعها فإن استبعاد إيمانهم حكم على غالبهم وجمهرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلك المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما علم الله عدم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابا واضحا1 وهو أن الله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة
ـــــــ
1 عند شرح قوله تعلى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] وانظر أيضا آخر شرح [البقرة: 6] فإن فيها ذكر مسألة التكليف الإلجائي "مصححة"
(1/549)
التكليف بما علم الله عدم وقوعه على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعد ذلك حظ.
واللام في قوله {لكم} لتضمين {يؤمنوا} معنى يقروا وكأن فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية فما أبدع نسج القرآن. ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل {يؤمنوا} منزلا منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.
وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد علل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما علمناه، والثانية بالتقييد بما علمناه.
وقوله: {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية.
وسماعهم كلام الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام وأيا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم.
والتحريف أصله مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق. ولما شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق. قال الأشتر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
ومن فروع هذا التشبيه قولهم: زاغ، وحاد، ومرق، وألحد. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]. فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من {فريق} وهو قيد في القيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في
(1/550)
إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحدا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام: {وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا فاعلم أن العامة أفظع وأشنع وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.
[76,77] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
الأظهر أن الضمير في {لَقُوا} عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا} [البقرة: 75] وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاقا أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله: { آمنا } وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]لأن ضمير {طلقتم} للمطلقين وضمير تعضلوا للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله {بعضهم} عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في {يعلمون} و {يسرون} و {يعلنون} بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب الكشاف ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو {آمنا} .
وجملة {إذا لقوا} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 75] على أنها حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا.
وقوله: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ} معطوف على {وَإِذَا لَقُوا} وهو المقصود من الحالية أي
(1/551)
والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم: {آمنا} لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير {بعضهم} راجع إلى ما رجع إليه {لقوا} وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير بـ {قالوا آمنا} مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة.[البقرة:14]
وقوله: {أتحدثونهم} استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله:
واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن ... يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا
فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]
وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدى كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم وعن أبي العالية قال بعض المنافقين إن النبي مذكور في التوراة وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.
والمراد {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ} إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} [لأعراف: 89] والفتاح القاضي بلغة اليمن، وإما بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين فالمعنى بما علمكم الله من الدين.
وقوله: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.
(1/552)
واللام في قوله تعالى: {ليحاجوكم} لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسؤول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضا.
والأظهر أن قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله {يحاجوكم} وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملآى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر وقال فيه ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فخزن الرب انه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته وجاء في التكوين أيضا لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت رفقة أمهما1 ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون واجلب على نفسي لعنة فقالت اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت
ـــــــ
1 رافقة هي أم عيسو ويعقوب ولكنها تميل إلى يعقوب لأن عيسو كان قد تزوج امرأتين من بني حيث فكانت رفقة ساخطة على عيسو.
(1/553)
كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه أي جعله نبيا وجاء عيسو وكلم أباه الحيلة ثم قال لأبيه باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله: {عند ربكم} مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا {عند} بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الأغراب.
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: من الآية75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.
فإن قلت لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ?
قلت ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكى منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاطا أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} إلخ. وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم: {إنا معكم} فلأن فيه التسجيل عليهم في قوله فيه. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو. أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا.
(1/554)
وموقع الاستفهام مع حرف العطف في قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقوله: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} سيأتي الكلام على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87]
[78] {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}
معطوف على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ} [البقرة: 75] عطف الحال على الحال ومنهم خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 8] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجى والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون.
وعلى هذا فجملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} معطوفة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} إلخ باعتبار كونها معادلا لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر. وأما قوله: {وإذا لقوا} وقوله: {وإذا خلا} فتلك معطوفات على جملة: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ} عطف الحال على الحال أيضا لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله {يسمعون} الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفا على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة.
والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي أنه بقي على الحال التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم أمهات فردوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها.
(1/555)
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ} وقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أشهد أنك رسول الأميين وذلك لما تقتضيه الأمية من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي: إن الله علم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته من كتاب المدارك لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.
والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} فعلى الوجه الأول يكون قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
والأماني بالتشديد جمع أمنية على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح، والأمنية كأثفية وأضحية أفعولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدر الأمر ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومناه أي جعله مانيا أي مقدرا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا، وهكذا كما قال كعب بن زهير:
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا، أو هي التقادير التي.
(1/556)
وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا وهذا أظهر الوجوه،
وقيل الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه.
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل في آخره،
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلا فإن غير العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالما، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب.
[79] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتبا على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة. أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل.
ومعنى: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أنهم يكتبون شيئا لم يأتيهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله: {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} المشعر بأن ذلك قولهم بأفواههم ليس مطابقا لما في نفس الأمر.
وثم للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود. وليس هذا القول متراخيا عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان.
(1/557)
والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر، وقال ابن جني هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صرف لوجب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلا، والويل: البلية. وهي مؤنث الويل قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف: 49] وقال امرؤ القيس:
فقالت لك الويلات إنك مرجلى
ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الانبياء:14] كما يقال يا حسرتا.
فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أعرب إعراب الأسماء المبتدإ بها وأخبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]
قال الجوهري وينصبوا فيقال ويلا لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحا وأوجب إذا ابتدئ به أن يكون مرفوعا، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالبا كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80]وقوله: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الاحقاف: 17] فيكون منصوبا وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه مسعر حرب" .
ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلا من أفعالها نصبا ورفعا مثل: حمدا لله وصبر جميل كما تقدم عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: من الآية2] قال أكثر أئمة العربية إنه مصدر أميت فعله، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبه في حالة الإضافة نصبا على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل ويله يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم. وربما جعلوه كالمندوب فقالوا ويلاه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه. ومنهم من زعم أنهم إذا نصب فعلى تقدير فعل، قال الزجاج في قوله تعالى: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [طه: 61] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلا. وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وى بمعنى الحزن ومن مجرور باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وى صيروهما حرفا واحدا فاختاروا فتح اللام كما قالوا يال ضبة ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة. وهو يستعمل دعاء وتعجبا وزجرا مثل قولهم: لا أبلك، وثكلتك أمك. ومعنى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر، قال سيبويه: لا ينبغي أن يقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء
(1/558)
ممن وجب هذا القول لهم. وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي ويح وويس وويب وويه وويك.
وذكر: {بأيديهم} تأكيد مثل نظرته بعيني ومثل: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 167] وقوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.
وقوله: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} هو كقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتابا تافهة من القصص المعلومات البسيطة ليتفيقهوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة من غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.
وقوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك.
وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيدا في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود. ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد
(1/559)
ليكون هناك شاهدا عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم. ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم. وقد قال لنجرك أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيما بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير عزرا. ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة. وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اه. فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان.
[80-82] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قيل الواو لعطف الجملة على جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية75] فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهو يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون لن تمسنا النار. والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله {يكتبون} إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} ووجه المناسبة أن قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} دل على
(1/560)
اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.
وقوله: {وقالوا} أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم :قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا1 بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: 49].
وعبر عن نفيهم بحرف لن الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة لن على استغراق الأزمان تأتى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية.
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا. وتأنيث "معدودة" وهو صفة "أياما" مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الأفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات، وسيأتي ذلك في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]
ـــــــ
1 في المطبوعة {كفروا } وهو غلط.
(1/561)
وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده: {بلى} فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو أم تقولون لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك. وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و {عند} لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان.
وقوله: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة:60] ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن لن للاستقبال.
و"أم" في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في الإيضاح وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم فما قاله صاحب المفتاح من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير.
وقوله: {بلى} إبطال لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.
وقوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} سند لما تضمنته بلى من إبطال قولهم أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد:
(1/562)
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر، فمن في قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب بلى بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله بلى. والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
وقوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]. فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
والقصر المستفاد من التعريف في قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] قصر إضافي لقلب اعتقادهم.
وقوله : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82]
تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.
والمراد بالخلود هنا حقيقته.
[83] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه فأعيد الأسلوب
(1/563)
القديم وهو العطف بإعادة لفظ إذ في أول القصص. وأظهر هنا لفظ - {بَنِي إِسْرائيلَ} وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوفيقهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] الآية. ثانيهما أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أو على وزان {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} وقوله {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه أو المراد بلفظ بني إسرائيل المتقدمون والمتأخرون والمراد بالخطاب في {توليتم} خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما وهو أولى من جعل ما صدق {بَنِي إِسْرائيلَ} هو ما صدق ضمير {توليتم} وأن الكلام التفات.
وقوله {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه. وجملة {لا تَعْبُدُونَ} مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدرت أن أو لم تقدرها أو قدرت قولا محذوفا.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وأصله وإحسانا بالوالدين، والمصدر يدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أن والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس والعجب من ابن جنى كيف تابعهم في شرحه للحماسة على هذا عند قول الحماسي:
(1/564)
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
وعلى طريقتهم تعلق قوله {وبالوالدين} بفعل محذوف تقديره وأحسنوا وقوله {إحسانا} مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك. وتجزم بأن المجرور مقدم على المصدر، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه، واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل.
وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" . وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله: { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: من الآية10] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب :
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أطلقت الزكاة على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفا. والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعا اتبعتموه. والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.
(1/565)
ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في توليتم المخاطبين زمن نزول الآية، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيلين فيكون ضمير الخطاب تغليبا، نكتته إطهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها. ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفرى الملوك الأول والثاني من التوراة.
وثم للترتيبين الترتبي والخارجي.
وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد.
وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الأعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في الكشاف وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقا من فعل منزل اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف متعلقه تعويلا على القرينة أي {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
[86-84] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(1/566)
تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة إذ عبر عنها عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن1 هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف، كما تقدم لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.
والقول في {لا تسفكون} كالقول في {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} [البقرة: 83] والسفك الصب وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل {تسفكون} اقتضت أن مفعول {تسفكون} هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي فليسلم بعضكم على بعض.
فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة، ومثله قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت بصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضر بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماء اللف في القول. أي الإجمال المراد به التوزيع، وذهب صاحب الكشاف إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله: {دماءكم} و {أنفسكم}.
ـــــــ
1 في المطبوعات "القراءات".
(1/567)
وقيل إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم، وهذا مبني على المجاز التبعي في {تسفكون} و {تخرجون} بعلاقة التسبب.
وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه السلام من قوله لا تقتل، لا تشته بيت قريبك فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب وعليه فإضافة ميثاق إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.
وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} راجعان لما رجع له ضمير ميثاقكم وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم وجملة {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التدين به.
والعطف بثم في قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله {هؤلاء} لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم ها أنا ذا وها أنتم أولاء، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق. ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.
ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو أنت أبا جهل قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو قال أنا يوسف وهذا أخي فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال أنا ذلك إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة:
(1/568)
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا1
وقول طريف العنبري:
فتوسموني إنني أنا ذالكم2
وأوسع منه عندهم نحو قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا بها التنبيه فقالوا ها أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا 3
فإذا كان السبب صحح الأخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب :الأولى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} الثانية {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119] ومنه ها أنا ذا لديكما قاله أمية بن أبي الصلت. الثالثة {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: من الآية109]. ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما رأيت في الأمثلة.
والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرا والجملة بعدهما حالا وقيل هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب وقيل الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه وقيل اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.
وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذا ونحوه بمفرد فقيل يكون منصوبا على الحال وقيل مرفوعا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله:
ـــــــ
1 قبله "أقول له والرمح يأطر متنه"
2 تمامه "شاكي سلاحي في الحوادث معلم"
3 تمامه "ليس الفتى من يقول كان أبي".
(1/569)
أبا حكم ها أنت نجم مجالد
ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة التسهيل بقوله وها أنا ساع فيما انتدبت إليه وجاء ابن هشام في خطبة المغنى بقوله وها أنا مبيح بما أسررته
واختلف النحاة أيضا في أن وقوع الضمير بعد ها التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في التسهيل هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هو لازم صرح به في حواشي التسهيل بنقل الدماميني في الحواشي المصرية في الخطبة وفي الهاء المفردة. وقال الرضى إن دخول ها التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من شواهد الرضى:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ... فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك
وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة:
ها إن تاعذرة إن لا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
وقوله: {تقتلون} حال أو خبر وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ}
وجعل في الكشاف المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ} مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم1 والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع. وأراد من ذلك بخاصة ما
ـــــــ
1 ابتدأ التخاذل بين اليهود بعد وفات سليمان وبيعة ابنه رحبعام ملكا على إسرائيل إذ شق عليه عصا الطاعة غلام أبيه المسمى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مع يربعام وقد هم رحبعام أن يقاتل من خرج عنه فنهاه النبيء شمعيا وبذلك كف رحبعام عن القتال ورضي بمن بقي معه"إصحاح 12 ملوك أول" ولما مات رحبعام وولى ابنه "أبيا" جمع جيشا لقتال يربعام عبد جده وصارت بينهم مقاتلات كثيرة في جبل "إفرايم قيل أن القتلى من الفريقين بلغت خمسمائة ألف "إصحاح 13 الأيام الثاني" ثم نشأت بينهم حروب سنة "40" للمسيح.
(1/570)
حدث بينهم في حروب بعاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تقاتل الأوس والخزرج اعتزل اليهود الفريقين زمنا طويلا والأوس مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قريظة والنضير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرج على اليهود رهائن أربعين غلاما من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم. ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشى القوم على رهائنهم واستشاروا كعب ابن أسيد القرظي فقال لهم يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأته حتى يولد له مثل أحدكم فلما أجابت قريظة والنضير عمرا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمرو على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلى المغلوبين من ديارهم وتأسرهم، ثم لما ارتفعت الحرب جمعوا مالا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العرب اليهود بذلك وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}
{ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
الواو في قوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ} فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس
(1/571)
من ديارهم كان في جملة المنهيات. ولك أن تجعل الواو للحال من قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً} أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم. وكيفما قدرت فقوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} جملة حالية من قوله {يأتوكم} إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فمحل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم، فجملة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} حالية من ضمير {تفادوهم} وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ} وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ}
وفي قوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} تشنيع وتبليد لهم توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء?
وعندي أن في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.
والأسارى بضم الهمزة جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا كسلى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى. وقيل هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل، كما قالوا قدامى جمع قديم. وقيل هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أسارى وهو أظهر. والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسار هو السير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد، قال النابغة:
لم يبق غير طريد غير منفلت ... أو موثق في حباله القد مسلوب
وقرأ الجمهور "أسارى"، وقرأه حمزة "أسرى".
وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب {تفادوهم} بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصا، فاستعمال فادي هنا مسلوب المفاضلة مثل
(1/572)
عافاه الله وقول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف {تفدوهم} بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء،
والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من قبل الدين، ولذلك قالوا الأشهر الحرم وشهر المحرم.
وقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم، وسمي الإتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به، وإنما وقع {تؤمنون} في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.
والفاء عاطفة على {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وما عطف عليه، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [البقرة: 87]
والفاء في قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ. وقال عبد الحكيم إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا، أما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.
والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع بفتح الخاء، والمراد بالخزي ما لحق اليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيب وما قدر لهم من الذل بين الأمم.
وقرأ الجمهور "يردون" و "يعملون" بياء الغيبة، وقرأ عاصم في رواية عنه تردون بتاء
(1/573)
الخطاب نظرا إلى معنى "من" وإلى قوله "منكم"، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب "يعملون" بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.
وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة. وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} موقع نظيره في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
والقول في {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} كالقول في {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. والقول في {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} قريب من القول في {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
وموقع الفاء في قوله: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} هو الترتيب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.
[87] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة، ومن رغبة ورهبة، ثم جاء عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح. وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطا بقوله
(1/574)
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً} [البقرة: من الآية41] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88].
فقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد للمعطوف وهو قوله: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} الذي هو المبني عليه التعجب في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبني عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
وقفي مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه. فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا قفى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا قفى زيدا عمرا.
فمعنى {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول {قفينا} للعلم به وهو ضمير موسى. وقوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه أي موته، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به تكثير قاله صاحب الكشاف أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي.1
وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا
ـــــــ
1 لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلا لهم منزلة الكل. وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير.
(1/575)
وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا. وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر: لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] وقال: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:139] وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضا خصه بقوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.
وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية. ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.
ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأة مريم أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤية:
قلت لزير لم تزره مريمه1
فليس هو مشتقا من رام يريم كما قد يتوهم. وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء
ـــــــ
1 قال في "الكشاف" وزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيل بفتح الفاء لم يثبت أي وثبت فعيل بكسر الفاء نحو عثير للغبار لكن الحق أن وزن فعيل ثبت قليلا منه صهين اسم مكان أعني فيختص بالأسماء الجوامد.
(1/576)
وإن كان نادرا.1
وعيسى عليه السلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا.
ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيردوس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرة المحمدية، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولا إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثة وثلاثين سنة.
وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهنا من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران.
والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات، {وأيدناه} قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل، ولك أن تجعله مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل.
والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال قوله {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}
والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني
ـــــــ
1 الزير بكسر الزاي هو الرجل الذي يميل لمحادثة النساء ومجالستهن وياؤه منقلبة عن الواو ووزنه فعل بكسر الفاء من زار يزور. وقوله مريمه: أي المرأة التي ترغب في محادثته وهذا البيت من قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور.
(1/577)
الذي به حياة الإنس، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الانبياء: 91] ويطلق على جبريل كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:194] وهو المراد في قوله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} [النبأ: 38]
والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة. والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]
وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكون منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة، ويجوز أ ن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا، وفي الحديث الصحيح "أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفى أجلها". وعلى كلا الوجهين فإضافة روح إلى القدس إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتزاني في شرح الكشاف وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون من الوصف بالمصدر.
وقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} هو المقصود من الكلام السابق، وما قبله من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} تمهيد له كما تقدم، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.
وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان: إحداهما طريقة الجمهور قالوا همزة الاستفهام مقدمة من
(1/578)
تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل أين ، ومنها حرف تحقيق وهو هل فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب، وقيل أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.
الطريقة الثانية طريقة صاحب الكشاف وفي مغنى اللبيب أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ. وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما. والظاهر من كلام صاحب الكشاف في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: من الآية85] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا.
وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في سورة يونس وقول النابغة:
أثم تعذران إلى منها ... فإني قد سمعت وقد رأيت
وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.
(1/579)
ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله: {أفكلما} ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ، وهو وجه بعيد، ومرمى الوجهين إلى أن جملة {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها. وانتصب كلما بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله {استكبرتم}، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب، وقد دل العموم الذي في كلما على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها.
و {تهوى} مضارع هوى بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.
والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم، فالسين والتاء في: {استكبرتم } للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] وقوله: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]
وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [لأعراف: 30] وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]
والتفصيل راجع إلى ما في قوله {رسول} من الإجمال لأن "كلما جاءكم رسول"
(1/580)
أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر. وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعال، وحين أمرهم بدخول أريحا، وغير ذلك وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه. وأرمياء.
وجاء في {تقتلون} بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] مع ما في صيغة تقتلون من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
[88] {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}
إما عطف على قوله: {استكبرتم} أو على {كذبتم} فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على {كذبتم} من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجرى على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية1.
وقد حسن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم. ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة. على أنه يحتمل أن قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى
ـــــــ
1 قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم:
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها
(1/581)
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92] والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.
والغلف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له.
وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]. وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عمالا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان لوعته وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه. وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون غلف جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل.
وقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك الكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.
وقوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} تفريع على {لعنهم} و {قليلا} صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون قليلا صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون. وقليل يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوة موسى أو إلى إيمان أفراد
(1/582)
منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة. ويجوز أن يكون قليلا هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي:
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أراد أنه لا يتشكى، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين كثيرة العقارب قليلة الأقارب أراد عديمة الأقارب ويقولون فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون ما مصدرية والوجهان أشار إليهما في الكشاف باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] في سورة النمل فقال والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأن وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له كيف وخطابهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.
[89] {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
معطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: من الآية88] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين. فقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به. وقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41].
والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [لأنفال: من الآية19] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة. وجوز أن يكون {يستفتحون} بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه
(1/583)
الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول. ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل.
والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ويصير معنى الآية "وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم" وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين.
وجملة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} بالفاء عطف على جملة "كانوا يستفتحون". ولما الثانية تتنازع مع لما الأولى الجواب وهو قوله: {كفروا به} فكان موقع جملة وكانوا إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه "مصدقا لما معهم" وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلخ وجملة {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} إلخ واحد وإعادة لما في الجملة الثانية دون أن يقول وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى، قال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]
وقال: {أَيَعِدُكُمْ
(1/584)
أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35] فإعاد أنكم قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر.
وقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] في سورة براءة.
والفاء للسببية والمراد التسبب الذكرى بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم:
وكنت امرءا لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
فإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها
فعطف قوله فإني على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام.
واللام في "الكافرين" للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم. وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.
[90] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا
(1/585)
عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.
و {بئسما} مركب من {بئس} و "ما" الزائدة. وفي بئس وضدها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان وفي "ما" المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن ما الموصولة فقوله: {بئسما} يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ما وحدها كانت ما معرفة تامة نحو قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: من الآية271] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ما معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} و"ما" فاعل "بئس".
وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقول:ه {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من ما وعليه فقوله تعالى: {اشْتَرَوْا} إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و {أَنْ يَكْفُرُوا} هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان.
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: من الآية16] فقوله تعالى هنا: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا. فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} هو أيضا بحسب الواقع وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين
(1/586)
صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} على أحد الاحتمالين المتقدمين، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق فالآية على نحو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86]
وقيل إن {اشتروا} بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى. على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله: {ما عرفوا} وقوله هنا: {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون اشتروا مع ما تفرع عنه من قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.
وجيء بصيغة المضارع في قوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} ولم يؤت به على ما يناسب المبين وهو {ما اشتروا} المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبين بأن يكفروا معبرا عنه بالماضي بقوله: {ما اشتروا} .
وقوله: {بغيا} مفعول لأجله علة لقوله: {أَنْ يَكْفُرُوا} لأنه الأقرب إليه، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم، والبغي هنا مصدر بغي يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ هذا المعنى في قوله:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا
لمن بات في نعمائه يتقلب
وقوله: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} متعلق بقوله: {بغيا} بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل {بغيا} بمعنى حسدا.
(1/587)
فاليهود كفروا حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسرا. شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] أي نور عظيم وقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وقول أبي الطيب:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغة في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة:
أنت آل شماس بن لأي وإنما ... أتاهم بها الإحكام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري:
بني الحسب الوضاح والمفخر الجم
أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام.
وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} هو كقوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم.
[91] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
معطوف على قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] المعطوف على قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا قلوبنا غلف، وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على رجل من
(1/588)
غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآيات.
وقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعي أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه. وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع {نؤمن} أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فهاهنا مستفاد من مجموع جملتي: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وجوابها بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} .
وقوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} جيء بالمضارع محاكاة لقولهم نؤمن بما أنزل علينا وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة. وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا. جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صار وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة:
وليس وراء الله للمرء مطلب
واستعمل أيضا بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] وقول لبيد:
(1/589)
أليس ورائي أن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في الموازنة كونه ضدا.
فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ولتعقيبه بقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}
وجملة {وَهُوَ الْحَقُّ} حالية واللام في الحق للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان:
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في دلائل الإعجاز. وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله: {مصدقا} أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق. ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم.
وقوله {مصدقا} حال مؤكدة لقوله {وَهُوَ الْحَقُّ} وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} مشعر بوصف زائد على مضمون {وَهُوَ الْحَقُّ} إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الخال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم.
وقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم
(1/590)
يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبياء.
والإتيان بالمضارع في قوله: {تقتلون} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: {من قبل} فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
بقرينة قوله يوم يلقى ربه.
والمراد بأنبياء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]
[93,92] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
عطف على قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} كما بينا ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل ولماذا قابلوا دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد، وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات. وفي الكشاف أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية.
(1/591)
وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه وهو احتجاج خطابي.
والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها وكذلك القول في البينات. إلا أن قوله {واسمعوا} مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} لا يشتمل الامتثال فيكون قوله {واسمعوا} دالا على معنى جديد وليس تأكيدا، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63]
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله اسمع يا إسرائيل فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد.
وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله {واسمعوا} وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله اسمعوا تضمن معنيين معنى صريحا ومعنى كنائيا فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أيضا لأنه يتضمن ما تضمنهوفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل إن قوله: {سمعنا} {واسمعوا} جواب لقوله {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} أي سمعنا هذا الكلام. وقوله {وعصينا} جواب لقوله: {واسمعوا} لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة سمعنا مشير إلى كونه جوابا لقوله: {اسمعوا} لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل سمعنا وعصينا جوابا لقوله: {واسمعوا} يغني عن تطلب جواب
(1/592)
لقوله {خذوا} ، ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم: {عصينا} كان بلسان الحال يعني فيكون {قالوا} مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا. ويحتمل أن قولهم: {عصينا} وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم ادخلوا القرية: {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً} [المائدة: 24] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول. وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 64]
والإشراب هو جعل الشيء شاربا، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير1
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ، قال الراغب من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه. وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل. وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف.
والعجل مفعول {أشربوا} على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي أكل لحمها. وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوى ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى
ـــــــ
1 ذكر هذه الأبيات القرطبي في "تفسيره" وقال إنها لأحد النابغتين أي النابغة الذبياني أو النابغة الجعدي في زوجته عثمة كأن عتب عليها في بعض الأمر فطلقها ,كان محبا لها. وبعدها:
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لو أن إنسانا يطير
(1/593)
{بكفرهم} فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده. وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله: {في قلوبهم} مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة. وقريب منه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: من الآية10] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب.
وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} و وهو خلاصة لإبطال قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ولذلك فصله عن قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول {قل} والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب.
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادى بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمى بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]
ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبوا هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك
(1/594)
كونهم {مؤمنين} وهو المقصود فقوله: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} جواب الشرط مقدم عليه أو {قل} دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض الحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم {مؤمنين} إلا منفيا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم. وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} وإلى هذا أشار صاحب الكشاف كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم ل يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة. على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذه المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم.
و {بئسما} هنا نظير بئسما المتقدم في قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: من الآية90] سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل.
[95,94] {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم
(1/595)
جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالقها لا يكون له حظ في الآخرة، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم.
وقد قيل إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111] وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأياما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: من الآية23] وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل.
والكلام في {لكم} مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و {لكم} خبر {كانت} قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة:
لكم مسجدا الله المزوران والحصى
لكم قبضة من بين أثري وأقترا
و {عند الله} ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب {خالصة} على الحال من اسم كان ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم "كان". ومعنى
(1/596)
الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.
وقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه فقوله: {مِنْ دُونِ النَّاسِ} توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله: {خالصة} لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً} [البقرة: 111].
وقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط -وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه:
جريا إلى الله بغير زاد ... إلا التقي وعمل المعاد
وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة من يدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وجملة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} إلى آخره معترضة بين جملة {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وبين جملة {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.
وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة
(1/597)
كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ثم يعترفون بأنهم اجترأوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب.
والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: من الآية195] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل. وقيل أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدى عظيم.
وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي. وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير:
فمهما يكتم الله يعلم
وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله {إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: من الآية78] أن الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية. ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد
(1/598)
يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة وجملة {والله عليم بالظالمين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يتمنوه} أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت، والمراد بالظالمين اليهود من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.
[96] {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
معطوف على قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد.
وقوله {ولتجدنهم} من الوجدان القلبي المتعدى إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزة في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ونكر "الحياة" قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه الحياة وكفى.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} عطف على {الناس} لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله: {وَمِنَ
(1/599)
الَّذِينَ أَشْرَكُوا} على قوله- عطفا بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} وإليه مال في الكشاف.
وقوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها، وقد قال الحريري:
والموت خير للفتى ... من عيشه عيش البهيمة
فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها.
والود المحبة و"لو" للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون "لو" مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة.
وقوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بيان ليود أي يود ودا بيانه لو يعمر ألف سنة، وأصل لو أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة {يَوَدُّ} على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط لو ومضمون مفعول {يَوَدُّ} واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فأكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف لو بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على لو الواقعة بعد فعل {يَوَدُّ} وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة.
هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن لو تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من الواقع ذلك موقعها بعد {يَوَدُّ} ونحوه وهو قول القراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون لا حذف ويجعلون لو حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول
(1/600)
أضعف تحقيقا وأسهل تقديرا. وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره المصدر بعده على حد قول زهير:
وما الحرب ألا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة وقيل هو عائد على التعمير المستفاد من {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . وقوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} بدل منه وهو بعيد. والمزحزح المبعد.
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محالة ومنه قول زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفي فمهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
فجعل قوله يعلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان:
علمتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراسا علي وناظرا
[97، 98] {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}
موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: من الآية93] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة:94] فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] لأنهم أظهروا به عذرا عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في
(1/601)
الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم. فأبطل أولا ما تضمنه قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ} وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا} الخ. وأبطل ثانيا ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} وأبطل ثالثا أن يكون ذلك العذر هو الصارف لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} الخ. ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نزله عائدا على: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في الآية المجابة بهاته الإبطالات، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك مستأنفة.
والعدو المبغض وهو مشتق من عدا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فعول.
وجبريل اسم عبراني للملك المرسل من الله تعالى بالوحي لرسله مركب من كلمتين. وفيه لغات أشهرها جبريل كقطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور. وجبريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فعليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس. وجبرئيل بفتح الجيم أيضا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعض أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي. وجبرائيل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ.
وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إيل. فأما كلمة جبر فمعناها عند الجمهور نقلا عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القوة. وأما كلمة إيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى. وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها. وقد قفا أبو العلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة برسالة الغفران فقال قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أن في مسكني
(1/602)
حماطة الخ. أي قد علم الله الذي نسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القسم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة.
وعداوة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي.
وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} شرط عام مراد به خاص وهم اليهود. قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر.
وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبي فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه? قال رسول الله أخبرني بهن جبريل آنفا قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال الحديث وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم. وذكر المفسرون أسبابا أخرى لبغضهم جبريل. ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الأنحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظافر آرائهم على الخطأ والأوهام.
وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الضمير المنصوب بـ"نزله" عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: من الآية91} وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32] {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط. لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدوا لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى. وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى {بِإِذْنِ اللَّهِ} وأظهر ارتباطا بقوله بعد من كان عدوا لله وملائكته كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قد نزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت ساحتنا بوجه نهار
(1/603)
يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالليل قبل تبلج الإسفار
أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسرورا بمقتله. ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقا لكتابهم وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف. والإتيان بحرف التوكيد في قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} لأنهم منكرون ذلك.
والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] كما يطلقونه أيضا على العضو الباطني النوبري كما قال:
كان قلوب الطير رطبا ويابسا
و {مصدقا} حال من الضمير المنصوب في {أنزله} أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارنا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقا لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل. والمصدق المخبر بصدق أحد. وأدخلت لام التقوية على مفعول {مصدقا} للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة.
وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل.
والمراد بما بين يديه ما سبقته وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلا.
والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به. والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال
(1/604)
ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله. وأنه منزل على قلب الرسول. وأنه مصدق لما سبقه من الكتب. وأنه هاد أبلغ هدى. وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل. وكرم المقر. وكرم الفئة. ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرا عاجلا. وواعد لهم بعاقبة الخير.
وهذه خصال الرجل الكريم محتده. وبيته. وقومه. السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ} الخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالآخرة إلى إلزامهم بعداوتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين الصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: من الآية80] فإن ذلك بعيد.
وقد أثبت عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدا لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء: من الآية27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحدا كان حقيقا بأن يعاديهم كلهم وإلا كان فعله تحكما لا عذر له فيه. وخص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليذكر معه ميكائيل ولعلهم عاودهما معا أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا نحن نحب ميكائيل
(1/605)
فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته.
وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور. الثانية ميكائل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع. الثالثة ميكال بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} جواب الشرط. والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
البيت
وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة أمير المؤمنين يأمر بكذا حثا على الامتثال. والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل. وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر. ولتكون الجملة تذييلا لما قبلها.
[99-101] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
عطف على قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] عطف القصة على القصة لذكر كفرهم بالقرآن فهو من أحوالهم. وهاته الجملة جواب لقسم محذوف فعطفها على {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً} من عطف الإنشاء على الإنشاء وفيه زيادة إبطال لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91]
وفي الانتقال إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إقبال عليه وتسلية له عما لقي منهم وأن ما أنزل
(1/606)
إليه لا يكذب به إلا من لا يؤبه بتكذيبه لكون هذا المنزل دلائل واضحة لا تقصر عن إقناعهم بأحقيتها ولكنهم يظهرون أنفسهم أنهم لم يوقنوا بحقيتها.
واللام موطئة لقسم محذوف فهنا جملة قسم وجوابه حذف القسم لدلالة اللام عليه.
وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} عطف على: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا} فهو جواب للقسم أيضا.
والفاسق هو الخارج عن شيء من فسقت التمرة كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: من الآية26] وقد شاع إطلاقه على الخارج عن طريق الخير لأن ذلك الوصف في التمرة وصف مذموم وقد شاع في القرآن وصف اليهود به والمعنى ما يكفر بهاته الآيات إلا من كان الفسق شأنه ودأبه لأن ذلك يهيئه للكفر بمثل هذه الآيات فالمراد بالفاسقين المتجاوزون الحد في الكفر المتمردون فيه. والإخبار وقع بالمضارع الدال على التجدد. والتوصيف وقع باسم الفاعل المعرف باللام
وقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف. والقول بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواو عاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم إبطاله عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} وتقديم كلما تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]
والنبذ إلقاء الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكا باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكا قال كعب:
ولا تمسك بالوعد الذي وعدت
والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذا مكررا حتى سميت التوراة بالعهد، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم، أن يؤمنوا بالرسول المصدق للتوراة. وأسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به كلما أو احتراسا من شمول الذم للذين آمنوا منهم. وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه
(1/607)
أكثرهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال. ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر والأول أظهر.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} إلخ معطوف على قوله: {أو كلما} عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشئون. والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ. وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله. فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ. وقيل المراد بكتاب الله التوراة وأشار في الكشاف إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظا ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام. أو تجعل النبذ تمثيلا لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مرادا به معناه.
وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء. فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراء وراء.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل.
[102] {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا
(1/608)
يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
قوله: {واتبعوا} عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 101] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله. فإن كان المراد بكتاب الله في قوله: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقا لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهي عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: 85] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة.
قال القرطبي قال ابن إسحاق لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود إن محمدا يزعم أن سليمان نبي وما هو بنبي ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية
و {الشياطين} يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور. ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وقرينة ذلك قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه.
وعن ابن إسحاق أيضا أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافا من السحر وقالوا من أحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم
(1/609)
يعلمون مدفنه ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود ما كان سليمان إلا ساحرا وما تم له الملك إلا بهذا.
وقيل كان آصف ابن برخيا1 كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال سطورها سحرا وكفرا ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود كفر سليمان.
والمراد من الآية مع سبب نزولها إن نزلت عن سبب أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكا بعد أبيه وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين إن أباك قاس علينا وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم إذهبوا ثم ارجعوا إلى بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه. واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة ان خنصرى أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذ وبنيا من واعتصم رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالا قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يؤمئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم. ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة. وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: من الآية62] الآية ولا يخفي ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من
ـــــــ
1 آصف بن برخيا يعده مؤرخو المسلمين وزيرا لسليمان حكيما كبيرا ولذلك ضربوا به الأمثال للسياسيين الناصحين ولكن هذا ليس بمعروف في كتب الإسرائيليين والمعروف عندهم آسف بن برخيا أحد أئمة المغنين عند داود الملك وينسب إليه وضع بعض المزامير والأغاني المقدسة.
فلعله قد عاش إلى زمن سليمان فاتخذه وزيرا لأنه من خواص أبيه وإٍن لم يكن هذا "لاروس" ولا "البستاني".
(1/610)
بيت الملك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكا يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة. ولا يخفي ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضي الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره.
والاتباع في الأصل هو المشي وراء الغير ويكون مجازا في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة.
والتلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ1} [الزمر: من الآية71] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال تقول على فلان أي قال عليه ما لم يقله، وإنما فهم ذلك من حرف "على".
والمراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد ابن ثور:
وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار ابن همام على حي خثعما2
يريد أزمان مغار ابن همام. وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عمر أو هذا كتاب في ملك العباسيين وذلك أن
ـــــــ
1 في المطبوعة {آياتي} وهو خطأ. "مصححه".
2 العلقة بكسر العين قميص بلا كمين وهو أول ثوب يتخذ للصبيان.
(1/611)
الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم، قال النابغة:
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق.
والشياطين قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر. وقيل أريدت شياطين الجن وأل للجنس على الوجهين. وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط.
وقوله {تتلوا} جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة. أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا أي اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه.
وسليمان هو النبي سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولى ملك إسرائيل سنة 1014 أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبي ملك إسرائيل، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيا حكيما شاعرا وجعل لمملكته أسطولا بحريا عظيما كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا.
وقوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة {واتبعوا} وبين قوله {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على {ما قتلوا} وبين {اتبعو} وبين {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} الخ إن كان {وَمَا أُنْزِلَ} معطوفا على السحر، ولك أن تجعله معطوفا على واتبعوا إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلا بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبرا عن اليهود كذلك.
(1/612)
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبه إلى آلهتهن مثل "عشتروت" إله الصيدونيين "ومولوك" إله العمونيين "الفينيقيين" وبني لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى.
وقوله {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} حال من ضمير {كفروا} والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوبا بتعليم السحر على حد قوله كفر دون كفر فهي حال مؤسسة.
والسحر الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]
ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول سحرت الصبي إذا عللته بشيء. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعا وترويج المحال تقول العرب عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت قال أبو عطاء:
فو الله ما أدري وإني لصادق ... أداء عراني من حبابك أم سحر
أي شيء لا يعرف سببه. والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان.
والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدينة الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابلين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة 3951- 3703 ق.م.
وللعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة. وقالت قريش لما رأوا معجزات رسول الله: إنه ساحر، قال الله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] وقال الله تعالى:
(1/613)
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15] وفي حديث البخاري عن عمران ابن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزاداتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقي رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها: فو الله إنه لأسحر من بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض وفي الحديث "إن من البيان لسحرا" . ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب. وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبد الله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة كما في صحيح البخاري. ولذلك لم يكثر ذكر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس.
ويداوي من السحر العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها. وورد في التوراة النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به أهل الأصنام فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح 18 إذا دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يزج ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب.
وفي سفر اللاويين الإصحاح 20 6 والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أجعل وجهي ضد تلك النفس وأقطعها من شعبها 27 وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه.
وكانوا يجعلونه أصلا دينيا لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب.
وأرجع المصريون المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم طوط الذي يزعمون أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان. وقد استخدم الكلدان
(1/614)
والمصريون فيه أسرارا من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصدا لإخراج الأشياء في أبهر مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة، كخوارق عادات، إلا أنه شاع عند عامتهم وبعد ضلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل في صورة الحق، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع.
وقد صار عند الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ أهل العلم من القوم الذين يجمعون في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد.
وقد نقلته الأمم عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان الأشوريون واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان.
وأصول السحر ثلاثة:
الأول : زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن الضعف في نفس المسحور ومن سوابق شاهدها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر سخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116]
الثاني : استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحا أو فسادا والمفترة للعزائم والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69]
الثالث : الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركا وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]
هذه أصول السحر بالاستقراء وقد قسمها الفخر في التفسير إلى ثمانية أقسام لا تعدو هذه الأصول الثلاثة وفي بعضها تداخل. ولعلماء الإفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى.
وهذه الأصول الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه الضعيفة وهو لا يتفطن لها، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية، وهو الذي
(1/615)
لا خلاف في إثباته على الجملة دون تفصيل، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائبا عنه فيدعى أنه يؤثر فيه، وهذا مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدميين، وكذا كتابة اسم المسحور في أشكال. أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أو نحو بلده وهو ما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في القبس أن قريشا لما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه في التشهد قالوا هذا محمد يسحر الناس، أو جمع أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته أو بطالع ميلاده، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولا من الطبع ولا ما يثبته من الشرع، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة، ومن العجائب أن الفخر في التفسير حاول إثباته بما ليس بمقنع.
وقد تمسك جماعة لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روى في الصحيحين عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر، وفي النسائي عن زيد بن أرقم مثله مختصرا، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله، ولا شك أن لبيدا حاول أن يسحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في أبطال سحر لبيد وليعلم اليهود أنه نبي لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارنا لما عمله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد، والعبارة عن صورة تلك الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون أصلا لتفصيل القصة.
ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطا وأحوالا بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعا لتجديد المحاولات السحرية جسورا قوي الإرادة كتوما للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي الكيد والحيلة، ولذلك كان غالب السحرة رجالا ولكن كان
(1/616)
الحبشة يجعلون السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]
فجاء بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع التشكل بأشكال مختلفة، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم.
وأما ما يلزم في المسحور فخور العقل، وضعف العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل، ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء. ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر، قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] فجعلوا ذلك القول الغريب سحرا.
ثم تحف بالسحر أعمال القصد منها وهذه الأعمال أنواع.
نوع: الغرض منه تقوية اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله فيقدم عليه بعزم، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة عزائم جمع عزيمة ويقولون فلان يعزم إذا كان يسحر، ثم هو إذا استكمل المعرفة قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد لا يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته، فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم، ومن هذا النوع ضروب هي في الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسة إيهاما بأنها تبلغ إلى مرضاة الشياطين وتسخيرها، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم، لأن أكبر شيء على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون بمريديهم إلى مبالغهم السافلة، وقد سمعنا أن كثيرا ممن يتعاطون السحر في المسلمين يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أو نحو من هذا الضلال.
(1/617)
ونوع: الغرض منه إخفاء الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلع الناس على كنهها، فيستندون في تعليل أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالا على الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير، واستنادهم لطوالع كواكب في أوقات معينة لا سيما القمر، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة.
ونوع: يستعان به على نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يفشي كل منهم سر الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يلقي بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه يعلم الغيب والضمائر، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا، وفي هذا القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على ارتكاب المرعبات والمطوعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم للإخلاص لهم، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يغرون بها من هي آمن الناس منه، ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها ليعلمه بمستقبله.
ونوع: يجعل اختبار لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور ليرى هل يتفطن لها من وضعها، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو شياطين أو أرواح، وما هي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة، لينظر هل يقتنع رائيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها.
فكان السحر قرين خباثة نفس، وفساد دين، وشر عمل، وإرعاب وتهويل على الناس، من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقا عن طاعة الله تعالى لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين، وقد حذر موسى قومه من السحر وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح 18 أن مما خاطب به موسى عليه السلام قومه متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلم
(1/618)
أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز1 ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعة ولا من يستثير الموتى. وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين 20 - 27 "وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل" وذكروا عن مالك أنه قال الأسماء التي يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام.
وقد حذر الإسلام من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق.
وقد اختلف علماء الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه فكل فريق نظر إلى صنف من أصناف ما يدعى بالسحر. وحكى عياض في إكمال العلم أن جمهور أهل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته. قلت وليس في كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة. وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض أهل السنة كما اقتضته حكاية عياض في الإكمال، قلت وممن سمي منهم أبو إسحاق الاستر ابادي من الشافعية. والمسألة بحذافرها من مسائل الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال، ولا تدخل في أصول الدين. وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضي أن يكون إنكاره إلحادا. وهذه الآية غير صريحة. وأما الحديث فقد علمته آنفا.
وشدد الفقهاء العقوبة في تعاطيه. قال مالك: يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلما وإن كان ذميا لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضرارا على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضا للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في المنتقى2 رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليل عليه وإنه لما كان يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب وهو تفسير لقول
ـــــــ
1 "المنتقى" للباجي 7/117. جامع العقل. قتل الغيلة "مصححه".
2 كذا ولعل المراد من يرج أو يجوز به.
(1/619)
مالك لا خلاف له قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر قال أصبغ يكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام.
وفي الكافي لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتل به قتل وان لم يكن كفرا، وقد أدخل مالك في الموطأ السحر في باب الغيلة، فقال ابن العربي في القبس وجه ذلك أن المسحور لا يعلم بعمل السحر حتى يقع فيه، قلت لا شك أن السحر الذي جعل جزاؤه القتل هو ما كان كفرا صريحا مع الاستتار به أو حصل به إهلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يعد من يأتيه للسحر بأن فلانا يموت الليلة أو غدا أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تلقى له في الطعام بواسطة أناس من أهل المسحور فيصبح المسحور ميتا أو مختل العقل فهذا هو مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل لا يصح فقه هذه المسألة، فقول مالك في السحر ليس استنادا لدليل معين في خصوص السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار، ولبعض فقهاء المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم، على أن السحر أكثر ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من المحبوب أو الزوج. سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلا شيئا فيذهب عقله فقال لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأما الجارية فقد أتت أمرا عظيما قيل أفتقتل فقال لا قال ابن رشد في البيان رأى أن فعلها ليس من السحر اه.
وقال أبو حنيفة يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأما المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد ووجه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. وعن الشيخ أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال لا تقبل فقد خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم ا ه. وهذا استدلال بشرع من قبلنا.
وقال الشافعي يسأل الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعلم أنه يفعل محرما فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأن سحره
(1/620)
يقتل غالبا قتل قودا يعني إذا ثبت أنه مات بسببه وإن قال إن سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد، وإن كان سحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله.
ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن مفترق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبه بالساحر مجرى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}
يتعين أن "ما" موصولة وهو معطوف على قوله: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعليم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفا فيكون عطفا على {مَا تَتْلُوا} الذي هو صادق على السحر فعطف ما أنزل عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلمونه الناس مع السحر الموضوع منهم، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر وهو من شواهد النحو:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل أريد من السحر أخف مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف.
والقراءة المتواترة الملكين بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزي بكسر اللام.
وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر.
(1/621)
فالوجه أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَ} عطف على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق،
وقيل "ما" نافية معطوفة على "ما كفر سليمان" أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر، وقد قيل إن "هاروت وماروت" بدل من "الشياطين" وأن المراد بالشياطين شيطانا وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله: {قلوبكما} وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله: {عَلَى الْمَلَكَيْنِ} كلاما حشوا.
وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه: أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما {نَحْنُ فِتْنَةٌ} وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها. الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} فلماذا تورطا في هذه الحالة.
ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها،
والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرمذة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.
ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة
(1/622)
لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم أي السحرة مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث. وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} الآية.
وفي قراءة ابن عباس والحسن: {الملكين} بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر. وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك. وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قالوا كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير.
وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب:
(1/623)
سقى الله أيام الصبا ما يسرها ... ويفعل فعل البابلي المعتق1
ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إشارة إلى قصة يعلمونها.
و"هاروت وماروت" بدل من "الملكين" وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية، والظاهر أن هاروت معرب "هاروكا" وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب "ما روداخ" وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانو من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون هاروكا و ماروداخ قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام
ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في
ـــــــ
1 الذي ذكره الواحدي والمعري في تفسير البيت أنه أراد بالبابلي الخمر وكنت رأيت في بعض كتب الأدب أن بعض من ناظر المتنبي انتقد هذا الإطناب مع أنه كان يستطيع أن يقول سقاها خمرا لا سيما وقد قال ما يسرها قلت: وقرينة كونه المراد وصفه بالمعتق وهو من أوصاف الخمر والعذر للمتنبي أنه أراد سقاها الله خمرا كخمر بابل فلا ضير في ذلك.
(1/624)
حق هاروت وماروت.
وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} جملة حالية من {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وما نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه. وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية.
وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين.
ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمي القرآن هاروت وماروت فتنة وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: من الآية10] وقال: {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: من الآية27] والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوة.
والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها، وقولهما
(1/625)
{فَلا تَكْفُرْ} أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما: {فَلا تَكْفُرْ} فالكفر هو الفتنة وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} تفريع عما دل عليه قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} المقتضى أن التعليم حاصل فيتعلمون، والضمير في {فَيَتَعَلَّمُونَ} راجع لأحد الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية في قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعا.
قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]0 فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما: والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} جملة معترضة. وضمير {هم} عائد إلى أحد من قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحدا. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء من قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم
(1/626)
الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة فالباء في قوله {بِإِذْنِ اللَّهِ} للملابسة.
وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] فقوله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة. فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير يضرهم عائد على غير ما عاد عليه ضمير يتعلمون والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله {وَلا يَنْفَعُهُمْ} تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليس على غير الظبات تسيل
وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل
(1/627)
يتعلمون مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عطف على قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا لضمير {واتبعوا}، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في {لَقَدْ عَلِمُوا} يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد. قال الرضي إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب.
واللام في قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم.
والخلاق الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث إنما يلبس هذا من لا خلاق له وقال البعيث بن حريث:
ولست وإن قربت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى.
قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} عطف على {ولَقَدْ عَلِمُوا} عطف الإنشاء على
(1/628)
الخبر و {شروا} بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله: {ولَقَدْ عَلِمُوا} إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذيل به قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذموما فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية.
ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب الكشاف وتبعه صاحب المفتاح من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع بين {ولَقَدْ عَلِمُوا} و {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} طباق عجيب.
وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير {علموا} وضميري {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فضمير {ولَقَدْ عَلِمُوا} راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم، قاله قطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.
(1/629)
[103] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
أي لو آمنوا بمحمد واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.
ولو شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس:
ولو أن ما أسعى لأدني معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
وأن مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جملة الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر. وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت.
وقوله: {لمثوبة} يترجح أن يكون جواب لو فانه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب لو المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتيب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لا ثيبوا ومثوبة من عند الله خير. وعدل عنه صاحب الكشاف فقال أوثرت الجملة الاسمية في جواب لو على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: من الآية54] لذلك اه. ومراده أن تقدير الجواب لا ثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم، أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات. ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل لمثوبة بالنصب لكان تقديره لا ثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما
(1/630)
كان فيه من النسبة قبل الرفع، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني، وهذا وجه تنظير الكشاف وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو المتأصل في الفعلية، ثم إذا سمع قوله خير علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب الكشاف لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها. وبهذا ظهر الترتيب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا.
وعندي وجه آخر وهو أن يقال إن قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم ولما كانت لو امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتمليحا بهم.
وقد قيل إن "لو" للتمني على حد {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: من الآية167]. والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوبا
وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جوابا منصوبا كجواب ليت وجوابا مقترنا باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل:
فلو نبش المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير
ويوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبور
فأجيب بقوله فيخبر وقوله لقر عينا. والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ونحوه. وعلى هذا الوجه يكون قوله: {لمثوبة} مستأنفا واللام للقسم.
والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة
(1/631)
والمكروهة.
وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة لمثوبة من الله خير، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر.
وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق.
[104] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يتعين في مثل هذه الآية1 تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لابد أن يكون لسبب وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب وقيل معناها لا سمعت دعاء فقال بعضهم لبعض كنا نشب محمدا سرا فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.
ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه
ـــــــ
1 أي مثلها من الآيات التي نزلت في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها إيجازا واستغناء بعلم المخاطبين بها يوم نزولها بالسبب الذي أوجب نزولها فإذا لم ينقل السبب لمن لم يحضره لم يعلم المراد منها.
(1/632)
على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجيهه النفسي إلى المسحور، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم. ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله كل ذلك راجعا إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى كان هذا شبيها ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر.
وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتبا عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب.
و {راعنا} أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعي مثل رعي قال طرفة:
خذول تراعي ربربا بخميلة
وأطلق مجازا على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعي ذمامه، فقول المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا.
وقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أبد لهم بقولهم: {راعنا} كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإن نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار مجازا على تدبير المصالح، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله: {انظرنا} بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار.
(1/633)
وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور.
وقوله تعالى {واسمعوا} أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أو النظر وقيل أراد من اسمعوا امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر.
وقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التعريف للعهد والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم فلهم عذاب أليم والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله.
[105] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
فصله عما قبله لاختلاف الغرضين لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد.
وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فقالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: من الآية91] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: من الآية91] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ.
والود بضم الواو المحبة ومن أحب شيئا تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب.
وذكر "الذين كفروا" هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معا تمهيدا لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ
(1/634)
هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] الآيات. ونبه بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبي المقفى على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود.
ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قد يوهم كون البيان قيدا وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله: {وَلا الْمُشْرِكِينَ} كالاحتراس وليكون جمعا للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] وقرأ الجمهور "أن ينزل" بتشديد الزاي مفتوحة والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجما لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضا وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجما.
والخير النعمة والفضل، قال النابغة:
فلست على خير أتاك بحاسد
وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}
وقوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} عطف على {مَا يَوَدُّ} لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه.
والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصا غير عام سواء خص واحدا أو أكثر ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة.
والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من
(1/635)
تعلقات العلم الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها من خلقه قابلا لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئا فشيئا قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص: 14] وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقا بأفهام المخاطبين.
وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:91] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ إن محمدا وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقا لها فكيف يكون شرعه مبطلا للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبدل شريعة بشريعة.
(1/636)
وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [البقرة: 94] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] المنبئ أن العلة هي الحسد. فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} وعطفه عليه بقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] ولقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.
وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول، ففي الكشاف والمعالم نزلت لما قال اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، وفي تفسير القرطبي أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا.
وقرأ الجمهور "ننسخ" بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية.
وما شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به.
و"من آية" بيان لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر.
قال الحرث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيات ... ثلاث في كلهن القضاء
(1/637)
ووزنها فعلة بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والنسبة إليها آيي أو آوى. ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الاسراء: 59]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101]
ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبرا مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيرا في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيسا. وقال سحيم العبد:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
ولذا أيضا سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفا.
والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن.
والنسخ إزالة الشيء بشيء آخر قاله الراغب، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل، وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وقال: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:154] وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز.
(1/638)
ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير.
والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وهو المعروف عند الأصوليين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات،
فالأول: نحو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز1 كما سيأتي،
ومثال الثاني قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: من الآية24] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار.
وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لولا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيي بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار.
وحيث تبينت حكمة فسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من
ـــــــ
1 ذلك أن العرب كانوا إذا انصرفوا من سوق ذي المجاز ليلة التروية يحرمون البيع إلى انقضاء الحج قال النابغة يذكر ناقته:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسس به نغما
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخيمكم من يشتري أدما
قالت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما
(1/639)
الإيمان بالإسلام كما قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] وهو أحوال: الأول مجيء شريعة لقوم مجيئا مؤقتا لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفى ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} إلى قوله: {إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34] وبقي الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما كانت عبس مثلا يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعتة تعين عليهم اتباعه.
الثاني: أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت بعضا كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضا وتفسر بعضا، فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأما غيره فباق على أحكام التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان.
الثالث: مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالا عاما بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتلقى شيئا من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلام فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام وقد اختلف في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو وهو قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
وقوله: {أَوْ نُنْسِهَا} قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخلف "ننسها" بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو "ننسأها" بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس الناس إياها
(1/640)
وذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وعلى قراءة الهمز فالمعنى أو نؤخرها أي نؤخر تلاوتها أو نؤخر العمل بها والمراد إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها فكني عنه بالنسئ وهو قسم آخر مقابل للنسخ وهو أن لا يذكر الرسول الناس بالعمل بحكم مشروع ولا يأمر من يتركه بقضائه حتى ينسى الناس العمل به فيكون ذلك إبطالا للحكم لأنه لو كان قائما لما سكت الرسول عن إعادة الأمر به ولما أقر تاركه عند موجب العمل به ولم أجد لهذا مثالا في القرآن ونظيره في السنة قول رسول الله: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" عند من يقول إن النهي فيه للتحريم وهو قول أبي هريرة ولذلك كان يذكر هذا الحديث ويقول مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم. بمعنى النسء مشعر بتأخير يعقبه إبرام وحينئذ فالمعنى بقاء الحكم مدة غير منسوخ أو بقاء الآية من القرآن مدة غير منسوخة. أو يكون المراد إنساء الآية بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوع ذلك بعد حين والاحتمالات المفروضة في نسخ حكم من الشريعة تتأتى في نسخ شريعة بشريعة وإنسائها أو نسئها.
وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} جواب الشرط وجعله جوابامشعر بأن هذين الحالين وهما النسخ والإنساء أو النسء لا يفارقان حالين وهما الإتيان في وقت النسخ ووقت الإنساء بشيء هو خير من النسوخ أو مثله أو خير من المنسي أو المنسوء أو مثله فالمأتي به مع النسخ هو الناسخ من شريعة أو حكم والمأتي به مع الإنساء من النسيان هو الناسخ أيضا من شريعة أو حكم أو هو ما يجيء من الأحكام غير ناسخ ولكنه حكم مخالف ينزل بعد الآخر والمأتي بع مع النسء أي التأخير هو ما يقارن الحكم الباقي من الأحكام النازلة في مدة عدم النسخ.
وقد أجملت جهة الخيرية والمثلية لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فتجده مرادا إذ الخيرية تكون من حيث الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، أو ما يدفع عنهم مضرة، أو ما فيه جلب عواقب حميدة، أو ما فيه ثواب جزيل، أو ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وإن كان حملهم على الشدة قد يكون أكثر مصلحة. وليس المراد أن كل صورة من الصور المفروضة في حالات النسخ والإنساء أو النسء هي مشتملة على الخير والمثل معا وإنما المراد أن كل صورة منهما لا تخلو من الاشتمال على الخير منها أو المثل لها فلذلك جيء بأو في قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فهي مفيدة لأحد الشيئين مع جواز الجمع.
(1/641)
وتحقيق هاته الصور بأيديكم، ولنضرب لذلك أمثالا ترشد إلى المقصود وتغني عن البقية مع عدم التزام الدرج على القول الأصح فنقول:
1- نسخ شريعة مع الإتيان بخير منها كنسخ التوراة والإنجيل بالإسلام.
2- نسخ شريعة مع الإتيان بمثلها كنسخ شريعة هود بشريعة صالح فإن لكل فائدة مماثلة للأخرى في تحديد أحوال أمتين متقاربتي العوائد والأخلاق فهود نهاهم أن يبنوا بكل ريع آية يعبثون وصالح لم ينه عن ذلك ونهى عن التعرض للناقة بسوء.
3- نسخ حكم في شريعة بخير منه مثل نسخ كراهة الخمر الثابتة بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} [البقرة: 219] بتحريمها بتاتا فهذه الناسخة خير من جهة المصلحة دون الرفق وقد يكون الناسخ خيرا في الرفق كنسخ تحريم الأكل والشرب وقربان النساء في ليل رمضان بعد وقت الإفطار عند الغروب إذا نام الصائم قبل أن يتعشى بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: من الآية187] قال في الحديث في صحيح البخاري ففرح المسلمون بنزولها.
4- نسخ حكم في الشريعة بحكم مثله كنسخ الوصية للوالدين والأقربين بتعيين الفرائض والكل نافع للكل في إعطائه مالا وكنسخ فرض خمسين صلاة بخمس صلوات مع جعل ثواب الخمسين للخمس فقد تماثلنا من جهة الثواب، وكنسخ آية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: من الآية184] بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] إلى قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184] فإثبات كون الصوم خيرا من الفدية.
5 إنساء بمعنى التأخير لشريعة مع مجيء خير منها، تأخير ظهور دين الإسلام في حين الإتيان بشرائع سبقته كل واحدة منها هي خير بالنسبة للأمة التي شرعت لها والعصر الذي شرعت فيه فإن الشرائع تأتي للناس بما يناسب أحوالهم حتى يتهيأ البشر كلهم لقبول الشريعة الخاتمة التي هي الدين عند الله فالخيرية هنا ببعض معانيها وهي نسبية.
6 إنساء شريعة بمعنى تأخير مجيئها مع إرادة الله تعالى وقوعه بعد حين ومع الإتيان بمثلها كتأخير شريعة عيسى في وقت الإتيان بشريعة موسى وهي خير منها من حيث الاشتمال على معظم المصالح وما تحتاج إليه الأمة.
7 إنساء بمعنى تأخير الحكم المراد مع الإتيان بخير منه كتأخير تحريم الخمر وهو
(1/642)
مراد مع الإتيان بكراهته أو تحريمه في أوقات الصلوات فقط فإن المأتي به خير من التحريم من حيث الرفق بالناس في حملهم على مفارقة شيء افتتنوا بمحبته.
8 إنساء شريعة بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها أي أوسع وأعم مصلحة وأكثر ثوابا لكن في أمة أخرى أو بمثلها كذلك.
9 إنساء آية من القرآن بمعنى بقائها غير منسوخة إلى أمد معلوم مع الإتيان بخير منها في باب آخر أي أعم مصلحة أو بمثلها في باب آخر أي مثلها مصلحة أو ثوابا مثل تحريم الخمر في وقت الصلوات وينزل في تلك المدة تحريم البيع في وقت صلاة الجمعة.
10 نسيان شريعة بمعنى اضمحلالها كشريعة آدم ونوح مع مجيء شريعة موسى وهي أفضل وأوسع وشريعة إدريس مثلا وهي مثل شريعة نوح.
11 نسيان حكم شريعة مع مجيء خير منه أو مثله، كان فيما نزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات ثم نسيا معا وجاءت آية: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] على الإطلاق والكل متماثل في إثبات الرضاعة ولا مشقة على المكلفين في رضعة أو عشر لقرب المقدار.
وقيل المراد من النسيان الترك وهو حينئذ يرجع معناه وصوره إلى معنى وصور الإنساء بمعنى التأخير.
والمقصد من قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} إظهار منتهى الحكمة والرد عليهم بأنهم لا يهمهم أن تنسخ شريعة بشريعة أو حكم في شريعة بحكم آخر ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى ولا في حكمته ولا ربوبيته لأنه ما نسخ شرعا أو حكما ولا تركه إلا وهو قد عوض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذ أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخر حكما في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلا وقد عوض الناس في إبان تأخيره ما يسد مسده بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يرب الخلق ويحملهم على مصالحهم مع الرفق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد وهو حفظ نظام العالم وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة وهي مراد الله تعالى من الناس ولذلك قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19] وقال أيضا: {شَرَعَ لَكُمْ
(1/643)
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الآية.
والظاهر أن الإتيان بخير أو بمثل راجع إلى كل من النسخ والإنساء فيكون الإتيان بخير من المنسوخة أو المنساة أو بمثلها وليس الكلام من اللف والنشر. فقوله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} هو إما إتيان تعويض أو إتيان تعزيز. وتوزيع هذا الضابط على الصور المتقدمة غير عزيز. والمعنى إنا لم نترك الخلق في وقت سدى. وأن ليس في النسخ ما يتوهم منه البدا.
وفي الآية إيجاز بديع في التقسيم قد جمع هاته الصور التي سمعتموها وصورا تنشق منها لا أسألكموها لأنه ما فرضت منها صورة بعد هذا إلا عرفتموها.
ومما يقف منه الشعر ولا ينبغي أن يوجه إليه النظر ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى {نُنسِهَا} أنه إنساء الله تعالى المسلمين للآية أو للسورة، أي إذهابها عن قلوبهم أو إنساؤه النبي صلى الله عليه وسلم إياها فيكون نسيان الناس كلهم لها في وقت واحد دليلا على النسخ واستدلوا لذلك بحديث أخرجه الطبراني بسنده إلى ابن عمر: قال قرأ رجلان سورة أقرأهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فغديا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال لهما إنها مما نسخ وأنسى فالهوا عنها. قال ابن كثير هذا الحديث في سنده سليمان بن أرقم وهو ضعيف وقال ابن عطية هذا حديث منكر أغرب به الطبراني وكيف خفي مثله على أئمة الحديث. والصحيح أن نسيان النبي ما أراد الله نسخه ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز، أي لكنه لم يقع فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي معصوم عنه قبل التبليغ، وأما بعد التبليغ وحفظ المسلمين له فجائز وقد روى أنه أسقط آية من سورة في الصلاة فلما فرغ قال لأبى لم لم تذكرني قال حسبت أنها رفعت قال لا ولكني نسيتها اه.
والحق عندي أن النسيان العارض الذي يتذكر بعده جائز ولا تحمل عليه الآية لمنافاته لظاهر قوله {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وأما النسيان المستمر للقرآن فأحسب أنه لا يجوز. وقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] دليل عليه وقوله {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] هو من باب التوسعة في الوعد وسيأتي بيان ذلك في سورة الأعلى. وأما ما ورد في صحيح مسلم عن أنس قال كنا نقرأ سورة نشبه هل في الطول ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب اه. فهو غريب وتأويله أن هنالك سورة
(1/644)
نسخت قراءتها وأحكامها، ونسيان المسلمين لما نسخ لفظه من القرآن غير عجيب على أنه حديث غريب اهـ.
وقد دلت هذه الآية على أن النسخ واقع وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ووقوعه ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر فقيل إن خلافه لفظي وتفصيل الأدلة في كتب أصول الفقه.
وقد قسموا نسخ أدلة الأحكام ومدلولاتها إلى أقسام: نسخ التلاوة والحكم معا وهو الأصل ومثلوه بما روى عن أبي بكر كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ونسخ الحكم وبقاء التلاوة وهذا واقع لأن إبقاء التلاوة يقصد منه بفاء الإعجاز ببلاغة الآية ومثاله آية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [لأنفال: 65] إلى آخر الآيات. ونسخ التلاوة وبقاء الحكم ومثلوه بما روى عن عمر كان فيما يتلى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وعندي أنه لا فائدة في نسخ التلاوة وبقاء الحكم وقد تأولوا قول عمر كان فيما يتلى أنه كان يتلى بين الناس تشهيرا بحكمه. وقد كان كثير من الصحابة يرى أن الآية إذا نسخ حكمها لا تبقى كتابتها في المصحف ففي البخاري في التفسير قال ابن الزبير قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها قال يابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
[107,106] {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
مسوق لبيان حكمة الشيخ والإتيان بالخير والمثل بيانا غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم وذلك أنه بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرعوا به لتكذيب الرسول هو غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله أريد أن ينتقل من ذلك إلى كشف ما بقي من الشبهة وهي أن يقول المنكر وما هي الفائدة في النسخ حتى يحتاج للتعويض وكان مقتضى الظاهر أن يتصدى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها للأحوال والأعصار ولبيان تفاصيل الخيرية والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ ولما
(1/645)
كان التصدي لذلك أمرا لم تتهيأ له عقول السامعين لعسر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها لأن ذلك مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية، عدل بهم عن بيان ذلك وأجملت لهم بالمصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذ عنها ممكن مراد، وعلى سعة ملكه المشعر بعظيم علمه. وعلى حاجة المخلوقات إليه إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي دونه وكفى بذلك دليلا على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال. ومما يزيد هذا العدول توجيها أن التصدي للبيان بفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب اختلاف القرائح والفهوم.
ولأن أسباب التشريع والنسخ أقسام منه ما ظهر وجهه بالنص فيمكن إفهامهم إياه نحو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية بعد قوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية ونحو {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] الآية. ومنها ما يعسر إفهامهم إياه لأنه يحتاج إلى علم وتفصيل من شأن المشرعين وعلماء الأصول كالأشياء التي عرفت بالقياس وأصول التشريع. ومنها ما لم يطلع على حكمته في ذلك الزمان أو فيما يليه ولما كان معظم هاته التفاصيل يعسر أو يعتذر إفهامهم إياه وقع العدول المذكور. ولكون هاته الجملة تتنزل منزلة البيان للأولى فصلت عنها.
والخطاب في {تعلم} ليس مرادا منه ظاهرة الواحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من ليس حاضرا للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب في كونه بحيث يصير مخاطبا لشهرة هذا الأمر والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له وهو كل من يظن به أو يتوهم منه أنه لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ولو بعدم جريانه على موجب علمه، وإلى هذه الطريقة مال القطب والطيبي من شراح الكشاف وعليها يشمل هذا الخطاب ابتداء اليهود والمشركين ومن عسى أن يشتبه عليه الأمر وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين، أما غيرهم فغني عن التقرير في الظاهر وإنما أدخل فيه ليسمع غيره.
وإما مراد به ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبي إلى مخاطبة أمته انتقالا كنائيا لأن علم الأمة من لوازم علم الرسول من حيث إنه رسول لزوما عرفيا فكل حكم تعلق به بعنوان الرسالة فالمراد منه أمته لأن ما يثبت له من المعلومات في باب العقائد والتشريع فهو حاصل لهم فتارة يراد
(1/646)
من الخطاب توجه مضمون الخطاب إليه ولأمته وتارة يقصد منه توجه المضمون لأمته فقط على قاعدة الكتابة في جواز إرادة المعنى الإصلي مع الكنائي، وهاهنا لا يصلح توجه المضمون للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شيء قدير فضلا عن أن ينكر عنه وإنما التقرير للأمة، والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود. وإنما سلك هذا الطريق دون أن يؤتى بضمير الجماعة المخاطبين لما في سلوك طريق الكناية من البلاغة والمبالغة مع الإيجاز في لفظ الضمير.
والاستفهام تقريري على الوجهين وهو شأن الاستفهام الداخل على النفي كما تقدم عند قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] أي أنكم تعلمون أن الله قدير وتعلمون أنه مالك السماوات والأرض بما يجري فيهما من الأحوال، فهو ملكه أيضا فهو يصرف الخلق كيف يشاء. وقد أشار في الكشاف إلى أنه تقريري وصرح به القطب في شرحه ولم يسمع في كلام العرب استفهام دخل على النفي إلا وهو مراد به التقرير.
وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} قال البيضاوي: هو متنزل من الجملة التي قبله منزلة الدليل لأن الذي يكون له ملك السماوات والأرض لا جرم أن يكون قديرا على كل شيء ولذا فصلت هذه الجملة عن التي قبلها. وعندي أن موجب الفصل هو أن هاته الجملة بمنزلة التكرير للأولى لأن مقام التقرير ومقام التوبيخ كلاهما مقام تكرير لما به التقرير والإنكار تعديدا على المخاطب.
[108] {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
أم حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية1 فإذا عطفت أحد مفردين مستفهما عن تعيين أحدهما استفهاما حقيقيا أو مسوى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى أو العاطفة ويسميها النحاة متصلة، وإذا وقعت عاطفة جملة دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة
ـــــــ
1 لأن التحقيق أن همزة التسوية همزة استفهام تدل على استواء أمرين بمعنى استواء الجواب لو سأل سائل عن أحد أمرين.
(1/647)
والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين. وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع أم بعدها كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقرير الذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون أم هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم.
وقد جوز القزويني في الكشف على الكشاف كون أم هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لا يساعد استعمال الكلام العربي، وأفرط عبد الحكيم في حاشية البيضاوي فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام.
وقوله {تريدون} خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله: {رسولكم} وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد أم المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب. وقوله: {تريدون} يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} تشبيه وجهه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيرا من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: من الآية138] أو من العجرفة كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك. ويجوز كونه راجعا إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم: {مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] و {مَا هِيَ} [البقرة: 70]،
قال الفخر: إن المسلمين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى ا هـ. وقد ذكر غيره أسبابا أخرى للنزول، منها: أن المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن
(1/648)
يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله {تريدون} قصدا للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه. والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها.
وقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفرا شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أبي زوجة ثابت بن قيس: إني أكره الكفر تريد الزنا، فإن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفرا وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية، وقول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
والمؤكد بجملة: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ} هو مفهوم جملة {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة. والقول في تعدية فعل {يتبدل} مضي عند قوله تعالى {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]
وقد جعل قوله {فَقَدْ ضَلَّ} جوابا لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتبا على الشرط ولا
(1/649)
يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلا ماضيا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيا لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى أنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضيا فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضى بخلافه مع قد فكثير في القرآن.
وقد يجعلون الجزاء ماضيا مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: من الآية77] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له1 ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية.
والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس:
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية.
ـــــــ
1 ومثل هذا أن يكون الشرط والجزاء ما ضيين فإن ذلم يدل أن المعنى إن تحقق هذا تحقق هذا نحو {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: من الآية116] ويقرب منه مجيء الجزاء جملة اسمية لدلالتها على ثبوت مضمونها دون زمان أصلا نحو قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: من الآية97] أي من يتحقق عداوته لجبريل فلتدم عداوته لأنه نزله ونحو قول الشاعر:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
أي فيصد فأنا المعروف بالشجاعة.
(1/650)
[110,109] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ. فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر. وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله {مَا نَنْسَخْ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة. فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها، وفي تفسير ابن عطية والكشاف وأسباب النزول للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس1 وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم فردا عليهم وثبتا على الإسلام.
والود تقدم في الآية السالفة.
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمنى الكفر وهو رضي به. وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى
ـــــــ
1 المدارس بكسر الميم بيت تعليم التورات لتلامذة اليهود.
(1/651)
الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50]
وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير {بيردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن وداتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية. وبه يظهر وجه مجيء {كفارا} معمولا لمعمول {وَدَّ كَثِيرٌ} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارا بالله أي كفارا كفرا متفقا عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه. وبه يظهر أيضا وجه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} فإنه تبين أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم.
و {لو} هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر.
و {حسدا} حال من ضمير {ود} أي أن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر.
وقوله {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة عند الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه وهو متعلق بحسدا لا بقوله {ود} .
وإنما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكي عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات: من الآية7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرا للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل.
والعفو ترك عقوبة المذنب. والصفح بفتح الصاد مصدر صفحا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيء ولاه من صفحة وجهه، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا
(1/652)
يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق.
وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية.
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية ومن ذلك إجلاء بني النضير.
ولعل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له ندا وهو يرزقهم، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية. فجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل مسوق مساق التعليل. وجملة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] إلى قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ} [البقرة: من الآية111] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضا. وقد جوزه صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] في سورة النحل، وجوزه ابن هشام في مغنى اللبيب واحتج له بقوله تعالى: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أنه قال لا يصح أن تكون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراضا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب الكشاف بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن
(1/653)
الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية.
وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} قال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تذييل لما قبله والبصير العليم كما تقدم وهو كناية عن عدم إضافة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئا فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيدا لغيرهم لأنه إذا كان بصيرا بما يعمل المسلمون كان بصيرا بما يعمل غيرهم.
[112,111] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
عطف على {وَدَّ كَثِيرٌ} [البقرة: 109] وما بينهما من قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: من الآية109] الآية اعتراض كما تقدم.
والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} . ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فجمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء. ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله: {هُوداً أَوْ نَصَارَى} . فكلمة "أو" من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأوهنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على تعيين كل من خبري {كَانَ} لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى مقول
(1/654)
اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى. فأوها هنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو {قالوا} ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معا.
وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام الكشاف لقول صاحب الكشاف فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله قالوا مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي. ثم وقع نشر هذا اللف بقوله: {إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} فعلم من حرف أو توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين. وقال التفتزاني في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة أو.
والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة: من الآية62] الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد. وحائل وحول، وبازل وبزل، وفاره وفره، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره "كان" وهو مفرد لأن "من" مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرا وضميرا على مراعاة المعنى. والإشارة بـ {تلك} إلى القولة الصادرة منهم {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ.
والأماني تقدمت في قوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وجملة {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} معترضة.
(1/655)
وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} [البقرة: 30] الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده.
و"بلى" إبطال لدعواهما. و"بلى" كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى} [القيامة: 4:3]
وقول أبي حية النميري:
يخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم
وقوله: {مَنْ أَسْلَمَ} جملة مستأنفة عن "بلى" لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ} هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن من شرطية لا محالة. ومن قدر هنا فعلا بعد بلى أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا.
وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: من الآية20]. والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري:
إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري1
ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]
وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى:
ـــــــ
1 مصراع بيت وتمامه:
وغودر عند الملتقى ثم سائري
(1/656)
وأول الحكم على وجهه ... ليس قضاء بالهوى الجائر
ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر: 29].
وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير.
وجمع الضمير في قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} اعتبارا بعموم "من" كما أفرد الضمير في قوله {وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار.
[113] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
معطوف على قوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة فقديما ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتا على شركهم.
والمراد من القول التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى1 فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم
ـــــــ
1 نجران بفتح النون وسكون الجيم قبيلة من عرب اليمن كانوا ينزلون قرية كبيرة تسمى نجران بين اليمن واليمامة وهم على دين النصرانية ولهم الكعبة اليمانية المشهورة وهي كنيستهم التي ذكرها الأعشى في شعره. وقد وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين رجلا عليهم اثنا عشر نقيبا ورئيسهم السيد وهو عبد المسيح وأمين الوفد العاقب واسمه الأيهم وكان وفودهم في السنة الثانية من الهجرة.
(1/657)
وهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر بعيسى وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على شيء.
وقولهم: {عَلَى شَيْءٍ} نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا على أمر يعتد به. فالشيء المنفي هو الشيء العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس ابن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي لم أعط شيئا نافعا مغنيا بدليل قوله ولم أمنع، وسئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازا كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على حظ من الحق فالمراد هنا ليست على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لاحظ فيه من الخير كما دل عليه قوله بعده {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} فإن قوله {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه أهله حق اتباعه ولا يخلو أهل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا يصدق قول غيرهم أنهم ليسوا على شيء.
وجيء بالجملة الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبرا عدل به عن الخبر لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتي به في موقع الحال المفردة على اعتبار التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالا له.
وضمير قوله {هم} عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب مذكور.
والتعريف في "الكتاب" جعله صاحب الكشاف تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم أهل علم كما يقال لهم أهل الكتاب في مقابلة الأميين، وحداه إلى ذلك قوله عقبه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال
(1/658)
وهم من أهل العلم الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند مخالفيهم. وجعل ابن عطية التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرأه الفريقان ووجه التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف يسوغ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران. وأن التوراة ناطقة بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى.
وإذا جعل الضمير عائدا للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق بأحقية التوراة وفي {يتلون} دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشربا بضرب من الاعتذار أعني أنهم يقرأون دون تدبر وهذا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما.
وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم أميون وإطلاق: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] بدليل قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 118] يعني كذلك قال اليهود والنصارى: والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه لقول أهل الضلال البحت.
وهذا استطراد للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية أي قالوا للمسلمين مثل مقالة أهل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]
والتشبيه المستفاد من الكاف في {كذلك} تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ولهذا يكون لفظ مثل قولهم تأكيدا لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن المشابهة بين قول الذين لا يعلمون وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا : {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد كذبوا اليهود والنصارى والمسلمين.
وتقديم الجار والمجرور على متعلقه وهو {قال} إما لمجرد الاهتمام ببيان المماثلة
(1/659)
وإما ليغني عن حرف العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازا بديعا لأن مفاد حرف العطف التشريك ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة. ولأجل الاهتمام أو لزيادته أكد قوله: {كذلك} بقوله {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} فهو صفة أيضا لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولا مثل قولهم. ولك أن تجعل كذلك تأكيدا لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير والأول أظهر. وجوز صاحب الكشاف وجماعة أن لا يكون قوله: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أو قوله {كذلك} تأكيدا للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في صدوره عن هوى، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريرا في التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه.
وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} الآية جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة بين راجع إلى الفرق الثلاث وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره والجملة تذييل.
[114] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
عطف على {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] باعتبار ما سبق ذلك من الآيات الدالة على أفانين أهل الكتاب في الجراءة وسوء المقالة أي أن قولهم هذا وما تقدمه ظلم ولا كظلم من منع مساجد الله وهذا استطراد واقع معترضا بين ذكر أحوال اليهود والنصارى لذكر مساوئ المشركين في سوء تلقيهم دعوة الإسلام الذي جاء لهديهم ونجاتهم.
والآية نازلة في مشركي العرب كما في رواية عطاء عن ابن عباس وهو الذي يقتضيه قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} الآية كما سيأتي وهي تشير إلى منع أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الدخول لمكة كما جاء في حديث سعد بن معاذ حين دخل مكة خفية وقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد أويتم الصباء، وتكرر ذلك في عام الحديبية.
(1/660)
وقيل نزلت في بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة 606 قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبي فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبي فيها رؤساء المملكة والملك يهوا كين بن يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبي جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة يهوذا وذلك سنة 578 قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه.
وقيل نزلت في غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة 79 قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة أنه بعد أن وفي أهل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك عند قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية105] عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ.
والاستفهام بمن إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه بمعنى لا أحد أظلم.
والظلم الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم.
(1/661)
وجمع المساجد وإن كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم، وأما لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه الوجوه على معنى لام التعريف العهدي، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله: {أَنْ يَدْخُلُوهَا} يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب. والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره، وكذلك غلقها من دخول الصبيان والمسافرين للنوم، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال: غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة ا ه. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب والحائض.
والسعي أصله المشي ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو: سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على مجاز. وأما على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع وآل إليه.
وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله: {مَنْ أَظْلَمُ} أو عن قوله {سعى} لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها اعتراضا بين {مَنْ أَظْلَمُ} وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
(1/662)
خِزْيٌ}
والإشارة بأولئك بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [ البقرة: 5] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب أهل الكتاب ثم يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم.
ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي المستقبل وإن كان لفظ كان لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} فلا إشعار لهذه الجملة بمضي.
واللام في قوله {لهم} للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة الخوف فهم حقيقون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد الحرام فهو آمن فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم.
وعلى تفسير: {مَسَاجِدَ اللَّهِ} بالعموم يكون قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا} أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشعية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله {مَا كَانَ لَهُمْ} للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير مل المفسرين إلا أن مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر وسابق على المنع والسعي في الخراب.
وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا بالاستئناف اهتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر، وما نالهم يوم
(1/663)
فتح مكة من خزي الانهزام.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
وعندي أن نزول هذه الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة على حد قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217].
[115] {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]
لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضي الله تعالى وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغنى عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: 34] وقال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل: "نحن أحق بموسى منهم" .
فالمراد من {الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية.
وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالي نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف
(1/664)
عن استقبال الكعبة.
وتقديم الظرف للاختصاص أي أن الأرض لله تعالى فقط لا لهم، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين.
و {وَجْهُ اللَّهِ} بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول: لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك. وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقوله {واسع} تذييل لمدلول {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله وأنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضي الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.
[116] {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث، وقد قرئ بالواو وقالوا على أنه معطوف على قوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ] [البقرة: 113] وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأن السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر خبيثة.
وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] وفي قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} إلى قوله
(1/665)
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]
والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد. وقوله {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} جاء بلفظ "اتخذ" تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله.
والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل القتل جناية عظيمة فلا تكفر مثل الردة.
وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشيء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا نؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته.
جاء في التوراة في ألإصحاح 14 من سفر التثنية أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم وفي إنجيل متى الإصحاح 5 طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون وفيه وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات وفي الإصحاح 6 انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث الخلق عيال الله.
وقوله {سبحانه} تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولدية نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه.
(1/666)
وقوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إضراب عن قولهم لإبطاله، وأقام الدليل على الإبطال بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك "وما في السماوات والأرض" أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية.
وما من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره على المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في المفصل واختاره الرضي. وقيل ما تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن يختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود.
والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء {قانتون} بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة.
والمضاف إليه المحذوف بعد كل دل عليه قوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين كل تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: من الآية148] في هذه السورة. وفي قوله: {لَهُ قَانِتُونَ} حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبر به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له.
وفصل جملة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.
[117] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم
(1/667)
في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع.
والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولداتها فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع، وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع ومجيء فعيل من أفعل قليل، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع1
يريد المسمع. ومنه أيضا قول كعب بن زهير:
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلك
أي كأسا مروية. فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] ويأتي في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119] وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريبا. وأما كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى.
وذهب صاحب الكشاف إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم
ـــــــ
1 أغار الصمت بن بكر الجشمي في خيل من قيس على بني زبيد رهط عمرو فسبى الصمة بن بكر ريحانة أخت عمرو ولم يستطع عمرو افتكاكها منه فرغب من الصمة أن يردها إليه فابى وذهب بها وهي تنادي ياعمرو ياعمرو فقال عمرو هاته الأبيات وبعدها:
سباها الصمة الجشمي غصبا ... كأن بياض غرتها صديع
وحالت دونها فرسان قيس ... تكشف عن سواعدها الدروع
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وكله للزمان فكل خطب ... سما لك أو سموت له ولوع
هذا هو الصحيح وللروات في هذه القصة اختلافات لا يعتد بها.
(1/668)
الجلالة ليكون ضميره فاعلا لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر، أي بديعة سماواته.
وأما بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدهما أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير مطرد. الثاني أن سميع وصفا للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود. الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم.
ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما. فلا شيء من تلك الموجودات أهل لأن يكون ولدا له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 116] ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السماوات والأرض في سورة الأنعام [10] بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}
وقوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكون الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.
و"كان" في الآية تامة لا تطلب خبرا أي يقول له إيجد فيوجد والظاهر أن القول والمقول. والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن القريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب
(1/669)
الكشاف ونظره بقول أبي النجم:
إذ قالت الأنساع للبطن ألحق ... قدما فآضت كالفنيق المحنق1
والذي يعين كون هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
[118] {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
عطف على قوله { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} المعطوف على قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى} [البقرة: 113]. لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لأنهم الذين ابتدأوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول أهل الكتاب.
وجمع الكل في {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول أهل الكتابين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب: الملائكة بنات الله.
وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم. فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى. إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم.
و {لولا} هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة
ـــــــ
1 الأنساع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد على بطن الراحلة. ومعنى قولها للبطن ألحق أنها شدت على البطن حتى ضمر البطن والتحق بالظهر. والقدم بضم القاف وضم الدال المضي سريعا وسكنه للضرورة والفنيق؛ الفحل. والمحنق: الضامر
(1/670)
لا يقولها أهل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل.
وقوله: {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء:90]
الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف.
وقوله: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: من الآية55] وسأل النصارى عيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]
وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] الآية. ثم يجوز أن تكون جملة: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر. وتكون جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة.
ويجوز أن تكون جملة {كذلك} قال إلى آخرها معترضة بين جملة {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وبين جملة {قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ} وتجعل جملة {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} هي الجواب عن مقالتهم والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]. ووقع الإعراض عن جواب قولهم : {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى
(1/671)
رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان:21]
والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} على نحو القول في الآية الماضية {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113]
وقوله {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} تقرير لمعنى {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية. وقوله {تشابهت} صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابيء:
تشابه دمعي إذ جرى ومداميتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتي الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر.
وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين.
وتبين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم، وفي الحديث ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.
[119] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]
(1/672)
جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقي منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأسيس من إيمان اليهود والنصارى.
وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول.
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلى الله عليه وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك.
وقوله: {بالحق} متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه القرآن والمعجزات وهي كلها ملابسة للنبيء صلى الله عليه وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد. فالمعنى أنك رسول الله وأن القرآن حق منزل من الله.
وقوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: من الآية117] المتقدم آنفا وقيل البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه.
وقوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} الواو للعطف وهو إما على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أو على الحال في قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} ويجوز كون الواو للحال.
قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أن لا حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم لأن المعنى بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه. أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى أن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في
(1/673)
فظاعتها وشناعتها، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسؤول عنه نحو قول عائشة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو "فإن قلت" للاهتمام.
وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن لا نافية اي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم "وكلكم مسؤول عن رعيته" أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة.
وما قيل أن الآية نزلت في نهيه صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.
[120] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
عطف على قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: من الآية119] أو على: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: من الآية119] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: من الآية43] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
والنفي بلن مبالغة في التأنيس لأنها لنفي المستقبل وتأييده.
والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها، ويحتمل أنها مشتقة من أمل الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت دينا باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم.
ومعنى الغاية في: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته، ولما كان اتباع النبي ملتهم مستحيلا كان رضاهم عنه كذلك على حد {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ
(1/674)
فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: من الآية40] وقوله {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله {ولا النصارى} للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئا من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك} [المائدة: 82] وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبي لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيهم.
وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أمر بالجواب عما تضمنه قوله {وَلَنْ تَرْضَى} من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يرضيهم شيء مما يدعوهم النبي إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: من الآية111] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فعل القول بدون حرف العطف.
ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} و {هُدَى اللَّهِ} ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله، فالقصر حقيقي.
ويجوز أن يكون المراد بهدى الله الذي أنزله إلي هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالا لغرورهم بأن ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال، والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل. فإضافة الهدى إلى الله تشريف، والقصر إضافي. وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه. فيكون القصر إما حقيقيا ادعائيا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44] وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] وإما فصرا إضافيا أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصايح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص.
وقوله: {هُوَ الْهُدَى} الضمير ضمير منفصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس
(1/675)
الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيدا للقصر وللخبر أيضا.
والتوكيد بأن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من المتأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف "إن" اهتماما بتأكيد هذا الحكم. فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي: حرف إن. والقصر، إذ القصر تأكيد على تأكيد كما في المفتاح فهو في قوة مؤكدين، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف "إن".
ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: من الآية143] فأعلم رسوله بقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس.
وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له. وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظرا لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فإن الهوى رأى ناشئ عن شهوة لا عن دليل، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيب بالنبي وبالقرآن واعتقادهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر.
وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى، جاء على طريقة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم مثل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها. وجيء بأن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبي والمسلمين.
والولي القريب والحليف. والنصير كل من يعين أحدا على من يريد به ضرا وكلاهما
(1/676)
فعيل بمعنى فاعل.
و"من" في قوله {مِنَ اللَّهِ} متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد {وَلا نَصِيرٍ} . أي نصير من الله. و"من" في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} مؤكدة للنفي. وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفي ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم.
وقد اشتملت جملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإن. وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} . وتأكيد النفي بمن في قوله {مِنْ وَلِيٍّ} والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله من العلم. وجعل الذي جاء "أي أنزل إليه" هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد {مِنْ وَلِيٍّ} بعطف {وَلا نَصِيرٍ} . الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهو كالتأكيد بالمرادف.
[121] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
استئناف ناشئ عن قوله {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة: 120} مع قوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى كأن سائلا سأل كيف وهم متمسكون بشريعة ومن الذي هو على هدى ممن اتبع هاتين الشريعتين.
فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وتلوه حق تلاوته هم الذين يؤمنون به. ويجوز أن يكون اعتراضا في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب. وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}
(1/677)
[البقرة: 91] الخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعبر والبيان. فقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة وهو من باب رد العجز على الصدر. ولأحد هذين الوجهين فصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ولما انتقل منه إليه وهو قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118] وقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته وانتصب {حَقَّ تِلاوَتِهِ} . على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوة حقا.
و"الحق" هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قوام نوعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ ولم يفهم جميع ما أراده قائله كانت تلاوته غامضة فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو.
وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول، وجيء، باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أو حديتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم. فالقصر ادعائي. فضمير {به} راجع إلى الكتاب من قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبي الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير {به} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد.
ويجوز أن يعود الضمير من قوله {يُؤْمِنُونَ بِهِ} إلى الهدى في قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد. ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى.
(1/678)
والقول في قوله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كالقول في {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وهو تصريح بحكم مفهوم {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون.
[123,122] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}
أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله فإنه ابتدأ نداءهم أولا بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: من الآية46] فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييدا لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد العجز على الصدر.
وقد أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنالك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف بين الآيتين إلا في الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: من الآية48] وأخر: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: من الآية48] وهنا قدم: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} وأخر لفظ الشفاعة مسندا إليه {تنفعها} وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير، وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس. وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضا.
والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولا قد جعل في الآيتين أولا وذكر الآخر بعده. وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء. ومرة يقدمون
(1/679)
الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء.
وقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن الله له. قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله:
على لا حب لا يهتدي بمناره1
يريد أنها كناية عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم:
ولا ترى الضب بها ينجحر2
وهو ما يعبر عنه المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن يكون استعمالا في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان.
والقول في بقية الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها.
وهنا ختم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع.
ـــــــ
1 قائله امرؤ القيس وقبله:
وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزدرا
على لا حب إلخ.... ... إذا سافه العوذ الديا في جرجرا
الفرانق بضم الفاء وكسر النون هو الذي يدل صاحب البريد. وأزدروا أفعل تفضيل لغة في أصدرا قريء بها قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة: 6] اللاحب: الطريق الواسع. والمنار العلامة. وسافه: شده. والديافي منسوب إلى دياف- بكسر الدال- قرية تنسب لها كرام الإبل وجرجرا: أي صوت. والمعنى أنه يعدانه إذا رجع ليعيدن السير في طريق صعبة المسالك. وفي "شرح التفتزاني على المفتاح" في باب الإيجاز والإطناب ذكر أول هذا البيت هكذا
سدا بيديه ثم أج بسيره ... على لاحب...إلخ
قال وهو في وصف ظليم وسدا بمعنى مد وهو مجاز عن السرعة. وأج الظليم إذا جرى وسمع له حفيف.
2 ينجحر أي يدخل جحره وهو بجيم ثم حاء وقيل هذا المصراع قوله:
لا تفزع الأرنب أهوالها
كذا في "شرح التفتزاني على المفتاح" في باب الإيجاز.
(1/680)
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]
لما كملت الحجج نهوضا على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة: 40] مرتين، وأدمج معهم النصارى استطرادا مقصودا، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه، وكانوا قد وخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبي والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء، ومن قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] ، ومن قولهم {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} . فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملا فيما اختصوا به، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملا فيما اختصوا به، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل، هي الاتحاد في المقصد، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم، والتخويف، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية. والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعا له، لأن العرب أشد اختصاصا بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه، ومنتمين قديما للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين.
فحقيق أن نجعل قوله {وَإِذِ ابْتَلَى} عطفا على قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، ثم عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة: 38] الآية، ثم خص من بين
(1/681)
ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك، ثم طوى بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133] ليفضي إلى قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى. وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.
ومن الناس من زعم أن قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى} عطف على قوله: {نعمتي} أي اذكر وأنعمتي وابتلائي إبراهيم، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل، وتخلل {وَاتَّقُوا يَوْماً} [البقرة: 48] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية، وقد أدمج في ذلك قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيها على مزية هذا الدين.
والابتلاء افتعال من البلاء، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمنا انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامره ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل
(1/682)
ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فتكون جملة {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} بدل بعض من جملة {وَإِذِ ابْتَلَى} ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} تفسيرا لابتلى.
والإمام الرسول والقدوة.
و"إبراهيم" اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح وتسمي العرب تارح آزر بن ناحور بن سروج، ابن رعو، ابن فالح، ابن عابر ابن شالح ابن ارفكشاد، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة، ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أبا لجمهور من الأمم، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة.
ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان وهي أرض الفنيقين فأقاموا بحاران هي حوران ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جارية مصرية اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك.
وتوفي إبراهيم سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، وفي اسمه لغات للعرب: إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم، الثالثة إبراهم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وذكر أبو شامة في شرح حرز الأماني عن الفراء في إبراهيم ست لغات:
إبراهيم، أبراهام، إبراهوم، إبراهم، بكسر الهاء ، إبراهم بفتح الهاء إبراهم بضم الهاء.
ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعا سيقع التنبيه عليها في مواضعها، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في
(1/683)
معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء، قال أبو عمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوبا إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال سمعت أبا خليد القارئ يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام قال أبو خليد فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له إن أهل دمشق يقرأون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق.
وتقديم المفعول وهو لفظ "إبراهيم" لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم.
والكلمات الكلام الذي أوحى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: من الآية100]، وأجملها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لتكاليف فأتى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة، ولعل جمع الكلمات جمع السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة، فلعل منها الأمر بذبح ولده، وأمره بالاختتان، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106]
وقوله: {فأتمهن} جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع.
وتعدية فعل أتم إلى ضمير كلمات مجاز عقلي، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [لنجم:37]
وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105]، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر، فدل قوله {فأتمهن} مع إيجازه على الامتثال وإتقانه والفور فيه. وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتلى
(1/684)
فامتثل كقولك دعوت فلانا فأجاب.
وجملة: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما اقتضاه قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} من تعظيم الخبر والتنويه به، لما يقتضيه ظرف إذ من الإشارة إلى قصة من الإخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله: {ابتلى} .
والإمام مشتق من الأم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فعال من صيغ الآلة سماعا كالعماد والنقاب والإزار والرداء، فأصله ما يحصل به الأم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي.
والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع. وإنما عدل عن التعيين بـ {رسولا} إلى {إماما} ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر، وكان في جميع منازلة محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء، وقد قيل إن دين برهما المتبع في الهند أصله منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية، وليتأتى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامة بأنواعها من رسالة وملك وقدوة على حسب التهيؤ فيهم، وأقل أنواع الإمامة كون الرجل الكامل قدوة لبنيه وأهل بيته وتلاميذه.
وقوله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} جواب صدر من إبراهيم فلذا حكى بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطب كلاما على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلا لنفسه في منزلة المتكلم يكمل له شيئا تركه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيلقنه السامع تداركه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب.
وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله بايعت النبي على شهادة أن لا إله إلا الله الخ فشرط على والنصح لكل مسلم، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه
(1/685)
فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير: "إن وراكبها"، وقد لقبوه عطف التلقين كما في شرح التفتزاني على الكشاف وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف، والأولى أن تحذف كلمة عطف ونسمى هذا الصنف من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلم ما يراه حقيقا بأن يلحقه بكلامه، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا، وقد يكون بطريقة الاستفهام الانكاري والحال كقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} [البقرة: 170] فإن الواو مع لو الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حرم مكة "لا يعضد شجره" فقال العباس إلا الإذخر لبيوتنا وقيننا، وللكلام المعطوف عطف التلقين من الحكم حكم الكلام المعطوف هو عليه خبرا وطلبا، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث "إلا الإذخر"، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمول الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عطف المأمور مفعولا على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي. والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعل بعض من ذريتي.
والذرية نسل الرجل وما توالد منه ومن أبنائه وبناته، وهي مشتقة إما من الذر اسما وهو صغار النمل، وإما من الذر مصدرا بمعنى التفريق، وإما من الذرى والذرو بالياء والواو وهو مصدر ذرت الريح إذا سفت، وإما من الذرء بالهمز وهو الخلق، فوزنها إما فعلية بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دهر دهري بضم الدال، وإما فعيلة أو فعولة من الذرى أو الذرو أو الذرء بإدغام اليائين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف.
وإنما قال إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ولم يقل وذريتي لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدي بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل
(1/686)
لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتا فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فوهم جاهلي، وإلا فإن بني الأبناء أيضا بنوهم أبناء النساء الأباعد، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم. وكذا قول....
وإنما أمهات الناس أوعية ... فيها خلقن وللأبناء أبناء
فذلك سفسطة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14].
وقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز، وإنما لم يذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضا بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يحرمون من دعوته، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:67 68] ولأن المربى يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين.
و {يًنَالُ} مضارع نال نيلا بالياء إذا أصاب شيئا والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد. وسمي وعد الله عهدا لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهدا ولذلك سماه النبي عهدا في قوله أنشدك عهدك ووعدك، أي لا ينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف.
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدا بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين.
(1/687)
والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} والظلم يشمل أيضا عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى.
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم. وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد.
وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعنى سائر ولايات المسلمين: الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر الدين قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له. وفي تفسير ابن عرفة تسليم ذلك ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل.
وقرأ الجمهور من العشرة "عهدي" بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء.
[125] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
(1/688)
تدرج في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة، وإذ أضافها إلى جلالته فقال بيتي، واستهلال لفضيلة القبلة الإسلامية، فالواو عاطفة على {ابتلى} وأعيدت إذ للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل، ولأن الواو لا تفيد ترتيبا.
والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكنا لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض. وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلا به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقرا له وكنا يكنه من البرد والحر وساترا يستتر فيه عن الناس ومحطا لأثاثه وشئونه، وقد يكون خاصا وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة، وقد يكون من أديم مثل القباب، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: من الآية80] ولا يكون بيتا إلا إذا كان مستورا أعلاه عن الحر والقر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام.
والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا. وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس.
والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وفي قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 37] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به.
(1/689)
والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم، فتعريف الناس للجنس المعهود، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس.
ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كمل الزائرين فهم يعودون إليه مرارا، وكذلك كان الشأن عند العرب.
والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة. والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف، فجعل الله البيت أمنا للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] فهذه منة على أهل الجاهلية، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمنا كافيا. قال السهيلي فقوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: من الآية97] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام.
وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: من الآية191] الآية وليس من غرض هذه الآية.
والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع
(1/690)
من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافا من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] أي أمن هنا، وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنا في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم، أو هو خبر مراد به الأمر مثل {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفا على {جعلنا} فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفا بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال، فمآل القراءتين، إلى مفاد واحد.
و مقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده، قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]إذ الدخول من علائق البيت، ويطلق مقام إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري، وقد ثبتت آثار قدميه في الحجر. قال أنس بن مالك رأيت في المقام أثر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام، وقد ركع النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف.
(1/691)
والمصلى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحجر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخذا من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين.
والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحجر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصا بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجها للمسلمين فتكون جملة {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} معترضة بين جملة {جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} وجملة {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} اعتراضا استطراديا، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر فنزلت أنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم شرع الصلاة عند حجر المقام بعد أن لم يكن مشروعا لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين، إعمالا للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة.
وقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} العهد أصله الوعد المؤكد وقوعه وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: من الآية124] فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على الموصي العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهدا إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهدا، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل وقوله: {أَنْ طَهِّرَا} أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسر هو ما بعد أن فلا تقدير في الكلام ولولا قصد حكاية القول لما جاء بعد أن بلفظ الأمر، ولقال بتطهير بيتي الخ.
والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبد فيه مقبلا على العبادة دون تكدير، ومن تطهير معنوي
(1/692)
وهو أن يبعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كالطواف عريا دون ثياب الرجال والنساء.
وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلا لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} [لأنفال: من الآية34] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طواف واعتكاف، وصلاة وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكل من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم.
وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير، تفننا في الكلام وبعدا عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ} [التحريم: من الآية5] الآية، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، وقال ابن عرفة جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جنى في شرح الحماسة عند قول الأحوص الأنصاري:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
قال أبو الفتح جاز أن يتعلق علي ببوادر، وإن كان جمعا مكسرا والمصدر إذا كسر بعد بتكسيره عن شبه الفعل، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسرا نحو مواعيد عرقوب أخاه كان تعلق حرف الجر به أجوز. فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل.
وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير:
(1/693)
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود.
ولم يعطف السجود على الركع لأن الوصفتين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.
[126] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]
عطف على {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً} [البقرة: 125] لإفائدة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنينا إلى أحوالهم، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: من الآية125]
واسم الإشارة في قوله: {هَذَا بَلَداً} مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي جعل به امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء، أو الذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح.
وأصل أسماء الإشارة أن يستغني بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان، وقد يزيدون الإشارة بيانا فيذكرون بعد اسم الإشارة اسما يعرب عطف بيان أو بدلا من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتمادا على حضور
(1/694)
المراد من اسم الإشارة. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو واقع عند الدعاء، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا ورزق أهله من الثمرات، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولا ثانيا استغنى عن بيان اسم الإشارة، وفي سورة إبراهيم لما جعل {آمنا} مفعولا ثانيا بين اسم الإشارة بلفظ البلد، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمنا.
والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامرا أو غامرا، وهو أيضا الأرض مطلقا، قال صنان اليشكري:
لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب المنون فأضحى بيضة البلد
يريد بيضة النعام في أدحى النعام أي محل بيضة، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصا لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولا بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطورا والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.
والآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال ذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقا فتعين ذكر متعلقة، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة
كليني لهم يا أميمة ناصب
أي ذي نصب، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان، ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان. فالتقدير في الكلام
(1/695)
اجعل هذا المكان بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.
وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام الكشاف هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم [35] بقوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا.
ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا بد أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.
والثمرات جمع ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له، وكأن اسمه منتسب من اسم الثمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرطب وبالمثناة التمر اليابس.
وللثمرة جموع متعددة وهي ثمر بالتحريك وثمار، وثمر، بضمتين، وأثمار، وأثامير، قالوا ولا نظير له في ذلك إلا أكمة جمعت على أكم وإكام وأكم وآكام وأكاميم.
والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.
وقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ} بدل بعض من قوله: {أهله} يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبدل البعض مخصص.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان، فجعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] فقال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}
(1/696)
ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر فرنا.
وجملة {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة، وضمير {قال} عائد إلى الله، فمن جوز أن يكون الضمير في {قال} لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله: {فأمَتَّعُه}.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ} الأظهر أنه عطف على جملة: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ} باعتبار القيد وهو قوله: {مَنْ آمَنَ} فيكون قوله {وَمَنْ كَفَرَ} مبتدأ وضمن الرسول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله، لما قدمناه في قوله {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.
ومعنى "أمتعه" أجعل الرزق له متاعا، و {قليلا} صفة لمصدر محذوف بعد قوله: {فأمَتَّعُه} والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ}
وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ علىوجه الاستدراج، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي.
وقوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
و"ثم" للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى
(1/697)
العذاب متأخرا عن تمتيعه بالمتاع القليل.
والاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة، فالأصل أن يكون اضطر قاصرا لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غير جار على قياس يقال أضطره إلى كذا أي ألجأه إليه، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي.
[127] {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام، وتذكير بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً} [البقرة: 128] الخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذ تنبيها على الاستقلال.
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة.
وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة، وكلمة إذ قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي.
والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرلأرضلأ رض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن
(1/698)
اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علامة.
ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارا لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعا، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها، وفد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع. ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له. وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله.
وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف مواليا للمعطوف عليه.
وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح،
ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملا بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله، واسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق، وكان إسماعيل مقيما بمكة حول الكعبة، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريبا، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة.
وجملة {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مقول قول محذوف بقدر حالا من {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ} وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل
(1/699)
كان حينئذ صغيرا.
والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله {وَإِذْ يَرْفَعُ} حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال.
وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تعليل لطلب التقبل منهما، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم.
ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني.
[128] {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]
فائدة تكرير النداء بقوله: {ربنا} إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً} [البقرة: من الآية129]
والمراد بمسلمين لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد، ووجه تسمية ذلك إسلاما سيأتي عند قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: من الآية132]، وأما قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان.
ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسى هذا الاسم بعد
(1/700)
إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً} في سورة آل عمران [67].
ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: من الآية131] الآية.
وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} يتعين أن يكون {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} و {مُسْلِمَةً} معمولين لفعل {اجعلنا} بطريق العطف، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما، ومن في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: من الآية124].
ومن هنا ابتدئ التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك، والتمهيد لشرف الدين المحمدي.
والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي بزنة فعلة وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليها قبائل العرب، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية، وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: من الآية38] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه.
وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: من الآية129] وأما من
(1/701)
أسلموا من بني إسرائيل مثل عبدالله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة.
وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا، ففعل {أرنا} هو من رأي العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في المفردات والزمخشري في المفصل وتعدت بالهمز إلى مفعولين. وحق رأي أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني شبيها برؤية البصر، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول أراني فلان الهلال طالعا، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند الزماني:
عسى أن يرجع الأيام ... قوما كالذي كانوا
وقال حطائط بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
فإن جملة مات هزلا ليست خبرا عن جوادا إذ المبتدأ لا يكون نكرة، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة.
وقرأ ابن كثير ويعقوب {وأرنا} بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفا أيضا، وجملة {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تعليل لجمل الدعاء.
والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقربا، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: من الآية200]
[129] {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
(1/702)
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]
كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا على تمام هديهم.
وإنما قال: {فيهم} ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولا إليهم فقط، ولذلك حذف متعلق {رسولا} ليعم، فالنداء في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ} اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.
وجاء في التوراة في الإصحاح 17 من التكوين ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم وقال له أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجودا بها سنة 736 ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه الحسام المحدود في الرد على اليهود: أن كلمة كثيرا جدا أصلها في النص العبراني "مادا مادا" وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمل لأن عدد حروف مادا مادا بحساب الجمل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد اه وتبعه على هذا البقاعي في نظم الدرر.
ومعنى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} يقرؤها عليهم قراءة تذكير، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع.
فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وما نسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكا للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك، قال النبىء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا" .
وجيء بالمضارع في قوله: {يتلو} للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته.
(1/703)
والحكمة العلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده، وعن مالك: الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئا من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} في هذه السورة [296].
والتزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك.
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 19] ، ثم العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: من الآية10] وقوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]
[131,130] {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى} إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل أفن الرأي، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء وإنما عدل من الفاء إلى الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكى عنه في الآيات السالفة وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنا لملة إبراهيم، والدلالة عن التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن تقول فهو رجل حكيم.
(1/704)
والاستفهام للإنكار والاستبعاد، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام فيكون كناية، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازا في الإنكار ويكون معناه معنى النفي، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية فإن الإعراض عن ملة إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد. ولما كان شأن المنكر المستبعد أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيها، والاستثناء قرينة على إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما الإنكار. والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضي أنه نقل من مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية سواء بقي اللفظ دالا على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه. ولك أن تجعل استعمال الاستفهام في معنى الإنكار مجازا بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة: الاستفهام الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء، والتحقيق أنه لا يطرد أن يكون بمعنى النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوما ولهذا فالاستثناء هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأن مجيبا أجاب السائل بقوله لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
والرغبة طلب أمر محبوب: فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا التضمين في الكلام حتى صار منسيا،
والملة الدين وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]
وسفه بمعنى استخف لأن السفاهة خفة العقل واضطرا به يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة.
(1/705)
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
ومنه السفاهة في الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة والسفه في المال وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته. وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاسخفاف ينشأ عنه الإهانة وسفه صار سفيها وقد تضم الفاء في هذا.
وانتصاب {نفسه} إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سفهت نفسه أي خفت، وطاشت فحول الإسناد إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصدا للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت صفة لجثمانه، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيرا لذلك الإبهام في الإسناد المجازي، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفة بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي.
والمقصود من قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام مقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها ملة إبراهيم قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: من الآية123] وقال في الآية السابقة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: من الآية128] وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: من الآية132] إلى قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: من الآية132]
وجملة {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى إذ جعله للناس إماما وضمن له النبوءة في ذريته وأمره ببناء مسجد لتوحيده واستجاب له دعواته.
وقد دلت تلك الجمل على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين. واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة.
ولأجل الاهتمام بهذا الخبر الأخير أكد بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ} إلى آخره اعتراض بين جملة اصطفيناه وبين الظرف وهو قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه، قصد من هذه الظرفية التخلص إلى منقبة أخرى، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله
(1/706)
بوحي وأمره بما تضمنه قوله: {أسلم} من معان جماعها التوحيد والبراءة من الحول والقوة وإخلاص الطاعة، وهو أيضا وقت ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كل ميسر لما خلق له.
وقد فهم أن مفعول {أسلم} ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وشاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] كما سيأتي قريبا.
وقوله {قَالَ أَسْلَمْتُ} فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
وقوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ} مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا، قال ابن عرفة إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله اه. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.
[132] {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.
والإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما، وفي فوته ضر، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصي ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133]، وفي حديث العرباض وعظنا رسول الله موعظة منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا الحديث، وإما بالنسبة إلى الموص كالوصية عند
(1/707)
السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لليمن كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس" ، وجاء رجل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال له أوصني قال: "لا تغضب" .
فوصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [:133] وإما في مظان خشية الفوات.
والضمير المجرور بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته، وإن كان الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.
وبنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه، ومديان، ومدان، وزمران، ويقشان، وبشباق، وشوح، وهؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليه السلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل هو شعيب كان كاهن أهل مدين. وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الأرامية تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان بلد الخليل حيث دفن جده وأبوه عليهم السلام.
وعطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل "الذي هو يعقوب" بوصية جدهم فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.
وقوله {يابني} إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم وسيجيء ذكر وصية يعقوب. ولما كان فعل أوصى متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية لتفسر جملة أوصى، وإنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو
(1/708)
بمعناه والأكثر أن يحكى بالمعنى، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه ما عدا مخالفة المفردات العربية عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن التفسيرية بحال، ولهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا للكوفيين القائلين بأن وصى ونحوه ناصب للجملة المقولة، ويشبه أن يكون الخلاف بينهم لفظيا.
و {اصْطَفَى لَكُمُ} اختار لكم الدين أي الدين الكامل، وفيه إشارة إلى أنه أختاره لهم من بين الأديان وأنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله، وأراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
ومعنى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} النهي عن مفارقة الإسلام أعنى ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهى أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على ترك المنهي.
وللعرب في النهي المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة: الأول: أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي لا ترتكب أسباب النسيان، ومثل قولهم لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن معرفة المتكلم لا ينهي عنها المخاطب، وفي الحديث فلا يذادن أقوام عن حوضي ، الثاني: أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب ولا يريد المتكلم النهي عنه ولكن عما يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء ويقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة، ومنه قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الثالث: أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول ويجعله مفيدا مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا ولو لم يفعل أحدهما نحو لا تجئني سائلا وأنت تريد أن لا يسألك فإما أن يجيء ولا يسأل وإما أن لا يجيء بالمرة، وفي الثانية إثبات أن بني إبراهيم ويعقوب كانوا على ملة الإسلام وأن الإسلام جاء بما كان عليه إبراهيم وبنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم، وفيه إيماء إلى أن ما طرأ على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت وهي دون الكمال الذي كان عليه إبراهيم ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإَسْلامُ} [آل عمران: 19] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ
(1/709)
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
[133] {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]
تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، وتمهيد لإبطال قولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها. وقد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي والبغوي بدون سند، ويدل عليه قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140] الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوي اليهود ونقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} إلخ.
و {أم} عاطفة جملة {كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} على جملة {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت، وهي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم ويعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر، ولما كانت أم يلازمها الاستفهام كما مضى عند قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: من الآية108] إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق، فتعين أن الاستفهام مجاز: ومحمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي، ولأن مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري،
ثم إن كون الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم، خلافا لمن جوز كون الخطاب للمسلمين من المفسرين، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة وغفلوا عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري وبين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في الإنكار مجازا بدلالة المطابقة وهو يستلزم النفي بدلالة الالتزام، ومن العجيب وقوع
(1/710)
الزمخشري في هذه الغفلة. فتعين أن المخاطب اليهود وأن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من سياق الكلام وسوابقه وهو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية وأوصى بها فلزمت ذريته، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا وهو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم يشهدوا كما سيأتي، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل القصة تعليما وتفصيلا واستقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره وما أجابه أبناؤه ذلك بداخل في حيز الإنكار، فالإنكار ينتهي عند قوله: {الموت} والبقية تكملة للقصة، والقرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فلما قال هنا: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} علم السامع موقع الإنكار، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب نعبد إلهك لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر، وبذلك يستقر كلا الكلامين في قراره، ولم يكن داع لجعل أم متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له، كأن يقدر أكنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء وأن الخطاب لليهود أو للمسلمين والاستفهام للتقرير، ولا لجعل الخطاب في قوله {كنتم} للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم احتضار يعقوب أي على حد {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: من الآية44] وحد {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران: من الآية44] كما حاوله الزمخشري ومتابعوه، وإنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود وهو من الإيجاز والإكمال إذ جمع الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه، وتعليمهم ما جهلوه، ولأجل التنبيه على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ليكون كالبدل من {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} فيكون مقصودا بالحكم أيضا.
والشهداء جمع شهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر والشأن، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
وقوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من مجيء القول في المحاورات كما قدمنا، فقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية، أي ولو شاهدتم
(1/711)
ما اعتقدتم خلافها فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم وأنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة، وبهذا تعلمون وجهة الاقتصار على نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعي لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} بدل من {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وفائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت، هي قصد استقلال الخبر وأهمية القصة وقصد حكايتها على ترتيب حصولها، وقصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو من حدث هام سيحكي بعدها فيترقبه السامع.
وهذه الوصية جاءت عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي فيكون له رسوخ في نفوس الموصين، أخرج أبو داوود والترمذي عن العرباض بن سارية قال وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا الحديث.
وجاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
واقترن ظرف {بعدي} بحرف من لقصد التوكيد فإن من هذه في الأصل ابتدائية فقولك جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.
وبنو يعقوب هم الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابنا: رأوبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، وهؤلاء أمهم ليئة ويوسف، وبنيامين، أمهما راحيل ودان ونفتالي، أمهما بلهة وجاد،وأشير أمهما زلفة.
وقد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء وأن يوسف كان رسولا.
(1/712)
وواحد الأسباط سبط بكسر السين وسكون الباء وهو ابن الابن أي الحفيد، وقد اختلف في اشتقاق سبط قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} في سورة الأعراف عن الزجاج الأظهر أن البسط عبراني عرب اه. قلت وفي العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.
وجملة: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} جواب عن قوله: {مَا تَعْبُدُونَ} جاءت على طريقة المحاورات بدون واو وليست استئنافا لأن الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام ولا تمام له قبل حصول الجواب،
وجيء في قوله: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ} معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد الله لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقنه منذ نشأتهم، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأسم تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين وأراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة وكانوا يعبدون آلهة أخرى. وأيضا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
وفي الإتيان بعطف البيان من قولهم: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول ربيعة بن نصر بن قعين:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وإنما أعيد المضاف في قوله: {إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام وليست بواجبة، وإطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل وهو عم ليعقوب إطلاق من باب التغليب ولأن العم بمنزلة الأب.
وقد مضى التعريف بإبراهيم وإسماعيل.
وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة وأمه سارة ولد سنة 1896 ست وتسعين وثمانمائة وألف قبل ميلاد المسيح وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب لهم.
واليهود يقولون إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق، والحق أن الذي أمر بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره ليظهر كمال
(1/713)
الامتثال ومن الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن إسحاق وحيدا قط، وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد ودفن مع أبيه وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون "بلد الخليل"
وقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه فقوله: {إلها} حال من إلهك ووقوع إلها حالا من {إلهك} مع أنه مرادف له في لفظه ومعناه إنما هو باعتبار إجراء الوصف عليه بواحدا فالحال في الحقيقة هو ذلك الوصف، وإنما أعيد لفظ إلها ولم يقتصر على وصف واحدا لزيادة الإيضاح لأن المقام مقام إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد وتوكيد لما قبله، وهذا أسلوب من الفصاحة إذ يعاد اللفظ ليبني عليه وصف أو متعلق ويحصل مع ذلك توكيد اللفظ السابق تبعا، وليس المقصود من ذلك مجرد التوكيد ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: من الآية72] وقوله : {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} وقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:132, 133] إذ أعاد فعل أمدكم وقول الأحوص الأنصاري:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
قال ابن جنى في شرح الحماسة محال أن تقول إذا قمت قمت لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: من الآية63] وقد كان أبو على امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك.
وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله: {إِلَهاً وَاحِداً} بدلا من إلهك بناء على جواز إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة مثل {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 63] أو أن يكون منصوبا على الاختصاص بتقدير امدح فإن الاختصاص يجيء من الاسم الظاهر ومن ضمير الغائب.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} جملة في موضع الحال من ضمير {نعبد} ، أو معطوفة على جملة {نعبد} ، جيء بها اسمية لإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه بعد أن أفيد بالجملة الفعلية المعطوف عليها معنى التجدد والاستمرار.
[134] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا
(1/714)
يَعْمَلُونَ}
عقبت الآيات المتقدمة من قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذرا لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فأن لنا من فضل آبائنا مسلكا لنجاتنا، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال.
والإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة.
والأمة تقدم بيانها آنفا عند قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]
وقوله {قَدْ خَلَتْ} صفة لأمة ومعنى خلت مضت، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به، ولذا فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية بدل من جملة قد خلت بدل مفصل من مجمل.
والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم، فقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} تمهيد لقوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إذ هو المقصود من الكلام، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه.
ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب.
وتقديم المسندين على المسند إليهما في: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم.
وقوله: {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} معطوف على قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت، فإن جعلت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} خاصا بالأعمال الصالحة فقوله: {وَلا تُسْأَلونَ} إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من
(1/715)
الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل. وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير:
لعمري لنعم الحي جر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
فنفى أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين، وإن جعلت قوله: {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} مرادا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله: {وَلا تُسْأَلونَ} إلخ احتراسا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم.
[135] {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}
الظاهر أنه عطف على قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] ، فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه.
ووجه الحصر حاصل من جزم تهتدوا في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من لم يكن يهوديا لا يراه اليهود مهتديا ومن لم يكن نصرانيا لا يراه النصارى مهتديا أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم.
والواو في {قالوا} عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133] وقوله {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}
و "أو" في قوله: {أَوْ نَصَارَى} تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلا إلى من قاله، وجزم {تهتدوا} في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين.
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
(1/716)
جردت جملة "قل" من العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} على نحو ما تقدم أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان.
وانتصب "ملة" بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن {كُونُوا هُوداً} بمعنى اتبعوا اليهودية، ويجوز أن ينصب عطفا على {هودا} والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن حاتم لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم: إني من دين أو من أهل دين يعني النصرانية،.
والحنيف فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس فيما ترقصه به:
والله لولا حنف برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله
والمراد الميل في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد. وإنما كان هذا مدحا للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة. والوجه أن يجعل حنيفا حالا من إبراهيم وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالا لملة إلا أن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: من الآية56] أي إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول.
وقد دلت هذه الآية على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم.
وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} غلط فيه صاحب الكشاف غلطا فاحشا كما سيأتي.
[136] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
(1/717)
بدل من جملة: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} [البقرة: 135] لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}
والأمر بالقول أمر بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلا لها وكمالا لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ بقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} واختتم بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ووسط ذكر ما أنزل على النبيين بين ذلك.
وجمع الضمير ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك. وجعله بدلا يدل على أن المراد من الأمر في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} النبي وأمته.
وأفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبي فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} إلخ وقوله الآتي {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: من الآية139] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعنى قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبي، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها، وأما في قوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ} إلخ فلكونه جوابا مواليا لقولهم: {كُونُوا هُوداً} [البقرة: 135] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع، وأما في قوله الآتي: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في {أَتُحَاجُّونَنَا} ، و {ربنا} ، و {لنا} ، و {أعمالنا} ، و {نحن} ، و {مخلصون} ، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها.
(1/718)
وقدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.
والمراد بما أنزل إلينا القرآن، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضا، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه، ولذلك قدم: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} للاهتمام به، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ أنزل وفي بعضها بلفظ أوتي تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مرارا، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنبا لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى.
والأسباط تقدم ذكرهم آنفا.
وجملة: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام، قال أبو على بن سينا في الإشارات ردا على من انتصر في الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه.
وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض.
وأحد أصله وحد بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه همزة تخفيفا ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1]
واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وهذا الاستعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6]
(1/719)
وقد يكون تعميمه في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] وقول العرب: أحد لا يقول ذلك، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في حالة النفي.
وبهذا يظهر أن أحد لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف، وهذا يجمع مشتت كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم.
وقد دلت كلمة {بين} على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر.
وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
[137] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]
كلام معترض بين قوله {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] وقوله {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيرا وإن تردد فيه بعض النحاة والتفريع على قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} والمراد من القول أن يكون إعلانا أي أعلنوا دينكم واجهروا بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافا لزعمهم أنهم عليه من قولهم: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير مؤمنين بالإسلام.
وجاء الشرط هنا بحرف إن المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو.
والباء في قوله: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم، فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست مشابهة معتبرا فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق، وقيل لفظ مثل زائد، وقيل الباء للآلة والاستعانة، وقيل الباء زائدة، وكلها وجوه متكلفة.
(1/720)
وقوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي فقد تبين أنهم ليسوا طالبي هدى ولا حق إذ لا أبين من دعوتكم إياهم ولا إنصاف أظهر من هذه الحجة.
والشقاق شدة المخالفة، مشتق من الشق بفتح الشين وهو الفلق وتفريق الجسم، وجيء بفي للدلالة على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه ظرف محيط بهم, والإتيان بإن هنا مع أن توليهم هو المظنون بهم لمجرد المشاكلة لقوله {فَإِنْ آمَنُوا}
وفرع قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} على قوله: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم.
والسين حرف يمحض المضارع للاستقبال فهو مختص بالدخول على المضارع وهو كحرف سوف والأصح أنه لا فرق بينهما في سوى زمان الاستقبال. وقيل إن سوف أوسع مدى واشتهر هذا عند الجماهير فصاروا يقولون سوفه إذا ماطل الوفاء بالآخر، وأحسب أنه لا محيص من التفرقة بين السين وسوف في الاستقبال ليكون لموقع أحدهما دون الآخر في الكلام البليغ خصوصية ثم إن كليهما إذا جاء في سياق الوعد أفاد تخفيف الوعد ومنه قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: من الآية47] فالسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يكفيه سوء شقاقهم.
ومعنى كفايتهم كفاية شرهم وشقاقهم فإنهم كانوا أهل تعصب لدينهم وكانوا معتضدين بأتباع وأنصار وخاصة النصارى منهم، وكفاية النبيء كفاية لأمته لأنه ما جاء لشيء ينفع ذاته.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اي السميع لأذاهم بالقول العليم بضمائرهم أي اطمئن بأن الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم بكثرتهم، وفي قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وعد ووعيد.
[138] {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]
هذا متصل بالقول المأمور به في: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] وما بينها اعتراض كما علمت والمعنى آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى الأنبياء من قبل إيمانا صبغة الله.
وصبغة بكسر الصاد أصلها صبغ بدون علامة تأنيث وهو الشيء الذي يصبغ به
(1/721)
بزنة فعل الدال على معنى المفعول مثل ذبح وقشر وكسر وفلق. واتصاله بعلامة التأنيث لإرادة الوحدة مثل تأنيث قشرة وكسرة وفلقة. فالصبغة الصبغ المعين المحضر لأن يصبغ به. وانتصابه على أنه مفعول مطلق نائب عن عامله أي صبغنا صبغة الله كما انتصب {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] بعد قوله: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 5] بتقدير وعدهم النصر. أو على أنه بدل من قوله: {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي الملة التي جعلها الله شعارنا كالصبغة عند اليهود والنصارى، أو منصوبا وصفا لمصدر محذوف دل عليه فعل {آمَنَّا بِاللَّهِ} والتقدير آمنا إيمانا صبغة الله، وهذا هو الوجه الملائم لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة، وما ادعاه صاحب الكشاف من أنه يفضي إلى تفكيك النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك، وهل الاعتراض والمتعلقات إلا من قبيل الفصل يتفكك بها الألفاظ ولا تؤثر تفككا في المعاني، وجعله صاحب الكشاف تبعا لسيبويه مصدرا مبينا للحالة مثل الجلسة والمشية وجعلوا نصبه على المفعول المطلق المؤكد لنفسه أي لشيء هو عينه أي أن مفهوم المؤكد بالفتح والتأكيد متحدان فيكون مؤكدا لآمنا لأن الإيمان والصبغة متلازمان على حد انتصاب {وَعْدَ اللَّهِ} من قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} توكيدا لمضمون الجملة التي قبله وهي قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: من الآية,4 5] وفيه تكلفان لا يخفيان.
والصبغة هنا اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنوانا على التوبة لمغفرة الذنوب والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضا في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام، وعند النصارى الصبغة أصلها التطهر في نهر الأردن وهو اغتسال سنه النبي يحيى بن زكرياء لمن يتوب من الذنوب فكان يحيى يعظ بهم الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزا للتطهر الروحاني وكانوا يسمون ذلك معموذيت بذال معجمة وبتاء فوقية في آخره ويقولون أيضا ممعوذيتا بألف بعد التاء وهي كلمة من اللغة الآرامية معناها الطهارة، وقد عربه العرب فقالوا معمودية بالدال المهملة وهاء تأنيث في آخره وياؤه التحتية مخففة.
وكان عيسى بن مريم حين تعمد بماء المعمودية أنزل الله عليه الوحي بالرسالة ودعا اليهود إلى ما أوحى الله به إليه وحدث كفر اليهود بما جاء به عيسى وقد آمن به يحيى فنشأ
(1/722)
الشقاق بين اليهود وبين يحيى وعيسى فرفض اليهود التعميد، وكان عيسى قد عمد الحواريين الذين آمنوا به، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيرا، وقد تعمد قسطنطين قيصر الروم. حين دخل في دين النصرانية، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم السابع من ولادته. وإطلاق اسم الصبغة على المعمودية يحتمل أن يكون من مبتكرات القرآن ويحتمل أن يكون نصارى العرب سموا ذلك الغسل صبغة، ولم أقف على ما يثبت ذلك من كلامهم في الجاهلية وظاهر كلام الراغب أنه إطلاق قديم عند النصارى إذ قال وكانت النصارى إذا ولد لهم ولد غمسوه بعد السابع في ماء معمودية يزعمون أن ذلك صبغة لهم.
أما وجه تسمية المعمودية صبغة فهو خفي إذ ليس لماء المعمودية لون فيطلق على التلطخ به مادة ص ب غ وفي دائرة المعارف الإسلامية1 أن أصل الكلمة من العبرية ص ب ع أي غطس. فيقتضي أنه لما عرب أبدلوا العين المهملة غينا معجمة لعله لندرة مادة صبغ بالعين المهملة في المشتقات وأيا ما كان فإطلاق الصبغة على ماء المعمودية أو على الاغتسال به استعارة مبنية على تشبيه وجهه تخييلي إذ تخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوبا مصبوغا وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم وخلقهم وأنشدوا لبعض ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة ... وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذلك أبناءنا ... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقد جعل النصارى في كنائسهم أحواضا صغيرة فيها ماء يزعمون أنه مخلوط ببقايا الماء الذي أهرق على عيسى حين عمده يحيى وأن ما تقاطر منه جمع وصب في ماء كثير ومن ذلك الماء تؤخذ مقادير تعتبر مباركة لأنها لا تخلو عن جزء من الماء الذي تقاطر من اغتسال عيسى حين تعميده كما قال في أوائل الأناجيل الأربعة.
فقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} رد على اليهود والنصارى معا أما اليهود فلأن الصبغة نشأت فيهم وأما النصارى فلأنها سنة مستمرة فيهم، ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة تأثير المحسوسات على عقائدهم رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل المشار إليهما
ـــــــ
1 في مادة الصابئة.
(1/723)
بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] أي إن كان إيمانكم حاصلا بصبغة القسيس فإيماننا بضبغ الله وتلوينه أي تكييفه الإيمان في الفطرة مع إرشاده إليه، فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة علاقتها المشابهة وهي مشابهة خفية حسنها قصد المشاكلة، والمشاكلة من المحسنات البديعية ومرجعها إلى الاستعارة وإنما قصد المشاكلة باعث على الاستعارة، وإنما سماها العلماء المشاكلة لخفاء وجه التشبيه فأغفلوا أن يسموها استعارة وسموها المشاكلة، وإنما هي الإتيان بالاستعارة لداعي مشاكلة لفظ للفظ وقع معه. فإن كان اللفظ المقصود مشاكلته مذكورا فهي المشاكلة، ولنا أن نصفها بالمشاكلة التحقيقية كقول ابن الرقعمق.1
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
استعار الطبخ للخياطة لمشاكلة قوله نجد لك طبخه، وإن كان اللفظ غير مذكور بل معلوما من السياق سميت مشاكلة تقديرية كقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل
استعار البناء للاصطفاء والاختيار لأنه شاكل به بناء المنزل المقدر في الكلام المعلوم من قوله قبل المنزل، وقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} من هذا القبيل والتقدير في الآية أدق من تقدير بيت أبي تمام وهو مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] على ما يتضمنه من التعميد.
والاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ومعناه لا أحسن من الله في شأن صبغته، فانتصب صبغة على التمييز، تمييز نسبة محول عن مبتدأ ثان يقدر بعد من في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} والتقدير ومن صبغته أحسن من الله أي من صبغة الله قال أبو حيان في البحر المحيط وقل ما ذكر النحاة في التمييز المحول عن المبتدأ.
وقد تأتي بهذا التحويل في التمييز إيجاز بديع إذ حذف كلمتان بدون لبس فإنه لما أسندت الأحسنية إلى من جاز دخول من التفضيلية على اسم الجلالة بتقدير مضاف لأن
ـــــــ
1 هو أحمد بن محمد الأنطاكي ويكنى أبا حامد توفي سنة 399هـ وكنى أبا الرقعمق "براء مفتوحة وقاف مفتزحة وعين ساكنة وميم مفتوحة آخره قاف" ولم أقف على معناه وهو ليس بعربي ولعله لفظ هزلي وقبل هذا البيت قوله:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... فأتى رسولهم إلي خصيصا
(1/724)
ذلك التحويل جعل ما أضيفت إليه صبغة هو المحكوم عليه بانتفاء الأحسنية فعلم أن المفضل عليه هو المضاف المقدر أي ومن أحسن من صبغة الله.
وجملة {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} عطف على {آمنا} وفي تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله {لَهُ عَابِدُونَ} إفادة قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية لكنهم عبدوا المسيح.
[139] {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}
استئناف عن قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] كما تقدم هنا لك، و {تحاجوننا} خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله الآتي: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140].
والاستفهام للتعجب والتوبيخ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حال أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته.
فلذلك كان لقوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلماذا لا يمن علينا بما من به عليكم.
فجملة {وَهُوَ رَبُّنَا} حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة، وكذلك جملة {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم، ارتقى فجعل مرجع رضي الله تعالى على عبادة أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم.
(1/725)
قال البيضاوي كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال.
وتقديم المجرور فيه {لَنَا أَعْمَالُنَا} للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا، وعطف {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى {وَلِيَ دِينِ} على قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6].
وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]
وجملة {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره، أي فلماذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منك إليه.
والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]
[140] {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
أم منقطعة بمعنى بل وهي إضراب للانتقال من غرض إلى غرض وفيها تقدير استفهام وهو استفهام للتوبيخ والإنكار وذلك لمبلغهم من الجهل بتاريخ شرائعهم زعموا أن إبراهيم وأبناءه كانوا على اليهودية أو على النصرانية كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} ولدلالة آيات أخرى عليه مثل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران:
(1/726)
67] ومثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65] والأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غرورا ومن دون تدبر اعتقدت ما لا ينتظم مع الدليل واجتمعت في عقائدها المتناقضات، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في الكعبة صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام في الكعبة فتلا قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ} - إلى قوله-: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: من الآية67] وقال والله إن استقسم بها قط، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فرماهم بفقد التعقل.
وقرأ الجمهور وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب بياء الغائب وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب على أن أم متصلة معادلة لقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: من الآية139] فيكون قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمرا ثانيا لاحقا لقوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} وليس هذا المحمل بمتعين لأن في اعتبار الالتفات مناصا من ذلك.
ومعنى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} التقدير، وقد أعلمنا الله أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وهذا كقوله في سورة آل عمران {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65]
وقد استفيد من التقرير في قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أنه أعلمهم بأمر جهلته عامتهم وكتمته خاصتهم ولذلك قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} يشير إلى خاصة الأحبار والرهبان الذين تركوا عامة أمتهم مسترسلين على عقائد الخطأ والغرور والضلالة وهم ساكتون لا يغيرون عليهم إرضاء لهم واستجلابا لمحبتهم وذلك أمر إذا طال على الأمة تعودته وظنت جهالتها علما فلم ينجع فيها إصلاح بعد ذلك لأنها ترى المصلحين قد أتوا بما لم يأت به الأولون فقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
هذا من جملة المقول محكي بقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك تذكيرا لهم بالعهد الذي في كتبهم عسى أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر إن كانوا مترددين أو أن يفيئوا إلى الحق إن كانوا متعمدين المكابرة.
(1/727)
ومن في قوله: {مِنَ اللَّهِ} ابتدائية أي شهادة عنده بلغت من جانب الله على لسان رسله. والواو عاطفة جملة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} على جملة: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
وهذا الاستفهام التقريري كناية عن عدم اغترار المسلمين بقولهم إن إبراهيم وأبناءه كانوا هودا أو نصارى وليس هذا احتجاجا عليهم. وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بقية مقول القول وهو تهديد لأن القادر إذا لم يكن غافلا لم يكن له مانع من العمل بمقتضى علمه وقد تقدمت نظائر هذا في مواضع.
[141] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]
تكرير لنظيره الذي تقدم آنفا لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماما بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة ومثل هذا التكرير وارد في كلام العرب، قال لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ضلالة ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها1
فإنه لما شبه الغبار المتطاير بالنار المشبوبة واستطرد بوصف النار بأنها هبت عليها ريح الشمال وزادتها دخانا وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه، أعاد التشبيه ثانيا لأنه غريب مبتكر.
ـــــــ
1 الضمير المثنى لحمار الوحش وإتانه المذكورين في قوله قبله "أو ملمع وسقت لا حقب لاحه" ومعنى تنازعا تسابقا في غبار ممتد والسبط الطويل يعلو ظله في الشمس والمشعلة صفة موصوف محذوف أي نار والمشمولة التي هبت عليها ريح الشمال ونابت العرفج الجديد نباته, والعرفج نبت معروف.
(1/728)
المجلد الثاني
تابع سورة البقرة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
[142] {سَيَقُوؤلُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]
قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأن التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلا ما ثبت أنه نزل متأخرا ويتلى متقدما.
والظاهر أن المراد بالقبلة المحمولة القبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب أسباب النزول الغليل في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.
والذي استقر عليه فهم أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة، وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارا لأن يقول المشركون، ما ولي محمدا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول أنه على ملة إبراهيم ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس، ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115]. وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] كما ذكرنا هنالك، وقد هلم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وآتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله
(2/5)
بعد الآيات المشيرة له وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلا بعد مقالة المشركين ويشمخ بأنوفهم يقولون غير محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } [البقرة:144] الآيات لأن مقالة المشركين أو توقعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبينه بقوله: {مِنَ النَّاسِ} فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريبا من الآي السابقة إلى قوله: {وَلا تُسْأَلونَ} [البقرة:134] الآية ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون وذكر القرطبي أنه قول الزجاج، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.
أما الذين فسروا {السُّفَهَاءُ} باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشئ عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس وذلك قد وقع الأخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داعي إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة1 من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه فقال السفهاء وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وأخرجه في كتاب الإيمان2 من
ـــــــ
1 انظر :"فتح الباري لابن حجر "1/502" دار المعرفة- كتاب الصلاة "31 باب التوجه نحو القبلة حيث كان.
2 المصدر السابق"1/95" دار المعرفة، كتاب الإيمان "30" باب الصلاة من الإيمان.
(2/6)
طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة، ولكن قال عوضها وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، وأخرجه في كتاب التفسير1 من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شئ من هاتين الزيادتين، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} بمعنى التحقيق لا غير أي قال السفهاء ما ولاهم.
ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف اختلاف الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جوابا عن سؤال مقدر.
والأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه معنى المضي وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم وقال في الكشاف فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه وقال الفخر إنه مختار القفال.
وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} [الإسراء:51] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120].
والسفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوما هو التنبيه على بلوغهم
ـــــــ
1 المصدر السابق "8/171، كتاب التفسير سورة البقرة "12" باب {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} إلخ
(2/7)
الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافا كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين.
وفعل "ولاهم" أصله مضاعف ولى إذا دنا وقرب، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ}، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيرا على التوسع فقالوا ولى فلانا وجهه مثلا دون أن يقولوا ولى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبأوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر قال تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [لأنفال:15] أصله فلا تولوا الأدبار منهم، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رفع لقيل ولي دبره الكافرين، ومنه قوله تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي نجعله واليا مما تولى أي قريبا له أي ملازما له فهذا تحقيق تصريفات هذا الفعل.
وجملة {مَا وَلَّاهُمْ} الخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال.
والاستفهام في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل.
والمراد بالقبلة في قوله: {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الجهة التي يولون إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات.
والقبلة في أصل الصيغة أسم على زنة فعلة بكسر الفاء وسكون العين، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازا وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر رضي الله عنه:
(2/8)
أليس أول من صلى لقبلتكم
والأظهر عندي أن تكون القبلة أسم مفعول على وزن فعل كالذبح والطحن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا: ما له في هذا الأمر قبلة ولا دبرة أي وجهة.
وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم، وهذا مما يعضد حمل "السفهاء" على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين، ومن فسر السفهاء باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حمل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنة وأشهر فصارت قبلة لهم.
وضمير الجمع في قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور الفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عوده على المسلمين.
و قوله: {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي كانوا ملازمين لها فعلى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لا رموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سن استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه: "إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لا سمك فأسمع صلاتهم وتضرعهم", الخ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلى لسليمان وقال له: قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي، وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من
(2/9)
بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله.
وقد قال ابن عباس ومجاهد: كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، وجرى كلام ابن العربي في "أحكام القرآن" على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناءا على كلام ابن عباس ومجاهد، ولم يثبت هذا من دين اليهود كما علمت، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب وأن النصارى يستقبلون المشرق، وقد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموا من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك. وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة لأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عمروا بن نفيل:
عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه.
وقد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة
(2/10)
أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلى جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس وبذلك جاءت الآثار. والأحاديث الصحيحة في هذا ثلاث، أولها وأصحها حديث "الموطأ" عن ابن دينار عن ابن عمر: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة [قرآن]1 وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة", ورواه أيضا البخاري من طريق مالك، ومسلم من طريق مالك ومن طريق عبد العزيز بن مسلم وموسى بن عقبة، وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة وهذا الحديث هو أصل الباب وهو فصل الخطاب.
ثانيها: حديث مسلم عن أنس بن مالك وفيه: "فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة".
الثالث: حديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] فتوجه نحو الكعبة ثم قال: فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة" ، وحمل ذكر صلاة الصبح في رواية ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كل على أهل مكان مخصوص، وهنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي. فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها.
واختلفوا في أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها، فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألقا لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف، وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في
ـــــــ
1 زيادة من "الموطأ" "1/195" تحقيق عبد الباقي،"كتاب القبلة" باب ما جاء في القبلة، ومن صحيح البخاري"، انظر فتح الباري" "1/506"، دار المعرفة، كتاب الصلاة "32" باب ما جاء في القبلة، وهذه الزيادة ليست في "صحيح مسلم" وهو من رواته كما سيذكر المصنف.
(2/11)
مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة وبيت المقدس معا، ولم يصح هذا القول.
واختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله، فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخة باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] الآية، وقال الطبري كان مخيرا بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافا لليهود، وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية، كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] دالا على أنه أجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين الذين قبله ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن، وروي القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلي وفي الحديث ضعف.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك لله تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له، وليس مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقا ذاتيا. وذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115]، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى، فقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة، وقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدي دون قبلة اليهود إلا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة وهو الفريق الذي أمره من بيده الهدي بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو
(2/12)
بها، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]
وقد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكارهم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة ولم يتبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال وذلك ما يعلمه المؤمنون.
فأما إذا جربنا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن نقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا، أو يكون قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إيماء إلى قبلة الإسلام، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة. فجملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} لعدم وضوح اشتمال جملة {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} على معنى جملة {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله.
واتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة والنافلة إلا لضرورة في الفريضة كالقتال والمريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكبا على دابة أو في سفينة لا يستقر بها. فأما الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها ومن كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على من كان من أهل الصف غير مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفا وراء صف بالاستدارة، وأما الذي تغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخى أن يستقبل جهتها فمن العلماء من قال يتوخى المصلي جهة مصادفة عين الكعبة بحيث لو فرض خط بينه وبين الكعبة لوجد وجهه قبالة جدارها، وهذا شاق يعسر تحققه إلا بطريق إرصاد علم الهيئة1ويعبر
ـــــــ
1 قاله ابن رشد في البداية" "1/111"، دار المعرفة، وفيه: "إن إصابة العين شيء لا يدرك إلا
(2/13)
عن هذا باستقبال العين وباستقبال السمت وهذا قول ابن القصار وأختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي ونقله المالكية عن الشافعي، ومن العلماء من قال يتوخى المصلي أن يستقبل جهة أقرب ما بينه وبين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة ويعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة وهذا قول أكثر المالكية واختاره الأبهري والباجي وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهو من التيسير ورفع الحرج، ومن كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لأن الله أذن رسوله بالصلاة فيه، وروى أبن القاسم عن مالك أن جبير هو الذي أقام للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده.
وبين المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلى وجزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم وذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خيطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط من جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط اه، واستبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يطاق، وبإجماعهم على صحة صلاة ذوي صف مائة ذراع وعرض البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمة البيت قطعا ووافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها والخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت ولا سيما في البعد. فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة.
ومن أخطأ القبلة أو نسى الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك وأبي حنيفة وأحمد إلا أن مالكا استحب له أن يعيدها ما لم يخرج الوقت ولم ير ذلك أبو حنيفة وأحمد وهذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة وأما الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبدا بناء على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة.
[143] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
ـــــــ
بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك ونحن لم نكلف الإجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضخا" انظر هذه المسألة أيضا في "الإحياء" للغزالي"2/265"، دار المعرفة، "كتاب آداب السفر" ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر
(2/14)
عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
هذه الجملة معترضة بين جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:142] الخ، وجملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الخ، اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.
وقوله: {كَذَلِكَ} مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعين تعرف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب "الكشاف" أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبين مراده: فقال البيضاوي "الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا اه أي أن قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء {مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة:142] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرج على وصف "الكشاف" الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات. وحمل شراح "الكشاف" الكاف على غير ظاهر التشبيه، فأما الطيب والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله: {يَهْدِي} وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في "الكشاف" بالجعل العجيب، فالتعظيم هنا
(2/15)
لبداعة الأمر وعجابته ثم أن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه.
وأما القزويني صاحب "الكشف" والتفتزاني فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة. والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلا أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قول النابغة والسفاهة كاسمها فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة والإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة،
وكلام "الكشاف" أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك بتصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:59] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها.
واعلم أن الذي حدا صاحب الكشاف إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب الكشاف قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} فقال: "كما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم" اهـ وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن.
والتحقيق عندي أن أصل {كذلك} أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] إشارة إلى قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:101] الآية. وكقول النابغة:
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
وقد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويحتمل اعتبار المفعولية المطلقة كقول أبي تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض دمعها عذر
(2/16)
قال التبريزي في "شرحه" 1 الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه اه، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي، ومثله قول الأسدي في شعراء "الحماسة" يرثي أخاه*.
فهكذا يذهب الزمان ويف ... نى العلم فيه ويدرس الأثر
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل.
وقد يكون مرادا منه التنويه بالخير فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلا أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من الحماسة:
كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... أني رأيت ملاك الشيمة الأدبا
أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب، ومنه قول زهير:
كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} من هذا القبيل عند شراح "الكشاف" وهو الحق، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام:53] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذا من فعل {فَتَنَّا}. والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفا لجعل المأخوذ من {جَعَلْنَاكُمْ} ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدي المأخوذة من قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه.
ـــــــ
1 من كتب التبريزي: شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، 2 شرح المشكل من ديوان أبي تمام.
والتبريزي: هو يحيى بن علي محمد الشيباني التبريزي، أبو زكريا، من أئمة اللغة والأدب. توفي سنة 502هـ "الأعلام" "8/157"
* وقيل البيت لابن كناسة في رثاء حماد الرواية، وقال الجاحظ هو لبعض الشعراء في رثاء بعض العلماء.
(2/17)
والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به وليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة: طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب فيبقي كثير العشب والكلأ، ووضع كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]
ويقال أوسط القبيلة لصميمها.
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك لروي حديث: "خير الأمور أوسطها" وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صار حقيقتين عرفيتين.
فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في "سننه" عن حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة.
ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محصنة لا تشعر بصلة في الذات.
وضمير المخاطبين هنا مراد به جمع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها، ولأن قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة:143] قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.
والآية ثناء على المسلمين لأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم
(2/18)
من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الظلالات التي راجت على الأمم، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنه متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح أبن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه1، وفي بيان هذا الاستدلال طرق:
الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اه، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا رد متمكن، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات،
الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم اه، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية، وهذا يرجع إلى الطريق الأول.
الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره.
والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للآمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة من أحوال جميعها، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل لشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا
ـــــــ
1 ذكر هذا في المفسرين القرطبي في "2/156"، الألوسي في "2/4، القاسمي في "2/286".
(2/19)
من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه1، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها2.
وأما كون الآية دليلا على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلا بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الآمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيمة وهو معنى كونها وسطا، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكل فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبت لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الظلال لا عمدا ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال.
وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة، ولا بوجوب وإذ جاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم
ـــــــ
1 انظر "حاشية العطار على جمع الجوامع" "2/238"، دار الكتب العلمية، و"تيسير التحرير""3/259"، ط مصطفى الحلبي
2 قال الغزالي: " يجب على المجتهد أن ينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ"انضر المستصفى" مع "مسلم الثبوت""2/392، دار صادر
(2/20)
منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.
و"الناس" عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية. فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق، وهذا حكم تأريخي ديني عظيم إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.
والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري1 والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} اهـ. فقوله "ثم قرأ" يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126-124]
ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.
وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى
ـــــــ
1 انظر "فتح الباري" "13/316". كتاب الاعتصام "19" باب { وكذلك جعلناكم أمة وسطا}
(2/21)
الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به، وما روي في الحديث الآخر في "الموطأ" و "الصحاح ": "فليذادن أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي". وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وإلا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين {شَهِيداً} معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في "الكشاف".
وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضى إلا بعد حصولها ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع، والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينيه أو يسمع بأذنيه، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكى، وأن المزكى لا يحتاج التزكية، وأن الأمة لا تشهد على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.
وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلا رسولها، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقوف وهذا من بدائع فصاحة القرآن، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}
الواو عاطفة على جملة {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] وما اتصل بها من الجواب بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة وما بين الجملتين من قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} إلى آخرها اعتراض.
(2/22)
والجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شؤون التعبد لا من شؤون الخلق وهو لفظ القبلة، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلا لنعلم إلخ.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة. وذكر عبد الحكيم1 أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14]فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبقى لهم سعة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.
وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عده في تعلقات العلم2.
ـــــــ
1 أي السيالكوتي
2 بعد أن كتبت هذه بسنين وجدت في الرسالة الخاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله: "وقيل إن علم الله تعالى له تعلقات أزلية بكل ما يصلح أن يعلم"،وتعلقات متجددة بالمتجددات من حيث تجددها ووقوعها في أزمنة متغيرة والتغيير في التعلقات والإضافات لا يضر بكماله، لأن ذلك التجدد ليس بنقصان في ذاته بل لأن كماله التام يقتضي أن =
(2/23)
ولك أن تجعل قوله: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
وأقدمت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جباؤها من شجاعها
أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل "نعلم" مجازا عن التحيز ليظهر للناس بقرينة كلمة "من" المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب "المغني"، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ يتبين لك أنه راجع لمعنى كنائي.
والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه، يقال انقلب إلى الدار، وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ} زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقبيه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعا إلى الكفر السابق. ومن موصولة وهي مفعول نعلم والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد.
وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} عطف على جملة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} والمناسبة ظاهرة لأن جملة {وَإِنْ كَانَتْ} بمنزلة العلة لجملة نعلم {نَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فإنها ما كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلا لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها.
وإن مخففة من الثقيلة.
والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس. تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديدا على نفسه كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35].
ـــــــ
لا يكون المتجدد حاصلا له في الأزل لنقصانه، كما أن الممتنع لا تتعلق به القدرة لنقصانه لا لنقصان في ذاته وقدرته"اهـ ولم ينسب هذا القول إلى معين من الحكماء أو المتكلمين وهو تحقيق دقيق.
(2/24)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
الجملة في موضع الحال من ضمير {لِنَعْلَمَ} أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه ونحن غير مضيعين إيمانكم. وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: "[و]1 كان [الذي] مات على القبلة قبل أن تحول [قبل البيت] رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وفي قوله: "قتلوا" إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنبين ذلك، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية قال هذا حديث حسن صحيح.
والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفسر الإيمان على ظاهره، وفسر أيضا بالصلاة نقله القرطبي عن مالك. وتعلق "يضيع" بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تودونها، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها اعظم أركان الإيمان، وعن مالك: "إني لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان".
ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أن نسخ حكم، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم الذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة بن معرور وأبي أمامة، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل، فقال: {إِيمَانِكُمْ}، ولم يقل إيمانهم على حسب السؤال.
والتذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغي العمل في المستقبل لا في ماضي. والرءوف الرحيم صفتان مشبهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة. والرأفة مفسرة
ـــــــ
1 زيادة من "صحيح البخاري" انظر "فتح الباري" "8/171".
(2/25)
بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة، فقال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة، وقال في "المجمل" الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة، فاستخلص القفال من ذلك أن قال: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اه. وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموما وخصوصا مطلقا وأياما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة.وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك.
وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة.
وتقديم "رءوف" ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف.
وتقديم {بِالنَّاسِ} على متعلقه وهو رءوف رحيم للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة.
وقرأ الجمهور "لرءوف" بواو ساكنه بعدها همزه وقرأه أبو عمرو وحمزه والكسائي ويعقوب وخلف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عضد وهو لغة على غير قياس.
[144] {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]
استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس فهذا هو
(2/26)
المقصود من الكلام المفتتح بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]بعد أن مهد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ثم قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} [البقرة:120] ثم قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة:125] ثم قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}.
و"قد" في كلام العرب للتحقيق ألا ترى أهل المعاني نظروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إن مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو اخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهـ.
ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبتان.
وجيء بالمضارع مع "قد" لدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل. قال عبيد بن الأبرص:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد1
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام:33] في سورة الأنعام.
والتقلب مطاوع قلبه إذا حوله وهو مثل قلبه بالتخفيف، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله من جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء، وقد اخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول
ـــــــ
1 البيت في: "شرح شواهد المغني" "169" للهذلي، وقيل: لعبيد بن الأبرص. هذا وليس في "أشعار الهذليين" هذا البيت وانظر "اللسان" "قدد" قال ابن بري: البيت لعبيد بن أبرص، والشاهد أيضا في "الصحاح"، وهو في "ديوان عبيد" "64".
(2/27)
جبريل بذلك، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيأ نزول الآية وإلا لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب.
والفاء في {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكتابة في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]، فمعنى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} لنوجهنك إلى قبلة ترضاها. فانتصب قبلة على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك من قبلة وكذلك قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد. وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداة تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان.
وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر ببيوت الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب، ولما كان الرضي مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الآية.
وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى ول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
والشطر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء، وكذلك قرأه أبي بن كعب، وفسر الجبائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسط الشيء، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه، وجعلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب "أي تقريبا" قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولا يكون متوجها إلى الكعبة لا تصح صلاته، الثاني لو لم نفسر
(2/28)
الشطر بما ذكرنا لم يبقى لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول: "فول وجهك المسجد الحرام" ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة.
فأن قلت ما فائدة قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قبل قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} وهلا قال: في السماء فول وجهك الخ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتني بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة {تَرْضَاهَا}.
ومعنى نولينك نوجهنك، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولى المعتدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به، ومنه الولاء والولي، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفا عن كذا أي الذي كان يليه من قبل، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم.
فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلي وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول1 كما تقدم.
والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفا للمسجد هو الممنوع أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه.
وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع من الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [ابراهيم:37] أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص:57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل
ـــــــ
1 وهو الذي استظهره المصنف. انظر شرح الآية ما قبل السابقة.
(2/29)
الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.
والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت1 بما يجاوره أو بما يشتمل عليه وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.
وأنتصب {شطر المسجد} على المفعول الثاني لول وليس منصوبا على الظرفية.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري {كُنْتُمْ} و {وُجُوهَكُمْ} لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} ليكون تبشيرا له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزي فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحا وتأكيدا لدلالة العموم المستفاد من إضافة {شَطْرَ} إلى ضمير {لْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع، وتأكيدا لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويها بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية.
وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوي الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطبية في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال
ـــــــ
1 في "أحكام القرآن" لابن العربي "الشيء" "1/43"، دار المعرفة.
(2/30)
والاجتناب. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكرا به من شيء له انتساب خاص إليه، قال فخر الدين: "إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقل مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لابد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقرآن والتسبيحات تجري في مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة اهـ.
فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس باستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقديما ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأقوالهم في البرق والريح، وقال مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي و جيرتي ... بذي الطيسين فالتفت ورائيا
والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى. لا جرم أن أولى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئا يوهم أنه المقصود بالعبادة، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجدا في مكان المسجد الأقصى، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح، فقد بنت الصابئة بعد نوح هياكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع، أو إلى أسماء الكواكب، وذكر المسعودي في "مروج الذهب" عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند. وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناها الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من
(2/31)
سدنته، وقيل أن عاد بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام.
فإذا استقبل المؤمن بالله شيئا من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشد إضافة إليه، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تفاضل إلا بإخلاص النية من إقامتها، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض، وأن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثة في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاحق بكونه هو الذي دل مؤسس ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] وقال في ذكر مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين، وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانوها بالبيت الأول.
وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} في سورة آل عمران، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذا، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأثان، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى، ففيه مزية الأولية، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معا وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره.
ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلا بعده بقرون طويلة، فكان هو قبلة المسلمين.
قدما آنفا أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بنى بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطا، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبي لا تكون إلا
(2/32)
عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء تلك الأقطار بأيديهم.
ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين. فتشريع الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبها صلى الله عليه وسلم ولأمته إن كان الاحتمال الأول، فإذا كان الثاني فلأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا.
ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فعلته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى. وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من أتبعهم من أهل الكتاب حقا ومن أتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستنبطنيه من الكفر كما أشار له قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] الآية.
ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه، كما قد يكون قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] إيماء إليه كما قدمنا، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعت بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.
(2/33)
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]
اعتراض بين جملة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وجملة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة:149] الآية.والأظهر أن المراد بالذين {أُوتُوا الْكِتَابَ} أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السدى كما يشعر به التعبير عنهم بصلة {أوتوا الكتب} دون أن يقال وإن أهل الكتاب.
ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن علمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق. والأظهر أيضا أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موضع قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكدين، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقع قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الذي هو تهديد بالوعيد.
وقد دل التعريف في قوله: {أَنَّهُ الْحَقُّ} على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعا للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال للشيء المعدوم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير للذين أوتوا الكتاب أي عن علمهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه. وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازى كلا بما يستحق.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد المسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة. ويستلزم وعيدا للكافرين على
(2/34)
عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي ليأخذ كل حظه منه وهو اعتراض بين جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا} وجملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:145] الآية.
وفي قوله: {لَيَعْلَمُونَ} و قوله: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]الجناس التام المحرف على قراءة الجمهور والجناس الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه.
[145] {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ} عطف على قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} [البقرة:114] والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعلمون فلما أفيد أنهم يعلمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطمع في اتباعهم القبلة لدفع توهم أن يطمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتباعهم بالقسم واللام الموطئة، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادة.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} على ما تقدم فأن ما يفعله أحبارهم يكونوا قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجدر بعامتهم أن لا يتبعوها.
ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن.
والمراد {بِكُلِّ آيَةٍ}: آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفية. وإطلاق لفظ كل على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابها لمجموع عموم أفراده، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينته ولا إلى اعتبار
(2/35)
تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يرد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد، مثل قوله هنا: {بِكُلِّ آيَةٍ} فإن الآيات لا يتصور لها عدد يحاط به، ومثله قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل:69] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96] وقال النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنتره:
جادت عليه كل بكر حرة ... فتر كن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية ... يجري إليها الماء لم يتصرم
وصاحب "القاموس" قال في مادة كل وقد جاء استعمال كل بمعنى بعض ضد فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله "بمعنى بعض" وكان الأصوب أن يقول بمعنى كثير.
والمعنى أن إنكارهم أحقية الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.
وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قبلة شرعه، ولأنه سألها بلسان الحال.
وإفراد القبلة في قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} مع كونهما قبلتين، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة، وأكثر من قبلة إن لم تكن لهم قبلة معينة وكانوا مخيرين في استقبال الجهات، فإفراد لفظ "قبلتهم" على معنى التوزيع لأنه إذا اتبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.
والمقصود من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إظهار مكابرتهم تأييسا من إيمانهم، ومن قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} تنزيه النبي وتعريض لهم باليأس من رجوع المؤمن إلى استقبال بيت المقدس، وفي قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} تأنيس للنبي بأن هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديما خالف بعضهم بعضا في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية.
وجملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} معطوفة على جملة {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} وما بينهما اعتراض وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنهم لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر
(2/36)
باستقبال الكعبة، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع أهواء أهل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا، ولذلك كان الموقع لإن لأن لها مواقع الشك والفرض في وقوع الشرط.
وقوله: {مِنَ الْعِلْمِ} بيان لما جاءك أي بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنزل إليه هو العلم كله على وجه المبالغة.
والأهواء جمع هوى وهو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصلة، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حب لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثم أطلق على العشق، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمي علماء الإسلام أهل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء
وقد بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أو ما إليها صاحب الكشاف وفصلها صاحب "الكشف" إلى عشرة وهي: القسم المدلول عليه باللام، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيدا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء، ولام الابتداء في خبرها، واسمية الجملة، وجعل حرف الشرط الحرف الدال على الشك وهو "إن" المقتضي إن أقل جزء من اتباع أهوائهم كاف في الظلم، والإتيان بأذن الدالة على الجزائية فإنها أكدت ربط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فأنه يدل على الاهتمام والاهتمام بالوازع يؤول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر، وجعل ما نزل عليه هو نفس العلم.
والتعريف في {الظَّالِمِينَ} الدال على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية. ولا يخفى أن كل ما يؤول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط.
والتعبير بالعلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان تنويه شأن العلم ولفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم.
وقوله: {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أقوى دلالة على الاتصاف بالظلم من إنك لظالم كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: من الآية67].
والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف
(2/37)
والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقى في خالد العذاب.
قد يقول قائل إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فعبر هنالك باسم الموصول "الذي" وعبر هنا باسم الموصول "ما"، وقال هنالك "بعد" وقال هنا "من بعد"، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء ولي ونصير، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين، وقد أورد هذا السؤال صاحب "درة التنزيل وغرة التأويل1" وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفى، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن "الذي" و"ما" وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام ويبطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} [البقرة:116] إلى قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.
وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو "ما" لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية.
وإنما أدخلت "من" في هذه الآية الثانية على "بعد" بقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
ـــــــ
1 وهو الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة "606هـ" تكلم فيه على الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة التي يقصد الملحدون التطلاق منها إلى عيبها، وأجاب عنها.
(2/38)
الْعِلْمِ} لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأولى في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فصل فكان العلم الذي جاءه فيها من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} وهو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم، فكان جديرا بأن يشار إلى كونه جزئيا له بإيراد "من" الابتدائية.
[146] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
جملة معترضة بين جملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:145] الخ، وبين جملة {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة:148] الخ اعتراض استطراد بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دل عليه قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:144] فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على الاستطراد قوله بعده: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة.
فالضمير المنصوب في {يَعْرِفُونَهُ} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرا لمضمون قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعاد مناسب لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السبق وتكرر خطابه فيه من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143]، وقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} [البقرة:144]، وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة:144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أن يعرفون صدقه، وإما أن يعود إلى {الْحَقَّ} في قوله السابق: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس، كما قال زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم ... تشبيها لشدة القرب البين.
(2/39)
وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.
وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى يعرفونه لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] وقال زهير:
فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وتقول عرفت فلانا ولا تقول عرفت علم فلان، إلا إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد.
والمراد بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أحبار اليهود والنصارى ولذلك عرفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل.
وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صوريا وكعب بن الأشرف فبقى فيق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود قبل عبد الله بن سلام، ومن النصارى مثل تميم الداري، وصهيب.
أما الذين لا يعلمون الحق فضلا عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ولا يشملهم قوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}
[147] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
تذييل لجملة: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة:146]، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق، وحذف المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يدل عليه مثل قولهم بعد ذكر الديار ربع قواء وبعد ذكر الممدوح فتى ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب "المفتاح". وقوله {فَلا
(2/40)
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} نهى عن أن يكون من الشاكين في ذلك والمقصود من هذا.
والتعريف في {الْحَقُّ} تعريف الجنس كما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق.
والامتراء افتعال من المراء وهو الشك، والافتعال فيه ليس للمطاوعة ومصدر المرية لا يعرف له فعل مجرد بل هو دائما بصيغة الافتعال،
والمقصود من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} وقوله: {فَلا تَكُونَنَّ} خطابا لغير معين من كل من يصلح لهذا الخطاب.
[148] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عطف على جملة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل، ذلك أنه بعد أن لقن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجيب به عن قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طيا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات دع هذا أو عد عن هذا ، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق.
وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: {فَاسْتَبِقُوا
(2/41)
الْخَيْرَاتِ} [ البقرة:148]، فقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} [النساء:78] في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل.
و"كل" اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم بتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه.
وحذف ما أضيف إليه"كل" هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف "أمة" لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:285] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء:33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما في فعلة بمعنى المصدر.
وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ: {وِجْهَةٌ} في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48].
وضمير هو عائد للمضاف إليه {كل} المحذوف.
والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها. وقراه الجمهور {مُوَلِّيهَا} بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر "هو مولاها" بألف بعد اللام
(2/42)
بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها. ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.
وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد. فالمنافسة تكون في مصادفة الحق.
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدى بنفسه كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف:25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا.
فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات.
والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] وقال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم و"كان" تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء.
والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة. قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان:
أتاك بي الله الذي نور الهدى ... ونور وإسلام عليك دليل
(2/43)
أراد سخرني إليك، وفي الحديث: "اللهم أهد دوسا وأت بها" أي اهدها وقربها للإسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: { إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان:16]
وتجيء أقوال في تفسير: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} على حسب الأقوال في تفسير: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يذكركم بالله فاسمعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أية جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت. إلى غير ذلك من الوجوه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.
[149, 150] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[البقرة:149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
عطف قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} على قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من حيث خرجت من كل مكان خرجت مسافر لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} زيادة اهتمام بامر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة:147].
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.
وقوله بعده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} عطف على الجملة التي قبله، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبنى عليه التعليل بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
(2/44)
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عطف على قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} الآية. والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم. وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين.وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشان استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، ومن جعل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} الآيات، وجملة: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وجملة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} الآيات، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميما، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام.
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حف به، ما يدفع قليل السامة العارضة لسماع التكرار، فذكر قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} الخ، وذكر قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} الخ.
والضمير في: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام، فالضمير هنا كالضمير في قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146]
وقرأ الجمهور: {عما تعلمون} بمثناة فوقية على الخطاب، وقراه أبو عمرو بياء الغيبة.
وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} علة لقوله: {فَوَلُّوا} الدال على طلب الفعل وامتثاله، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم، وشان تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب.فأن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفي بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا.
(2/45)
والتعريف في "الناس" للاستغراق يشمل مشركي مكة فغن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى، وأهل الكتاب، والحجة أن يقولوا إن محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه.ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلا الذين أوتوا العلم، وعلى هذا يكون قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ناظرا إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [البقرة:144]،وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146].
وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف، بحيث لا يجد منه تفصيا، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجه، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاج إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258]، فالحجة لا تطلق حقيقة إلا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى:16]، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه الكشاف، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي، وإنما أرادوا التفصى من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء، إلا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} لهم عليكم حجة، فأجاب صاحب الكشاف، بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة، فحرف "إلا" يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.
وجملة: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي} تعليل ثان لقوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} معطوف على
(2/46)
قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بنى لله تعالى، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما امرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة. أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها1 فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا، فهو قريب من قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة:124] أي امتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال. وقوله {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} عطف على {وَلِأُتِمَّ} أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق. وحرف لعل في قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه. ومعنى جعل ذلك لقرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] كما قدمناه وقال حبيب:
إن الهلال إذا رأيت نماءه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
[151] {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
تشبيه للعلتين من قوله: {وَلِأُتِمَّ} وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل الإرسال مشبها به لأنه أسبق وأظهر تحقيقا للمشبه أي أن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث كما صليت على إبراهيم ونكر رسول للتعظيم ولتجرى عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة، فالخطاب في قوله: {فِيكُمْ} وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيرا لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولا بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيرا لهدايتهم؛ وهذا على نحو دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}
ـــــــ
1 فإن الحديث عن معاز قال: مر النبي برجل يقول: "اللهم إني أسألك تمام نعمتك", قال: "تدري ما تمام النعمة؟ تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار".
(2/47)
[البقرة:129] وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام:9].ولذلك علق بفعل: {أَرْسَلْنَا} حرف في ولم يعلق به حرف إلى كما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم، والمسلمون يومئذ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية، فالأمة العربية يومئذ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالى مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وعبد الله بن سلام الإسرائيلي، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزية ينالها كل من يعلم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواترا، ويسهل انتشاره سريعا.
والرسول المرسل فهو فعول بمعنى المفعول مثل دلول، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] في سورة الشعراء.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} يقرأ عليكم القرآن وسماه أولا آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانيا كتابا باعتبار كونه كتاب شريعة، وقد تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]. وعبر بيتلوا لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين.
وقوله: {وَيُزَكِّيكُمْ} إلخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقه النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6}، وفي الحديث: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة.
(2/48)
وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا ويعلمكم أصول الفضائل، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضا عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] في هذه السورة.
وقدمت جملة: {وَيُزَكِّيكُمْ} على جملة: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها وبعثا لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن.
وقوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك.
وإنما أعاد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمْ} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصا على المغايرة لئلا يظن أن: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} هو الكتاب والحكمة، وتنصيصا على أن: {مَا لَمْ تَكُونُوا} مفعولا لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبرا له فيضل فهمه في ذلك الترقب، واعلم أن حرف العطف إذا جئ معه بإعادة عامله كان عاطفه عاملا على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل.
[152] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}
الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكرى،
وقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] وعن عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه
(2/49)
والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك، وفي الحديث القدسي: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه"
والذكر في قوله: {أَذْكُرْكُمْ} يجيء على المعنيين، ولا بد من تقدير في قوله: {فَاذْكُرُونِي} على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي، أو اذكروا نعمي ومحامدي، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء، وأما {أَذْكُرْكُمْ} فهو مجاز، أي أعاملكم معاملة من ليس بمفعول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم، نحو قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]، وحسن مصيركم في الآخرة، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى. ثم إن تعديته للمفعول أيضا على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم.
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي} أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقا، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى: {فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد:8] وقول النابغة:
شكرت لك النعمى وأثنيت جاهدا ... وعطلت أعراض العبيد بن عامر
وقوله: {وَلا تَكْفُرُونِ} نهى عن الكفران للنعمة، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير.
قال ابن عرفه: "ليس عطف قوله: {وَلا تَكْفُرُونِ} بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له فيصدق بشكره يوما واحدا فلما قال: {وَلا تَكْفُرُونِ} أفاد النهى عن الكفر دائما، اه، يريد لأن الفعل في سياق النهى يعم، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهى أخو النفي.
[153, 154] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}
هذه جمل معترضة بين قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:
(2/50)
144] وما اتصل به من تعليله بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150] وما عطف عليه من قوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة:150] إلى قوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] وبين قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شان تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} المتصل بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150].
وهو اعتراض مطنب ابتدئ به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكرا له على ما خولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطا وشهداء على الناس، وتفضيلهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك، وأمرهم بالاستخفاف بالظالمين وأن لا يخشوهم، وتبشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولا منهم، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال، من أجل ذلك كله أمرهم هنا بالصبر والصلاة، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال، فناسب تعقيبها بها، وأيضا فإن ما ذكر من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} مشعر بان أناسا متصدون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم، فأمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة. وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} إلى قوله: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] فسيأتي تبييننا لموقعها.
وافتتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعارا بخبر مهم عظيم، فإن شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيعقب بالندب إلى عمل عظيم وبلوى شديدة، وذلك تهيئة للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بواط والعشيرة وبدر الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين.
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناسا قتلوا قبل تحويل القبلة، أنه توهم
(2/51)
من أحد الرواة عن البراء، فإن أول قتل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس الحديث فلم يقل: {الَّذِينَ قُتِلُوا}. فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب، وتحبيب للشهادة إليهم.ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله: {لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المشعر بأنه أمر مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بعيد نزول هذه الآية.
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] الآية إلا أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} علما منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك: {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين.
وقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} عطف النهى على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر ينقلب شكرا عندما يرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعند ما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: {وَلا تَقُولُوا} نهى عن القول الناشئ عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلا ما يعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] كما تقدم من حديث البراء فإنه قال قتل أناس قبل تحويل القبلة، فأعقب قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بان فضيلة شهادتهم غير منقوصة.
وارتفع {أَمْوَاتٌ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات.
و {بل} للإضراب الإبطالي إبطالا لمضمون المنهى عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبر العظيم،
(2/52)
فقوله: {أَحْيَاءٌ} هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد بل الإضرابية.
وإنما قال: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} للإشارة إلى أنها حياة غير جسمية ولا مادية بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحشر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث: "إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها" والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحاوس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عوضت جسدا مناسبا للجنة ليكون وسيلة لنعيمها.
[157-155] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}
عطف: {لَنَبْلُوَنَّكُمْ} على قوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] عطف المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} عطفا على قوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [ البقرة:150] الآيات ليعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقينا بأن اتباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وجعل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبرا بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
وجئ بكلمة شيء تهوينا للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ولذلك جاء هنا بكلمة شئ وجاء
(2/53)
هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس اللازم لللابس، لأن كلمة شئ من أسماء الأجناس العالية العامة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة "شئ" قبل اسم ذلك الجنس إلا لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها، فما ذكر كلمة شئ إلا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقى له الدلالة على التحقير وهذا كقول السرى مخاطبا لأبي إسحاق الصابى:
فشيئا من دم العنقو ... د أجعله مكان دمى1
فقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} عدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شئ مع غير اسم جنس كما إذا اتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذ يدل على مطلق التنويع نحو قول قحيط العجلى:
فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بشيء يستطاع
فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمعنى من المعاني من غلبة أو معازة أو فداء أو نحو ذلك اهـ.
وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفا لدلالة المقام، كقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أي من محاسن امرأة غير امرأته.
وقول أبى حية النميرى:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
أي شيء من الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
ـــــــ
1 قبل هذا البيت قوله:
أبا إسحاك يا سكنى ... ألوذ به ومعتصمي
أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم
يريد أنه احتجم ورام شرب فليل من الخمر ليعتاض به عما ضاع من دمه في زعمه.
(2/54)
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [آل عمران:10] أي من الغناء.
وكان مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعا الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيت أبي حية النميري، وبقلتها وتضاؤلها في قول أبي الطيب:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوق الفلك لا بد أن يكون شيئا.
والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة، كما وقع في يوم الأحزاب "إذ جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم" {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة:
شعب العلافيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار
وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة، بكثرة غزواته:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي المجد رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائك
وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور.
والكلام على الموال يأتي عند قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] في هذه السورة، وعند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} [آل عمران:10] في سورة آل عمران.
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]
جملة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} معطوفة على {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، والخطاب للرسول عليه
(2/55)
السلام بمناسبة أنه ممن شمله قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضمير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه.
وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريما لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسناد البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسناد البشارة بالخير الآتي من قبل الله إلى الرسول.
والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
ووصف الصابرين بأنهم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا} إلخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عنه المصيبة أنهم ملك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك، فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبرا إذا كان تعبيرا عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد بقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحس، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد وتعليما له للناس. والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} [النساء:72] في سورة النساء.
والتوكيد بإن في قولهم: {إِنَّا لِلَّهِ} لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه ملكا لله تعالى وعبدا له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هو لها بينه وبين رشده. واللام فيه للملك.
والإتيان باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] وهذا بيان لجزاء صبرهم.
والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي
(2/56)
من معاني الصلاة مجازا في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56].
وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يطلب الخير إلا منه متعينا للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالة على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية.
وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} بيان لفضيلة صفتهم إذ اهتدوا لما هو حق كل عبد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجبا عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سببا في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول مالا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضى لله لما لحقنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذرنا الله أمرهم بقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]وقال في المنافقين: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلا الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.
[158] {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
هذا كلام وقع معترضا بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة الآتي، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدها، لأن الحج لم يكن قد فرض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ببعض السور التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبة بينها وبين ما
(2/57)
قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقع الاعتراض في أثناء الاعتراض، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيرا بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق1 عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جرابا من تمر وسقاء فيه ماء، فلما نقد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات"، قال ابن عباس: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما"2 ، "فسمعت صوتا فقالت في نفسها صه ثم تسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعت ولدها"، فيحتمل أن إبراهيم سعى بين الصفا والمروة تذكرا لشكر النعمة وأمر به إسماعيل، ويحتمل أن إسماعيل ألحقه بأفعال الحج، أو أن من جاء من أبنائه فعل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة.
وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عمرو ابن لحى إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إسافا والآخر يسمى نائلة، كان أحدهما موضوعا قرب جدار الكعبة والآخر موضوعا قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جدد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثرتها جرهم حين خروجهم من مكة وبنى سقاية زمزم نقل ذريتك الصنمين فوضع إسافا على الصفا ونائلة على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناما صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمشلل قرب قديد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجا من أن يطوفوا بغير
ـــــــ
1 لم أجده فيه، وهو في: "60" "كتاب الأنبياء"، 9، باب يزفون: النسلان في المشي حديث 1183. انظر "فتح الباري" 6/396، دار المعرفة.
2 في المصدر السابق "فذلك سعي الناس بينهما".
(2/58)
صنمهم، في البخاري فيما علقه1 عن معمر إلى عائشة قالت كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة قالوا يا نبئ الله كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة. فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمرة وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية.
وقد روى مالك رحمه الله في "الموطأ" 2 عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما على الرجل شئ أن لا يطوف بهما, فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هاته3 الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية.
وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما لمناة.
قتأكيد الجملة بإن لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أميل إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية، وفي "أسباب النزول" للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك.
والصفا والمروة اسمان لجبيلين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس،
ـــــــ
1 وقد وصله أحمد وغيره.
2 أخرجه أيضا البخاري في: 25، "كتاب الحج"،79، باب وجوب الصفا والمروة" ومسلم فيك 15، "كتاب الحج"، 43، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. حديث 259 و260 و261.
3 في "الموطأ" 1/373، تحقيق عبد الباقي، "هذه"
(2/59)
وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قعيقعان. وسمى الصفا لأن حجارته من الصفا وهو الحجر الأملس الصلب، وسميت المروة مروة لأن حجارتها من المرو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي تورى النار ويذبح بها لأن شذرها يخرج قطعا محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر1 كل يوم تفرع
وكأن الله تعالى لطف بأهل مكة فجعل لهم جبلا من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم.
والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعا وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة، والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن، وهي فعلية بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدى. فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفه والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار.
ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك.
وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} تفريع على كونهما من شعائر الله، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يربيه ما حصل فيهما من صنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سئ العوارض، ولذلك نبه بقوله: {فَلا جُنَاحَ} على نفى ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضى الله عنها.
ـــــــ
1 المشقر كمعظم جبل باليمن تتخذ من حجارته فؤوس تكسر الحجارة لصلابتها.
(2/60)
والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير، فاعتبروا فيه الميل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير.
والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحرام ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفيه في هذا المعنى جنسا بالغلبة كالعلم بالغلبة ولذلك قال في "الكشاف" وهما أي الحج والعمرة" في المعاني كالنجم والبيت في الذوات1، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلا في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعا عن الإضافة نحو: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} إلى قوله: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وورد مضافا في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب. وفعل حج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان.
وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" بدون ذكر المفعول فذلك حذف للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد.
والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير موقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة، وفعلها غلب على تلك الزيارة تبعا لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع.والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادرا.
ونفى الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب، والواجب والركن، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، قال ابن العربي في "أحكام القرآن": إن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة
ـــــــ
1 في"الكشاف"، والنقل منه، "الأعيان".
(2/61)
الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو بمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه اه.
ومراده أن لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل، نعم إن التصدي للإخبار بنفي الإثم عن فاعل شئ يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعا هذا عرف استعمال الكلام، فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله، فمن أجل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي، ولقد أصاب فهما من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان، غير أن هنا سببا دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثما، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها، ولهذا قال عروة فيما رواه وأنا يومئذ حديث السن يريد أنه لا علم له بالسنن وأسباب النزول، وليس مراده من حداثة سنه جهله باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير، ولهذا أيضا قالت له عائشة بئسما قلت يا ابن أختي تريد ذم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك، على عادتهم في الصراحة في قول الحق، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولا بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة.
فالجناح المنفي في الآية جناح عرض للسعي بين الصفا والمروة في نصب إساف ونائلة عليهما وليس لذات السعي، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عرض قبله من أسباب النشوز والإعراض، ومثله قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقص من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض.
والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر
(2/62)
الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي1 فذهب مالك رحمه الله في أشهر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم وبادر إليه كما في حديث الصحيحين و "الموطأ" فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحرام، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه ترك، وبخلاف رمى الجمار فإنه فعل بعضة وهو اليد. وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القدوم فإنه وإن كان فعلا بجميع البدن إلا أنه له مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضا، ولقوله في الحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي2"، والأمر ظاهر في الوجوب، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا لا في الحج، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساو للفرض.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضا بل واجبا لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظنى فيهما، والجواب أن مجموع الظاهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلا فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإجرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض، وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلى في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من {خَيْراً} خصوص السعي لأن خيرا نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصرا على الطواف بين الصفا والمروة
ـــــــ
1 انظر "فتح القدير" "2/157-158"، "البدائع" "2/133،143"، "رد المختار" "3/203"، "شرح الرسالة" "1/471"، "الشرح الكبير" "2/34"، "شرح المنهاج" "2/126،127"، "المجموع" 8/ 71،72،73،75"، "المغني" "3/388،389"، "الفروع" "3/157"، "كشاف القناع" "5/21".
2 أخرجه أحمد في "مسنده" "6/421"، ط الحلبي.
(2/63)
بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي.
وتطوع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها، ويطلق مطاوع طوعه أي جعله مطيعا فيدل على معنى التبرع غالبا لأن التبرع زائد في الطاعة. وعلى الوجهين فانتصاب خيرا على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين تطوع معنى فعل أو أتى.ولما كانت الجملة تذييلا فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم، على أن تطوع لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة.
وقرأ الجمهور: {مَنْ تَطَوَّعَ} بصيغة الماضي، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلف يطوع بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين.
ومن هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيرا جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} والأظهر عندي أن {شَاكِرٌ} هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدى إليه نعمة وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.
[159, 160] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفا
قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم، وهو يقتضي
(2/64)
أن يكون اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولا أوليا أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101] الآية وما قابل به اشتباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] الآيات، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] يريد علماءهم ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالا في قوله تعالى :{إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ} فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود.
فجملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إلخ استئناف كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله، والتوكيد بإن لمجرد الاهتمام بهذا الخبر.
والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يخبر به من حادث مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره.
وعبر في {يَكْتُمُونَ} بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعنى به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين.ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك،
(2/65)
والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد، والمراد بالكتاب التوراة.
والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلا على أحكام كثيرة، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لاسيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم.
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره قال تعالى: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق يكتمون الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ} متعلق بـ {يَكْتُمُونَ} وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة.
واللام في قوله: {لِلنَّاسِ} لم التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بينا، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتمانا للحق وحرمانا منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.
والتعريف في "الناس" للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدى الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم.
وقوله: {أُولَئِكَ} إشارة إلى {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} ، وسط اسم الإشارة بين اسم {إن} وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف
(2/66)
هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5].
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم.
وقد اجتمع في الآية إيما آن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخير أي علته وسببه، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة.
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لمن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وكرر فعل {يَلْعَنُهُمُ} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللاعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [الأحزاب:56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
والتعريف في {اللَّاعِنُونَ} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في "حوريب" حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين، والعهد الذي أخذه عليهم في مؤاب وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه... حينئذ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة
(2/67)
في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا... لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة. وفي الإصحاح الثلاثين متى أنت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك وفيه أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة.
فقوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائما بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضا يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنول من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم، وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنيون باللام استغراقا عرفيا.
واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي.
وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفا لأن المنكر مجهول، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه.
ولما كان في صلة: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلا من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقا بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر، وعن ابن عباس أن كل ما ذم الله أهل الكتاب عليه فالمسلمون محذرون من مثله، ولذل قال أبو هريرة لما قال الناس أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية وساق الحديث1.
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في :"3" "كتاب العلم" "42" "باب حفظ العلم، حديث "118" انظر فتح الباري" "1/213" دار المعرفة.
(2/68)
الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرا للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بان يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله", وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه.
وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه، أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم. قال ابن عرفة في "التفسير": لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في "الإحياء" من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررا فادحا في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوما والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لم خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه.
قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم.
فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علما أو يبين شرعا وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معينا بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث، يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد، فهذا يجب عليه بيانه وجوبا متعينا عليه إن انفرد به في عصر أو بلد، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا
(2/69)
جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا". وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم، فإنما يجب عليه عينا أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة، وهذا يجئ أيضا في جواب العالم عما يلقي إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجئ في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائى. وفي غير هذا فهو في خيرة أن يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة", فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها. وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.
والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه.
والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.
يجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى: {وَالْهُدَى} حتى يكون ذلك ضابطا لما يقضي إليه كتمان ما يكتم.
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء من: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} أي فهم لا تلحقهم اللعنة، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ.
وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن
(2/70)
كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، وإنما زاد بعده: {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه.
ولعل عطف: {وَبَيَّنُوا} على {أَصْلَحُوا} عطف تفسير.
وقوله {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى {الَّذِينَ تَابُوا} فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون، وجئ باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت.
وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شئ زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضي الله عنهم.
وفي "صحيح البخاري1" عن ابن مسعود قال: رسول الله: "لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش2 و ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده".
فجاء في الآية نظم تقديره إلا الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم. أي أرضى، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.
[161, 162] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}
استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى.
وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيرا في القرآن مرادا به الشرك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وذلك أن المشركين قد قرنوا سابقا
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في: "80" "كتاب الدعوات" "4" "باب التوبة"، حديث "6308. انظر "فتح الباري" "11/102"
2 في المطبوعة واو العطف والتصويب من المصدر السابق. قال ابن حجرك "أو" شك من أبي شهاب.
(2/71)
مع أهل الكتاب قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:105] الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عقب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضا فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159] من كونه بيانيا أو مجردا.
وقال الفخر {الَّذِينَ كَفَرُوا} عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، وجعل في "الكشاف" المراد من {الَّذِينَ كَفَرُوا} خصوص الذين يكتمون1 وماتوا على ذلك وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار، على أنه مستغنى عن ذلك أيضا بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها، واللعنة لا يظهر أثرها إلا بعد الموت فلا معنى لجعلها لمنتين، ولأن تعقيبه بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال.
وإنما قال هنا: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يعلنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة، وعموم "الناس" عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ:32] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26]، ويجوز أي يعود إلى اللعنة ويراد أثرها ولازمها.
وقوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب.
والإنظار الإمهال، نظره نظرة أمهله، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ
ـــــــ
1 يشير إلى قوله تعالى السابق: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} [البقرة: 159]
(2/72)
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] وهي بطشة يوم بدر. وقيل: {يُنْظَرُونَ} هنا من نظر العين وهو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر الله إليهم يوم القيامة وهو كناية عن الغضب والتحقير.
وجئ بالجملة الاسمية هنا لدلالتها على الثبات والاستقرار بخلاف قوله: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة.
[163] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}
معطوف على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفي هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من {الَّذِينَ كَفَرُوا} المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد.
والخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارئ للقرآن وسامع فالضمير عام، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلا واحدا.
والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغنى عن نفسه ولا عن عابده شيئا عبث وغلط، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلا في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق.
وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28]، والقرينة هي الجمع، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ {إِلَهٌ} بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق. وليجئ ما كان أصله خبرا مجئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت
(2/73)
للموصوف لأنه صار نعتا إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا وأصل الخير أن يكون وصفا حادثا، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى عليه وصف أو متعلق كقوله: {إِلَهاً وَاحِداً} [البقرة:133] وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وقد تقدم عند قوله تعالى.... والتنكير في {إِلَهٌ} للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله واحد خلافا لصاحب "المفتاح" في قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام:19] إذ جعل التنكير في إله للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بيانا للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحه.
وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان لنا العزى ولا عزى لكم .
وقد أفادت جملة: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى. وخبر {لا} محذوف دل عليه ما في {لا} من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله إلا هو. وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجودا في وقت التكلم بهاته الجملة، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله ردا على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو {إِلَهٌ} فقدم إله وأخر هو لأجل الحصر بإلا وذكروا أنه ألف في ذلك رسالة، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلا فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى {لا إله} انتفاء الألوهية {إلا الله} أي إلا الله.
وقوله: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وصفان للضمير، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منهم، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال
(2/74)
ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى، وفي الجمع بين وصفي {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60].
واعلم أن قوله: {إِلَّا هُوَ} استثناء من الإله المنفى أي أن جنس الإله منفى إلا هذا الفرد، وخبر "لا" في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلا إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبرا ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئا يسد مسد الهبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلا الله، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خلة. ولأبى حيان هنا تكلفات.
[164] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شانها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلا التسليم إليها.
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر للفت الأنظار إليه، ويحتمل أنهم نزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات.
وليست {إن} هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحا لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذ يغنى وقوع "إن" عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" وقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61].
والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد
(2/75)
على كفار قريش دهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم.
والخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض، وللعبرة أيضا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما أن كل مخلوق منها أو قيها هوآية وعبرة فكذلك مجموع خلقها، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات.
وَ {السَّمَاوَاتُ} جمع سماء والسماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب وذلك المراد في نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22]. وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف: عطارد، والزهرة، والمريخ، والشمس، والمشتري، وزحل، وأرانوس، ونبتون. ولعلها هي السماوات السبع والعرش العظيم، وهذا السر في جمع "السماوات" هنا وإفراد "الأرض" لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها.
والمعنى أن في خلق مجموع السماوات مع الأرض آيات، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفا على السماوات ليتسلط المضاف عليهما.
والآية في هذا الخلق {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يّس: 40]، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ "كتاب المجسطى" على عمر الأبهرى فقال لهما بعض الفقهاء يوما ما الذي تقرءونه فقال الأبهرى أفسر قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: 6] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهرى فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار
(2/76)
المخلوقات كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته اه.
قلت ومن بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضا بما يحتاجه كلا فلا ينقص من المد شئ، لأنه يمده غيره بما يخلف له ما نقص، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد.
وهي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهدا بديعا في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها.
وأما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية.
وقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} تذكير بأية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل.
وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم لهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلا منهما آية.
والاختلاف افتعال من الخلف وهو أن يجئ شيء عوضا عن شئ آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفه.
وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرا {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72-71].
وللاختلاف معنى آخر هو مراد أيضا وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان
(2/77)
ومرة يزيد أحدهما على الآخر وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة، وهذا أيضا من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قربا وبعدا.ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين.
والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلا شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا.وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر.
فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر، ومن بلاغه علم القرآن أن سمى ذلك اختلافا تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شئ غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صوره المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
وقال تعالى في سورة الشمس: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}.
وقوله: {والْفُلْكِ} عطف على {خَلْقِ} وَ {اخْتِلافِ} فهو معمول لفي أي وفي الفلك، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي أن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها
(2/78)
تجري في البحر، وفي كونها نعمة من حيث أنها تجري بما ينفع الناس، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين، إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقا عجيبا عظيما إذ كان ماء غامرا لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض، والثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجرى السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحا عليه السلام في أقدم عصور البشر،
ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحماء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البرى الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتى ريح من جهة البر إلى البحر، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاما في مواقع منها في مواقع أخرى.
وسخر الفلك رياحا موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي من المرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار السرطان وإلى جهة مدار الجدي، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضرموت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية.
وأما كونها نعمة فلأن في التسخير نفعا للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك ولذلك قال بما ينفع الناس لقصد التعميم مع الاختصار.
والفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين قصد منه التخفيف على ما بينه الرضى فاستوى في اللفظ المفرد والجمع، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخشب وخشب ثم سكنت اللام تخفيفا، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء
(2/79)
وسكون اللام قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} [هود:37] {والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] وقال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} وقال: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65] {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22]، ثم إن أصل مفردة التذكير قال تعالى: {والْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} [هود:41] {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود:42] كل ذلك بعد قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود:38].
وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته والفلك تجري وهي في القرآن لأن العبرة باستعماله مؤنثا وإن كان تأنيثه بتأويل، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرئ به شاذا والقول به ضعيف، وقال الكواشي وهو بضم اللام أيضا للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن.
وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر1 دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة، وقد أخرج مالك في "الموطأ2" وتبعه أهل "الصحيح" حديث أم حرام بنت ملحان في باب الترغيب في الجهاد الثاني من الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام يوما ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت ما يضحكك؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة", فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها" الحديث. وفي حديث أبي هريرة: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء" الحديث،
وعليه فلما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير3 وأنا أحسبه قد قصد منه
ـــــــ
1 ذكر ذلك القرطبي في شرحه للآية، و في مواضع أخر في "7/341 ،8/325".
2 في 21"كتاب الجهاد" "18"، باب الترغيب في الجهاد، حديث 39. وأخرجه البخاري في "56"، "كتب الجهاد"، "3" باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء. ومسلم في "33" "كتاب الإمارة" "49" باب فضل الغزو في البحر، حديث "160".
3 قاله القرطبي في "2/195".
(2/80)
خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق، ولأن عدد المسلمين يومئذ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس.ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو "قبرص" ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة قبرص ظهر تأويل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم حرام، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده
وروي عن مالك كراهية سفر المرأة في البحر للحج والجهاد، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكنا سهلا وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك1.
{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} معطوف على الأسماء التي قبله جئ به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة، فالصلة الأولى وهي {أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة مالا ليس في نحو كلمة المطر والغيث، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم.
والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفا، وهو الذي يشاهده جميع السامعين.
ووجه العبرة أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلا عليها من ضدها وهو السماء عبرة عجيبة.
وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلا من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة
ـــــــ
1 " التمهيد" لابن البر "1/233-234"، ط المغرب.
(2/81)
الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريرا عندما تقل حرارة أشعة الشمس، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازا عقليا وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي أن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاور حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجها الماء وقد قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43]، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوما، وليله كذلك، فيحصل فيه، تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة.
وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منه. وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به. وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات.
وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحي وموت طباقان.
وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} عطف إما على {أَنْزَلَ} فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة ثالثة، وإما عطف على أحي فيكون معطوفا ثانيا على الصلة، وأياما كان فهو آية ومنه مستقلة، فإن جعلته عطفا على الصلة فمن في قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر، وإن جعلته عطفا على المعطوف على الصلة وهو أحيا فمن في قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} تبعيضية وهي ظرف لغو، أي أكثر فيها عددا من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى ان كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر.
والبث في الأصل نشر ما كان خفيا ومنه بث الشكوى وبث السرأى أظهره. قالت الأعرابية لقد أبثثتك مكتومي وأطعمك مأدومي وفي حديث أم زرع قالت السادسة ولا يولج الكف ليعلم البث أي لا يبحث عن سر زوجته لتفشوه له، فمثلت البحث بإدخال
(2/82)
الكف إخراج المخبوء1، ثم استعمل مجازا في انتشار الشيء بعد أن كان كامنا كما في هاته الآية واستعمل أيضا في مطلق الانتشار، قال الخماسي:
وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوث شجاع وعقرب
وبث الدواب على وجه عطفه على فعل {أَنْزَلَ} هو خلق أنواع الدوال على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة.
وعلى وجه عطف {وبث} على {فأحيا} فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفة لبيد بقوله:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرهامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} أوجز من البيت الأول، وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة، وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام.
والدابة ما دب على وجه الأرض وقد آذنت كلمة {كل} بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع.
وقد جمع قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان، وزيادة على ما في بقية الآية سابقا ولاحقا من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو2.
وقوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} عطف على مدخول {في} وهو من آيات وجود الخالق
ـــــــ
1 قيل: إنه كان بجسدها عيب أو داء فكان لا يدخل يده في ثوبها فيمسه لعلمه أن ذلك يؤذيها، تصفه باللطف. وقيل: إن ذلك ذم له، أي لا يتفقد أمورها ومصالحها كقولهم: ما أدخل يدي في هذا الأمر أي لا أتفقده
2 قال ألوسي في آخر شرحه لهذه الآية:" وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية. وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة". "2/33"، ط المنيرة.
(2/83)
وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية، واختلاف مهابها آية ، فلولا الصانع الحكم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت، ولما اختلف مهابها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة، وفي تصريف الرياح موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسلحة أو لطرد حشرات كالجرد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير.
وقد يحتاج أهل مكة إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجع أهل السفن من الأسفار أو من الصيد، فكل هذا موضع نعمة، وهذا هو المشاهد للناس كلهم، ولأهل العلم في ذلك أيضا موضع عبرة أعجب وموضع نعمة، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بحرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعا لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه، وقد خلقه الله تعالى مؤلفا من غازين هما النيتروجين والأكسجين وفيه جزاء آخر عارض فيه هو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حار أو بارد، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم.
ولما كانت الحرارة من طبعها أن تمدد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء، والبرودة بالعكس، فإذا كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصعد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغا يخلفه فيه الكثيف طلبا للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحا، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيما، وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة. فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له.
ومن وفوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم.
(2/84)
وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر: وتصريف الله تعالى الرياح، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكونت بذلك التصريف فهو من إطلاق السم على الحاصل وقت الإطلاق كما في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] وهو ضرب من مجاز الأول، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف.
وجمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى التعدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صات ريحا غير التي سبقت، وقرأ الجمهور {الرياح} بالجمع وقرأه حمزة والكسائي {الريح} بالإفراد على إرادة الجنس، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفردا أو جمعا سواء، وقد قيل إن {الرياح} بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وأن الريح بإفراد يكثر استعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رأى الريح: "اللهم اجعلها رياحا لا ريحا" وهي تفرقة أغلبية وإلا فقد غير بالإفراد في موضع الجمع، والعكس في قراءة كثير من القراء. والحديث لم يصح، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جمعت، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحا واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي.
والرياح جمع ريح والريح بوزن فعل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا ديمة وديم وحيلة وحيل وهما من الواوي.
وقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} عطف على {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أو على {الرِّيَاحِ} ويكون التقدير: وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع. وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونه في الفضاء، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض، ولأنه لو كان على
(2/85)
سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد، وفي ذلك أيضا عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخرها أشعة الشمس ولذا لم يخل الهواء من بخار الماء كما قدمناه إلا أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحا باردا ثقل وتكاثف فصار ضبابا أو ندى أو سحابا، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطرا، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطرا. قال أبو ذؤيب الهذلى:
سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم سود ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وقال البديع الإصطرلابى1:
أهدي لمجلسك الشريف وإنما ... أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وماله ... فضل عليه لأنه من مائه
فلولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلا في البحار. وموضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض، وفي تسخيره لينتقل، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]. وقوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات.
فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقط كانت دلائل واضحة وكان ردا على الدهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار2 المراد بهم
ـــــــ
1 هبة الله بن الحسين لقب بالبديع ووصف بالاصطرلابي لأنه صانع آلة الاصطرلاب توفي سنة 534هـ
2 يشير إلى قوله تعالى السابق: {إن الذين كفروا وماتو وهم كفار} الآية
(2/86)
المشركون تكميلا لأهل النحل في العرب، ويكون قوله بعد ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:165] رجوعا إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعلم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام،
وإن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على وجه الوحدانية، ولأنه ذكر بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين. وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]
وأن أريد الاستدلال بهذا الآثار لوحدانية الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان. فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية. أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها وكواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعا حكيما متصفا بتمام العلم والقدرة والحكمة والصفات التي تقتضيها الألهانية، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحدة لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير الألم من فعل الله تعالى، إذ لم يدعوا لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وذكر في سورة الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء:22] في سورة الأنبياء.
والقوم: الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدى كرب:
فلو أن قومي أنقطتني رماحهم
ويطلق على الأمة،
وذكر لفظ: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء
(2/87)
الوصف على لفظ قوم، يومئ إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم، ومن مكملات قوميتهم، فإن القبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56] وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب، فالمعنى أن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس.
[165] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} عطف على {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:164] إلخ لأن تلك الجملة تضمنت أن قوما يعقلون استدلوا بخلق السماوات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحده، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] الآيات.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وعطفه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديم الخبر {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بأنه تعجب من شأنهم.
و {من} في قوله: {مَنْ يَتَّخِذُ} ما صدقها فريق لا بدليل عود الضمير في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
والمراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة، وقد مضى الكلام على الند بكسر النون عند قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} معناه مع الله لأن دون تؤذن بالحيلولة بمعنى وراء فإذا قالوا أتخذ دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن
(2/88)
الله أوقات الشغل بعبادة وذلك الشريك.
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حال من ضمير {يَتَّخِذُ} وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ} بدل {مَنْ يَتَّخِذُ} بدل اشتمال، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة ويجوز كونه صفة لمن، وجز أن يكون صفة لأندادا لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم، والأظهر أن يكون حالا من {من} تفظيعا لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها.
والمراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن، الأصنام لا الرؤساء1 كما قيل، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل، والمحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو ميل النفس إلى الحسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول تقع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافا لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخلق "بضم الخاء" وإلى الفعل الحسن والكمال، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله.
فالتحقيق أن الحب يتعلق بذكر المرء وحصول النفع منه وحسن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا، ونحب أجدادنا، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين، ولله أبي مدين في هذا المعنى:
وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى
وبضد ذلك كله تكون الكراهية،
ومن الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم غرفى لها قال الجعدى:
ـــــــ
1 أي الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم، ورجح هذا لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: {إذ تبرا الذين اتبعو من الذين اتبعوا} [البقرة:166]
(2/89)
ولو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
أو مجاز بالحذف، والتقدير: يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله، إما لأنها من أنواع الإرادة والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأي بعض المتكلمين، وإما لأنها طلب الملائم. واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر، وعلى هذا التفضيل بين إطلاق المحبة هنا يكون التشبيه راجعا إلى التسوية في القوة
ومنهم من جعل محبة الله تعالى مجازا وجعلها في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ} أيضا مجازا وعلى ذلك درج في الكشاف وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها. وقد علمت أنه غير متعين. وقوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} مفيد لمساواة الجبن، لأن التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول.فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب الله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه، ويسميهم شركاء أو أبناء الله تعالى، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى . قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يجب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين د، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام.
واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة الخالق ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا
(2/90)
أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] مع ما في هذا الحال من زيادة موجب الإنكار.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} أي أشد حبا لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم، على ما بلغوا من التصلب فيها، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لما كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونه أهلا للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس.
والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيرا ما كانوا يعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أملوه.
فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم نزولها، وهذا مأخوذ من كلام "الكشاف" ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح "الكشاف".
وروي أن امرأ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حجرا ملكهم مر على ذي الخلصة الصم الذي كان بتبالة بين مكة واليمن فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات فكسر تلك القداح ورمى بها وجه الصنم وشتمه وأنشد:
لو كنت ياذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا1
ثم قصد بني أسد فظفر بهم.
وروى أن رجلا من بني ملكان جاء إلى سعد الصنم بساحل جدة وكان معه إبل
ـــــــ
1 ذو الخصلة بضم الخاء وفتح اللام صنم كان لخثعم وزبيد ودوس وهوازن، وهو صخرة قد نقشت فيها صورة الخصلة والخصلة زهرة معروفة، وكان عند ذي الخلصة أزلام ثلاثة يستقسمون بها وهي الناهي والآمر والمرتضى. وذو الخلصة هدمه جرير بن عبد الله البجلي بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2/91)
فنفرت إبله لما رأت الصنم1 فغضب الملكاني على الصنم ورماه بحجر وقال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فما نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعوا لغي ولا رشد
وإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة {أَشَدُّ} قال التفتزاني، آثر {أَشَدُّ حُبّاً} على أحب لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول: هو أحب إلي، وفي القرآن: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24]الخ. يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلا بمواقع نقيا للبس فقالوا: أحب وهو محب وأشد حبا وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضا.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]
عطف على قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ} وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحا لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} مؤذنا بالتعجيب من حالهم كما قدمنا، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أندادا وأحبوها كحبه، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا.
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب {وَلَوْ يَرَى} بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {فالذين ظلموا} مفعول "ترى" على المعنين، و"إذ" ظرف زمان، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات، ولأن ذلك مورد المعنى، إلا أن وقت الرؤيتين مختلف، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة، أي لو ترى الآن حالهم، وقرأ الجمهور {يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالتحتية فيكون: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فاعل {يرى} والمعنى أيضا لو يرون الآن، وحذف مفعول {يرى} لدلالة المقام، وتقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون
ـــــــ
1 كأن هذا الصنم حجرا طويلا ضخما.
(2/92)
"إذ" اسما غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من {الَّذِينَ ظَلَمُوا}
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملا لهؤلاء المشركين وغيرهم، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلما لأنه اعتداء على عدة حقوق.فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده، واعتدوا على من جعلوهم أندادا لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد ورد في "الصحيح" عن ابن عباس أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها، ومثل اللات يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج1 وأن أصله اللات بتشديد التاء، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سببا لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] الآية وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17] الآية، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال، ولذلك حذف مفعول {ظَلَمُوا} لقصد التعميم، ولك أن تجعل {ظَلَمُوا} بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وعليه فلفعل منزل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب.
وجملة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها وهذا كقول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي".
وتركيب {وَلَوْ تَرَى} وما أشبهه نحو لو رأيت من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن.
وجواب {لو} محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل يذهب ممكن ونظيره {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] {وَلَوْ تَرَى
ـــــــ
1 في "الروض" للسهيلي أنه عمرو بن لحي.
(2/93)
إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد:31]، قال المرزوقي عند قول الشميذر الحارثي:
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
حذف الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال عبده لئن قمت إليك ثم سكت تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد مالا يتزاحم لو نص على ضرب من العذاب، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر لرأيت أمرا عظيما وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمرا عظيما.
وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن وهو بدل اشتمال من العذاب أو من {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فإن ذلك العذاب من أحوالهم، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعا والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعا.
و {جَمِيعاً} استعمل في الكثرة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شرا:
قليل التشكي للملم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
أراد شديد الغرام.
وقرأه أ ويعقوب {إن القوة} على الاستئناف البياني كأن سائلا قال: ماذا أرى وما هذا التهويل? فقيل: إن القوة ولا يصح كونها حينئذ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه.
وقرأ ابن عامر وحده إذ يرون العذاب بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} [البقرة:167] وانتصب {جميعا} على التوكيد لقوله: {القوة} أي جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2].
(2/94)
وقد جاء {لو} في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطا لها يصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعينا للمستقبل فأوله الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب "المفتاح"، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حرف بمعنى إن لمجرد التعليق لا للامتناع، وذهب ابن ماله في "التسهيل" و "الخلاصة" إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية لوقوع الماضي وإلا فهو وارد في القرآن وفصيح العربية.
والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده {لو} متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضا وغير حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذرا ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم، وأن كون الفعل بعدها ماضيا أو مضارعا ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة باختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها، إذ كثيرا ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة:
ولو تلتقى أصداؤنا بعد موتنا ... ومن بين رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة ... لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
فإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية.
[ 166, 167] {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]
"إذ" ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرئ بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد.
وجئ بالفعل بعد "إذ" هنا ماضيا مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيها على تحقق وقوعه فإن درجت على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفا للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحا للتبعية، وإن درجت على أنها ترد ظرفا للمستقبل وهو الأصح ونسبه في "التسهيل"
(2/95)
إلى بعض النحاة، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152] على أن يكون إذ تحسونهم هو الموعود به وقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:71] فيكون المجاز في فعل {تبرأ} خاصة.
والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قربه أن يكون مضرا ولذلك يقال تبارا إذا أبعد كل الآخر من تبعه محققة أو متوقعة.
و {الَّذِينَ اتُّبِعُوا} بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لحى، فقد أشعر قوله اتبعوا أنهم كانوا يدعون إلى متابعتهم، وأيد ذلك قوله بعده: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} أي نجازيهم على إخلافهم.
ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم، وصرفهم عن الالتحاق بهم حين هرعوا إليهم.
وجملة: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} حالية أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أعد لمن أضل الناس فجعلوا يتباعدون من أتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازا في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله تعالى: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام:49]، فموقع الحال هنا حسن جدا وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاء بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب، ولا تكون معطوفة على جملة {تبرأ} لأن معناها حينئذ يصير إعادة لمعنى جملة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} فتصير مجرد تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات.
وضمير {رأوا} ضمير مبهم عائد إلى فريقي الذين اتبعوا والذين اتبعوا.
وجملة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} معطوفة على جملة {تبرأ} أي وإذ تقطعت بهم الأسباب، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين.
والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطعه بالتشديد مضاعف قطع بالتخفيف.
والأسباب جمع سبب وهو الحبل الذي يمد ليرتقي عليه في النخلة أو السطح، وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم
(2/96)
الذي تعبوا لأجلة مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتني الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي: تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقى بجامع السعي، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم بتقطيع الحبل، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك. وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يعد مثالا في الحسن:
كأن مثار النفع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة.
فالباء في {بهم} للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سببا آخر ينزل فيه، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابهم أو نحوه، فمن قال إن الباء بمعنى عن أو للسببية أو التعدية فقد بعد عن البلاغة، وبهذه الباء تقوم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:167] أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذين قبله عائدان إلى مجموع الفريقين، على أن في صلة {الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] تنبيها على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعف العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}.
و {لو} في قوله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف {لو} وأصلها الشرطية حذف شرطها وجوابها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المنال يكثر تمنيه، وسد المصدر مسد الشرط والجواب، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة
(2/97)
لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جوابا على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب.
والكرة الرجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق، وحذف متعلق الكرة هنا لظهوره.
والكاف في {كَمَا تَبَرَّأُوا} [البقرة:167] للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلى:
أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك
ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جعلت للمجازاة، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعث على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198].
والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة.
فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعا عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم، قلت باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال لهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالبا والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعا إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم.
وجملة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:167] تذييل وفذلكة لقصة تبري المتبوعين من أتباعهم.
(2/98)
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ} للإراءة المأخوذة من يريهم على أسلوب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].
والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراء مثل هذا الإراء إذ لا يكون إراء لأعمالهم أوقع منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنع من هذه الحالة، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شعري شعرى، أو بمرادفة نحو والسفاهة كاسمها، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}.
والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله: {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} حال من {أَعْمَالَهُمْ} ومعنى {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسون بها.
والحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرح واشتقاقها من الحسر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعين أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوث الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلا إدخال ألم الحسرات عليهم وإلا فهم يلقون في النار على كل حال.
وعدل عن الجملة الفعلية بأن يقال {وما يخرجون} إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة، إلا أنه الأصل في التعبير بالجملة الاسمية في مثل هذا إذ لا تتأتى بسوى هذا التقديم، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة، ولأجل ذلك صرح صاحب "الكشاف" تبعا للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذل البكرى:
هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباق يبذ المغاليا
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص اه.
وادعى صاحب "المفتاح" أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق قد يفيد
(2/99)
الاختصاص كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29] {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه معنى التخصيص بالقرائن، وليس في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ما يفيد التخصيص ولا ما يدعو إليه.
[ 168, 169] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة:161] الآية، إذ ذكر كفرهم إجمالا ثم أبطله بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] واستدل على أبطاله بقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:164] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، ووصف حالهم وحسراهم يوم القيامة، فوصف هنا بعض مساوئ دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله :{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164] الآية، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة:172].
فالخطاب بيا أيها الناس موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بيا أيها الناس.
والأمر في قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإباحة، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله: {كلوا} تمهيد لقوله بعده {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
وقوله: {حَلالاً طَيِّباً} تعريض بتحميقهم فيما اعتنوا به أنفسهم فحرموها من نعم طيبة افتراء على الله، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحل والتحريم.
(2/100)
والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:138] الآيات.
قيل نزلت في تثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام.
ومن في قوله {مِمَّا فِي الْأَرْضِ} للتبعيض، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضا من كل نوع وليس راجعا إلى كون المأكول أنواعا دون أنواع، لأنه يفوت غرض الآية، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله: {حَلالاً طَيِّباً} فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة.
وقوله: {حَلالاً طَيِّباً} حالان من "ما" الموصولة، أولهما لبيان الحكم الشرعي والثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح.
والمراد بالطيب هنا ما تستطيعه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني وسيأتي معنى الطيب لغة عند قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] في سورة المائدة.
وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك قال علماؤنا: إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه، إذ التحريم حينئذ حكم للعارض لا للمعروض.
وقد فسر الكيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوما، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة.
واتباع الخطوات تمثيلية، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علما منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذي لا دليل له سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته
(2/101)
التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له.
والخطوات بضم فسكون جمع خطوة مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو والمغروف والمقبوض، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها، وأما الخطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول.
وقرأ الجمهور: {خُطُوَاتِ} بضم فسكون على أصل جمع السلامة، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفص عن عاصم بضم الخاء والطاء على الإتباع، والإتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان.
والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر البشرية، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر شيئة، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فعله، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها. ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمل لما ذلك بالهدى الديني عونا وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسنا ما ليس بالحسن، ولهذا جاء في الحديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا، وقدرتنا، وهدى الله تعالى إيانا. وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب، وعنه يترتب الثواب والعقاب.
واللام في {الشَّيْطَانِ} للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، ويكون المراد إبليس وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى.
وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، إن لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان، أو تجعل إن للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم
(2/102)
منزلة المتردد أو المنكر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا
وأيا ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغنى غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في دلائل الإعجاز ومثله قول بشار:
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدم ذلك.
وإنما كان عدوا لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقه الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كي لا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلا وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا، ولأجل هذا أيضا صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال.
ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم، ولذلك سماه الله وليا فقال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119]، إلا أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلا أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته.
وقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} استئناف بياني لقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فيئول إلى كونه علة للعلة إذ يسأل السامع عن ثبوت العداوة مع عدم سبق المعرفة ومع بعد ما بيننا وبينه فقيل: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} أي لأنه لا يأمركم إلا بالسوء الخ أي يحسن لكم ما فيه مضرتكم لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله.
والأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمر من الشيطان. ولك أن تجعل جملة {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يسوس لهم بحال الآمر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملا في حقيقته مفيدا مع ذكر الرمز إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة
(2/103)
تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم.
والسوء الضر من ساءه سوءا، فالمصدر بفتح السين وأما السوء بضم السين فاسم للمصدر.
والفحشاء اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظم إنكاره، لأن وساوس النفس تئول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المفضي للثأر أو إلى سوأة وعار كالزنا والكذب، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة وأما تصادفهما معا في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادفة.
وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أمر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله.
ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف وهو ضمير عائد إلى "ما" وهو رابط الصلة، ومعنى ما لا تعلمون: لا تعلمون أنه من عند الله بقرينة قوله: {عَلَى اللَّهِ} أي لا تعلمون أنه يرضيه ويأمر به، وطريق معرفة رضا الله وأمره هو الرجوع إلى الوحي وإلى ما يتفرع عنه من القياس وأدلة الشريعة المستقراة من أدلتها. ولذلك قال الأصوليون: يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس: إنه دين الله ولا يجوز أن يقول قاله الله، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقراة من الشريعة انعقد الإجماع عليها وهي وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والفضاء وخاصة نفسه فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يرضى الله تعالى بحسب ما كلف به من الظن1.
ـــــــ
1 قال الألوسي عند شرح {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} " وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفاه ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد، وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع وكل الحكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب
(2/104)
[170] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}
الأحسن عندي أن يكون عطفا على قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله مالا يعلمون، والمسلمون محاشون عن مجموع ذلك.
وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فيعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.
{بل} إضراب إبطال، أي أضربوا عن قول الرسول، {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، إضراب إعراض بدون حجة إلا بأنه مخالف لما ألوا عليه آباءهم.
وفي ضمير لهم التفات من الخطاب الذي في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
والمراد بما ألفوا عليه آباءهم، ما وجدوهم عليه من أمور الشرك كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] والأمة: الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام.
وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} كلام من جانب آخر للرد على قولهم: {نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يقصد منه الرد ثم التعجيب، فالهمزة مستعملة في الإنكار كناية وفي التعجيب إيماء، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي.
و {لو} للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: لاتبعوهم، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل
ـــــــ
العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول" "روح المعاني" "2/40"، ط المنيرية
(2/105)
العلم بأن المستفهم عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهم. ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازا و "لو" في مثله تسمى وصلية وكذلك "إن" إذا وقعت في موقع "لو"،
وللعلماء في معنى الواو وأداة الشرط في مثله ثلاثة أقوال:
القول الأول إنها للحال وإليه ذهب ابن جنى والمرزوقي وصاحب الكشاف قال ابن جنى في شرح الحماسة عند قول عمرو بن معد يكرب:
ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا
ونحو منه بيت "الكتاب":
عاود هراة وإن معمورها خربا
وذلك أن الواو وما بعدها منصوبة الموضع بعاود كما أنها وما بعدها في قوله وإن رديت بردا منصوبة الموضع بما قبلها وقريب من هذا: أزورك راغبا فيض وأحسن إليك شاكرا إلى، فراغبا وشاكرا لهما ألا ترى أن معناه إن رغبت في زرتك وإن شكرتني أحسنت إليك، وسألت مرة أبا على عن قوله:
عاود هراة وإن معمورها خربا1
كيف موقع الواو هنا وأومأت في ذلك له إلى ما نحن بصدده فرأيته كالمصانع في الجواب لا قصورا بحمد الله عنه ولكن فتورا عن تكلفه فأجمعته، وقال المرزوقي هنالك: قوله وإن رديت بردا في موضع الحال كأنه قال ليس جمالك بمنرر مردى معه برد والحال قد يكون فيه معنى الشرط كما أن الشرط فيه معنى الحال فالأول كقولك لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو إن كان ذاك، والثاني كبيت "الكتاب":
ـــــــ
1 هو لرجل من ربيعة قاله يرثي زوجه في واقعة فتح عبد الله بن خازم هراة سنة ست وستين وبعده قوله:
وأسعد اليوم مشغوفا إذا طربا ... وأرجع بطرفك نحو الخندقين ترى
رزءا جليلا وأمرأ مفظعا عجبا ... هاما تزقى وأوصالا مفرقة
ومنزلا مقفرا من أهله خربا
(2/106)
عاود هراة وإن معمورها خربا
لأن الواو منه في موضع الحال كما هو في بيت عمرو وفيه لفظ الشرط ومعناه وما قبله نائب عن الجواب، وتقديره: إن معمورها خربا فعاودها وإن رديت بردا على منرر فليس الجمال بذلك اهـ،
وقال صاحب "الكشاف": في هذه الآية وفي نظيرتها في سورة المائدة الواو للحال ، ثم ظاهر كلام ابن جنى والمرزوقي أن الحال في مثله من الجملة المذكورة قبل الواو وهو الذي نحاه البيضاوي هنا ورجحه عبد الحكيم، وذهب صاحب الكشاف إلى أن الحال من جملة محذوفة تقديرها أيتبعونهم ولو كان آباؤهم، وعلى اعتبار الواو واو الحال فهمزة الاستفهام في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} ليست مقدمة من تأخير كما هو شانها مع واو العطف والفاء وثم بل الهمزة داخلة على الجملة الحالية، لأن محل الإنكار هو تلك الحالة ولذلك قال في "الكشاف" في سورة المائدة الواو واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وقدر هنا وفي المائدة محذوفا هو مدخول الهمزة في التقدير يدل عليه ما قبله فقدره هنا أيتبعون آباءهم وقدره في سورة المائدة أحسبهم ذلك، وهذا اختلاف في رأيه، فمن لا يقدر محذوفا يجعل الهمزة داخلة على جملة الحال.
القول الثاني أن الواو للعطف قيل على الجملة المتقدمة وإليه ذهب البيضاوي ولا أعلم له سلفا فيه وهو وجيه جدا أي قالوا بل تتبع ولو كان آباؤهم، وعليه فالجملة المعطوفة تارة تكون من كلام الحاكي كما في الآية أي يقولونه في كل حال ولو كان آباؤهم إلخ فهو من مجيء المتعاطفين من كلامي متكلمين عطف التلقين كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124]، وتارة تكون من كلام صاحب الكلام الأول كما في بيت "الحماسة" وبيت "الكتاب" وتارة تكون من كلام الحاكي تلقينا للمحكي عنه وتقديرا له من كلامه كقول رؤبة:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقيل العطف على جملة محذوفة ونسبه الرضى للجرمي وقدروا الجملة بشرطية مخالفة للشرط المذكور، والتقدير: يتبعونهم إن كانوا يعقلون ويهتدون ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكذلك التقدير في نظائره من الشواهد وهذا هو الجاري على ألسنة المعربين عندنا في نظائره لخفة مؤنته.
القول الثالث: مختار الرضى أن الواو في مثله للاعتراض إما في آخر الكلام كما
(2/107)
هنا وإما في وسطه، وليس الاعتراض معنى من معاني الواو ولكنه استعمال يرجع إلى واو الحال. فأما الشرط المقترن بهذه الواو فلكونه وقع موقع الحال أو المعطوف أو الاعتراض من كلام سابق غير شرط، كان معنى الشرطية فيه ضعيفا لذلك اختلف النحاة في أنه باق على معنى الشرط أو انسلخ عنه إلى معنى جديد فظاهر كلام ابن جنى والمرزوقي أن الشرطية باقية ولذلك جملا يقربان معنى الشرط من معنى الحال يومئان إلى وجه الجمع بين كون الجملة حالية وكونها شرطية، وإليه مال البيضاوي هنا وحسنه عبد الحكيم وهو الحق، ووجه معنى الشرطية فيه أن الكلام الذي قبله إذا ذكر فيه حكم وذكر معه ما يدل على وجود سبب لذلك الحكم وكان لذلك السبب أفراد أو أحوال متعددة منها ما هو مظنة لأن تتخلف السببية عنده لوجود ما ينافيها معه فإنهم يأتون بجملة شرطية مقترنة بإن أو لو دلالة على الربط والتعليق بين الحالة المظنون فيها تخلف التسبب وبين الفعل المسبب عن تلك الحالة، لأن جملة الشرط تدل على السبب وجملة الجزاء تدل على المسبب ويستغنون حينئذ عن ذكر الجزاء لأنه يعلم من أصل الكلام الذي عقب بجملة الشرط.
وإنما خص هذا النوع بحرفي "إن ولو" في كلام العرب لدلالتهما على ندرة حصول الشرط أو امتناعه، إلا أنه إذا كان ذلك الشرط نادر الحصول جاءوا معه بإن كبيت عمرو، وإذا كان ممتنع الحصول في نفس الأمر جاءوا معه بلو كما في هذه الآية، وربما أتوا بلو لشرط شديد الندرة، للدلالة على أنه قريب من الممتنع، فيكون استعمال لو معه مجازا مرسلا تبعيا.
وذهب جماعة إلى أن "إن ولو" في مثل هذا التركيب خرجتا عن الشرطية إلى معنى جديد، وظاهر كلام صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] أن لو فيه للفرض؛ إذ فسره بقوله: مفروضا إعجابك حسنهن، وقال صاحب "الكشاف" هنا إن الشرط في مثله لمجرد التسوية وهي لا تقتضي جوابا على الصحيح لخروجها عن معنى الشرطية وإنما يقدرون الجواب توضيحا للمعنى وتصويرا له اه. وسمى المتأخرون من النحاة إن ولو هاتين وصليتين، وفسره التفتازاني في "المطول" بأنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد.
وإذ قد تحققت معنى هذا الشرط فقد حان أن نبين لك وجه الحق في الواو المقارنة له المختلف فيها ذلك الاختلاف الذي سمعته، فإن كان ما بعد الواو معتبرا من جملة
(2/108)
الكلام الذي قبلها فلا شبهة في أن الواو للحال وأنه المعنى المراد وهو الغالب، وإن كان ما بعدها من كلام آخر فهي واو العطف لا محالة عطفت ما بعدها على مضمون الكلام الأول على معنى التلقين، وذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ}1 [الزمر:43] وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فإن مجيء همزة الاستفهام دليل على أنه كلام آخر، وكذلك بيت قالت بنات العم المتقدم، وإن كان ما بعدها من جملة الكلام الأول لكنه منظور فيه إلى جواب سؤال يخطر ببال السامع فالواو للاستئناف البياني الذي عبر عنه الرضى بالاعتراض مثل قول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت في الأقاويل فإن موقع الشرط فيه ليس موقع الحال بل موقع رد سؤال سائل يقول: أتنفي عن نفسك الذنب. وقد كثر القول في إثباته.
وقوله: {لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} أي لا يدركون شيئا من المدركات، وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطأ في اتباع آبائهم عن غير تبصر ولا تأمل، وتقدم القول في كلمة شئ.
ومتعلق {وَلا يَهْتَدُونَ} محذوف أي إلى شئ، وهذه الحالة ممتنعة في نفس الأمر؛ لأن لآبائهم عقولا تدرك الأشياء، وفيهم بعض الاهتداء مثل اهتدائهم إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى بعض ما عليه أمورهم من الخير كإغاثة الملهوف وقرى الضيف وحفظ العهد ونحو ذلك، ولهذا صح وقوع "لو" الشرطية هنا. وقد أشبعت الكلام على "لو" هذه؛ لأن الكلام عليها لا يوجد مفصلا في كتب النحو، وقد أجحف فيه صاحب "المغنى".
وليس لهذه الآية تعلق بأحكام الاجتهاد والتقليد؛ لأنها ذم للذين أبوا أن يتبعوا ما أنزل الله، فأما التقليد فهو تقليد للمتبعين ما أنزل الله2.
[171] {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ
ـــــــ
1 في المطبوع " قل أو لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" ولم أجدها في "معجم عبد الباقي" مادة يعقلون ويهتدون.
2 قال الألوسي: "في الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه ملحق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شيء، وقد قال سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] "روح المعاني" "2/40-41"، ط المنيرة.
(2/109)
عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]
لما ذكر تلقيهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:165] الآية، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من الناس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}، وعين المراد من {الَّذِينَ ظَلَمُوا} في قوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة:165]، وعين الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168]، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:11]، عقب ذلك كله بتمثيل فظيع حالهم إبلاغا في البيان واستحضارا لهم بالمثال، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17]. وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17] لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك.
والمثل هنا لما أضيف إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} كان ظاهرا في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه، فكل من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء: داع ومدعو ودعوة، وفهم وإعراض وتصميم، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبها بجزء من أجزاء المشبه به، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزته الآية إيجازا بديعا، والمقصود ابتداء هو تشبيه حال الكفار لا محالة، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته، وللكفار هنا حالتان: إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام، وقد تضمنت الحالتين الآية السابقة وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] وأعظمه عبادة الأصنام، فجاء هذا المثل بيانا لما طوى في الآية السابقة.
فإن قلت: مقتضى الظاهر أن يقال: ومثل الذين كفروا كمثل غنم الذي ينعق؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يشبهه داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك? وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق? قلت: كلا
(2/110)
الأمرين منتف؛ فإن قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ} ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [ البقرة:17 ] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالا وأيها ذكرت في جانب المركب المشبه والمركب المشبه به أجزأك، وإنما كان الغالب أن يبدءوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقد لا يلتزمون ذلك، فقد قال الله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] الآية. والذي يقابل ما ينفقون في جانب المشبه به هو قوله: {حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران:117] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] وإنما الذي يقابل الذين ينفقون في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلا وقال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] الآية، والذي يقابل الصفوان في جانب المشبه هو المال المنفق لا الذي ينفق، وفي الحديث الصحيح: مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء الخ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلا، وهو استعمال كثير جدا، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم، أو تشبيه حال المشركين في إقبالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم، وأبا ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله :{إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} من تكملة أوصاف بعض أجزاء الركب التمثيلي في جانب المشبه به. وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك، ولأن يكون احتراسا في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رعاتها فهي لا تسمع إلا دعاء ونداء، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذ مثل قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ثم قال وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار.
وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حملته من الهيئة كلها، وهيئة المشركين في تلقي الدعوة على إعراض عنها وإقبال على
(2/111)
دينهم كما هو مدلول قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} [البقرة:170] الآية، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يسمع، فالنبي يدعوهم كناعق بغنم لا تفقه دليلا، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئا.ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.
والنعق نداء الغنم وفعله كضرب ومنع ولم يقرأ إلا بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منع أقيس، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريرا بأن لا طائل في هجائه الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الظلام ضلالا
والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد، فهو تأكيد ولا يصح، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد، وقيل الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات، والنادر رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعلتها، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام، أو المراد به هنا نداء الرعاء بعضهم بعضا للتعاون على ذود الغنم، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف:43] في سورة الأعراف.
وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومة من ينعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهدا على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط: هو أعمى، إلا أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكما بالمشركين فقيل: صم بكم عمي كقول إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42].
وقوله: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} تفريع كمجيء النتيجة بعد البرهان، فإن كان ذلك راجعا للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي، أي إن تأملتم
(2/112)
وجدتموهم لا يعقلون؛ لأنهم كالأنعام والصم والبكم الخ، وإن كان راجعا للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها. ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم.
[172] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات جرت إليه مناسبة الانتقال، فقد انتقل من توبيخ أهل الشرك على أن حرموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حرم عليهم من المطعومات، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:168] بمضمون جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ليكون خطاب المسلمين مستقلا بنفسه، ولهذا كان الخطاب هنا بيا أيها الذين آمنوا، والكلام على الطيبات تقدم قريبا.
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان، والأمر في {اشْكُرُوا} للوجوب لأن شكر المنعم واجب.
وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة:152].
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعارا بالإلهية فكأنه يومئ إلى ألا تشكر الأصنام؛ لأنها لم تخلق شيئا مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكرا. وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة، إذ الضمير لا يصلح لذلك إلا في مواضع.
ولذلك جاء بالشرط فقال: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلا الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده.
فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية. وجواب الشرط محذوف أغنى عنه ما تقدمه من قوله: {وَاشْكُرُوا}
[173] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
(2/113)
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناف بياني، ذلك أن الإذن بأكل الطيبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبينا المحرمات وهي أضداد الطيبات، لتعرف الطيبات بطريق المضادة المستفاد من صيغة الحصر، وإنما سلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم، ولما كان القصر هنا حقيقيا لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يشرع لهم، لم يكن في هذا القصر قلب اعتقاد أحد وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض.
و {إنما} بمعنى ما "وإلا" أي ما حرم عليكم إلا الميتة وما عطف عليها، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حرم من المأكولات.
والحرام: الممنوع منعا شديدا.
والميتة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذات التي أصابها الموت فمخففها ومشددها سواء كالميت والميت، ثم خص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة، فقيل: إن هذا من نقل الشرع وقيل: هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى.
وقرأ الجمهور الميتة بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء.
وإضافة التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، ومحمله على تحريم ما يقصد من تلك العين باعتبار نوعها نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أو باعتبار المقام نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق، أو يقال: أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة، فإذا تعين ما تقصد له قصر التحريم والتحليل على ذلك، وإلا عمم احتياطا، فنحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن، ونحو: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] بالنسبة إلى الميسر والأزلام متعين لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها،
والميتة هنا عام؛ لأنه معرف بلام الجنس، فتحريم أكل الميتة هو نص الآية
(2/114)
وصريحها لوقوع فعل {حَرَّمَ} بعد قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصوفها ومالا يتصل بلحمها مما كان ينتزع منها في وقت حياتها فقال مالك: يجوز الانتفاع بذلك، ولا ينتفع بقرنها وأظلافها وريشها وأنيابها لأن فيها حياة إلا ناب الفيل المسمى العاج، وليس دليله على هذا التحريم منتزعا من هذه الآية ولكنه أخذ بدلالة الإشارة؛ لأن تحريم أكل الميتة أشار إلى خباثة لحمها وما في معناها، وقال الشافعي: يحرم الانتفاع بكل أجزاء الميتة، ولا دليل له من فعل {حَرَّمَ} ؛ لأن الفعل في خير الإثبات لا عموم له، ولأن لفظ: {الْمَيْتَةَ} كل وليس كليا فليس من صيغ العموم، فيرجع الاستدلال به إلى مسألة الخلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو أواخرها وهي مسألة ترجع إلى إعمال دليل الاحتياط وفيه مراتب وعليه قرائن ولا احسبها متوافرة هنا، وقال أبو حنيفة لا يجوز الانتفاع بالميتة بوجه ولا يطعمها الكلاب ولا الجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرمها الله تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا به حكم الحظر، فقوله موافق لقول مالك فيما عدا استدلاله.
وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف، ومن جهة باطنه كشبه اللحم، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة1 إذا دبغ فقال أحمد أبن حنبل: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وقال أبو حنيفه والشافعي: يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير، لأنه محرم العين، ونسب هذا إلى الزهري، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير، وقال مالك يطهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلبا لا يداخله ما يجاوره، وأما باطنه فلا يطهر بالدبغ ولذلك قال: يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه، ومنع أن يصلى به أو عليه، وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به"، ولما جاء في الحديث الآخر من قوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر2"،
ويظهر أن هذين الحبرين لم يبلغا مبلغ الصحة عند مالك ولكن صحتهما ثبتت عند غيره، والقياس يقتضي طهارة الجلد المدبوغ لأن الدبغ يزيل ما في الجلد من توقع العفونة العارضة للحيوان غير المذكي فهو مزيل لمعنى القذارة والخبائة العارضتين للميتة.
ـــــــ
1 انظر هذه المسألة في "البداية" لابن رشد "1/78"، دار المعرفة.
2 رواه الترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2/115)
ويستثنى من عموم الميتة ميتة الحوت ونحوه من دواب البحر التي لا تعيش في البر وسيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] في سورة العقود.
واعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالبا إلا وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءا من دمه جراثيم الأمراض، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكي مات من غير علة غالبا ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقيا مما يخشى منه أضرار.
ومن أجل هذا قال مالك في الجنين: أن ذكاته ذكاة أمه1؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغا لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول الحديث الصحيح: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتا فاعتبر أنه ميتة لم يذك، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلا.
وقد ألحق بعض الفقهاء بالحوت الجراد تؤكل ميتته لأنه تتعذر ذكاته وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكيم من المالكية تمسكا بما في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن أبي أوفى: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه" اهـ.
وسواء كان معه ظرفا لغوا متعلقا بنأكل أم كان ظرفا مستقرا حالا من ضمير كنا فهو يقتضي الإباحة إما بأكله صلى الله عليه وسلم إياه وإما بتقريره ذلك فتخص به الآية لأنه حديث صحيح، وأما حديث: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" فلا يصلح للتخصيص لأنه ضعيف كما قال ابن العربي في "الأحكام" 2، ومنعه مالك وجمهور أصحابه إلا أن يذكى ذكاة أمثاله كالطرح في الماء السخن أو قطع ما لا يعيش بقطعه.
ولعل مالك رحمة الله استضعف الحديث الذي في مسلم أو حمله على الاضطرار في السفر أو حمله على أنهم كانوا يصنعون به ما يقوم مقام الذكاة قال ابن وهب: إن ضم
ـــــــ
1 المصدر السابق"1/442"، دار المعرفة.
2 وابن رشد أيضا كما في المصدر السابق "1/80"ن دار المعرفة، وقال في "1/467"، دار المعرفة: "هذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث".
(2/116)
الجراد في غرائر فضمه ذلك ذكاة له، وقد ذكر في "الموطأ" حديث عمر وقول كعب الأحبار في الجراد أنه من الحوت وبينت توهم كعب الأحبار في كتابي المسمى كشف "المغطى على الموطأ1 ".
وأما الدم فإنما نص الله على تحريمه لأن العرب كانت تأكل الدم، كانوا يأخذون المباعر فيملأونها دما ثم يشوونها بالنار ويأكلونها، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس، وهذا مناف لمقصد الشريعة، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده أورثه ضراوة، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك، ومداركهم في ذلك ضعيفة، ولعلهم راوا مع ذلك أن فيه قذارة.
والدم معروف مدلوله في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آت من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقوة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ما كينية هوائية، ثم يدور الدم في العروق متنقلا من بعضها إلى بعض بواسطة حركة القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان.
ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم. وقد قال بعض المفسرين: إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحش دون الإنسى، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم وارد على الخنزير الإنسي أولى بالتحريم أو مساو للوحشي.
وذكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه
ـــــــ
1 "كشف المغطي من المعاني وألفاظ الواقعة في الموطأ"
(2/117)
ولا على عدمها، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكريا: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر وهو ليس المراد من الآية.
وقد قيل في وجه اللحم هنا وتركه في قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وجوه قال ابن عطية: إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذكى أم لم يذك اه. ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد، وقال الآلوسي خصه لإظهار حرمته، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اه. يريد أ، ذكره لزيادة التغليظ أي اللحم الذي تذكرونه بشراهة، ولا أحسب ذلك، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير وهم الروم دون العرب، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه للناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره؛ لأنهم كانوا يغزون به الجلد.
وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة1 مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.
ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي المدونة توقف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزير. قال ابن شأس: رأي غير واحد أن توقف مالك حقيقة لعموم: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] وعموم قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} ورأى بعضهم أنه غير متوقف فيه، وإنما امتنع من الجواب إنكارا عليهم تسميتهم إياه خنزير ولذلك قال أنتم تسمونه خنزير يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزير وأنه لا ينبغي تسميته خنزيرا ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يتلاعب بها، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر متردد أخذا بأنه سمي خنزيرا، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي، ومن أين لنا ألا يكون
ـــــــ
1 وتسمى في الفرنسية "Trichine والمرض يسمى "Trichnose"
(2/118)
لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق.
وقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون: اسهل الصبي صارخا إذا رفع صوته بالبكاء، وأهل بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل: هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضا اسم صوت لزجر الخيل، وقيل مشتق من الهلال، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضا وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقا وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هل وأهل بمعنى رفع صوته، لأن تصاريف أهل أكثر، ولأنهم سموا الهلال شهرا من الشهرة كما سيأتي.
وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزى أو نحوهما، وكذلك كان عند الأمم التي يعبد آلهة إذا قربت لها القرابين، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عند اليونان كما جاء في "الإلياذة" لهوميروس.
فأهل في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله، وضمن {أهل} معنى تقرب فعدى لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى ما {أهل}، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أن لا، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.
وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعما بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام.
وقال ابن عرفه في "تفسيره": الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شئ من هذه المحرمات فلا إثم عليه، وقول: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} حال، والبغي الظلم، والعدوان المحاربة والقتال، ومجي هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه يأكلها يكون غير باغ ولا عاد، لأن الضرورة تلجئ إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي
(2/119)
والعدوان بين الأمة، وهي أيضا إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والغدوان بأنه سيبغى ويعتدى وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى،
ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أن المضطر لا يشبع ولا يتزود خلافا لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود، وقد فسر قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} بتفاسير أخرى: فمن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية: بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين.
ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلا ما جرب منها، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثفات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسا على أكل المضطر وإلا فلا1.
ـــــــ
1 انظر "حاشية ابن عابدين"4/113-215"، "حاشية الدسوقي"4/353-354"، "الفوكه الدواني""2/441"، "حواشي الشرواني وابن قاسم على "التحفة""9/170" "قليوبي وعميرة" "3/203"، "كشاف القناع" "2/76، 6/116، 200"، "الإنصاف" "2/463-474"ن "الفروع" "2/165" وما بعدها.
(2/120)
وقرأ أبو جعفر: {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر الطاء، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب: "وفي نزعه ضعف والله يغفر له". ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة.
[174] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
عود إلى محاجة أهل الكتاب لاحق بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة:159] بمناسبة قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة:173] تحذيرا للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم، وتحليل بعض ما حرم الله عليهم؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يقرؤوا من كتابهم ما غيروا العمل بأحكامه كما قال تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174] لقصد المشاكلة.
وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملونا بلوني الغرض السابق والغرض اللاحق.
وعدل عن تعريفهم بغير الوصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخير وعلته نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
والقول في الكتمان تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
(2/121)
وَالْهُدَى} [البقرة:159] والكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ، فيشبه أن تكون "أل" عوضا عن المضاف إليه، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها.
وقوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً} [البقرة:41] وهو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفا لشرعهم أو على الحكم بذلك، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضا عن جور الحاكم وتحريف المفتى.
وقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} جئ باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، وهو تأكيد للسببية المدلول عليها بالموصول، وفعل {يَأْكُلُونَ} مستعار لأخذ الرشا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلا النار لأنه الأصل في المضارع.
والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يظهر كحال الرشوة، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكل نار تعين أن في الكلام محازا، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعنى الرشوة، قال التفتازاني: وهو الذي يوهمه ظاهر كلام "الكشاف" لكنه صرح أخيرا بغيره، وقيل هو مجاز في الطرف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطلاقا للاسم على سببه قال التفتازاني: وهو الذي صرح به في الكشاف ونظره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يقلاها:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دما أي دية دم فقد تضمن الدعاء على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الدية عن القتيل ولا يرضون إلا بالقود،
واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية: شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
(2/122)
قلت: ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غير محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال: أولئك ما يأخذون إلا أخذا فظيعا مهلكا فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كله هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] أي على وشك الهلاك والاضمحلال.
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى: {فِي بُطُونِهِمْ} فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} مستعملا في المركب الحقيقي، وهو لا يصح، ولولا قوله في بطونهم لأمكن أن يقال: إن يأكلون هنا مستعمل حقيقة عرفية في غضب الحق ونحو ذلك.
وجوزوا أن يكون قوله: {يَأْكُلُونَ} مستقبلا، أي ما سيأكلون إلا النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة، وهو وجيه، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله: {يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:174] فإن المراد بالثمن هنا الرشوة، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلا.
وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب، فالمراد نفي كلام التكريم، فلا ينافى قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93]، وقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يثني عليهم في ذلك المجمع، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذ سكوت.
[175] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}
إن جعلت {أولئك} مبتدأ ثانيا لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم إن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] فالقول فيه
(2/123)
كالقول في نظيره وهو {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.
وإن جعلته مبتدأ مستقلا مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار؛ لأنه وعيد عظيم جدا يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة، ومجيء المسند إليه حينئذ اسم إشارة لتفظيع حالهم؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.
ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسى العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه، ففي كتمانهم حق رفع وباطل وضع.
ومعنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب والقول في معنى: {اشتروا} تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:41].
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بنى التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة الشاهد كقول زهير:
تبصر خليلي هل ترى من ظغائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم
بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة، وقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي ... بذي الطيسين فالتفت ورائيا
وقريب منه قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] على جعل {لَتَرَوُنَّ} جواب {لو}.
(2/124)
[176] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
جئ باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما كقول النابغة:
وذلك من تلقاء مثلك رائع
بعد قوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
والكلام السابق الأظهر أنه قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق وذلك فساد وتغيير لمراد الله؛ لأن ما يكتم من الحق يخلفه الباطل كما بيناه آنفا فحق عليهم العذاب لكتمانه، لأنه مخالف مراد الله من تنزيله، وعليه فالكتاب في قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} هو عين الكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلل واحدا، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة.
ويجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من يكتمون، أي إنما كتموا ما كتموا بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بشر الله به على لسان التوراة. والمعنى أنهم كتموا دلائل صدق النبي حسدا وعنادا؛ لأن الله أنزل القرآن على محمد، فالكتاب هنا غير الكتاب في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174]
والجملة على هذا الوجه استئناف بياني لاستغراب تعمدهم كتمان ما أنزل الله من الكتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يكون إلا عن سبب عظيم، فبين بقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدهم، والمراد بالذين اختلفوا
(2/125)
عين المراد من قوله: {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159] و {الَّذِينَ اشْتَرَوُا} [البقرة:175]، فالموصولات كلها على نسق واحد.
والمراد من الكتاب المجرور بفي يحتمل أنه المراد من الكتاب في قوله: {نَزَّلَ الْكِتَابَ} فهو القرآن فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ليناسب استقلال جملة التذييل بذاتها ويكون المراد باختلفوا على هذا الوجه أنهم اختلفوا مع الذين آمنوا منهم أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كله أو تكذيب مالا يوافق هواهم وتصديق ما يؤيد كتبهم، ويحتمل أن المراد من الكتاب المجرور بفي هو المراد من المنصوب في قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة:174] يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرونه والذي يغيرونه وفي الإيمان بالإنجيل والإيمان بالتوراة، ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذ قالوا: سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين. لكنه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب، ومن المحتمل أيضا أن يكون المراد بالكتاب الجنس أي الذين اختلفوا في كتب الله فآمنوا ببعضها وكفروا بالقرآن.
وفائدة الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {الْكِتَابِ} أن يكون التذييل مستقلا بنفسه لجريانه مجرى المثل، وللمفسرين وجوه كثيرة في قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} متفاوتة البعد.
ووصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبه عن الوفاق كقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118].
[177] {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
قدمنا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] أن قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} متصل بقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] وأنه
(2/126)
ختام للمحاجة في شأن تحويل القبلة، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أطنب فيه وأطيل لأخذ معانيه بعضها بحجز بعض.
فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحسدهم المؤمنين على اتباع الإسلام مراد منه تلقين المسلمين الحجة على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب. فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شئ من البر باستقبالهم قبلتهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمرا من أمور البر، يقول عد عن هذا وأعرضوا عن تهويل الواهنين وهبوا أن قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاة بلا قبلة أصلا فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب.
والبر: سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان فيقال: بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
ونفى البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة: إما لأنه من الوسائل ل من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر، ولذلك قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ونظير هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة:19] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفى عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم ولكنه شئ استحسنه أنبياؤهم ورهبانهم ولذلك نفى البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيها على ذلك.
وقرأ الجمهور: {لَيْسَ الْبِرَّ} برفع البر على أنه اسم {لَيْسَ} والخبر هو أن تولوا وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب {الْبِرَّ} على أن قوله: {أَنْ تُوَلُّوا} اسم {لَيْسَ} مؤخر، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركبا من أن المصدرية وفعلها كان المتكلم بالخيار في
(2/127)
المعمول الآخرين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم {لَيْسَ} أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به، فوجه قراءة رفع {الْبِرّ} أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذكر خبره قبله ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إخبار عن المصدر باسم الذات للمبالغة كعكسه في قولها: "فإنما هي إقبال وإدبار" وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك:30] وقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي وعل هو مخافة أي خائف، ومن قدر في مثله مضافا أي بر من آمن أو ولكن ذو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقدارا؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغسول كما قال التفتازاني، وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ لقرأت ولكن البر بفتح الباء، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة: {مَنْ آمَنَ} لأن من آمن هو البار لا نفس البر وكيف يقرأ كذلك و {الْبِرَّ} معطوف بلكن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلا عينه ولذا لم يقرأ أحد إلا البر بكسر الباء، على أن القراءات مروية وليست اختيارا ولعل هذا لا يصح عن المبرد،
وقرأ نافع وابن عامر ولكن البر بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون لكن ونصب البر والمعنى واحد.
وتعريف {وَالْكِتَابِ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكنب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف النبيين على "الكتاب" قرينة على أن اللام في "الكتاب" للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلبا لخفة اللفظ. وما يظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جاريا على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في المفتاح في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] من كلام وقع في الكشاف وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قوله تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} [البقرة:285] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صح ذلك عنه لم يكن مريدا به توجيه قراءته و "كتابه" المعرف بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين
(2/128)
نحو لا رجل في الدار ونحو رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب "المفتاح".
والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفى بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعا لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام، فأما في المنفى بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلا إذا رجح أحد التعبيرين مرجح لفظي، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يعرض للمفرد والدمع ويندفع بالقرائن.
وعلى في قوله: {عَلَى حُبِّهِ} مجاز في التمكن من حب المال مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} [البقرة:5] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} [الانسان:8] وقول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة فيه والندى خلقا
قال الأعلم في "شرحه" أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة اهـ.
وليس هذا معنى مستقلا من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا برا.
وذكر أصنافا ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح.
فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطى فاللام في القربى عوض عن المضاف إليه، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فليس مقيدا بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم، إذ المقصود هو التحابب.
(2/129)
ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عيش، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم وذكر السائلين وهم الفقراء والمسكنة: الذل مشتقة من السكون ووزن مسكين مفعيل للمبالغة مثل منطيق والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد اتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير فقيل هو أقل فقرا من الفقير وقيل هو أشد فقرا وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215].
وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنعه نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالبا. فالسؤال علامة الحاجة غالبا، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد شؤاله، ورووا: "للسائل حق ولو جاء راكبا على فرس" وهو ضعيف.
وذكر ابن السبيل وهو الغريب أعنى الضيف في البوادي؛ إذ لم يكن في القبائل نزل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضا على المسلمين أي في البوادي ونحوها. وذكر الرقاب والمراد فداء الأسرى وعتق العبيد. ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آيتها،
وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهد ومن كرم النفس وكون الجد والحق لها دربة وسجية، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طرفة عين، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول: فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا. وعطف {وَالْمُوفُونَ} على {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومن أوفى بعده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد.
وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة، وحالة الضر، وحالة القتال، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا
(2/130)
وصفين إذ لم يسمع لهما أفعل مذكرا، والبأساء مشتقة من البؤس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه، قال الراغب: وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير، فالبأساء الشدة في المال. والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضر ويقابلها السراء وهي ما يسر الإنسان من أحواله، والبأس النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33] {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14] والشر أيضا بأس والمراد به هنا الحرب.
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.
والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة. ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا. وفيها أيضا تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر، والنبيين، والكتاب وسلبوا اليتامى أموالهم، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة.
ونصب {الصَّابِرِينَ} وهو معطوف على مرفوعات نصب على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الإتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضى، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعا أو مجرورا وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلا بمخالفة الإعراب، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام، والأظهر تقدير فعل أخص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.
(2/131)
وقد حصل بنصب {الصَّابِرِينَ} هنا فائدتان: إحداهما عامة في كل قطع من النعوت، فقد نقل عن أبي على الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخاف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان.
قال في "الكشاف" نصب على المدح وهو باب واسع كسره سيبويه على أمثلة وشواهد اه. قلت: قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح1: "وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، مثل ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {وَالصَّابِرِينَ} ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيدا، ونظير هذا النصب قول الخرنق:
لا يبعدن قومي الذين هموا ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
بنصب النازلين، ثم قال: وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيما ونصبه على الفعل كأنه قال أذكر أهل ذلك وأذكر المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره" اه قلت: يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162] عطفا على {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162]، وفي سورة العقود والصابئون عطفا على {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة:62].
الفائدة الثانية في نصب {الصَّابِرِينَ} بتقدير أخص أو أمدح تنبيها على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر.
قال في "الكشاف" ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب ومالهم في النصب على الاختصاص من الافتنان اه وأقول: إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأ به
ـــــــ
1 راجع "الكتاب" له "1/248"، دار الصادر
(2/132)
عن أن يكون خطأ أو سهوا وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه.
وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل {آتى} أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]
وعن بعض المتأولين أن نصب {والصابرين} وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضى الله عنه فيما نقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه إني أجد به لحنا ستقيمه العرب بألسنتها وهذا متقول على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ. وقرأ يعقوب {وَالصَّابِرِونَ} بالرفع عطفا على {وَالْمُوفُونَ}.
[178] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أعيد الخطاب بيا أيها الذين آمنوا، لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعة ذات استقلال بنفسها ومدينتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] الآية.
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص، لأن أعظم شئ من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فمه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المغار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في
(2/133)
قتل قاتل وليشه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحد كفء له، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأن دم الشريف يكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير:
تدار كتما عبسا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ .....فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فألف بين قلوبهم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يبقى شيئا بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلا أقل حركة.
فمعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير {عَلَيْكُمُ} لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص، لأن ولى الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وأصل الكتابة نقش الحروف في حجر أو رقش أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق لما نقش به ودوام تذكره أطلق كتب على المعنى حق وثبت أي حق لأهل القتيل.
والقصاص اسم لتعويض حق جناية أو حق غرم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافا وعدلا، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنى، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص.
وهو بوزن فعال وهو وزن مصدر فاعل من القص وهو القطع ومنه قولهم: طائر مقصوص الجناح ومنه سمى المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجرى في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاص فلان فلانا إذا طرح من دين في ذمته مقدارا يدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله، فلذلك سمى القود وهو تمكين ولي المقتول من قتل قاتل مولاه قصاصا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: من الآية179]، وسميت عقوبة من يجرح أحدا جرحا عمدا
(2/134)
عدوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، وسموا معاملة المعتدى بمثل جرمه قصاصا {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} يتحمل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه، ومن تحكمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلا إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السؤدد والشرف ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء:
أما في بني حصن من ابن كريهة ... من القوم طلاب الترات غشمشم
فيقتل جبرا يامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم1
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم".
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل، فإن الحياة أعز شئ على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممن اعتدى على قتيلهم قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الاسراء:33] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية، ويأتي عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: من الآية179]
ـــــــ
1 جبر هو اسم قاتل أبيها
(2/135)
وأول دم أفيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له: بحرة الرغاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة.
و {في} من قوله: {فِي الْقَتْلَى} للظرفية المجازية والقصاص لا يكون في ذوات القتلى، فتعين تقدير مضاف وحذفه هنا ليشمل القصاص سائر شئون القتلى وسائر معاني القصاص فهو إيجاز وتعميم.
وجمع {الْقَتْلَى} باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم، والتعريف في القتلى تعريف الجنس، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلا.
وجملة: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} بين وتفصيل لجملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فالباء في قوله: {بِالْحُرِّ} وما بعده، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتص أو يقتل بالحر الخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره، والعبد يقتل بالعبد لا بغيره، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها،
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها، ففي "الموطأ" قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فهؤلاء الذكور وقوله: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال. والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء.أي وخصت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله: {الْحُرُّ} وقوله: {الْعَبْدُ} مراد بها خصوص الذكور.
قال القرطبي عن طائفة أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبينت حكم الحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة:45] الآية اه. وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع، ولا
(2/136)
مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتا ولا نفيا، وقال الشعبي: نزلت في قوم قالوا: لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى. وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغنى في إقامة محمل الآية.
وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد؛ لأن شرط اعتباره إلا يظهر لذكر القيد سبب إلا الاحتراز عن نقيضه، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك، وإن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى.
الثالث: نقل عن ابن عباس: أن هذا كان حكما في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ونقله في "الكشاف" عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة، ورده ابن عطية والقرطبي بأن أية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخا لحكم ثبت في شريعة الإسلام، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأت في شرعنا خلافه.
وقال ابن العربي في الأحكام عن الحنفية: إن قوله تعالى: {فِي الْقَتْلَى} هو نهاية الكلام وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} جاء بعد ذلك وقد ثبت عموم المساواة بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد، قلت: يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصودا وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلا إلا أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل، والمنقول عن الحنفية في "الكشاف" هو ما ذكرناه آنفا.
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم؛ فإن "ال" لما صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه.
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمة الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلا لقتل مماثلة في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها
(2/137)
ما يأتي الظاهر والله تعالى أعلم أن للآية يعني آية سورة المائدة نزلت إعلاما بالحكم في بني إسرائيل تأنيسا وتمهيدا لحكم الشريعة الإسلامية، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير، ولم تتضمن حكما للعبيد ولا للإناث، وصدرت بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] والآية الثانية يعني آية سورة البقرة صدرت بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والإناث ردا على من يزعم أنه لا يقتص لهم، وخصص الأنثى للدلالة على أن دمها معصوم، وذلك لأنه إذا اقتص لها من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنا لدليله، فقوله:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
حكم جاهلي اهـ
يعني أن الآية لم يقصد منها إلا إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث، فقصدت التسوية بقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها، وأراد بقوله: حكم جاهلي أنه ليس جاريا على أحكام الإسلام؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.
فإن قلت: كان الوجه ألا يقول: {بِالْأُنْثَى} المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت: الظاهر أن القيد حرج محرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلا أنثى، إذ لا يتشاور الرجال والنساء فذكر {بِالْأُنْثَى} خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة" والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلا معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية.
وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى، فتعين أن قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} محملة الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين
(2/138)
بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافا لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله: {الْقَتْلَى} ولم يثبت له مخصصا ولم يستثن منه إلا القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذا بحديث لا يقتل مسلم بكافر، ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة.
وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] في سورة العقود. ونفى مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استنادا لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة، واستنادا لآثار مروية، وقياسا على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ. والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب.
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ليس واجبا عليه ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أن الأخذ به واجب على ولى القتيل، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام.
قال الأزهري: "هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر إفهام أهل عصرهم" ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها، وذكر في "الكشاف" تأويلا آخر، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل "الكشاف"، واتفق جميعهم على أن القصد منها
(2/139)
الترغيب في المصالحة عن الدماء، وينبغي ألا نذهب بإفهام الناظر طرائق قددا، فالقول الفصل أن نقول: إن ما صدق من في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصف بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام وترقيقا لنفس ولي المقتول؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه؛ لأنه كمن رضى بقتل أخيه، ولقد قال بعض العرب: قتل أخوه ابنا له عمدا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وما صدق {شَيْءٌ} هو عوض الصلح، ولفظ شيء اسم متوغل في التفكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155]،
ومعنى {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [لأعراف:199]، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله: {مِنْ أَخِيهِ} والتعبير عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا كما هو في دية قتل الخطأ.
{واتِّبَاعٌ} وَ {أَدَاءٌ} مصدران وقعا عوضا عن فعلين والتقدير: فليتبع اتباعا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ} [هود:69] بعد قوله: {قَالُوا سَلاماً} [هود:69]، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] فنظم الكلام: فاتباع حاصل، ممن عفي له من أخيه شئ وأداء حاصل من أخيه إليه، وفي هذا تحريض أن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان.
والاتباع مستعمل في القبول والرضا، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع".
والضمير المقدر في {اتِّبَاعٌ} عائد إلى {مَنْ عُفِيَ لَهُ} له والضمير المقدر في أداء عائد
(2/140)
إلى أخيه، والمعنى: فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ}.
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعا لدم مولاهم كما قال مرة الفقعسى:
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل:
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم ... رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.
وإطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإخوة، وحقا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد.
واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان، لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره، ويقال لضده منكر وسيأتي عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] في سورة آل عمران.
والباء في قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} للملابسة أي فاتباع مصاحب للمعروف أي رضا وقبول، وحسن اقتضاء إن وقع مطل، وقبول التنجيم إن سأله القاتل.
والأداء: الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح، وذكر متعلقة وهو قوله: {إِلَيْهِ} المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول
(2/141)
بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله، وزاد ذلك تقريرا بقوله: {بِإِحْسَانٍ} أي دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة.
وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أثر رحمته، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة، فالأخذ بالقصاص عدل والأخذ بالعفو رحمة.
ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمة من الله بالجانبين، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده.
قيل: إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية كما ذكره كثير من المفسرين وهو في "صحيح البخاري" عن ابن عباس، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث: "من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت"، وقال القرطبي: إن حكم الإنجيل العفو مطلقا والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى، لأنه ما حكى الله عنه إلا أنه قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه.
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاه بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو، ومن الشكر ألا يعود إلى الجناية مرة أخرى فإن عاد فله عذاب أليم، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة:95]، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعنى القتل فقالوا: إن عاد المعفو عنه إلى
(2/142)
القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام،
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع؛ لأن الجناية قد تصير له دربة فعوده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يراح منه الناس، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضى به الولي؛ لأن الحق حقه، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مزهق أنفس، وينبغي إن عفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحبس عام وإن لم يقولوه؛ لأن ذكر الله هذا الحكم بعد ذكر الرحمة دليل على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حصين بن ضمضم التي أشار إليها زهير بقوله:
لعمري لنعم الحي حر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
[179] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص فبين أن في القصاص حياة، والتنكير في {حَيَاةٍ} للتعظيم بقرينة المقام، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دما وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمة حاجبا
ويصغر في عيني تلادى إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين، وليس الترغيب في
(2/143)
أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلا نادرا وكفى بهذا في الازدجار.
وفي قوله تعالى: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمين.
وقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إكمالا للعلة أي تقريبا لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حد العدل والإنصاف. ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] في أول السورة.
وقوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من جوامع الكلم قلق ما كان سائرا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم "القتل أنفى للقتل" وقد بينه السكاكي في "مفتاح العلوم" و "ذيله" من جاء بعده من علماء المعاني، وتزيد عليهم: أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة.
[180] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيرا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تحتل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
(2/144)
كان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بينا تفصيله فيما تقدم في آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]. أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصا.
والقول في {كُتِبَ} تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه. وتجريده من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثا لفظا لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه.
ومعنى حضور الموت حضور أسبابه وعلاماته الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتا قال تأبط شرا:
والموت خزيان ينظر
فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رويشد بن كثير الطائي:
وقل لهم بادروا بالعفو والتمسوا ... قولا يبرؤكم إني أنا الموت
والخير المال وقيل الكثير منه، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره، وروى عن علي وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلا في المال الكثير.
كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنين فالأدنين، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية.
وعبر بفعل "ترك" وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيا، والمعنى: إن أوشك أن يترك خيرا أو
(2/145)
شارف أو يترك خيرا، كما قدروه في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] في سورة النساء وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:96] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب.
والوصية فعيلة من وصى فهي الموصى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فعيلة بمعنى مفعوله؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر. والوصية الأمر بفعل شيء أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصى وفي حديث العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا" إلخ.
والتعريف في الوصية تعريف الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين، فقوله: {لِلْوَالِدَيْنِ} متعلق بالوصية معمول له؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأن والفعل، والوصية مرفوع نائب عن الفاعل لفعل: {كُتِبَ} وَ {إِذَا} ظرف.
و {الْمَعْرُوفِ} الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمى معروفا لأنه لكثرة تداوله والتأنس به صار معروفا بين الناس، وضده يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] في سورة آل عمران.
والمراد {بِالْمَعْرُوفِ} هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصى في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة، فإنه إن توخى ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصية إلا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} [البقرة:182].
والباء في {بِالْمَعْرُوفِ} للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية.
وقد شمل قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} تقدير ما يوصى به وتمييز من يوصى له ووكل ذلك إلى نظر الموصى فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله
(2/146)
تعالى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}.
وقوله: {حَقّاً} مصدر مؤكد لـ {كُتِبَ} لأنه بمعناه و {عَلَى الْمُتَّقِينَ} صفة أي حقا كائنا على المتقين، ولك أن تجعله معمول {حَقّاً} ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكدا بما زاد على معنى فعله؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييدا يجعله نوعا أو عددا فحينئذ يخرج عن التأكيد.
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضى به؛ لأن ما كان من شأن المتقى فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وإن غيره معصية، وقال ابن عطية: خص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبارى الناس إليها.
وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصى، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.
وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء، ولابنه ربيعة بالفرس، ولابنه أنمار بالحمار، ولابنه إياد بالخادم، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجرهمي، وقد قيل: إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلبا للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن.
وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية، لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين، وقد وقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق أمرئ له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" أي لأنه قد يفجأه الموت.
والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصى، وأمره بالعدل بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء، ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخا مجملا
(2/147)
فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفا على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتا معينا رضى الميت أم كره، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسا لمشروعية فرائض الميراث، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالا للمنة التي كانت للموصى.
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] الآية اه. فدل على أن آخر عهد بمشروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ.
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خثيم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلا أن يريد بأنها صارت ممنوعة للوارث،
وقيل: الآية محكمة لم تنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبدين والأقارب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري، والأصح هو الأول،
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال: إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا: هي غير منسوخة، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابن عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد، ومنهم من قال: بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلا أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاق بن راهوية والحسن البصري، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصى مطلوبة، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته
(2/148)
مكتوبة عند رأسه"، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبل ذلك كان بيانا لآية الوصية وتحريضا عليها، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقا شرعيا، وفي "صحيح البخاري" عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى هل كان النبي أوصى فقال: لا، فقلت: كيف كتبت على الناس الوصية ولم يوص? قال: أوصى بكتاب الله اه، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أوص.
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب "السنن" عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة كلاهما يقول سمعت النبي قال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" وذلك في حجة الوداع، فخص بذلك عموم الوالدين وعموم الأقربين وهذا التخصيص نسخ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر أحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.
والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له: "الثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن للموصى ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصى أن يوصى بجميع ماله ومضى ذلك أخذا بالإيماء إلى العلة في قوله: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير" الخ. وقال: إن بيت المال جامع لا عاصب وروى أيضا عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهوية، واختلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت،
هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث، وإن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غير مراد منها ظاهرها، فالقائلون بأنها محكمة قالوا: بقيت الوصية لغير الوارث والوصية للوارث بما زاد على تصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين.
والقائلون بالنسخ يقول منهم من يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث: إن آية المواريث نسخت الاختيار في الموصى له والإطلاق في المقدار الموصى به، ومن يرى
(2/149)
منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون: إن آية المواريث نسخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإجماع على أن آية المواريث نسخت عموم الوالدين والأقربين الوارثين، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ الوصية والتخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء:11]، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولما ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ.
[181] {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
الضمائر البارزة في "بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه" عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصى ودل عليه لفظ {الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله: {سَمِعَهُ} إذ إنما تسمع الأقوال، وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله: {الْوَصِيَّةُ} أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى {الْمَعْرُوفِ} [ البقرة:180] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف، لأن الإثم في تبديل المعروف، بدليل قوله الآتي: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182].
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص؛ وما صدق من {مَنْ بَدَّلَهُ} هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصى أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة:106] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلا فإن التبديل لا يتصور إلا في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.
(2/150)
والقصر في قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} إضافي، لنفي الإثم عن الموصى وإلا فإن إثمه أيضا يكون على الذي يأخذ ما لم يجعله له الموصى مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحكم لا يحل حراما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، وإنما انتفى الإثم عن الموصى لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به، إذ {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [لنجم:39]
والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه، وقد دل قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أن هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعا.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصى ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بأن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أن الله عالم فلذلك أكد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.
[182] {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصى أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصى؛ لأن آية الوصية حصرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع؛ لأن ظن المكروه خوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقع إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه، والقرينة هي أن
(2/151)
الجنف والإثم لا يخيفان أحدا ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي محجن الثقفي:
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أي أظن وأعلم شيئا مكروها ولذا قال قبله:
تروى عظامي بعد موتي عروقها
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح.
والإثم المعصية، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصى به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه.
والإصلاح جعل الشيء صالحا يقال: أصلحه أي جعله صالحا، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا، ويقال: أصلح بينهم بتضمينه معنى دخل، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصى والموصى لهم المفهومين من قوله: {مُوصٍ} إذ يقتضي موصى لهم، ومعنى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير.
والمعنى: أن من وجد في وصية الموصى إضرارا ببعض أقربائه، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصى تبديل وصيته، فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصى لأنه آثر بعضهم، ولذلك عقبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعال والتنصيص على أنه مغفور.
وقرأ الجمهور {مُوصٍ} على أنه اسم فاعل أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف {مُوصٍ} بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف.
[183, 184] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
(2/152)
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}
حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا؛ إذ منها يتكون المجتمع. وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر، وافتتحت بيا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.
والقول في معنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] الآية.
والصيام يقال الصوم هو في اصطلاح الشرع: اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياما كما قال العرجى:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقة على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وأطلق عل ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والسرب بقصد القربة فقد
(2/153)
عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء: إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخلف لأقوال أهل اللغة كما في "الأساس" وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد، أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية" وفي بعض الروايات قولها: "وكان رسول الله يصومه" وعن ابن عباس: "لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء، فقال: ما هذا? فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فنحن نصومه فقال رسول الله: "نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه" فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه، وفي حديث عائشة فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من صام يوم عاشوراء ومن شاء ولم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] الآية وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، وبهذا يتبين أن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده.
فحصل صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة. فقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات، والتشبيه يكتفي فيه ببعض وجود المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدهما الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل السلام لمن كانوا
(2/154)
قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها.وإنهاض هم المسلمين لتلق هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم. إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث: "أن ناسا من أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله: ذهب أهل الدثور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم", الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخرا أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام:157] فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه ليهود، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.
ووقع لأبي بكر بن العربي في "العارضة" قوله كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:187].
فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان، لأن فعل {كُتِبَ} يدل على الوجوب وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء ثم فرض رمضان في العام الذي يليه وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات فلاشك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة.
(2/155)
والمراد بالذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود، لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم "تسرى" يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه "كبور" إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم "بوريم" تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة "استير" ، وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما"، أما النصارى فليس، في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: "قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى" ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته،ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب، و"لعل" إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله، قي إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح: "الصوم جنة" أي وقاية ولما ترك ذكر متعلق جنة تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.
(2/156)
وقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة، ولا يضر وقوع الفصل بين {الصِّيَامُ} وبين {أَيَّاماً} وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ} إلى {تَتَّقُونَ} لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من لعل كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو {كُتِبَ} فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضى، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة.
والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية. وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى. والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قوتين: إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقتر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان، بحيث يصير لا حظ له في الحيوانية إلا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية
(2/157)
النفس وإعدادها للعوالم الأخروبة، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيد المقصد من الحياتين، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام، قيل في "هياكل النور1" "النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم.
وفي "حكمة الإشراق" للسهروردي "وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله اهـ" .
وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشرى بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف
ـــــــ
1 هو للسهروردي
(2/158)
عن هواه وشهواته.
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالها نملأ الفما
فإن قلت: إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة.
قلت: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
والمراد بالأيام من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عدا؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر،
قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: {إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} فمعدودات جمع لمعدودة، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب، غير أنهم إذا أرادوا
(2/159)
التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] لأنهم يقللونها غرورا أو تعزيرا، وقال هنا: {مَعْدُودَاتٍ} لأنها ثلاثون يوما، وقال في الآية الآتية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وهذا مثل قوله في جمع جمل: {جمالات} على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول: الجذوع انكسرت والقيل منه يجيء بصيغة الجمع تقول: الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر.
وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء كما في الصحيح وهو مفروض بالسنة، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال: "لا أزيد على هذا ولا أنقص منه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" .
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.
والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض نعه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققوا الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به الصيام مشقة زائدة على مشقة
(2/160)
الصوم الصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير، وأعدل العبارات ما نقل من مالك، لأن الله أطلق المرض ولم يقيده، وقد علمنا أنه ما أباح الفطر إلا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر، إذ قال: "إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع، فإن الصوم لا يزيد وجع الإصبع وهذا الالتفات إليه، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه1".
وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة، لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعوا إلى ضرورة كما في السفر، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال: إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت، وعن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله قلت: نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر? قال: من أي مرض كان كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} وقيل: إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا، وعزي إلى الحسن والنخمي ولا يخفي ضعفه؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي أو كان بحالة السفر وأصل "على" الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى: {عَلَى هُدىً مِنْ
ـــــــ
1 الفروق" للقرافي "1/118"، عالم الكتب.
(2/161)
رَبِّهِمْ} [البقرة:5] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصا في المتلبس، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول.....
ماذا على البدر المحجب لو سفر ... إن المعذب في هواء على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل غي التلبس بالفعل، على أن المسافر لا بفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب وقال: هذه السنة، رواه الدارقطني، وهو قول الحسن البصري، وقال جماعة: إذا أصبح مقيما ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك هو قول الزهري، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، وبالغ بعض المالكية فقال: عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب، ولقد أجاد أبو عمر، وقال أحمد وإسحاق والشعبي: يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في "صحيحي البخاري ومسلم" "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه فأفطر حتى قدم مكة"، قال القرطبي: وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه.
وإنما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يقل: فصيام أيام أخر، تنصيصا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر؛ إذ العدد لا يمون إلا على مقدار مماثل. فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعن من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران:125]،
ووصف الأيام بأخر وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع؛ إذ كل جمع مؤنث، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] قال أبو حيان: واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة، وفيه نظر؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع هذا الظن، فالظاهر أن
(2/162)
العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ.
ولفظ {أُخَرَ} ممنوع من الصرف في كلام العرب. وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل، أما الوصفية فظاهرة وأما العدل فقالوا: لما كان جمع آخر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أنه يلزم الإفراد والتذكير فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله "والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان؛ لأنه غير معتاد الاستعمال" فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما، وفيه ما فيه.
ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان، فأطلقت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها، ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية.
فأما حكم تتابع أيام القضاء، فروى الدارقطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات} فسقطت متتابعات، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أو هريرة، وأبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وتلك رخصة من الله، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ. فلذلك ألغي الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ. وفي "الموطأ" عن ابن عمر أنه يقول: يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر، قال الباجي في "المنتقى": يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب.
وأما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يحب فيه الفور بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه، وفي "الصحيح" عن عائشة قالت: يكون علي الصوم من رمضان فما
(2/163)
أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان. وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور، وبذلك قال جمهور العلماء وشد داود الظاهري فقال: يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم شوال المعاقب له.
وأما من أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه؛ لأن المفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة: تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله.
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}1
عطف على قوله: {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
والمطيق هو الذي أطلق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يطاق، وفسرها الفراء بالجهد بفتح الجيم وهو المشقة، وفي بعض روايات "صحيح البخاري" عن ابن عباس قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فلا يطيقونه}. وهي تفسير فيما أحسب، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة، وقيل الطاقة القدرة مطلقا.
فعلى تفسير الإطاقة بالجهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفدية.
وقد سموا من هؤلاء الشيخ الهرم والمرأة المرضع والحامل فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم، ووافق أبو حنسفة في الفطر؛ إلا أنه لم ير الفدية إلا على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء? والآية تحتملهما إلا أنها في الأول أظهر، ويؤيد ذلك فعل السلف، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عشرا بعد
ـــــــ
1 في المطبوعة "مساكين" بصيغة الجمع" وهي قراءة المصنف.
(2/164)
المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا خبزا ولحما.
وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذ تضمنت حكما بأن فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر.
ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كل من تلحقه مشقة أو توقع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحداد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظئر.
وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبين إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْاكِينٍ}، بإضافة فدية إلى طعام، وقراه الباقون بتنوين "فِدْيَة"ٌ وإبدال "طَعَامُ" من "فِدْيَةٌ".
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر "مساكين" بصيغة الجمع جمع مسكين، وقرأه الباقون بصيغة المفرد، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين.
والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذي به في البلد، وقدره فقهاء المدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم من بر أو شعير أو تمر.
{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
تفريع على قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الخ، والتطوع: السعي في أن يكون
(2/165)
طائعا غير مكره أي طاع طوعا من تلقاء نفسه. والخير مصدر خار إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين {تَطَوَّعَ} معنى أتى، أو يكون {خَيْراً} صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا. ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد: فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير، وهذا قول ابن عباس، أو أن يكون: من أراد الإطعام مع الصيام، قاله ابن شهاب، وعن مجاهد: من زاد في الإطعام على المد وهو بعيد؛ إذ ليس المد مصرحا به في الآية، وقد أطعم أنس بن مالك خبزا ولحما عن كل يوم أفطره حين شاخ.
و {خَيْرٌ} الثاني في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يجوز أن يكون مصدرا كالأول ويكون المراد به المفضل عليه لظهوره.
{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
الظاهر رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر إلا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك رحمة الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل يحسب شدة المرض.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تذييل أي تعلمون فوائد الصوم على رجوعه لقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى، وأن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر. وجئ في الشرط بكلمة "إن" لأن علمهم بالأمرين من شأنه إلا يكون محققا؛ لخفاء الفائدتين.
[185] {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
(2/166)
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، فقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانيا، لأن قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد {شَهْرُ} بالنصب على البدلية من {أَيَّاماً}: بدل تفصيل.
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره، وإذا جوزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله:
وقائلة خولان فأنكح فتاتهم1
أنشده سيبويه، وكلا هذين الوجهين ضعيف.
والشهر جزء من أثنى عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة:36] والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم.
ورمضان علم وليس منقولا؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفعلان يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا، وقيل هو منقول عن المصدر. ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كلن العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي
ـــــــ
1 تمامه:
وأكرومة الحيين خلو كماهيا
(2/167)
انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة، لأن رمضان أول أشهر الحرام بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران: الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر، ألا ترى أن العرب يقولون "الرطب شهري ربيع" ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الذنبا
الرابع الربيع الثاني، والثاني وصف للربيع، وهذا هو وقت ظهور النور والكمأة وشهراه رجب وشعبان، وهو فصل الدر والمطر قال النابغة يذكر غزوات النعمان ابن الحارث:
وكانت لهم ربعية يحذرونها ... إذا خضخضت ماء السماء القبائل
وسموه الثاني لأنه يجيء بعد الربع الأول في حساب السنة، قال النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس بهلك ... ربيع الثان والبلد الحرام
في رواية وروى "ربيع الناس" ، وسموا كلا منهما ربيعا لأنه وقت خصب، الفصل الخامس، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب. السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة
وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني، على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع، وجمادى الأولى وجمادى الثانية.
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي
(2/168)
تجئ بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء.
وأسماء الشهور كلها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول، فالأول والثاني صفتان لشهر، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحدة مثل شجر الأرك ومدينة بغداد، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال: إنه لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدره، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا" بنصب رمضان وإنما أنجز إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في "أدب الكاتب".
وإنما أضيف الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن للإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهر لا نصا، لا سيما مع تقدم قوله: {أَيَّاماً} [البقرة:80] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان.
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجرى على الشهر من إلفات يحقق أن المراد منه الأزمنة المسماة به طول الدهر.
وظاهره قوله: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجزي عليه الموصول، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل وأجرى الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه
(2/169)
الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك أغلى كما يشهد به تتبع كلامهم، وليس المقصود الإخبار عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبر لأن لفظ {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر وليس هو مبتدأ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به كما جاء في كثير نن الآيات مثل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد، وقد تقدم قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ومعنى { الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} أنزل في مثله؛ لأن الشهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قد انقضى قبل نزوله آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض في السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة عدة سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر.
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبار يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم:5]، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدى في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة.
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين. ولما كان ذلك هو المراد وفت بشهر معين قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شرف بنول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقا فيه، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية من الملة الحنفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة
(2/170)
الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء شهر رمضان" ، وقال ابن سعد: جاء الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان.
وقوله: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} حالان من القرآن إشا بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان.
والمراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العادة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية. والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام، فالمراد بالهدى الأول: ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني، فلا تكرار.
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
تفريع على قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} الذي هو بيان لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} من استيناس وتنويه بفضل الصيام وما يرجى من عودة على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.
وضمير [مِنْكُمْ] عائد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:14] مثل الضمائر التي قبله، أي كل من حضر الشهر فليصمه، و {شَهِدَ} يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال: إن فلانا شهد بدرا وشهد أحدا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل {شَهِدَ} أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرا، وهو المناسب لقوله بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الخ.
أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويفهم أن من حضر بعضه يصوم أيام حضوره.
ويجوز أن يكون {شَهِدَ} بمعنى علم كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر،
(2/171)
وليس شهد بمعنى رأى؛ لا يقال: {شَهِدَ} بمعنى رأى، وإنما يقال شاهد، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في "الأساس" قول ذي الرمة:
فأصبح أجلي الطرف ما يستزيده ... يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل
أي يرى هلال الشهر، لأن الهلال لا يصح أن يتعدي إليه فعل {شَهِدَ} بمعنى حضر ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بينا وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية.
وقرأ الجمهور: "القرآن" بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف، وقرأه ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:184] أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] إلخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الآية وصار الصوم واجبا علة التعيين خيف أن يظن الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحصر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقا بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه إذا كان شهد بمعنى تحقق وعلم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(2/172)
استئناف بياني كالعلة لقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} إلخ بين به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} نفي لضد اليسر، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو أن يقول: ما يريد بكم إلا اليسر، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها، ويجوز أن يكون قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} تعليلا لجميع ما تقدم من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [ البقرة:183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فأن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.
وقرأ الجمهور: "اليسر" و"العسر" بسكون السين فيهما، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمة إتباع.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
عطف على جملة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إلخ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمت؛ فإن مجموع هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} إلى قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
واللام في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا} تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر إي مادة أمر للذين مفعولها إن المصدرية مع فعلها، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] قال في "الكشاف": أصله يريدون أن يطفئوا، ومنه قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:12] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأن ظاهرة أو مقدرة.
والمعنى: يريد الله أن تكملوا العدة وأن تكبروا الله، وإكمال العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف.
(2/173)
وقرأ الجمهور: {وَلِتُكْمِلُوا} بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كمل.
وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} عطف على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وهذا يتضمن تعليلا وهو في معنى علة غير متضمنة لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه.
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني، والكبر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: الله أكبر، فالتفعيل هنا مأخوذ من فعل المنحوت من قول يقوله، مثل قولهم: بسمل وحمدل وهلل وقد تقدم عند الكلام على البسملة، أي لتقولوا: الله أكبر، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم فبالاعتقاد كالآلهة الباطلة، وإثبات الأعظمية لله في كلمة "الله أكبر" كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتصيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإن التكبير تعظيم يتضمن شكرا والشكر أعم، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر.
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلته مما يريده الله، وهو غير مفصل في لفظ الكبير، ومجمل في وقت التكبير؛ وعدده، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال.
(2/174)
فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثا، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال: لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال أحمد: هو واسع، وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.
وأما وقته: فتكبير الفطر يبتدئ من وقت خروج المصلى من بيته إلى محل الصلاة، وكذلك الإمام ومن خرج معه، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير.
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشافعي: يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صرة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203].
[186] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
الجملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا .... وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ثم التفت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أي العباد الذين كان الحديث معهم، ومقتضى الظاهر أن يقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وتدعون فأستجيب لكم إلا أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى، والإشارة إلى جواب من عسى لأن يكونوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الدعاء هل يكون جهرا أو سرا، وليكون
(2/175)
نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم علي فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك? وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ} الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل.واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة فإن قلت وهو اصطلاح "الكشاف". ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة:189] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220]، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال: {سَأَلَكَ عِبَادِي} وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكما جزئيا خاصا بهم، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة.
وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء.
والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين، وكذلك اصطلاح القرآن غالبا في ذكر العباد مضافا لضمير الجلالة، وأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان:17] عبادي هؤلاء بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام.
وإنما قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} ولم يقل: فقل لهم إني قريب إيجازا لظهوره من قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} وتنبيها على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.
(2/176)
واحتيج للتأكيد بإن، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريبا مع كونهم لا يرونه. و {أُجِيبُ} خبر ثان لإن وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيدا له لتسهيل قبوله.
وحذفت ياء المتكلم من قوله "دعان" في قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقا عليه في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] في هذه السورة.
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عبادة غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربطا للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم.
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} تفريع على {أُجِيبُ} أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري، واستجاب وأجاب بمعنى واحد.
وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادى بالقدوم، أو قول بدل على الاستعداد للحضور نحو "لبيك"، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنه أجاب نداءه.
فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} عطفا مغايرا والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان، فذكر {وَلْيُؤْمِنُوا} عطف خاص على عام للاهتمام به.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} تقدم القول في مثله والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفرح وضرب، والأشهر الأول.
[187] {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
(2/177)
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة.
وذكروا السبب نزول هذه الآية كلاما مضربا غير مبين فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عمر يريد امرأته فقالت: إني قد نمت فظن أنها تعتل فباشرها، وروى البخاري عن البراء ابن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته: حتى نسخن لك شيئا فنام فجاءت امرأته فوجدته نائما فقالت: خيبة لك فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمى عليه من الجوع، وفي كتاب التفسير من "صحيح البخاري" عن حديث البراء ابن عازب قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يحزنون أنفسهم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث، فقيل: كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسنة ثم نسخ، وهذا قول جمهور المفسرين، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا وقال: هو نسخ لما كان في شريعة النصارى.
وما شرع الصوم إلا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار، والمقصود منها إبطال شئ توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي
(2/178)
ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلا الأكل دون الجماع؛ إذا كانوا يتأتون من الإصباح في رمضان على جنابة، وقد جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة كان يرى ذلك يغني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد ابن جرير من طريق السدى، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة، وذكر ابن العربي في "العارضة" عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم من الليل شيئا فأنزل الله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ} دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري بن صرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي.
فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل.
وليلة الصيام الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جويا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلا ليلة عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.
والرفث في "الأساس" و"اللسان" أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء،
وقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعسر الاحتراز عن ذلك. ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالعبد عن المرأة، فقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن، لأن العرب كانت اعتبرتها في قولهم: لا بس الشيء الشيء، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص
(2/179)
زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
و {تَخْتَانُونَ} قال الراغب: الاختيان، مراودة الخيانة بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأن ذلك تغرير بها؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ} [البقرة:9].
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها، وقيل: الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في "الكشاف" قلت: وهو استعمال كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107].
وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الأمر للإباحة، وليس معنى قوله: {فَالْآنَ} إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه: {فَالْآنَ} اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم والابتغاء الطلب، وما كتبه الله: ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
عطف على {بَاشِرُوهُنَّ} والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشده بإبرة أو مخيط، يقال خاط الثوب وخيطه. وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية:
فلما أضاءت لنا سدفة1 ... ولاح من الصبح خيط أنارا
ـــــــ
1 السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.
(2/180)
وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد "من الصبح" لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك، وجعله في "الكشاف" تشبيها بليغا، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام، كالآية وبيت أبي دؤاد، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.
وقد جئ في الغاية بحتى وبالتبين للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق، ثم قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم، إذ ليس في زمان رمضان إلا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا} ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.
و {إِلَى اللَّيْلِ} غاية اختير لها "إلى" للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى تمتد معها الغاية بخلاف حتى، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار؛ لأن ذلك كالبشارة لهم، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الضحوة الكبرى. بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ثم للجمل.
هذا، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله: "إن وسادك لعريض، وفي رواية:"إنك لعريض القفا، وإنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".
(2/181)
ورويا عن سهل بن سعد قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي ابن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عجيا أسلم سنة تسع أو سنة عشر، وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان أي صوم عاشوراء أو صوم النذر وفي صوم التطوع، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها: {مِنَ الْفَجْرِ} علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.
وحديث سهل، لا شبهة في صحة سنده إلا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} وقوله: فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} مرويا بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة، لأنه لم يقع في "الصحيحين" إلا من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي: فأنزل بعد أو بعد ذلك: {منَ الْفَجْرِ} وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}
وأيا ما كان فليس في هذا شئ من تأخير البيان، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود، فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلق بفعل {يَتَبَيَّنَ} على أن تكون "من" تعليلية أي يكون تبينة بسب ضوء الفجر، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إن وسادك لعريض" أو "إنك لعريض القفا" كناية عن قلة الفطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام.
(2/182)
وقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} عطف على قوله: {بَاشِرُوهُنَّ} لقصد أن يكون المعتكف صالحا. وأجمعوا على أنه لا يكون إلا في المسجد لهاته الآية، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لابد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام.
فالإشارة إلى ما تقدم، والإخبار عنها بالحدود عين أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهو في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ} وقوله: {إِلَى اللَّيْلِ} {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوز إلى معصية، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل: {أُحِلَّ لَكُمْ} ومثل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}
والحدود والحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوز المرء دخل في شيء آخر، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث: "وحد حدودا فلا تعتدوها". وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]
وقوله: {فَلا تَقْرَبُوهَا} نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
والقول في: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} تقدم نظيره في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي كما بين أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال، أو لعلهم يلتبسون بعناية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير
(2/183)
مؤاخذين بإثم التقصير إلا أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدر له مفعول مثل {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.
[188] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
عطف على جملة، والمناسبة أن قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] تحذير من الجرأة على مخالفة الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبة قوة، هذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن االميسر، ومن غضب التقوى مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرور والمقامرة، ومن الرباة ونح ذلك. وكل ذلك من الباطل الذي ليس من طيب نفس،
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع، لأن ذلك الأخذ يشبه الأكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل لا يخفى.
والأموال: جمع مال ونعرفه بأنه "ما بقدره إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح" ، فلا يعد الهواء مالا، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا، ولا التراب مالا، ولا كهوف الجبال وضلال الأشجار مالا، ويعد الماء المحتقر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا.
والمال ثلاثة أنواع: النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده
(2/184)
ولركوبه قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل:80] وقال: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: من الآية79] وقد سمت العرب الإبل مالا قال زهير:
صحيحات مل طالعات بمخرم
وقال عمر: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبة ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث: "يقول ابن آدم: مالي مالي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت" فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.
النوع الثاني: ما تحمل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.
النوع الثالث: ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبر عنه بالنقد أو بالعملة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والودع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه، وهذا لا يتم اعتباره إلا في أزمنة السلم والأمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.
وقولي في التعريف: حاصلا بكدح، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلا بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والاكتساب له ثلاث طرق.
(2/185)
الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجمال والتقاط الكمأة.
الطريق الثاني: الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.
الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما يتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدر بمقداره كدينار ودرهم في شئ مقوم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه.
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعا وخسرا أي بدون وجه، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعنى العوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.
والضمائر في مثل {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين، وفعل {وَلا تَأْكُلُوا} وقع في حيز النهي فهو عام، فأفاد ذلك نهيا لجميع المسلمين عن كل أكل وفي جميع الأموال، فنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6]، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61]، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، والتعويل في ذلك على القرائن.
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله: {بَيْنَكُمْ} ؛ لأن بين تقتضي توسطا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول وإلا لما كانت فائدة
(2/186)
لقوله: {بَيْنَكُمْ}.
ومعنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب:
المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما أحلقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:275] ، ومثل رشوة الحكام، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه"، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي: هي خمسون حديثا.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتصيلة في الفقه.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس الكندي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في "صحيح مسلم" ولم يذكر فيها أن هذه لآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} طف على {تَأْكُلُوا} أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل.
وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل ملا بل آكل غيره، وجوز أن تكون الواو للمعية و {تُدْلُوا} منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي من هذا النوع من أكل الأموال بالباطل.
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع.
فالمعنى على الاحتمال الأول، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس باإثم؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاد الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة، وللقضاء بغير الحق، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.
(2/187)
والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب، وكأن الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل، وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل، وعلى تحريم الجوز في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق، ولا جرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنان اليشكري:
لو كان حوض حمار ما شربت به ... إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب المنون فأمسى بيضة البلد
وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرشا للحكام ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضي بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات.
حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن فضلة الفقعسي لينفره عليه ففعل، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاء المغيرة ابن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة
(2/188)
فإن صح ولا إخاله: فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله، أما يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال الباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول؛ لأن الحاكم موكل المال لا آكل، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل؛ لأن القضاء بالحق واجب، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلا إذا لم يجعل له شئ من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شئ معين على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ} فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلا ظاهرا1، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء يعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح
واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها علي شاهداك زوجاك، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث: "فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار"، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم لإظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.
ـــــــ
1 انظر هذه المسألة في "تفسير القرطبي" "4/120" المسألة الثانية من [آل عمران:77]
(2/189)
والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحا وفاسدا شرعا من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعه على الناس فلا يخفي ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلانا بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن علم وعمد فجرمه أشد.
[189] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام، دعا إليه ما حدث من السؤال، فقد روي الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين؛ لأن آية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} متصلة بها. وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية. فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه. ومن كمال النظام ضبط الأوقات، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة، لقوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
وابتدئت الآية بـ {يَسْأَلونَكَ} لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة وجميع الآيات التي افتتحت بـ {يَسْأَلونَكَ} هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها. وروى أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد.
وجمع الضمير في قوله: {يَسْأَلونَكَ} مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظرا
(2/190)
لأن المسؤول عنهم يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف منهم لمعرفة سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل نفسه، وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين.
والسؤال: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر، فإذا كان طلب بذل عدى فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدى الفعل بحرف "عن" أو ما ينوب منابة.
وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة بـ {يَسْأَلونَكَ} وهي سبع آيات غير بعيد بعضها من بعض، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها.
وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقية بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها.
والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها، فيعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب، فإن كان من الحكمة فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جار على وفق السؤال وإلى هذا ذهب صاحب "الكشاف" ، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه، لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه، فإنه متعارف لهم، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.
وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} غير مطابق للسؤال، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم
(2/191)
وأخراهم، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى، لا سيما والرسول لم يجيء مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعي تعليمهم مقدمات لذلك العلم، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ،ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8-7] و قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر أنشده في المفتاح ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره:
أتت تشتكي مني مزاولة القرى ... وقد رأت الأضياف ينحون منزلي
فقلت لها لما سمعت كلامها ... هم الضيف جدى في قراهم وعجلي
وإلى هذا صاحب "المفتاح" وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة: لظهورها، وعلى أن الواو في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا الخ.
والأهلة: جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية، قيل والثالثة، ومن قال إلى السبع فإنما أراد الحجاز، لأنه يشبه الهلال، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين، وسبع وعشرين، لأنه في قدر الهلال في أول الشهر، وإنما سمي الهلال هلالا لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك، وإن هل وأهل بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173]
وقوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} أي مواقيت لما يوقت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس، ولم تذكر الأعمال الموقتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به. واحتياج الحج للتوقيت ضروري؛ إذ
(2/192)
لو لم يوقت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها؛ بخلاف الصلاة فبيست موقتة بالأهلة، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحمل المقصد الشرعي ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة مماثلا فلا يشق أحد على آخر في اختلاف الأكل والنوم ونحوهما.
والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة وقت وسمي العرب به الوقت، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس. وسمي العرب الوقت المعين ميقاتا كأنه مبالغة وإلا فهو الوقت عينه وقيل: أميقاة أخص من الوقت، لأنه وقت قدر فيه عمل من الأعمال، قلت: فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعين يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.
ومجيء ذكر الحج في هاته الآية وهي من أول ما نزل بالمدينة، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج لأن المشركين يمنعونهم_إشارة إلى وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه1. وسيأتي عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} في [سورة آل عمران:97] وعند قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] في هذه السورة.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
معطوفة على {يَسْأَلونَكَ} وليست معطوفة على جملة: {هِيَ مَوَاقِيتُ} لأنه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولا للمجيب. ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان مواليا أو مقارنا لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم
ـــــــ
1 فيه نظر، إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.
(2/193)
جعلوا من أحكام الإجرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء، وكانا المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا خلف الخيمة، وكان الأنصار يدينون بذلك، وأما الحمس فلم كانوا يفعلون هذا، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه، وهم: قريش. وكنانة. وخزاعة. وثقيف. وجثم. وبنو نصر ابن معاوية. ومدلج. وعدوان. وعضل. وبنو الحارث بن عبد مناف، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية،
ومعنى نفى البر عن هذا نفى أن يكون مشروعا أو من الحنيفية، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم، فالنفي في قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] والقرينة هنا هي قوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ولم يقل هنالك: واستقبلوا أية جهة شئتم، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.
روي الواحدي في "أسباب النزول" أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار قيل: اسمه قطبة بن عامر وقيل: رفاعة بن تابوت كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لم دخلت وأنت قد أحرمت"? فقال له الأنصاري: دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحمس" فقال له الأنصاري: وأنا ديني على دينك رضيت بهديك فنزلت الآية، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله، وفي "تفسير ابن جرير وابن عطية" عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال: إني أحمس فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمس" فنزلت الآية، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها
(2/194)
وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها، وأقول: الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: "كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنه عبر بذلك فنزلت هذه الآية"، ورواية السدي وهم، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه، وسياق الآية ينافيه.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} القول فيه كالقول في قوله تعالى :{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:177].
و {اتَّقَى} فعل منزل منزلة اللازم؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
وجر {بِأَنْ تَأْتُوا} بالباء الزائدة لتأكيد النفي بليس، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظنا قويا فلذلك كان مقتضى حالهم أن يؤكد نفي هذا الظن.
وقوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} معطوف على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء؛ لأن قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} في منهي النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي.
وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل.
وقرأ الجمهور: {الْبُيُوتَ} في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فعل على فعول فهي كسرة لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا: {عُيُونٍ} [الحجر:45]. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر. بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة، قال ابن العربي في "العواصم": والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلا الهمزة فإني أتركه أصلا إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عين عيون. وأطال بما في بعضه نظر، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض.
(2/195)
وقد تقدم خلاف القراء في نصب {الْبِرَّ} من قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} وفي تشديد نون {لَكِنَّ} من قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ}
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تظفرون بمطلبكم من البر: فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئا إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم.
وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة: فقيل إن قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازا ومعنى؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة. وقيل: مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جدا لحصول الجواب من قبل، وقيل: كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألا يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك، وهذا بعيد معنى، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك، وسندا، إذ لم يرو أحد أن هذا سبب النزول.
[190] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
جملة: {وَقَاتِلُوا} معطوفة على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} إلخ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء سنة ست وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] في وسرة الحج ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية: وقد ثبت في "الصحيح" "أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان".
ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شان الخروج إلى الحديبية ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا صد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤا المسلمين لقتلهم، فقوله تعالى: {وَلا
(2/196)
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك:
وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال، لأن السبب لا يخصص،
وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين، وقيل: المراد الكفار كلهم، فإنهم بصدد أن يقاتلوا. ذكره في "الكشاف" ، أي ففعل: {يُقَاتِلُونَكُمْ} مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180].
والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة، فقوله: {وَقَاتِلُوا} بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.
وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل، ولهذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فجعل فاعله ضمير عدوهم، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا؛ لأن تلك الحالة قد يفوت على المسلمين تداركها، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة، وعموم الأشخاص يستلزم عموم
(2/197)
الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191] تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع.
فقوله: {وَلا تَعْتَدُوا} أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تحذير من الاعتداء؛ وذلك مسألة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين، وقيل: أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} آنفا.
[191, 192] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َفإن انتهوا فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عمم المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحا بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تعميم الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال. فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.
وعطف الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا: {وَاقْتُلُوهُمْ} ولم يقل: وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيها على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غير مباشر للقتال وأنه من خرج محاربا فهو قاتل وإن لم يقتل.
و {ثَقِفْتُمُوهُمْ} بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفعله كفرح، وفسره في "الكشاف" بأنه وجود على حالة فهو وغلبة.
وقوله: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي يحل لكم حينئذ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء
(2/198)
لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:27] الآية.
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخطابي، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه.
والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العيش وقد تقدمت عند قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعا من مؤاخذتهم عليه؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة.وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيل.
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}
الجملة معطوفة على جملة: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام
(2/199)
بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.
وجعلت غاية النهي بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين. فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وفي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوهُمْ} تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ولو في غير اشتباك معهم بقتال، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} لأنه يشمل القتل بدل قتال والقتل بقتال.
فقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ } أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا.
وقد اختار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] إلى قوله هنا: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقاربة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقة وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناواة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة المسجد الحرام.
وقرأ الجمهور: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} ثلاثتها بألف بعد القاف، وقرأ حمزة والكسائي {ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم} بدون ألف بعد
(2/200)
القاف، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله:
غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
والمعنى ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد "قتلوا" إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد. وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال: لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ القتال؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق. قال ابن خويز منداد: وأما قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فيجوز أن يكون منسوخا بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193].
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا،
وبالحديث الذي رواه في "الموطأ" عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه"، وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.
(2/201)
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به، وبمثل قوله قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، وقال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده: غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد،
قال ابن العربي في "الأحكام" : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد? فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا، فأجاب بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإن قريء: {ولا تقتلوهم} فالآية نص وإن قرئ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام اهـ.
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. وأما قول الحنفية وبعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
وقال ابن العرب في "الأحكام": الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}
(2/202)
وهو مما شمله قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وقوله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} ، والإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله: {كَذَلِكَ} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم؛ لأن الله غفور رحيم، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} جواب الشرط وهو إيجاز بديع؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف، وهذا من إيجاز الحذف.
والانتهاء: أصله مطلوع نهي يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل إصفار
أي عن الوقوع في ذلك.
[193] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
عطف على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبينة...
وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إلى هنا تفصيلا لجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ؛ لأن عموم {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال
(2/203)
البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله: فإن قاتلوكم فاقتلوهم، فإعادة فعل {وَقَاتِلُوهُمْ} لتبنى عليه الغاية بقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله، ف"حتى" في قوله: {حَتَّى لا تَكُونَ} إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن "حتى" معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217]. وأياما كان فالمضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.
والفتنة تقدمت قريبا والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته.
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين: إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتزول فتنتهم فيه، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يعرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر، ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين: إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل،
(2/204)
وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات، ومن ثم قال علماؤنا: لا تقبل من مشركي العرب الجزية، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.
وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} عطف على {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو معمول لأن المضمرة بعد "حتى" أي وحتى يكون الدين لله. أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده.
فالتعريف في الدين تعريف الجنس، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الذين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد، والمعنى: ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثرا جيدا قال: جاء رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج? فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فقال ابن عمر: قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الذين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله، قال ابن عمر: كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم، وهذا تصريح بمفهوم قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.
(2/205)
وقوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} قائم مقام جواب الشرط؛ لأنه علة الجواب المحذوف، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال، لأنهم غير ظالمين؛ وإذ لا عدوان إلا على الظالمين وهو مجاز بديع.
والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكله لقوله: {عَلَى الظَّالِمِينَ} كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة. وهذه المشاكلة تقديرية.
[194] {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها؛ لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعنى الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعوا الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم، وإن كان نازلا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين اعتمر عمرة القضية: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال: نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام، والتقدير حرمة الشهر الحرام، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.
وقيل: معنى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم: هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي، يعني أنه من قبيل قولهم "يوم بيوم والحرب سجال".
(2/206)
والباء في قوله: {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} للتعويض كقولهم: صاعا بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان
والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر، لأنه يفيد حكما عاما ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.
والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا ورجوعا وأداء، وشهر واحد مفرد هو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرمته مضر كلها ولذلك يقال له: رجب مضر، وقد أشير إليها في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36].
وقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحاجة لما قبله من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} إلخ فالجملة تذييل والواو اعتراضية ومعنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191]والإخبار عن الحرمات بلفظ "قصاص" إخبار بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} تفريع عن قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ونتيجة له، وهذا وجه قول الكشاف: إنه فذلكة، وسمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكله على نحو ما تقدم آنفا في قوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] .
وقوله: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما
(2/207)
سيقوله، فإن قولك في الخطاب: اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [لأنفال:24] في سورة الأنفال، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية، ويجوز أن يكون المعنى: واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] فهو يجعلهم بمحل عنايته.
[195] {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
هذه الجملة معطوفة على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شئ ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شئ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم. ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين، والإنفاق تقدم في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية3].
و "سبيل الله" طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شئ فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه،
(2/208)
ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعين أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب {سَبِيلِ اللَّهِ} في اصطلاح الشرع في الجهاد. أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته، و"في" للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العتاد، والخيل، والزاد، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست "في" هنا مستعملة للتعليل.
وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف غرض على غرض، عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغا للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.
والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمي إليه بإلى وإلى المرمي فيه بفي.
والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد "أعطي بيده" أي أعطي يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يشد بيده، فزيادة الباء كزيادتها في {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا
والمعنى ولا تعطوا الهلاك أيديكم فيأخذكم أخذ الموثق، وجعل التهلكة كالآخذ والآسر استعارة بجامع الإحاطة بالمقى، ويجوز أن تجعل اليد مع هذا مجازا عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أهم شئ في النفس في هذا المعنى، وهذا في الأمرين كقول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
أي ألقت الشمس نفسها، وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم.
والتهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد
(2/209)
في المصادر وزن التفعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكنه مصدر مضاعف العين المعتل اللام كزكى وغطى، أو المهموز اللام كجزأ وهيأ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التضرة والتسرة بضم العين من أضر وأسر بمعنى الضر والسرور، وفي الأسماء الجامدة التضنضبة والتتفلة الأول اسم شجر، والثاني ولد الثعلب،
وفي "تاج العروس" أن الخليل قرأها "التهلكة" بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتني منه المقصود.
وعطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك كما قيل:
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقاد غير صحيح، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.
وفي البخاري عن ابن عباس وجماعة من التابعين في معنى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة وإن لم يكن إلا سهم أو مقص فأت به.
وقد قيل في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أقوال:
الأول أن {أَنْفِقُوا} أمر بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة، ويبعده قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وإن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.
الثاني أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك ويبعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك.
(2/210)
الثالث الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.
الرابع الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.
الخامس أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم.
روى الترمذي عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم "القسطنطينية" فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فانزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهليكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو اهـ، والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة.
ووقوع فعل {تُلْقُوا} في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدما على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك. فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين،
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد "من التابعين" وعبد الملك بن الماجشون وابن خويز منداد "من المالكية" ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة.
وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} الإحسان فعل النافع الملائم، فإذا فعل فعلا نافعا مؤلما لا يكون محسنا فلا تقول إذا ضربت رجلا تأديبا: أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أحسنت إليه، وكذا إذا فعل فعلا مضرا ملائما لا يسمى محسنا.
(2/211)
وفي حذف متعلق {أَحْسَنُوا} تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ".
وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر باعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أن كل هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحف بها، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق، والعرب تقول: ملكت فأسجح ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تذييل للترغيب في الإحسان، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخره، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين.
[196] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] إلخ. وما بينهما استطراد أو اعتراض، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفا على التي قبلها عطف قصة على قصة.
ولا خلاف في أن هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجزة، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج
(2/212)
تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما يقي منه حتى يستوعب جميعه.
ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} أي كملوه إن شرعتم فيه، وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] على ما اخترناه وقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة:4]، ومثله أن تقول: أسرع السير للذي يسير سيرا بطيئا، وثانيهما أن يجئ الأمر بوصف الفعل مرادا به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة:150]، وذلك كقولك: أسرع السير فادع لي فلانا تخاطب به مخاطبا لم يشرع في السير بعد، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة، ونظيره قولهم: وسع فم الركية -وقولهم: وسع كم الجبة وضيق جيبها أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة.
والآية تحتمل الاستعمالين، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة، بمعنى إلا يكون حجا وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما:
والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها، وكأن هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها.
واللام في "الحج والعمرة" لتعريف الجنس، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد للجماعة وفيه وقوف عرفة، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه،
وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه
(2/213)
وعن ابن السكيت: الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلانا أطالوا الاختلاف إليه وفي "الأساس": فلان تحجه الرفاق أي تقصده اه. فجعله مفيدا بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقانالمزعفرا
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك. بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعى لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم:
عليهن شعث عامدون لربهم ... فمن كأطراف الحني خواشع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في "تاريخ العرب"،
وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل "أورشليم" وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلا هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.
واتخذت النصارى زيارات كثيرة، حجا، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة "أورشليم" ، وكذا زيارة قبر "ماربولس" وقبر "ماربطرس" برومة، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة "عسقلان" من بلاد السواحل الشامية، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هن نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبد بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشا جرفها السيل:
كأن الوحوش به عسقلا ... ن صادفن في قرن حج ذيافا
(2/214)
أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة،
وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل "زفس" وللهنود حجوج كثيرة.
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها وذكر الحج معها إدماج1، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر". ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضربون، على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبا "منصل الأسنة" ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.
وقوله: {لله} أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم غيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة، لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
ـــــــ
1 في "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي، مادة إدماج، ج"1/464": الإدماج في اصطلاح يهل البديع: أن يضمن كلام سيق لمعنء" معنى آخر، وهذا المعن الآخر يجب ألا يكون مصرحا به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله.
(2/215)
ويجوز أن يكون التقييد بقوله: {لله} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى.
وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية، وعليه فمحمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والطواف، والإتمام، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع.
ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملا في القدر المشترك من الطلب اعتمادا على القرآن، ومن هؤلاء من قرأ، "والعمرة" حتى لا تكون فيما سماه الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج.
وجعلها الشافعية دليلا على وجوب العمرة كالحج، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مرادا به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان، فالمراد بالإتمام إتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين، قالوا: إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام، ولأنه معضود بقراءة "وأقيموا الحج" وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع، لأن الإتمام يتوقف على الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل.
والحق أن حمل الأمر في ذلك على الأمر بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت، وقراءة: "وأقيموا" لشذوذها لا تكون داعيا للتأويل، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلاف الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر؛ بأن يدل على معنى: إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة، فيكون من دلالة الاقتضاء، ويكون حقيقة وإيجازا بديعا، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا، لأنهم كانوا نووا العمرة، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف
(2/216)
يدعي الشافعية أن {أَتِمُّوا} هنا مراد منه إيجاب الشروع، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما أشار له العصام.
فالحق أن الآية ليست دليلا لحكم العمرة وقد اختلف العلماء في حكمها: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك: لا أعلم أحدا رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين.
وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي وسعيد بن جبير، وأبو بردة، ومسروق، وإسحاق بن راهويه.
ودليلنا حديث جابر بن عبد الله: "قيل: يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ فقال: "لا، وأن تعتمروا فهو أفضل"، أخرجه الترمذي، ولأن عبادة مثل هذه ولو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة، وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يقول: لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئا قلت: العمرة واجبة اه محل الاحتجاج قوله: لم أسمع إلخ، ولأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ولم يذكر العمرة، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد.
ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة،
واحتج أصحابنا أيضا بحديث: "بني الإسلام على خمس", وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيها العمرة، وحديث الأعرابي الذي قال: "لا أزيد ولا أنقص: فقال: "أفلح إن صدق" ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية، إذ قرنت فيها مع الحخ، وبقول بعض الصحابة وبالاحتياط.
واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامة ذلك قبل الرجوع إلى بلده، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء "عام حجة الوداع" فقال: "بم أهللت"? فقلت: أهللت كإهلال النبي قال: "أحسنت هل معك من هدي؟"؛ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي
(2/217)
محله، يريد عمر والله أعلم أن أبا موسى أهل بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي كان مهلا بحجة وعمرة معا فهو قارن والقارن متلبس بحج، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجة وتمسك بفعل الرسول عليه السلام أنه كان قارنا ولم يحل، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة.
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عطف على {َأَتِمُّوا} والفاء للتفريع الذكرى فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام.
ولا سيما الحج؛ لأن وقته يفوت غالبا بعد ارتفاع المانع، بخلاف العمرة، والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال: أحصره منعه مانع قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:273] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول
وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده، وأصده هذا قول المحققين من أئمة اللغة، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو، قال: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما كما قال الزمخشري في "الكشاف" ، ومن اللغويين من قال: أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جدا.
وجاء الشرط بحرف "إن" لأن مضمون الشرط كربه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بان المشركين سيمنعونهم من العمرة وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وكأن هذا هو الذي يراه مالك رحمه الله، ولذلك لم يحتج في "الموطأ" على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية، وإنما
(2/218)
احتج بالسنة وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة. ولأن هذه الآية جعلت على المحصر هديا ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كسر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في "الموطأ" من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابن عمر وابن الزبير ومروان بن الحكم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدى، فإذا أصح اعتمر. فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهبار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفه، بخلاف حصار العدو، واحتج في الموطأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ووجه أصحابنا ذلك بالتفرقة؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج؛ فلذلك كان مطالبا بالإتمام، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة،
وقال الشافعي: لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة، وقال أبو حنيفة: كل منع من عدو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سعي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه. ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده، على أن حديث الحديبية متواتر؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يزيدون على عدد التواتر، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله.
وقال الشافعي: المراد هنا منع العدو بقرينة قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدو؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدو فبنص الآية، وأما غيره فبالقياس عليه. وعليه: إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي. ولم يقل بوجوب القضاء عليه؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد
(2/219)
وهو السند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله: {مِنَ الْهَدْيِ} وقدره في "الكشاف" فعليكم، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي. ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.
و {اسْتَيْسَرَ} هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستصعب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه، فاستيسر هنا مراد به جميع وجوه التيسر.
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فعل من أهدى، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي1، فإن كان اسما فمن بيانية، وإن كان جمعا فمن تبعيضية، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب، وإن لم يكن ساقه معه فعلية توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيدا لقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة. والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك.
والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال: حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء، وقيل محله: هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس، وقوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} كناية عن
ـــــــ
1 جدية السرج شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج.
(2/220)
الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل. وكلمة من للابتداء أي أذى ناشئ عن رأسه.
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : "حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال" ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة? قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك، فنزلت هذه الآية في خاصة وهي لكم عامة اه" ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ.
وقوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه. والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية، وقرينة المحذوف قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة، والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكا، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث: "والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم" يعني الضحية.
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
الفاء للعطف على {أُحْصِرْتُمْ} إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هديا ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلا بعد تمكنهم من فعل الحج والفاء لمجرد التعقيب الذكري.
وجيء بإذا فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف، وهو أيضا السلامة من كل ما يخالف منه أمن كفرح أمنا، أمانا، وأمنا، وآمنة، وإمنا بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول: أمنت من اعدو، ويتعدى إلى المأمون تقول: أمنت فلانا إذا جعلته آمنا منك، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة:126]
(2/221)
وهذا دليل على المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل "إذا أمنتم" ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة، فالآية دلت على حكم العمرة، لأنها لا تكون إلا مع الأمن، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف.
وقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} جواب "إذا" والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا إلى عام قابل، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضا عن هدي الحج، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة، وأن قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج، ويعلم أن من أمن وقد بقى ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.
ومعنى {تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} انتفع بالعمرة عاجلا، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفه الإحرام مدة طويلة، وهذا رخصة من الله تعالى، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظور في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.
فالباء في قوله: {بِالْعُمْرَةِ} صلة فعل {تمتع} ، وقوله: {إِلَى الْحَجِّ} متعلق بمحذوف دل عليه معنى "إِلَى" متربصا إلى وقت الحج أو بالغا إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة "إِلَى" أن بين العمرة والحج زمنا لا يكون فيه المعتمر محرما وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران، فعليه ما استيسره من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم،
والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم
(2/222)
يحج من عامه ذلك فبل الرجوع إلى أفقه، وخص القران بأن يقترن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج عل العمرة كان ذلك شرعه الله رخصة للناس، وإبطالا لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج، وفرض الله عليه الهدي جبرا لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعا.
وقد اختلف السلف في التمتع وفي صغته فالجمهور على جوازه، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريبا، وخالفه علي وعمران بن حصين، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء "يريد عثمان" وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معا وتم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرما "أي عام الوداع" فقال لي: "بم أهللت?" قلت: أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي: "هل معك هدي؟" قلت: لا فأمرني فطفت وسعيت فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر: "إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله" ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى؛ وبحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" ، وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم وإنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافيا لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصا للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا متواتر، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونفلوا حجه وأنه أهل بها جميعا.
نعم كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك، روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يرى التمتع خاصا بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفه فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل، وتأول قوله
(2/223)
تعالى: {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى أيام الحج.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] الآية عطفت على {فَمَنْ تَمَتَّعَ} لأن فمن تمتع مع جوابه وهو {فَمَا اسْتَيْسَرَ} مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدي فعطفت عليه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}.
وجعل الله الصيام بدلا عن الهدي زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقا فجعله عشر أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج.
فقوله: {فِي الْحَجِّ} أي في أشهره إن كان أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية.
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فذلكة الحساب1 أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعدا قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى:
ثلاث بالغداة فهن حسبي ... وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي ... وشرب المرء فوق الري داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق أيم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة "ذلك" كما نقول في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ تلك لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فتلك خمس ... وسادسة تميل إلى الشمام
"أي إلى الشم والتقبيل"
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلا تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب "الكشاف" لما ذكر مثله
ـــــــ
1 نص عليه في البيضاوي وحاشيته لمولانا عصام الدين.
(2/224)
كقول العرب علمان خير من علم. وعن المبرد أنه تأكيد لدفع وتوهم أن يكون بقى شيء مما يجب صومه،
وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلا من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وتبعه صاحب "الكشاف" فقال الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة اه وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين.
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول: إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لأنه قد يتوهم من حيث أن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير، فبين الله ما يدفع هذا التوهم، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية.
ونظيره قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [لأعراف:142] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليله ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيرا.
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل. وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عن سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.
وأما قول: {كَامِلَةٌ} فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمة، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازة.
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إشارة إلى أقرب شيء
(2/225)
في الكلام، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام، والمعنى أن الهدي على الغريب من مكة كي لا يعيد السفر للعمرة فأما الكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة، وقال أبو حنيفة، الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك: ما اتصل بمكة وذلك من ذي طوى على أميال قليلة من مكة. وقال الشافعي: من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب. وقال عطاء: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، وقال الزهري: أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه، وقال ابن زيد: أهل مكة، وذوي طوى، وفج، وما يلي ذلك. وقال طاووس: حاضروا المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم، وقال أبو حنيفة: هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلوا من مشقة للتحذير من التهاون بها، فلأمر بالتقوى عام، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم، ولأن الكلام فيه.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} افتتح بقوله: {وَاعْلَمُوا} اهتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] فإنه لو اقتصر عليه العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، ولكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد إن، آنفا عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194].
[197] {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
(2/226)
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] في سورة آل عمران فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا، وهذه الآية فيها بيان أعماله،، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق.
وبين نزول هذه الآية ونزول آية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة.
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعي في أدائه، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره. وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها.
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم، وبعضها بعض الأشهر الحرم، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرمته مضر لأنه شهر العمرة.
فقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي في أشهر، لقوله بعده: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ولك أن تقدر: مدة الحج أشهر، وهو كقول العرب الرطب شهرا ربيع.
والمقصود من قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تهوينا لمدة ترك الرفت والفسوق والجدال، لصعوبة ترك ذلك على الناس، ولذلك قللت بجمع القلة، فهو نظير ما روى مالك في "الموطأ": أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه، تعنى أكل لحم الصيد، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة:36] الآية، وقيل: المقصود
(2/227)
بيان وقت الحج ولا أنثلج له.
والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط، أو ثلاثة عشر يوما منه، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك. وقال بالثالث الشافعي، والرابع قول مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في "المختصر" غير معزو.
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الأشهر عند أصحاب القولين الثالث والربع فحرج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله، كما قالوا: ابن سنتين لمن دخل في الثانية، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ومن يرى خلافه يرى خلافه.
وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج، فقال مجاهد وعطاء والأوازعي والشافعي وأبو ثور: لا يجزي ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها، وعليه: يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج، واحتج الشافعي بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وقال أحمد: يجزئ ولكنه مكروه، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة، لأن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدرة، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة، واحتج النخعي بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج. وقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه.
ومعنى فرض: نوى وعزم، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية، أو عمل من أعماله
(2/228)
كسوق الهدي، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح، لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها.
وضمير {فِيهِنَّ} للأشهر، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث.
وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} جواب من الشرطية، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى {لا رَفَثَ} من ضمير يعود على "من"؛ لأن التقدير فلا يرفث.
وقد نفي الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهي فانتفت أجناسها، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخير عنه بأنه فعل كما قرره في "الكشاف" في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا، على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع رفث وفسوق على أن "لا" أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرأ وَلا جِدَالَ بفتح اللام على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر لا محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} على أن {فِي الْحَجِّ} خبر "لا"، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي.
والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم
وفعله كنصر، وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء. وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك، قال النابغة:
(2/229)
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله: لهو النساء بالغزل.
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة، وإلا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافي تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري: لا يفسد الحج وعليه هدي، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع المباح فذريعة ينبغي سدها، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم? فقال: إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع.
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام. وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في "المحلي" : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم.
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107] في سورة النساء، إذ فاتنا بيانه هنا.
واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف؛ إذ كان يعضهم يقف في عرفه وبعضهم يقف في جمع وروى هذا
(2/230)
عن مالك.
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير "الكشاف" وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم وقال: من بدا له أن يجادل في شئ فليفعل، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا: بماذا فسرت قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وأنه وجم لها، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم،
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال: لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله: {فَلا رَفَثَ} إلخ:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
معطوف على جملة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير، والمعنى وأكثر من فعل الخير.
والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر، وهو تفعل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تعمم وتقمص أي جعل ذلك معه.
فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداد ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت. قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذا من هذه الآية وغيرها:
(2/231)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقي ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص.
ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمرا بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضا بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله1 فيكونون كلا على الناس بالإلحاف.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} إلخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيها بالتفريع على أنه من التقوى؛ لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض.
وقوله: {وَاتَّقُونِ} بمنزلة التأكيد لقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ولم يزد إلا قوله: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} المشير إلى أن التقوى مما يرغب فيه أهل العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل، واللب من كل شيء: الخالص منه، وفعله لبب يلب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فعل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيرا.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص، موقع قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} على احتمال أن يراد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادة الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوى الدنيوية بصون العرض.
والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئا، وأصلها تقي قلبوا ياءها واو للفرق بين الاسم والصفة، فالصفة بالياء كامرأة تقي كخزيي وصديي، وقد أطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
ـــــــ
1 كانوا يقولون: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ وكانوا يقدمون مكة بثيابهم التي قطعوا بها سفرهم بين اليمن ومكة فيطوفون بها، وكان بقية العرب يسمونهم الطلس، لأنهم يأتون طلسا من الغبار.
(2/232)
[198] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}
جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فتقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالا لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمحرم بالحج حراما. فالفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ} [المزمل:20].وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسس به نغما1
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما
قلت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما
أي انقطع البيع وحرم، وعن ابن عباس: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في موسم الحج اهـ. أي قراها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج.
وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوما وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نخلة والطائف، ثم يخرجون من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته:
باتت ثلاث ليال ثم واحدة ... بذي المجاز تراعي منزلا زيما
ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجا فقال:
ـــــــ
1 الضمائر الثلاثة المستترة في الأفعال في هذا البيت عائدة إلى الراحلة المذكورة في أبيات قبله.
(2/233)
كادت تساقطني رحلي وميثرتي
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
الفاء عاطفة على قوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] الآية، عطف الأمر على النهي، وقوله: {إِذَا أَفَضْتُمْ} شرط للمقصود وهو: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}.
والإفاضة هنا: الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسال؛ ولذلك سموا إجالة القداح في الميسر إفاضة والمجيل مفيضا، لأنه يخرج القداح من الربابة بقوة وسرعة أي بدون تخير ولا جس لينظر القدح الذي يخرج، وسموا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة.
والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدفع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة.ولأن في تجنب دفعتم تجنبا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضا؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال: "ليس البر بالإيضاع فإذا أفضتم فعليكم بالسكينة والوقار" .
و "عرفات" اسم واد ويقال: بطن وهو مسيل متسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد، وقد جعل عرفات علما على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألف وتاء، ويقال له: عرفة بصيغة المفرد، وقال الفراء: قول الناس يوم عرفة مولد ليس بعربي محض، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا: يقال عرفات وعرفة، وقد جاء في عدة أحاديث: "يوم عرفة" ، وقال بعض أهل اللغة: لا يقال: يوم عرفات،
وفي وسط وادي عرفة جبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر، ووقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم راكبا يوم عرفة، وبنى في أعلى ذلك الجبيل علم في الموضع الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيقف الأضمة يوم عرفة عنده.
ولا يدري وجه اشتقاق في تسمية المكان عرفات أو عرفة، ولا أنه علم منقول أو مرتجل، والذي اختاره الزمخشري وابن عطية أنه علم مرتجل، والذي يظهر أن أحد
(2/234)
الاسمين أصل والآخر طارئ عليه وأن الأصل "عرفات" من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة، ويحتمل أن يكون الأصل"عرفة" وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل.
وذكر"عرفات" باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة ركن الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".
سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألف وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألف وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية.وجمع المؤنث لا يمنه من الصرف؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية؛ إذ الجمع بتقدير مسميات بكذا، فما جمع إلا بعد قصد تنكيره، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء.
وذكر الإفاضة من "عرفات" يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلا بعد الحلول بها، وذكر "عرفات" باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان، خلافا لأبي حنيفة في الصفا والمروة، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197]، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء.
و"من" ابتدائية.
والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة.
والتصريح باسم "عرفات" في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في "جمع" وهو المزدلفة؛ لأنهم حمس، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة، لأن عرفة من الحل كما سيأتي، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات، فذلك حوالة على ما يعلمونه.
و"المشعر" اسم مشتق من الشعور أي العلم، أو من الشعار أي العلامة، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبس ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.
(2/235)
ووصف المشعر بوصف "الحرام" لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات.
والمشعر الحرام هو "المزدلفة"، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من منى أي اقتربت؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في منى. ويقال للمزدلفة أيضا "جمع" لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها، الحمس وغيرهم من عهد الجاهلية، قال أبو ذؤيب.
فبات بجمع ثم راح إلى منى ... فأصبح رادا يبتغي المزح بالسحل1
فمن قال: إن تسميتها جمعا لأنها يجمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسما من عهد ما قبل الإسلام.
وتسمى المزدلفة أيضا "قزح" بقاف مضمونة وزاي مفتوحة ممنوعا من الصرف، باسم قرن جبل بين جبال من طرف مزدلفة ويقال له: الميقدة لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران، وهو موقف قريش في الجاهلية، وموقف الإمام في المزدلفة على قزح. روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه وقال: "هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف"،
ومذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصة فواجب. وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكا بظاهر الأمر في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}.
وقد كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد "بني صوفة" وهم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وكانت أمه جرهمية، لقب الغوث بصوفة؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إن هي ولدت ذكرا أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفة يربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخدمة الكعبة وتسمى الربيط، فكان الغوث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصي بن كلاب على الكعبة جعل الإجازة للغوث ثم بقيت في بنيه حتى انقرضوا، وقيل إن الذي جعل أبناء الغوث لإجازة الحاج هم ملوك كندة، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول:
ـــــــ
1 من أبيات يصف فيها رجلا في الحج طلب أن يشتري عسلامن منى والراد الطالب، والمزج من أسماء العسل، والسحل النقد وأطلقه في البيت على الدراهم المنقودة من الوصف بالمصدر
(2/236)
لا هم إني تابع تباعه ... لإن كان إثم فعلى قضاعه
لأن قضاعة كانت تحل الأشهر الحرم، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد ابن زيد مناة بن تميم ورثوها بالقعدد فكانت في آل صفوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كرب بن صفوان قال أوس بن مغراء:
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
الواو عاطفة على قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فيكون هذا أمرا بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام.
ويجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فموقعها موقع التذييل. وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تفصل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبيان سببه وهي مغايرة ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني:
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد ... مستقدم البركة كالراكب
فإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعي إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارسا؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد في أجرد لكنه وصلها لمغايرة ما.
وقوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} تشبيه للذكر بالهدي وما مصدرية. ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهة في التساوي أي اذكروه ذكرا مساويا لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها "ما" كيف كانت، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها.
وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} يرجع إلى الهدي المأخوذ من ما المصدرية و "إن" مخففة. من "إن"
(2/237)
الثقيلة.والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك.
[199] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقي في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإضافة المذكورة في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.
فالمقصود من الأمر هو متعلق {أَفِيضُوا} أي قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} إشارة إلى عرفات فيكون متضمنا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على "قزح" المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشا.
عن عائشة أنها قالت: كانت قريش ومن ذان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} اهـ فالمخاطب بقوله: {أَفِيضُوا} جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.
روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال: كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا قالوا: نحن ولاة البيت وقاطنوا مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم يعني لأن عرفة من الحل فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك اه. يعني فكانوا لا يفيضون إلا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة.
(2/238)
وقيل: المراد بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا} الإفاضة من مزدلفة إلى منى، فتكون "ثم" للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال، وكان عليها العرب في الجاهلية وكان الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه "اللهم بغض بين رعائنا، وحبب بين نسائنا، واجعل المال في سمحائنا، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه، أوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، واقروا ضيفكم". فإن قرب طلوع الشمس قال: أشرق ثبير كيما نغير ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم:
خلوا السبيل عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
أي يدعو الله تعالى لقوله: اللهم كن لنا جارا ممن نخافه.
فقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة.وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200].
وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} عطف على {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة.
[200, 202] {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
(2/239)
تفريع على قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك، وقضيت مناسكه.
وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلا قربان النساء.
والمناسك جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] فهو هنا مصدر ميمي أو هم اسم مكان والأول هو المناسب لقوله: {قَضَيْتُمْ}؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.
وقرأ الجميع {مناسككم} بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير1.
وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر، فإنه يجر إلى المراء والجدال، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا.
وقوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} بيان لصفة الذكر، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكرا كذكركم إلخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل "أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمي بها الجمرة فيفعلون ذلك".
وفي "تفسير ابن جرير" عن السدي: كان الرجل يقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته. فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالا
ـــــــ
1 الإدغام ينقسم إلى كبير وصغير فالكبير هو ما كان المدغم والمدغم فيه متحركين سواء كان مثلين أو جنسين أو متقاربين، سمي به لأنه يسكن الأول ويدغم في الثاني فيحصل فيه عملان فصار كبيران. والصغير هو ما كان فيه المدغم ساكنان فيدغم في الثاني فيحصل فيه عمل واحد ولذا سمي به. انظر "الاتقان" و "شرح الشاطبي".
(2/240)
نحوا من ذلك.
والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء.
وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} أصل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت "أو" معنى من التدرج إلى أعلى، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرا، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في تلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر. ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جني: إن "أو" في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفيا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل. وعليه خرج قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.
و {أَشَدّ} لا يخلو عن أن يكون معطوفا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} تقديره: {فاذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم} فتكون فتحة {أَشَدّ} التي في آخره فتحة نصب، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله: {كَذِكْرِكُمْ} والتقدير: "ذكرا كذكركم آباءكم"، وعلى هذا الوجه فنصب {ذِكْراً} يظهر أنه تمييز لأشد، وإذ قد كان {أَشَدّ} وصفا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفة وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام، إلا أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين، مع إفادة التمييز حينئذ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون: هو أشح الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين، وهذا ما درج عليه الزجاج في تفسيره، قلت: وقريب منه استعمال تمييز "نعم" توكيدا في قول جرير:
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
ويجوز أن يكون نصب {أَشَدّ} على الحال من "ذكر" الموالي له وأن أصل أسد نعت له وكان نظم الكلام: أو ذكرا أشد، فقدم النعت فصار حالا، والداعي إلى تقديم النعت حينئذ هو الاهتمام بوصف كونه أشد، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان. أو أن يكون
(2/241)
{أَشَدّ} معطوفا على "ذكر" المجرور بالكاف من قوله: {كَذِكْرِكُمْ} ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] يجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] في سورة النساء أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في "إيضاح المفصل"، وعليه ففتحة {أَشَدّ} نائبة عن الكسرة، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب {ذِكْراً} على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.
ولصاحب "الكشاف" تخريجان آخران لإعراب {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز، ولابن جني تبعا لشيخه أبي علي تخريج آخر، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفا ذكره عنه ابن المنير في "الانتصاف"، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.
وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي، ونظيرتها آية سورة النساء، قال الشيخ ابن عرفة في "تفسيره" وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في سورة النساء: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال: في {أَشَدَّ خَشْيَةً} فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فخص الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ .
وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلخ الفاء للتفصيل، لأن ما بعدها تقسيم للفريقين من الناس المخاطبين بقوله: {فَاذْكُرُوا الله} فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلا تيمنا ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل، فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وادعوه. ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك، وإنما لم يفصل الذكر الأعم من الدعاء، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلا على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى
(2/242)
تفصيله تفصيلا ينبه إلى ما ليس بمحمود، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة، فيتعين أن المراد ليس بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون، لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة.
وقوله: {آتِنَا} ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله {حَسَنَةً} فيما بعد، أي {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} و "الخلاق" بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلافة وهي الجدارة، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديرا به، ولما كان معنى الجدارة مستلزما نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذه من خلاق له" أي في الخير وقول البعيث بن حريث:
ولست وإن قربت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
وجملة: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} معطوفة على جملة: {مَنْ يَقُولُ} فهي ابتدائية مثلها، والمقصود: إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة، لأن المراد من هذا الفريق الكفار، فقد قال ابن عطية: كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلا بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة.
ويجوز أن تكون الواو للحال، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب.
و {حَسَنَةً} أصلها صفة لفعلة أو خضلة، فحذف الموصوف ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
ووقعت حسنة في سياق الدعاء فيفيد العموم، لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
(2/243)
وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين.
وإنما زاد في الدعاء {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} إشارة إلى الفريق الثاني، والنصيب: الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلا كان أو كثيرا ووزنه على صيغة فعيل، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ويظهر ويشخص، وهذا ظاهر كلام الزمخشري في "الأساس" والراغب في "مفردات القرآن" أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم نصيب الشفيع مجاز بالأول.
واعلم أنه وقع في لسان العرب في مادة "كفل" أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعد لغيره مثله فإذا كان مفردا فلا يقال نصيب وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن ابن المظفر عند قوله تعالى: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] في سورة النساء. ووقع في كلام الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام:136] قال الزجاج تقدير الكلام جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا، وقال ابن عطية قولهم جعل من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول اهـ.
وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر "نصيب" ليصدق بالقليل والكثير وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن، وكسبوا بمعنى طلبوا، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه. ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل والنصيب نصيب الثواب فتكون "من" ابتدائية.
وأسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة، أي أن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دعاء الكافرين في ضلال.
(2/244)
وقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه.
والحساب في الأصل العد، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113] قال: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ:36] أي وفاقا لأعمالهم، وهاهنا أيضا أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وعدهم فيدخل في ذلك العموم.
والمعنى فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة، ولا تشتغلوا بالتفاخر، فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام وكما يذكرهم المشركون الآن. ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلا بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيبا مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة، وإن الله يعجل باستجابة دعائكم.
[203] {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
معطوف على {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] وما بينهما اعتراض, وإعادة فعل {اذْكُرُوا} ليبنى عليه تعليق المجرور أي قوله: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} لبعد متعلقه وهو {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييده بزمانه ومكانه. فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه.
والأيام المعدودات أيام منى, وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر, يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق, لأن الناس يقددون فيها اللحم, والتقديد تشريق, أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس. وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات, ولذلك قال جمهور الفقهاء
(2/245)
الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك, وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] في سورة الحج.
فالأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة, وهي اليوم العاشر ويومان بعده. والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر, فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات, واليومان بعده من المعلومات والمعدودات, واليوم الرابع من المعدودات فقط, واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذبح إجماعا, وقال أبو يوسف محمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوما ولا معدودا, وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات, وهو رواية عن أبي حنيفة.
ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا.
وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام, لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء, قال العرجي:
ما نلتقي إلا ثلاثة منى ... حتى يفرق بيننا النفر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
بدا لي منها معصم حين جمرت ... وكف خصيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رميت الجمر أم بثمان
لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر, بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها, فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها وذكر الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار.
والأيام المعدودات الثلاثة ترمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يبتدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات, ترمى الجمرتان الأخريان كل جمرة بمثل ذلك ويكبر مع كل حصاة, وآخرها جمرة العقبة, وفي أحكام الرمي ووقته وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى خلافات بين الفقهاء.
(2/246)
والآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلا في منى, ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي, ولا يرخص في المبيت في غير منى إلا لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم, ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون, ورخص للرعاء الرمي بليل, ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات.
وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ} تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه, وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده.
وفعلا {تَعَجَّلَ} و {تَأَخَّرَ}: مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات, فالمراد من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج, فيجوز أن تكون "صيغة" تعجل و {تَأَخَّرَ} معناه مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات, أي تعجل النفر وتأخر النفر, ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفا لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره.
فقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ} ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه, وإنما قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة, ودفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين؛ فريق منهم يبيحون التعجيل, وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين, أو تعجل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين, والتأخير أفضل, ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.
وعندي أن وجه ذكر {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه} أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم, وقال بعد ذلك
(2/247)
الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم، بلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثيرة، والعرب كانوا يتفرقون رابع أيام منى فيرجعون إلى مكة لزيارة البيت لطواف الوداع ثم ينصرفون فيرجع كل فريق إلى موطنه، قال امرؤ القيس يذكر التفرق يوم رابع النحر وهو يوم المحصب في منى:
فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
غداة غدوا فسالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب
وقال كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح الأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
والمعنى ليكن ذكركم الله ودعاؤكم في أيام إقامتكم في منى، وهي الأيام المعدودات الثلاثة الموالية ليوم الأضحى، وأقيموا في منى تلك الأيام فمن دعته حاجته إلى التعجيل بالرجوع إلى وطنه فلا إثم عليه أن يترك يومين من أيام منى وهما الثاني عشر من ذي الحجة والثالث عشر منه.
[204, 206] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}
عطف على جملة {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة:200] الخ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا الآخرة، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة الدنيا، وهم المذكورون في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207]
و"من" بمعنى بعض كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:8]
(2/248)
فهي صالحة للصدق على فريق أو على شخص معين و"من" الموصولة كذلك صالحة لفريق وشخص.
والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب: انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه. ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس, صار العجب مستلزما للإحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لي استحسانه, قال الكواشي يقال في الاستحسان: أعجبني كذا, وفي الإنكار: عجبت من كذا, فقوله: {يُعْجِبُكَ} أي يحسن عندك قوله.
والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين, لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه, وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله: وهو ألد الخصام إلى آخره.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار, فيكون المراد ب"من" المنافقين ومعظمهم من اليهود, وفيهم من المشركين من أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي, أو طائفة معينة من المنافقين, وقيل: أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان لمولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يظهر المودة للنبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم على الانضمام إلى المشركين فقيل: إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق, وقال ابن عطية: لم يثبت أنه أسلم قط, ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل: إنه حرق زرعا للمسلمين وقتل حميرا لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ونزلت فيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1], وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلا فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.
ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيرا للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيهه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه والظرف من قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه. على حد قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة
(2/250)
تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} والظرفية المستفادة من "في" ظرفية حقيقية.
ويجوز أن يتعلق بكلمة {قوله} أي كلامه عن شئون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبي ولا يقول شيئا في أمور الدين, فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق.
وحرف "في" على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى "عن" والتقدير قوله عن الحياة الدنيا.
ومعنى {َيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه, ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم أنه لصادق.
وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاما حلوا تعين أن يكون مدعيا أن قلبه كلسانه قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62].
ومعنى {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل, تقول: لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم, فهو لاد ولدود فاللدة شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم:
وألد ذي حنق علي كأنما ... تغلي حرارة صدره في مرجل
فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل, ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا: لداء وجمعه جاء على فعل قال تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [مريم:97] وحينئذ ففي إضافته للخصام إشكال؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في "الكشاف": إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام ألد أي نزل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي, كأنه قيل: خصامه شديد الخصام كما قالوا: جن جنونه وقالوا: جد جده, أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام, وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد {وهو} تقديره: وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعين أن يؤول بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذ فالتأويل مع عدم التقدير أولى, وقيل
(2/251)
الخصام هنا جمع خصم كصعب وصعاب وليس هو مصدرا وحينئذ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} إذا ظرف تضمن معنى الشرط.
و {تَوَلَّى} إما مشتق من التولية: وهي الإدبار والانصراف يقال ولى وتولى وقد تقدم قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] أي وإذا فارقك سعى في الأرض ليفسد.
ومتعلق {تَوَلَّى} محذوف تقديره تولى عنك, والخطاب المقدر يجري على الوجهين المتقدمين وإما مشتق من الولاية: يقال ولي البلد وتولاه, أي وإذا صار واليا أي إذا تزعم ورأس الناس سعى في الأرض بالفساد, وقد كان الأخنس زعيم مواليه وهم بنو زهرة.
وقوله: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} السعي حقيقته المشي الحثيث قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] ويطلق السعي على العمل والكسب, قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء:19] وقال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
البيتين ويطلق على التوسط بين الناس لإصلاح ذات البين أو لتخفيف الإضرار قال عمرو بن كلثوم:
ومنا قبله الساعي كليب ... فأي الفضل إلا قد ولينا
وقال لبيد:
وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت
البيت ويطلق على الحرص وبذل العزم لتحصيل شيء كما قال تعالى في شأن فرعون {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] فيجوز أن يكون هنا بالمعنيين الأول والرابع أي ذهب يسير في الأرض غازيا ومغيرا ليفسد فيها. فيكون إشارة إلى ما فعله الأخنس بزرع بعض المسلمين، لأن ذلك مؤذن بكفره وكذبه في مودة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان وده صادقا لما آذى أتباعه. أو إلى ما صنعه بزرع ثقيف على قول من قال من المفسرين أن الأخنس بيت ثقيفا وكانت بينه وبينهم عداوة وهم قومه فأغار عليهم بمن معه من بني زهرة فأحرق زروعهم وقتل مواشيهم. لأن صنيعه هذا بقوم وإن كانوا يومئذ كفارا لا يهم المسلمين ضرهم، ولأنه لم يفعله انتصارا للإسلام ولم يكن في حالة حرب معهم فكان فعله ينم عن
(2/252)
خبث طوية لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفارا ضرا لا يجر إلى نفعهم؛ لأنهم لم يغزهم حملا لهم على الإيمان بل إفسادا وإتلافا ولذلك قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} تأكيد لمدلول {سَعَى} لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله، ولذلك قال بعده: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} فاللام للتعليل، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.
ويجوز أن يكون {سَعَى} مجازا في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمال الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقول كيد ويكون ليفسد مفعولا به لفعل {سَعَى} والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبره، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إلى قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدرة معه "أن" مفعول به كما في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] وقول جزء بن كليب الفقعسي:
تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا أن شتونا لياليا
إذ التقدير تبغى الاستياد منا، قال المرزوقي أتى بالفعل واللام لأن تبغى مثل أراد فكما قال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغي ليستاد أي تبغي الاستياد منا اهـ.
وأقول: إن هذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علة للفعل مع كونه مفعولا به، فالبليغ يأتي به مقترنا بلام العلة اعتمادا على أن كونه مفعولا به يعلم من تقدير "أن" المصدرية.
ويكون قوله: {فِي الْأَرْضِ} متعلقا بسعى لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم، وبذلك تكون إعادة {فِيهَا} من قوله: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} بيانا لإجمال قوله: {فِي الْأَرْضِ} مع إفادة التأكيد.
وقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} بضم الياء أي يتلفه.
والحرث هنا مراد منه الزرع، والنسل أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولا
(2/253)
إذا سقط وانفصل، وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس، وكانوا أهل حرث وماشية فليس المراد خصوص هذين بل المراد ضياع ما به قوام الناس، وهذا جار مجرى المثل، وقيل الحرث والنسل هنا إشارة إلى ما صنع الأخنس بن شريق، وأيا ما كان فالآية دالة على أن من يتسبب في مثل ذلك صريحا و كناية مستحق للعقاب في الآخرة ولذلك عقب بجملة التذييل وهي {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} تحذيرا وتوبيخا.
ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد، وإلا فالمحبة وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشئ مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة: الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال. ولا شك أن التقدير: إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق وقد سمى الله ذلك فسادا ون كان الزرع والحرث للمشركين؛ لأن إتلاف خيرات لأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.
والفساد ضد الصلاح، ومعنى الفساد: إتلاف ما هو نافع للناس نفعا محضا أو راجحا، فإتلاف الألبان مثلا إتلاف نفع محض، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناس لا رجحان كمية النفع على كمية الضر، فإتلاف الأدوية السامة فساد، وإن كان التداوي بها نادرا لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط في رواجها وبأمانة من تسلم إليه، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بله إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيات والعقارب والفئران والكلاب الكلبة، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله: لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلا لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة، فقتال العدو إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة، ومن أجل ذلك نهى عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلا إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء مكن ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} إي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي
(2/254)
تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك, والأخذ أصله تناول الشيء باليد, واستعمل مجازا مشهورا في الاستيلاء قال تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5] وفي القهر نحو {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام:42].وفي التلقي مثل {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81] ومنه أخذ فلان بكلام فلان, وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة, ومنه قوله هنا {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} أي احتوت عليه عزة الجاهلية.
والعزة صفة: يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالبا في العرب بسبب كثرة القبيلة, وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم: وإنما العزة للكاثر, وقالوا: لن نغلب من قلة وقال السموأل:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
ومنها جاء الوصف بالعزيز كما سيأتي في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209].
فـ"أل" في "العزة" للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه, لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.
وقوله: {بالإثم} الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو الاحتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان.
وقوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} تفريع على هاته الحالة, وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]
ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
(2/255)
أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.
وجهنم علم على دار العقاب الموقدة نارا, وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث, لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعجمة وهو قول الأكثر: جاء من لغة غير عربية, ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه, ومن جعله عربيا زعم أنه مشتق من الجهم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فعل بزيادة نونين أصله فعل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لوه الأولى وهي النون إلحاقا له بالخماسي ومن قال: أصلها بالفارسية كهنام فعربت جهنم.
وقيل أصلها عبرانية كهنام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له ولا يلتفت لقوله لوجود دونك اسم واد بالعامية وحفنكى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران, فيكون جهنم نادرا, وأما قول العرب ركية جهنم أي بعيد القعر فلا حجة فيه, لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم, لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة نارا قال ورقة بن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيدا بن عمرو بن نفيل وكانا معا ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار مظلما
وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة نارا وجعل {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وقوله: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي جهنم, والمهاد ما يمهد أي يهيأ لمن ينام, وإنما سمي جهنم مهادا تهكما, لأن العصاة يلقون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم.
[207] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}
هذا قسيم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} [البقرة:204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعابا لقسمي الناس, فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى, وإنما رضى الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به.
(2/256)
و "يَشْرِي" معناه يبيع كما يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:41]. واستعمل يَشْرِي هنا في البذل مجازا، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكا في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.
و {مَرْضَاتِ اللَّهِ} رضاه فهو مصدر رضى على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعا كالمدعاة والمسعاة، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النمري بن النمر بن قاسط1 الملقب بالرومي؛ لأنه كان أسره الروم في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب وكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأوليين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج صهيب مهاجرا فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانه وكان راميا وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء؛ فقالوا: لا نتركك تخرج من عندنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا, ولكن دلنا على مالك ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله, فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه "ربح البيع أبا يحيى" وتلا عليه هذه الآية, وقيل إن كفار مكة عذبوا صهيبا لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجرا, وقيل: غير ذلك, والأظهر أنها عامة, وأن صهيبا أو غيره ملاحظ في أول من تشمله.
وقوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة.
والظاهر أن التعريف في قوله: {بِالْعِبَادِ} تعريف استغراق، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرزق، ويجوز أن يكون لتعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ويجوز أن يكون "أل" عوضا عن المضاف إليه كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
ـــــــ
1 كان صهيب من المؤمنين الأولين، أسلم هو وعمار بن ياسر في يوم أحد، شهد بدرا وتوفي سنة37هـ
(2/257)
[النازعات:41]، والعبادة إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] في سورة الحجر.
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان ما صدق "من" عاما كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له، وإن كان ما صدق "من" صهيبا رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال. والمناسبة أن صهيبا كان عبدا للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.
وفي هذه الآية وهي قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] إلى قوله: {رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} معان معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار نالظواهر إلا بعد التجربة والامتحان، فإن من الناس من يغر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري:
وقد يخلف الإنسان ظن عشيرة ... وإن راق منه منظر ورواء
وقد شمل هذا الحال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكلم وتبغ هلهلة دينه إلى حد أن يشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به.
[208, 209] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ
(2/258)
الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
استئناف على طريقة للاعتراض انتهازا للفرصة إلى الدخول في السلم، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب، أعلاها {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] لأن النفس أغلى ما يبذل، وأقلها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد أن يدعي الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.
والخطاب بيا أيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين على عادة القرآن في إطلاق هذا العنوان، ولأن شأن الموصول أن يكون بمنزلة المعرف بلام العهد.
و"الدخول" حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد، ويطلق مجازا مشهورا على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل.
و"السلم" بفتح السين وكسرها مع سكون اللام، قرأ نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر بفتح السين وقرأ باقي العشرة بكسر السين، ويقال سلم بفتح السين واللام قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] وحقيقة السلم الصلح وترك الحرب قال عباس ابن مرداس:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تكفيك من أنفاسها جزع
وشواهد هذا كثيرة في كلامهم وقال زهير:
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا
بكسر السين واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد يقال أسلم نفسه لفلان أي أعطاه إياها بدون مقاومة، واستسلم طلب السلم أي ترك المقاومة، وتقول العرب: أسلم أم حرب، أي أ أنت مسالم أم محارب، وكلها معان متولد بعضها من بعض فلذلك جزم أئمة اللغة بأن السلم بكسر السين وفتحها وبالتحريك يستعمل كل واحد منها فيما يستعمل فيه الآخر.
(2/259)
قالوا ويطلق السلم بلغاته الثلاث على دين الإسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وأنشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه:
دعوت عشسرتي للسلم لما ... رايتهموا تولوا مدبرينا
فلست مبدلالا بالله ربا ... ولا مستبدلا بالسلم دينا
وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في "مفردات القرآن" ولا الزمخشري في "الأساس" وصاحب "لسان العرب" وذكره في "القاموس" تبعا للمفسرين وذكره الزمخشري في "الكشاف" حكاية قول في تفسير السلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله "دينا" بمعنى العادة الملازمة كما قال المثقب العبدي:
تقول وقد أدرت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني
وعن أبي عمرو بن العلاء السلم بكسر السين هو الإسلام والسلم بفتح السين المسالمة، ولذلك قرأ {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} في هذه السورة بكسر السين لا غير وقرأ التي في سورة الأنفال والتي في سورة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح السين قال الطبري توجيها منه لمعناه هنا إلى أنه الإسلام دون الآيتين الأخريين.وأنكر المبرد هذه التفرقة وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرق إلى دليل.
فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صح ذلك جاز أي يكون مرادا أيضا ويكون من استعمال المشترك في معنييه. فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم بيأيها الذين آمنوا الذي هو كاللقب للمسلمين كان المعنى أمرهم بالدخول في المسالمة دون القتال، وكما تقتضيه صيغة الأمر في {ادْخُلُوا} من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلا أو كان مفرطا في بعضه.
فالذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين تلك الآيات، أستؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، لأن كثيرا من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن
(2/260)
الخطاب فقد قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فكيف نعطي الدنية في ديننا رواه أهل "الصحيح" فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] إلى هنا. واعلم أنه إذا كان الضمير في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [البقرة:210] راجعا إلى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} [البقرة:204] أو {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَه} [البقرة:207] كما سيأتي يكون قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208] اعتراضا بين الجملة ذات المعاد والجملة ذات الضمير.
فأما إذا فسر السلم بالإسلام أي دين الإسلام فإن الخطاب بيا أيها الذين آمنوا وأمر المؤمنين بالدخول في الإسلام يؤول بأنه أمر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه لأنه يقال دخل الإيمان في قلبه إذا استقر وتمكن، قال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
وقال النابغة:
أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته ... تحرك داء في فؤادي داخل
وهذا هو الظاهر. فيراد بالأمر في {ادْخُلُوا} الدوام على ذلك وقيل أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان فتكون خطابا للمنافقين. فيؤول قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} بمعنى أظهروا الإيمان فيكون تهكما بهم على حد قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فيكون خطابا للمنافقين وهذا تأويل بعيد لأن الذين آمنوا صار كاللقب لمن ابتع الذين اتباعا حقا، ولأن الظاهر على هذا أن يثبت للمنافقين وصف الإسلام ويطلب منهم الإيمان دون العكس، بدليل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
وقيل المراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا من اليهود كعبد الله بن سلام فيؤول {ادْخُلُوا} بمعنى شدة التلبس أي بترك ما لم يجيء به الدين، لأنهم استمروا على تحريم السبت وترك شرب ألبان الإبل وبعض ما اعتادوه من أحوالهم أيام تهودهم إذا صح ما رواه أهل أسباب النزول أن طائفة من مؤمني اليهود فعلوا ذلك.
ويجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات، ومناسبة ذكر هذا عقب ما تقدم أنهم لما أمروا بذكر الله كذكرهم آباءهم وكانوا يذكرون في موسم الحج تراتهم ويفخرون
(2/261)
فخرا قد يفضي إلى الحمية، أمروا عقب ذلك بالدخول في السلم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" فتكون الآية تكملة للأحكام المتعلقة بإصلاح أحوال العرب التي كانوا عليها في الجاهلية، وبها تكون الآية أصلا في كون السلم أصلا للإسلام وهو رفع التهارج كما قال الشاطبي أي التقاتل وما يفضي إليه، وإما أن يكون المراد من السلم هنا السلم مع الله تعالى على معنى المجاز: أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته كما أطلق الحرب على المعصية مجازا في قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
و "كَافَّةً" اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به، وهو في صورة صوغه كصوغ اسم الفاعلة من كف ولكن ذلك مصادفة في صيغة الوضع، وليس فيها معنى الكف ولا حاجة إلى تكلف بيان المناسبة بين صورة لفظها وبين معناها المقصود في الكلام لقلة جدوى ذلك، وتفيد مفاد ألفاظ التوكيد الدالة على الشمول والإحاطة.
والتاء المقترنة بها ملازمة لها في جميع الأحوال كيفما كان المؤكد بها مؤنثا كان أو مذكرا مفردا أو جمعا، نحو {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، وأكثر ما يستعمل {كَافَّةً} في الكلام أنه حال من اسم قبله كما هنا فقوله: {كَافَّةً} حال من ضمير {ادخلوا} أي حالة كونكم "جميعا" لا يستثنى منكم أحد، وقال ابن هشام في معنى اللبيب عند الكلام على الجهة الخامسة من الباب الخامس في ذكر الحال من الفاعل ومن المفعول أن {كَافَّةً} إذا استعملت في معنى الجملة والإحاطة لا تكون إلا حالا مما جرت عليه، ولا تكون إلا نكرة ولا يطون موصوفها إلا مما يعقل، ولكن الزجاج والزمخشري جوزا جعل كافة حالا من السلم والسلم مؤنث، وفي "الحواشي الهندية على المغني للدماميني" أنه وقع كافة اسما لغير العاقل وغير حال بل مضافا في كتاب عمر بن الخطاب لآل كاكلة وقد جعلت لآل كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا في كل عام" .
واعلم أن تحجير ما لم يستعمله العرب إذا سوغته القواعد تضييق في اللغة وإنما يكون اتباع العرب في استعمالهم أدخل في الفصاحة لا موجبا للوقوف عنده دون تعدية فإذا ورد في القرآن فقد نهص.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم
(2/262)
المأمور به بطريق النهي، عن خلاف المأمور به، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروف بأنه لا يشير بالخير، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عمر: "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدنية في ديننا" وكما قال سهل ابن جنيف يوم صفين: "أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لفعلنا والله ورسوله أعلم" بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلا خيرا، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا تنبيها لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساس الشيطان، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام، والكلام على معنى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، وما فيه من الاستعارة تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] الآية.
وقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي.
وأصل الزلل الزلق أي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به، واستعمل الزلل هنا مجازا في الضر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناء التمثيل على التمثيل؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله: {زَلَلْتُمْ} تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازا والمجاز هنا في مركبه.
والبينات: الأدلة والمعجزات ومجيئها وظهورها وبيانها، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته.
وجيء في الشرط بإن لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه.وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة. وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} جواب الشرط، و {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، مفعول {اعْلَمُوا} والمقصود علم لازمه وهو العقاب.
(2/263)
والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يغلب، أصله من العزة وقد مر الكلام عليها عند قوله: { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} [البقرة:206] وهو ضد، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزما تحققهم أنه معاقبتهم لا يفلتهم، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه.
والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فعيل بمعنى مفعل، ومناسيته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة، فالكلام وعيد وإلا فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم.
ولك أن تجعل قوله: {فَاعْلَمُوا} تنزيلا لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول.
وإنما قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} إعذارا لهم، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين، لأنه ما أوحاه الله إلا لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين، لأن الله عزيز لا يهن لأحد، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالة على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر.
وإن كان المراد الدخول في الإسلام أو الدوام عليه فالمعنى {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السلم، والمراد بالبينات المعجزات الدالة على صدق الرسول، نقل الفخر عن "تفسير القاضي عبد الجبار" دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البيانات لا بعد حصول اليقين من المكلف، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية.
وفي "الكشاف" روى أن قارئا قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه اه وفي القرطبي عن "تفسير النقاش" نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم}، وبجنبي أعرابي فقال كلام من هذا? قلت كلام الله. قال: ليس هذا كلام الله فانتبهت فقرأت: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] فقال أصبت هذا كلام الله فقلت
(2/264)
أتقرأ القرآن? قال لا قلت من أين علمت؟ قال يا هذا عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.
[210] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
إن كان الإضمار جاريا على مقتضى الظاهر فضمير {يَنْظُرُونَ} راجع إلى معاد مذكور قبله، وهو إما {مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، وإما إلى {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207]، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء، فأخذ الفريقين ينتظره شكا في الوعيد بالعذاب، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب. ونظيره قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:102] فانتظارهم أيام الذين خلوا انتظار توقع سوء وانتظار النبي معهم انتظار تصديق وعيده.
وإن كان الإضمار جاريا على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطبين بقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208] وما بعده، أو إلى الذين زلوا المستفاد من قوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ}، وهو حينئذ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعا إلى المخاطبين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:208]، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} عن عز الحضور، قال القرطبي: {هَلْ يَنْظُرُونَ} يعني التاركين الدخول في السلم، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي.
فإن كان الضمير لمن يعجبك أو له ولمن يشري نفسه، فالجملة استئناف بياني، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثير أن سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} جوابا لذلك، وإن كان الضمير راجعا إلى الذين آمنوا فجملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعا في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49] لأن معناه
(2/265)
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة، وإن كان الضمير عائدا إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام. وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} بضمير الجمع نظما جامعا للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء.
وحرف "هل" مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في "الكشاف": إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة معها في قول زيد الخيل:
سائل فوارس بربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وقال في "المفصل": وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لا تقع إلا في الاستفهام اه. يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان:1] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلا في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبي:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء
فجمع بين لامي جر، وأياما ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقها، وسيلأتي هذا في تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} في سورة الإنسان.
والاستفهام إنكاري لا محال بدليل الاستثناء، فالكلام خبر في صورة الاستفهام. والنظر: الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه، لأن الذي يترقب أحد يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدوا، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون
(2/266)
بأبصارهم في الآخرة إلا إتيان أمر الله والملائكة، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك، إلا أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله، فيكون قصرا ادعائيا، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك.
وهذا المركب ليس مستعملا فيما وضع له من الإنكار بل مستعملا إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير، وإما الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين، وإما التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55].ويجوز هذا أن يكون خبرا عن اليهود: أي أنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظل من الغمام على نحو قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145].
وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً -إلى قوله- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الاسراء:92]، وسيجيء القول مشبعا في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة.
و "الظلل" بضم ففتح اسم جمع ظله، والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يجلس تحتها لتوقي شعاع الشمس، فهي مشتقة من اسم الظل جعلت على وزن فعلة بمعنى مفعول أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد،
والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] في قراءة بعض العشرة بضم الغين.
وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيها بليغا: السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظله القصر.
و {مِنَ الْغَمَامِ} بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16].
والإتيان حضور الذات في موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان
(2/267)
إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالا في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبرا أو تهكما فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيدا من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون:
الوجه الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث.فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوه منها:
الوجه الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعا لمن يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكهه واستأصله، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] -وقال: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26] وليس قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} بمناف لهذا المعنى، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قريبا.
الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى تعالى إسناد مجازي: وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} زيادة تنويه بذلك ووقعة لدى الناظرين.
الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدال على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعا من قبل
(2/268)
ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس: أن هنالك مضافا مقدرا يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي لأمر ربك وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} [الأعراف:4]ولا يخفلا أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازا في ظهور الأمر.
الوجه السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رسله ويبعه قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إلا أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.
الوجه السابع: أن هنالك معمولا محذوفا دل عليه قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209] والتقدير لأن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن: تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعدا ووعيدا.
وقد ذكرت في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] في سورة آل عمران ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام: قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر في المعنى المناسب دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر، وقسم متشابه شديد التشابه.
وقوله تعالى: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} أشد إشكالا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية، وهي مستحيلة على الله تعالى، وتأويله إما بأن "في" بمعنى الباء أي {يأتيهم بظلل من الغمام} وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو اليح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيويا، أو {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب، أو على كلامه تعالى، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني، وفي "تفسير القرطبي والفخر" قيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة، وروى أن ابن مسعود قرأها كذلك، وهذه الوجوه كلها مبنية
(2/269)
على أن هذا إخبار بأمر مستقبل، فأما على جعل ضمير {يَنْظُرُونَ} مقصودا به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكما أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عند الدخول في الإسلام، ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين، فإنهم قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] واعتقدوا أن الله في الغمام، أو يكون المراد تعريضا بالمشركين، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.
وقرأه الجمهور {وَالْمَلائِكَةُ} بالرفع عطفا على اسم الجلالة، وإسناد الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملا في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازا في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقته في الإسناد ولا مانع من ذلك؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة، قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك:
أتاك بي الله الذي نور الهدى ... ونور وإسلام عليك دليل
فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسناد حقيقي ثم أسنده بالعطف للنور والإسلام، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما: سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال "عليك دليل". وقرأ أبو جعفر {وَالْمَلائِكَةُ} بجر {الْمَلائِكَةُ} عطف على {ظُلَلٍ}.
وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} إما عطف على جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} إن كانت خبرا على المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيها على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه، والمعنى ما ينتظرون إلا يأتيهم الله وسوف يقضي الأمر، وإما عطف على جملة: {يَنْظُرُونَ} إن كانت جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} وعيدا أو وعدا والفعل كذلك للاستقبال، والمعنى ما يترقبون إلا مجيء أمر الله وقضاء الأمر.
وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد، سواء كانت جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} خبرا أو وعدا ووعيدا أي وحينئذ قد قضي الأمر، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
(2/270)
يُنْظَرُونَ} [الأنعام:8].
والقضاء: الفراغ والإتمام.
والتعريف في "الأمر" إما للجنس مراد منه الاستغراق أي قضيت الأمور كلها، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء.
وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} تذييل جامع لمعنى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}.
والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره، فمنه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:53]
ويجئ فعل رجع متعديا: تقول رجعت زيدا إلى بلده ومصدره الرجع، ويستعمل رجع قاصرا تقول: رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجوع،
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب "ترجع" بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجعه مبنيا للمفعول أي يرجع الأمور راجعها إلى الله، وحذف الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عرفي لهذا الرجع، أو حذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلا للرجوع ومفعولا له بحرف إلى، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمور فاعل ترجع.
[211] {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} سواء كان خبرا أو وعيدا أو وعدا أم تهكما وأيا ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة، وقد دل بكل احتمال على تعريض بفرق ذوي غرور وتماد في الكفر وقلة انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيمانا ضعيفا ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلا.
وعلى احتمال أن يكون الضمير في {يَنْظُرُونَ} لأهل الكتاب: أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله: {بَنِي إِسْرائيلَ} لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذ أشد: أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان
(2/271)
المناسب لهم أن يبادروا بالإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة.
و {سَلْ} أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفا بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقا لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجتلاب همزة الوصل، وقيل: سل أمر من سأل الذي جعلت همزته ألفا مثل الأمر من خاف يخاف خف، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضيا وأمرا؛ إلا أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالبا.
والمأمور بالسؤال هو الرسول؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله؛ إذ لا يعبأون بسؤال غيره؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع، ولفظ السؤال يجئ لما تجئ له أدوات الاستفهام. والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجئ من هذا التقرير التقريع فليس المقصود تصريحهم بالإقرار؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار.
والمراد بـ"بَنِي إِسْرائيلَ" الحاضرون من اليهود. والضمير في {آتَيْنَاهُمْ} لهم، والمقصود إيتاء سلفهم؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم. ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آيات رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة.
و"كم" اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام، ويون للإخبار، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم؛ ولذلك تحتاج إلى مميز في الإخبار، وهي هنا، استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسؤول عنه هو عد الآيات.
وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كسا أي ليس أصل مفعوليه مبتدأ وخبرا، وجملة: {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} لا تكون مفعوله الثاني؛ إذ ليس الاستفهام مطلوبا بل هو عين الطلب، ففعل سل معلق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام، وجملة: {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} في موقع المفعول الثاني سادة مسده.
والتعليق يكثر في الكلام في أفعال العلم والظن إذا جاء بعد الأفعال استفهام أو نفي أو لام ابتداء أو لام قسم، وألحق بأفعال العلم والظن ما قارب معناها من الأفعال، قال
(2/272)
في "التسهيل" "يشاركهن فيه "أي في التعليق" مع الاستفهام، نظر وتفكر وأبصر وسأل، وذلك كقوله تعالى: {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذريات:12] ولما أخذ سأل هنا مفعوله الأول فقد علق عن المفعول الثاني، فإن سبب التعليق هو مضمون الكلام الواقع بعد الحرف الموجب للتعليق ليس حالة من حالات المفعول الأول فلا يصلح لأن يكون مفعولا ثانيا للفعل الطالب مفعولين، قال سيبويه: "لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض فلا يكون مبتدأ لا يعمل فيه سئ قبله" اه وذلك سبب لفظي مانع من تسلط العامل على معموله لفظا، وإن كان لم يزل عاملا فيه معنى وتقديرا، فكانت الجملة باقية في محل المعمول، وأداة الاستفهام من بين بقية موجبات التعليق أقوى في إبعادها معنى ما بعدها عن العامل الذي يطلبه، لأن الكلام معها استفهام ليس من الخبر في شئ، إلا أن ما تحدثه أداة الاستفهام من معنى الاستعلام هو معنى طارئ في الكلام غير مقصود بالذات بل هو ضعف بوقوعه بعد عامل خبري فصار الاستفهام صوريا، فلذلك لم يبطل عمل العامل إلا لفظا، فقولك: علمت هل قام زيد قد دل علم على أن ما بعده محقق فصار الاستفهام صوريا وصار التعليق دليلا على ذلك، ولو كان الاستفهام باقيا على أصله لما صح كون جملته معمولة للعامل المعلق،
قال الرضي: "إن أداة الاستفهام بعد العلم ليست مفيدة للاستفهام المتكلم بها للزوم التناقض بين علمت وأزيد قائم بل هي لمجرد الاستفهام والمعنى علمت الذي يستفهم الناس عنه" اهـ ، فيجئ من كلامه أن قولك علمت أزيد قائم بقوله: من علم شيئا يجهله الناس أو يعتنون بعلمه، بخلاف قولك علمت زيدا قائما، وقد يكون الاستفهام الواو بعد السؤال حكاية للفظ السؤال فتكون جملة للاستفهام بيانا لجملة السؤال قال صدر الأفاضل في قول الحريري سألناه أنى اهتديت إلينا أي سألناه هذا السؤال اهـ. وهو يتأتى في هذه الآية.
ويجوز أن يضمن سل معنى القول، أي فيكون مفعوله الثاني كلاما فقد أعطى سل مفعولين: أحدهما مناسب لمعنى لفظه والآخر مناسب لمعنى المضمن.
وجوز التفتازاني في "شرح الكشاف" أن جملة" {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} بيان للمقصود من السؤال، أي سلهم جواب هذا السؤال، قال السلكوتي في "حاشية المطول": فتكون الجملة واقعة موقع المفعول، أي ولا تعليق في الفعل.
وجوز صاحب "الكشاف" أن تكون "كم" خبرية، أي فتكون ابتداء كلام وقد قطع
(2/273)
فعل السؤال عن متعلقه اختصار لما دل عليه ما بعده، أي سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله، فبذلك حصل التقويع. ويكون {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} تدرجا في التقريع بقرينة {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} ، ولبعد كونها خبرية أنكره أبو حيان على صاحب "الكشاف" وقال إنه يفضي إلى اقتطاع الجملة فيها "كم" عن جملة السؤال مع أن المقصود السؤال عن النعم.
و {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} تمييز "كم" دخلت عليه من التي ينتصب تمييز كم الاستفهامية على معناها والتي يجر تمييز كم الخبرية بتقديرها ظهرت في بعض المواضع تصريحا بالمقدر، لأن كل حرف ينصب مضمرا يجوز ظهوره إلا في مواضع مثل إضمار أن بعد حتى، قال الرضي: إذا فصل بين كم الخبرية والاستفهامية وبين مميزها بفعل متعد وجب جر التمييز بمن أي ظاهره لئلا يلتبس التمييز بالمفعول ونحو قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] وَ {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص:58] اهـ أي لئلا يلتبس بمفعول ذلك الفعل الفاصل، أو هو للتنبيه من أول الأمر على أنه تمييز لا مفعول إغاثة لفهم السامع وذلك من بلاغة العرب، وعندي أن موجب ظهور من في حالة الفصل هو بعد المميز لا غير، وقيل: ظهور "من" واجب مع الفصل بالفعل المتعدى، وجائز مع الفصل بغيره، كما نقل عبد الحكيم عن اليمني والتفتازاني في "شرحي الكشاف".
وفي الكافية أن ظهور "من" في مميز "كم" الخبرية والاستفهامية جائز كذا أطلقه ابن الحاجب، لكن الرضي قال إنه لم يعثر على شاهد عليه في "كم" الاستفهامية إلا مع الفصل بالفعل وأما في كم الخبرية فظهور "من" موجود بكثرة بدون الفصل، والظاهر أن ابن الحاجب لم يعبأ بخصوص الأمثلة التي ذكرها الرضي، وإنما اعتد بظهور "من" قي المميز وهو الظاهر.
و "الآية" هنا المعجزة ودليل صدق الرسل، أو الكلمات الدالة على مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها آية لموسى؛ إذ أخبر بها قبل قرون، وآية لحمد عليه الصلاة والسلام، إذ كان التبشير به قبل وجوده بقرون، ووصفها بالبينة على الاحتمالين مبالغة في الصفة من فعل بأن أي ظهر، فيكون الظهور ظهور العيان على الوجه الأول، وظهور الدلالة على الوجه الثاني، وفي هذا السؤال وصيغته حذف دل عليه قوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ}، تقديره فبدلوها ولم يعلموا بها.
وقوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} تذييل لجملة: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ} إلخ، أفاد أن المقصود أولا من هذا الوعيد بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: {سَلْ بَنِي
(2/274)
إِسْرائيلَ} ، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلا لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثله في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازا بديعا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معا؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب؛ لأن من يبدل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.
وإنما أثبت للآيات أنها نعم؛ لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعما لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] وبذلك التصديق يحصل تلقي الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وأجله، وإن كانت الآيات الكلام الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثه الرسول لئلا يترددوا في صدقة بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها.
والتبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها، إذ صارت بالإعراض سبب شقاوتهم في الدنيا والآخرة، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيرا لهم في الدنيا؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض؛ لأنهما تعمدا لارتكاب الشرور، وفي الآخرة أيضا لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهور المعجزة، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلا لتفضيل أمته فتوكأوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80].
والتبديل جعل شئ بدلا عن آخر، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات
(2/275)
وتعويض وصف بوصف كقول أبي الشيص:
بدلت من برد الشباب ملاءة ... خلقا وبئس مثوبة المقتاض
فإنه أراد تبديل حالة الشباب بحالة الشيب، وكقول النابغة:
عهدت بها حيا فبدلت ... خناظيل آجال النعاج الجوافل
وليس قوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير بأن يكون الأصل ومن يبدلها أي الآيات: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لظهور أن في لفظ "نعمة الله" معنى جامعا للآيات وغيرها من النعم.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن ، لأنها من لوازم المجيء عرفا.
وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75].وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل. والعقاب ناشئ من تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها، ولا يكون تبديل إلا لقصد مخالفتها، وإلا لكان غير تبديل بل تأييدا وتأويلا، بخلاف قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [ابراهيم:28] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [ابراهيم:30].
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} دليل جواب الشرط وهو علته، لأن جعل هذا الحكم العام جوابا للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذكره لم يقصد منه الفائدة، لأنها معلومة: بل التهديد، فعلم أن المقصود تهديد المبل فدل على معنى: فالله يعاقبه، لأن الله شديد العقاب، ومعنى شدة عقابه: أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب، وقد جوز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفس جواب الشرط يجعل أل في العقاب عن الضمير المضاف إليه أي شديد معاقبته.
وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال
(2/276)
الروع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمى عقابا لأنه يعقب الجناية.
[212] {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصدا وتعريضا من قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] ، والمحتج عليهم بقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:211] استئنافا لبيان خلقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله وإلى الاستمرار على الكفر وشعبه التي سبق الحديث عنها، فعن ابن عباس المراد: رؤساء قريش، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:211] الآية، وليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب من معلن ومنافق كما روى عن مقاتل، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا، لأنهم من بني إسرائيل، ولأن قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يناسب حال المشركين لا حال أهل الكتاب كما سيأتي.
والتزيين: جعل الشيء زينا أو الاحتجاج لكونه زينا، لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية، والزين شدة الحسن.
والحياة الدنيا مراد بها ما تشتمل عليه الحياة من اللذات والملائمات والذوات الحسنة، وهذا إطلاق مشهور للحياة وما يرادفها؛ ففي الحديث: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أي إلى منافع دنيا، وهو على حذف مضاف اشتهر حذفه.
ومعنى تزيين الحياة لهم، إما أن ما خلق زينا في الدنيا قد تمكن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه، لأن الأشياء الزينة هي حسنة في أعين جميع الناس فلا يختص الذين كفروا بدعلها لهم زينة كما هو مقتضى قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ فإن اللام تشعر بالاختصاص، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسن ما ليس بالحسن كالأقيسة الشعرية والخواطر الشهوية،
(2/277)
والمزين على المعنى الأول هو الله تعالى إلا أنهم أفرطوا في الإقبال على الزينة، والمزين على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته.
وحذف فاعل التزيين، لأن المزين لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعد فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا، فلأجل ذلك طوى ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة.
ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته، إذ المزين لهم الدنيا أمر حفي فيحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافس أو التقليد حتى عموا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذات أو من الأضرار المختصة المغشاة بتحسين العادات الذميمة، وحملهم على الدوام عليه ضعف العزائم الناشئ عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربت الأديان فيهم عزيمة مقاومة دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذكات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة، فلذلك لم تزين الدنيا لهم، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهره من الإضرار والقبائح انقلب زينه عمده شينا، خص التزيين بهم، إذ المراد من قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ذمهم والتحذير من خلقهم، ولهذا لزم حمل التزيين على تزيين يعد ذما، فلزم أن يكون المراد منه تزيينا مشوبا بما يجعل تلك الزينة مذمة، وإلا فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زين أمر ليس بمذموم إذا روعي فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [لأعراف:32].
وقد استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع: الأول ما ليس بزين أصلا لا ذاتا ولا صفة، لأن جمعية ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية
(2/278)
وتخييلات شعرية كالخمر. الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضرا وأذى كالزنا. الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميما كنجدة الظالم وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد
وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وقول: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} عطف على جملة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيرا من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث.
والسخر بفتحتين: كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفا وفعله كفرح والسخرية الاسم، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عجب، ويتعدى بمن جاره لصاحب الحال المتعجب منها فهي ابتدائية ابتداء معنويا وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة.
ووجه سخيرتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفنوهم في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها كما قال الشاعر: "أنشده شمر":
وأحمق ممن يلعق الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ1 مبرد
فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم ولذلك يصح جعل الواو للحال ليفيد تقييد حالة التزيين بحالة السخرية، فتتلازم الحالان ويقدر للجملة مبتدأ، أي هم يسخرون، وقد قيل إن من جملة من كان الكفار يسخرون منهم بلالا وعمارا وصهيبا يقولون: هؤلاء المساكين تركوا الدنيا وطيباتها وتحملوا المشاق لطلب ما يسمونه بالآخرة وهي شيء
ـــــــ
1 النقاخ: الماء العذب
(2/279)
باطل، وممن كان يسخر بهم عبد الله بن أبي والمنافقون.
وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاء لحقي الدلالة على أن معنيي فعل التزيين أمر مستقر فيهم؛ لأن الماضي يدل على التحقق، وأن معنى {يَسْخَرُونَ} متكرر متجدد منهم؛ لأن المضارع يفيد التجدد، ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضا مستمر؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره، ويعلم أن ما كان مستمرا هو أيضا محقق؛ لأن الفعل لا يستمر إلا وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه، فيكون المعنى في الآية: زين للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثار لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق، ليدل على ملكة واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم، إذ لا يليق بذي المروة السخرية بغيره، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام، لأن الشيء المستمر لا يكون إلا متحققا.
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ} أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذبا وتلفيقا كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [لنجم:19] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمدا أثنى على آلهتهم.
فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني {الَّذِينَ آمَنُوا} لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سببا عظيما في هذه الفوقية، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دوما بين شدة الخوف وقليل الرجاء، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.
والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة الفضول والمسخر والمملوك. وقيدت بيوم القيامة تنصيصا على دوامها، لأن ذلك
(2/280)
اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية.
فإن قلت: كيفما كان حظ المؤمنين من كثرة التقوى وقلتها إنهم فوق الذين كفروا يوم القيامة بالإيمان، والمقام مقام التنويه بفضل المؤمنين فكان الأحق بالذكر هنا وصف "الذين آمنوا" قلت: وأما بيان مزية التقوى الذي ذكرته فله مناسبات أخرى. قلت الآية تعريض بأن غير المتقين لا تظهر مزيتهم يوم القيامة وإنما تظهر بعد ذلك، لأن يوم القيامة هو مبدأ أيام الجزاء فغير المتقين لا يظهر لهم التفوق يومئذ، ولا يدركه الكفار بالحس قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] نعم تظهر مزيتهم بعد انقضاء ما قدر لهم من العذاب على الذنوب.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في سادة قريش بمكة سخروا من فقراء المؤمنين وضعفائهم فأعلمهم الله أن فقراء المؤمنين خير منهم عند الله، ووعد الله الفقراء بالرزق وفي قوله: {مَنْ يَشَاءُ} تعريض بتهديد المشركين بقطع الرزق عنهم وزوال حظوتهم.
وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} إلخ تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطا بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفا تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضل الله لا نهاية له، ولأن سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم.
والحساب هنا حصر المقدار فنفي الحساب نفي لعلم مقدرات الرزق، وقد شاعت هذه الكناية في كلام العرب كما شاع عندهم أن يقولوا يعدون بالأصابع ويحيط بها العد كناية عن القلة ومنه قولهم شئ لا يحصى ولذلك صح أن ينفى الحساب هنا عن أمر لا يعقل حسابه وهو الفوقية وقال قيس بن الخطيم:
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مصرد محسوب
[213] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(2/281)
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}
استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان من البشر لحكمة اقتضته وأنه ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام.
والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوها:
الأول: قال فخر الدين: إن الله تعالى لما بين في قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212] أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة مختصة بالذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا اه، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة.
الثاني: يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة:214] أخذ من كلام الكشاف أن المقصود من قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} تشجيع الرسول عليه السلام والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد اه فالمناسبة على هذا في مدلول قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ} [البقرة:212] إلخ، وتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة.
والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها: فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.
وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلف فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} إلى قوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمنا على ما
(2/282)
سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبي وأمته، ردا على حسد المشركين، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} إلى قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
وحصلت عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة: الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام، فالمناسبة حاصلة مع جملة: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين. وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة: الوحدة في الضلال والكفر يكن الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية تثبيتا للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:212]. فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبيينا لفضيلة هذا الدين واهتداه أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأسيس به كما سنبينه عند قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}.
والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، و "أل" فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه هموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريرا مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيرا مثل نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:4]
والأمة بضم الهمزة: اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.
والوصف: "واحدة" في الآية لتأكيد الإفراد في قوله "أمة" لدفع توهم أن يكون
(2/283)
المراد من الأمة القبيلة، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد.
والوحدة هنا: مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الخ، فيحتمل أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد، وبهذا المعنى روي الطبري تفسيرها عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر: وهو مختار أكثر المحققين قال القفال: بدليل قوله تعالى بعده: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشئ بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} بالفاء في قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} وعلى صريح قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} ، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله" الخ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلاب لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر، ولهذا قال ابن عطية كل من قدر الناس في الآية كانوا مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة الرسل إليهم اه.
ويؤيد هذا القدير قوله في آية سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس:19] لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة.
والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف:172]، وأنها ما غشاها إلا تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيين لإصلاح
(2/284)
الفطرة إصلاحا جزئيا فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمدا لإكمال ذلك الإصلاح، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدي وذلك معنى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ
وعن عطاء والحسن، أن المعنى كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروي عن ابن عباس أيضا وعليه فعطف قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة. فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمدا بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان.
وأبا ما كان المراد فإن فعل كان هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل.
فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد، فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقال ابن عطية قال قوم كان ذلك زمن نوح كفر جل قومه فهلكوا بالطوفان إلا من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق، وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي ستودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173] على أحد تفاسير تلك الآية وروى هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان،
وفي "تفسير الفخر" عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واجتناب
(2/285)
الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله: {النبيين} جمع يفيد العموم أي لأنه معرف باللام فيقتضي أن بعثة كل النبيين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلا مستفادا من العقل، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقيل: أريد بالناس آدم وحواء. نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح،
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمهم عاجلا فبعث الله نوحا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحا ونفرا معه فأصبح جميع الناس صالحين، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين. فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متمائلة ونسأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلا اختلافا قليلا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرا ولا تغالبا.
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسما وعقلا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقا مشابها لخلق آدم، إذ أنها خلقت كما خلق آدم، قال تعالى:
(2/286)
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم. ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتي للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكان الاستنباط الفكري والتقليد به أس الحضارة البشرية. فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهرا ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرو أو معدومته، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:
الأولى: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفا عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني: اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها.
الثالث: خواطر خيالية تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من الفعل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعا.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة، و الأول كان نادر الحدوث في البشر، لأن سلامة الأبدان وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره.
و الثاني كان غير موجود، لأن البشر يومئذ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف؟.
و الثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف، والشفقة
(2/287)
الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حجبا لما يهجس من هذا الإحساس.
و الرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة.
أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلا فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلا يومئذ ولذلك أسرعت إليه الندامة، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذ أو هو الغالب عليها.
وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل، لأن النسل منسل من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخلقية والخلقية، ولما كان النسل منسلا من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصلا على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساوية المظاهر لأحوال سلفه، قال نوح عليه السلام في عكسه {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27]، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاح ما نقله في "الكشاف" عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق.
ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلا قليلا خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعا لاختلاف بين حالي الأب والأم، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذ أسباب الانحطاط الأربعة، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتقي، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل، والتاريخ الديني دلنا على أن نوحا أول الرسل الذين دعوا إلى الله تعالى قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى:13] الآية، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم، ويذكر خطيئته ايتوا نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع، وأن آدم لم يكن رسولا وأنه نبي صالح أوحي إليه بما يهذب أبناءه
(2/288)
ويعلمهم بالجزاء.
فقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم {أُمَّةً وَاحِدَةً} دام مدة ثم انقضى، فيكون مفرعا على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وعلى الوجه الآخر مفرعا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحا، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني: يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك، وإنما كان مرشدا كما يرشد المربي عائلته.
والمراد بالبنيين هنا الرسل بقرينة قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال، وقد عبد قوم نوح الأصنام، عبدوا ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا وهم يومئذ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في "جبال نوذ" من بلاد الهند كما قيل، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا من صالحي قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اه، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم، وقيل إن سواعا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن يغوث ونسر بن يعوق، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال1، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلا بمزيد الاحتراز، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة. وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو "حمورابي" ويظن المؤرخون أنه كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في "سفر التكوين" باسم "ملكي صادق" الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.
والبعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث
ـــــــ
1 في "صحيح البخاري" و"كتاب ابن الكبي" أن هذه الأصنام عبدت في العرب وقد بينت ذلك في "تاريخ العرب في الجاهلية"
(2/289)
هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.
و"النبيين" جمع نبي وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبي، والقرآن يذكر في الغالب النبي مرادا به الرسول، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلا الله تعالى قال تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الاسراء:17]. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر.
والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله "بعث" وبقرينة الحال في قوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الآية. فالتعريف في "النبيين" للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.
والبشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع.
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم، وتعليم من يرونه أهلا لعلم الخبر من الأمة.
ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العبسي نبيا في عبس من العرب.
وقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الإنزال: حقيقته تدلية الجسم من علو إلى سفل، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.
وأضاف مع إلى ضمير النبيين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيدا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.
(2/290)
والكتاب هو المكتوب، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]على أحد الوجهين المتقدمين هنالك، وقد يكون مجازا على الوجه الآخر، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.
والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وفي الحديث ومعك روح القدس.
والتعريف في الكتاب للاستغراق: أي وأنزل مع النبيين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك.
وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد، وجوز صاحب "الكشاف" كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه.
والضمير في {لِيَحْكُمَ} راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي، لأنه مبين ما به الحكم، أو فعل يحكم مجاز في البيان. ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم وإسناد الحكم مجاز عقلي، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به، وتعدية "يحكم" ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه.
وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهار الحق، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلا عن ضلال أو خطأ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد.
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(2/291)
عطف على جملة: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم دينا واحدا، والمعنى {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فاختلف فيه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود:110]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتا ونفيا.فالله بعض الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في صلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير:
إن البخيل ملوم حين كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير:
إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره
والضمير من قوله: {فيه} يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه.
(2/292)
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} متعلق باختلف، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل.والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصد عن الاختلاف في مقاصد الشريعة، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع. والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض.والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكما آخر، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ، أو كان الحكم كذا فصار كذا، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق. ومجيء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.
والبعدية هنا: بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر، أي أن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.
وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي: الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانيا وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم.
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.
وقوله: {بَيْنَهُمْ} متعلق بقوله: {بَغْياً} للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلما على عدوها.
واعلم أن تعلق كل من المجرور وهو {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ} وتعلق لأجله وهو {بَغْياً} بقوله: {اختلف} الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصورا في فاعل الفعل الذي تعلقا به، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضى
(2/293)
بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة، لأن التحقيق أن ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه، لكنه مقيد بقيدين هما {من بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} و {بَغْياً} إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد.
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافا في أصول الشريعة، فإنها إجماعية، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته، واتفقوا في أكثر الفروع، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع، وقد استبرءوا للدين فأعلنوا جميعا: أن الله تعالى حكما في كل مسألة، وأنه حكم واحد، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد، وأن مخطئه أقل ثوابا من مصيبه، وأن التقصير في طلبه إثم. فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار1.
أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري:
فمجادل وصل الجدال وقد دري ... أن الحقيقة فيه ليس كما زعم
علم الفتى النظار أن بصائرا ... عميت فكم يخفي اليقين وكما يعم
وقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على {اخْتَلَفُوا فِيهِ} الذي تضمنته جملة القصر، قال ابن عرفة: عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اه، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدي
ـــــــ
1 قال المصنف عند شرح: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران] " والمسلمون إن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلا اختلافا علميا فرعيا، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم، بل غاية الكل الوصول إلى الحق من الدين وخدمة مقاصد الشريعة. انظر أيضا شرح [آل عمران:105] و [الشورى:10]
(2/294)
المسلمين وقع بعد أزمان مضت، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى، وفيه بعد لا يخفى، فالظاهر عندي: أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأن السامع ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل: دام هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدي الله الذين آمنوا الخ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة:60].
والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة، والضمير في {اخْتَلَفُوا} عائد للمختلفين كلهم، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله: {مِنَ الْحَقِّ} وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فإن اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي.
والإذن: الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذن إذا أصغى أذنه إلى كلام من يكلمه، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابة مطلبه، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشيع في معنى الخطاب بإباحة الفعل، وبذلك صار لفظ الإذن قابلا لأن يستعمل مجازا في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة، لأن من ييسر لك شيئا فكأنه أباح لك تناوله.
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله، فاختلف أتباعهم فيه بدلا من أن يحققوا بإفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوح الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد مما أنزل من الشرائع السالفة.
وقوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء، وهذا إجمال، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجيء شريعة الإسلام لما تهيأ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة،
(2/295)
فكانت الشرائع السابقة تمهيدا وتهيئة لقبول دين الإسلام، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار، وهذا اتحاد عجيب، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب، ولذا قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} وفي الحديث: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: تلك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم أكملوا بقية عملكم فإنما بقى من النهار شئ يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا? قلوا:لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء".
[214] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
إضراب انتقالي عن الكلام السابق فاحتاج إلى وجه مناسبة به، فقال الطيبي أخذا من كلام الكشاف: إن قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] كلام ذكرت فيه الأمم السالفة وذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، ومدمج لتشجيع الرسول والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين كما قال: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فمن هذا الوجه كان الرسول وأصحابه مرادين من ذلك الكلام، يدل عليه قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:213] وهو المضرب عنه ببل التي تضمنتها أم أي دع ذلك، احسبوا أن يدخلوا الجنة اهـ.
وبيانه أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداء في المحامد، فكان في قوله
(2/296)
تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} ، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أوقظوا أن لا يزهوا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضوا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدى المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك، فيكون قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} إضرابا عن قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وليكون ذلك تصبيرا لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل، ويكون أيضا تمهيدا لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] الآية، وقد روى عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة.
و"أم" في الإضراب كبل إلا أن أم تؤذن بالاستفهام وهو هنا تقرير بذلك وإنكاره إن كان حاصلا أي بل أحسبتم أن تدخلوا دون بلوى وهو حسبان باطل لا ينبغي اعتقاده.
وحسب بكسر السين في الماضي: فعل من أفعال القلوب أخوات ظن، وفي مضارعه وجهان كسر السين وهو أجود وفتحها وهو أقيس وقد قريء بهما في المشهور، ومصدره الحسبان بكسر الحاء وأصله من الحساب بمعنى العد فاستعمال في الظن تشبيها لجولان النفس في استخراج علم ما يقع بجولان اليد في الأشياء لتعيين عددها ومثله في ذلك فعل عد بمعنى ظن.
والخطاب للمسلمين وهو إقبال عليهم بالخطاب بعد أن كان الكلام على غيرهم فليس فيه التفات، وجعله صاحب "الكشاف" التفاتا بناء على تقدم قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213] وأنه يقتضي أن يقال أم حسبوا أي الذين آمنوا، والأظهر أنه لما وقع الانتقال من غرض إلى غرض بالإضراب الانتقالي الحاصل بأم، صار الكلام افتتاحا محضا وبذلك يتأكد اعتبار الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، فالالتفات هنا غير منظور إليه على التحقيق.
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شئ منه، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتته ولم يصبر عليها، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه
(2/297)
موجب لغفران الذنوب، أو المراد من ذلك أن نالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفا على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى، وتطرق هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أتباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل، فلذلك هيء المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفا بهم ليكون حصوله أهون عليهم.
وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساء والضراء وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة، فلما وردوا المدينة لقوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم، كما أن الأنصار لقوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم.
و "لما" أخت لم في الدلالة على نفي الفعل ولكنها مركبة من لم وما النافية فأفادت توكيد النفي، لأنها ركبت من حرفي نفي، ومن هذا كان النفي بها مشعرا بأن السامع كان يترقب حصول الفعل المنفي بها فيكون النفي بها نفيا لحصول قريب، وهو يشع بأن حصول المنفي بها يكون بعد مدة، وهذا استعمال دل عليه الاستقراء واحتجوا له بقول النابغة:
أزف1 الترحل أن ركابنا ... لما تزل برحالنا2 وكأن قد
فنفى بلما ثم قال وكأن قد أي وكأنه قد زالت.
والواو للحال أي أحسبتم دخول الجنة في حالة انتفاء ما يترقب حصوله لكم من مس البأساء والضراء فإنكم لا تدخلون الجنة ذلك الخول السالم من المحنة إذا تحملتم ما هو من ذلك القبيل.
والإتيان مجاز في الحصول، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد.
والمثل: المشابه في الهيئة والحالة كما تقدم في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
ـــــــ
1 رواية "اللسان" "أفد الترحل".
2 في "تاج العروس" "برحالها"
(2/298)
اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17].
و {الَّذِينَ خَلَوْا}: هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل خلوا: خلا منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم.
و {مِنْ قَبْلِكُمْ} متعلق بخلوا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين.
والمس حقيقته: اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله، فمنه مس الشيطان أي حلول ضر الجنة بالعقل، ومس سقر: ما يصيب من نارها، ومسه الفقر والضر: إذا حل به، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} [الزمر:8] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} [يونس:12] {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73] فالمعنى هنا: حلت بهم البأساء والضراء. وقد تقدم القول في البأساء والضراء عند قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177].
وقوله: {وَزُلْزِلُوا} أي أزعجوا أو اضطربوا، وإنما الذي اضطرب نظام معيشتهم قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11]، والزلزلة تحرك الجسم من مكانه بشدة، ومنه زلزال الأرض، فوزن زلزل فعفل، والتضعيف فيه دال على تكرر كما قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء:94] وقالوا لملم بالمكان إذا نزل به نزول إقامة.
و"حتى" غاية للمس والزلزال، أي بلغ بهم الأمر إلى غاية يقول عندها الرسول والذين معه متى نصر الله.
ولما كانت الآية مخبرة عن مس حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطبين وقت نزول الآية، جاز في فعل يقول أن يعتبر قول رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول المزلزلين ف "أل" للعهد، أو حتى يقول كل رسول لأمة سبقت فتكون "أل" للاستغراق، فيكون الفعل محكيا به تلك الحالة العجيبة فيرفع بعد حتى؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعا، وبرفع الفعل قرأ نافع وأبو جعفر، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطبين عليه السلام فأل فيه للعهد والمعنى: وزلزلوا مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوبا؛ لأن القول لما يقع وقتئذ، وبذلك قرأ بقية العشرة، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام، وبكلتا
(2/299)